بهلوان في لوزان

أجلس في لوزان على مقهى صغير في ميدان شهير هنا يُسمى ميدان سان فرنسوا، ويمتاز هذا المكان بالهدوء وكثرة المارة، وعجيب أن يجتمع في مكان واحد الحركة والهدوء في وقت معًا، أحببت سويسرا كلها من هذا الميدان، فالناس دائمًا في سعادة وفي إقبال على الحياة دون أن تعدو هناءتهم على هدوء الآخَرين؛ فالسعادة عندهم ابتسامة تُنبئ عن قلب ليس فيه ما ينغص حياته، والإقبال على الحياة عندهم توسعة للآخَرين أن يُقبلوا على حياتهم.

وفي اليوم التالي لوصولي إلى لوزان ذهبتُ إلى المقهى في الصباح فوجدتها على عهدي بها، ولا أدري ما الذي جعلني أفكر أن أذهب إليها في بعد الظهيرة أيضًا، وقليلًا ما أفعل، فوجدت الميدان مزدحمًا متحلِّقًا حول بهلوان يعرض ألعابه عليهم وهم على مشاهدته مُقبِلون. وفكَّرتُ قليلًا، وعجبت كيف أهرب من البهلوانات في القاهرة أجدهم سبقوني إلى لوزان. ولكنني عُدت إلى نفسي وفكَّرتُ أن هناك فرقًا. فبهلوانات القاهرة يعرضون ألعابهم وقد تزيَّوا بزي المحترمين من القوم، وأسفروا للناس عن وجوههم التي خلقهم الله بها، واتخذوا أدوات البهلوانية من العمل والقلم والورق، وادعوا الحق وهم في أقصى الباطل، وتظاهروا بالأمانة وهم غرقى في الخداع والمخادعة.

أما بهلوان لوزان فهو بهلوان يُعلن على الملأ أنه بهلوان ولا خفاء، وبهلوان لوزان ينشد الحصول على صبابة من مال، ويقولها في صراحة ووضوح ويتزيَّا لغايته في ملابس البهلوان، ويصبغ وجهه بصبغة المهرِّج، فهو بما يقدِّم سعيد، والناس بما يرون منه سعداء بغير حقيقته، وهو يقف على أرجل طويلة، ولكنه لا يحسب بهذا أنه أرفع من الناس قدرًا، أو أنه قادر بذلك على أن يخدعهم عن حقيقة قامته. وبهلوانات القاهرة قصار القامة، ضئيل حجمهم بكل المقاييس، ولكنهم في جرأة المنافقين يحاولون أن يموهوا على الناس — ويجعلوهم يظنون بهم ارتفاع الهامة وشموخ الرأس، ولو كانوا على قدرٍ — ولو ضئيل — من الذكاء لقدَّروا أن أول مبادئ الذكاء أن تقدِّر ذكاء الآخرين، وأن الشعوب هي أذكى العالم نفرًا، فمَن يحاول أن يخدعهم سرعان ما يكشفوا أمره، ويتبيَّنوا حقيقته.

مِن هذه البهلوانات مَن عملوا في خدمة الطغيان، فكانوا الآلة الصمَّاء تمسك بهم يد حديدية فراسة باطشة، راحت تلعبهم وتتلاعب بهم.

ومنهم مَن كانوا لصاحب السلطان، أو قُل لصاحب الطغيان، جواسيس ينقلون إليه أنباء الآمنين من الناس، فإن لم يجدوها لفَّقوها، ثم جعلوه يتخذها ذريعة لكل ما تقشعرُّ منه الإنسانية، وتأنف أن يكون بين أفرادها مَن يُفكِّر فيه، بَلْهَ يصنعه.

ومنهم مَن أمر بهم أن يكونوا قوَّاد جيوش وأساطين حرب، فإذا بطولاتهم تسفر عن ٦٧ وحسبهم هي خزيًا.

وجميع هؤلاء اليوم يُريدون أن ينتفضوا عن وطنيين مرنوا على مكاذبة الحياة والغدر بعقول المصريين، فهم يسعون جهدهم أن يعودوا إلى الحياة العامة، وليس يبالون تاريخهم الأسود، بل هم يدَّعون اليوم أنهم كانوا يرفضون ما كان يحدث، ولا أدري ماذا هم قائلون عما اقترفوه فعلًا وهم قضاة أو رجال دولة. ولست أدري أيضًا ماذا هم قائلون عمَّا اغتالوه من أموال لأنفسهم وما زالوا ينعمون بها حتى اليوم، إلى جانب ما اغتالوه من أرواح بشر مصريين، وما اغتالوه من كرامة مصر نفسها، بل إن منهم مَن يصوِّر له وهمه أنَّ إنقاذ اقتصاد مصر مُعلَّق بعبقريته، فهو يُعِدُّ المشاريع ليُزيح عن مصر الهول الآخِذ الذي كان هو نفسه من الدعامات الكبرى في إنزالها بمصر.

بهلوانات كثيرة ذكَّرَني بها ذلك البهلوان، ولكن بهلوان لوزان لم يسئ إلى بلاده، ولم يشارك في انتهاب أموالها، والبهلوانات الآخَرون شقوا الأفق ليُغيِّبوا فيه شمس مصر يريدون اليوم أن يعرفوا الأيدي التي تحاول أن تشدَّ شمس مصر من مغربها لتعود إلى الإشراق على ربوعها، ولتزدان مصر بالحرية التي خنقوها، وتهنأ بالحب الذي جعلوه حقدًا وبغضًا وكراهية. وبالسلام بعد حرب منتصرة حقَّقْناها بعد أن أشعلوا هم الحرب على أبناء مصر حين فشلوا في حروبهم مع أعداء مصر.

العود أحمد!

أنا أعدُّ نفسي للعودة من بلادٍ الإنسانُ فيها أعلى قيمة في الوجود … وأنا أكتب هذا وأنا في سويسرا، بلاد الجبال والبحيرات … كيف استطاعوا أن يُخضِعوا الجبال وهي الشاهقة البالغة أعنة السماء للإنسان؟ فهي متعته، وهي رياضته ونزهته، والبحيرة يركبها ذلولًا تشرق للإنسان بأكمل ما فيها من وجوه أنت عليها بطل … كيف أصبحت الجبال الصخرية الصلدة أرضًا خصيبة معطاء؟ وكيف غدا الصخر الصلب الشديد بيوتًا هي زينة ومتعة في عين الرائين، وهناءً ورغدًا لعيش الساكنين؟

وتمشي في الطرقات فتجد المصاعد الكهربية تُوفِّر عليك عناء الصعود أو الهبوط، وترى الطريق أمامك يضحك لك يستقبلك، امشِ بإذن الله سليمًا مُعافًى، فلا خوف عليك من عثرة، ولا ضير على قدميك من مفاجأة، أنت آمِن في خطاك هادئ بسَيْرك في جنبات المسالك.

وكنت قد انتويتُ أن أعود إلى مصر في آخِر هذا الشهر، ولكن فجأة عافت نفسي الحياة في أكناف لوزان الفيحاء، وفي إشراقة الدنيا بها، وملَّت نفسي السعادة في صباح ومساء. الصباح إشراق لا تلقى فيه إلا الوجوه الوضيئة بالأمن الراضية عن العيش، والمساء هدوء وسلام.

وتاقت نفسي إلى مصر بكل ما فيها من وعثاء الطريق، وغابات الأشجان، ومتاعب النفس، ونواقص الخدمات.

سئمت البلاد التي تعتبر الإنسان أغلى عناصر الوجود وسيد هذه الحياة … وألحَّ بي الشوق إلى مصر … بكل مصر … بطرقاتها المُخلَّعة، الأرصفة المحفورة، المسار بمائها، وما فيها مما ندريه ولا يدريه إلا عالم الغيب والشهادة … بشكاوى الناس من قلة الإيواء، وصعوبة النقل، ووعورة اليوم، وانكماش الغد، وضآلة الرزق، وغلاء المطلب.

وجدت الحنين إلى مصر هذه يقتلعني اقتلاعًا من مقامي بسويسرا، ويدفعني دفعات جائحة إلى بلادي، فالهناء في سويسرا ليس هنائي، والديار ليست دياري، والربوع ليست ربوعي، والنسمة تهفو إليَّ من غزالة بلدتي بجوار الزقازيق أحبُّ إليَّ من كلِّ الجمال في سويسرا، ومن كلِّ هذا الهناء في أنحائها، ومن كلِّ الطمأنينة في جنباتها، فكلُّ هذا مبذول لأصحابه وليس لي، وإن شملني منه نصيب وأنا بينهم، فكما يشمل المضيف ضيفه ببعض الرعاية، والضيف مهما ينَل من العناية يظل ضيفًا، وشعور الإنسان بأنه ليس في بيته يجعله دائمًا حذرًا، ويترقَّب يوم عودته إلى كسرة بيته وإن كان عشًّا بلا فخامة … وإن كان سقيفة بلا جدران.

وجئتُ وحمدت العودة، وأحسست وأنا هنا أنني في مكاني الذي خلقني الله له وخلقه لي هنا، أستاف عبير آبائي وأجدادي من تراب مصر، وأشمُّ أجمل هواء عرفته في حياتي؛ هواء مصر، فإن حبنا هنا، وما مضى من أيامي هنا، وما هو في مطوي الغيب قابل هنا مثوى الذين مضوا من أعز الناس علينا ومستقبل نفوسنا ومَن هم أغلى من نفوسنا من أبنائنا.

ونحن هنا غرس في أرضه ونبات في مكانه. أصل نحن هنا، وفروع وماضي نحن هنا، حاضر ومستقبل نحن هنا … نحب هنا بقلوبنا ومشاعرنا ونبضات عروقنا، وليس مع هؤلاء منطق إلا الحب.

ودخلت إلى مكتبي في الأهرام، أعز مكان على نفسي بعد قريتي وبيتي، وقرأت بريدي، ورحت أقلِّب الصحف التي لم تكن تصل إلى غربتي. ووجدت مجلة الأهالي في أسبوعها الماضي، كلما قرأتها تملَّكَتْني الحيرة … ماذا يقول هؤلاء الناس؟ وما لهم ينصبون هكذا بعدوانهم الوقح على الحقيقة يريدون أن يدمغوها بالبهتان؟ وما لهم يعترضون الطريق القويم بأسلحة الزور والكذب والتمويه؟!

في صراعهم مع عبد الرحمن الشرقاوي، وليس الشرقاوي بحاجة إلى أحد أن يقف إلى جانبه؛ فهو وحده قادر وأكثر من قادر أن يمحق حجتهم بقلمه الشامخ الجريء.

والحق في جانبه واضح … وهو ابن مصر لم يتلكأ على أبواب المخابيل من حكام ليبيا، ولم يصانع أثرياء البترول بقلمه أو كَلِمه.

ولم يقُل عن أحد أنه نبي جاء في غير موعده؛ لأنه مسلم ويعلم علم يقين أن سيدنا محمدًا — عليه صلاة الله وسلامه — هو خاتم الأنبياء، وهو قد قرأ تاريخ الأنبياء، وعلم أنهم قمم الإنسانية، وأي قمة أعلى من اختيار رب الناس ملك الناس إله الناس لحمل الرسالة، وهو يعلم كما يعلم كل مؤمن أنه لم يحدث أنْ ظهرَ نبي مجنون يخرب الأرض حواليه، ويحرق الدنيا جميعًا في جنون الزعامة وبمال الشعب الذي فرض عليه حاكمًا.

ولكن الأهالي تقول إنه نبي جاء في غير موعده.

أهم مؤمنون بالأنبياء الذين جاءوا في موعدهم حتى يؤمنوا بالنبي الذي جاء في غير موعده، وجعل معجزته محاولته السافلة الحقيرة أن يغيِّر في القرآن الكريم.

ولم يقُل الشرقاوي إن القذافي آخِر الصقور، ولست أدري مَن هؤلاء الصقور السابقون حتى أدري آخِر الصقور، إلا أن يكونوا يقصدون بقولهم هذا أنهم الطواغيت الذين يختطفون ما ليس لهم بحق والذين ينهشون لحوم الموتى، والذين يأكلون الجيف. إن كان هؤلاء هم الصقور الذين يقصدون فاللهم نعم، إنه صقر … واللهم ياذا المَن سبحانك اجعله آخِر الصقور، فما أبغضَ الناسُ شيئًا قَدْر بغضهم للطواغيت العتاه الظالمين السافكين دم شعوبهم وأهليهم.

أنا إذَن لن أقف في جانب الشرقاوي، فهو ليس في حاجة إلى أحد أن يقف إلى جانبه، بل ربما عارضته أيضًا فيما أطلقه من اسم «اليسار الوطني» على جماعة بعينها، فأنا لا أعرف في مصر عددًا من الناس يمكن أن يُكوِّن جماعة اسمها «اليسار الوطني»، وإنما هم أفراد قلة مثل الشرقاوي — ومحمود توفيق وفتحي غانم، وربما تكون هناك بعض أسماء أخرى لا تسعفني بها الذاكرة، ولكنهم على أية حال لا يكونون جماعة يمكن أن تحمل اسمًا.

وإنما أنا أريد أن أسأل الأهالي وأصحابها: ما هجومهم هذا اللئيم الجانح على أنور السادات عملاق الحرب وعملاق السلام؟! أليس هو مَن أنشأ حزبهم وأنشأ مجلتهم واختار من بينهم اثنين جعل منهما وزيرَين عاملَين؟! … أهذا ذنبه عندهم أم هذا جزاؤه أم على قلوبٍ أقفالها؟

وما قولهم إن الأهرام جريدة حكومية؟! ألا يعرفون أن الأهرام مؤسسة لها من المال ما يستطيع أن يخرج عشر جرائد في حجم الأهرام بما كسبته من ثقة عند الناس في مشارق الأرض ومغاربها. فالحكومة إذَن لا تدعم الأهرام، ولكن فليقولوا لي هم — ما داموا ينكرون أنهم يتقاضون الأموال من الدول الشيوعية ودول اليمين ودول البترول — كيف تصدرون أنتم؟ ومن أي الموارد تنفقون على مجلاتكم؟ إن اشتراكات أعضائكم كلها في عام بأكمله إذا كانوا يسددونها لا تكفي لإصدار عدد واحد من مجلة واحدة من مجلاتكم؟!

إذَن فأنتم تصدرون بدعم من الحكومة … منه الدعم الظاهر الذي قرره لكم السادات، ومنه الدعم الباطن المتمثِّل في إعلانات الوزارات والقطاع العام، فإن القطاع الخاص لا يمكن أن يعلن عندكم … وكيف يعلن ويقدِّم مالًا لإعلان في جريدة لا يقرؤها إلا المئات مشتتين في أنحاء مصر؟!

أنتم إذَن الجريدة الحكومية، أما الأهرام فإنه الأهرام، وأنتم تعرفون وإن رغمت أنوفكم ما معنى كلمة جريدة الأهرام في الآذان وفي النفوس وفي أنحاء العالم أجمع.

قرأت الأهالي عند عودتي لمصر، وحزنت أن بين ربوع مصر أمثال هؤلاء، ولكن مالي لا أقول مع المتنبي:

فإن يكن الفعل الذي ساء واحدًا
فأفعالك اللائي سررن ألوف

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤