الفصل الثاني

الكلام على الاسترقاق في القرون الوسطى

إن قوانين الأمم المتبربرة١ تشابه قوانين الرومانيين في كونها تعتبر الرقيق كشيء من الأشياء، فإنها تجعله بمنزله الفرس والثور وغيرهما من الحيوانات المستخدمة الأهلية، فكان المولى في شرعهم يتصرف بعبده كما يتصرف بما عنده من الأشياء ذات القيمة، وكان يجوز له قتله، لأنه شيء من الأشياء التي تملكها يمينه، وهم فروع:

الفرع الأول: الاسترقاق عند الغاليين٢

كانت أعمال الحراثة والفلاحة في عصر سيسرون٣ من موجبات الهوان والاحتقار ودواعي الذل والصغار، ولذلك كان الأرقاء هم المنوطين بحرث الأرض والزراعة والحصد.

الفرع الثاني: الاسترقاق عند الجرمانيين٤

كانت هذه الأمة منهمكة في لعب القمار انهماكًا لا حد له كما رواه المؤرخ تاسيتوس،٥ حتى كان كثيرًا ما يخرج الولوع به بعضهم إلى الشطط، فيقامرون على نسائهم وأولادهم، بل وعلى حريتهم الشخصية.

أما الأرقاء الذين يحتكمهم الجرمانيون بطريقة الشراء أو الميراث، فكانوا يكلفون بخدمة المنازل، بل كان لكل واحد منهم مسكن خاص به يديره كيفما شاء، وكان المولى يفرض عليه مقدارًا من القمح أو الماشية أو الملابس كأنه من مؤاجريه، وفي ذلك كان ينحصر الاستعباد عندهم.

الفرع الثالث: الاسترقاق عند الإفرنج٦

وصل الاسترقاق عندهم إلى نهاية الشدة والقسوة؛ فإن القانون السالي٧ جعل من مبدأ الأمر بين الأرقاء والأحرار من الموانع والحواجز أسوارًا كثيرة، فكان التناكح بينهما غير جائز مطلقًا؛ إذ في صريح القانون عندهم أنه «إذا تزوج أحد الأهالي برقيقة أجنبية وقع في الرق والاستعباد»، وكذلك المرأة الحرة التي تتزوج برقيق تفقد حريتها وينالها هذا العقاب!

الفرع الرابع: الاسترقاق عند الويزيقوط٨

قوانين النكاح عند هذه الأمة أبلغ في الشدة مما هي عند التي قبلها؛ فقد تدون بها «أن المرأة الحرة إذا تزوجت برقيقها كانت عقوبتها أن تحرق هي وإياه وهما على قيد الحياة»، وأما إذا كانت لا تمتلك العبد يفسخ النكاح ويجلد كل منهما بالسياط، ولكن الرقيق لم يكن ملكًا لسيده بوجه الإطلاق، بحيث تكون حياته في يده يتصرف فيها كيفما شاء، بل كان القاضي هو الذي يحكم على العبد بالموت إذا كان يستحق ذلك، ثم يسلمه لسيده يفعل به ما يريد.

الفرع الخامس: الاسترقاق عند الأستروقوط واللومبارديين٩

وُضعت أحكام صارمة عند هاتين الأمتين، فكانت المرأة الحرة التي تتزوج برقيق تعاقب بالإعدام.

الفرع السادس: الاسترقاق عند الأنجلو ساكسون١٠

كانوا يقسمون الرقيق إلى صنفين عظيمين كما عند الأمم الأخرى، وهما الرقيق المشبهون بالمنقولات، والرقيق المشبهون بالعقارات، فأفراد الصنف الأول يجوز بيعهم، وأما الآخرون فكانوا لا ينفكون عن الأرض القائمين بحراثتها وزراعتها، وفي أواخر حكم هذه الأمة كان يجوز للأرقاء أن يكون لهم رأس مال خاص بهم، وكانوا يشتغلون بتحصيل ما يدفعونه لمواليهم لأجل نوال حريتهم.

وسنتكلم في الباب الرابع على الاسترقاق في الديانة النصرانية.

هوامش

(١) الأمم المقصودة في هذا الفصل هي أمم مخصوصة أغارت على المملكة الرومانية جملة مرات لأسباب غير معروفة، وإليك تفصيلات مهمة عليها: هذه الأمم تتألف من ثلاثة أجناس كبيرة؛ وهي: الجنس الجرماني أو التوتوني، والجنس الصقلبي أو السرماتي، والجنس السيتي أو السكيتي، وتحت هذه الأجناس أنواع وأصناف وقبائل وعشائر لا تدخل تحت الحصر، فمنها أمة الألين Alains، وكانت لا تعرف الاسترقاق، بل كانوا جميعًا أحرارًا من نسل أحرار. ومن عادة هذه الأمم كلها شرب الجعة (البيرة) والماء واللبن والنبيذ في جماجم الأعداء، ومتى تم لهم الانتصار ارتكبوا فظائع جمة، ولكن إذا دارت عليهم الدائرة كانوا يقعون على بعضهم بعضًا، ويهيجون على أنفسهم غيظًا وحنقًا، فيربطون الواحد بالآخر، ولا يزالون كذلك حتى يموتوا، لأنهم يقولون الموت ولا التقهقر، والمَنِيَّةُ ولا الدنية، ونساؤهم يتسلحن بالسيوف والبلط ثم ينقضضن على رجالهن وعلى أعدائهن من غير تمييز، وهن يصحن صياحًا مفزعًا مرعبًا من شدة ما أَلَمَّ بهنَّ من الكدر والغضب، فكنَّ يقتلن رجالهن لجبنهم، والروماني لأنه عدوهن، وعند التحام المعركة يقبضن بأيديهن وهى عارية على سيوف الأعداء البتارة وينزعن منهم تروسهم إلى أن يشربن كأس الحِمام، وقد شوهد كثير منهن مرخيات الشعور مضرجات بالدماء متشحات بالملابس السوداء، يركبن على عربات الحرب ويقتلن أزواجهن وإخوتهن وآباءهن ويخنقن أطفالهن، ثم يقذفنَّ بهم جميعًا تحت سنابك الخيل، ثم يطعنَّ أنفسهن ويلحقن بهم، وقد شنقت إحداهن نفسها على عربتها بعد أن صلبت غلامها على ساقيها. وقد يسعى الرجل من هذه الأمم عند وقوع الهزيمة عليه في البحث عن شجرة ليصلب نفسه عليها، فإذا لم يجد وضع في رقبته حبلًا مربوطًا بأنشوطة من أحد طرفيه، ثم ربط الطرف الآخر في قوائم وقرون أثواره، فلا يلبث أن يهلك، وكان بعض هذه الأمم يعتقد بالقضاء والقدر من غير أن يكون له دين ما، وبعضهم يعبدون سيفًا يغرزونه في الأرض، وبعضهم يعبدون إلهًا اسمه ديس (أبو الليل) ويتقربون إليه بذبح الشيوخ والطاعنين في السن. وكان الاسترقاق معروفًا عند جميع هذه الطوائف، وكانوا يقسمون التركة بالمساواة على جميع الأولاد، بل إن آخر الأولاد كان أكثر حظًّا من إخوته، لأنه يعتبر أضعفهم وأقلهم اقتدارًا على كسب الرزق. ا.ﻫ. مترجم.
(٢) هم سكان تلك البلاد القديمة المعروفة باسم غاليا الحقيقية (فرنسا)، وغاليا التي أمام جبال الألب (إيطاليا الشمالية)، ثم حكومة أقاليم الغاليا (الجزائر البريطانية وفرنسا وإسبانيا القديمة). ا.ﻫ. مترجم.
(٣) وقد يكتب شيشرون أو قيقرون، وهو أفصح خطباء الرومانيين، ولد سنة ١٠٦ق.م، ثم درس البلاغة والفلسفة على أشهر أساتذة عصره، وانتظم في سلك المحامين وعمره ١٦ سنه، ثم ذهب إلى أثينة لتكميل العلوم والتوسع في صناعته، وعاد إلى وطنه، ولما دخل في الثلاثين من عمره تقلد المناصب والوظائف، فعين أمينًا لبيت المال في صقلية، وجمع أفئدة الأهالي على محبته والولاء له، حتى إنهم كلفوه بالمدافعة عنهم في دعوى أقاموها على رجل من الحكام نهبهم واغتصب أموالهم بطرق فاضحة، وقد كسب الدعوى مع ما لخصمه من الاقتدار ونفوذ الكلمة وكثرة المال، ثم عُيِّنَ قنصلًا (علم على أحد القاضيين الأولين اللذين كانا على رأس حكومة رومة) واكتشف مؤامرة فخيب مساعي أهلها، فلقبه مجلس الشيوخ (السناتو) أبا الوطن، ثم فاز عليه أصحاب المؤامرة المذكورة، فنفوه بحجة أنه أمر بإعدام المتآمرين من غير محاكمة، ثم أعيد إلى بلده بعد ١٦ شهرًا واستُقبل بمظاهر الاحتفاء والاحتفال، ثم عُين في حكومة كيليكا (بآسيا الصغرى)، وانتصر في وقائع حربية كثيرة، حتى لقبه عساكره بالإمبراطور، ثم تخلى عن الأعمال وتفرغ لتأليف كتبه الجليلة الفريدة، ثم عادى أنطونيوس وتحزب لأوكتافيوس، ولكن الخصمين اتحدا مع بعضهما، فلم يلتفت إليه أوكتافيوس، ولم يدفع عنه كيد عدوه، فدس له أنطونيوس من قتله في سنة ٤٣ق.م، وكان عمره ٦٤ سنة. ا.ﻫ. مترجم.
(٤) هم سكان جرمانيا التي هي الآن ألمانيا. ا.ﻫ. مترجم.
(٥) أو تاشيتوس، وقد يكتب اسمه تاقيطس، وهو مؤرخ لاتيني ولد في سنة ٥٤ ميلادية، وانتظم أولًا في سلك المحامين ثم في الجندية، وتقلد وهو شاب وظيفة في الحكومة، وتزوج ببنت من بنات أغريكولا، ثم صار عاملًا على ولاية، ثم قنصلًا، وتوفي بعد أن تجاوز الثمانين في سنة ١٣٠ أو سنة ١٣٤ ميلادية على خلاف بين المؤرخين. اشتهر في الخطابة والشريعة، وقد ضاعت أغلب تآليفه، ولكن بقي منها جزء من تاريخه وترجمة حال أغريكولا وأخلاق الجرمانيين، ومحاورة على الفصاحة ينسبها بعضهم إلى الفيلسوف كوانتليانوس، وكان يبحث في مؤلفاته بحثًا تاريخيًّا فلسفيًّا، فلذلك جاء إنشاؤه جزلًا وافيًا دقيقًا، وكثيرًا ما يبالغ في الكلام على عادات الجرمانيين. ا.ﻫ. مترجم.
(٦) أمة حرة مؤلفة من جملة عائلات جرمانية سكنت بطائح نهر الرين الأسفل، ومنها تناسَل الفرنساوية، وهى من أشهر الأمم التي ظهرت في القرن الثاني والثالث بعد المسيح، وكان في طبعهم الجراءة والإقدام والشَّمَم، ولم يكن عندهم شيء من العلوم ولا من الصنائع سوى أن الرجل يولد عسكريًّا، وكانوا على جانب عظيم من الدهاء والمكر والخيانة والغدر، لا يرون الأقسام والأيمان شيئًا مذكورًا. ا.ﻫ. مترجم.
(٧) Loi Salique هو في فرنسا ومقتضاه حرمان النساء من الجلوس على كرسي المملكة، وكان في أول الأمر خاصًّا بأملاك الأفراد ومانعًا للإقطاع من الوقوع في أيدي النساء، ثم سرى مفعوله على الوراثة الملوكية للمرة الأولى في سنة ١٣١٦ بعد وفاة الوزير الهوتيني، ومن ذلك الوقت يعتبر من القوانين الأساسية للمملكة الفرنساوية في القرون الوسطى، وهو يحتوي على ٤٠٠ مادة أغلبها في الكلام على الجنح والجنايات؛ مثل السرقة والإكراه والجرح والقتل. ا.ﻫ. مترجم.
(٨) هم فروع من أمة القوط، وهي أمة قديمة بجرمانيا جاءت الأندلس، ولها ذكر في ابن خلدون وغيره من مؤرخي الإسلام. ا.ﻫ. مترجم.
(٩) الأوستروقوط فرع آخر من الأمة المذكورة، مَلَك إيطاليا مدة من الزمان، واللومبارديون هم سكان لومبارديا من القرن السادس إلى الثامن بعد المسيح، قهرهم شارلمان. ولومبارديا قسم في شمال إيطاليا تخته ميلانو، وهي الآن إحدى مقاطعاتها. ا.ﻫ. مترجم.
(١٠) هو اسم جنس أطلق على الأمم الجرمانية التي أغارت على بريطانيا العظمى في القرن الخامس للميلاد، ومنهم تناسل الإنكليز. ا.ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤