الفصل السادس

مواطن الاتفاق والاختلاف في الوقت الحالي

لقد ناقَشنا حتى الآن في هذه المقدمة القصيرة جدًّا طبيعة عمل الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين، وبيئات عملهم، وأنواع عُملائهم، وطريقة تفكيرهم وتدريبهم، والجهات التي تُوظِّفهم، إضافةً إلى ما يشعرون به تجاه عملهم. في هذا الفصل نُلقي نظرة على ما يتفق عليه أغلبهم، وما يثير الجدال بينهم. لكن علينا أولًا أن نعترف أن الاختصاصيين النفسيِّين الإكلينيكيين بصفتهم المهنية يتعرضون للانتقاد في كثير من الأحيان بسبب «عدم» تعبيرهم عن اعتراضهم أو عن آرائهم بحزم ووضوح كافٍ.

في مُعظم الأحيان، لا يُعبِّر الاختصاصيُّون النفسيون الإكلينيكيون عن آرائهم بوضوح إذا ما قارنَّاهم بالقضاة والأكاديميين ومُمارسي المهن الطبية. يبدو أن مُعظَم الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين يفضلون تجنُّب الصراع، غير راغبين في الانحياز إلى جانبٍ بعينِه أو مواجهة الآخرين. فغالبية الاختصاصيين النفسيين لن يُخبروك بما يجب أن تعتقده، أو إذا كان ما تقوم به صوابًا أم خطأً. ورغم أن تبنِّي الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين لهذا الموقف المتفهِّم المُنفتح أمر جيد، فإنَّ الكثيرين يقولون إنَّ الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين يقفون على الحياد بالفِعل في كثير من الأحيان.

ولهذا الموقف المُتمثِّل في الوقوف على الحياد تبعاته على المستوى الفردي متمثلًا في العملاء وعلى الرعاية الصحية النفسية في المُجمل. فعلى المستوى الفردي، من الممكن مثلًا لعميلة تطلب النصيحة أن تشعر بإحباطٍ شديدٍ عندما يرفض الاختصاصي النفسي إعطاءها آراءً واضحة ويُشجعها بدلًا من ذلك على استكشاف أفكارها ومشاعرها. وعلى المستوى العام، يُنتَقَد علم النفس الإكلينيكي على أنه لا يُعزِّز نفسه بما يكفي، ولا يتحدَّى القبول الواسع الانتشار لوسم التعاسة بسِمَة «المرض النفسي»؛ أي رؤية الأشخاص التُّعَساء على أنهم «مرضى». ولأنَّ مجال علم النفس الإكلينيكي غالبًا ما يتوازى مع الطب النفسي، ويستخدم المصطلحات الطبية والتشخيصات؛ فكلاهما متَّهم بالتواطؤ مع نموذج الصحة النفسية القائم على المرض هذا، بدلًا من تعزيز النظر إلى المشاعر الصعبة على أنها تبعات طبيعية للتعامل مع متطلبات الحياة.

إضافةً إلى ذلك، انتُقِد الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيُّون لتركيزهم المُفرط على الفرد، مما يحد من أهمية إسهام العوامل الاجتماعية أو الاقتصادية في المعاناة الشخصية، ويُنتقَدُون أيضًا على رؤيتهم للشخص المأزوم على أنه هو مَن لا يستطيع التكيُّف مع العالم والمجتمع، بدلًا من أن يروا أن المشكلة تكمن في العالم أو المجتمع.

ويزعم البعض أن علم النفس الإكلينيكي لا يقدم إلا حلولًا فردية مؤقَّتة لمشكلات اجتماعية أكبر؛ كالوحدة والأذى العاطفي والتعدي الجنسي وانهيار الزواج والتفاوت الاقتصادي وتبعات البطالة والتحيز العرقي والاضطهاد (ونحن نعلم أنَّ جميعَها وثيق الصلة بمشكلات الصحة النفسية)، وأننا إن أردنا فعلًا أن نُساعد الناس فلا بد أن نتعامل مع المشكلات الاجتماعية الكبرى. فمُساعدة الناس على فهم السبب في شعورهم بالتعاسة (وليكن ذلك من خلال العلاج النفسي) قد لا يُفيد بقدر ما سيفيد التصدي لعدم المساواة والتمييز في المجتمع، مما قد يُقلِّل فرص مرور الناس بالمشكلات النفسية في المقام الأول بفعالية أكبر.

وبِناءً على ذلك، يقول البعض إنه يجب علينا أن نكون أكثر استعدادًا للتعبير عن رأينا والمشاركة في الحملات المتعلقة بقضايا اجتماعية أوسع؛ فنكون بمثابة صوت مَن يُعانون من صعوبات نفسية لكنهم غير قادرين على التعبير عن أنفسهم أو غير راغبين في ذلك. وإذا لم نتولَّ هذه المسئولية الاجتماعية، فإننا نُخفِق في دورنا في مناصرة المحرومين أو المضطربين نفسيًّا أو المهمشين في المجتمع.

على الرغم من ذلك، يقول آخرون إن هذه المشكلات مشكلات سياسية واجتماعية عمومية، تتجاوز نطاق حُلول علم النفس الإكلينيكي؛ إذ تُثير تساؤلات عن الأيديولوجيا والقيم والمعتقدات التي لا يُمكن للمُتخصِّصين بمُفردهم الإجابة عنها. فجميعنا لدينا الحق في محاولة التأثير على نظام المجتمع بصفتِنا مواطنين فيه، لكن البعض يرى أنه لا ينبغي علينا السماح لآرائنا الشخصية أو السياسية بالتداخُل مع عملنا بطريقة ما.

مواطن اتفاق الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيِّين

رغم مواطن الخلاف التي عرضناها، تُوجد بعض المبادئ الأساسية التي نميل جميعًا إلى الاتفاق عليها. تتعلَّق هذه المبادئ بما يَعتقد الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون أنه يسبب المشكلات النفسية؛ آليات عمل أذهاننا؛ وما يساعد الناس على التغير؛ وكيف يُمكن للتدخلات النفسية مساعدة الأشخاص في تحقيق هذه التغييرات. فيما يلي قائمة موجزة بما يتَّفق الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون على أنه يسبب مشكلات نفسية:

  • (١)

    معظمنا متأثرون تأثرًا كبيرًا بخبرات طفولتنا المبكرة، وإن كنا لسنا محدودين بها. وتؤثر الخبرات المبكرة على نظرتنا لأنفسنا وللآخرين والعالم. فجميعُنا يرى علاقاتنا الجديدة بصورة جزئية من خلال عدسة العلاقات المهمة التي مررنا بها مبكرًا.

  • (٢)

    غياب الرعاية المنتظمة المُفعَمة بالعطف من الوالدين يؤثر بالسلب دائمًا، لكننا قد نتعافى من التجارب النفسية المؤذية، لا سيما إذا وفَّر لنا أشخاص آخرون في حياتنا دعمًا منتظمًا.

  • (٣)

    لا أحد يظلُّ سعيدًا بنسبة ١٠٠٪ طوال الوقت. فالصحة النفسية تتراوح في مستوياتها مُشكِّلة طيفًا مستمرًّا، وقد نكون في أيِّ موضع من هذا الطيف في أوقات حياتنا المختلفة. نحن جميعًا نختبر تجارب شعورية صعبة في بعض الأحيان، ولكن بعض الأشخاص يعيشون صعوبات شعورية مُعيَّنة بصورة أشد أو أكثر تكرارًا من الآخرين.

  • (٤)

    الفقر والتفاوُت الاجتماعي والصدمات تضرُّ بصحتنا النفسية وتؤثر على قدرتنا على عيش حياة صحية نفسيًّا. وتُشير الأدلة إلى أن التوزيع غير المتساوي للثروة والعيش في فقرٍ يُرتَّبان بمستويات المعاناة النفسية.

  • (٥)

    لدينا جميعًا تكوين وراثي فريد يتفاعل مع بيئاتنا الأُسرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وتجاربنا الحياتية (والعكس بالعكس). ومن ثَم، فكلُّ شخص مختلف وإن كان يصف صعوبات مشابهة للصعوبات التي يصفها غيره.

كيف يعمل الذهن؟

  • (١)

    الجميع تقريبًا يُريدون أن يكونوا محبوبين ويسعَون لتكوين علاقات مع أناس آخرين. وأغلب من يشعرون بأنهم مرفوضون أو مُهمَّشون أو لديهم تقدير مُتدنٍّ لذواتهم يَميلون إلى لوم أنفسهم قبل لوم الآخَرين. ينتج عن هذا تعاسة تظلُّ تُكرر نفسها. فشعورنا بأننا على صلة مع الآخرين وتلقينا الدعم منهم من العوامل التي تَحمي سلامتنا النفسية.

  • (٢)

    التعقُّل (أي القدرة على فهم الرغبات والمشاعر والمعتقدات والنوايا التي تنبني عليها أفعالنا وأفعال الآخرين) مُهمٌّ في حماية صحتنا النفسية، ويُمكن لأغلب الناس تطويره بمساعدة التدخلات النفسية.

  • (٣)

    لطريقة تفكيرنا (أو حُكمنا) على صحتنا الجسدية والنفسية تأثير على صحَّتنا لا يقلُّ عن تأثير «الحقائق» الموضوعية. ويمكننا التعبير عن ذلك بمقولة شكسبير: «ما من شيء في حد ذاته جيد أو سيئ، إنما التفكير ما يجعله كذلك.»

  • (٤)

    يأتي الحدس في المقام الأول. ولا تأتي العقلنة إلا بعده. غالبًا ما نستهين بتأثير مشاعرنا (غير الواعية) علينا، مُعتقدين خطأً أننا (وكذلك الآخرون) نتصرَّف على أساسٍ عقلاني تمامًا.

  • (٥)

    ينزع الناس إلى التعامُل مع الصعوبات بالطرق التي اعتادوا عليها؛ أي يتصرَّفون بطرقٍ أعانتهم في الماضي، حتى وإن باتت هذه الطرق غير فعالة في الوقت الحاضر، أو حتى مؤذية.

  • (٦)

    صحيحٌ أن المشاعر ليسَت كلها مريحة ولا سهلة، لكن لكلٍّ منها وظيفة ومعنًى، وينبغي أن ينال اهتمامًا.

كيف يمكن للتغيير أن يحدث؟

  • (١)

    جميعنا نَزدهر ونترعرع عندما نتلقَّى اهتمامًا؛ والتشجيع والمدح أقدر على تغيير سلوكنا من العقاب. فأسهل طريقة لنزيد من تكرار سلوكٍ مُعيَّن هي المكافأة عليه.

  • (٢)

    «السلوك التنفيسي»، سواء أكان من طفل (كنوبات الغضب)، أو من بالغ (كتعاطي العقاقير وإيذاء النفس)، يجب أن يُرى باعتباره صورةً من صورة التواصُل يجب أن تفهم على الوجه الذي تعنيه لا أن تقابل بالعقاب.

  • (٣)

    رغم أنَّ الأشخاص لا يستطيعون الاستمرار في تأدية أدوارهم إن كانوا يمرُّون بمعاناة شديدة، لكن اختبار درجة من المعاناة أو عدم الراحة ضروري غالبًا لتحفيز التغيير.

  • (٤)

    لا يُمكنك أن تجعل الناس يتغيَّرون إن لم يريدوا ذلك، لكن بإمكانك أن تدعمهم وتُشجعهم على إحداث التغييرات. ويكون عمل الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين أفضل ما يكون عندما يعملون جنبًا إلى جنب مع عملائهم بتعاون وبلا أحكام.

كيف يمكن لعلم النفس الإكلينيكي أن يساعد؟

  • (١)

    الحديث عن التجارب الشعورية مع شخصٍ آخَر يُمكن أن يُقلِّل في حدِّ ذاته من معاناة الشخص لأنه يشعره بدرجة أكبر من الارتباط مع الآخَرين، وقد يَمنح أيضًا شعورًا بالارتياح والفهم والإدراك.

  • (٢)

    العلاج النفسي لا يتعلَّق ﺑ «الأمور» التي يفعلها الاختصاصي النفسي الإكلينيكي فحسب. وإنما يعتمد على طبيعة شخصِه، وطبيعة عميله، وطريقة تفاعُله مع العميل، وطبيعة العلاقة بينهما. فأغلب تجارب العلاج الناجحة تضم مُعالجًا مُتعاطفًا يستمع لما يمرُّ به عميله، ويبني معه علاقة آمنة، ويخلق معنًى من الصعوبات التي يمرُّ بها العميل، ويبثُّ فيه الأمل، ويركز على المهام والأهداف المتَّفق عليها من أجل العلاج.

  • (٣)

    العديد من العلاجات النفسية يُمكنها أن تعمل بفعالية إذا طُبقت بشكل جيد وكُيِّفَت حسب كل فرد على حِدَة. ورغم أن هناك أدلَّة تؤيد بعض أنواع العلاج عن غيرها للتعامل مع مشكلات معيَّنة، فهذا لا يعني بالضرورة أن العلاجات الأخرى غير مجدية؛ بل ربما أُجريَت عليها أبحاث أقل فحسب.

ما يختلف بشأنه الاختصاصيُّون النفسيون الإكلينيكيون

أغلب المِهَن التي تضمُّ الكثير من الأشخاص الشغوفين بعملهم، تَنطوي على الكثير من الآراء والجدالات والنقاشات. وليس مجال علم النفس الإكلينيكي مختلفًا عن ذلك، حتى وإن أُسكتَت الجدالات أحيانًا. قرَّرنا هنا أن نركز على ثلاثة من المسائل المُثيرة للجدل، لكنها أكثر من ذلك بلا شك.

  • لأيِّ مدًى يجب أن يكون الاختصاصي النفسي الإكلينيكي مُتفكِّرًا؛ هل يجب علينا أن نخضع للعلاج النفسي؟

  • نحن نقول بأننا علماء مُمارسون (انظر الفصلين ١ و٣)، لكن هل للاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيِّين حقًّا أن يَزعُموا أنهم علماء؟

  • في الممارسة العمَلية، ما الذي ينبغي على الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين أن يركزوا جهودهم عليه؟

التفكُّر

لطالَما كان السعي للتفكر في الذات وخوض العلاج الشخصي جزءًا أساسيًّا في المسيرة المهنية لأي اختصاصي في الصحة النفسية منذ مراحل علم النفس الفرويدية المبكِّرة. على الرغم من ذلك، زعم بعض الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين فيما بعد أنَّنا لا يجب أن نخضع للعلاج الشخصي لأن هذا يُشتِّتنا عن مهمتنا في أن نكون علماء مستقلين موضوعيِّين، ويأخُذنا ناحية استبطان النفس والانغماس فيها والذاتية. غير أنَّ نصف الاختصاصيِّين النفسيِّين الإكلينيكيين في الغرب حاليًّا يرون العلاج الشخصي أمرًا ضروريًّا، وقد تلقَّى ٧٥٪ من الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيِّين شكلًا من أشكال العلاج الشخصي (وإن كنا نجد تفاوُتًا في ذلك بين النماذج النظرية؛ فالمُمارسون النفسيون التحليليُّون أكثرهم مَن يختبرون العلاج الشخصي، في حين أن المعالجين السلوكيِّين أقل مَن يفعلون ذلك).

تُوجد حُجج عديدة تدعم خضوع الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين للعلاج الشخصي، ويكون ذلك عادةً جزءًا من تدريبهم المِهَني. أولًا، ليسالحُجة الثانية أننا العملاء وحدهم مَن يأتون ومعهم ماضيهم إلى داخل غرفة العلاج. فنحن الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين عندما نتفاعَل شعوريًّا مع العملاء (وهو أمر لا مفرَّ منه)، نحتاج لأن نَعرف إذا ما كان هذا يفصح عن شيء بخصوص هذا العميل تحديدًا أم أنه يتعلَّق أكثر بماضينا الشخصي. وكلَّما فهمنا أنفسنا وما يستثير انفعالنا أكثر، صار بإمكاننا مُقاومة استحضار أنماطنا الشخصية مع عملائنا بشكلٍ أفضل. ذلك أننا إذا كنا نرغب حقًّا في فهم تجارب عملائنا الذاتية، لا بد أن نفهم أنفسنا كذلك؛ وأن نَعرف أي المشاعر يعود إلى أي الأشخاص؟ وسيُساعد العلاج في هذا.

الحُجة الثانية أننا، نحن الاختصاصيين النفسيِّين الإكلينيكيين أيضًا بشرٌ، وقد يُساعدنا العلاج الشخصي في تخطِّي صراعاتنا الداخلية (مثل مواطن شعورنا بعدم الأمان ومُشكلات صورتنا عن أنفسنا) وفي التعامل مع مُشكلاتنا الخارجة (كمُشكلاتنا مع أُسرنا وعملنا)، وهو بذلك يحسن من حياتنا ويجعلها أكثر تعاطفًا واتزانًا وانفتاحًا. من هذه الجهة، يعدُّ العلاج الشخصي جزءًا من الاعتناء بالذات، ويتأكَّد من أننا أصحاء نفسيًّا قدر الإمكان.

ثالثًا، لا بدَّ أن يؤمن الاختصاصيُّون النفسيون الإكلينيكيُّون بالجَدوى المُمكنة للعلاج النفسي، حتى يكون بمَقدُورهم أن يبعثوا الأمل. إن خُضنا العلاج الشخصي ورأينا بأنفسنا أنه مُفيد، فقد يقنعنا هذا بجدواه ويُبين لنا قُدرته على إحداث تحول في حياتنا. وربما يجوز لنا أن نزعم أنه إذا كان الاختصاصيُّون النفسيون الإكلينيكيون لا يؤمنون بأنهم قد يستفيدون من الأدوات العلاجية التي تُوفِّرها مهنتهم، فليس لهم الحق في تطبيقها على الآخرين!

وأخيرًا، قد يكون من المُفيد للاختصاصي النفسي الإكلينيكي أن يعيش تجربة أن يكون هو نفسه العميل. وقد قال أحد زملائنا عن ذلك: «جعلني العلاج الشخصي أدرك كم مِن المُرعب أن يُفضي الإنسان بنفسه إلى المعالج. ولشدَّ ما زاد احترامي لعملائي نتيجةً لذلك!» وببلاغة علَّقَت المعالجة النفسية الدينامية نانسي مكويليامز أيضًا على هذه الحُجة قائلة:

«تعاملت مع العلاج بعقلانية، وبدا أنَّ هذا هو الخيار البديهي لدَواعٍ مهنية … [لكنِّي] وجدت نفسي أرتجف بقلقِ طفلٍ يحتاج إلى الأمان … لقد شعرتُ بالانكشاف وفقدان السيطرة والهشاشة إزاء التعرُّض للانتقاد والخزي. كل هذا وأنا لم آتِ للعلاج بسبب «اضطراب» ما … لم أَكُن قد لمستُ في نفسي أي حاجة إلى العلاج …»

أما الحُجج التي تُعارض خضوع الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين للعلاج الشخصي فمنها الافتقار إلى أدلة حاسمة تؤيد وجود نتائج إيجابية مباشرة لذلك على مخرجات العملاء من العلاج، وصعوبة جعل أمرٍ شخصيٍّ كهذا جزءًا من التدريب الإجباري. وليس جميع الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين يُقررون العمل معالجين: بعضُهم يتعلَّق مُعظم عمله بتقييم الحالات، أو في الخدمات الإدارية والقانونية، أو في التدريس أو البحث، لذا قد يكونون أقل صلةً بمِثل هذا الأمر. كما أن الأمر مُكلف، وقد يُقال إنه مضيعة للمال، أن نُنفق مواردنا المحدودة على أناس لا يَشعُرون فعلًا بأنهم يُعانون من أي مشكلات نفسية خطيرة. ثمة اعتبارات أخلاقية أيضًا في مسألة تعريض أشخاص لعدم الراحة والتحديات التي قد تَظهر أثناء العلاج. ولهذا، فربما يكون خوض تجربة افتراضية أو بديلة للعب دور العَميل (مثل نشاط تقمُّص أدوار واضح المعالم أو من خلال مُشاهَدة الكثير من الجلسات الحية أو المسجلة) كافيًا حتى ينال بعضُ المُتدرِّبين بعض فوائد العلاج الشخصي. لا تُوجد إجابات نهائية لهذه الأسئلة، ولهذا يستمرُّ الجدل.

زعْمنا بأننا علماء

يشهد مجال الصحة النفسية (ومنه علم النفس الإكلينيكي) في الوقت الحالي تطوُّرَين علميَّين مُتقاربين وواسعَي التأثير: المُمارسة المدعومة بالدلائل، وقد بدأت في المملكة المتَّحدة؛ والعلاجات المدعومة تجريبيًّا، وقد بدأت في الولايات المتَّحدة. يطمح هذان التطوُّران إلى دمج أفضل الأدلة العِلمية المتاحة بشأن ما يُفيد الناس إلى جانب الخبرة الإكلينيكية، وما يتعلق بتفضيلات كلِّ عميلٍ أو قِيَمِه. ويلعب الأسلوب العلمي في تطوير المعارف دورًا أساسيًّا في كلا التطوُّرين.

ونتيجة لهذا، راحت المنظمات الحكومية وشركات التأمين (التي تُمول خدمات الصحة) تطلب باطراد من الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين والباحثين الآخرين في الصحة النفسية توضيح أن العلاجات النفسية قائمة على أدلة علمية تجريبية وأن يُثبتوا أنها فعَّالة. وقد أدَّى هذا بدوره إلى محاولات الحكومات وشركات التأمين فرض أنواع العلاج التي ينبغي أن يقدمها الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون المُمارِسون للمهنة.

وقد قابل الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون هذه الحركات في الغالب بترحابٍ كبير؛ فجميعُهم تلقَّوا تدريبهم الأساسي تبعًا لأعراف علم النفس الأكاديمي بطبيعتِه العِلمية. وفوق ذلك، لقد أصبح القيام بالأبحاث الآن دورا أساسيًّا من أدوار الاختصاصي النفسي الإكلينيكي كما تنصُّ الإرشادات المهنية وتوصيف الوظيفة. فنجد أنَّ موقع التوظيف التابع لخدمة الصحة النفسية على سبيل المثال، يذكر عام ٢٠١٣ ما يلي: «بسبب مهارات الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين العالية في البحث العلمي، فهم يُؤدُّون دور العالم الممارس، باعتبارهم مُبتكرين وباحثين تطبيقيين، ممَّا يُثري الأدلة التي تستند إليها الممارسة في العديد من نطاقات الرعاية الصحية.»

ويرى أغلب الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيِّين أنَّ علم النفس صنف من العلوم، ويتمسَّكون بكون البحث العِلمي «جوهريًّا» فيه. وكان لهذا أثر جيِّد على علم النفس الإكلينيكي وعملائه. فباستخدام الوسائل العلمية والاستناد إلى أساسٍ متينٍ من الأدلة التي خضعت لمراجَعة الأقران، اكتسب الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون قدرًا كبيرًا من المعرفة بحالاتٍ نفسية كثيرة، وكيفية تطوُّرها أو تغيُّرها. سمح هذا لهم بإضافة علاجات وتدخُّلات فعَّالة لأشخاص كثيرين بِناءً على أبحاث تجريبية.

لكن هذا التركيز على البحثي العِلمي لا يُترجم إلى واقعنا اليومي بشكل تام. فالأرجح أنَّ معظم المتدربين يختارون المهنة بسبب اهتمامهم الشديد بالبشر، وليس لأنهم يرغبون في القيام بالأبحاث في الأساس. إنما الواقع، أنَّ الكثير منهم يَشعُر بالقلق وبمَشاعر مُتضاربة بسبب متطلبات إجراء البحوث العلمية بأنفسهم، وربما يرون الأبحاث المطلوبة للأطروحة المطلوبة شرًّا لا مفرَّ منه. ويُعطي عنوان موقع الويب الطلابي الشهير www.statisticshell.com (يُترجم إلى «جحيم الإحصاءات») لمحةً عما كان عليه انطباع بعض أصحاب هذه المهنة عن البحث العلمي (وربما لا يزال هذا الانطباع قائمًا). وحتى بعد إتمام التأهيل، لا يُصبح أغلب الاختصاصيِّين النفسيِّين الإكلينيكيِّين باحثين ناشطين في الواقع، رغم أنهم تدربوا جيدًا على ذلك وقادرون على القيام به. الحق أنَّ مُعظمَهم لا ينشر ولو دراسة واحدة بعد أطروحة الدكتوراه، هذا إن نشروا مشروع أطروحتهم في الأساس، وغالبًا ما يرجع ذلك إلى صعوبات عملية النشر (انظر الشكل ٦-١).
fig5
شكل ٦-١: النشر في دورية عِلمية تخضع لمراجعة الأقران عملية مليئة بالعقبات.

إلى جانب عدم إجرائهم لأبحاث أو نشرها بأنفسهم، تُوجد أيضًا خلافات كبيرة داخل النطاق المهني بشأن قوة الأدلة الداعمة لبعض النماذج النفسية، إضافة الجدل المتعلِّق بقَبول الضغوط الواقعة عليهم حتى تَنحصِر التدخُّلات التي يُقدمونها بين الممارسة المدعومة بالدلائل، والعلاجات المدعومة تجريبيًّا. وقد أبدى بعض مُمارسي المهنة عزوفًا عن تغيير طريقة عملِهم رغم تقديم الباحثين الأكاديميِّين لأدلة جديدة تقترح العمل بطُرُق مختلفة (خصوصًا عندما تُضاف هذه الطرق الجديدة في الأدلة الإرشادية، والتي تشرح للاختصاصي النفسي الإكلينيكي ما يجب عليه فعلُه مع فئات معيَّنة من العملاء خطوة بخطوة).

ولهذا يَنبغي علينا أن نتساءل: لماذا لا يتصرَّف بعض الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيِّين كالعلماء على ما يبدو، رغم أنهم يُعدون أنفسهم علماء ويقولون إنهم يُقدرون العلم؟ هناك إجابات ممكنة عديدة. من أهمها أن مكمَن المُشكلة هو أن أغلب الباحثِين الأكاديميِّين في مجال علم النفس الإكلينيكي كغيرهم من الباحثين في المجالات العِلمية الأخرى، يسعون لاستنتاج «قواعد» كلية أو شبه كلية تَنطبِق في كل الظروف. وغالبًا ما تُدرَج هذه «القواعد» في الأدلَّة الإرشادية التي تحبُّها الهيئات الممولة، وتحدد ما يجب أن يفعله الاختصاصيُّون المُمارسون.

غير أنَّ مهام الاختصاصي النفسي اليومية تدور حول أفراد يختلفون بعضهم عن بعضٍ من حيث القيم والمعتقَدات والمشكلات والتفضيلات الشخصية والظروف الأسرية والأساليب في العلاقات والثقافة. ويَتعامل الاختصاصي الممارس مع الحالة بصفتها حالة متفرِّدة، فهو يُجابه كل يوم مهمَّة شديدة الصعوبة تتمثَّل في تطبيق نتائج الأبحاث المبنية على مجموعات على الفرد الماثل أمامه. ففي أحيانٍ كثيرة لا يَتطابَق العملاء بدقَّة مع واحد من الأصناف الموضَّحة في الكتب الدراسية. لذا قد لا يرى الاختصاصيُّون المُمارسون نتائج الأبحاث العِلمية (أو الأدلة الإرشادية) مُتوافِقة مع الحالة أو مُفيدة لها. ولهذا يفضل كثيرون منهم أن يتعلَّموا من الدراسات الكيفية أو تقارير الحالات.

ثمة أسباب عملية أيضًا لعدم إجراء الاختصاصيين المُنخرطين في الممارسة الكثير من الأبحاث، ومن ذلك التعقيدات التي يستلزمها إنتاج الدراسات الجيدة، والحاجة لاتباع أخلاقيات بيروقراطية أو إجراءات إدارية. وبالنسبة إلى مَن يعملون في الخدمات العامة، عادةً ما يُعدُّ تكريس وقت للبحث العلمي من قبيل الرفاهية؛ لأن مُتطلبات القيام بالعمل الإكلينيكي سرعان ما تَطغى على قدرة الاختصاصي النفسي على تكريس وقتٍ للبحث العلمي. أما بالنسبة إلى مَن يعملون بشكلٍ مُستقِل، فقد يُؤدي القيام بالبحث العلمي إلى تقليل دخلهم؛ لأنَّ إجراء الأبحاث قد يُقلل من الوقت المتاح لحجز مواعيد مع العملاء. لذا يظهر لنا أن مسألة أن تُصبح عالمًا ممارسًا مُتفكِّرًا تحمل قدرًا كبيرًا من الصعوبات العملية.

لكن في الوقت نفسه، تُوجد نقاشات بشأن ما إذا كان علم النفس الإكلينيكي يُعَد فنًّا أكثر مما يُعَد علمًا؛ وكذلك النقاشات المتعلِّقة بكيفية إجراء الأبحاث وماهية التصاميم والتحليلات التي تُعدُّ الأفضل. انظر على سبيل المثال إلى مميزات وعيوب إجراء تجارب عشوائية مضبوطة في مربع ٢١، والآراء المُتعلِّقة بالتحليلات الكمية في مربع ٢٢.

مربع ٢١: ما أهمية التجارب العشوائية المضبوطة؟

لإجراء أبحاث على تأثير العلاجات النفسية باستخدام التجارب العَشوائية المضبوطة مميزات كثيرة. ذلك أنَّ التجارب العشوائية المضبوطة تُمثل محاولة الإبقاء على أكبر عدد مُمكن من المُتغيرات ثابت في مجموعتين (وهي بهذا المعنى مضبوطة)، باستثناء مُتغيِّر واحد: نوعية العلاج محل الدراسة. يوزع الأشخاص الذين ستُجرى عليهم الدراسة على مجموعتين عشوائيًّا، لتجنُّب أن يكون أي اختلاف في النتائج بين المجموعتين نابعًا من اختلافات حاصلة مُسبقًا بين المشاركين. ويعدُّ العلاج في صورة إرشادات. وذلك يساعد الباحثين على استنتاج أي العلاجات كان أكثر فعالية.

وعلى الرغم من مميزات هذا التصميم، فإنَّ التجارب العشوائية المضبوطة لا تخلو من جوانب القصور. يزعم مُنتقدوها على سبيل المثال أن هذه التجارب غالبًا ما تشمل حالات سهلة وبسيطة تختلف عن الحالات الأكثر تعقيدًا التي نراها كثيرًا في الممارسة الإكلينيكية المُعتادة. وتفترض التجارب العشوائية المضبوطة ضمنيًّا أن العملاء الذين يَتشابهون في التوصيف أو التشخيص يَتشابهون فيما دون ذلك وأنهم سيستجيبون لنفس العلاج بالطريقة نفسها. وحقيقة الأمر أنه من النادِر أن يكون الفارق الوحيد بين المجموعتَين أمرًا واحدًا (وهو نوع العلاج). فنحن نعلم، على سبيل المثال، أن مُختلف الاختصاصيين النفسيين لا يعملون بالطريقة نفسها بدقة حتى لو كانوا يطبقون نفس العلاج، ونعلم أيضًا أن الاختصاصي النفسي نفسه لا يعامل كل واحد من عملائه بالطريقة عينِها في كل الجلسات.

ربما تكون أفضل طريق لإجابة هذه الأسئلة هي أن نَقبل أن جميع الأبحاث النفسية معيبة. فلكلِّ وسيلة بحثية مميزات وعيوب، ولكن أيًّا ما كانت الوسيلة، فالأبحاث جميعها فلا تُسفر إلا عن تقريب للحقيقة.

لن نعلم أبدًا على وجه اليقين ما إن كان هذا العلاج أو هذه العملية أو هذا الاختصاصي النفسي سيُفيد هذا العميل الجديد بعينه، أم لا. لذلك ينبغي أن نبذُل قصارى جهدنا حتى نوفق بين نتائج الأبحاث ونجمع المعلومات؛ وبطريقة خلاقة نستكمل الأجزاء الناقصة من أحجية ما يحقق أفضل نفع للعملاء. من هذا الوجه، نرى أن الأبحاث الكيفية تمدُّ الاختصاصي النفسي الإكلينيكي بالمعلومات بقَدرِ ما تُفيده برامج الأبحاث الكمية كالتجارب العشوائية المضبوطة ذات النطاق الأوسع.

مربع ٢٢: ما فائدة التحليلات الكيفية؟

يُمكن القول، على وجه التقريب، إن الدراسات الكمية تستخدم الأرقام والإحصائيات بينما تؤسس الدراسات الكيفية حُججًا مبنية على وصف حالات أو على سرديات متَّسقة. عندما وضع فرويد نظرياته عن النفس البشرية في أواخر القرن التاسع عشر، لم يكتب أوراقًا بحثية نظرية فحسب، بل كتب كذلك عددًا من الدراسات الكيفية للحالات، وتوصيفات للعملاء وحواراتهم، وملاحظات عن تجربته الشخصية بصفته المعالج، ليُبيِّن مقاصده. وقد كان لهذه الدراسات بالغ التأثير آنذاك. على الرغم من ذلك، تخلَّى علم النفس عن هذه الطريقة في الاستقصاء بدرجة كبيرة منذ ذلك الحين؛ إذ اعتبرها متحيزة وغير جديرة بالثقة.

في المقابل، صارت السيادة في علم النفس الإكلينيكي لطريقة العمل الكمي التي تستخدم الإحصائيات والتحليل العددي للبيانات، كما حدث في معظم العلوم الاجتماعية. وفي الوقت الحاضر، غالبًا ما تُعدُّ البحوث الكيفية أضعف وأقل قابلية للنشر وغير علمية، وتقابل بالاستهجان قليلًا من قبل الباحثين «الحقيقيين» (أي الذين يستخدمون الوسائل الكمية). وتتمثَّل الانتقادات الموجَّهة إلى الأبحاث الكيفية في أنها قد تكون عرضة للتحيز أو غير جديرة بالثقة، ولا تنطبق إلا على قلة من الناس. ولهذا، تعطي الإرشادات الرسمية أولوية لنتائج الدراسات الكمية، كالتجارب العشوائية المضبوطة واسعة النِّطاق.

غير أنَّ ميزة البحث الكيفي تَكمُن في أنه يمكن أن يستكشف الموضوعات بعمق، ويُمكِن أن يقدم نظرة أقرب وأكثر تفصيلًا لتَجربة العملاء الذاتية. إضافةً إلى ذلك، يرى بعض الاختصاصيِّين النفسيين أنه عملي بدرجة أكبر وأقرب للتعامُلات الحقيقية من مجموعات الأرقام المذكورة في الأوراق الكمية. لذلك، يرى بعض المُمارسين الإكلينيكيِّين أن الأوراق البحثية الكيفية أكثر إفادة من الأوراق البحثية الكمية، وأسهل في تطبيقِها في عملهم الإكلينيكي مع العملاء. ويرى بعض الاختصاصيِّين النفسيين أيضًا أنها تقدم طريقة أفضل للنظر في الأسئلة المعقَّدة كالمعنى الشخصي والتجربة الشخصية والعلاقات والتنوع الثقافي، ويُمكنها أن تساعدنا في تأسيس فهم للحالات النادرة.

تركيز جهودنا الإكلينيكية

علاوةً على هذا الجدل بشأن التزامنا بالتفكُّر واتباع الأسلوب العلمي، تُثير مُمارستنا الإكلينيكية موضوعًا مهمًّا آخر من موضوعات الجدال: خلال عملنا مع عملائنا، هل يجدر بنا أن نُركز على تقديم تقنيات معينة، أم نركز على إمدادهم بعوامل دعم عامة كالأمل والرفق ومهارات الإنصات؟ المشكلة هي أننا نعلم أن تدخلات علم النفس الإكلينيكي يُمكنها أن تكون فعَّالة، لكنَّنا لا نعلم سبب ذلك على وجه التحديد.

من الأمثلة الجيدة على هذا وجود رابط ما بين العلاقة العلاجية الإيجابية وبين التوصُّل إلى نتائج علاجية جيدة، كما تُبيِّن دراسات بحثية كثيرة. لكن هل العلاقة الإيجابية هي ما يقود للنتائج الجيدة أم العكس؟ هل التقنية هي السبب أم الإنصات المهذَّب من شخص مُتخصِّص مهاراته في الإنصات جيدة؟ هل تتشابَه الجلسات في الحقيقة تشابُهًا كبيرًا في أنواع العلاج المختلفة، حتى وإن كنَّا نطلق على ما يحدث في كل من هذه الجلسات مُسميات مختلفة؟ أم إن العمَلية مُختلفة بحق، لكن هذا لا يهمُّ طالَما أن النتائج واحدة على كل حال؟

توجد وجهات نظر مختلفة في الإجابة عن هذا السؤال. فالمُعالجون المعرفيون على سبيل المثال يرون أن التغييرات المعرفية التي يُجريها العميل في طريقة تفكيره هي ما يُثمر عن التحسُّن، وأن هذا يعزز بدوره العلاقة بين العميل والمعالج. ويؤمن آخرون، مثل بعض المعالجين ذوي التوجه النفسي الدينامي، أن هذه العلاقة العلاجية الإيجابية هي ما يُتيح للعميل إحداث تغييرات معرفية. ومن الصعب جدًّا إثبات ذلك بطريقة أو بأُخرى من خلال الفصل بين العوامل المختلفة في وقتِها الفِعلي بسبب كثرة العوامل الموجودة. قد تكون الإجابة إذن شديدة التعقيد في الواقع.

صحيح أنه لا يزال أمامنا الكثير ممَّا يَنبغي اكتشافه، لكن بعض النتائج أصبَحَت أوضح مع مرور الوقت. فنحن نعلم على سبيل المثال، أنه ما من تقنيات علاجية مُعيَّنة ولا عوامل عامة مسئولة مسئولية كاملة عن فوائد التدخلات النفسية. وبدلًا من ذلك، يُوضح لنا كمٌّ مُتزايد من الأدلة أن العلاجات النفسية تُفيد من خلال تشكيلة من العوامل المساعدة العامة (مثل التحلي بالأمل والتوقع الإيجابي للتغيير، وأن يشعر المرء بأنَّ ثمة مَن يُنصت إليه، والتوصل إلى فهم جديد للأمور، وفتح قنوات التواصل)، مع بعض التدخلات المعينة المستقاة من النظريات النفسية (كالتساؤل السُّقراطي، والتجارب السلوكية، والتغييرات الهيكلية داخل الأسرة، واكتساب رؤية أعمقَ للأنماط التي تتكرَّر في العلاقات؛ انظر الفصل الثالث).

نعلم أيضًا أنه ينبغي على جميع الاختصاصيين وعُملائهم بناء علاقة عمل إيجابية حتى يكون عملهم معًا فعَّالًا. ومما يندرج ضمن ذلك الاتفاق على المهام والأهداف وتأسيس رابطة وجدانية مُناسبة. فليس من الضروري الخضوع الأعمى لبروتوكولات علاجية معيَّنة، لكن التدخل يجب أن يضمَّ أكثر من العوامل الشائعة وحدها. فالعملاء يتوقَّعُون أن يجدوا تفسيرًا مُتماسكًا لمُعاناتهم وهم يحتاجون إلى ذلك ويستفيدون منه بأقصى درجة عندما يكون هذا التفسير وتبريره المنطقي متَّفقان مع رُؤيتهم لعالَمهم.

إنَّ جميع التوجُّهات النظرية يُمكن أن تقدم كلماتٍ واستراتيجياتٍ وصورًا قد تُساعِد الناس على التغيير. لكن تخمين ما سيَنجح منها وفي أيِّ ظرف ومع أي شخص (ومعرفة كيفية تطبيقه) هي الفن الضروري في علم النفس الإكلينيكي. وعلى الجانب الموازي، فإنَّ استخدام التقنيات والدلائل والنَّظريات لإرشاد حدس الاختصاصي النفسي المُمارس هو ما يُشكِّل الجانب العِلمي. وينعكس الخلاف حول أهمية استخدام تقنيات معيَّنة في وجود اختلافات في التدريب المهني والتدريبات الميدانية في مختلف البلدان (انظر مربع ٢٣).

لقد أعطى هذا الفصل لمواطن الخلاف داخلَ علم النفس الإكلينيكي مساحةً أكبر بعض الشيء مما أعطاه لمَواطن الاتِّفاق. لكننا لا نرى ذلك أمرًا سلبيًّا. فوجهات النظر المتعارضة في أي مجال تفيد في تطوره وتحسين نظرياته وممارسته المستقبلية. وسوف نُناقش المستقبل بالفعل في الفصل القادم (والأخير) من هذه المقدمة القصيرة جدًّا، ونَعرض فيه بعضًا من التطورات الحديثة التي يرجح أن تدفع علم النفس الإكلينيكي إلى الأمام في سعيه لمُوازنة العلم مع العناية بصحَّة وسلامة الأفراد.

مربع ٢٣: التدرُّب على تقنيات محددة أم مهارات عامة؟

يرى البعض أنَّ الاختصاصيِّين النفسيين يجب أن يتعلَّموا نموذجًا علاجيًّا واحدًا وتقنياته بإتقان قبل أن يُحاولوا دمجه مع نماذج أخرى وأساليب وتقنيات. قد يعني هذا تعلُّم تطبيقِ دليلٍ علاجي مُعيَّن وممارسة تقنياته كثيرًا مع عملاء متشابهين، حتى يتطور الاختصاصي النفسي ويُصبح متمكنًا واثقًا في قدراته. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة يمكنك أن تختار أن تُصبح ملمًّا بنموذج علاجي معين أو فئة معينة من العملاء. لكن معرفة نموذج واحد أو منهجية واحدة تنطوي على المجازَفة بأن يغريك بتطبيق ما تعلمته على كل عميل يأتيك، حتى لو لم يكن ذلك الحل الأمثل لعميل مُعيَّن أو لمشكلة معينة.

لذلك يقول آخَرون إنه بدلًا من التركيز على نموذج مُعيَّن أو فئة معينة من العملاء، ينبغي عليك اكتساب مجموعة واسعة من الخبرات الإكلينيكية وبناء مهاراتك العلاجية العامة التي يمكنك نقلها للعملاء. في المملكة المتحدة على سبيل المثال، يحصُل المتدربون على تدريباتٍ عمَلية في خدمات متنوعة مع فئات متنوعة من العملاء. يُؤدي ذلك إلى اكتساب مهارات قابلة للتعميم، وزيادة معرفتهم بمُختلف الخدمات والمشكلات والعملاء وطرق العمل، ولكنه قد يجعل المُتدرِّبين يشعرون بأنهم «يمتلكون مهارات كثيرة دون إتقان أي منها».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤