تقديم

منذ أن انتصف القرن العشرون، دخل الإبداع العربي — وبخاصة الشعري — مرحلةً جديدة، تأثر فيها تأثرًا كبيرًا بالوافد الجديد الذي انبثق مع الحداثة الشعرية. ومن ثم انتقل الشعر من مرحلةٍ تقليدية قديمة عاشها ردحًا غير قليلٍ من الزمن إلى مرحلة شعريةٍ جديدة شكلًا ومضمونًا؛ لمُلاءمة الواقع العربي ذي الإيقاع السريع في مختلف جوانبه.

ومن حيث الشكل، استطاع أصحاب هذه المرحلة الشعرية أن يُجاوزوا البيت الشعري، ويستعيضوا عنه بتفعيلاتٍ مُتناغمة، تتلاقى حينًا وتفترِق أحيانًا، مُحدِثة نوعًا من الإيقاع يُلبي رغبة الشعراء في تصوير تجاربهم على نحوٍ أكثر صدقًا. وهذا النوع من الشعر هو ما سُمِّيَ بشعر التفعيلة.

أما من حيث المضمون، فقد اعتمد شعراء التفعيلة على التراث الإنساني الذي غدا أمامهم كتابًا مفتوحًا، وكذلك على الأساطير بوصفها مَنبعًا مُهمًّا في فهم قضايا الواقع، بجانب التراث الشعبي الذي أَمَدَّ الشعراء بكثيرٍ من الأقنعة والرموز التاريخية والدينية.

وقد لازم هذا التطورَ كلَّه لغةٌ جديدةٌ، لا تعتمد في مفرداتها على الإرث اللغوي القديم، بل تُطَوِّرُه من خلال اختلاطه باللغة اليومية، وانفتاح دوالِّه سيميولوجيًّا على مدلولات تُجاوِز المستوى المعجمي، وكذلك ما عمد إليه الشعراء في تَخلِّيهم عن الاحتفاظ بالرُّتَب النحوية في المستوى التركيبي، وتَجاوُزهم للنحو التقعيدي، بإبداعهم نحوًا خاصًّا سُمِّيَ (بالنحو النصِّي) الذي يقوم على الربط بين أجزاء النص الشعري. ومن ثم يُصبح النص مثل الجسد المُتماسِك الأعضاء، وهو بذلك يؤدي الدور نفسه الذي يؤدِّيه النحو التقعيدي في استغلال جماليات اللغة وطاقاتها بوضع المفردات اللغوية وضعًا جديدًا، ينمُّ عن عُمق الإبداع.

وكان من المهم أن تنشأ ثورة حداثية في حقل النقد؛ لتُلائم تلك الثورة الحداثية التي انبثقت في حقل الإبداع. ومن ثَمَّ حلَّتْ بالعالَم العربي — منذ نهاية السبعينيات — مناهج نقدية جديدة (حداثية)، استخدمها النقَّاد العرب في قراءة الشعر العربي في مرحلة الحداثة وما بعدَها.

والحقيقة أن تلك الجهود التي قام بها نقَّادنا العرب اقتصرت في البداية على ما سمَّاه الدكتور محمد عبد المطلب بمرحلة نقل المعرفة النقدية.١ وقد ظهرت في هذه المرحلة بعض الأعمال تناولت المنهج البنيوي بوصفه أول المناهج النقدية التي وطئت أقدامها أرض النقد العربي. منها على سبيل المثال: الأسلوب والأسلوبية (نحو بديل ألسُني في نقد الأدب) للدكتور عبد السلام المسدي ١٩٧٧م، ونظرية البنائية في النقد الأدبي للدكتور صلاح فضل ١٩٧٧م، ومشكلة البنية للدكتور زكريا إبراهيم ١٩٧٨م، وأخيرًا جدلية الخفاء والتجلِّي للدكتور كمال أبو ديب ١٩٧٩م.
لكن سرعان ما انتقلت مرحلة النقل هذه إلى مرحلة الإنتاج مع بداية الثمانينيات، وبخاصة بعد إنشاء مجلة فصول التي تناولت مُعظم مناهج النقد الأدبي الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين.٢
وكان على النقاد العرب أن يُطوعوا هذه المناهج النقدية الوافدة بما يُناسب طبيعة الإبداع الشعري في البيئة العربية. ومن حينها، أخذت تتدفَّق على النقد العربي مناهج أخرى بعد حداثية: مثل المنهج السيميولوجي، ونظرية التلقِّي، والمنهج التفكيكي، والنقد النِّسْوِي، والنقد الثقافي، وغير ذلك من المناهج المُتعدِّدة، ومن ثَمَّ شرع النقاد العرب في قراءة الإبداع العربي — الشعري على وجه الخصوص — بهذه المناهج النقدية. ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل حاول بعضهم تطبيق هذه المناهج النقدية على النص الشعري في بيئته العربية القديمة.٣
وكما هو الحال عند ميلاد التيارات الجديدة في المجالات المختلفة للحياة، واجهَت الدراسات التي اعتمدت على المبادئ الإجرائية للمناهج الوافدة ثورةً عارمةً من الرفض والتحفُّظ، بدعوى أن المناهج التي قُرِئَتْ بها ليست قادرةً على قراءة النص الشعري في بيئته العربية؛ نظرًا لاختلاف مبادئها التطبيقية عن خصائص الشعر العربي.٤
وهذا ما حدا بالدكتور محمد عبد المطلب إلى القول: «وفي رأينا أنَّ الإشكالية الحقيقية في هذا الإجراء التطبيقي أنه استمدَّ ركائزه وأدواته من نصوصٍ غير عربية. ومن ثَمَّ فقد كانت في حاجةٍ إلى تطويعها لكي تكتسب صلاحية التعامُل مع النص الشعري، فأنا من المؤمنين بأنَّ كل لغةٍ لها خصوصيتها التي تكاد تنغلِق على نفسها، حتى لو اشتركت في الأسس العامة.»٥ ومن هنا نشأت جدلية الرفض والقبول تجاه هذه المناهج النقدية الجديدة في كيفية تعاملها مع الشعر العربي في مرحلة الحداثة وما بعدها.
ولأن النقد يُعد في حدِّ ذاته عمليةً إبداعية توازي إبداع الفنون الأدبية ذاتها، كان لا بد أن يُقَوَّم هذا النقد الحداثي ويُناقَش في مبادئه الإجرائية التي قام عليها نتيجةَ تأثُّره بتلك المناهج النقدية غربية المنشأ. ومن ثَم ظهرت على الساحة النقدية دراسات تُعالِج هذه المسألة وتندرِج تحت ما يمكن أن نُسمِّيه (نقد النقد). يأتي في طليعة هذه الدراسات كتاب نقد الحداثة للدكتور حامد أبو أحمد، إذ أحدث دويًّا شديدًا بمناقشة دُعاة المنهج البنيوي في العالم العربي، مع إبداء إعجابه بتعريب النقد الحداثي من خلال قراءته لكتاب ثقافة الأسئلة للدكتور عبد الله الغذامي، فضلًا عما تناوله الكتاب من مواد نقدية أخرى.٦ وكذلك ما قدَّمه الدكتور عبد العزيز حمودة في كتابَيه: المرايا المُحدبة، والخروج من التيه، وما ناقش فيهما من مبادئ إجرائية لتلك المناهج النقدية.

وبعيدًا عن النقد التنظيري، جاء هذا الكتاب ليناقش تلك المناهج النقدية في مبادئها الإجرائية من خلال جوانبها التطبيقية، ليجسد أمام القارئ المُتلقي مدى توافق تلك المبادئ مع النص الشعري في بيئته العربية، أو مدى مُخالفتها لجمالياته الفنية.

وفي رأيي أن إعادة قراءة الجهد النقدي بجهدٍ نقدي آخر فيما يُسمَّى (بنقد النقد) يُعدُّ مسلكًا مُهمًّا في توجيه مسيرة النقد العربي الحديث؛ إذ لا يسمح الاتجاه الثاني (نقد النقد) للأول (النقد) أن يسير على غير هُدًى، ومن ثَم لا يُعفي النقَّاد من المسئولية تجاه ما يُقدِّمونه من تفسيراتٍ للإبداع الأدبي؛ لذا تُصبح معاملة الخطاب النقدي بوصفه إبداعًا، عمليةً ذاتَ جدوى من شأنها أن تُحدِث قدرًا أكبر من الانضباط النقدي، وهو ما يعكس آثارًا إيجابية على الحركة الأدبية برمَّتها في عالَمنا العربي؛ إذ يستبعد هذه الاتجاه (نقد النقد) ما هو غريب عن متابعة هذه الحركة، ويؤصِّل ما يتواءم مع جمالياتها ويُجذِّره.

لكل ما سبق جاء هذا الكتاب ليُناقش هذه القضية المُهمة، ويُجيب عن هذا التساؤل: كيف استغل النقاد العرب المناهج الحداثية في قراءة الشعر العربي؟

وسأُعالِج هذه القضية بطرحِها في أسئلةٍ عدة؛ الأول: هل تصلُح هذه المناهج النقدية كلها لدراسة الشعر العربي؟ الثاني: هل استطاع النقاد العرب أن يُطوعوا تلك المناهج في بعض مبادئها الإجرائية لتُلائم طبيعة هذا الشعر؟ الأخير: ما المنطقة التي يصلُح أن تُطَبق عليها هذه المناهج؟ هل يتمُّ هذا على مستوى القصيدة، أو على مستوى الديوان، أو على مستوى الأعمال الكاملة؟

وأشير هنا إلى أن هذه الأسئلة المطروحة التي تُمثِّلُ القضية برمَّتها هي نفسها النتائج التي سأصِل إليها في خاتمة هذا الكتاب الذي جاء من أجل مُناقشتها؛ على أن تتمَّ هذه المناقشة بقدْرٍ كبير من الموضوعية في الجوانب التطبيقية لبعض القراءات النقدية في شعر الحداثة.

وأما عن منهج الدراسة، فقد اعتمدتُ على منهجٍ علمي مُركَّب يقوم على تتبُّع شقَّين؛ الأول: رصد نماذج تطبيقية مُتنوعة في قدْر كبير من الحيادية، دون تدخُّل منِّي أثناء تعليق النقَّاد في قراءاتهم المختلقة. الأخير: تخصيص موضوعٍ في نهاية كل نموذج لمناقشة الناقد فيما عمد إليه من تطبيق المبادئ الإجرائية لهذا المنهج أو ذاك، سواءً تَمثَّل ذلك في إظهار ما تميَّزت به القراءة، أو ما يُلْحَظ عليها. وقد رأيتُ أنَّ هذه الطريقة في استخدامي للمنهج الدراسي على هذا النحو أدْعَى إلى تماسُك الدراسة وإظهار مدى قُوَّتها.٧

وقد جاء الكتاب على النحو الآتي؛ الفصل الأول: (النقد البنيوي) الذي رصدتُ فيه ثلاث قراءات مختلفة؛ هي على الترتيب: القراءة البنيوية التي قدَّمَها الدكتور صلاح فضل لشِعر أمل دنقل، ثم قراءة الدكتور كمال أبو ديب لقصيدة (مرثية رجل صادق) للشاعر اليمني عبد العزيز المقالح، وكذلك قراءته لقصيدة (الهموم الشخصية) للشاعر العراقي سعدي يوسف، وأخيرًا قراءة الدكتورة يُمنى العيد لقصيدة (تحت جدارية فائق حسن) للشاعر سعدي يوسف.

الفصل الثاني (النقد السيميولوجي) وقد شمل هذا القسم ثلاث قراءات؛ هي على الترتيب: قراءة الدكتور عبد القادر الرباعي لدال (الليل) لدى شاعرَين من شعراء الحداثة؛ هما: محمود درويش وصلاح عبد الصبور، وقراءة الدكتور صلاح فضل لدال (البنفسج) في ديوان (سيرة البنفسج) للشاعر حسن طلُب، ثم قراءة الدكتور كمال أبو ديب لدال (الجرح) عند أدونيس ودال (الغسل) ودالي (القراءة والكتابة) عند الشاعر عبد العزيز المقالح.

الفصل الثالث (النقد الأسلوبي) وقد ناقشتُ في هذا القسم ثلاثة نماذج؛ الأول: قراءة الدكتور محمد العبد لبعض الظواهر الأسلوبية في شعر صلاح عبد الصبور. الثاني: قراءة الدكتور محمد عبد المُطلب لتحولات بِنية النفي في ديوان (الشوق في مدائن العشق) للشاعر أحمد سويلم. الأخير: قراءة الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف لقصيدة (صلاة) للشاعر أمل دنقل، وقراءته لقصيدة (طلل الوقت) للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي.

الفصل الرابع (النقد في إطار نظرية المُتلقي) وقد فرضَتْ عليَّ طبيعة هذا الفصل أن أُناقش أكثر من قراءةٍ للنموذج الواحد؛ لأُبرِز في النهاية علاقة كل قراءةٍ بالأخرى، وعلاقة ذلك بالنص ذاته. لذلك تناولَتِ الدراسة في هذا الفصل قصيدتَي الشاعر الفلسطيني محمود درويش (عابرون في كلام عابر) و(الأرض).

وقد ناقشتُ النموذج الأول من خلال قراءة الدكتور عبد الله الغذامي والناقد حاتم الصكر، في حين ناقشتُ النموذج الثاني من خلال قراءة الناقدة اعتدال عثمان والدكتورة فاطمة طحطح. ثم قدمتُ تعليقًا عامًّا في نهاية هذا الفصل أوضحتُ فيه دور القارئ المُتلقي في قراءة النص الشعري، وعلاقة القراءات السابقة بعضها ببعض، وعلاقتها بالنص المدروس. وأخيرًا الخاتمة والنتائج، ثم المصادر والمراجع.

ويُلحَظ على هذه القراءات أنها شملت تنوعًا في خريطة الأدب العربي نُقَّادًا وشعراء؛ فمن حيث النقاد: هناك من مصر الدكتور محمد العبد والدكتور محمد عبد المطلب والدكتور محمد حماسة عبد اللطيف والدكتور صلاح فضل والناقدة اعتدال عثمان. ومن المملكة العربية السعودية الدكتور عبد الله الغذامي. ومن سوريا الدكتور كمال أبو ديب. ومن العراق الناقد حاتم الصكر. ومن المملكة الأردنية الهاشمية الدكتور عبد القادر الرباعي. ومن لبنان الدكتورة يُمنى العيد. وأخيرًا من المغرب الدكتورة فاطمة طحطح.

وفيما يخصُّ الشعراء، فثَمَّ من مصر صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وأحمد سويلم. ومن العراق سعدي يوسف. ومن سوريا أدونيس. ومن اليمن عبد العزيز المقالح. وأخيرًا من فلسطين محمود درويش، مما يُضفي قدرًا من الشمولية على مادة هذا الكتاب.٨

وبعدُ، فإني إذ أُقدِّم هذا الكتاب أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يُقدم جديدًا في مجال الدراسات النقدية. والله من وراء القصد.

دكتور دسوقي إبراهيم
١  انظر: النقد الأدبي، سلسلة الشباب، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الطبعة الأولى ٢٠٠٣م: ٧.
٢  انظر: المجلد الأول، العدد الثاني، يناير ١٩٨١م· وقد تناول هذا العدد كثيرًا من المناهج النقدية المعاصرة، مثل التحليل النفسي للأدب ٢٦ : ٦٢، والاتجاه الاجتماعي ٦٥ : ١١٣، والأسلوبية ١١٥ : ١٥٨، والبنيوية ١٦٠ : ١٩٩.
٣  انظر على سبيل المثال: الدكتور كمال أبو ديب، الرؤى المقنعة (نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٨٦م.
٤  من النقَّاد الذين رفضوا هذه المناهج، الدكتور عبد العزيز حمودة. انظر: المرايا المُحدَّبة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عالم المعرفة، إبريل ١٩٩٨م. والخروج من التيه (دراسة في سلطة النص)، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، عالم المعرفة، نوفمبر ٢٠٠٣م. وانظر كذلك: الدكتور مصطفى ناصف، بعد الحداثة صوت وصدى، النادي الأدبي الثقافي بجدة، الطبعة الأولى، يونيو ٢٠٠٣م.
٥  انظر: النقد الأدبي، ٦٩.
٦  صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب في الرياض ١٩٩٤م، ثم أعيد طبعُه في مصر مع إدخال بعض التعديلات عليه ٢٠٠٦م.
٧  رأيتُ أنَّ تدخُّل تعليقاتي في ثنايا قراءات النقَّاد سيؤدى إلى إحداث ضربٍ من البلبلة والاضطراب، ومِن ثَم تفكُّك الكتاب وضعفه، فآثَرتُ الطريقة التي أوضحتُها في المتن.
٨  يمكن الرجوع في مناقشة الجوانب التنظيرية لهذه المناهج إلى كتابنا: مناهج النقد الأدبي المعاصر. تنظيرًا وتطبيقًا، مكتبة الآداب، الطبعة الأولى، ٢٠٠٩م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤