الله … الله فيما تكتبون!

يبدو أن عودة الحرية بعد غيبة طويلة جعل معالمها غير واضحة، وألقى على سماتها ظلالًا من ضباب، حتى أصبح بعض الكُتَّاب يخلط بينها وبين الفوضى الغوغائية … وراح هؤلاء الكُتَّاب يبحثون لأنفسهم على حساب الحرية عن بطولات تدعو إلى الأسى والأسف والحزن. فما هم بكُتَّاب صغار، ولا هم في حاجة إلى هذا النوع المخرب من الكتابة، ملقين بمستقبل مصر إلى جحيم اصطلوا بسعيره أكثر مما اصطلينا … وكواهم لظاه أكثر مما اكتوى به غيرهم … وأحرقت نيرانه سنوات غالية من حياتهم … وقد كنتُ أتصوَّر أيَّ شيء إلا أن يطلع علينا هؤلاء الكُتَّاب بدعوة إلى الثورة … والدعوة منه موجَّهة إلى فئاتٍ هي أبعد ما تكون عن حب الوطن، أو مراعاة الله أو تحسب الضمير … فبعض هذه الفئات ينتمي بولائه لغير مصر. وينتمي بعقيدته لغير الله بحكم المذهب الذي يدينون به.

وبعضٌ منهم آخَر كانوا السوط في يد الطغيان، وكانوا النار المُحرِقة، وكانوا المشاركين في الاعتداء على الأعراض والأموال والأرزاق.

وكانوا هم المُعيَّنين على خراب مصر التي ما زالت تعاني آثاره حتى اليوم، أتلك هي الحرية؟! علم الله أن الحرية براءٌ منهم إلى يوم الحساب … أما الفئة الأولى فهي تركب خيول الحرية والديمقراطية، وإطلاق الرأي جاهدة أن تسعى بها إلى الحكم، ويومئذٍ لا كان هذا اليوم ولا شهده الوطن أبدًا، فلا حرية هناك، بل القهر والقتل، وسفك الدماء، وكتم الأنفاس، وإطلاق الفساد، وإعدام الدين، وإعلاء الإلحاد، والانتماء إلى الشيوعية العالمية التي لا ترى لأحد حقًّا في أن يكون وطنيًّا، ولا تسمح لصاحب دين سماوي أن يعبد الله.

وأما الفئة الأخرى فهي الفئة الباغية التي ضرب الخبث في تاريخها، فهي الفساد والإفساد، والقتل والتعذيب، وتحطيم القيم، وهدم كل ما هو سامق نبيل في حياة الإنسان.

عجيب مذهل أن يدعو كاتب مثل هذه الفئات أن تثور … ومن أجل ماذا؟ من أجل الحرية … يا لكِ من مظلومة أيتها الحرية! يركبك الراكبون ليقتلوكِ … ويصيح بكِ الصائحون ليكتموا أنفاسك … ويرفعوا أعلامك الوضَّاحة المُشرِقة ليمزِّقوها ويحرقوها، فإذا هي ذرات من رماد أو هشيم.

ويصيح الكاتب، الذي أربأ بقلمي أن يذكر اسمه حفاظًا مني على كرامته وقدره، أن الانتخاب بالقائمة النسبية عدوان على حرية الشعب، وقمع للديمقراطية واعتداء على قدسيتها.

ولا أدري من أيِّ مرجع دستوري جاء بهذا الرأي الساذج إلا أن يكون الكاتب يريد أن يصيح في غير ما داعٍ للصياح، ويتظاهر بالغضب من أجل الديمقراطية دون أن تكون الديمقراطية غاضبة ولا رافضة ولا هي تشعر أن القائمة النسبية تمس قدسيتها من قريب ولا بعيد.

وقد كنت أرجو — والكاتب ليس هيِّن الشأن — أن يرجع إلى المراجع الدستورية، ويتحرَّى الأمر قبل أن يجري قلمه بما جرى به؛ فليس الأمر صياحًا، ولا يكون الكسب في ميدان الرأي للصوت المرتفع … ولا للضجيج الفارغ الخالي من البحث.

فليس الأمر هتافًا، وإنما هو علم ودراسة وتعمُّق وتفهُّم، والنظرة العاجلة البريئة من الهوى، والبحث عن بطولة زائفة تُدرك أن الانتخاب بالقائمة النسبية تعمل به دول ديمقراطية تعتبر من أعظم الدول في هذا المضمار، وحسبي أن أذكر سويسرا وألمانيا الغربية والبلاد السكندنافية وغيرها كثير. وأنا من الذين يرون أن الانتخاب بالقائمة فيه تحضُّر ينبغي لمصر أن تسعى إليه … فالاختيار في الانتخابات بالقائمة النسبية يكون للآراء والمبادئ والأفكار، ولا يكون للأشخاص.

وهذا يجعل الناخب يدرس الآراء وينتخبها، ولا يعطي صوته للشخص لمجرَّد صلته به، سواء كانت هذه الصلة متمثِّلة في قرابة أو صداقة أو منفعة … وفي ظل هذا الانتخاب المعتمد على القائمة تُمحى تمامًا أي مظنة لأي صلة بعيدة عن المصلحة العامة، ولا يكون هناك مجال لما يعرفه الكاتب تمام المعرفة، ولما يعرفه المصريون جميعًا من وسائل انتخابية بعيدة عن النزاهة كلَّ البُعد.

والأصل في النائب أن يكون نائبًا عن الدولة كلها، وليس عن دائرته فقط … ولكن واقع الأمر يجري على عكس هذا تمامًا … فالنائب المسكين مشغول ليله ونهاره بتعيين أبناء الدائرة، ونقلهم، وترقية أقاربهم، وإدخال أبنائهم للمدارس، والحصول على استثناءات لا يحظى بها أفراد الشعب الذين لا يكون نائبهم بهذا النشاط الذي لا أعتبره أنا وطنيًّا بأيِّ حالٍ من الأحوال.

والنائب في الانتخاب المباشر يظل طوال فترة نيابته وعينه على الدائرة وأعيانها وأصحاب الجاه والسلطان والأصوات فيها، فإنْ أرضاهم فقد ضمن النجاح، وإنْ عجز فالويل له والثبور والسقوط في الانتخاب والخروج من رحمة الله!

ولست أنسى ذلك النائب الذي أغدق على أفراد دائرته من الأموال العامة، حتى اتُّهِم وقُدِّم للمحاكمة، وجاءت الانتخابات والقضية التي تتهم ذمته أمام القضاء، فإذا الهتافات في الدائرة تكتسحها … حرامي … حرامي لكن بنحبه … وينجح المرشَّح المشكوك في نزاهته نجاحًا منقطع النظير.

أيرضى الكاتب عن هذا؟! أيرى أن الانتخابات في مصر على ما هي عليه الآن تتيح الفرصة للعالم والمثقَّف؟ أم هي تتيحها لأقرب المرشحين إلى الناخبين وأكثرهم خدمة لمطالبهم التي غالبًا ما تكون استثناءً وخروجًا على القانون واعتداءً على عدالة الفرص؟!

أيستطيع أستاذ في الجامعة يحتاج المجلس التشريعي إلى رأيه وعلمه ودراسته وممارسته أن يقترب من دائرة انتخابية وينجح فيها؟! ومن أين له هذا وهو مشغول بدراسته وبقضايا وطنه يتعمقها تعمُّق أستاذ عالم … إنه إذا رشَّح نفسه يضمن السقوط الفادح إن شاء الله، وأغلب الأمر أنه لن ينال مائة صوت من آلاف الناخبين؟!

أيستطيع مثقَّف أن يُرشِّح نفسه؟ أيستطيع طبيب أو مهندس أو محامٍ أو اقتصادي؟ هيهات إلا أن يكون قد تنازل عن كثير من الوقت الذي كان يجب أن يكرِّسه لعلمه ليخدم مصالح الأفراد في دائرته، وإني لأعلم أنه بين أعضاء مجلس الشعب اليوم، وفي كل مجلس أساتذة عظماء، وكان في مجالس قبل الثورة ساسة عباقرة، ولكنهم في كل المجالس كانوا قلة نادرة، ومصر اليوم تحتاج أن تكون مجالسها التشريعية زاخرة بكنوزها الثقافية؛ فهي اليوم أشد ما تكون حاجة إلى علم العالم وجرأته في الحق وقدرته على أن يُعلن الرأي في سبيل مصر، لا من أجل أشخاص في مصر.

والانتخاب بالقائمة النسبية لن يُبعد الموجودين اليوم، فكل حزب لا يمكن أن يستغني عن النابهين فيه، ولكن المؤكَّد أن عدد النابهين سيزداد، وتصبح المجالس التشريعية قادرةً على أن تواجه الأزمات التي تُعانيها. فيا أيها الكاتب رفقًا بمصر، ورفقًا بالحرية، ورفقًا بالديمقراطية، واتقِ الله فيما تكتب … فإن الكاتب أولى الناس بأن يخشى الله؛ ولاءً لوطنه، ورعايةً لحقِّه، وشكرًا لرب العرش أن حمَّلَه أمانة القلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤