فاتحة

كنا ثُلَّةً من طلبة جامعة دمشق نلتقي في مقهًى قُربَ جسر فيكتوريا، ترتاده مجموعات مختلفة المشارب من أنتلجنتسيا العاصمة يُدعى الغاردينيا. وكان المقهى محطةً لاستراحة السياح الأجانب أثناء تَجوالهم في المدينة؛ وذلك لطابَعه العصري وأناقة واجهَتِه التي كُتِب على زجاجها بالعربية والإنكليزية: «الصالة مكيفة». في أحد أيام الجمعة، كنت وحيدًا في المقهى أرتشف قهوة الصباح عندما دخلت سيدتان في أواسط العمر تتكلمان الإنكليزية، وجلستا إلى طاولة قريبة، ثم راحتا تتفحصان خريطةً نشرتاها أمامهما، وتتبادلان الملاحظاتِ حول بعض المعالم الأثرية عليها. وما لبث فضولي نحو الأجانب حتى دفعني للتعرف عليهما، وصرت مشترِكًا في مشروعهما السياحي بعد أن ادَّعيتُ معرفتي بأحياء دمشق القديمة ومسالكها. كان الهدف من زيارتهما هو تقفِّي خُطا بولس الرسول عبر الشارع المدعوِّ في الإنجيل بالشارع المستقيم، الذي يقطع المدينةَ القديمة من سورها الشرقي إلى سورها الغربي، والتوقفَ عند بعض الأماكن التي يُعتقد بصِلتِها بقصة بولس في دمشق، وما جرى له مع اليهود الذين تتبَّعوه لقتله فيها.

لم أكن في تلك الأيام أعرف الكثير من قصص الإنجيل، فرُحْتُ أستمع إليهما — ونحن نقطع شارع النصر باتجاه سوق الحميدية — عن قصة ذلك الرسول الذي كان من أعدى أعداء المسيحيين، وكيف اضطهدهم زمنًا قبل أن يهتدي ويغدو على رأس المبشِّرين والداعين إلى الدين الجديد. فبينما هو على الطريق إلى دمشق قادمًا من أورشليم؛ بحثًا عن المسيحيين، أبرق حوله نور من السماء؛ فسقط على الأرض خوفًا، ثم سمع من مصدر البرق والنور صوتًا يناديه باسمه الأصلي قائلًا: شاؤل، شاؤل، لماذا تضطهدُني؟ فقال بولس: من أنت يا سيد؟ فقال الصوت: أنا يسوع الذي أنت تضطهدُه، فقال بولس وهو يرتعد: يا سيد، ماذا تريد مني أن أفعل؟ فقال له الصوت: قم وادخُل دمشق، وهناك يُقال لك ماذا ينبغي أن تفعل. وعندما نَهِض بولس اكتشف أنه قد فقدَ البصر، فاقتاده المسافرون في القافلة معهم، وأدخلوه دمشق، وهناك سكن بيتًا في شارع يقال له: المستقيم؛ لا يأكل ولا يشرب. وكان في دمشق تلميذ مسيحي اسمه حنانيا، فجاءه وحي من الرب أن يذهب إلى مسكن بولس ويضع يده على عينيه فيُبْصِرَ، فأتى حنانيا، ووضع يده على عينيْ بولس فأبصر في الحال، وقام فتعمَّد على يدَيْ حنانيا، ثم أكل فتقوَّى، وراح في اليوم التالي يَكْرِز بالمسيح، ولكنَّ اليهود الذين أرسلوه تتبَّعوه ليقتلوه، وراحوا يراقبون أبواب المدينة ليلَ نهارٍ، فأخذه التلاميذ ليلًا وأنزلوه عن سور المدينة في سَلَّة، ونجا بولس ليغدوَ واحدًا من أهم رسل الدعوة — إن لم يكن أهمَّهم — طُرًّا.

عندما وصلنا إلى مدخل شارع الحميدية، قلت لهما: أعتقد أننا بلغنا ضالَّتَنا. ولكن نظرةً عاجلةً رفعتْها إليَّ العيونُ الناطقة بالنفي أقنعتني بإخفاقي كمرشد سياحي. قادتني السيدتان مستعينتين بالخريطة إلى مدخل الشارع المستقيم؛ الذي لم يكن — لدهشتي البالغة — سوى شارع مدحت باشا الذي أعرفه جيدًا، ولا أعرف صِلَتَه بقصص الإنجيل. وهكذا تحولتُ من مرشد إلى سائح، ورُحْتُ أتتبَّعُهما وهما تتفحصان كلَّ زاوية وركن في الشارع الرئيسي وفروعه، حيث عثرنا على أكثرَ مِن بيت يشبه البيت الذي أقام فيه بولس، وتخيلنا أن بعض هذه الحجارة التي أُعيدَ رصفُها في الطرقات قد لامست قدمَيِ الرسول. بعد ذلك قصدنا الجامع الأموي؛ حيث توقفنا عند بوابة معبد جوبيتر؛ كما وَصَفَتاها اعتمادًا على كتيِّبٍ مصور تحمِلانه، ثم دُرْنا حول سور الجامع، وراحتا تتفحصان حِجارة الأساسات، وتميِّزان الحجارة الرومانية الضخمة في الأسفل، من الحجارة الإسلامية الأصغرِ في الأعلى، وتخوضان في تفاصيلَ ومصطلحاتٍ لم أفهمها. تركنا الأموي وتوجهنا نحو الباب الشرقي؛ حيث تتبَّعْنا أجزاءً من السور القديم؛ متخيلين أن بولس يُدلَّى في سَلَّة من مكان مناسب، ثم انتقلنا إلى كنيسة حنانيا التي بُنيت في موقعَ سكَنِ التلميذ الإنجيلي؛ على ما ترويه القصص المتداوَلة. عندما نال منا التعبُ عُدْنا أدراجَنا، وتواعدنا على اللقاء مساءً في المقهى.

عندما وافيتُهما في المساء، كانتا تتناولان البيرة المثلَّجة وهما منكَبَّتان على الخريطة مرةً أخرى، فقلت في نفسي: لعلهما تبحثان عن قبر آدمَ أو ربما عن حُطام سفينة نوح. وعندما انتهتا من حديثهما الخافت سألتُهما عن رأيهما بمدينتي التي قَدِمتا من أقصى الأرض لزيارتها، قالت إحداهما بتهذيب أوروبي تقليدي: مدينة لطيفة، وأهلها طيبون وودودون، ولكنك عندما تنسج في خيالك صورةً عن مكان ما، ثم ترعى هذه الصورة سنين وتضيف عليها في كل يوم عنصرًا جديدًا، عليك ألا تزور ذلك المكان؛ لكي تتلافى صدمة الواقع. قالت الثانية وهي تبتسم: صدمة الواقع التي تملَّكَتْنا في بغداد كانت أقوى. تصوَّرْ، إننا لم نصادف هناك علاء الدين، ولم نعثر في الأسواق على مصباح يشبه مصباحه، ضحكتا معًا وضحكت معهما للنكتة، ثم تابعتْ: ما أريد قوله هو أن بغداد الحديثة كانت مختلفة عن دُرَّة الشرق التي جئنا لرؤيتها. أعتقد أنه من الأفضل لنا ونحن في طائرة العودة أن ننسى كلَّ ما رأيناه على أرض الواقع، لكي نحافظ على حُلم الشرق حيًّا في النفس. قلت: بل لماذا لا تعودان مرةً أخرى بتصورات أكثرَ واقعيةٍ؟ قالت الأولى وهي تنظر إليَّ من وراء نظارتها السميكة نظرةً ثابتةً وحنونةً: أيها الشاب، يبدو لي أن الحُلم والخيال أكثرُ غذاءً للنفس من الواقع.

بعد ذلك علمتني التجارب صِدْقَ مقولة تلك السيدة، فالإنسان كائن محبٌّ للقصص والحَكايا، وهو رغم عقلانيته التي يستخدمها بكفاءة عالية من أجل التعامل مع واقع الحياة اليومية، إلا أنه يسعى دومًا لمفارقة هذا الواقع نحو عالم مِن صُنع الخيال، لا يقل صلابةً وتأثيرًا عن عالم الواقع. إنه منجذب عاطفيًّا إلى ما وراء المعايَن والملموس أكثرَ منه إلى المعاين والملموس، يتجلى هذا الانجذاب في التعبير الفني بكل ضروبه وأشكاله؛ كما يتجلى في أشكال التعبير الأدبي؛ ابتداءً بالأسطورة وانتهاءً بالأجناس الأدبية الشبيهة بها؛ مثل الحكايا الشعبية والخرافات والملاحم والسير البطولية، ولكن إذا كان مضمون الأجناس الأدبية الشبيهة بالأسطورة لا يؤخذ دومًا على محمِل الجد، ولا ينطوي على مؤيِّد ذاتي يُلزم الراويَ والمستمع — على حد سواءٍ — بتصديقه أو الإيمان برسالته؛ فإن هالة القداسة التي تحيط بالأسطورة تسمو بأحداثها إلى مستوى الرمز، وتجعل من مضامينها رسالةً سرمديةً موجَّهةً لبني البشر. هذا الوضع المتميز للأسطورة قد جعلها — من بين بقية الأجناس الأدبية — الأكثرَ تلبيةً لحاجة الإنسان القديم لفَهم نفسه ككائن تاريخي يقع في نقطة الوسط بين البدايات والنهايات، ولفَهمِ أصل الحاضر المتجذِّر في الأحداث الماضية صعودًا نحو أزمان الخلق والتكوين الأولى، وبذلك تم عقد صلة لا تنفصم بين الأسطورة والتاريخ، وراحت كل ثقافة تبحث عن ماضيها وماضي الإنسانية؛ من خلال عملية قصٍّ تاريخي مشبع بالميثولوجيا، ووُلِد جنس الكتابة التاريخية كناتج من نواتج القص الأسطوري.

أخذت الكتابة التاريخية تستقل عن الأسطورة عندما لم يعد الإنسان القديم يرى في الأحداث الماضية أو الأحداث الحاضرة نتاجًا لتدخُّل القوى الماورائية، عند ذلك أخذ التاريخ يتجرد من قدسيته، وراح الإنسان يبحث في الأسباب والنتائج؛ من خلال روابطها وصِلاتِها الدنيوية الواقعية، ووُلِد علم التاريخ الذي حل محل الأسطورة في تكوين الذاكرة الجمعية، وعَرَّف الإنسانَ بدوره في صنع تاريخه، وبأهمية نشاطه الخلَّاق على الصيرورة التاريخية. ولكن هذا العلم بقي أمينًا لأصوله الأولى كفن أدبي قصصي يستلهم الأسطورة ويتكئ عليها إلى هذا الحد أو ذاك. وإن من يقرأ اليوم رواد جنس الكتابة التاريخية في المشرق القديم مثل برغوشا (بيروسوس) البابلي ومانيتو المصري؛ يلاحظ إلى أي حدٍّ عمِل هؤلاء الرواد على استلهام الأساطير وإعادة صياغتها على طريقتهم. ومن يقرأ هيرودوتس الإغريقي — المدعوَّ بأبي التاريخ — بعينِ مؤرخ عصري، يعرف إلى أي حد كان ذلك المؤرخ مفتونًا بقصص الشعوب التي ارتحل إلى بلادها وكتب عنها، وطريقته في اقتباس هذه القصص وإعادة صياغتها باعتبارها تاريخًا. ولم ينجُ علم التاريخ الحديث رغم مناهجه العلمية من هذه الآفة المتأصلة، فما زلنا إلى يوم الناس هذا نجد بعض المؤرخين يقتبسون قصصًا من الماضي ويتكئون عليها؛ لمجرد أنها قصص قوية ومؤثرة ومصاغة بطريقة تجعلها أقربَ ما تكون إلى الحدث التاريخي.

تزداد العلاقة بين الأدب والتاريخ تعقيدًا عندما يتم تجنيد الكتابة التاريخية لصالح الأيديولوجيات القومية أو الدينية، فهنا يغيب التفكير المنطقي والمنهج العلمي، وتُفْسِحُ الحقائق التاريخية مكانها للقصص المزوَّدة بسطوة الأسطورة، وما حصل فعلًا لصالح ما نوَدُّ لو أنه حصل. فالأيديولوجيات القومية والدينية لا تكتفي بتفسير التاريخ؛ بل إنها تعمل في أحيان كثيرة على خلق التاريخ؛ «لأن ما يفوق الماضيَ أهميةً هو تأثيره وعواقبه على المواقف ووجهات النظر الثقافية في الحاضر».١ وهنا تغدو استثارة الماضي من بين أكثر الاستراتيجيات شيوعًا في تأويل الحاضر لا في فهمه، «ويتحول الصراع على الماضي إلى صراع على الحاضر؛ من خلال ابتكارات خيالية لماضٍ يُعاد بناؤه بشكل تعسفي».٢ وبما أن العالم لم يكن مهيئًا في أي وقت من الأوقات لسيادة أيديولوجيا واحدة، قوميةً كانت أم دينيةً؛ فإن تاريخ الإنسانية — وخصوصًا في أحقابه الأخيرة — كان على الدوام مسرحًا لِتجابُهِ الأيديولوجيات التي تواجه كلٌّ منها الأخرى بسرديتها الخاصة، المنطوية على رؤيتها لتاريخها ولتاريخ الآخر. ويستمر طغيان الأدب على التاريخ، وتعلو تهويمات القصص والحكايا فوق أحداث الماضي الهاجعة، وتتحول الكتابة التاريخية إلى صياغات عقائدية وبلاغية محمَّلة بالعواطف والانفعالات.

لست هنا بصدد كتابة مقدمة في فلسفة التاريخ، ولكني بصدد التقديم لأخطر سردية تاريخية أنتجها هذا العِوَج في الفكر والسيكولوجيا الإنسانية؛ وهي السردية المتعلقة بما يُدعى «تاريخ بني إسرائيل» والتاريخِ اليهودي الملحق به. فهنا التقت الرؤية المنحرفة للأيديولوجيا القومية بالرؤية المنحرفة للأيديولوجيا الدينية، وتعاونتا على صياغة أكثر السرديات ضلالًا وبعدًا عن حقائق التاريخ ومنطق الرؤية التاريخية، وهنا برزت وتجلت القصة المشبَعة بالأسطورة في أقوى أشكال سطوتها وتفوُّقها على الحدث والواقع، عندما تحولت سلسلة ألف ليلة وليلة التَّوراتية إلى تاريخ لفلسطين القديمة، وإلى مصدر موثوق من مصادر تاريخ الشرق القديم.

منذ مطالع القرن الخامس قبل الميلاد بدأ كهنة يهوذا العائدون من السبي البابلي إعدادَ سرديتهم عن أصول المجتمع الجديد، الذي بدأ بالتشكل في مقاطعة «يهود»؛ التي أنشأتها الإدارة الفارسية على جزء من أراضي مملكة يهوذا السابقة. استخدم هؤلاء الكهنة ما وصلهم من أخبار متفرقة وغير مترابطة عن مملكتي إسرائيل ويهوذا الزائلتين، ثم راحوا يتوغلون في الماضي الأبعد دون مرشد ودليل سوى قصص وحكايا من الموروث المحلي، ومن موروث الشعوب الخليطة التي كان الآشوريون ثم البابليون مِن بعدهم قد أحلُّوها بدل الشعوب الفلسطينية المَسْبيَّة والمهجَّرة. فانتقلوا من مملكتي إسرائيل ويهوذا إلى مملكة داود وسليمان المتخلية، ثم صعودًا في الزمن عبر بقية أحداث الرواية التَّوراتية نحو بدايات الإنسانية فالخلقِ والتكوين. وقد بقيت هذه السردية في إطارها الديني اللاهوتي قرونًا طويلةً، إلى أن جاء البحث الأكاديمي الحديث؛ لينفُضَ عنها الغبار منذ القرن التاسع عشر، ويكرِّسُها كرواية تاريخية موثوقة. وراء هذا الموقف للبحث الأكاديمي الغربي سببان، نجد أولهما في النزعة الدينية المحافِظة التي تنزرع جذورها في الأصولية المسيحية، وثانيهما في الظروف التي أحاطت بنشوء علم الآثار في فلسطين.

عندما بزغت الحضارة الغربية من ظلمة العصور الوسطى، راحت تصوغ سرديتها الخاصة عن أصولها التي وجدتها في الحضارة اليونانية الرومانية، وبما أن المسيحية — وهي الدين الرسمي للغرب — قد تبنَّت كتاب التوراة باعتباره عهدًا قديمًا سابقًا للعهد الجديد الذي هو الإنجيل؛ فقد راحت السردية الغربية تتابع أصولها في التاريخ الديني لبني إسرائيل، وصارت أسفار التوراة جزءًا من الموروث الديني الغربي، بما هي مقدِّمة لظهور المسيح ولتكوين المسيحية. ورغم عقلانية الفكر الغربي الذي يرفض كل ما هو «معجز» و«خارق» و«أسطوري»، فقد راح هذا الفكر يبحث في ركام الأساطير والخرافات التوراتية؛ باعتبارها صياغاتٍ رمزيةً تنطوي على حقائق تاريخية، وتحولت الرواية التوراتية من رواية لاهوتية إلى سردية تاريخية، في الوقت الذي تم فيه صرف النظر عن بقية أساطير المنطقة المشرقية؛ باعتبارها أدبًا وخيالًا دينيًّا جامحًا. إن الكنسية المسيحية التي شاءت — بعد قرون من موت يسوع — أن تتبنَّى التوراة العبرانية كنص مقدس، قد نفخت الروح في أسفار الكتاب البالية التي تُعتبر بقيةً متحجرةً من عالم قديم زال إلى الأبد، ودفعت بها في نَسْغ الحضارة الغربية الصاعدة، وهذا ما قاد إلى إحداث تغييرات عميقة على كيفية إدراك الغرب لنفسه وتحديده لهويَّته في مقابل الحضارات الأخرى؛ ذلك أن تأثير الأيديولوجيا التوراتية كان أعمق غَوْرًا من مجرد الإيمان الساذَج بالقَصص الديني للعهد القديم، ورصْدُ هذا التأثير يتطلب أبحاثًا طويلة مستفيضة. يكفي هنا الإشارةُ إلى أثر فكرة «الشعب المختار» التوراتية على نظرة الغرب لدوره في العالم؛ كشعب مختار يحمل رسالة عالمية ظاهرُها تحضير البرابرة، وباطنها التسلُّطُ والنهب، وإلى ما لعبه النموذج التوراتي في احتلال أرض كنعان وإفناء أهلها بأمر الرب، من دور في حملات الإبادة الجماعية لسكان المستعمرات الأصليين، منذ غزو الإسبان والبرتغاليين أمريكا الوسطى والجنوبية وتدمير ثقافاتها الراقية، إلى غزو الصهاينة أرضَ فلسطين.

أما عن السبب الثاني — وهو المتعلق بظروف وملابسات نشوء علم الآثار في فلسطين — فإن هذا العلم قد حُكم عليه منذ بداياته الأولى أن يكون علمًا موجَّهًا لغاية واحدة؛ هي البحث عن أصول إسرائيل في الأرض المقدسة، وإثباتُ تاريخيةِ الرواية التوراتية. فمن ناحية أُولى كانت الجهات التي بادرت إلى تمويل الحملات التنقيبية المبكرة منذ أواسط القرن التاسع عشر؛ هي جهاتٍ لاهوتيةً أو يغلب على متنفذيها الفكرُ اللاهوتي التوراتي. وقد حددت هذه الجهات للحملات التنقيبية أهدافها، واستبَقَتْ نتائجها، ومن ناحية ثانية، فقد كانت الأركيولوجيا الناشئة في الحقل الفلسطيني بحاجة إلى مرشد ودليل قدمهما لها كتاب التوراة؛ من خلال تحقيبه لتاريخ فلسطين إلى عدد من العصور؛ هي:

(١) العصر الكنعاني. (٢) التوطن الإسرائيلي. (٣) المملكة الموحدة لكل إسرائيل. (٤) المملكة المنقسمة؛ أي: إسرائيل ويهوذا، (٥) السقوط والسبي. (٦) العودة وبناء الهيكل الثاني، وبذلك كان على كل اكتشاف أثري أن يُصنف ضمن واحد من هذه العصور؛ بسبب جهل المنقبين جهلًا تامًّا بتاريخ فلسطين المغيَّب من حيث الأساس.

وقد بقي علم الآثار في فلسطين أسيرًا لمصادر تمويله، وكان عليه تبرير وجوده واستمراره كحقل معرفي؛ من خلال إرضاء تلك المصادر، حتى بعد أن انتقلت رعاية الحملات التنقيبية إلى كبريات الجامعات في أوروبا وأمريكا؛ وذلك بسبب تأثير الحركة الصهيونية على توجهات البحث الأثري والتاريخي، وقوتِها المتصاعدة في المجتمعات الغربية، وما رافق ذلك من تمهيد لإخلاء فلسطين وإنشاء الدولة الصهيونية فيها. لقد حولت الحركة الصهيونية — من خلال رجالاتها الموزَّعين في كل جامعة ومركز بحث — الجدل الأكاديمي حول تاريخ فلسطين من أروقة الجامعات إلى المجال الثقافي والإعلامي العام، وخرجت المسألة من حلقات البحث الضيقة؛ لتشارك في التمهيد المدفعي الثقافي الذي رافق ازدياد الهجرة اليهودية إلى فلسطين؛ استعدادًا لإقامة دولة إسرائيل الحديثة، وبذلك تحوَّل الجدل حول الماضي إلى صراع حول ذلك الماضي؛ من أجل كسب الحاضر، وصار التوكيد على تاريخية إسرائيل القديمة توكيدًا على حق إعادة بناء تلك الإسرائيل في العصر الحديث، وهذا ما أشار إليه بيان إعلان دولة إسرائيل، عندما استخدم مُعِدُّوه تعبير «إعادة تشكيل دولة إسرائيل».

حتى أواسط القرن العشرين، كان من السهل على الأكاديميين التوراتيين صياغةُ تفسيراتهم المتعسفة لنتائج التنقيب الأثري في فلسطين، وربْطُها بمجريات أحداث الرواية التوراتية؛ وذلك لقلة عدد المواقع التي تم الكشف عن مستوياتها الأثرية بشكل كامل، وبدائيةِ أساليب التنقيب، والتركيز على المواقع المنعزلة عن بعضها، من دون المسح الأثري الشامل لمناطق جغرافية واسعة، ولكن بعد تنقيبات عالمة الآثار البريطانية كاثلين كينيون في مدينة القدس — خلال أواسط الستينيات من القرن الماضي، وما خرجت به من نتائج ثورية بمعيار ذلك الزمن، قدمتْها على استحياء وبكل حذر — اتسعت حملات التنقيب بشكل محموم؛ وخصوصًا في مناطق الهضاب الفلسطينية التي كانت بمثابة المناطق التقليدية لدولتي إسرائيل ويهوذا، خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، والتي استولى عليها اليهود عقب حرب حزيران ١٩٦٧م (الضفة الغربية). فلقد طالت التنقيبات التي استخدمت أسلوب المسح الميداني الشامل كلَّ متر تقريبًا من المناطق الهضبية، وقامت جامعات الكيان الصهيوني — وعلى رأسها جامعة تل أبيب — بتجهيز حملات تنقيبية مزوَّدة بعلماء من شتى الاختصاصات المساعِدة لعلم الآثار، عملت خلال العشرين سنة الماضية على جمع معلومات غزيرة أحدثت ثورة في أركيولوجيا فلسطين. وكلما كانت هذه المعلومات تتراكم ويتم الربط فيما بينها وسَبْرُ معناها، تبيَّن للمؤرخين والآثاريين صعوبةُ ملاءمة هذه المعلومات مع الصورة القديمة المتوهَّمة عن تاريخ إسرائيل ويهوذا، وتاريخ فلسطين بشكل عام. وهنا ظهرت — على جانبي الأطلسي في الحلقات الأكاديمية — أصواتٌ متفرقة عملت على إعادة نظر شاملة في الخارطة المعرفية الآثارية والتاريخية لمنطقة فلسطين، وما لبِثت هذه الأصوات حتى شكلت تيارًا أطلق عليه خصومُه اسم تيار المراجعين أو الراديكاليين؛ انطلاقًا من المراجعة الشاملة التي يقوم بها هؤلاء للنظريات والتفسيرات القديمة، وموقفِهم الراديكالي المتحرر — إلى هذا الحد أو ذاك — من سطوة الفكر التوراتي.

أخذت ملامح الاتجاه الراديكالي بالتوضُّح على يد بحَّاثة متميزين؛ مثل: H. K. Hays وJ. M. Miller وVan Seter وN. B. Lemche و G. Garbini وG. W. Ahlstorm وT. L. Thompson وK. Whitelam وآخرين. إن ما يجمع هؤلاء المؤرخين على اختلاف مشاربهم هو الموقف النقدي من الرواية التوراتية، والشروع في استقراء الوثائق الآثارية والتاريخية؛ بعيدًا عن الأفكار المسبَّقة التي سيطرت على مجال البحث حتى الآن. ويذهب أكثرهم راديكاليةً إلى القول بصرف النظر نهائيًّا عن كتاب التوراة؛ باعتباره وثيقةً دينيةً غير تاريخية، دُوِّنت بعد وقت طويل من الأحداث التي تتصدى لروايتها. فالباحث G. Garbini يرى أن الأسفار المدعوة بالتاريخية في التوراة ٣ قد دُوِّنت فيما بين أواخر العصر الفارسي وأوائل العصر الهيلينستي؛ أي: خلال القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد. من هنا فإنها لا تعتبر وثيقةً معاصرةً لأي حدث من أحداث الرواية التوراتية، ويجب صرف النظر عنها؛ باعتبارها أخيولةً أدبيةً تجد دوافع إنتاجها في المناخ النفسي والاجتماعي للفترة المتأخرة التي أنتجتها (غاربيني، ١٩٨٨م).
ويرى ت. ل. تومبسون بأن المعلومات الآثارية الجديدة التي صارت متوافرةً لدينا الآن تُمَكِّنُنا من صياغة تاريخ لإسرائيل مستقل عن البحث التوراتي، وأن مقدرتنا المتزايدة على بناء تاريخ مفصل لأصول إسرائيل القديمة؛ تجعل من الضروري إهمالَ الرواية التوراتية كمصدر تاريخي، والتخليَ بشكل جَذري وواعٍ عن كل المسلَّمات التي فُرضت على المؤرخ من قِبل النص التوراتي؛ يقول تومبسون في كتابه الجديد الذي صدر عام ١٩٩٩م في أوروبا تحت عنوان: The Bible In History، وفي أمريكا تحت عنوان: The Mythic Past، ما يأتي: «إن الرواية التوراتية التي تدور حول صعود وسقوط إسرائيل القديمة؛ ما زالت تتحكم بعملية إعادة بناء التاريخ لدى الحلقات الأكاديمية التوراتية، وهذه العملية، في الواقع، تَبْخَس القصص التوراتية حقَّها كأدب ديني ذي قيمة فنية عالية؛ وذلك بالتركيز على وجهها الظاهري كأحداث ووقائع، وتُحولها إلى تاريخ … إن أصحاب هذا الاتجاه — في عدم التزامهم الموقفَ النقدي التاريخي — ينتهكون القاعدة الأولى في علم التاريخ؛ ألا وهي تمييز الواقعة والحدث من الخرافة … لقد غدت الحاجة ماسَّةً اليوم لكتابة تاريخ مستقل عن التوراة، نستطيع من خلال المقارنة معه التثبُّتَ من تاريخية أية مروية توراتية، وبدون تاريخ مستقل لفلسطين ولإسرائيل القديمة، فإن مسألة تاريخية التوراة تبقى بدون حل.»

هذا عن مستجدَّات البحث التاريخي في الغرب، أما عن مستجداته في ثقافتنا العربية الحديثة، فإن تاريخ فلسطين القديم لم يَلْقَ العناية اللازمة من قِبل الباحثين العرب، ولم نكن طرَفًا أمام الفكر التوراتي في الصراع على الماضي؛ رغم حضورنا القوي في الصراع على الحاضر، والذي اتخذ بالنسبة لنا طابَعَ صراع تكتيكي غيرَ مزوَّد بنظرية تاريخية. وفيما عدا كتابي الذي صدرت طبعته الأولى عام ١٩٩٥م تحت عنوان: آرام دمشق وإسرائيل، فإن البحث التاريخي العربي بقي غير معنيٍّ بالجدل الدائر في الغرب بخصوص تاريخ فلسطين. أما الأبحاث العربية التي راحت تبحث عن مصداقية الحدث التوراتي في بقاع جغرافية بعيدة عن فلسطين، فإنها تقع خارج مجال هذا الجدل، وهي، على ثوريتها وجِدِّية أصحابها، تسير في طريق مسدود؛ من وجهة نظري، فالنظرية العلمية، أنَّى كان مجالها، هي النظرية التي تقدم في ثناياها أدواتِ دَحْضها أو إثباتها، ونظرية هؤلاء الزملاء تقوم على جدل لفظي لغوي لا يقدم لنا الحد الأدنى من أدوات الدحض أو الإثبات، وهي أقرب في منهجها إلى مدرسة النقد النصي للتوراة.

إن عمل المؤرخ الحديث ينحصر في استقراء وتفسير نوعين من البينات؛ الأول: بينات مباشرة أركيولوجية، والثاني: بينات كتابية نصية. وكلاهما يجب أن ينتميا إلى زمن الحدث الذي نؤرخ له أو قريبًا من زمنه إلى درجة تسمح بإلقاء الضوء عليه. أما العكوف على تأمُّلِ وتفسير بينات نصية متأخرة، فليس من التاريخ في شيء، وهو أقرب ما يكون إلى العمل الأدبي الذي يعتمد الخيال منه إلى الكتابة التاريخية. إن أقدم نص للتوراة موجود بين أيدينا هو نصُّ مخطوطات البحر الميت؛ التي احتوت على أجزاء غير كاملة من جميع الأسفار التوراتية، عدا سفر إشعيا الذي وُجِد كاملًا في أكثرَ من مخطوطة؛ إضافةً إلى شذرات من نصوص أخرى اعتُبرت فيما بعدُ غير قانونية؛ وهذا يعني أن أقدم أحداث الرواية التوراتية المروية في سفر التكوين منقطعة عن أقدم نص للتوراة بما يقارب اﻟ١٩٠٠ سنة، وأن قصص الخروج من مصر ودخول كنعان منقطعة بما يقارب اﻟ١٣٠٠ سنة، وقصص مملكة داود وسليمان بما يقارب اﻟ١١٠٠ سنة، وقصص مملكتي إسرائيل ويهوذا بما يتراوح بين ٦٠٠ و٩٠٠ سنة.

إن المشكلة التي تعاني منها نظريةُ التوراة التي جاءت من جزيرة العرب، هي نفس مشكلة البحث التاريخي التوراتي نفسه؛ فكلاهما ينظر إلى أسفار العهد القديم باعتبارها نصًّا مُطَّردًا يروي أحداثًا مترابطةً ومتسلسلةً زمنيًّا؛ في الوقت الذي تكشف فيه هذه الأسفار للباحث المتحرر من سلطة الأفكار المسبَّقة عن نفسها؛ باعتبارها نوعًا من الجمع التراثي الذي يؤلف بين موروثات أدبية مختلفة الأزمنة والأصول، ويرتبها في تسلسل زمني مفروض عليها مِن خارجها، ووَفْقَ منظور أيديولوجي معين؛ هو منظور كهنة أورشليم من الفترة الفارسية والهيلينستية المتأخرتين. من هنا، فإنني إذا سلَّمت جدلًا مع هؤلاء الزملاء (الذين يقبلون بتاريخ الرواية التوراتية ولكنهم يغيِّرون جغرافيتها) بأن أحداث سفر التكوين، مثلًا، لم تَجْرِ بين الفرات السوري وفلسطين، أو أن الخروج لم يكن من مصر، والدخولَ لم يكن إلى كنعان فلسطين؛ فإنني لا أسلِّم معهم بأن هذه الأحداث المتفرقة تشكِّل فيما بينها تاريخًا متسلسلًا جرى في زمن ما ومكان ما.

إن قصة بني إسرائيل التوراتية لم تَجْرِ على أرض فلسطين، ولا في أي مكان جغرافي آخر؛ بل هي قصة أصول مفعمة بالأيديولوجيا الدينية، تهدف إلى ابتكار تاريخ للدين اليهودي؛ الذي صاغه كهنة أورشليم خلال ثلاثة قرون من الفترة المدعوَّة بفترة ما بعد السَّبْي أو فترة الهيكل الثاني؛ كما تهدف إلى تأصيل مجتمع أورشليم الجديد في أرضه الجديدة، وإسباغ الوَحدة والتجانس على المجموعات الإثنية المختلفة التي ساقها الفرس إلى مقاطعة «يهود» التي خلقوها على جزء من أرض مملكة يهوذا البائدة. من هنا، فإن جُلَّ البحث التاريخي الذي دار حول مسألة أصول إسرائيل وتاريخها، قد دار حول أخيولةٍ لا تمتلك من الوجود الواقعي إلا أقَلَّه. وهذا القليل الذي يتوافق مع تاريخ المنطقة الفلسطينية، لا يتعدى مجموعة أخبار تنتمي إلى الهَزيع الأخير من حياة مملكتي إسرائيل ويهوذا، وهي مرحلة قريبة زمنيًّا من فترة تدوين التوراة، وذكرياتها كانت حيةً ومتداولة حتى ذلك الوقت.

(١) تاريخ أورشليم

والبحث عن مملكة اليهود

تقع أورشليم في بؤرة الرواية التوراتية، وحولها يدور التاريخ الديني والسياسي لليهود. فمع استيلاء الملك داود على أورشليم واتخاذها عاصمةً له (والحديث هنا للمؤرخين التوراتيين)، تحوَّل النظام القَبلي البدائي للجماعات العبرانية إلى دولة منظمة ومملكة مرهوبة الجانب. ومع بناء هيكل سليمان في المدينة، جرى تنميط الشعائر والعبادات في مركز روحي وحَّدَ القبائل دينيًّا؛ مثلما وحَّدتها العاصمة سياسيًّا.

ولكن أورشليم — شأنُها في ذلك شأنُ كل مكان تتخذ منه قصصُ الأصول مسرحًا لها — قد أخذت بالارتفاع من مستوى الواقع إلى مستوى الرمز والأسطورة. ومع تطوير الرواية التوراتية نحو نهاياتها، تحولت إلى موطن خيال وعواطف وانفعالات وآمال مسيانية مهديَّة، حتى تخلَّت عن طبيعتها الأرضية، وصارت قلب بلد فِرْدَوْسي في مملكة الرب القادمة على الأرض، والمكان الذي تجري فيه الدَّينونة الأخيرة للأمم. ثم جاءت الكتابات المسيحية المبكرة لتنسج على هذا المنوال، فهنالك أورشليم سماوية ليست المدينةُ الأرضية إلا ظلًّا باهتًا لها، ولسوف تهبط من السماء في آخر الزمن لتكون مسكنًا لله مع الناس. نقرأ في سفر الرؤيا: «وأنا يوحنا، رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلةً من السماء، من عند الله؛ كعروس مزيَّنة لرجلها، وسمعت صوتًا عظيمًا من السماء قائلًا: هو ذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعبًا»(٢١: ٢-٣).

من هنا، تتخذ معالجاتي لتاريخ فلسطين القديمة، في هذا الكتاب، من أورشليم نقطة انطلاق ونهاية، ومحورًا يدور حوله البحث بكامله؛ رغم تشعُّب موضوعاته وعدم اقتصاره على تاريخ أورشليم؛ وذلك في محاولة لنزع غِلالات الخرافة عن هذه المدينة، والكشفِ عن تاريخها الحقيقي، وعن تاريخ فلسطين المدفون تحت رُكامٍ من الحكايات التوراتية، وركام آخرَ من البحث التاريخي المصاب بعمى الألوان التوراتي. سوف يغطي البحث فترةً تزيد عن ألفي سنةٍ من تاريخ أورشليم، في السياق العام لتاريخ فلسطين؛ كما يغطي أيضًا ثلاثة آلاف عام من تاريخ فلسطين الكبرى في السياق العام لتاريخ سورية والشرق القديم عامةً، وهدفنا من ذلك كلِّه هو الإجابة عن بضعة أسئلة محددة؛ هي:
  • (١)

    من هم اليهود؟ ومتى تشكلت الإثنية اليهودية في فلسطين؟

  • (٢)

    متى نشأ الدين اليهودي؟ وأين؟ وكيف؟

  • (٣)

    هل كان لليهود كيان سياسي في فلسطين؟ وما هو المدى الزمني والجغرافي لهذا الكيان؛ في حال وجوده؟

  • (٤)

    هل دانت فلسطين باليهودية في يوم من الأيام؟ ومتى؟

  • (٥)

    ما هي العلاقة بين التاريخ اليهودي، الذي ابتدأ في القرن الخامس قبل الميلاد، وتاريخ مملكتي إسرائيل ويهوذا خصوصًا، وتاريخ فلسطين الكبرى على وجه العموم؟

من المفترض أن يكون كتابي الجديد هذا بمثابة استمرار وتكميل لكتاب سابق لي صدر عام ١٩٩٤م، تحت عنوان: آرام دمشق وإسرائيل؛ إلا أن تطابُقَ المساحة الجغرافية والتاريخية للكتابين مِن شأنه أن يفرِض بعض التداخل بينهما، ولكن هذا التداخل لن يظهر على شكل تَكرار لمعلومات وأفكار سابقة، وإنما على شكل إضاءات جديدة تفرضها مستجدات البحث الأثري بشكل خاص؛ وهي المستجدات التي تابعتها في الدوريات المتخصصة والكتب الجديدة؛ وصولًا إلى مطلع عام ٢٠٠١م، معتمدًا، قَدْر الإمكان، على نتائج البحث الأركيولوجي الإسرائيلي الحديث في الأرض المحتلة، وتفسيرات ونظريات المنقِّبين الإسرائيليين أنفسهم، كلما وجدت إلى ذلك سبيلًا.

ولكني أودُّ لفت نظر القارئ منذ البداية إلى أن هذا الكتاب ليس تاريخًا شاملًا وافيًا لفلسطين القديمة؛ لأن التزامه بالإجابة على الأسئلة المحددة التي سردتها أعلاه؛ من شأنه تضييقُ مجال البحث، والتركيزُ على محاور بعينها على حساب محاور أخرى عديدة. يضاف إلى ذلك أن مشروعًا متكاملًا لتاريخ فلسطين، في الوقت الحاضر، يتجاوز إمكانية عدد وافر من الباحثين المتعددي الاختصاصات، والمزوَّدين بكل الدعم المادي والمعنوي اللازم، فما بالك بالمحاور الفردية التي لا يملك أصحابها من العُدَّة والعدد سوى ما حصَّلوه بقدراتهم الذاتية، وما يدفعهم داخليًّا للبحث عن الحق وعن الحقيقة.

كما أني أودُّ البوح لقارئي بأمر يُثقِل كاهل كل من عانى الكتابة التاريخية؛ وهو أننا في كتابة التاريخ لا نطمح إلا إلى تقديم تصورات عامة عما حدث في الماضي، ولكننا غير قادرين بالفعل على إعادة بناء ذلك الجزء من الماضي الذي اخترنا استقصاءه، أو التحدثِ بيقين كامل عما وقع فعلًا؛ فالماضي قد تلاشي في عالم الغيب، ولم يترك لنا سوى شذراتٍ من نصوص ولُقًى أثرية علينا تفسيرها والربطُ المنطقي بينها، ولكن مع ترك هامش من الشك والاعتراف بالجهل؛ هذا الشك هو الذي يَحول بيننا وبين العمل على ردم الفجوات في معرفتنا، ويجعلنا في مَنجاة من التحول إلى أدباء يَصوغون قصةً مطردةً انطلاقًا من وثائق غير مطردة.

سوف أبدأ في الفصل الأول من هذا الكتاب بقصة اكتشاف أورشليم القديمة من قِبَل بعثات التنقيب البريطانية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم أتخذ من أورشليم القرن العاشر قبل الميلاد نقطة للانطلاق؛ صعودًا نحو مطالع التاريخ الفلسطيني في الألف الثالث قبل الميلاد، ثم هبوطًا نحو القرن الثاني الميلادي.

(٢) إطلالة جغرافية وطبوغرافية

لكي نأخذ صورة واضحة عن جغرافية وطبوغرافية فلسطين، لا بد من رؤيتها ضمن التكوين الجغرافي الأوسع للمنطقة السورية؛ وخصوصًا في شريطه الغربي الذي تُشكل فلسطين وشرقي الأردن امتداده الجنوبي.

تتألف بلاد الشام من أربع مناطق جغرافية متجاورة ومتمايزة عن بعضها بحِدةٍ، تمتد من الشمال إلى الجنوب (انظر الخريطة في الشكل رقم ١). فلدينا أولًا شريط ساحلي ضيق محصور بين الجبال الغربية والبحر المتوسط، يأخذ بالاتساع تدريجيًّا في منطقة فلسطين. وراء هذا الشريط سلسلتان متوازيتان من الجبال، بينهما منخفِض يدعى سورية المجوَّفة؛ وهو عبارة عن سهل خَصيب يجري فيه نهران رئيسيان ينبُعان من خط تقسيم مياه مركزي في البقاع؛ هما نهر الأردن الذي يتجه جنوبًا ويصب في البحر الميت، ونهر العاصي الذي يتجه شمالًا عبر سهول حمص فحماةَ فسهلِ الغاب، ثم ينعطف مجتازًا السلسلة الغربية ليصب في البحر المتوسط. والسلسلتان تبلغان أقصى ارتفاع لهما في منطقة الوسط؛ حيث تُشكِّلان سلسلةَ لبنان الغربية وسلسلة لبنان الشرقية، وتحصُران فيما بينهما وادي البقاع. إلى الشمال والجنوب من قِمَم لبنان تنخفض السلسلتان، وتتحولان إلى نُجود واسعة؛ حيث تشكِّل جبال النُّصيرية وما يليها من جبال اللكام الامتدادَ الشمالي للبنان الغربي، بينما تشكِّل مرتفِعات الجليل وما يليها من منطقة الهضاب الفلسطينية الامتدادَ الجنوبي له. تتخلل سلسلة الجبال السورية الغربية ثلاث فجوات رئيسية؛ فلدينا في الشمال فجوةٌ تقع بين الحد الشمالي لجبال النُّصيرية وجبال الأمانوس، وفيها ينعطف نهر العاصي باتجاه البحر، وفجوة ثانية وسطى تقع بين الحد الجنوبي لجبال الجليل والهضاب الفلسطينية؛ وهي مرج ابن عامر، المعروفُ في التاريخ القديم بوادي يزرعيل أو إسدريالون. أما امتدادات لبنان الشرقي باتجاه الشمال والجنوب فأقلُّ تحدُّرًا؛ بحيث يتحول الامتداد الشمالي إلى منطقة تلِّية غير منتظمة تستمر حتى ملاطية. وإلى الجنوب يندمج لبنان الشرقي بمرتفعات شرقي الأردن؛ المعروفة تاريخيًّا بمرتفعات جلعاد وعمون مؤاب. وراء شريط الجبال الساحلية باتجاه الشرق يتجاور ويتداخل شريط الأراضي الخصبة مع الصحراء، فتصل أحيانًا ألسنة الصحراء حتى نهر العاصي؛ بينما يمتد الشريط الخصب حتى نهر الفرات في المناطق الشمالية.
fig1
شكل ١: خريطة سورية الطبيعية.
تبدو منطقة فلسطين صورة مصغرة عن منطقة الغرب السوري الذي تُشكِّل قِسْمَه الجنوبي، وهي تتألف من المناطق الجغرافية التالية: (انظر مصور فلسطين في الشكل رقم ٧ في القسم المصور آخر الكتاب).
  • (١)

    شريط الموانئ الساحلية: وأهمها عكو (عكا)، يوبا (يافا)، وأشقلون (عسقلان)، وغزة. لعبت هذه الموانئ، دورًا مهمًّا في التجارة الدولية عبر العصور، مع مصر وآسيا الصغرى وجزر بحر إيجة وغيرها من مناطق المتوسط.

  • (٢)
    السهل الساحلي: وهو شريط خصيب من الأرض الموازية للبحر، يتسع بعد رأس الناقورة ليشكل سهل شارون في الشمال، ثم سهل فلستيا في الجنوب.٤
  • (٣)

    سهل شفلح أو منطقة التلال المنخفضة، ويُشكلها الانحدار التدريجي لمنطقة المرتفعات أو الهضاب الفلسطينية.

  • (٤)

    الهضاب الفلسطينية: وهي الامتداد الجنوبي المنخفض للبنان الشرقي. وتتألف من أربعة أقسام هي: (أ) مرتفعات الجليل في الشمال. (ب) الهضاب المركزية (مرتفعات السامرة قديمًا ومرتفعات نابلس حديثًا). (ﺟ) مرتفعات يهوذا (جبال القدس حديثًا). تنحدر منطقة الهضاب الفلسطينية بشكل حاد نحو وادي الأردن، وخصوصًا عند مرتفعات يهوذا التي تتشكل وراءها منطقة صخرية وَعْرة تُدعى بصحراء يهوذا. (د) نجدة النقب، وهي بمثابة الامتداد الشمالي لصحراء سيناء.

  • (٥)

    وادي الأردن: وهو غور عميق يمتد بين بحيرة طبريا والبحر الميت، ثم يستمر بعد ذلك في وادي عربة.

  • (٦)

    وادي يزرعيل، أو إسدراليون: دعاه العرب مرج ابن عامر، وهو سهل واسع خصيب جدًّا، يمتد في الفتحة الجنوبية بين مرتفعات الجليل والهضاب المركزية. وقد كان عبر العصور ممرًّا مهمًّا يصل منطقة الساحل الفلسطيني ومصر بمناطق سورية الداخلية، كما كان ممرًّا تقليديًّا لعبور الحملات العسكرية.

  • (٧)

    إلى الشرق من وادي الأردن، وإلى الجنوب من جبل حوران وهضبة الجولان، تبرز على التوالي مرتفعات جلعاد، وعمون ومؤاب، كاستمرار متدرج في الانخفاض للبنان الشرقي.

إن الصورة العامة التي تقدمها لنا جغرافية فلسطين، وجغرافية سورية الغربية بشكل عام، هي صورة منطقة متنوعة إلى حد كبير، تتألف من بُقَع وبيئات معزولة عن بعضها. وقد انعكست هذه الجغرافيا المتنوعة على الحياة السياسية، ففي منطقة ذات طبيعة كهذه يصعب تحقيق الوحدة السياسية؛ لذا كانت بلاد الشام على الدوام مقسَّمةً إلى عدد من الدويلات الصغيرة المستقلة؛ الأمر الذي جعلها عرضةً للسيطرة من قِبل الإمبراطوريات الكبرى المجاورة، ولكن سورية قد أفادت في الوقت نفسه من كونها طريقًا تجاريًّا، فقد تخللتْها منذ أقدم العصور طرقُ التجارة العابرة من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى العرب؛ متحاشيةً النطاق الجبلي الوعْر، ومتبعةً شريطَ الموانئ الساحلية، أو ما يليها من سهول أو حافة الصحراء. ولما كان المسلك التجاري الساحلي بحاجة إلى الاتصال بالمسلك الداخلي الذي يتبع حافة الصحراء، فقد احتلت الفجوات في الحاجز الجبلي أهمية بالغة، وكانت السيطرة على هذه الفجوات في بعض الأحيان سببًا في نشوء منازعات عسكرية بين القوى الكبرى في المنطقة. فقد كان وادي يزرعيل، على سبيل المثال، منطقة تنازع كبرى بين مصر من جهة وحاتي وبابل وآشور من جهة ثانية. كما حاولت القوى الإقليمية الكبرى وضْعه تحت سيطرتها؛ مثلما فعلت مملكة آرام دمشق خلال القرون الأولى من الألف الأول قبل الميلاد.

وبما أن التجارة تشجع حياة المدينة وتساعد على ازدهارها، فقد نشأ على طول الخطوط التجارية صفان من المدن؛ الأول: صف من الموانئ البحرية على طول الساحل، طورت تجارتها عبر المتوسط غربًا، والثاني: صف من الموانئ الصحراوية على طول الحد الصحراوي، طورت تجارتها شمالًا باتجاه آسيا الصغرى، وشرقًا باتجاه وادي الرافدين. وفي الممرات الجبلية التي تصل الطريق التجاري الساحلي بالطريق التجاري الداخلي نشأت صفوف من المدن التجارية تقوم بدور الوساطة بين صف الموانئ البحرية وصف الموانئ الصحراوية. أهم وأطول هذه الصفوف العرضانية هو صف مدن وادي يزرعيل الذي انتظمت عليه مدن فلسطينية هامة منذ مطالع التاريخ؛ وهي: يزرعيل ومجدو وتعنك وبيت شان (بيسان الحالية).

١  إدوار سعيد: الثقافة والإمبريالية ص٨٧.
٢  إن فكرة الصراع على الماضي من أجل كسب الحاضر هي إحدى الأفكار الناظمة لكتاب كيت وايتلام: Kaith Whitelam, The Invention of Ancient Israel.
٣  تقسم الأسفار التوراتية إلى أربع مجموعات؛ هي: (١) أسفار الشريعة المدعوة بأسفار موسى الخمسة. (٢) الأسفار التاريخية؛ مثل أسفار الملوك الأول والثاني وأخبار الأيام الأول والثاني. (٣) أسفار الحكمة؛ مثل سفر الجامعة وسفر الأمثال. (٤) أسفار الأنبياء؛ مثل سفر إرميا وسفر إشعيا.
Th. L. Thompson: The Bible in History, p. 49.
٤  سوف نستخدم فيما يلي الأسماء التاريخية للمواقع والهيئات الجغرافية؛ لا الأسماء المعاصرة، وكذلك الأمر فيما يتعلق ببقية هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤