مقدمة

هل ستظل الديموقراطية حية بعد عام ٢٠٠٠م؟ يبدو طرح هذا السؤال ضربًا من الاستفزاز بينما العالم الشيوعي ينهار تحت سمعنا وبصرنا. ومع أن أحدًا لا يشك في أن سقوط حائط برلين كان إيذانًا بنهاية حقبة، إلا أنه يتعين أن نحدد بدقة ماهية تلك الحقبة التي ولَّت، حتى نقدِّر الأبعاد الحقيقية لذلك الحدث.

ويرى المتفائلون أن هذه الحقبة بدأت في عام ١٩٤٥م، بعد أن ألحقنا الهزيمة بهتلر باسم الكفاح من أجل الديموقراطية. غير أن ذلك الانتصار تحقق بمساعدة ستالين فكان ثمنه خضوع نصف أوروبا للعبودية. وبعد ذلك بخمس وأربعين سنة، تحقق النصر كاملًا وبدا وكأن معركة الأفكار حُسمت. فمن ذا الذي يستشهد الآن بلينين ليعترض على مونتيسكيو؟ وهكذا يبدو وكأن تطور الفكر السياسي بلغ مرحلته الأخيرة وأن الجمهورية الليبرالية، وريثة القرن الثامن عشر وفلسفة التنوير، غدت تمثل الشكل النهائي لتنظيم البشرية. فكأن كوندورسيه، الذي آمن بأن التربية تؤمِّن التقدم الفكري والأخلاقي قد أحرز قصب السبق وأننا أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من نهاية التاريخ، هذا إذا كان التاريخ يتمثل أصلًا في الصراع بين الأفكار.

ويشجب المتشائمون ذلك التفسير الذي يرونه مفرطًا في التبسيط. فالحقبة التي انتهت أخيرًا لم تبدأ في عام ١٩٤٥م ولكن منذ ۱۹۱۷م. فقد سُد باب الاجتهادات الأيديولوجية للثورة البلشفية ولم نشهد مع ذلك نهاية التاريخ بل عودة القوميات؛ فكل أزمة جديدة تنفجر في أوروبا تذكِّر المتشائمين بفترة ما بين الحربين، وفي رأيهم أن القومية تشكِّل الخطر الرئيسي. وعليه فإن الحداثة المظفرة يتهددها على ما يبدو الرجوع إلى التاريخ وأن روح القرن التاسع عشر تطاردنا.

ولكن هذا الكتاب يقترح تشخيصًا مغايرًا تمامًا. فعام ١٩٨٩م لا يُنهي حقبة بدأت في ١٩٤٥ أو ١٩١٧م، بل يختم ما تم إرساؤه بفضل ثورة ١٧٨٩م في فرنسا ويضع حدًّا لعصر الدولة القومية.

لقد كانت الحرب الباردة بمثابة مغنطيس ضخم يجتذب برادة حديد المؤسسات السياسية؛ فأفرز الاستقطاب بين الشرق والغرب — طوال عدة عقود — نظامًا تلتزم به المجتمعات البشرية. ففي العالم الثالث صمدت الدكتاتوريات بفضل الصداقات الخارجية؛ لأنها كانت بمثابة ورقة رابحة في المواجهة الشاملة. وفي العالم المتقدم صناعيًّا طرحت جانبًا قضية هويتنا السياسية؛ إذ كان يتعين التصدي أولًا للتهديد الشيوعي. أما اليوم فقد تم التخلص من المغنطيس وتكونت من برادة الحديد المبعثر أكوام صغيرة لا داعي لها. وهذا الوضع الجديد لا يعود بنا إلى بداية القرن العشرين أو القرن التاسع عشر؛ لأن هناك قوى اقتصادية واجتماعية وثقافية قلبت تمامًا، في غضون ذلك، الظروف التي أتاحت الفرصة لقيام الدولة القومية. فالعالم الذي تجمدت أوضاعه نتيجة للتأثير المغنطيسي للحرب الباردة حجَّم تأثير تلك القوى على المؤسسات السياسية. وسيكون بإمكانها الآن أن تبرز بلا تحفظ، كما ستثار قضايا جذرية وستتعرض البديهيات، التي أقمنا عليها مؤسساتنا منذ القرن الثامن عشر، لصدمة حاسمة نتيجة لاتساع الهوة بين نظامنا السياسي وحقائق اليوم.

لقد آمنا بالمؤسسات وبقوة القوانين لتنظيم السلطة والتحكم فيها. وترسخت لدينا القناعة بأن خير وسيلة لضبط إيقاعات المجتمع تتمثل في تحجيم السلطة بالسلطة، وفي مضاعفة أقطابها مع الحرص على تجنب أي صدام بينها. وقد صاحب بناء تلك المؤسسات توزيع الثروات والسلطة، وهو ما تميزت به الحقبة الحديثة. ففي الحقب السابقة وعصور القحط كانت الملكية السلطةَ الحقيقية الوحيدة، ولم تكن هناك تفرقة بين النفوذَين الاقتصادي والسياسي؛ فكان معنى القوة قبل كل شيء الإفلات من العوز العام. وبدا لنا أن عصر «المؤسسات» أحرز تقدمًا لا يمكن تجاوزه، بالمقارنة مع ذلك الشكل البدائي للسلطة الأبوية. بَيدَ أنه يتعين علينا الآن أن نقرَّ بأن المؤسسات القائمة لم تَعُد قادرة على التكيف مع الأوضاع الجديدة، وأن نكتشف أن الفروق بين العصر الذي نحن مقدِمون عليه ومؤسسات التنوير، أكبر من تلك التي كانت قائمة بين هذه المؤسسات والعصر الأبوي السابق عليها. وسنواجه المصاعب في القبول بذلك لأننا لم نعرف أي شيء آخر؛ إذ تُحدد كلمات الديموقراطية والسياسة والحرية أفقنا المعنوي، رغم أننا لم نَعُد متأكدين حتى الآن من معرفة مغزاها الحقيقي، وقبولنا بها يعود من الآن فصاعدًا، إلى النشاط الانعكاسي أكثر مما يعود إلى إعمال التفكير.

وسيتبين لنا، نحن ورثة عصر التنوير، أننا بِتنا ورثة يعانون من فقدان الذاكرة؛ فقد تحوَّلت القوانين إلى وصفات، وغدا القانون منهجًا، وأصبحت الدولة القومية حيزًا تشريعيًّا. فهل يكفي هذا لتأمين مستقبل الفكر الديموقراطي؟ يجب أن نتساءل اليوم ما إذا كان من الممكن توفر الديموقراطية بدون أمة. لقد فقد صرح المؤسسات العظيم القواعد التي قام عليها وهو يطفو متحررًا من أي قيود، مثل بيوت سابقة التجهيز جرفها الفيضان.

كان مواطنو الجمهورية الرومانية الآيلة للسقوط يحنون إلى فضائل العهود الغابرة. وتباكِينا اليوم لن يوقف هو أيضًا المسيرة نحو إمبراطورية جديدة. والواقع أن ١٩٨٩م يسجل أُفول حقبة تاريخية طويلة تتوجت مع الظهور التدريجي للدولة القومية على أنقاض الإمبراطورية الرومانية. وهذا الشكل السياسي ذو الطابع الأكثر أوروبية من فكرة الإمبراطورية، والذي فرض نفسه في العالم طوال القرنين الماضيين، اعتبرناه نهاية مطاف لا غنًى عنه، مع أنه قد لا يكون سوى نتيجة عابرة لأوضاع تاريخية مرتبطة بظروف خاصة قد تزول مع انقضاء تلك الظروف. ونحن نُسمي العصر القادم «العصر الإمبراطوري»؛ لأنه يأتي أولًا في أعقاب عصر الدولة القومية، تمامًا كما حلت الإمبراطورية الرومانية محل الجمهورية الرومانية؛ فقد اتسع للغاية نطاق المجتمع البشري بالمقارنة مع مقتضيات قيام كيان سياسي. والمواطنون يشكلون بقدرٍ متناقص جمعًا قادرًا على التعبير عن السيادة الجماعية، وغدوا مجرد مواطنين لهم الصفة القانونية وأصحاب حقوق خاضعين لالتزامات في نطاق مفارق ذي حدود إقليمية يتزايد التباسها.

ويمكن نعت هذا العصر بالإمبراطورية لسبب آخر؛ ففكرة الإمبراطورية لا تخص أوروبا وحدها، وعليه فهي ليست أسيرة تقاليدنا السياسية. وهي تتفق مع حقبة جديدة؛ حيث سيكون التعريف الأوروبي للسياسة مسألة نسبية مع النجاح الذي يحرزه العالم الآسيوي. كما أن فكرة الإمبراطورية تصف عالمًا موحدًا ومحرومًا في الوقت نفسه من مركز. فتواجد المركز يتطلب في الواقع تنظيمًا هرميًّا للسلطة لا يتفق مع أوضاع عالمنا المعقدة. إننا نضع أقدامنا في التعقيدات دون أن ندري هل ستحقق تلك التعقيدات تقدُّمًا أو ستشكل عائقًا.

لقد مسَّت ثورة قوانين السلطة المنشآت أولًا؛ فانتهاء الحرب الباردة يتيح الآن لتلك الثورة الامتداد لتشمل المجال السياسي؛ والعالم الصناعي في مجموعه يكتشف أن قواعد النفوذ راحت تتغير، انطلاقًا من واشنطن حتى طوكيو، ومرورًا ببروكسيل. لقد تصوروا أنه يكفي إحلال أمم عُليا محل الأمم (كما يجري الآن في نطاق الوحدة الأوروبية) على غرار إدماج المنشآت الصغيرة في المنشآت الكبرى. وقد بدأنا نلاحظ أن التغيير الذي يطرأ على حجم السلطة يغير من طبيعتها، وهذا الكتاب محاولة أولى لاستكشاف ذلك العالم الذي لا يزال جديدًا بالنسبة لنا.

هل يتعين أن نخاف قدوم هذا العالم؟ إنه لمن الخطأ الجسيم أن نعتبر عصر الدولة القومية غاية في حد ذاتها. فالتنظيم السياسي الذي ورثناه من فلسفة التنوير ليس إلا أحد فصول تاريخ البشرية، والوسيلة التي أتيحت لنا في مرحلة معينة من تطورنا لإرساء دعائم الحرية في ظل النظام السياسي. وهذا التعريف للحرية لن يظل متواجدًا بعد انقضاء الظروف الخاصة التي شهدت نشأة الدول القومية وازدهارها. ولذا يتعين أن نتفهم قواعد هذا العصر الجديد، لا لكي نكافحه — فذلك مجهود لا طائل من ورائه — ولكن من أجل إنقاذ ما يمكن ويجب إنقاذه بخصوص فكرة الحرية.

وها هي الإمبراطورية الرابعة في طريقها إلينا؛ إنها صلبة وهشة في آن واحد، وأقرب إلى روما والعالم القديم منها إلى العالم المسيحي. وهي تقوم على أنقاض الأيديولوجية وعلى حكام تلك الإمبراطورية الروسية التي زعمت لحين أنها الإمبراطورية الثالثة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤