الفصل الرابع

النقد في إطار نظرية التلقي

إن طبيعة القراءات النقدية في هذا الفصل تُحتِّم عليَّ أن أنهج نهجًا جديدًا في القراءة مُغايرًا للفصول الثلاثة السابقة. فإذا كنتُ قد اعتمدتُ في الفصول السابقة على القراءة الفردية للنموذج الواحد، فإنَّ تصميم هذا الفصل يقودني إلى أن أطرح قراءاته النقدية من خلال نماذج مُزدوجة القراءة؛ حتى يتسنَّى لي الكشف عن أوجه الاختلاف في قراءة النص الواحد لدى أكثر من ناقد، وأيضًا ما أفاده هذا الناقد أو ذاك من جماليات التلقي.١

ولتحقيق هذا الهدف، سأعتمِد في هذه القراءات التطبيقية على نموذجَين من شعر التفعيلة: الأول هو قصيدة «عابرون في كلام عابر» للشاعر الفلسطيني محمود درويش، وذلك من خلال قراءة الدكتور عبد الله الغذامي، وقراءة الناقد حاتم الصكر. أما النموذج الأخير فهو قصيدة «الأرض» للشاعر نفسه، وذلك من خلال قراءة الناقدة اعتدال عثمان، وقراءة الدكتورة فاطمة طحطح.

١

وفي القراءة الأولى لقصيدة «عابرون في كلام عابر»،٢ يُقسِّم الدكتور عبد الله الغذامي قراءته إلى قسمَين: يضع للأول منهما عنوان «السلاح الجميل» مُستهلًّا هذا القسم بقول الشاعر:
أيها المارُّون بين الكلمات العابرة،
احملوا أسماءكم وانصرفوا،
واسحبوا ساعاتِكم من وقتنا وانصرِفوا،
واسرقوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
أنكم لن تعرفوا.
كيف يبني حجَر من أرضنا سقف السماء؟
ويستهلُّ الدكتور الغذامي تعليقه على هذا المقطع مُبينًا علاقة التركيب الأول بالعنوان، ومن ثَمَّ أهمية العنوان بالنسبة لقراءة النص بقوله: «وبما أنَّ هذه الجملة هي فاتحة النص، وهي الباب الذي يلِجُ منه القارئ إلى القصيدة، فإنَّ وقوفنا عند هذه الجملة لا بدَّ أن يكون بمقدار أهميتها للنص وللقارئ؛ ذلك لأن العنوان هو بمثابة «الهوية» للقصيدة؛ لأنه — أولًا — يحمل لنا صورة من صور تفسير الشاعر لقصيدته؛ فالعنوان هو آخِر ما يُكتَب من النص الشعري، بعد أن تزول عن الشاعر حالة المخاض الكتابي ويفرغ مما يُسمِّيه «بايرون» بالحِمَم البركانية التي تحمي الشاعر من الجنون.»٣
وعن علاقة العنوان بمضمون النص يقول الناقد: «هذا العنوان سوف يكون خلاصةً دلالية لِما يظن الشاعر أنه فحوى قصيدته، أو أنه الهاجس الذي تحوم حوله. فهو — إذًا — يُمثل تفسير الشاعر لنصِّه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العنوان هو إعلان عن النص وإشهار له، ويتضمَّن ذلك إغراء القارئ باستقبال النص والدخول إليه. ولا ريب أنَّ الشعراء — عمومًا — يُدركون هذا المعنى الإغرائي ويسعون إليه بإخلاص واعٍ.»٤
ويستطرد الدكتور الغذامي في بيان علاقة هذه الجملة الافتتاحية بالنص مَطلعًا وخاتمة بقوله: «وهذه الأخيرة تكرَّرَت خمس مرات، وكانت مطلعًا للقصيدة وخاتمة لها، كما أنها جاءت مطلعًا يتكرر طلوعه في مقاطع القصيدة الأربعة، ومن ثم فإن جملة «أيها المارُّون بين الكلمات العابرة» هي نواة النص وعنصره المُهيمن (أي الصوتيم)، فهي البداية وهي النهاية وهي مُستهل المقاطع، وهي الجملة التي تُولَد عنها جملة العنوان. أما بقية جُمَل النص فهي تفريع دلالي يَنتُج عن هذه الجملة. ويتطور ويتنوع هذا التشكيل ويظلُّ في دائرة التحولات إلى أن تُصبح الجملة الأولى ناتجًا دلاليًّا بعد أن كانت هي المُولِّدة، وذلك حينما انتهى النص بها فصارت بذلك نتيجةً وقد كانت من قبل مقدمة؛ لذا فإن هذه الجملة هي لُبُّ النص.»٥

ولهذه الأهمية يشرع الناقد في تحليل هذه الجملة تحليلًا لغويًّا مقابلًا إيَّاها بتحليل جملة العنوان فيقول: ولن يصعب علينا أن نُدرك أنَّ جملة العنوان هي رديف دلالي يعادل هذه الجملة ويفسرها ويمدُّ من دلالتها، ولكي نُدرك ذلك عيانًا فلنضع الجملتَين معًا وبإزائهما النقيض الدلالي لكل منهما حسب الجدول اللآتي:

الجملة النقيض عابرون في كلام عابر
باقون على لغة باقية
الجملة النقيض أيها المارون بين الكلمات العابرة
أيها الباقون في «على» اللغة الباقية

ثم يُعلِّق الدكتور الغذامي على هذين الجدولين بقوله: «نُلاحظ من هذَين الجدولَين أنَّ النفيض للجملتَين واحد، ولا يُوجَد اختلاف إلا من حيث التعريف والتنكير حيث تكوَّنت جملة العنوان من عناصر مُنكَّرة، مما يُشير إلى الشمول والإطلاق، ولكن هذا الشمول يتحدَّد ويُقيد داخل النص باستخدام أداة النداء «أيها» التي تقتضي وجود منادٍ مُحدَّد في حدود مدار الصوت، لأننا عادة ننادي من يسمعنا — ولو مجازيًّا أو افتراضيًّا — وهذا التحوُّل من الإطلاق إلى التقييد يعني أن الشاعر قد أحضر المُخاطبين وجعلَهم مادة لصوته وكلماته بعد أن قيَّدهم بأدوات التعريف وطوَّقَهم بكلمات «بين الكلمات»، وهذا هو الفارق الدلالي ما بين جملة النص وجملة العنوان، فارق الشمول والتقييد. ولكنهما جُملتان مُترادفتان مُتكاملتان بعد ذلك.»

أما عن النقيض الواحد الذي يُوجَد بين هذَين التركيبَين، فيرصده الدكتور الغذامي في قوله: «ويُوجَد بينهما نقيض واحد يُمثل البديل الغائب عن النص ولكنه حاضر ماثل، من حيث إنَّ النص ليس فيما هو حاضر فقط ولكنه أيضًا فيما هو غائب، ودلالات الغياب ضرورية للنص بمقدار ضرورة الحضور، ونحن لا نفهم هذه فهمًا صحيحًا إلا بتلك.»٦

ويرصد الدكتور الغذامي ظاهرة في مُنتهى الأهمية، وهي أنَّ المعنى المُدرَك من الدال الموجود يؤدي بالضرورة إلى استحضار المعنى المضاد (الغائب). ومن ثم تأتي أهمية العلاقة الجدلية بين الحضور والغياب في الدالِّ الواحد. وفي هذا الإطار يقول الدكتور الغذامي: «أما في النص فإنه لا بد من وجود مُعادلة تُعيننا على الفَهم، وذلك بأن نُدرك «نقيض الكلمة» لكي نفهم معناها؛ لأن معنى الكلمة يقتضي شيئين في آنٍ، فهي تثبت مدلولها وفي الوقت نفسه تنفي نقيضها، والعكس في حالة السلب. ولذلك فإن جملة «عابرون في كلام عابر» تقتضي وتحتاج جملة «باقون على لغة باقية»، حيث الأولى تعني اليهود، حسب السياق الذهني للنص، وهو ما يؤيده ويُفضي إليه سياق الدلالات التركيبية في القصيدة حسب إشارات مثل (عشاء راقص – الهيكل العظمي للهدهد – العجل). مع إشارات أخرى ذات دلالةٍ خاصة مثل الفولاذ وقنبلة الغاز والغبار المر وغيرها، مما يُشكل صورةً خاصة لهؤلاء «العابرين» ويقابلهم «باقون على لغة باقية» وهم الفلسطينيون حسب السياق الذهني الذي يويده — أيضًا — سياق النص بما فيه من إشاراتٍ للدم واللحم والمطر والحجَر والقمح، وهي عناصر البقاء في مقابل عناصر العبور والمرور.»

ويُبرز الدكتور الغذامي مضمون النص من خلال تفاعُل هاتَين الجملتين المُتناقضتَين، فيقول في ذلك مُستخدمًا المنهج الإحصائي: «تتردَّد جملة «أيها المارُّون بين الكلمات العابرة» ست مراتٍ في نصِّ القصيدة، وهذا يستدعي — بالضرورة — تكرار الجملة النقيض «أيها الباقون في اللغة الباقية» وهذا يجعل قصيدة محمود درويش تتحرك على مُستوَيَين مُتلاحمين. وهذان المستويان يتصارعان صراعًا مُحتدمًا هو ناتج لذلك التلاحم الإجباري، حيث «المارون/العابرون» هم ظاهر النص وعنوانه وصورته البارزة، بينما «الباقون» هم المستورون في الداخل والمُغَطَّى عليهم، لكن هؤلاء الباقين يتكشفون من داخل النص عبر ما يحملونه من صفاتٍ تتلاحَق في القصيدة وتَبرُز من مقطعٍ إلى مقطع، فهُم يُمثلون ضمير المُتكلم مع أنهم غائبون عن ظاهر النص وعنوانه.»٧ ويستدل الناقد على هذا من خلال صراع الصفات الذي يأخذ طابع المواجهة بقول درويش:
احملوا أسماءَكم، وانصرِفوا،
واسحبوا ساعاتِكم من صُور، كي تعرفوا،
واسرقوا ما شئتم مِنْ صور، كي تعرفوا،
إنكم لن تعرفوا.
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء؟
وهنا يستعين الناقد بالعلاقة بين الدال والمدلول مُوضحًا أنَّ هذه العلاقة هي علاقة انشطارٍ بين المُغتصِب (اليهود) والدوال التي تحمِله. يقول الدكتور الغذامي: «هنا يبدأ الكشف والتعرية، فهؤلاء «المارون/العابرون» يستندون على علاقة مفصولة مع أساسيات الوجود المعيشي. وأول حالات الانفصال تقع ما بين الاسم والمُسمَّى، ما بين الدال والمدلول. وهذه عادة تقوم في الأعيان البشرية على علاقةٍ عضوية، فصلاح الدين يظلُّ هكذا في كل اللغات وفي كل الأزمان، ولن نعرف الرجل إلا باسمه هذا، والاسم هنا علامة عليه ترتبط به ارتباطًا عضويًّا (لا ينفصل). بينما علامته الجنسية «رجل» سيَمَسُّها التغيير من لُغة إلى أخرى، ومن مرحلة من مراحل حياته إلى أخرى (من طفل إلى شابٍّ إلى رجل إلى كهل … إلخ.) في حين يظل اسمه واحدًا ثابتًا. أما أولئك المارُّون فإنهم لا يتَّصِفون بهذه الصفة البشرية؛ ولذلك فإن أسماءهم مفصولة عنهم، ومن أجل ذلك راح الشاعر يدعوهم لأن يحملوا هذه الأسماء ويُلملِموها كالمتاع ثم ينصرفوا: «احملوا أسماءكم، وانصرفوا».»٨

وإذا كان هذا الانشطار يبرُز على المستوى الداخلي من علاقة الدال بالمدلول، فثَم انشطار على مستوى الخارج أيضًا. وفي هذا يقول الدكتور الغذامي «… مثلما أنهم مُنشطرون من الداخل بانفصال الاسم عن المُسمَّى فإنهم — أيضًا — مفصولون عضويًّا عن «الوقت»، وساعاتهم لا تملك وقتًا ولا ترتبط بوقتٍ خاصٍّ بها. ذاك لأن الوقت يخصُّ «نا» وساعاتهم — إذًا — دخيلة على وقت «نا» ومن كان هذا شأنهم وتلك صفتهم فإنهم لن يملكوا من الأشياء سوى «صورها» والصورة هي ظل الحقيقة، وليست الحقيقة. مما يعني أنهم قوم بلا حقيقة منذ أن كانوا بأسماء مبتورة العلاقة؛ أي بلا أصول، ومنذ أن كانوا لا ينتسبون إلى وقت، مما أفضى بهم إلى مجرد عابرين (مارين) ليس بيدِهم سوى أن يسرقوا الصور. ومَنْ قَبِلَ سرقة الصورة فمعنى ذلك أنه عاجز عن امتلاك الواقع، ولسوف يعرف أنه لن يعرف. وهذه هي غاية الضياع لهؤلاء المُتجرِّدين من الحقيقة، كما تقول الدلالة العامة لهذا المقطع: تجرد المارِّين من الحقيقة، من خلال انفصالهم عن مُسمَّاهم وعن الوقت وعن الواقع (نقيض الصورة).

ثم ينتقل الناقد إلى الطرف الآخر وهم الباقون (الفلسطينيون) مُثبتًا لهم ما هو مَنفي عن الطرف المُضاد لهم فيقول: «وفي مقابل هؤلاء المارِّين نجد «الباقِين» الذين ينتسِب إليهم الوقت «وقتنا» والأرض «أرضنا»، وبما أنهم كذلك أصحاب وقتٍ وأصحاب أرض فإن صِفتهم تتعمَّق في المكان من خلال انتساب الحجر إليهم ومشاركته لهم في البناء «كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء»؟»٩ ثم يسوق الناقد هذا المقطع:
ولنا الماضي هنا،
ولنا صوت الحياة الأول،
ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل،
ولنا الدنيا هنا … والآخرة.

ويعلق الدكتور الغذامي على هذا المقطع بقوله: «ويبدو الصوت الشعري قاطعًا في ثِقته بامتلاك الماضي وامتلاك المُستقبل والدنيا وارتباطها جميعًا بالمكان من خلال تكرار الظرف المكاني «هنا»، ولكنه حينما يُشير إلى الحاضر يشعر بأن هذا الحاضر ليس مملوكًا له ملكيةً قاطعة مثل ملكيته للأخريات؛ ولذا فإنه يؤكد على الحاضر بأن يُورِد الإشارة إليه مرةً تلوَ أخرى فيعطف هذا الحاضر على نفسه «الحاضر والحاضر»، مما يعني أن ذلك هو موضوع الصراع والمُداولة الانفعالية، ويُكرِّر لذلك إشارة الملكية «ولنا» أربع مرات في أربعة أبيات، وهي تتكامل مع مُجمَل إشارات الملكية المُتردِّدة في النص اثنتي عشرة مرة «لنا، ولنا، فلنا» مثلما تتردَّد إشارات الإضافة «نا» محتوية للوقت والأرض والبر والبحر والقمح والملح والجرح. وفي هذا ترجمة لحقيقة هؤلاء الباقين في مواجهة المارِّين العابرين.» وليبيِّن الناقد الفارق القاطع بين الوجودَين يسوق قول درويش:

ولنا ما ليس فيكم؛
وطنٌ ينزف شعبًا ينزف؛
وطنًا يصلح للنسيان أو للذاكرة.
ثم يعلق قائلًا: «هذا هو الفاصل ما بين الوجودَين «لنا ما ليس فيكم» إنَّ ما هو ثابت لنا هو بالضرورة مَنفي عنكم، فالثابت لنا هو الوطن الذي ينزف شعبًا.»١٠
وفي علاقة المفارقة بين النسيان والتذكر وعلاقة ذلك بالمارِّين والباقين يقول الدكتور الغذامي: «وهذا الشعب ليس ناتجًا سلبيًّا لذلك الوطن فهو شعب يأتي عن نزيف، وهذا النزيف نفسه يتمخَّض عن نزيفٍ آخر يصدُر عنه وطن، فنحن والوطن نزيف ينزف. والحاصل من ذلك النزيف المزدوَج هو هذا الكائن الحي الذي يصلح للنسيان مرة وللذاكرة مرةً أخرى. ولا يصلح للنسيان إلا ما هو مادة صحيحة للذكرى حينما يحدُث تبادل الوظائف وتفاعُلها، فالوطن ينزف شعبًا والشعب ينزف وطنًا، وهما معًا صالحان للنسيان وهما — أيضًا — صالحان للذاكرة في الوقت نفسه. وهذا ما ليس فيكم؛ إذ إنكم لا تصلحون للنسيان، مما يجعل هؤلاء المارِّين خارج إطار الذهن البشري، لأنهم بلا مُسمَّيات منذ أن ابتُذلت أسماؤهم على قارعة الزمن، ولم يعودوا صالحين للنسيان. ولو صلحوا للنسيان لأمكن تذكُّرهم وسيدخلون — حينئذٍ — إلى الذاكرة، ولكنهم غير صالحين لذلك.»١١
ويستغل الناقد علاقة الاستحضار التي تجمع بين مدلول الدال الحاضر ومدلول الدال الغائب ليخلُص من ذلك إلى أنَّ دال النسيان لا يعني في حقيقته إلا التذكُّر فيقول: والنسيان هنا معناه التذكار، لأننا لا نقول عن الشيء إنه «منسي» إلا إذا نحن تذكَّرناه، ومجرد اتصاف الشيء بهذه الصفة يقتضي حضوره واسترجاعه، فإذا قلتَ نسيتُ فلانًا، فهذا معناه تذكَّرت فلانًا، لأنه قد حضر في الوجود الذهني، ومن هنا فإن «الوطن» عند محمود درويش صالح للنسيان لأنه مادة من مواد الذاكرة، ونسيانه لا يفضي إلى زواله ولكن ذلك يُحيله إلى مرجعية مُوثقة تُمكنه من الحضور في أية لحظة يشعر بفقدانه فيها. وإعلان النسيان هو بمثابة الإعلان عن فقداننا للشيء، ومن ثم شروعنا في البحث عنه، وهذا ما يفعله هذا النص؛ إنه يعلن حالة النسيان فيشرع بالاستذكار. وهذا ما لا يقوى عليه «المارون/العابرون» ولكنَّ «الباقين» هم وحدَهم مَنْ يقوى على ذلك؛ لأن الماضي لهم، ولهم المُستقبل. ومن مَلك هذَين فلا بد أنه سيملك الحاضر. وهذا ما جعل الشاعر يُكرر كلمة الحاضر دون الماضي المقطوع به أو المستقبل المملوك بكل تأكيد.»١٢
ويخلُص الناقد من قراءته هذه إلى الحقيقة التي يُريد أن يثبتها النص قائلًا: «تلك دلالات يموج بها النص ويُظهرها مكشوفةً فوق سطحه، ولكنها من هذا التكشف تُفضي إلى ما يمكن أن نُسميه بالحقيقة النصوصية،١٣ وهي أنَّ هذا النص يتحرَّك من خلال إثبات المَنفي ونفي المُثبت بدءًا من جملة العنوان: «عابرون في كلام عابر» وما يُقابلها وهي جملة النقيض: «باقون على لغةٍ باقية». ثم ما نجده في النص من تتابُع مُتواتر لهذه المعادلة، حسب الجمل الآتية:
ولنا ما ليس يُرضيكم هُنا:
حجرٌ .. أو حجل.
فلَنا ما ليس يرضيكم: لنا المستقبل.
فلنا ما ليس يرضيكُم هنا، فانصرفوا،
ولنا ما ليس فيكُم: وطنٌ ينزِف شعبًا ينزف؛
وطنًا يصلح للنسيان أو للذاكرة.

تلك هي معادلة التضاد التي تنفي وتُثبت في آنٍ واحد، وكل ما هو «لنا» فهو ليس «لكم»، وهو أيضًا «ليس يُرضيكم». ومن هنا فإن النص قد أتى كله مُتحركًا من خلال إثبات «الملكية» والانتماء للأرض والوقت، ونفي ذلك كله عن «المُخاطبين».»

ويستكمل الدكتور الغذامي إظهار هذه العلاقة الضدية لغويًّا بقوله: «منذ أن أصبح الوقت وأصبحت الأرض عضوًا مُضافًا فإن المُضاف إليه قد صار هو المُتكلم، وظلَّ يتكلَّم من خلال النص بصوتٍ واحد هو صوت الجماعة، وفي مقابل ذلك ظل «المارون/العابرون» لا يتكلمون وإنما يستقبلون القول فقط. وظلوا مادةً للكلام وموضوعًا للكشف والتَّعْرية ولكنهم محرومون من حاسة النطق، مما يجعلهم خارج النص وإن كانوا فيه. وخروجهم عن النصِّ وعدم فاعليتهم فيه هو ما جعل الشاعر يصف كلماتهم بأنها عابرة، ومَن صارت كلماته عابرة فهو بالضرورة عابر؛ لأن اللغة هي الوجود الفعلي في النص، فإذا تحوَّل هذا الوجود إلى عبورٍ فهذا معناه زوال الوجود ومروره — كما يقطع النص — ومن هنا فإن ما ثبت نصوصيًّا١٤ يتحقَّق بعد نفي النقيض «ولنا ما ليس يُرضيكم هنا، فانصرفوا». والانصراف حتميٌّ؛ لأن العابر والمار لا بد أن يئول إلى انصراف مهما مكث.»١٥

•••

وبعد تقديم هذه القراءة، أسوق تعليقاتي عليها على هذا النحو:
  • أولًا: إن الناقد وقف أولًا عند عنوان القصيدة وبيان أهميته، ليس ذلك فحسب، بل أبرز أهمية العنوان في قراءة كل قصيدة. وفي أهمية العنوان في شعر الحداثة يقول الدكتور محمد عبد المطلب: «اللافت أن مجموعة العناوين الشعرية قد دخلت دائرة الإبداعية، على مستوى البناء الشكلي أو مستوى العُمق، حتى لنكاد نفتقِد العناوين ذات الدالِّ الواحد، وأصبح امتداد العنوان ظاهرةً مميزة تسمح له بدخول هذه الإبداعية. وحتى عندما يُؤثِر المبدع اختيار العنوان في إطار الدالِّ المفرد، فإنه يُلحقه بمذكرة تفسيرية توسِّع من مساحته الصياغية والدلالية .. وقد يستعيض المُبدع عن هذه الإضافة الصيغية بإعطاء الدال المُفرد طاقة تعدُّدية من طبيعة الصيغة التي يبني عليها .. وغالبًا ما تدخُل عناوين الحداثة في إطار الدفقة المُكتملة، لكن اكتمالها لا ينفي ما يُسيطر عليها من عتمة دلالية تتوافَق مع عتمة الخطاب نفسه. أي أنَّ هناك توازيًا بين العناوين والخطابات.»١٦
    ويعد العنوان — رغم حدوده الصيغية الضيِّقة — خلاصةَ النص بأكمله؛ لأن المُبدع — كما يقول الدكتور محمد فكري الجزار: «غالبًا ما يضع عنوان مراسلته (نصه) بعد انتهائه منها وتشكُّلها عملًا مكتملًا، بمعنى أنه — إذ يضع العنوان (يُبدِعه) — واقع تحت تأثير العمل نفسه بشكلٍ خاص من الأشكال. وكأنَّ المُرسل يتلقى عمله ليتمكَّن من عنونته.»١٧

    وحتى إذا فُرِض أن المبدع وضع عنوان قصيدته قبل إبداعها، فلا بدَّ — على أقل تقدير — أن يُراجع هذا العنوان للتأكد من مدى صلاحيته للقصيدة بعد انتهائه منها. ومعنى هذا، أن العنوان هو آخِر ما يُوضَع في العملية الإبداعية، وذلك بخلاف وضعه في عملية التلقِّي؛ إذ إنه أول ما يُواجِه القارئ، ومن خلال فهمه يستطيع القارئ أن يضع بذورًا مبدئية لرحلته التفسيرية.

    كما يتميَّز العنوان بجمالياتٍ فنية خاصة، مثلما يتميَّز بذلك النص نفسه. وفي هذا المجال يقول الدكتور محمد فكري الجزار أيضًا: «إنَّ العنوان مراسلة مُستقلة مثلها مثل العمل الذي يُعنونه، ودون أدنى فارق، بل ربما كان العنوان أشدَّ شعريةً وجمالية من عمله في بعض الإبداعات.»١٨
  • ثانيًا: ربط الناقد عنوان القصيدة بجملة التكرار داخل بنائها العام؛ مما أضفى على هذا العنوان مشروعيةً في تغلغُل مضمونه وامتزاجه بمضمون القصيدة كلها.
  • ثالثًا: اعتمد الناقد في الربط بين العنوان والجملة التكرارية على الجماليات اللغوية. وهذا يعني أنَّ هذه العلاقة لا تظهر على مستوى السطح، بل هي مُتغلغلة داخل النسيج اللغوي للجُملتَين.
  • رابعًا: اعتمد الدكتور الغذامي في هذه القراءة على أحد إجراءات المنهج البنيوي، وهو جدلية الثنائيات الذي ظهر من خلال فاعلية سياق الحضور والغياب، وكذلك علاقة المفارقة بين الدوال. كما اعتمد في الوقت نفسه على المنهج السيميولوجي من خلال علاقة الانفصال بين الاسم والمُسمَّى المنوط بدالِّ المارين (العابرين). وهذا العنصر الأخير هو ما تتميَّز به القراءة، فقد استطاع صاحبها أن يستغلَّ المناهج النقدية الأخرى — في بعض إجراءاتها — ويوظفها توظيفًا جماليًّا في إيضاح مضمون القصيدة، مما ينمُّ عن امتلاك الدكتور الغذامي مقدرةً نقدية عالية في قراءة النص الشعري.
أما القراءة الثانية التي أُقدِّمها لهذه القصيدة، فهي قراءة الناقد حاتم الصكر. وأول ما يُطالِعنا في هذه القراءة، أن الناقد اعتمد فيها على الإطار العام الذي أحاط بها، والذي تَمثَّل لدَيه في الامتزاج بين الاتجاهَين الفني والفكري، وكذلك العلاقة التي تجمع بين الداخل والخارج. لذلك يقول الصكر في بداية قراءته: «لا يمكن قراءة قصيدة محمود درويش «عابرون في كلام عابر» دون الإحاطة بإطارٍ يُحيطها بعُنف ويصنع ذاكرتها الخاصة التي يمتزج فيها الفني بالفكري والداخل بالخارج والنص بما حوله. فهي من القصائد التي تندرج تحت صنفٍ من الاستجابة؛ يمتلك قوة المُستجاب له.»١٩
وفي علاقة الخارج بالداخل يقول الناقد: «وإذا كانت الاستجابة — أي وثيقة النص — هي الداخل المُتحقق؛ فإن المُستجاب له، المُغيَّب والمُقصى إلى الخلف أو الهامش؛ هو الخارج الموجود وراء المَلفوظات التي شكَّلت نسيج هذا النص.»٢٠
ثم يُبرز الناقد أثر الخارج المُتمثل في الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال الصهيوني على الداخل المُتمثل في هذا النص بقوله: «بعد قرابة شهر من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في الأراضي المُحتلة، كتب محمود درويش هذه القصيدة التي تعكس موسيقاها المُندفعة وقوافيها المتكررة؛ انفعاله بالانتفاضة؛ ورهانه عليها في الوقت نفسه. لقد كان الخارج يضغط على الخطاب الشعري ويُوجِّهه، فيُصبح نداؤه أشدَّ من نداء النص، فلا تنجح الصور والتقنيات الفنية في إخفاء المغزى الذي لا تستوعبه إحالات أو إيحاءات أو ظلال، بل يُسمِّي نفسه بمباشرة أنقذها أمران فلم تغرق القصيدة؛ الأول: استنطاق التاريخ الذي يُمثل الماضي والزمن الميت بخرافته «الهيكل العظمي للهدهد». الأخير: السخرية المعهودة في شعر درويش؛ وهي تتجسَّد في المُفارقة الأساسية بين المُخاطَب والمُتكلم؛ وفي التلاعُب بالألفاظ أيضًا.»٢١

ويُعلِّق الناقد على إسناد الشاعر المُخاطبين إلى زمن الماضي بقوله: «إن الشاعر بعد أن اختار زاوية المواجهة بين ضميرَين؛ أعطى للمُخاطَبين كل ما هو عابر يَستند إلى الماضي الذي لا يمكن التوثُّق منه أو الوثوق به. فثمة لهؤلاء المارين: كلمات عابرة وأسماء وساعات وسرقات عديدة وصور. وهي كلها مُستندات وهمية وضعوها «هم» دون سند؛ ولذا فهي قابلة لأن تغيب مرةً واحدة فيختفوا باختفائها. لقد ارتضوا أن يحتلوا «زمننا» بنداء الماضي الذي صاغوه «هم» ثم صدَّقوا أنه حقيقة. ولذا صار من الصعب أن يعرفوا كيف ينهض حجَر من الأرض، ليكون بناءً يعلو حتى يغدو سقفًا للسماء.»

وفي إطار الخارج، يرصد الناقد المواجهة بين المُتكلمِين والمُخاطبِين فيقول: «إن القصيدة بمَقاطعها الأربعة تتَّجِه تدريجيًّا نحو تجسيم المواجهة بين قوة «مُدجَّجة» بالأوهام والأساطير؛ وقوة «عزلاء» تبدأ من حجَر ودمٍ ولحم. ولكن البقاء دومًا للحقيقة التي يُمثلها الجسد المرتبط بالواقع. والمرور المؤقَّت هنا لا يعني الرغبة في إفناء الآخَر، لأنه موجود وحسب، كما أرادت القراءة الصهيونية أن تلخِّص مُشوِّهة عن عمد. إن المرور يعني زوال الوهم وانقراض الأسطورة المنقرضة! حتى وهي تُسلح نفسها في المقطع الثاني بالسيف والفولاذ والنار والدبابة وقنبلة الغاز.»

ويُناظر الناقد بين ضعف المُخاطبين في الخارج وضعفهم في الداخل «النص ذاته» بقوله: «القويُّ ضعيف في القصيدة، كما هو في المواجهة خارجها. ذلك أن العُنف المُواجَه بالدم واللحم والحجَر والمطر؛ عُنف وهمي كالكلمات التي يتسلَّح بها من حفريات الماضي الكاذب. عنف تُواجهه الحرية «أن نحيا كما نحن نشاء» ويرفضه منطق الإيمان بالإنسان الأقوى من كل عنف، والمُتساوي مع سواه بمنطق الطبيعة «علينا ما عليكم من سماء وهواء».»٢٢

ويقرن الناقد أفعال المُخاطَبين بأسطورية خطابهم فيقول: «لقد تضافرت «أسطورية» الخطاب الصهيوني ووحشية فِعله العنيف: بناء الهيكل مُجدَّدًا والبكاء بدموع حارة عند حائط المبكى. حتى قبل غسيل الأيدي من المجازر الجماعية. وشحذ الأسلحة المُدمرة التي تبدأ بتكسير الأطراف وهدم البيوت والمزارع ولا تنتهي بقتل الأطفال والعاجزين. الهدهد؛ رسول سليمان إلى رغباته بالفتوحات؛ هيكل عظمي لم يبقَ منه إلا ما يتركه الزمن لجثة مُتفسِّخة.»

وفي تناوله لثنائيات القصيدة يقول الصكر: «أما الفلسطيني — غير المُسمَّى باسمه في القصيدة — فله «حجل» يطير في فضاء الحاضر صوب سماء المُستقبل. حجل وهدهد: مُستقبل وماضٍ. قاتل وقتيل. هم ونحن. تلك ثنائيات القصيدة التي يمكن أن نُضيف إليها عشرات سواها «الحجر والدبابة – السيف والدم – القنبلة والمطر». وهي كلها ثنائيات تتسرَّب من ضميرَين كبيرَين يتصارعان، سمتهما القصيدة في مقطعها الأول: هما المُخاطَبون والمُتكلمون. أنتم ونحن. العابرون والباقون. نابِشو جثث الماضي وهياكله النخرة؛ وبانو المُستقبل وحدائقه المزدهرة.»٢٣

ويعزو الناقد جماليات النص إلى مرجعيتها الخارجية، فيقول: «تفضي بنا قراءة الإطار وتحديد المرجع في قصيدة درويش إلى تفهُّم الضجة التي تلت نشرها. وهذا الأثر يُدخلنا مباشرة إلى شِعريتها، أي إلى طرق النظم والتأليف والتعبير فيها، فهي تنتمي إلى مرجعها انتماءً شديدًا لا تتنكَّر له رغم أنها لا تَذكُره صريحًا باسمه. إن الانتفاضة هنا مرجع قوي الحضور. يُهيمن على النص ليحلَّ المرموزات ويجعل عمل الشاعر في الترميز سهلًا وواضحًا. فما بين «أنتم» و«نحن» و«الماضي» و«الحاضر» و«الدبابة» و«الحجر» أشياء كثيرة غير ملفوظة. إلَّا أنَّ انقسام الخطاب تقابليًّا إلى مُتكلِّمين ومُخاطَبين تلخيصًا للمواجهة خارج النص؛ جعل المفردات الأخرى في المقاطع التالية للمقطع الافتتاحي؛ عناصر تدعم الخطاب ولا تُنميه باتجاهاتٍ مفاجئة.»

ثم يوضح الناقد خطأ القراءة الصهيونية لهذا النص بتركيزها على المنتج النهائي، فيقول: «فالنص يُعيد كثيرًا مما يقوله. وذلك حاصل من الإلحاح على المقولة الواحدة بكيفيات مُتعددة. حتى بدا للقراءة الصهيونية أنَّ الشاعر لا يقول قصيدة، بل بيانًا سياسيًّا. وهذا واضح في قيمة القصيدة فنيًّا. فقد وصفها كثيرون ممَّن كتبوا ردود الأفعال المُتشنِّجة بأنها من «الشعر الرديء» وبأنها «خرقاء» وعديمة الذكاء.

وقد ركزت القراءة الصهيونية على الفحوى أو الهدف النهائي؛ ثم بَنَت موقفها المُتشنِّج الداعي إلى إهدار دم الشاعر وقصيدته معًا. وفي سياق هذه القراءة؛ لم يتم الانتباه إلى ما في النص من تقنيات تقِف في مُقدِّمتها: المفارقة؛ فحيث تُوجد قوة غاشمة؛ وُجِد ما يُواجهها رغم أنه لا يمتلك أسلحتها.»٢٤

ويُخصص الناقد حديثه في ثنائية السيف والدم، فيقول: «نعود هنا إلى ثنائية السيف والدم مثلًا. فهي تعترف بالتسلُّط المُطلق للقاتل على ضحيته. لكنها تبطن ما يمكن أن يفعله الدم — دم الضحية — وفي غمرة انهماك المُحتلَّين الحالِمين بقوة التاريخ والحق الإلهي في الأرض؛ نجد انشغال المُتكلمين بالحاضر والمُستقبل.

… لنا المستقبل،
ولنا في أرضنا ما نعمل.

إنَّ المُحتلين يُمثلون سلطة الوهم والأسطورة، بينما يُمثل المضطهدون المنتفضون سلطة الحاضر والمستقبل. وهذا ما لم تُدركه القراءة المضادة للقصيدة. ولم تدرك تلك القراءة طرافة الأسلوب، والسخرية المُتعمَّدة حتى في المطابقات والمجانسات، كقوله:

كي تعرفوا.
إنكم لن تعرفوا …

أو استخدامه القوافي الداخلية:

من قمحِنا .. مِن مِلحِنا .. مِنْ جُرحنا.

وهو لا يُهمل طاقة الكلمة لإيصال المفارقة المطلوبة، كقوله:

– كالغُبار المُرِّ؛ مرُّوا.
وطنٌ ينزف شعبًا ينزِف،
ذكريات الذاكرة.
حجر .. أو حجل.
ولنا الحاضر؛ والحاضر، والمُستقبل،
وعلينا نحن؛ أن نحيا كما نحن نشاء،
موسيقى المسدس.
وهي صورة للمفارقة الساخرة التي تُميز درويش؛ والتي لا تفلح الترجمة في نقلها إلى العبرية دون شك. رغم ذلك سمح الغاضبون على القصيدة أن يصفوها بالقصور الفني؛ وتَحايَل بعض قارئيها كي يقولوا ذلك؛ ولو باعتبارها دون مستوى شِعره السائد.»٢٥

وفي نهاية القراءة يُبرز الناقد مضمون القراءة الصهيونية القاصرة بقوله: «إنَّ القراءة الصهيونية التي تبحث عن نوايا؛ والتي تنطلِق من نوايا سابقة أيضًا؛ لم تستطِع أن تجِد في القصيدة إلا الدعوة إلى رمْي اليهود في البحر وإخراجهم من أرض الأجداد وإبادتهم وإبادة موتاهم أيضًا! وهذه القراءة الساذجة والضجَّة العارمة التي خلقتها القصيدة تؤكدان مُلامَسة القصيدة لجوهر الصراع.»

وأخيرًا يُبرز الناقد رأيه في القصيدة بقوله: «أما نص درويش فقد كان بحقٍّ إعادةً لهيبة الشعر في لحظة الاحتدام؛ حيث غدا الحجر أبلغ المفردات في لغة الصراع من أجل الحرية .. وأقرب أسلحة الإنسان إلى يدَيه اللتَين أطلقَهما في وجه ليل القهر والاحتلال والعبودية.»٢٦

•••

كانت هذه هي القراءة التي قدَّمها الناقد حاتم الصكر لقصيدة محمود درويش «عابرون في كلام عابر». وتتميَّز هذه القراءة بالميزات الآتية:
  • أولًا: أنَّ الناقد استخدمَ في قراءته للنصِّ العلاقة بين «الخارج» المُتمثل في الواقع السياسي والاجتماعي والتاريخي لإنتاج النص، وبين «الداخل» المُتمثل في الجماليات الفنية التي بُنِيَ عليها النص؛ من ذلك استعانته بمبدأ الثنائيات في توجيه الخطاب الشعري وتقسيمه إلى مُخاطَبين ومُتكلِّمين. أي أنَّ الناقد قرأ النص في ضوء سياقه التاريخي، وهو ما يتناسَب مع ما ذهب إليه ياوس في علاقة التاريخ الأدبي بالجمال الفني.
  • ثانيًا: أنَّ الناقد — وهذا العنصر يُعَد نتيجة للعنصر الأول — أرجَعَ النص إلى مركزٍ خارجي يئول إليه، وهو ما يتناسَب كذلك مع طبيعة الشعر العربي؛ لأن القول بنسف مَرجع النص والعصف بمركزه قول لا يقبله — من وجهة نظري — النقد العربي نهائيًّا.
  • ثالثًا: أن الناقد قرأ القصيدة بوصفها موازاة فنية نجح درويش في إبداعها بين الواقع المعيش والواقع الفني؛ فالواقع المعيش يؤكد — حتى الآن — ضعف الآخر (الغاصب) — رغم ما يبدو عليه من مظاهر القوة والانتصار المُزيف — في مواجهة الأنا (الشعب الفلسطيني). وهذا ما رصدَتْه القصيدة واستنطَقَه الناقد منها.
  • رابعًا: أن الناقد رغِبَ في التطرُّق إلى القراءة الصهيونية للقصيدة لإبراز سذاجتها ومُغالطتها للأمور وقصور فَهمها لجماليات الشعر العربي، وهو ما جعلها تُوجِّه مدلولات القصيدة حسب ما ترغب، لا كما هو موجود. وقد اتضح ذلك جليًّا في عدم وقوفها على المواجهة الفنية؛ لرغبتها في تناسي هذه المواجهة على أرض الواقع.٢٧

٢

ويتمثَّل النموذج الثاني في هذه القراءة النقدية في إطار جماليات التلقِّي في قصيدة «الأرض» للشاعر محمود درويش كذلك.٢٨ والقراءة الأولى لهذه القصيدة هي قراءة الناقدة اعتدال عثمان.

وتبدأ الناقدة قراءتها بدراسة أصوات القصيدة. وأول ما يُطالِعنا من هذه الأصوات هو صوت الزمن، حيث تقول: «يظهر في المدخل الافتتاحي في القصيدة صوت الزمن (في شهر آذار) الشهر الذي يُحتَفَى فيه بعودة الخصب إلى الأرض، ويرتبط بشعائر كانت تجمع منطقة البحر الأبيض كلها، حيث كانت تُقام احتفالات سنوية لآلهة الخصب، أوزوريس وأدونيس وتموز وأتيس، تميزت بطبيعتها الواحدة واحتفائها — على الرغم من تعدُّد أسماء الآلهة واختلاف تفاصيل الشعائر — بتجدُّد النبات على الأرض في هذا الوقت من العام.

لكن هذا الزمن لا يُطلَق في هذه القصيدة على ذلك الزمن المعروف فحسب: إنَّ «آذار» ليس هو فحسب ذلك الزمن المُطلَق الذي «يأتي إلى الأرض من باطن الأرض» في حدثٍ كوني مُفعم بسرِّ الوجود، لكنه زمن فلسطيني مُحدَّد؛ «في شهر آذار، في سنة الانتفاضة» ما يزال الفلسطينيون يُقيمون له عيد الأرض. ويأتي ذلك الزمن في بُعدِه التاريخي الفلسطيني تاليًا على الصوت الأول، أي صوت القرار، فيكون جوابًا للَّحن الأساسي الأول. يُشكِّل الزمن في بُعدَيه جذرًا عميقًا يتغلغل في مقاطع النصِّ ويشدُّه إلى مركزٍ تتجمَّع فيه شبكة العلاقات التي تُنسَج حول الأرض.»

ثم تنتقل الناقدة بعد ذلك لإظهار صوت الأرض، فتقول: «ويدخل صوت الأرض في قرار اللحن الأساسي الثاني ليقول «أسرارها الدموية»، التي تُخاطب بدورها منطقةً مُوغلة في العقل الجمعي، حيث تكمُن ذكرى الأساطير المرتبطة بتخصيب الأرض بدماء الآلهة، وترتبط في الوقت نفسه بأسرار دماءٍ فلسطينية لبناتٍ خمس «افتتحن نشيد التراب» الفلسطيني في تلك المساحة المُستطيلة على الخريطة، وترتبط كذلك ببُقعة مُحددة من الوطن (باب مدرسة ابتدائية)، ومع افتتاح نشيد الوطن يدخل الجواب في اللحن الأساسي الثاني.»٢٩

ثم يأتي بعد ذلك صوت الشاعر: «وما إن يتم دخول اللحنَين الأساسيَّين في مُفتتح القصيدة حتى يظهر صوت الشاعر مُتوحِّدًا بالأرض في بُعدَيها الكوني والوطني «أنا الأرض»، ومازجًا بين القرار والجواب في اللحن الأساسي الثاني. ولا يكون ظهوره بصيغة المُتكلِّم المُفرد فحسْب، وإنما يظهر كذلك مُتوحِّدًا مع الجماعة في «سنطردهم».»

وتختتم اعتدال عثمان هذه الأصوات بأهمِّها، وهو صوت خديجة: «وعلى حين يُمثل الشاعر صوت القرار في هذا اللحن، فإنه يقوم كذلك بإنشاء علاقة محورية في القصيدة، طرفاها «أنا. أنتِ» ومركزها «الأرض». ويكون بذلك قد مهَّد لدخول صوت الجواب في اللحن، وهو صوت خديجة. وخديجة ترتبط بالأرض من ناحية «الأرض أنتِ»، وترتبط من ناحيةٍ ثانية بالفتيات الخمس، كما سيظهر في تحليل القصيدة. ويؤدي دخول هذا الصوت إلى انفتاح النص على بُعْدٍ نبويٍّ مُحَمَّل بالرؤيا. لكن صوت خديجة يظل، على الرغم من ذلك، وثيق الصِّلة بتفاصيل الحياة اليومية: «لا تُغلقي الباب»، و«إناء الزهور» و«حبل الغسيل»، ويقوم هذا اللحن الأخير بالمزج بين الألحان السابقة في تآلُفٍ هارموني، يمتدُّ بامتداد القصيدة.»٣٠

وإذ تركز الناقدة اعتدال عثمان قراءتها على هذا الصوت (خديجة) تُبيِّن أولًا علاقته بالشاعر، قائلة: «إنَّ صوت خديجة يدخل إلى القصيدة، أول الأمر، مُرتبطًا بالعلاقة المحورية المُتشكِّلة من الشاعر. الأرض «أنا الأرض»، و«الأرض أنتِ»، «خديجة …» مما يكسب هذه العلاقة بُعدًا نبويًّا وقداسةً لا يمكن إغفالها، تتوازى مع الجو الشعائري وتتقاطع معه. إنَّ الشاعر يدفع بهذَين البُعدَين إلى خلفية الصورة الذهنية التي يرسمها للأرض. يدفع بهما إلى منطقة قصوى، حيث يكمُن في أغوار اللاوعي نزوع غريزي لإضفاء القداسة على مظاهر الحياة والموت، أو على قوى الطبيعة، كما يظهر هذا النزوع نفسه في الإيمان بالقِيَم الدينية السماوية المُنظِّمة للحياة. وتظهر أشكال أخرى لهذا النزوع في الإيمان بفكرة، أو عقيدة، أو مسعًى وطني … إلخ.

إنَّ هذا النزوع الأصيل في النفس يُوظَّف في القصيدة لتأكيد التشبُّث باستمرارية تاريخية تُجاوز التاريخ المكتوب، وتتشكَّل من قاعدةٍ تعلوها طبقات مُتتالية كطبقات الجيولوجية المكونة للأرض، فيُصبح المقدَّس المُمثَّل في خديجة، في نهاية المطاف، هو الحياة الأليفة، على نحو ما يتمثَّل في المقطع «١»: «لا تُغلقي الباب» و«إناء الزهور» و«حبل الغسيل» و«حجارة الطريق» و«هواء الجبل».»

وعن إشاعات البُعد النبوي للرمز خديجة وتوزُّعه على مَظهرَين، تقول اعتدال عثمان: «تنتشر إشاعات البُعد النبوي اليومي الصادر عن خديجة في اتجاهَين، يظهر أولهما مُرتبطًا بالحدث الفعلي في القصيدة، وهو مقتل بناتٍ خمسٍ كنَّ يقفنَ في شهر آذار أمام مدرسة ابتدائية، أما الاتجاه الثاني فيتمثَّل في طاقةٍ روحية هائلة، تمدُّ الشاعر بالمَقدرة على تحقيق الحلول الكامل في الأرض.»٣١
وفي تتبع المظهر الأول تقول: «وإذا تتبَّعنا مسار الصوت في الاتجاه الأول وجدْنا أنه — بعد ظهوره الاستهلالي مُرتبطًا بالأرض، ومُحاكيًا صوت القرار في اللحن، أي صوت الشاعر — يُعاود الظهور في المقطع رقم «٤» مُحمَّلًا بالقدسي من ناحية، وباليومي الأليف من ناحيةٍ ثانية، ليدخُل في نسيج العلاقات المرتبطة بحدث مقتل الفتيات. لكن هذا الحدث الواقعي نفسه يُقدَّم في سياقٍ أسطوري وحُلمي، يتمثل في «آذار يأتي إلى الأرض، من باطن الأرض يأتي، ومن رقصة الفتيات»، كما يتمثَّل في ثلاث جُمَل تلتمِع بقوة ثم تهوي كالشُّهب المُحترقة «اشتعلن مع الورد والزعتر البلدي» و«افتتحن نشيد التراب» و«دخلن العناق النهائي» فيتحوَّل الحدث الواقعي إلى لاحدث، يتشكل في رموزٍ أو علامات للغة أخرى، تنمُّ عنها اللغة المكتوبة التي نعرفها ولكنها لا تُفصح. إنها لغة دراما الأسرار الدموية؛ لغة طابعها الخفاء والرمز، ويتطلَّب حل شفرتها تدريب العين على التقاط إشارات التلميحية وترجمتها.٣٢

وعن طبيعة الصوت في هذا السياق تقول الناقدة: «يدخل صوت خديجة في هذا السياق الحُلمي المُلْغز في شكل حوارٍ بين صوت خارجي هو نفسه صوت القرار في اللحن، ويقوم في هذا الموضع بالمزج بين الأصوات الأخرى التي تُمثل الأبعاد الدرامية في القصيدة، وبين صوت الجواب المُحمَّل بأبعاده الخاصة. ويُوجِّه إليها صوت الشاعر سؤالًا يبدو في ظاهره سؤالًا عاديًّا:

«خديجة، أين حفيداتك الذاهبات إلى حُبِّهن
الجديد؟»

لكنه سؤال مَشحون في حقيقة الأمر بالتوتُّر والغليان؛ إذ إنه — على حين يؤسس العلاقة بين خديجة التي ارتبطت بالأرض والفتيات — يُضفي على الحدث، الذي سبق أن ظهر في سياقٍ أسطوري حُلمي قداسةً مكتسبة، كما أنه يُنذر بتطوُّر الحدث نحو غايته المأساوية، التي أشار إليها في الصيغة الحُلمية المُبهمة في المقطع الأول. ويأتي الجواب مُثبتًا الأبعاد السابقة ومُفجرًا — في الوقت نفسه — لغليانٍ مكتوم:

«ذهبنَ ليقطفنَ بعض الحجارة. قالت خديجة
وهي تحثُّ الندى خلفهن».»
وتعلق الناقدة على هذه الفقرة الحوارية تعليقًا لغويًّا بقولها: «إنَّ نظرةً فاحصة إلى هذه الفقرة الحوارية تدلُّنا على كيفية تحول كيمياء اللغة إلى إكسير سحري، يَبُثُّ في الحدث الواقعي المُفضي إلى نهاية مأساوية حياةً لا تَفنى؛ لأنها حياة مُستمَدَّة من حيوات لُغات التراسُل والتواصُل البشري، الباقية بقاء البشر، على نحو ما تتجسَّد في قصيدة شعر. لقد تأسَّست في هذه السطور الثلاثة علاقة محورية تُمثل بُعدًا دراميًّا جديدًا، وترسَّخت أبعاد أسطورية في طبقاتٍ سحيقة تعلوها طبقات نبوية قُدسية، كما أدت الصيغة الاستفهامية إلى شحن الحدث بطاقاتِ توتُّرٍ وغليان مكتوم. كذلك أدى كسر العلاقة المنطقية بين «يقطفن» والزهور، واستبدال «الحجارة» بها، وخلق علاقة جديدة بين الفعل «تحث» واسم «الندى»، وارتباط الندى بالزهور وبِنَبت الأرض من ناحية، وبالفتيات من ناحيةٍ ثانية، وكون خديجة هي مصدر الفعل الذي يدلُّ على حركةٍ متوترة بدَورها، إذ يَصدُر عنها القول، على حين تُهرَع في اللحظة نفسها إلى جهةٍ ما، حيث يُوجَد ما لا يمكن تحديد جهة صدوره أو وجهته؛ حيث الندى، لكن المُهم هنا هو الحرص الشغوف على أن تكون خلفهن أنَّى ذهبن. ويؤدي ذلك التمازُج بين الأصوات الصادحة بألحان معزوفة الأرض وتداخُلها، وإثراء الأصوات الوافدة في تنويعاتٍ على الأنغام الأساسية فيها إلى التآلف الهارموني الكلي في القصيدة.»٣٣
وتستمر الناقدة في رصد هذا الصوت (خديجة) في المقطع نفسه (الرابع)، قائلة: «يظهر صوت خديجة مرةً أخرى في المقطع نفسه في تركيب سياق، يتماثل مع خصائص تركيب السياق الذي ظهرت فيه في الجزء الاستهلالي من المقطع الأول. لقد ظهر الصوت في المقطع «١» في سياقٍ تميَّز بخصائصه الغنائية: «خديجة، لا تُغلقي الباب، لا تدخلي في الغياب» كما يأتي السياق في المقطعَين في موقعٍ مُتماثل يسبقه، ويليه سياق سردي يتضافر مع الجوِّ الطقسي الأسطوري في ترسيخ الحسِّ الديني، وإضفاء القداسة على حادث الفتيات الذي يُعادل في مستوًى ديني آخر مفهوم الفداء بالشهادة في المسيحية.٣٤

ويظهر السياق نفسه في هذا المقطع مُعدَّلًا ليشير إلى طور الحدث من ناحية، واقترابه من نهايته المأساوية من ناحيةٍ أخرى، وهي النهاية التي يُشير إليها التراب الذي يمشي «دمًا طازجًا في الظهيرة» فيقول:

«خديجةُ، لا تُغلقي الباب خلفك،
لا تذهبي في السحاب».»

وتعلق الناقدة على حدث الفتيات فتقول: «وعلى الرغم من تراكُب المستويات الأسطورية والدينية، فإن حدث الفتيات لا يفقد صفةَ الواقعية، بل على العكس، يؤكدها في ثلاث جُمَل فعلية، تُشير أفعالها إلى الزمن الحاضر «يقرأن أنشودة عن دوالي الخليل»، و«يكتُبن خمس رسائل»، و«يحلُمن بالقُدس بعد امتحان الربيع وطرد الغزاة». فإذا ما جاءت النهاية المأساوية عندما تقتحم الفتيات «جنود المظلات»، و«ينكسرن مرايا مرايا»، يكون الحدث قد أدَّى دورَه في نسيج العلاقات، وفي توظيف الأبعاد الأسطورية والدينية، لتدعم استمرارية تاريخية هدفها النهائي: الأرض الآن وفي المستقبل.

وما إن يكتمل الحدَث حتى يبدأ في التراجُع، لكنه لا يختفي فجأةً وإنما تبقى منه ظلال كأنها الصدى، وتظهر تلك الظلال كالأصداء مُصاحبة لصوت خديجة التي كانت تتحدَّث عن حفيداتها على حين كانت «تحث الندى خلفهن»، لكنهنَّ يبتعِدن، ويدخلن في غياب العناق النهائي».»

وعن صوت خديجة في المقطع الخامس تقول الناقدة: «أما في المقطع «٥» فتتشكل الصورة كالتالي:

ومالت خديجة نحو النَّدى، فاحترقت، خديجة!
لا تغلقي الباب.

في هذه الصورة تكون كلمة «الندى» هي الظل الباقي، هي النار الخبيئة والجمرة التي يُطبق عليها الشاعر قبل الانطفاء النهائي فيشعلها بمدٍّ انفعالي صاخب، يتمثل في أربع جُمَل تقريرية متتالية:

فيا وطن الأنبياء .. تكاملْ!
ويا وطن الزارعين .. تكاملْ.
ويا وطن الشهداء .. تكاملْ.
ويا وطن الضائعين .. تكاملْ.
إن هذا الوطن المُلحَّ في حضوره كما يظهر في صيغة المنادى المُتكرر، المُمزَّقَ في الواقع بين القداسة والشهادة والضياع النهائي، يبدو عصيًّا نافرًا، لا يستجيب للانفجارات الصوتية المُتتالية الحادة في فعل الأمر «تكاملْ».»٣٥
وفي احتضان صوت خديجة لصوت الشاعر تقول الناقدة: «لا ينكسر صوت الشاعر أمام هذا المد الانفعالي الصاخب الذي يُواجَه بأشكال التمزُّق والعصيان، وإنما يئوب إلى مرفأ خديجة، ويلوذ بطاقةٍ روحية قادرة على الحلول الصوفي في الأرض، والامتداد الشعري لحدودها ولمساتها الطبوجرافية، «فكل شعاب الجبال امتداد لهذا النشيد». ومن هذه الطاقة الروحية ذاتها يتولَّد النبوي المُرتبط بخديجة: «ولك الأناشيد فيك امتداد لزيتونة زمَّلتني». إنَّ الوطن يعادل النشيد والنشيد — القصيدة في بُعدها الابتهالي — أو نشيد الإنشاد في العهد القديم، يعادل المُقدس. والزيتونة، بالإضافة إلى ذلك، شجرة مباركة كما جاء في القرآن الكريم يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ كما أن الزيتونة عند الصوفية «هي النفْس المُستعدة للاشتعال بنور القدس بقوة الفكر». وفي الحديث جاء أنَّ الرسول عليه السلام جاءه الحق وهو في غار حراء وأقرأه الآية الكريمة، «فرجع بها رسول الله ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: زمِّلوني، زمِّلوني، فزمَّلوه حتى ذهب عنه الروع» هكذا يلتقي في مرفأ خديجة المقدس مُتمثِّلًا في استمرارية الحياة اليومية التي تأكدت من قبل، وفي طاقة الحلول الصوفي في الأرض، كما يلتقي النداء المُلِحُّ لتكامل الوطن بأصداء حدث الفتيات.»٣٦
وعن التشابُك بين صوت خديجة والألحان الأخرى في المقطع السادس تقول الناقدة: «يصل التداخُل والتشابك بين صوت خديجة والألحان الأخرى إلى احتدامٍ عنيف في الحركة الأخيرة التي يشتمِل عليها القصيد السيمفوني في المقطع «٦» فتظهر خديجة مُقترنة بصوت الشاعر في السطر التالي: «هذا احتمال الذهاب إلى العمر خلف خديجة. لم يزرعوني لكي يحصدوني» ويستدعي هذا السطر فعل التخصيب الكوني في المقطع حيث يومِض سطر آخر: «أرجوك — سيدتي الأرض — أن تُخَصِّبي عمري المُتمايل بين سؤالين: كيف؟ وأين؟»٣٧
لقد تكشَّفت السُّبل أمام الشاعر، أو كادت، وأصبح تخصيب العمر يتمثل في «احتمال الذهاب إلى العمر خلف خديجة» أي الذهاب بحثًا عن زمن القداسة وزمن الشهادة والفداء بالدم. وبالإضافة إلى ذلك يستدعي الجزء الأخير من السطر «لم يزرعوني لكي يحصدوني» آيات الخصب في الطبيعة على نحو ما ظهرت في المقطع رقم «٥»: «هذا عناقي الزراعي في ذروة الحب. هذا انطلاقي إلى العمر». لكن هذا العناق الزراعي يظهر في هذا المقطع في أفقٍ مختلف، وفي مُناخٍ مختلف، وتقف صيغة الفعل المجزوم حائلًا دون أن يحصد «الآخر» ثماره، والآخر هنا في صيغة الغائب الجمع يُصبح عاجزًا عن الفعل، وفاقدًا لمُبرِّرات ذلك الفعل نفسه فهو لم يزرع لكي يحصد، وإنما هو ذلك الدخيل الغازي الذي ظهر في المقطع «١»، محورًا لفعلٍ آخر مضاد، سوف تقوم به الذات مُتوحِّدة مع الجماعة في «ستطردهم». وفعل الطرد ينصبُّ، ضمن مفردات الحياة اليومية والصِّيغ الحُلمية، على «هواء الجليل». وهذا «الهواء الجليلي» يريد أن يتكلَّم في هذا المقطع الأخير، وأن يضجَّ بالفعل، وينقل عن الشاعر ذلك التَّوق المُتأجِّج الدفين في أغوار الذات، والمشع منها وعبرها، في الوقت نفسه، إلى الاتجاهات كلها، المرئية منها وغير المرئية، الواقعية منها والمُلغِزة الحلمية، ذلك التوق المُشع برغبة التوحُّد بالأرض لم يزل رؤيا تنطوي عليها أعطاف خديجة «يريد الهواء الجليلي أن يتكلم اليوم عني فينعس عند خديجة».»٣٨

وعن استدعاء صوت خديجة في المقطع السادس وارتباطه بتحقُّق النبوءة تقول اعتدال عثمان: «إنَّ استدعاء خديجة وحضورها الغامر في هذا المقطع يُصبح بشيرًا بقرب تحقق نبوءة الشاعر ونبوته التي ظهرت شاراتها في المقطع رقم «٥»، فاقترنت الأناشيد التي تُرفع إلى الوطن بزيتونة مباركة زمَّلته حين كان فؤاده يرجف فرقًا من هول التمزُّق الآني في الساحة العربية وجاهلية منافي الوجود الفلسطيني المُبعثَر في أرجاء العالم. وتنبلج الرؤيا آخر الأمر، وتتجلَّى فيضًا سماويًّا يغمر الأرض:

يا خديجة! إني رأيتُ .. وصدَّقتُ رؤياي.
تأخذني في مداها،
وتأخذني في هواها.
أنا العاشق الأبديُّ؛
السجين البديهيُّ.»

وفي تداخُل عناصر الوجود وتبادل خصائصها تقول الناقدة: «وما إن تنبلج الرؤيا وتقع في القلب موقع الإيمان والتصديق حتى يتم الاتصال الكُلي فتحل الذات العاشقة في الأرض التي تمتدُّ حدودها إلى ما لا يُحَدُّ؛ إلى آفاق روحية مجهولة البدء والمُنتهى. وتسري تلك الطاقة الهائلة إلى الطبيعة فلا تُصبح الطبيعة وحدَها مصدر خصوبة الحياة النباتية على سطح الأرض، وإنما ينفجر الخِصب من قلب عاشقٍ يمنح الطبيعة ذاتها آية من آيات الخصب الكامنة فيها «يقتبس البرتقال اخضراري ويصبح .. هاجس يافا». فالاخضرار، علامة الحياة النباتية، يُصبح هنا صفة من صفات الشاعر التي يتبادلها مع عنصر نباتي، على حين يصبح جوهر الحياة والنماء هاجسًا يدور، لا بخلد بشرٍ، وإنما يدور بخلد مظهر حيوي من مظاهر الحياة النباتية في فلسطين، أعني برتقال يافا.»

ويكون هذا التبادل الحُر بين خصائص الموجودات وموقعها في سُلَّم الوجود مقدمةً تؤذِن بالدخول إلى مركز الحركة في القصيدة كلها، والبؤرة التي تستقطب التداخُل والتشابك بين الألحان الأساسية التي تصِل إلى احتدامٍ عنيف في هذا الجزء من المقطع، فتندمج عناصر الوجود وينصهر الكوني بالبَشري بأشكال الحياة الأخرى، ويندمج النبوي بالأسطوري، والواقعي بالحُلمي، والسردي بالغنائي، ويبدو الوجود مهرجانًا وعُرسًا للاحتفاء بتخلُّق فلسطين، أندلس المُمكن الذهني، في كوكبٍ آخر وفي مجرة أخرى؛ إذ تنبثِق في سديمٍ من الشعر.

وفي علاقة الإبداع بالأيديولوجيا في الخطاب الشعري عند محمود درويش تقول الناقدة: «يظهر عند هذه النقطة من «القراءة - الكتابة» أن أيديولوجية الخطاب الشعري عند درويش تقوم على التداخُل والتلاحُم والاتصال، وتُشكِّل في مُجملها بديلًا موازيًا للتجزُّؤ والتفتُّت والانفصال في الوضع العربي الراهن. ويستخدم للتعبير عن هذه الأيديولوجية وسائل أداء لا تكتفي بالخروج عن إطار القصيدة السائدة منذ ديوان «عاشق من فلسطين»، بل إنه لم يتوقَّف حتى الآن عن كسر الأشكال والقوالب التي يصِل إليها في شعره.»٣٩
وأخلص من هذه القراءة بالسمات الآتية:
  • أولًا: لفتت الناقدة اعتدال عثمان الانتباه إلى خاصية من أهم خصائص شعر الحداثة وهي تعدُّد الأصوات داخل القصيدة؛ فثم صوت الشاعر وصوت الزمان والمكان وصوت البنات الخمس وصوت خديجة … إلخ. وعلى هذا لم تعُد القصيدة الحداثية تُبنى على الصوت المُفرَد الذي كان يُمثل — غالبًا — صوت الشاعر في المراحل الشعرية السابقة. ولم تكتفِ الناقدة بإظهار كل صوتٍ على حدة، بل بيَّنت تداخُل هذه الأصوات، ومن ثَمَّ مشاركتها في إنتاج الدلالة.
  • ثانيًا: كشفت الناقدة عن شيءٍ مُهم عمد إليه الشاعر في بناء قصيدته، وهو توظيف عناصر النص في خدمة الدلالة؛ فالرمز خديجة، والفتيات الخمس، وشهر آذار، وصوتا الزمان والمكان، وكذلك صوت الشاعر نفسه، كل هذه الأصوات انصهرت في بوتقة واحدة كشفت عن هذا الحدث الدرامي الذي جسدته القصيدة بوصفها رؤية فنية للواقع.
  • ثالثًا: ربطت الناقدة — بتوسُّع أفُق توقُّعها — بين عناصر النص وما يكتنِفها من ماضٍ يُمثل الأساطير، مثل ارتباط شهر آذار بالخصب والنماء، ويُمثل كذلك الماضي الإسلامي من خلال الرمز «خديجة» كما كانت على وعي تام عندما رصدت التناصَّات القرآنية في بعض مواضع التفسير. ورغم هذا الارتداد لم تنفِ عن الرمز دلالته المُعاصرة؛ فمثَّلت خديجة لديها الأرض الفلسطينية، إذ خلعت عليها بُعدَين؛ الأول: نبوي مُقدس مُرتبط بالنبوءة، والأخير: مرتبط بالحدث الفعلي اليومي وهو مقتل الفتيات الخمس.
  • رابعًا: عزت الناقدة لجوء محمود درويش إلى الحقائق الكونية بالربط بين ما هو حسِّي واقعي وما هو معنوي رُوحي برغبته في الفرار من هذا الواقع اليومي المُحبط المُتناحر، وذلك حين قالت: «إنَّ الشاعر يلجأ إلى تلك الحقائق الكونية؛ لأن اليومي مُحبط ومُمزق ومُتناحِر إلى درجةٍ يصعب التعايش معها كما قلت، إنه يقوم بتجميع صورة ذهنية لوطن مُستلَب، عناصرها شذرات من مرايا مُهشَّمة ومبعثرة في ماضٍ ناءٍ غائر في الذاكرة، لكنه يتوهَّج بحياة لا تنطفئ؛ لأنها الحياة الوحيدة القادرة على بعث الحياة في حاضرٍ ميت، أو يكاد يموت، على حين تبدو نذُر المستقبل قاتمة.»٤٠

    وعند هذه النقطة يمكن القول إن محمود درويش تأثر — في خلق هذه الموازاة الفنية للواقع — بالمثالية الإيجابية التي ترى أن الفن الصحيح هو الذي يُكمل الواقع ولا يَنفيه؛ أي أنه يقف منه موقفًا إيجابيًّا لا سلبيًّا، وهو الاتجاه الذي ظهرت بوادره عند روَّاد شعر التفعيلة، والذي يبتعِد تمامًا عن المثالية السلبية التي كانت تتطلَّع إلى خلق عوالم مثالية تُجافي الواقع المعيش.

  • خامسًا: ربطت الناقدة بين الإبداع عند درويش وأيديولوجيته تجاه الواقع، وقد اعتمدت في هذا الربط على التفاعُل بين المقاطع السردية والمقاطع الغنائية. ويمكن القول إن اعتدال عثمان قد تبنَّت — في هذا الموضع — وجهة النظر الماركسية التي تربط بين الإبداع (البنية العليا) والواقع.
  • سادسًا: وظَّفت الناقدة الجوانب الشكلية للنص في خدمة الدلالة؛ وذلك عندما قسَّمت النص إلى اثني عشر مقطعًا مُرقمًا بالعربية والهندية توازي عدد شهور السنة، وكذلك التداخُل بين المقاطع السردية من ناحية والغنائية من ناحية ثانية. وتطرُّقها إلى العلاقة بين اللغة التركيبية والإيقاع، وعلاقة الإيقاع بالأيديولوجية.٤١
أما القراءة الثانية التي أتناولها لهذه القصيدة، فهي قراءة الدكتورة المغربية فاطمة طحطح.٤٢
وفي بداية القراءة تُقدم الناقدة مُبررات اهتمامها بدراسة هذه القصيدة، فتقول: «لماذا التركيز على هذه القصيدة؟ لأن القدس ستأخذ بعدًا يختلف كل الاختلاف عن الأبعاد التي طرحها الشاعر من قبل في قصائده الأخرى؛ لأن القدس ستمتزج بالأرض والشاعر والمرأة والطفلة والقرنفل وظلال السفرجل … وبكل شيءٍ على نحوٍ لم نعهده في كتاباته الشعرية السابقة؛ لأن القدس سترتبط عنده بمناخٍ إسلامي–عربي على نحوٍ غريب؛ لأن القدس ستأخذ طابعًا كونيًّا انطلاقًا من هذا المناخ الإسلامي؛ لأن القدس في هذه القصيدة لها لغة تجمع بين البساطة والرمز الشعري، لغة عرفت كيف تتحوَّل إلى مجموعةٍ من العلامات والإشارات والرموز الدالة في عفوية تامَّة وتلقائية مُتناهية.»٤٣

وتدخل الناقدة إلى القصيدة مدخلًا لغويًّا، تربط فيه بين الأرض وشهر آذار «زمن الربيع»، فتقول: «هناك أولًا، ستُّ عباراتٍ شعرية تتكرَّر عبر ستة مقاطع شعرية كاللازمة، وهي تأتي — حسب مقامات الكلام — بعضها في المبتدأ والآخر يتخلَّل الجُمَل الشعرية في الوسط، وبعضها الآخر ينتهي بها المقطع الشعري، وهذه العبارات الشعرية مرتبطة بالأرض في زمن الربيع «شهر آذار».

في شهر آذار، في سنة الانتفاضة، قالت لنا
الأرض أسرارها الدموية،
وفي شهر آذار تكتشف الأرض أنهارها،
وفي شهر آذار زوجت الأرض أشجارها،
وفي شهر آذار، تستيقظ الخيل،
في شهر آذار، أحرقت الأرض أزهارها،
وفي شهر آذار يمشي التراب دمًا طازجًا في الظهيرة.
خمس بنات يُخبِّئْن حقلًا من القمح تحت الضفيرة.
يقرأن مطلع أُنشودةٍ عن دوالي الخليل،
ويكتبن خمس رسائل:
تحيا بلادي؛
من الصِّفر حتى الجليل،
ويَحلُمن بالقدس بعد امتحان الربيع وطرد الغزاة.»
وتربط الناقدة بين الدلالات وبين تلك الجُمَل: «إنها الأرض إذن تتكلم، فتكشف عن أسرارها في شهر آذار، ثم في الشهر نفسه تكتشِف أنهارها، وتزوِّج أشجارها، ثم في هذا الشهر نفسه تحرق الأرض أزهارها، وفيه أيضًا يمشي التراب دمًا طازجًا في الظهيرة، وتأتي خمس بنات يُخبِّئن حقلًا من القمح تحت الضفائر، يقرأن مَطلع الأنشودة عن دوالي الخليل، ويكتُبنَ خمس رسائل، ويَحلُمن بالقدس بعد امتحان الربيع وطرد الغزاة، في شهر آذار، في سنة الانتفاضة، تمتزج الأسرار بالماء والخصب وشعلات النار.»٤٤

وفي تفاعل العناصر في فصل الربيع بما في ذلك قلب الشاعر، تقول الدكتورة فاطمة طحطح: «وفيه — أي الربيع — تمدُّ العصافير مناقيرها في اتجاه النشيد وقلب الشاعر فيصرخ هذا الأخير:

أنا الأرض،
والأرض أنت!
بل إنَّ في هذا الزمان الربيعي سيصرخ كل شيءٍ وتسمعه يقول: أنا الأرض، أنا القدس. وتتحوَّل فيه الأصوات والأصداء إلى نشيد الأرض والقدس، بل إن هذا الزمان الربيعي ستُولَد فيه رؤيا وتتَّسِع هذه الرؤيا إلى أن تمتدَّ على خارطة القصيدة كلها.»٤٥

وفي هذه المنطقة من الدراسة يدخل رمز خديجة الذي يكاد يستحوذ على خارطة القصيدة كلها. ولكي تُبرِز الناقدة تفاعُل خديجة مع بقية عناصر القصيدة وهي القدس والبنات الخمس والزمان الربيعي، تعود إلى بداية النص:

في شهر آذار، في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرض
أسرارها الدموية، في شهر آذار مرت أمام
البنفسج والبندقية خمسُ بنات، وقفنَ على باب
مدرسةٍ ابتدائية، واشتعلنَ مع الورد والزعتر
البلدي، افتتحن نشيدَ التراب، دخلن العناق
النهائي. آذار يأتي إلى الأرض من باطن الأرض
يأتي، ومن رقصة الفتيات. البنفسج مال قليلًا؛
ليعبُر صوت البنات. العصافير مدَّت مناقيرها،
في اتجاه النشيد وقلبي.
أنا الأرض،
والأرض أنتِ
خديجة! لا تُغلقي الباب.
لا تدخلي في الغياب.
سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل.
سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل.
سنطردهم من هواء الجليل.
وفي شهر آذار، مرَّت أمام البنفسج والبندقية خمس
بنات، سقطنَ على باب مدرسة ابتدائية. للطباشير
فوق الأصابع لون العصافير. في شهر آذار قالت
لنا الأرض أسرارها.
ثم تُعلق الناقدة على هذا المقطع الطويل بقولها: «فهو يَعِد خديجة (الأرض) وهو رمز إسلامي، بطرد الغزاة، وهذا الطرد لا يتحقَّق إلا في شهر آذار، في هذا الشهر تجتمِع كل الرموز التي تدلُّ عليه: البنات، نمو الزهور، البنفسج، العصافير … لكن إذا كان هذا الشهر يرمز إلى الثورة الفتية، وإلى الإنقاذ الذي ستقوده الأجيال الشابة، وإذا كان هذا الشهر هو رمز الحياة، وإحياء الأرض بعد موتها … فإنه أيضًا شهر الموت؛ فسقوط البنات الخمس على باب المدرسة، وهن يُردِّدن نشيد الأرض، وسنة الانتفاضة والأسرار الدموية .. كلها مؤشرات ترمز إلى أنَّ هذا الزمان الربيعي، هو زمن الموت والحياة في الوقت نفسه، وأن الحياة تكمُن في الموت والحرية في الشهادة، والولادة في المعاناة … إلخ.»٤٦

ثم تنتقل الناقدة إلى إظهار التفاعل بين عناصر الطبيعة في شهر آذار، وما قد يَجمعه هذا الشهر حوله من ثُنائيات، فتقول: «هكذا تتَّضِح العلاقة، شيئًا فشيئًا (عبر امتداد مقاطع القصيدة) بين الأرض وآذار، وسنة الانتفاضة، والبنات الخمس، والشاعر، والعصافير، وبين كل هذه الأشياء، خديجة وما فاهت به الأرض من أسرار!

في شهر آذار نمتدُّ في الأرض،
في شهر آذار تنشر الأرض فينا
مواعيد غامضة،
واحتفالًا بسيطًا،
ونكتشف البحر تحت النوافذ،
والقمر الليلكي على السرو.
في شهر آذار ندخل أولَ سجنٍ وندخل أول حُبٍّ،
… … …
وفي شهر آذار تكتشف الأرض أنهارها.
إن الثنائيات تنمو وتتوالد في شهر آذار: أول سجن، وأول حب، والعلاقات المتواشجة بين كل العناصر المذكورة، بل إن القصيدة منذ بدايتها إلى نهاية هذا المقطع الذي تكتشف فيه الأرض أنهارها، تكشف عن هذا الاتحاد المُطلق والذوبان بين الأرض والبنات الخمس والبنفسج، والشاعر والعصافير والأناشيد.»٤٧

ثم تسوق الناقدة هذا المقطع الذي تجمع فيه اللحظة الشعرية بين الأزمنة المختلفة:

أنا الأرض،
والأرض أنتِ.
وفي شهر آذار تستيقظ الخيل.
سيدتي الأرض!
أيُّ نشيد سيمشي على بطنك المُتموِّج، بعدي؟
وأيُّ نشيدٍ يُلائم هذا الندى والبخور؟
كأن الهياكل تستفسر الآن عن أنبياء فلسطين في بدئها المُتواصل!
هذا اخضرار المدى واحمرار الحجارة.
هذا نشيدي.
وهذا خروج المسيح من الجرح والريح؛
أخضر مثل النبات يُغطي مساميره وقيودي.
وهذا نشيدي،
وهذا صعود الفتى العربي إلى الحُلم والقدس …

وفي تعليق الناقدة على هذا المقطع تقول: «إنَّ اللحظة الشعرية تجمع بين أزمنةٍ مُتعدِّدة، فليس هناك ماضٍ مُنعزل أو حاضر يحجز عن الشاعر رؤية الماضي، ثم ليس هناك مُستقبل لا صِلة له بالحاضر أو الماضي، فالكل مندمج والكل حاضر في اللحظة الشعرية.

فها هو الحاضر تستيقظ فيه الخيل على هذه الأرض، وها هي الهياكل تستفسر عن كل الأنبياء الذين مرُّوا على هذه الأرض، وها هو الشاعر ينظر بعين الأمَل نحو المستقبل، ومع استيقاظ الخيل وأنغام الأناشيد، مع اخضرار المدى واحمرار الحجارة يخرج المسيح من الجُرح والريح .. يخرج أخضر في هذا الزمان الربيعي مثل البنات ليُغطي مساميره وقيود الشاعر.»٤٨

وتسوق الناقدة هذا المقطع الذي يستحضر فيه الشاعر لحظة الإسراء والمعراج ويخلعها على الحُلم وعلى القدس:

وهذا صعود الفتى العربيِّ إلى الحلم والقدس …
وفي شهر آذار، في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرضُ
أسرارها الدموية: خمس بنات على باب مدرسة
ابتدائية يقتحمن جنود المظلَّات. يسطع بيت
من الشِّعر أخضر … أخضر، خمس بنات على
باب مدرسة ابتدائية، ينكسِرنَ مرايا مرايا.
البنات مرايا البلاد على القلب …
في شهر آذار أحرقت الأرض أزهارها.
ثم تُعلق الناقدة قائلة: «إن قضية البنات الخمس ستُحوِّل مجرى الكلام الشعري، فبدلًا من الندب والبكاء والحديث عن الموت، مثلما كنا نرى في القصائد السابقة، ستتحول البنات الخمس إلى مرايا البلاد على القلب … وحين يسأل الشاعر خديجة عن حفيداتها الذاهبات إلى حُبهن الجديد، تُجيب خديجة: ذهبن ليقطفن بعض الحجارة!»٤٩ وفي المقطع الرابع سيُولَد الشاعر من المذبحة وسيخرج من الموت:
أنا شاهد المذبحة،
وشهيد الخريطة.
أنا ولد الكلمات البسيطة.
رأيت الحصى أجنحة.
رأيت الندى أسلحة.

وفي فضاء القصيدة العربي–الإسلامي تقول الدكتورة فاطمة طحطح: «إن الذي أعطى القصيدة عُمقها الشعري، هذا الفضاء العربي–الإسلامي الذي تتحرك القصيدة في إطاره، فالشاعر بدلًا من أن يَستوحي من الأساطير القديمة اليونانية والبابلية وغيرها أقنعته الفنية ورموزه … استوحى في هذه القصيدة من التراث العربي الإسلامي.

فهذا الزمان الربيعي زمان الحياة الجديدة، الزمان الذي يتحوَّل فيه الحصى إلى أجنحة، والندى إلى أسلحة، وضلوع الشاعر إلى حجارة، هذا الزمان الذي تصدح فيه الأناشيد بلُغةٍ أخرى في شهر آذار وسنة الانتفاضة … هذا الزمان الذي ستفتتح فيه البنات الخمس نشيد التراب، ويدخُلنَ فيه العناق النهائي … هذا الزمان من الحب ومن السجن، والذي يستيقظ فيه الخيل، ويمتدُّ فيه الناس في الأرض وتمتدُّ فيهم … هو زمان خديجة وصعود الفتى العربي إلى الحُلم وإلى القدس هو زمان خديجة.» ثم تسوق الناقدة هذا المقطع الذي يُبرز بقاء خديجة (الأرض) مع أن كل شيءٍ سيذوب ويُصبح إلى زوال:

خديجة! لا
تغلقي الباب!
إنَّ الشعوب ستدخُل هذا الكتاب وتأفُل شمس أريحا
بدون طقوس.
فيا وطن الأنبياء .. تكامل!
ويا وطن الزارعين .. تكامل.
ويا وطن الشهداء .. تكامل.
ويا وطن الضائعين .. تكامل.
فكلُّ شِعاب الجبال امتداد لهذا النشيد،
وكلُّ الأناشيد فيك امتداد لزيتونةٍ زمَّلتني.
وعلى هذا المقطع تُعلق الناقدة قائلة: «إن كل المظاهر وكل العناصر والأشياء ستذوب، ولن يبقى غير خديجة (الأرض) والفتى العربي يصعد إلى القدس، والرمز «خديجة» يبقى العصب الأساسي في هذا النص الشعري؛ فهي اسم عربي–إسلامي، وهنا تبرز الرؤية الإسلامية الجديدة التي انتبه إليها الشاعر في القصيدة كما تبدو الخلفية الإسلامية في التعبير عن الأرض.»٥٠

وفي بلورة أخيرة لرمز خديجة وعلاقته بالشاعر تقول الناقدة: «لقد أصبحت الرؤية واضحة — الآن — لدى الشاعر، فهو لن يختار غير خديجة، ولن يُصدِّق غير ما تقوله خديجة؛ خديجة هي الأرض، وهي التراث وهي القدس، وهي العمر الجديد، يقول:

أنا الأرض …
يا أيها الذاهبون إلى حبَّةِ القمح في مهدها،
احرثوا جسدي!
أيها الذاهبون إلى جبل النار،
مُرُّوا على جسدي.
أيها العابرون إلى صخرة القدس،
مُرُّوا على جسدي.
أيها العابرون على جسدي،
لن تمرُّوا.
أنا الأرض في جسد؛
لن تمرُّوا
أنا الأرض في صحوها،
لن تمرُّوا.
أنا الأرض. أيها العابرون على الأرض في صحوها،
لن تمرُّوا.
لن تمرُّوا.
لن تمرُّوا.
إنها خديجة أو الأرض في صحوها، في رؤيتها الإسلامية الجديدة … وتبرز صورة «القدس» لدى الشاعر في هذه القصيدة بجلاء في عنصرَين مُتلازِمَين ومُتلاحِمين في اتحاد وحلولية، هما «الأرض، وخديجة».»٥١
وبعد قراءة هذا النموذج يمكن رصد ما تميزت به على النحو الآتي:
  • أولًا: أن الناقدة قرأت هذه القصيدة في سياقها الاجتماعي بما بُنِيت عليه من عناصر: الأرض، الفتايات الخمس، شهر آذار، المدرسة، الشاعر نفسه بوصفه مُمثلًا للفلسطينيين جميعهم. وكذلك سياقها الديني بكل عناصره التي تغلغلت فيها؛ فثَمَّ الرمز خديجة، واستدعاء الإسراء والمعراج، وكذلك بعض التناصَّات القرآنية التي احتوت في داخلها على بعضٍ من القصص القرآني.

    وقد غلَّفت ذلك كلَّه بالسياق التاريخي الذي لم يظهر على السطح، بل كان يعمل في الخفاء من خلال فِعل الآخر (العدو) وما أحدثه من دموية في حادث البنات الخمس.

  • ثانيًا: اعتمدت الناقدة في إبراز الدلالة النصِّية على مبدأ الثنائيات، وبخاصة عندما ربطت هذه الثنائيات بشهر آذار؛ لتُبرز البُعد المزدوَج لهذا الشهر؛ فرغم أنه شهر البهجة والسعادة، بدا شهرًا حزينًا، فهو شهر الموت والحياة في الوقت نفسه.
  • ثالثًا: أقرَّت الناقدة أن اللحظة الشعرية لحظة لا تعرف زمنًا مُحددًا، بل تقوم على تداخُل الأزمنة؛ فهي لحظة انصهارية تجمع بين الماضي والحاضر والمُستقبل، وتلتحِم فيها العناصر حتى تُصبح عنصرًا واحدًا، وهذا هو ما لُحِظ عند تداخُل الأشياء في شهر آذار. وهو سمة الإبداع السليم الذي لا ينقل الواقع نقلًا حرفيًّا بقدْر ما يُعَدُّ موازاة فنية يُخالف منطقها منطق الواقع المحسوس في العلاقات التي تجمع بين الأشياء.
  • رابعًا: أرجعت الدكتورة فاطمة طحطح العمق الشعري الذي حظِيت به القصيدة إلى الفضاء العربي-الإسلامي، إذ استقى الشاعر أقنعته الفنية ورموزه من التراث العربي-الإسلامي، مما يدلُّ على حيوية هذا المنبع.
وفي نهاية هذا الفصل أودُّ أن أشير إلى نقاط عدة:
  • الأولى: أنَّ نظرية التلقِّي تختلف عن بقية المناهج الأخرى، رغم أنها تُعدُّ جميعها ضربًا من التلقي. ويعزو هذا الاختلاف في حقيقته إلى طبيعة الإجراءات التحليلية لكل منهجٍ وعلاقتها بكلٍّ من النص والمُتلقي؛ فبالنظر إلى المناهج السابقة، وهي البنيوية والسيميولوجية والأسلوبية، نجد أن إجراءاتها التحليلية قامت في أساسها على الارتباط بالنص المقروء ذاته، مما يجعل المُتلقي مرتبطًا — في عملية التحليل — بهذه الإجراءات، وإن كان بوسعه أن يُطوِّعها لتُناسب طبيعة بيئة شعرية مُعيَّنة.

    أما في نظرية التلقي، فالأمر يختلف؛ لأن مركز الثقل النقدي انتقل من النص إلى القارئ، وما دام القرَّاء يختلفون فيما بينهم في أفق توقعاتهم وتفاوت خبراتهم النقدية، فلا بدَّ أن يكون ثمَّة اختلاف بين القراءات المُتعدِّدة للنص الواحد، فلم تَعُد الإجراءات التحليلية ثابتة أو مُتعارفًا عليها، بقدر ما غدت نِسبية.

  • الثانية: أنَّ كون التلقِّي أصبح نسبيًّا يختلف من ناقدٍ لآخر، فإن هذا يقودنا إلى عدم الانتقاص من قراءةٍ ما بُمقارنتها بقراءةٍ أخرى. وهذا الطرح أقرب إلى ما أنا بصدده الآن في القراءات المتنوعة لقصيدتَي محمود درويش: «عابرون في كلام عابر»، و«الأرض». فكل نصٍّ قُرِئ مرَّتَين تُكمل إحداهما الأخرى؛ فإذا كشفت إحداهما عن جانبٍ من النص، تكشف الأخرى عن جانبٍ آخر … وهكذا. وكلما تعدَّدت قراءات النص تميَّز هو بالثراء الفني الذي يضمن له الخلود على مرِّ الأزمنة.
  • الثالثة: أنه في أحيان كثيرة يفرض النص دلالته على المُتلقي، مما يجعله يُحلل النص في إطار هذه الدلالة؛ فمثلًا في قصيدة «عابرون في كلام عابر» لا يخفى على أي ناقدٍ أنَّ المخاطب هنا هو العدو (الكيان الصهيوني) وأنَّ المُتكلم (الباقين) هم الفلسطينيون. لذلك جاءت قراءة هذا النص مُتقاربة عند الناقدين: الدكتور الغذامي والناقد حاتم الصكر. والأمر نفسه نجده في قصيدة «الأرض»، فلا يُعقَل أن يُحلل ناقدٌ ما هذه القصيدة دون الجزم بأن مدلول الأرض (خديجة) هو الأرض الفلسطينية، وأن ما فعله الشاعر محمود درويش يُعَد موازاة فنية لدرامية الواقع المحسوس. وإذا كان ثَمَّ اختلاف بين تلك القراءات، فهو يتمثَّل في الإشاعات اللغوية والتوسُّع في أفق التوقُّعات من ناقدٍ لآخر، مع ثبات الدلالة الأصلية في النصَّين، مما يجعلنا نُقر بتحقيق مبدأ القصدية في الشعر العربي.
  • الأخيرة: أنه في بعض الأحيان — وهي نقيض النقطة السابقة — تختلف قراءات النص الواحد اختلافا جوهريًّا. ويحدُث هذا الأمر عندما يعتمد النص في بنائه على الرمز الذي يَشوبه شيء من الغموض. وهنا فقط، يستطيع كل ناقدٍ أن يُفسِّر الرمز تفسيرًا مُستقلًّا، فتعدُّد مدلولات الرمز من قراءةٍ لأخرى لا يعني ذلك أن يشتطَّ أيٌّ من النقَّاد في تفسيره؛ لأن مرجعه الأول والأخير هو النص نفسه؛ فكلما استطاع الناقد أن يُدلِّل على صحة مدلول الرمز في قراءته باعتماده على الجماليات الفنية للنص المقروء، حَظِيَت قراءته بالمشروعية والإقرار النقدي. مما يعني أن عملية التفسير ذاتها ليست عمليةً مائعة أو قائمة على اللامحدودية.
    وهذه الخشية من لامحدودية التفسير هي التي دفعت ستانلي فيش إلى القول بانتماء الناقد إلى جماعةٍ مُفسرة، حرصًا منه على عدم ضياع النص وسط تعدُّد القراءات واتِّصاف بعضها بالخلل في بعض الأحيان.٥٢
١  من الكتب المُهمة في هذا الاتجاه: روبرت هولب، نظرية التلقي، ترجمة الدكتور عز الدين إسماعيل، النادي الأدبي بجدة، الطبعة الأولى ١٩٩٤م. وكذلك الدكتور حامد أبو أحمد: الخطاب والقارئ، النسر الذهبي للطباعة، بدون تاريخ.
٢  انظر: هاني الخير، محمود درويش «رحلة عمر في دروب الشعر»، مؤسَّسة علاء الدين للطباعة والتوزيع، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى ٢٠٠٥م، ٩٩–١٠٢.
٣  انظر: ثقافة الأسئلة، النادي الأدبي الثقافي، الطبعة الأولى ١٩٩٢م، ٤٧، ٤٨. وانظر في قراءة هذا الكتاب: الدكتور حامد أبو أحمد، نقد الحداثة، ١٤٤–١٥٨.
٤  انظر: السابق، ٤٨.
٥  انظر: ثقافة الأسئلة، ٥١.
٦  انظر: ثقافة الأسئلة، ٥٢، ٥٣.
٧  انظر: ثقافة الأسئلة، ٥٣–٥٥.
٨  انظر: ثقافة الأسئلة، ٥٦.
٩  انظر: ثقافة الأسئلة، ٥٦، ٥٧.
١٠  انظر: ثقافة الأسئلة، ٥٧، ٥٨.
١١  انظر: ثقافة الأسئلة، ٥٨، ٥٩.
١٢  انظر: السابق، ٥٩.
١٣  التعبير الصحيح «بالحقيقة النصية، أو المنصوص عليها مثلًا»؛ لأنه لا يصح النسب للجمع.
١٤  الصحيح «نصيًّا». انظر: هامش، الصفحة السابقة.
١٥  انظر: ثقافة الأسئلة، ٥٩–٦١. وانظر في مدح الدكتور حامد أبو أحمد لهذه القراءة: نقد الحداثة، ١٥٧.
١٦  انظر: مناورات الشعرية، دار الشروق، القاهرة، بيروت، الطبعة الأولى ١٩٩٦م، ٧٧، ٧٨.
١٧  انظر: العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي، ٦١.
١٨  انظر: السابق، ٣١.
١٩  انظر حاتم الصكر: كتابة الذات، دار الشروق، تموز ١٩٩٤م، ٢٩٠.
٢٠  انظر: السابق، ٢٩٠.
٢١  انظر: السابق نفسه، الصفحة نفسها.
٢٢  انظر في تلك المواضع: كتابة الذات، ٢٩١، ٢٩٢.
٢٣  انظر: كتابة الذات، ٢٩٢.
٢٤  انظر: كتابة الذات، ٢٩٥، ٢٩٦.
٢٥  انظر: كتابة الذات، ٢٩٦.
٢٦  انظر: كتابة الذات، ٢٩٧، ٢٩٨.
٢٧  من الكتب اليهودية التي تناولت الشعر العربي الحديث «الشعر العربي الحديث ١٨٠٠–١٩٧٠: تطور أشكاله وموضوعاته بتأثير الأدب الغربي»، س. موريه، ترجمة الدكتور شفيع السيد والدكتور سعد مصلوح، دار الفكر العربي. راجع في نقد هذا الكتاب: الدكتور محمد نجيب التلاوي: نقد المنظور اليهودي لتطور الشعر العربي الحديث، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ديسمبر ١٩٩٥م.
٢٨  انظر: المُختار من شعر محمود درويش، إعداد الدكتور محمد عناني، مكتبة الأسرة ٢٠٠١م، ٦١–٧٧.
٢٩  انظر: إضاءة النص (قراءات في الشعر العربي الحديث)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية ١٩٩٨م، ١٠٤. ومن الملحوظ أنَّ هذه الدراسة تتميز بالاستفاضة الشديدة، مما يَجعلني أُركز في قراءتي هنا على أهمِّ رموزها وهو رمز «خديجة».
٣٠  انظر: إضاءة النص، ١٠٤، ١٠٥.
٣١  انظر: إضاءة النص، ١١٤.
٣٢  انظر: إضاءة النص، ١١٤، ١١٥.
٣٣  انظر: إضاءة النص، ١١٥، ١١٦. ويُوجَد في هذه الفقرة عجز صياغي، حيث لم تَبْنِ الناقدة ما أدَّاه كسر العلاقات المنطقية بين يقطفنَ والزهور … إلخ.
٣٤  انظر: السابق، ١١٦.
٣٥  انظر: إضاءة النص، ١١٦، ١١٧.
٣٦  انظر: إضاءة النص، ١١٧.
٣٧  انظر: إضاءة النص، ١١٨.
٣٨  انظر: إضاءة النص، ١١٨.
٣٩  انظر: إضاءة النص، ١١٩–١٢١.
٤٠  انظر: إضاءة النص، ١١١.
٤١  انظر: السابق، ١٠٢، ١٠٣، ١٢٣، ١٢٤.
٤٢  انظر: القدس في الشعر العربي، مؤسسة يماني الثقافية الخيرية ٢٠٠١م، ٢٦٠–٢٧٤.
٤٣  انظر: القدس في الشعر العربي، ٢٦٥.
٤٤  انظر: القدس في الشعر العربي، ٢٦٦.
٤٥  انظر: القدس في الشعر العربي، ٢٦٧.
٤٦  انظر: القدس في الشعر العربي، ٢٦٨.
٤٧  انظر: القدس في الشعر العربي، ٢٦٨، ٢٦٩.
٤٨  انظر: القدس في الشعر العربي، ٢٧٠.
٤٩  انظر: القدس في الشعر العربي، ٢٧٠، ٢٧١.
٥٠  انظر: القدس في الشعر العربي، ٢٧١، ٢٧٢.
٥١  انظر: القدس في الشعر العربي، ٢٧٣.
٥٢  انظر: تيري إيجلتون، مقدمة في نظرية الأدب، ١٠٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤