لا يغلب ظلمٌ حقًّا

قال الشاعر:

تلوا باطلًا وجلوا صارمًا
وقالوا صدقنا فقلنا نعم

وقد شاء الله لمصر أن تميع فيها الأمور، ويجلس على عرشها ملك كان في زمانه شر الملوك جميعًا، طيش أحمق، وخفة جاهل، وغيبة ضمير، وسوء مظهر ومخبر.

وكانت الثورة يومذاك أملًا، وتحقَّق الأمل، وأشرقت نفوس الشعوب مرتقبة الفجر، ولكن صدق على مصر بيت الشعر:

على الذم بتنا مجمعين وحالنا
من الرعب حال المجمعين على الحمد

ولم يكن الشعب يستطيع أن يصنع شيئًا، وسيف الظلم مشهر على الرءوس، فلم يكن للشعب بدٌّ من أن يقول نعم، واللهو بحياة الشعوب لا بد أن ينتهي بكارثة تحل على الجميع. الباطشين ومن بطش بهم في وقت معًا، وكانت كارثة ٦٧ فإذا هي تتسع ويتأجج سعيرها، فيشمل العالم العربي أجمع، ولا تكتفي بمصر وحدها، وإنما هي تمعن في بلواها فتحطم مع كرامتنا تاريخنا وأمجادنا وآمالنا.

ولما كانت سنة الكون أن تتأدى كلُّ موجة فيه إلى انحسار، فقد أذِنَ الله لمصر أن يتولى أمورها رجل راشد صادق الوطنية عميق الشعور بمصريته، ووقف ينظر الخراب، وأدرك أنه بين اثنتين ولا ثالث لهما. إما أن تنتصر مصر في حرب تردُّ إليها وإلى العرب الكرامة الضائعة والشرف المُزال والمحطَّم من أمجادها، وإما أن نموت جميعًا في ساحة القتال. وكثيرًا ما يكون الموت خيرًا من الحياة.

وكانت حرب ٧٣. وما كانت حرب ٧٣ لتصل إلى الانتصار الذي حقَّقَته إذا لم يكن السادات قد أدرك قبل أن يُعِدَّ لها أن الشعب يحتاج إلى أن يشعر بانتمائه إلى مصر، وأنه لن يشعر بهذا الانتماء، وهذه الطغمة من الذئاب الدموية تنتاش لحمه وكرامته وأمنه وحياته، فكانت ثورة مايو هي التمهيد الطبيعي للحرب.

وبعد أن هُزمت مصر في ٦٧ وليس بيننا وبين العدو قناة السويس ولا خط بارليف انتصر الجيش المصري نفسه، وعبَر بحور النار، وحطَّم أسطورة بارليف، ورفع العلم المصري على جبالٍ كنا على يقين أن القدم المصرية لن تطأها.

وشفع السادات هذا الانتصار الحربي الذي أذهل العالم بانتصار سياسي لم يسبق له مثيل في التاريخ، وحقَّق لمصر السلام الذي لولاه لكان حالنا اليوم مثل الشعب اللبناني الذي أمست حياة أبنائه نهبًا للصديق والعدو، وللحليف والخصم، حتى لا يدري بين الذين يعيشون في ساحته مَن محب ومَن كاره، ومَن يؤازره ومَن يهاجم، وحسبه الله ونعم الوكيل. ولما كان العظماء يقدمون دماءهم ثمنًا لشجاعتهم، فقد شاء الله سبحانه في علياء سمائه أن تكون نهاية السادات في يوم مجده وفخاره، وأن يُراق دمه فداءً لشجاعته. وحكمَ مصر «حسني مبارك»، وقد أدرك أن الحكم اليوم للحرية الحقة الصادقة، وليست الحرية المكذوبة المشوهة. فمصر اليوم عزيزة الجانب مطمئنة إلى سلام موثق لا شك فيه، ومصر تحتاج إلى أن تستعيد الثقة المالية التي محاها الطغاة، والثقة لا تعود إلى دولة إذا لم تكُن الحرية هي أساس الحكم فيها، وقاعدة الحياة بين ربوعها.

وأتاح «حسني مبارك» للحرية في مصر أن تكون هي الحياة، فأصبح تجار الكلام أدعياء البطولة يستخدمون الحرية في الاعتداء على أقدار الناس. ولكن تلك هي الحرية، ولم يكن «حسني مبارك» يجهل أن الحرية تفتح ساحتها للشرفاء ولغير الشرفاء. وهكذا اتضح الرئيس «حسني مبارك» عن زعيم يعتبر قمة في القوة وشدة البأس.

وكانت قوته متمثِّلة في قبوله لكل ما يُقال، لا يحاول أن يستعمل سلطاته في قمع قائل، أو في إسكات مبطل، أو إسكات مبطل كذوب. وإنما جعل الأمر للرأي وحده ودون أن يتدخل السلطان في هذا الرأي، فالقوة الحقة إنما هي أن يملك الحاكم نفسه، لا يفلت من يده زمام الأمر في غضبه أو سخطه، فالحاكم أقوى ما يكون الحاكم هو الواثق بأن ما يفعله هو الحق، وما يتغياه هو الخير.

فإذا انتقد ناقد نظر فيما يقول فإن كان حقًّا انتفع به، وإن كان باطلًا أعرض عنه دون أن يمس المبطل بأذى، وحسبه رأي الناس فيما يقول ولما كانت الحرية في مصر اليوم كإشراق الصباح الذي لا خلاف عليه.

فقد أدرك أولئك الذين امتصوا دماء الشعب وأصبح ثراؤهم بها يطاول أشد عتاة الرأسمالية أن لا سبيل لهم أن يعودوا إلى الحكم إلا أن يتنادوا ويصطرخوا: ضاعت الحرية، فأدرِكْها يا شعب مصر، وضاعت الثورة فهبوا يا أبناء مصر.

ولو أنهم ينشدون الحق وحده لكان تناديهم ضاعت حريتنا في قتلك يا شعب مصر، فأعد رقابك إلى أفواهنا.

وضاعت مصادر الثروة من أيدينا، فلا نملك اليوم أن نزيدها، فأعطنا ثروتك يا شعب مصر.

وهم يدركون أن الذي بقي من الثورة هو خير ما جاءت به من هدمٍ للملكية، وإعلاء لقيم هم لم يحافظوا عليها، وهم مَن حاولوا أن يطمسوها، ولكنها بقيت لأنها أصيلة.

وهم يعلمون أن الحرية التي تعيشها مصر اليوم هي التي سمحت لهم أن يصدر أحدهم بحزب ملحد جريدة أسبوعية ليس فيها إلا الهجوم السافر على رئيس الدولة، وكل شريف في مصر، وهي التي سمحت لبعض منهم أن يذهب إلى البلاد العربية ليستجدي من حكامها المال والرضا منتهزًا فرصة الخلاف الطارئ بين مصر وبين تلك الدول. وسمحت لبعض آخَرين أن يتآمر علنًا على الحكم في مصر.

وهم يعلمون علم يقين أنهم حين كانوا في طفولتهم وجبروتهم كانوا يقتلون من يضع يده لمجرد السلام في يد واحد من أعدائهم. والأمثلة معروفة ولم يعُد اليوم شيءٌ خافيًا. ولكن على قلوبٍ منهم أقفالها، وفي الوجوه منهم صفاقة لا تكون إلا للطواغيت، وإنهم لهم الطواغيت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤