المحافظات وفلسفة الإعلان

خرج علينا العالَم الغربي بنظرية أدبية ذات أسماء كثيرة، منها العبث، ومنها اللامعقول، وكلها تؤدِّي إلى معنى واحد هو البُعد كلَّ البُعد عن المنطق والعقل.

وسار في ركب النظرية كثير من شبابنا، ووقع في أحابيلها جيل كثير بالغ في الإعجاب بها، حتى لقد أنشأ بعضهم مجلة خاصة لهذا العبث لم تستطع أن تقيم في الحياة أكثر من عددين أو ثلاثة، ثم اختفت تمامًا. وأذكر أنني حاولت أن أفهم شيئًا من هذه المجلة فاستعصى عليَّ الأمر. ولكنني كنت أشاهد كُتَّاب هذا اللون يقرءون لبعضهم البعض، ويتبادلون عدم الفهم مع تبادل الإعجاب.

وقد كتب في هذا الشكل أستاذنا توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، فجنحا إلى طريق آخَر، فقد استطاعا أن يجعلا المعنى الإجمالي لأعمالهما واضحًا، وإن كانت سطوره غير واضحة. وبهذا وصلا إلى المعقول عن طريق اللامعقول. وقد أغراني هذا الذي صنعاه، فكتبت في هذا الشكل قصتَين أو ثلاثًا، لا أذكر.

وطغى هذا الشكل طغيانًا كبيرًا على المسرح، وكثرت الأعمال في ميدانه، وتكاملت له مدرسة.

وكان لي فيه رأي: أنه يصلح أن يكون موضوعًا لعمل أو اثنين أو ثلاثة، ولكنه لا يستطيع أن يكون نظرية أدبية ثابتة تستمر على مدى أجيال. وأحسب أن ما توقَّعتُه قد حدث فعلًا، وماتت النظرية، وعدل عنها روَّادها بعد أن اختانت من حياة الشباب فترة غير قصيرة من حياتهم الأدبية.

ومجمل النظرية فيما أحسب أن هذه الحياة عبث، وأن التعبير عن العبث لا يكون إلا بالعبث. وكما ترى تصلح هذه القالة أن تُقال وتُسمَع مرة أو اثنتين أو ثلاثًا. ولكنك إن ظللت تقولها في كل عمل عزف عنك الذوق الأدبي، ورفضت نفوس المستقبلين أن تستجيب لك.

وهكذا ماتت النظرية حتى لم يعُد أحد يسمع عنها شيئًا.

ماتت النظرية في أدب القصة والرواية والمسرح، واتجه روَّادها إلى الأعمال الأدبية المعقولة. بل لقد بالغ بعضهم ورضيَ أن يكتب الرواية البوليسية، وهي أقل الروايات شأنًا في ميزان الأدب، وارتأى هذا البعض أن الرواية البوليسية أكثر قيمة بالنسبة إليه وللقارئ جميعًا.

ماتت النظرية إذَن قبل أن تعيش، وانصرف عنها كُتَّابها، ما دام الكُتَّاب توقفوا عن كتابتها، فالنتيجة الحتمية أنها أصبحت بلا قرَّاء. فلا يمكن عقلًا أن يكون هناك قرَّاء لشيء ليس له كُتَّاب. وربما كان هذا القول يعكس مثالًا رائعًا لأدب العبث، وقد رأينا في ظل النظرية مَن يقرأ ورقًا أبيض لا كتابة فيه، أو ساعة بلا عقارب، أو غير هذا مما لا يسيغه منطق أو عقل.

ماتت النظرية في الفن الأدبي، ولكني أراها ما تزال تعيش أقوى ما تكون الحياة في شتى مناحي حياتنا العامة.

وإلا فبربك اذكر لي سببًا واحدًا يجعلني أرى في تلك الإعلانات التي تنشرها المحافظات أمرًا معقولًا يسيغه منطق أو يرضى به عقل.

ما هذا الذي تصنعه المحافظات؟! ومن أيِّ أموال ينفقون على تلك الإعلانات التي ينشرونها في الصحف اليومية؟!

وقد أسيغ أن تحتفل المحافظات بعيدها القومي في حفل وسمَر يُعيد إلى أبناء المحافظات ذكرى أمجادهم وأمجاد أبناء المحافظة من العظماء.

وقد يصلح أن تخلق المحافظة الأسباب للترفيه عن بنيها في وقدة الحياة الثقيلة الخطى الشديدة الوطأة. فالنفوس في أيامنا هذه تحاصرها أنواع من الهموم شتى، وتحيط بها ألوان من الأسى لا يقف لها عدد، أو تنتهي بها حدود، وحسبك ما نعانيه من ضيق الطريق عند الموارد، واتساع الطرق وانفساحها عند المصارف والأنفاق. فلعلَّ حفلًا أن يُنسي همًّا، وإن كان من المؤكَّد أنه لن يُزيحه.

فلسفة الحفلات إذَن قد تجد لها عند العقل مبرِّرًا، أو هي واجدة باليقين عند النفوس قبولًا.

ولكن ما قصة هذه الإعلانات التي نراها في الجرائد اليومية؟! الذي أعرفه أن الإعلان يكون في أغلب الأمر صادرًا من تاجر يريد أن يبيع بضاعته، أو مالك لعقار أو منقول يُريد أن يستبدل بالمال السائل ما يملكه من عقار.

ويكون الإعلان في حالات قليلة من مشترٍ يبحث عن شيء لا يجده في مألوف حياته اليومية، ويريد أن يعلن عن حاجته وليشتري هذا الذي يريد شراءه منقولًا كان مبتغاه أو كان عقارًا.

هذا هو ما أتصوَّرُه في الإعلانات. ولكنني — كعادتي دائمًا — أتشكَّك في كل معلومة أنا غير متخصِّص في شأنها، وأنا في باب الإعلان لا أعرف شيئًا على الإطلاق، فتلك صناعةٌ أنا بعيد عنها كلَّ البُعد. ومن أجل هذا لم أطبع لنفسي كتابًا على نفقتي الخاصة قط، وما أظن أنني فاعل ذلك أبدًا. وقد جعلني شكي فيما أعلمه عن الإعلان ألجأ إلى الأستاذ الأخ الصديق أبو السعود إبراهيم، أمين مكتبة الأهرام، أستعينه أن يرسل إليَّ تعريفًا عن هذه المادة، وإني ناقل إليك ما أرسل:

الإعلان وفلسفته هو عملية اتصال تهدف إلى التأثير من بائع إلى مشترٍ، حيث يفصح المُعلِن عن شخصيته، ويتم الاتصال من خلال وسائل الاتصال العامة، أو هو فن إغراء الأفراد على السلوك بطريقة معيَّنة تؤدِّي إلى تمام الصفقات المنشور بشأنها الإعلان.

هذا ما يُعرف به الإعلان إذَن، فأنا غير بعيد عن فلسفته. وما أحسب أحدًا يبتعد عن هذا المعنى فيما يدريه هو بخبرته عن الإعلان.

إذَن، ما خَطبُ هذه المحافظات المعلنة؟ وعن أي شيء تُعلن؟ إنه من الطبيعي والمعقول أن تنتهز المحلات التجارية فرصة عيد المحافظة لتُعلِن عن نفسها وتروِّج بضائعها، وإنما سؤالي وعجبي عن الإعلان الرئيسي للمحافظة تتصدر إعلانات التجَّار جميعًا.

أليس هذا الإعلان يثبت أن نظرية العبث وغير المعقول ما زالت تسيطر على بعض الناس؟!

إنه من المؤكد أن المحافظة لا تنوي أن تبيع نفسها لأيِّ مشترٍ مهما يكُن شأنه.

وهي باليقين ليست سلعة، بل هي باليقين أيضًا لا مالك لها، فهي جزء من دولة ذات دستور وسلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية، ويَسري عليها ما يَسري على ربوع هذه الدولة في حدودها الأربعة.

فعن أيِّ شيء تُعلِن المحافظة إذَن؟!

أتراها تريد أن تُعرِّف الناس بها؟!

فتلك إذَن مصيبة لا كاشف لها إلا الله القاهر فوق عباده. أم تراها — وأنا لا أدري — تعلن عن نفسها لتعرِّف الناس باسم محافظها؟!

وإن كان الأمر كذلك — وما أحسبه إلا ذلك — فأي فائدة تعود على السيد المحافظ أن يقرأ الناس اسمه في إعلان؟!

إن الناس تحب أن تقرأ أسماء الناس — حتى المحافظين — حين يقومون بعمل يستحق أن يُذكَروا من أجله، ولا يحب الناس — وهم مُحِقُّون — أن يقرءوا أسماء الناس لا لشيء إلا لأنهم في وظيفة مُعيَّنة.

فإننا إذا ما ذكرنا اسمًا دون أن نذكر له فعلًا مُعيَّنًا نكون بهذا قد كتبنا جملة غير مفيدة نُقش فيها المبتدأ دون أن يُذكر الخبر. ولا يمكن أن تستقيم جملة بغير مبتدأ وخبر. فأيُّ معنًى يمكن أن يصل إلى عقولنا إن قلنا «نعمان» مثلًا ولم نقُل ماذا فعل نعمان هذا لنذكره. واكتب نعمان ما شاء لك هواك من عدد المرات فإنك مهما تكتب تظل غير مفهوم عند مَن تخاطبهم، وكأنك لم تقُل شيئًا إلا أنك زدتنا بنعمان جهالة.

وقد أرى في هذا الإعلان أن المحافظ يرفع إلى السيد الرئيس تهنئاته وإجلاله ودعاءه.

وغريب أن يكون المحافظ — هو بدرجة وزير وقد لقي الرئيس عدة مرات — على غير علم وافٍ بأخلاق رئيس الجمهورية.

أبعد ما يكون حسني مبارك عن الرغبة في التأليه، وأكثر الناس عزوفًا هو عن تحيةٍ تُقدَّم بغير داعٍ، أو تهنئة تسعى إليه بلا مناسبة.

متواضع هو كلَّ التواضع، إنسان عميق الشعور بالإنسانية، أزهد ما يكون في البريق وفي المظهر، أعرف الناس أن منصبه جهد وعمل ومسئولية ومشقة، وليس منصبه — كما يتخذه آخَرون — وسيلة لدعاية أو استجلابًا لمديح أو طريقًا إلى تكبُّر.

يَعرف رئيس الجمهورية الدافع خلف كلَّ هتاف فردي، والباعث الذي يتخفى وراءه أيُّ تبجيل، بل ويعلم أن بعض الناس يطلبون أن يقابلوه لمجرَّد أن يقولوا في مجالسهم إنهم قابلوا الرئيس، ويعرف أن هناك أثرياء وذوي ثراء باذخ أصابوا من المال ما شاءوا، ولم يبقَ لهم إلا أن يتخذوا سمت أصحاب النفوذ والكلمة المسموعة، فهم يحسون — وهم مُحِقُّون — أن المال وحده لا يصنع للفارغين قيمةً، ويعرف الرئيس أن كثيرًا من هؤلاء يحاول أن يلقاه ليقنع نفسه أنه بلغ من الحياة تلك القيمة التي يفتقدها في ذاته فيفقدها.

ففيمَ إذَن يحاول المحافظ أن يُقدِّم التحية للرئيس؟! علم الله أن الرئيس يرى أن إنتاج وحدة وحدة من سلعة مصرية أحب إليه من ألف تحية لا معنى لها، ولو أن المحافظ أنفق الوقت الذي بذله في تدبيج التحية والمال الذي أنفقه من الخزانة العامة يعود على إقليمه الذي هو جزء من مصر بشيء من الخير، لكان هذا أجدى له وأنفع، ولكان فعله حبيبًا إلى رئيس الجمهورية، في حين يكره الرئيس أن يتخذ المحافظ من اسمه وسيلة لإعلان عن لا شيء، فإن الرئيس حسني مبارك يعمل نهاره وليله ليحطِّم اللافتات المرفوعة على الفراغ، ليحلَّ مكانها عمل وجهد وإتقان وجدية وصدق وشرف، والله على ما أقول شهيد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤