حيرة …؟!

إلى الرحاب القدسي من ساحة الرحمن يتوجَّه المكروب والملهوف وذو الحاجة، فيجد نفسه المظلمة الخراب قد أشرقت بالنور الإلهي. أينعَ نَبتُها، واخضلَّ زرعُها، وأطلَّ الندى جديبها، واستقبل الحياة بعد إدبار، واتسعت الآمال بعد اليأس.

فيا لهؤلاء المساكين الذين لا إله لهم! إلى مَن يتوجهون؟ وإلى أيِّ مشرق أمل ينظرون.

ويل لهم! لقد اختاروا لأنفسهم اليأس الذي لا أمل له، والكرب الذي لا فرجة فيه، والسواد الذي لا يستطيع شُعاعٌ أن يكشفه.

فلا عجب إن كانت نفوسهم كلها حقدًا خالصًا، ولا غرو إن كانت قلوبهم كلها كراهية داكنة معتمة.

هم لا يستطيعون أن يقدِّموا حبًّا؛ لأنهم لا يعرفون في قلوبهم إلا البغضاء والتحاقد والسخيمة والدمار.

وهم لا يريدون في الحياة سلامًا؛ لأن نفوسهم موات ودماء وقهر وطغيان، وكيف لهم أن يعرفوا غير هذا وهم لا يؤمنون بالله السلام الرحمن الرحيم الغفور.

الذين لا يعرفون الله يريدونها حربًا بين أبناء الوطن الواحد، وحربًا بين أبناء الجنس البشري أجمع، فمع الحروب يسود الخراب، وفي الأرض الخراب تنبت أزهارهم، ويخضلُّ نبتهم، وعلى الخراب يقيمون عروشهم؛ أركانها: قهر الإنسان، وقتل الإيمان، وكراهية الحب، ونزع الأمان، وإشاعة البهتان، وإفشاء الذعر، ونشر الفوضى، ومحاربة القانون، ومنع الخير، ومباركة العدوان.

فلم يكن عجبًا إذَن أن يتحد الناصريون والشيوعيون، وإن كان كثيرٌ من الناس — وأنا منهم — قد عجبوا في الوهلة الأولى التي شهدنا فيها تحالفهم، كان عجبنا أننا شهدنا الشيوعيين يلقون ألوانًا من العذاب، وصنوفًا من تدمير عناصر الرجولة والإنسانية فيهم على يد العهد الناصري.

وكنا نحسب أن التنافر بينهم سيظل إلى أبد الآبدين، ولكننا فجأةً وجدناهم هم السادة الحكام يتسنون مناصب الصحافة والإعلام والفنون، ويملئونها من أشياعهم ومناصريهم، ويملئونها أيضًا ممَّن لا يؤمن بمذهبهم، ولكنه يريد أن ينشر إن كان كاتبًا، ويريد أن يمثِّل أو يُخرج إن كان ناشئًا، ويريد أن يعيش إن لم يكن لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

وما زالت آثار أغراسهم باقية حتى اليوم في شتَّى الأنحاء تحارب غير الشيوعي أو غير الناصري، وتبارك كلَّ ما هو كفر وإلحاد وتمجيد للطغيان وتعظيم للظلم والقهر والعدوان.

وهكذا لا نسمع شيئًا عن حرب رمضان إلا أن يكون هجومًا ورفضًا، مما اضطر رئيس تحرير الأهرام أن يصيح بهم في مقاله الأخير: أفيقوا واعدلوا فإن الأمر ليس لهوًا ولا لعبًا.

وأنا أكتب هذا الكلام اليوم بعد أن فكَّرتُ حتى ضاقت بي مسالك التفكير.

أما الشيوعية فنظرية واضحة المعالم معروفة الأسس، طبقت في بلاد كثيرة؛ لأن لها كيانًا يستطيع مَن يريد التعرُّف عليها أن يجده.

وصحيح أنها فشلت عند كل تطبيق، إلا أن هذا لا يمنع أنها نظرية لها معالمها المميزة.

وصحيح أن أي دولة لا يمكن أن تطبقها إلا إذا ألغت تمامًا فكرة الأديان، إلا أنها تظل مع ذلك فكرة ذات سمات ظاهرة. وصحيح أن الصين أضخم دولة في التاريخ وجدت في تطبيقها الخراب والدمار، مع أن الصين كان يمكن أن تقول حَسْب الفرد منا رغيف العيش، وليذهب كل ما عداه إلى الجحيم، وليس توفير ألف مليون رغيف ثلاث مرات أو مرتين في اليوم بالشيء اليسير، ولكن الصين وجدت أن النظرية ألغت الإنسانية في الشعب الصيني، ولم تستطع مع ذلك أن توفِّر رغيف العيش ذلك؛ لأن الصين تعتمد على مواردها وحدها، وليست مثل الاتحاد السوفيتي الذي يعتمد على موارد كل الدول التي أرغمها أن تكون تابعة له.

صحيح هذا؛ ولكن تظل النظرية الشيوعية مع ذلك نظرية يستطيع مَن يدرسها أن يجد لها مقدِّمات ونتائج ومعالم وملامح.

ولكن الذي أريد أن أعرفه والذي استغلق عليَّ: ما هي النظرية الناصرية؟ ما هي المبادئ التي يمكن أن يقوم عليها الحزب الناصري؟

المبادئ التي يمكن أن أتصوَّر أن تُقال غير قابلة للإعلان، وإلا فتصور معي ما طاف بخاطري.

المبدأ الأول: قتل حرية الإنسان المصري في العمل أو القول أو التفكير؛ بحيث يتم اعتقال كل مَن يظن العاملون في المخابرات من رجال ونساء أنه أتى شيئًا من هذه الممنوعات بأي صورة من الصور، والعقوبة تكون الاعتداء على المال أو العرض أو الأرواح أو كل هذه العقوبات.

المبدأ الثاني: أموال الدولة كلها ينبغي أن تكون في خدمة الحزب، يتصرَّف فيها كيف يشاء، وينفقها الحزب في الأغراض التي يرى أنها تحقِّق له الشهرة والهتاف، ولما كان لحزب هو مصر جميعًا فكل إنجازٍ يحقِّقه الحزب لنفسه إنما يحقِّقه لمصر جميعًا.

ولو مضيت في هذا السبيل ما توقَّف القلم قبل أن يكتب كتبًا كاملة لا عدد لها.

وإذا كان الحزب الناصري سيتبنَّى النظرية الشيوعية، فما الحاجة إليه ما دام منضمًّا بكل أعضائه إلى الشيوعية وأحزابها الظاهرة والخفية.

وإذا كان سيتبنَّى المبادئ التي نادت بها الثورة في يوليو عام ٥٢ أفلا يعتقد أن هذه المبادئ قد طبقت فعلًا بكل أمانة في غير العهد الناصري؟! وعلى كلِّ حالٍ فما دامت طُبِّقت والدستور يضمن الحفاظ عليها، ففيمَ إذَن يقوم حزب ليضع مبادئ موضوعة فعلًا، ويضمن بقاءَها دستورٌ وحزب وحكومة ومجلسان تشريعيان؟!

حيرة … ولكن الله سبحانه الذي يهدي السبيل، وينير الظلام، ويزيل الحجب قادر أن يزيلها، وإنه على كل شيء قدير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤