نيام على غير مضاجع

من الناس أقوام مارسوا الكتابة عددًا، وأتاحت لهم الظروف أن تظهر كتاباتهم، وأغلب الأمر أرغموا الظروف أن تتيح لهم الطلوع على الناس بما يكتبون، فطلعوا، ومرَّت الأعوام فما أحسَّ بهم أحد، فلا النقاد اعترفوا بهم، ولا القرَّاء أحسوا بوجودهم، فكان طبيعيًّا أن يقفوا خارج الحلبة ليسبوا كلَّ مَن فيها ويهاجموه في ضراوةٍ لا مثيلَ لها، وبغير ذوق فني، وبغير إبداءِ أسباب؛ فليس إلى الحق يهدفون، ولا هم ينشدون العدل فيما يعيبون، إنما بغيتهم الوحيدة هي أن يهاجموا، آملين أن يُحطموا المشاهير في مظنة منهم كاذبة أنْ لو تحطَّم هؤلاء لن يبقى غيرهم في الميدان، ولو كانت بهم مسكة من عقل لأدركوا أن هؤلاء المشاهير غير قابلين للتحطيم؛ لأنهم لم ينالوا شهرتهم بالحظ أو بالبساطة، وإنما نالوها بموافقة الغالبية العظمى من قرَّاء اللغة التي يكتبون فيها، عربية كانت أو كانت غير عربية، ولو كانت بهم بقية من ذكاء لأدركوا أن اختفاء هؤلاء المشاهير بالوفاة أو الصمت لن يتيح لهم أن يظهروا؛ لأن الشعب حين قبل العمالقة قَبِلَهم لأنهم عبَّروا عنه، وحين رفضهم هم رفضهم لأنهم غير صالحين لمخاطبته، ولم يرفضهم لأنه مكتفٍ بكتابة، فالشعوب دائمًا تحبُّ أن يتعدَّد كتَّابها ومفكِّروها.

وهكذا لم يكن عجبًا أن نجد هؤلاء الضائعين في تيه الأدب يتخيَّرون القِمم الشمَّاء ليهاجموها، محاولين أن يقضوا على ذؤابتها، فإذا هم يتهاوون إلى سفحها، وقد تحطَّموا جذاذًا، وتمزقوا خرقًا.

وقد واجه طه حسين وشوقي والعقاد والمازني وتوفيق الحكيم وعزيز أباظة ومحمود تيمور وغيرهم من العمالقة ألوانًا من الهجوم شتى، وأفانين من القذف بلغت في بعض الأحيان مبالغ الوحشية الشرسة الطاحنة، فما زادهم هذا الهجوم إلا بريقًا وتوهُّجًا، وما ازداد المهاجمون إلا انطفاءً وخفوت ذِكْر.

والرغبة في الشهرة عند المهازيل تشكِّل نوعًا من السعار المجنون الذي يجعلهم يستهينون بكل ما يتصل بشرف الآدمية، فنجد منهم مَن يحاول أن يُحدث أيَّ تفجُّر ليحدث به دويًّا، وحتى لو كان هذا التفجير سينسفه هو نسفًا حتى لا يُبقِي منه على شيء.

وليس يعنيه أن يصدم شعور الناس، ويعتدي على مقدَّساتهم، ويدمغ الكرامة بالهوان والنبل بالخسة، وما أصدق المتنبي حين قال:

مَن يهُن يسهل الهوانُ عليه
ما لجُرحٍ بميِّتٍ إيلامُ

فيجد واحد منهم يكتب كتابًا لا يستحيي فيه أن يذكر أنه كان لصًّا وتاجر متعة، وذلك منه وصول من الحضيض إلى هاوية لم تعرفها البشرية، فأصحاب هذه المهن في مألوف أمرهم يسترونها على أنفسهم، ولا يعالنون بها إلا حين تقتضيهم المهنة أن يعلنوا، فما رأينا لصًّا يباهي بأنه لص، ولا تاجر أعراض يفاخر بأنه يمارس تلك الصنعة، أما أن ينشر هذا فتلك جديدة في السفالة والانحطاط والهوى إلى غير قرار، ومن عجب أنه بعد ذلك يظهر على الناس، ويهاجم كلَّ شريف في الحياة حتى أصبح الشرفاء يعتبرون الهجوم منه وسامًا لا يدانيه وسام، وشرفًا يحزنهم أن يفوتهم.

ونجد آخَرين يهوِّن كل جليل في حياتنا، وكل سامق من تاريخنا القديم والحديث على السواء، وهو — للأسف الشديد — مدرك عواقب هذا الذي يفشيه من آثار وبيلة تقع عليه أولًا، ثم هي بعد ذلك تثير نفوس الأغلبية الكاثرة من الناس في مصر وفي الشعوب العربية كافة، ولكن ماذا يهمه ما دام هو قد أحدث التفجير الذي ينشده، وليكن هو أول الضحايا وليكن التاريخ من بعض ضحاياه ولتذهب مشاعر الناس إلى الجحيم؟!

وإني أحس أنه بما يصنع يريد أن ينتقم من البشر أجمعين ما داموا هم لم يُكسبوه الشهرة التي أرادها لنفسه، ولم ينزلوه من نفوسهم المنزل الذي يتوهَّم أنه حقيق به.

وآخَرون كانت كتاباتهم هذاء لم يخطها إلا مهلوس مجنون لا يعي ما يقول، وكان من الطبيعي أن يعيا الناس عن فهمه، ويعتبروا ما يكتبه لغة أخرى غير لغتهم، وكان من الطبيعي أن ينصرفوا عنه كأنه لم يوجد.

وكان لا بد لمثل هذا وللآخَرين من أمثاله أن يناموا ولا سبيل إلى نوم، مع الشعور بالفشل والإحباط، فهم إذَن يحتالون على أنفسهم ويخادعونها عن الحق، وينسجون من الوهم ما يجعلها تُطَمئِن صاحبها أنه نابغة سبقَ زمانه، وأن الذين أصابتهم الشهرة إنما اقتضوها بماء وجوههم، وبما أنهم جهلاء يخاطبون جهلاء، وبما أنهم تافهون لا يرتفعون إلى السماوات التي نحلِّق فيها نحن بأفكارنا، ولو أننا نافقنا الناشرين، وحاولنا إرضاء الناس بكتابة ما تستجيب لهم حواسهم الساذجة الفجة لأصبنا من الشهرة ما لم يُصِب أولئك المهازيل الذين يتصدرون الحياة الأدبية في هذا الزمن النكد، فكل زمان لا يشتهرون فيه زمن نكد، وأن شهرتنا قادمة لا شك في قدومها وينامون.

ولو أنهم لم يناموا وحاسبوا وَهْمهم حساب عقلاء، لا حساب مهلوسين، لتبيَّنوا أن الشعوب لا تبغض أحدًا قَدْر بغضها للمنافقين، ولها في كشفهم عيون راصدة لا تنام، وليس يخفى عليها من أمرهم خافية، وأن للشعوب عقلاء تسجل كما لا تسجل أحدث الآلات الإلكترونية، وقد تنسى الشعوب، ولكن لأنها تريد أن تنسى، وهي حين تنسى يكون ذلك منها عن إدراك لا عن غيبة وعي أو غفلة.

وكم من نافق وهوى به نفاقه إلى أسفل درك؛ فليس كل نفاق ناجحًا، وإنْ نجح شخص ما بالنفاق فشل به نفسه مئات من الناس، والمنافق قصير مدى الخطى، منكمشة حياته، هزيل نجاحه، ومهما يبلغ بنفاقه من سلطان فهو عند الناس محقور الشأن، لا وزن له ولا قيمة.

وإن كان النفاق سبيلًا مُمهَّدًا في عالم الوظيفة فهو طريق مُغلَق في عالم الفكر والأدب والفن بعامة.

فقد يجد المنافق في عالم الوظيفة مَن يبصقه إلى منصب، ولكنه في عالم الأدب والفكر ليس له إلا الناس ملاذًا، وهم وحدهم مَن يرفعون شأنه علمًا، أو يخسفون به الأرض ليكون موطئ نعال.

أما وهمهم أنهم سبقوا عصرهم فهو باطل بطلانًا أصليًّا ليس له من زوال، فإن الكاتب ابن عصره يستمد منه ويعطي له، وبما أن هذا خلَّد الشعراء والكتَّاب على مدى الزمان فإن الأجيال حين تتسلم المشاهير بعضها من بعضها تتسلمها بعصورها وبالأزمان التي عاشت فيها وعبرت عنها، وما كتب لها الخلود إلا لأنها كانت من مرايا عصرها ومن أضوائه، ولو أنها حاولت أن تعبر عن غير عصرها، أو تكتب لغير زمانها، لأصابها الفشل الذريع، ولامتنعت الأجيال أن تتداولها إلى الخلود.

وبعدُ، أفتراني قد أصبتُ بالإحباط قومًا استكانوا إلى أوهامهم واطمأنوا إليها، وانقضضت أنا على سكينتهم وأوهامهم فعصفت وأذعرت طائرهم وأسلمتهم إلى اليأس؟ قد أكون، ولكن البتر بالعضو الأشل أخلق، وإنَّ عليهم أن يفيقوا إلى حقيقتهم، ويبحثوا عن عمل يتقنونه بدلًا من أن يناموا بغير مضاجع على أرصفة طريق ليس طريقهم، فهم فيه غرباء، ولا أمل لهم أن يصبحوا من أهله، اللهم بلَّغتُ اللهم فاشهد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤