مقدمة

فُطر الإنسان على الولوع باستطلاع الحقائق والوقوف على ماجَريات الأحوال، وخصوصًا ما كان منها متعلقًا بالمسائل التاريخية والحوادث الهامة، وما تركه السلَف للخلَف من جميل الآثار وجليل المآثر؛ ولذلك ترى أبناء الأمة القبطية يلَذُّ لهم كثيرًا مطالعةُ تاريخ أحبارهم العظام ورُعاتهم الكرام الذين نقش لهم التاريخ بين صفحاته بأحرفٍ ذهبيةٍ الأثَر الحميد والذكر الخالد؛ مثل غبطة الأب الجليل والراعي النبيل الأنبا كيرلس الأكبر مصلح الأمة العظيم، ونيافة المرحوم مطران القدس الشريف، وغيرهما من فطاحل الأمة وقادتها الأفاضل، الذين تركوا لهم بين ظَهرانَينا من آثار الغَيرة الشريفة والهمة العالية ما لا يقوى على محوه مُرورُ الأيام وكُرورُ الأعوام.

وليس يخفى أن نيافة الحَبْر المفضال الأنبا متاءوس مطران الحبشة نال القدح المُعلَّى واليد الطولى في خدمة أمته وبلاده، وكانت له الأيادي البيضاء والمآثر الغرَّاء في توطيد دعائم المحبة والوداد بين الأُمتَين القبطية والحبشية، وتأييد سلطة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في هاتيك الأصقاع النائية والديار القاصية. وقد ترك له بين أبناء الأمة القبطية مدة زيارته للقطر المصري الأخيرة من الحب الأكيد والميل الشديد والإخلاص العظيم ما جعل الكل يتشوَّقون على الدوام للوقوف على تاريخ أعماله الجليلة ومشروعاته النافعة، ولا يملُّون من استطلاع أخباره السارة، ومطالعتها بمنتهى اللذة والارتياح. وقد كنا نلاحظ ذلك كلما سنحَت لنا الظروف بنشر شيءٍ مما كان يأتينا من أنباء الحبشة في جريدة الوطن.

ولا نخال القارئ الكريم قد برح من ذاكرته ما كان من أمر سياحة نيافة الأنبا متاءوس في البلاد الروسية مندوبًا من قِبل جلالة الإمبراطور مناليك في مهمةٍ عالية ومأموريةٍ خطيرة، وقد انتدب نيافتُه أحد الأدباء من أبناء الأمة لمرافقته في هذه السياحة بصفته ترجمانًا للوفد، وقد عُني هذا الأديب بكتابة نبذةٍ مفيدة في تفصيل أخبار هذه السياحة، وما صادفه الوفد من مظاهر الإجلال، وما كان من مقابلته لجلالة قيصر الروس، وما دار يومئذٍ بينهما من الحديث، مع وَصفِ ما في تلك البلاد من الآثار والعادات والأخلاق، وكذلك مقابلة نيافة الأنبا متاءوس لجلالة السلطان عبد الحميد، وما شاهده في دار السعادة من جميل المشاهد وبديع الآثار؛ كل ذلك بإيضاحٍ وافٍ وتفصيلٍ كافٍ شافٍ مما تلَذُّ مطالعتُه وتفيد مراجعتُه. ولما كانت هذه السياحة لا تخلو من الحقائق التاريخية والفوائد الجزيلة، فلا يصح إغفالها ولا سيما لأن الجرائد لم تفِها وقتئذٍ حقَّها من التوسُّع والتفصيل، بل كانت تقتصر على مجرد ذكر أخبار سفر الوفد وإيابه، وانتقاله من بلدة إلى أخرى؛ لذلك لم نرَ بدًّا من طبع تلك النبذة لتكون أثرًا تاريخيًّا خالدًا ينطق بفضل نيافة هذا الحَبر الجليل (مطران الحبشة)، ويُذَكِّر أبناء الأمة على الدوام بأعمال قادتها الأفاضل ورُعاتها الكرام. ونؤمِّل أن تقع خدمتنا هذه الحقيرة لدى مواطنينا موقع القبول والإقبال، والله ولي الهداية والتوفيق على كل حال.

إدارة الوطن

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤