الفصل الثاني

نظرة تأمُّلية لقانون مور

تتمتَّع قلة قليلة من ظواهر الكون الرقمي بتأثيرٍ عميق على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات يعادل تأثيرَ قانونِ مور. ويمكن صياغة هذا القانون بإيجازٍ بطريقتين:
  • «يتضاعف عددُ الترانزستور على الدوائر المدمجة كلَّ عامين تقريبًا.»

شركة إنتل1
  • «سيقل حجم كلِّ ترانزستور على شريحةِ دائرةٍ مدمجة بنسبة ٥٠ بالمائة كلَّ أربعة وعشرين شهرًا.»

ريموند كرزويل2
تضاعُفُ سرعة وسعة تخزين وحدة المعالجة المركزية للحاسوب كلَّ عامين منذ سنة ١٩٥٨ أثَّرَ تأثيرًا جذريًّا على كلِّ صنفٍ من صنوف التكنولوجيا الرقمية. هذا التضاعُف يُبرِز للعيان معدلَ النمو التصاعدي في سعة الحوسبة والتخزين، ما يجعله أمرًا مدهشًا نظرًا لطول ثباته لأكثر من نصف قرن (انظر الشكل ٢-٢). تأمَّلْ أيَّ جهازٍ تستخدمه يوميًّا ويتمتع بمعالج رقمي أو به شريحة تخزين: هاتف محمول، أو مشغِّل موسيقى محمول، أو كاميرا رقمية، أو كمبيوتر لوحي، أو جهاز تليفزيون، أو أي جهاز آخَر يمكنه معالجة أو تخزين المعلومات الرقمية. إن تقلُّصَ حجمِ الترانزستور المصحوب بالزيادة التصاعدية في قدرة هذه الشرائح على المعالجة؛ يتيح للهاتف المحمول أن يَحْوِي مشغِّلَ موسيقى ومستعرِضَ إنترنت وكاميرا فيديو ومحدِّد المواقع بنظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس). في المرة المقبلة التي تستخدم فيها هاتفك المحمول، تأمَّلْ قدرتَه كجهازٍ لمعالجة المعلومات وفكِّرْ في ردِّ فعلِ ألكسندر جراهام بيل إنْ شاهَدَه معروضًا.
fig1
شكل ٢-١: جوردون مور أمام رقاقة سليكون معروضة ومكبَّرة بنسبةٍ هائلةٍ، تحوي الكثيرَ من الدوائر المدمجة. «في إحدى المرات قدَّرَ مور أنه إنِ اتَّبَع قطاعُ السيارات نموذجَ تضاعُفٍ مشابِهًا لِمَا تتَّبِعه الدوائر المدمجة؛ فإن سيارات اليوم ستسير ١٠٠ ألف ميل بجالون وقود واحد، وستسير بسرعاتٍ تبلغ ملايين الأميال في الساعة الواحدة، وسيرخُص ثمنُها لدرجةِ أن سيارة رولزرويس ستكلِّفك أقلَّ من رسوم رَكْنها بوسط المدينة ليومٍ. إلا أن أحد الأصدقاء أشار إلى السيارة في هذه الحالة قائلًا: «لن يزيد طولها عن نصف بوصة، وارتفاعها عن ربع بوصة.» ومن ثَمَّ لن تكون ذات نفع كبير بهذه الأبعاد» (مايكل كانيلوس، ٢٠٠٥). الصورة: حقوق التأليف والنشر محفوظة لشركة إنتل، ٢٠٠٥.
fig2
شكل ٢-٢: لا يزال قانون مور متحقِّقًا. مخطَّط قانون مور من إعداد وجسايمون.

يتناول د. ييل بات، عالِم الكمبيوتر بجامعة تكساس في أوستن، قانونَ مور في محاضراته بطرح السؤال التالي على الحضور:

ما هو موضوع قانون مور؟

  • (أ)

    الفيزياء؟

  • (ب)

    تكنولوجيا معالجة الكمبيوتر؟

  • (جـ)

    المعمارية الدقيقة للكمبيوتر؟

  • (د)

    علم النفس؟

الإجابة الصحيحة بحسب د. بات هي (د) علم النفس.3 يقوم رأيه على أن قانون مور أصبح نبوءة تتحقَّق من تلقاء نفسها (أيِ اعتقادًا يعتقده كثيرون وينتظرون تحقُّقَه وينسبون إليه ما يحدث). فمصمِّمو الدوائر المدمجة (ومديروهم) بشركات إنتل وهيتاشي وإيه إم دي وغيرها من مصنِّعي الشرائح تأقلموا نفسيًّا مع توقُّع أنه سيوجد جيلٌ جديد من الشرائح كل ١٨–٢٤ شهرًا، يتمتع بضِعْف سعة الإصدارات السابقة. وإنْ لم تطرح شركةُ إنتل رقاقاتٍ جديدةً بسعة محسَّنة؛ فإن مسئوليها التنفيذيين يُدرِكون أن شركة إيه إم دي أو غيرها من المنافسين سيطرحون رقاقاتٍ جديدةً.

كنمطٍ من أنماط النمو، قليل من الأنظمة الطبيعية بوسعه الحفاظُ على التضاعُف التصاعدي لمدة طويلة؛ فندرة الموارد أو التدهور البيئي أو غيرهما من القيود الطبيعية تثبط النمو. وقد دفعت هذه القيودُ النقادَ لأمدٍ طويل إلى القول بأن قانونَ مور غيرُ مضمونِ الدوام، لكنهم أغفلوا أن الحديث هنا عن تكنولوجيا خلَقَها الإنسان بناءً على خواص السليكون الجوهرية، وليس عن ظاهرة عضوية. والتبعاتُ التكنولوجية لقانون مور ليست كلها إيجابية ومقبولة؛ فجهاز الكمبيوتر الذي اشتريتَه من عامين يساوي اليومَ أقلَّ من نصف المبلغ الذي دفعتُه مقابلَه؛ على افتراضِ أنك ستجد مَن سيرغب في شرائه؛ والخياراتُ الواقعية التي لا تملك غيرَها هي التبرُّعُ به أو إعادةُ تدويرِ مكوناته. يوجد تقادُم فني مخطط مرتبط بقانون مور؛ وهو ما يحمل أخبارًا طيبة لمصمِّمي الشرائح ومصنِّعي الكمبيوترات ومنتجي البرمجيات، لكنها ليست بالأخبار الطيبة للمستهلكين. سنعود إلى هذا الجانب من قانون مور فيما يلي، لكنه جانبٌ جديرٌ بالتأمُّل من منطلق اكتساب مَلَكة المعرفة الناقدة التي ناقشناها في الفصل التمهيدي.

التنبُّؤ

عام ١٩٦٥، نشر جوردون مور — الذي كان يشغل آنذاك منصب الرئيس التنفيذي لشركة فيرتشايلد سيميكونداكتور — مقالًا قصيرًا بإصدار شهر أبريل من مجلة «إلكترونيكس» بعنوان «حشد مزيدٍ من المكونات على الدوائر المدمجة».4 تنبَّأَ مور في هذا المقال بأنه في غضون عقد من الزمان (بحلول عام ١٩٧٥) ستتيح تكنولوجيا شرائح السليكون الناشئة صنْعَ دوائر مدمجة تحمل ٦٥ ألف وحدة ترانزستور على الشريحة الواحدة. وبالنظر إلى حال صناعة الدوائر المدمجة عام ١٩٦٥، ألمح تنبُّؤه المدهش آنذاك إلى أن عدد وحدات الترانزستور على الشريحة سيتضاعف كلَّ عام في العقد الممتد من ١٩٦٥ إلى ١٩٧٥. أرفق مور جدولًا (انظر الشكل ٢-٣) يبيِّن مقياسًا لوغاريتميًّا يوضح هذا التضاعف للمكونات على الشريحة من ١٩٦٢ إلى ١٩٦٥، ثم بسط مخططه البياني إلى المستقبل. وقد عكسْتُ موضعَ المحورين السيني والصادي في النسخة بالشكل ٢-٣ (حيث يمثِّل المحورُ الصادي الزمنَ) بهدف التوضيح. لاحِظْ أن هذه الحسابات قائمةٌ على أربع نقاط بيانية مؤكَّدة فحسب (من ١٩٦٢ حتى ١٩٦٥)، وكانت تكهُّنًا بالغَ الجرأة على اعتبارِ تضاعُف المكونات بمعدلات سنوية. مع ذلك، ثبت أن تنبُّؤ مور بهذا الإنجاز التكنولوجي المبهر بصير بالمستقبل، حتى إنْ أصبحَتِ الفواصل الزمنية بين التضاعُف أقرب إلى ١٨ شهرًا بدلًا من ٢٤.
fig3
شكل ٢-٣: إعادة رسم لمخطط قانون مور. المصدر: منقول بتصرُّف من الأصل المنشور بمجلة «إلكترونيكس»، ٣٨ / ٨ (١٩ أبريل، ١٩٦٥).
بعد مضي ثلاث سنوات، ترَكَ مور منصبَه كمديرٍ لمعامل الأبحاث والتطوير بفيرتشايلد ليفتح شركةً جديدة بالشراكة مع روبرت نويس وأندرو جروف. كان اسمها قصيرًا لا يُنسَى؛ شركة إنتل كوربوريشن. في عام ١٩٧٥، راجَعَ مور الإطارَ الزمني لتطوُّر الشرائح من عام واحد إلى عامين في خطبةٍ ألقاها أمام جمعية مهندسي الكهرباء والإلكترونيات.5 لعدة عقود رفض مور في تواضُعٍ شرَفَ أن يحمل القانون اسمَه، وتُنسَب تسميةُ القانون باسمه إلى كارفر ميد، عالِم الكمبيوتر بمعهد كاليفورنيا للتقنية.6 كان المقدَّر للقانون أن يكون منهجًا مرجعيًّا مطَّلِعًا على المستقبل، يقود النمو التصاعدي في قدرة الدوائر المدمجة على مدار الأربعين عامًا اللاحقة. تنطبق ظاهرةُ التضاعُف كذلك على شرائح الذاكرة مثل محرك الأقراص المحمول (ذاكرة الفلاش)،7 وأثبَتَ القانونُ دقتَه على صعيد المعالجات الدقيقة الأساسية في كل أجهزة الكمبيوتر الشخصية. يفهم مستخدِمو الكمبيوتر ويلمسون التحسينات التي دخلت على سرعة المعالجة في شرائح وحدات المعالجة المركزية، لا سيما الشرائح التي ابتُكِرت في العقدين المنصرمين. توجد استخداماتٌ أخرى لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات لا نراها بالقدر نفسه من الوضوح؛ فبسيارات اليوم، على سبيل المثال، عددٌ من شرائح الكمبيوتر التي تحكم الوظائف الحسَّاسة مثل حقن الوقود وميزات الأمان والإلكترونيات التي بمقدورها تحقيق التزامن مع هاتفٍ محمولٍ من أجل استخدامٍ حرٍّ لليدين. يحوي كثيرٌ من الطرازات نظامًا لا سلكيًّا لدخول السيارة وتشغيل المحرك من دون مفتاحٍ يعتمد على التكنولوجيا الرقمية التي تسمح بولوج المركبة وتشغيلها. في مناطق المدينة التي ترتفع فيها معدلات سرقات السيارات، تصبح هذه الميزة ميزةً مهمة للمستهلكين، على الرغم من الكُلْفة المضافة؛ فإنْ سُرِقت سيارتك، فبوسع الأجهزة الإلكترونية المخبَّأة بها أن تمكِّن الشرطةَ من تعقُّب سيارتك واستعادتها. في الزمن الذي قدَّمَ فيه مور نبوءتَه، لم تداعِب تلك التكنولوجيا مخيلةَ أحدهم إلا في أفلام جيمس بوند.

التبعات على الحوسبة والكون الرقمي

يستخدم علماء الكمبيوتر عامةً مصطلح «الحوسبة واسعة الانتشار» لوصف عالَمٍ حافل بالأجهزة «الذكية»؛ فالزيادةُ في سرعة وقدرة الدوائر المدمجة، مصحوبةً بالانخفاض الحاد في سعر الترانزستور الواحد، أتاحَتْ زرْعَ شرائح قوية في كل أداةٍ أو جهازٍ يعمل بالكهرباء تقريبًا. وهذه الأجهزةُ المدمجة أتاحَتْ إضافةَ مجموعةٍ متنوعة لحدٍّ مدهش من الوظائف الذكية لما كانت في الماضي أدواتٍ ومعداتٍ «غبيةً». والهاتفُ مثالٌ نموذجي على ذلك؛ فما كان في الماضي جهازًا بالغَ البساطة يستخدمه المرء بمجرد رفع سماعته إلى أذنه، ثم يطلب الرقم بالاستعانة بقرصٍ دوَّار أو لوحةِ مفاتيح؛ أصبح اليومَ أداةً أكثر تعقيدًا بمراحل. فهاتفي المحمول، المزوَّد بكاميرا ووضع الإرسال الرباعي، الذي يعمل كذلك كمشغِّل فيديو رقمي؛ جاء مصحوبًا بكتيبِ تعليماتٍ من ٧٩ صفحة. ربما يضطر مستخدمو الهواتف المحمولة في المستقبل إلى حضورِ دورةٍ موجزة عن برمجة ميزات الهواتف حتى يتعلَّموا كيفيةَ استخدام كل الوظائف المزوَّد بها هاتفهم/حاسوبهم/كاميرتهم، فضلًا عن آلاف التطبيقات المتاحة القابلة للتنزيل.

في زمنٍ من الأزمان الماضية كان بوسع المرء أن يدخل منزل شخصٍ لم يَزُرْه من قبلُ ويُجرِي بسلاسةٍ مكالَمةً هاتفية، ويشغِّل التليفزيون، ويؤدِّي مهمةً بسيطةً كغلْيِ إبريقٍ من المياه. واليومَ نَحْتَكُّ بمعدات ذات قدرات هائلة، وتعلُّمُ تشغيلها أمرٌ لا يقل عنها تعقيدًا. وأود أن أقترح مصطلحًا يصف هذا الاتجاه في التصميم التطوري للمعدات التي كانت بسيطةَ التشغيل فيما مضى: «إضفاء التعقيد». سيشهد المستقبلُ استعمالاتٍ أكبرَ للذكاء الاصطناعي في تصميم المنتجات لتخفيف الإجهاد عن كاهل المستخدمين، لكن كما جرى القول المأثور: «ثمة مستقبلٌ باهرٌ بانتظارِ التعقيد.» سيكون التحدي الذي سيواجه المهندسين ومصمِّمي المنتجات في العقود القادمة هو ابتكار أجهزة تتمتَّع بقدرةٍ تشغيلية عظيمة، لكن يسهل استخدامها أيضًا.

إن آثار قانون مور على مواطني الأمم التي ستستخدم التكنولوجيا الرقمية المتفوقة ستكون ضخمةً في المستقبل. وحيث إن الولوج على الإنترنت متاحٌ لنسبة ٢٥ بالمائة من سكان الكوكب، الذين يربو عددهم على ٧ مليارات نسمة، فهذا قاسم ليس بقليلٍ من البشرية.8 سيزيد أداءُ الشرائح في الوقت الذي سيستمر فيه انخفاضُ أسعار الأجهزة، وقد بلغ تخزينُ المحتوى الرقمي على الشرائح من رخص التكلفة أنه بوسع الأجهزة الإلكترونية اليومَ التمتُّعُ بسعةِ تخزينٍ هائلة، لا سيما الهواتف والكاميرات. ستدخل الشرائحُ في مجموعة كبيرة من المنتجات التي ستتمتَّع بمستويات مدهشة من الذكاء. سيزيد تعقيدُ العالَم التليماتي بوقعٍ مطرد، وسيُسَرُّ المستهلِكون إنْ كانت هذه الأجهزة سهلةَ الاستخدام والصيانة، وسيستاءون إنْ لم تكن كذلك.

إلى جانب التعقيد، القلقُ حيال تضاؤُل الخصوصية في هذا الكون الرقمي سيصبح قضيةً خطيرة لدى كثيرٍ من أمم العالم؛ فمع الكاميرات المدمجة بكل هاتف محمول ونُظُمِ الرصد التي تراقِب تقريبًا كلَّ معامَلةٍ تجارية، توجد فعليًّا مخاوف ذائعة الصيت بشأن الأثر السلبي على خصوصية الأفراد. منع كثيرٌ من النوادي الصحية في الولايات المتحدة الهواتفَ المحمولة بعد ذيوع حالاتٍ التقط فيها بعضُ الأعضاء المعدومي الضمير صورًا في غُرَف خلع الملابس ونشروها على الإنترنت. سنتناول هذه المخاوف وقضايا الخصوصية الرقمية المرتبطة بها في الفصل الحادي عشر.

الحتمية التكنولوجية

الحتمية التكنولوجية وجهة نظر تقول بأن تكنولوجيا المجتمع تحدِّد تاريخه وبنيته الاجتماعية وقِيَمه الثقافية. إنه مصطلح ذو مدلول سلبي، استُخدِم لانتقادِ مَن يعتبرون التكنولوجيا قوةً حاكمةً مركزية تكمن خلف التغيُّر الاجتماعي والثقافي، بوصفهم أشخاصًا يتَّبِعون منهجًا اختزاليًّا مفرطًا. يعترف الكاتب توماس فريدمان بمحض إرادته في كتابه «العالَم مسطح» (٢٠٠٥) بأنه من المؤمنين بالحتمية التكنولوجية، وقد كتب: «الإمكانيات تخلق النيِّات» فيما يخص الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في تشكيل الكيفية التي نحيا بها.9 والأمثلة التي يسوقها هي تيسير الإنترنت للتجارة الإلكترونية العالمية وتكنولوجيات تنظيم سَيْر العمل (وشبكة الإنترنت) التي أتاحت التعهيد الأجنبي والتعهيد الخارجي للمهام المجزَّأة حول العالم. فيقول فريدمان:
يعلِّمنا تاريخُ التطور الاقتصادي هذا الدرسَ مرارًا وتكرارًا: إنْ كان بوسعك إنجازُ هذه المهمة، فلا بد أن تقوم بها، وإلا فسينجزها منافِسوك … ثمة عددٌ لا حصرَ له من المهام التي بوسع الشركات والبلدان والأفراد القيامُ بها، ولزامًا عليهم القيام بها من أجل النجاح في عالَم مسطح.10

يندر أن تجد مراقِبًا للحياة المعاصرة مستعِدًّا للإدلاء بتصريحٍ رسمي في هذا الصدد، وأنا أسجِّل إعجابي هنا بشجاعةِ توماس فريدمان في قيامه بذلك. ومنظورُه جديرٌ بالأخذ في الاعتبار. من الواضح أنه توجد مجموعة كبيرة من العوامل التي تؤثر على التغيُّر الاجتماعي، بما فيها الثقافة والاقتصاد والسياسة من بين جملة عوامل أخرى، على الرغم من ذلك يُعلِي توماس فريدمان من مكانة التكنولوجيا إلى وضعٍ متميِّزٍ بسبب سعة انتشارها في الحياة المعاصرة. وهو مصيب في رأيه: «الإمكانيات تخلق النيات.» وابتكارُ صيغة الضغط «إم بي ثري» لملفات الموسيقى مثالٌ مواتٍ للتحليل؛ فعندما لم تكن الموسيقى المسجَّلة متاحةً إلا على أسطوانات الفينيل، كانت خياراتُ نَسْخ الموسيقى المتاحة قليلةً. ومع تطوُّر التكنولوجيا، تسنَّى للمرء نسْخُ شريط كاسيت من أسطوانة، لكن كانت جودةُ النسخة رديئةً، وكان عليه إجراء تقديم سريع للشريط أو إرجاعه لإيجاد الأغنية التي ينشدها. وبمجرد أن ظهرَتِ التكنولوجيا الرقمية مع مجيء الموسيقى على الأقراص المدمجة، أصبح بوسع المستخدِم نسْخُ الأغاني المفردة إلى الأقراص الصلبة كملفاتٍ رقميةٍ.

أصحابُ حقوق التأليف والنشر كشركات التسجيلات الفنية لم يعتَرِها القلقُ حينَها؛ إذ كان على المستخدمين شراء الأسطوانة لنسخ الموسيقى. لكن مع الانتشار الواسع لصيغة الملفات إم بي ثري11 أنشأ مستخدِمو هذه التكنولوجيا مكتباتٍ موسيقيةً ضخمةً بهذه الصيغة، ولم يمر وقتٌ طويل حتى طرحت إحدى الشركات — تُدعَى نابستر — تكنولوجيا فريدةً تمكِّن مستخدِمي خدمتها من نَسْخ ملفات الموسيقى إلى حواسبهم من مستخدِمٍ آخَر لديه الأغاني المنشودة، ثم يتسنَّى لمستخدِم آخَر نسخها إلى جهازه وهكذا. وعندما قاضت شركات التسجيلات الفنية خدمةَ نابستر لإغلاقها هي وغيرها من الخدمات، كان قد سبق السيف العزل. ولولا انتشارُ استخدام صيغة الملفات الرقمية إم بي ثري، وابتكارُ تكنولوجيا مشارَكة الملفات الناجحة بين الأجهزة مباشَرةً دون خادم (بير تو بير)، ما كانت القرصنةُ على الموسيقى لتكون بهذه البساطة والسهولة.
النظامُ القانوني والتشريعات الحكومية ذات الصلة لا تؤدِّي سوى دورِ المستجيب على مستوى العالَم كله تقريبًا أمام الابتكارات التكنولوجية. تطرح صناعاتُ التكنولوجيا الرقمية ابتكاراتٍ بسرعاتٍ على مستوى قانون مور، وتشقُّ النُّظُم القانونية طريقَها بصعوبةٍ كي تكون على السرعة نفسها دون أن يُكلَّل ذلك بالنجاح. وعلى الرغم من الأحكام الصادرة من المحكمة بإغلاق خدمة نابستر (حتى طبَّقَتْ نموذجًا يتقاضى رسومًا مقابل الموسيقى) وغيرها من خدمات مشاركة الملفات بين الأجهزة مباشَرةً دون خادم، ارتفعَتْ بشدة مبيعات صناعة الموسيقى في الولايات المتحدة لتبلغ ١٤٫٥ مليار دولار عام ١٩٩٩، ثم شهدت انخفاضًا حادًّا لتبلغ ١٠ مليارات دولار عام ٢٠٠٨.12 يمكن أن يُعزَى جزءٌ من الانخفاض الكلي في عائد صناعة الموسيقى بالولايات المتحدة إلى استمرار انتشار مشاركة مستمِعِي الموسيقى للملفات، على الرغم من أن التنزيلات الرقمية المدفوعة قد زادت منذ عام ٢٠٠٥. وثمة اتجاهٌ آخَر يؤثِّر بالسلب على مبيعات الموسيقى، وهو البث الحي للموسيقى على مواقع الإنترنت مثل باندورا وسبوتيفاي وآي ميم.13 فما الحاجة إلى شراء أقراص الموسيقى إنْ كان بوسعك الاستماع إلى مئاتٍ من مختلف صنوف الموسيقى مجانًا على الإنترنت؟
على الرغم من الأنماط المدفوعة بالتكنولوجيا في تصنيع الدوائر المدمجة والقرصنة على الموسيقى، ثمة مشكلات في الرؤية القائلة بأن التكنولوجيا في حد ذاتها تحتِّم تبنِّيها. إن الخوف الرئيسي من تبنِّي فلسفةٍ تفيد بأن التكنولوجيا بمجتمعٍ من المجتمعات «تحدِّد قِيَمَه الثقافية وبنيتَه الاجتماعية وتاريخَه»؛ ينبع من الاختزالية الكامنة في تلك الفلسفة. سيقول بعض متخصِّصي العلوم الاجتماعية إن مسار الحتمية ينبغي أن يكون في الجهة المعاكسة؛ أيْ إن القِيَم الثقافية والبنى الاجتماعية والنُّظُم الاقتصادية والتاريخ هي التي تحدِّد التكنولوجيات المبتكرة والمتبنَّاة. وهذه الرؤيةُ، على الرغم من كونها أكثر شمولًا، لا تُولِي قدرًا كافيًا من الأهمية للتبعات غير المنظورة لذيوع التكنولوجيات الجديدة. لم تُبتكَر هذه التكنولوجيات في فراغٍ اجتماعي؛ فكثيرٌ منها لم يُطرَح إلا بعد سنواتٍ من التطوير والأبحاث المدفوعة بتحليلٍ اقتصاديٍ مفصَّل للأسواق الممكنة. تنشأ الأزمةُ من التبعات غير المقصودة لاستخدام أداة أو منتج أو خدمة جديدة، وتكمن المفارقة في عجزنا عن معرفةِ ماهيةِ هذه التبعات غير المنظورة، مع عدم وجود مخطَّط على المدى القصير لتطوير تكنولوجيا السفر عبر الزمن. أثارَتْ تكنولوجيا النانو — إحدى التكنولوجيات الرئيسية التي تيسِّر ابتكارَ وحداتِ معالَجة مركزية أقوى من أي وقتٍ مضى على الشرائح — أسئلةً حول مدى أمانها عندما تجتمع مع التقدُّمات الجذرية المحرَزة في الهندسة الجينية والتكنولوجية الحيوية.14 سنتناول هذه الشواغل بالتحليل في الفصل الرابع عشر الذي يدور حول مستقبل الكون الرقمي.

ظهور تكنولوجيا النانو ومستقبل قانون مور

ماذا ينتظر قانون مور في المستقبل؟ إلى أي مدًى سيصمد القانون أمام قوانين الفيزياء الأساسية؟ تنبَّأ كثير من العلماء على مدار العشرين عامًا السابقة بالنهاية الوشيكة لقانون مور، وصرَّحوا بوجود قيود فيزيائية جوهرية أمام عدد الدوائر الصغيرة التي يمكن ضغطها على الشريحة الواحدة قبل أن يتسبَّب تسرُّب التيار (وتراكُم الحرارة المرتبط به) في إخفاقها في أداء الوظيفة المصمَّمة لأدائها. وقد أقَرَّ جوردون مور بهذه القيود عام ٢٠٠٥:
من حيث حجم الترانزستور، يمكنكم ملاحظة أننا نقترب من حجم الذرات، وهو ما يُعتبَر حاجزًا جوهريًّا، لكنْ لا يزال أمامَنا جيلان أو ثلاثة أجيال قبل أن نبلغ هذه المرحلة؛ إلا أن هذا أقصى حدٍّ نستطيع التنبؤ به. لا يزال أمامنا من عشرة أعوام إلى عشرين عامًا أخرى لبلوغ هذا الحد الجوهري؛ حينَها ستتمكَّن الشركات من صنع شرائح أكبر، وستبلغ أعدادُ وحدات الترانزستور المليارات.15
في الوقت الراهن، أطال طرح تكنولوجيا النانو من عُمْر قانون مور، وذلك باستحداثها طرقًا لابتكار دوائر أصغر من أي وقتٍ مضى. تكنولوجيا النانو تتمثل في تصميمُ وإنتاجُ أجهزةٍ (وأنظمة) بمقياسٍ يستعصي على الإدراك البشري. تُقاس الأبعاد بوحدة النانومتر؛ والنانومتر الواحد يكافِئ من ثماني إلى عشر ذرات؛ وبهذا المقياس، يبلغ سُمْك الشعرة البشرية من ٧٠٠٠٠ إلى ٨٠٠٠٠ نانومتر تقريبًا. وضعت مبادرة تكنولوجيا النانو الوطنية في الولايات المتحدة تعريفًا لتكنولوجيا النانو كما يلي: «تكنولوجيا النانو هي فهم المادة والتحكم بها بأبعادٍ تبلغ ١ إلى ١٠٠ نانومتر تقريبًا؛ حيث تتيح الظواهر الفريدة تطبيقاتٍ جديدةً.»16
أتاحَتْ تكنولوجيا النانو والهندسة الكهربية الخلَّاقة تصنيعَ دوائر كهربية أصغر من ذي قبلُ. في مستهل عام ٢٠٠٧، أعلنَتْ شركةُ إنتل لتصنيع الشرائح أنها نجحَتْ في استحداث نوعٍ مُبتكَرٍ من الدوائر المدمجة يستعين بسبائك معدنية جديدة تسهِلُّ إنتاج دوائر بالغة الدقة على الشريحة.17 إبَّان ذلك الوقت، بلغت أبعادُ الدوائر ٩٠ نانومترًا بحسب أحدث تطوُّر في صناعة الشرائح (بإجراء الحسابات، سنجد أن ذلك مكافئ لعرض ٩٠٠ ذرَّة). وأعلنَتْ إنتل أن الدوائر التي ستبلغ أبعادها ٢٢ نانومترًا ستُتاح عام ٢٠١١ في الشرائح التي تنتجها الشركة، والمستخدمة في وحدات المعالجة المركزية بأجهزة الكمبيوتر المكتبية والحواسب المحمولة والكمبيوتر اللوحي.18 لكنَّ الحجمَ الأصغر أفضلُ؛ ومن ثَمَّ ابتكرَتْ شركةُ توشيبا نموذجًا أوليًّا من شريحةٍ تضمُّ دوائر تبلغ أبعادها ١٥ نانومترًا؛ وهذا المستوى من النمنمة ستنجم عنه محركاتُ أقراص محمولة منخفضة التكلفة بسعة ١٠٠ جيجابايت. وابتكارُ تكنولوجيات جديدة طوَّرَتْها شركة آي بي إم في تصميم الدوائر المدمجة — مثل شبكات كربون «الجرافين» التي يبلغ سُمْكها سُمْكَ الذرَّة، و«أسلاك النانو» المصنوعة من السليكون الموضوعة رأسيًّا على الشريحة — له من الإمكانيات ما قد يُفضِي إلى زيادةِ عددِ الدوائر على الشريحة زيادةً ضخمةً في المستقبل القريب.19
لا يزال قانون مور صامدًا بعد وقت طويل من تنبُّؤ كثيرٍ من الخبراء بزواله. والتضاعُفُ المستمر كلَّ عامين لعددِ وحدات الترانزستور على الشرائح يشير إلى أن قدرةَ المعالجة وسعةَ التخزين لهذه الشرائح ستستمران في التضاعُف أيضًا. يُنتِج مصنِّعو الشرائح وحداتِ معالَجةٍ مركزية بمعالجات متعددة لتخفيض الأحمال الحرارية ولتحسين سرعات المعالجة في الكمبيوترات وغيرها من الأجهزة الرقمية. ويتنبَّأ جاستن راتنر، المدير التقني بشركة إنتل، بأنه في العشر سنوات المقبلة ستتضاعف تصميماتُ شرائح وحدات المعالجة المركزية من ثنائية النواة ورباعية النواة إلى تصميمات مئوية النواة أو أكثر.20 تتمخَّض إشكالية التصميم أمام علماء ومهندسي الكمبيوتر عن ابتكارِ أنظمةِ تشغيلٍ وبرامج بوسعها استغلال قدرة المعالجة الموازية الجبَّارة لهذه الشرائح القوية. ومع الوصول لحلٍّ لهذه الإشكاليات في التصميم والبرمجة؛ فإن المكونات الأساسية للكمبيوتر اللوحي، والهاتف المحمول/كاميرا الفيديو/مشغِّل الموسيقى، وشاشات التليفزيون الرقمية العريضة الثلاثية الأبعاد؛ ستكون قد حسَّنَتْ قدرةَ المعالجة الرقمية بصورة هائلة. في الكون الرقمي بالمستقبل القريب سنشهد شرائحَ جبَّارة مدمجة في كل منتج إلكتروني يمكن تصوُّره، وربما فينا نحن أيضًا.

هوامش

(1) Intel Corporation, Moore’s Law: Raising the Bar (2005). Retrieved February 12, 2009, from http://download.intel.com/museum/Moores_Law/Printed_-Materials/Moores_Law_Backgrounder.pdf.
(2) R. Kurzweil, The Age of Spiritual Machines; Glossary (2009). Retrieved February 13, 2009, from http://www.kurzweilai.net/meme/frame.html?main=/articles/art0273.html.
(3) Dr. Yale Patt, personal communication, April 17, 2007.
(4) G. E. Moore, “Cramming More Components Onto Integrated Circuits,” Electronics 38/8 (April 19, 1965). Retrieved February 12, 2009, from http://download.intel.com/research/silicon/moorespaper.pdf.
(5) G. E. Moore, “Progress in Digital Integrated Electronics,” Technical Digest, proceedings from the 1975 International Electron Devices Meeting of the IEEE (1975), 11–13. Retrieved February 12, 2009, from http://download.intel.com/museum/Moores_Law/Articles-Press_Releases/Gordon_Moore_1975_Speech.pdf.
(6) M. Kanellos, “Moore Says that Nanoelectronics Face Tough Challenges,” CNet News (March 9, 2005). Retrieved February 10, 2009, from http://news.cnet.com/Moore-says-nanoelectronics-face-tough-challenges/2100-1006_3-5607422.html.
(7) S. Franssila, Introduction to Microfabrication (New York: Wiley, 2004).
(8) Internet World Stats. Retrieved March 31, 2010, from http://www.internetworldstats.com/stats.htm.
(9) T. E. Friedman, The World Is Flat: A Brief History of the 21st Century (New York: Farrar, Straus & Giroux, 2005), 374.
(10) Ibid.
(11) MP3 is an acronym for the MPEG-1 audio layer 3 compression scheme used to shrink music files by 90 percent.
(12) D. MacMillan, “The Music Industry’s New Internet Problem,”Business Week (March 3, 2009). Retrieved September 19, 2009, fromhttp://www.businessweek.com/technology/content/mar2009/tc2009035_000194.htm.
(13) Ibid.
(14) B. Joy, “Why the Future Doesn’t Need Us,” Wired 8/4 (April 2000). Retrieved February 14, 2009, from http://www.wired.com/wired/archive/8.04/joy.html.
(15) M. Dubash, “Moore’s Law Is Dead, Says Gordon Moore,” Techworld (April 13, 2005). Retrieved February 12, 2009, from http://www.techworld.com/opsys/news/index.cfm?NewsID=3477.
(16) National Nanotechnology Initiative, What Is Nanotechnology? Retrieved February 14, 2009, from http://www.nano.gov/html/facts/whatIsNano.html.
(17) J. Markoff, “Intel Says Chips Will Run Faster, Using Less Power,” New York Times (January 27, 2007). Retrieved February 14, 2009, from http://www.nytimes.com/2007/01/27/technology/27chip.html.
(18) N. Patel, “Intel Announces 22nm Chips for 2011,” Engadget (September 22, 2009). Retrieved February 6, 2011, from http://www.engadget.com/2009/09/22/intel-announces-22nm-chips-for-2011/.
(19) K. Bourzac, “Graphene Transistors that Can Work at Blistering Speeds,” Technology Review (February 5, 2010). Retrieved February 6, 2011, from http://www.technologyreview.com/computing/24482/?a=f.
(20) D. Lyons, “Moore’s Law Doesn’t Matter,” Newsweek (August 24, 2009), 55.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤