خاتمة

في التاسع من نوفمبر ۱۹۸۹م سقط حائط برلين وانتصرت الديموقراطية.

وهكذا لم يتمكن هتلر أو ستالين من وأدها. كانا يريدان مصادرة السلطة، أي أنهما كانا يؤمنان بها، فقضت تلك العقيدة على كل منهما. وقد حصرت المعركة؛ لأنها حددت مجالًا سياسيًّا. لقد شكلت شعوب الشرق كيانًا سياسيًّا في لحظة، أي في المدة التي استغرقتها الثورة. وجربت هذه الشعوب سيادة الشعب. وإذا بنا نجد أن هذا الانتصار الحديث يبدو معرَّضًا للخطر، لا لأن قوة العدو تتوطد — فهذا الخطر قد يذكرهم بما تعاهدوا عليه من قبل — ولكن لأن الأعداء الحقيقيين لم يعودوا معروفين تمامًا.

لقد تمكن الكذب الشمولي من فرض عبوديته على ملايين البشر بشر الرعب. ولكن هذه العبودية كانت هويتها قابلة للتعرف عليها. ولن يكون الحال على هذا المنوال في مجتمعات العصر الإمبراطوري؛ فليست هناك تماثيل لمسئول الأمن السوفييتي درجينسكي تستدعي النسف، بل سلطة ملامحها غير محددة، ومنتشرة، والتمكن منها متعذر. ففي هذا النظام يصبح كل فرد شرطيًّا، دون أن يكون هناك رئيس شرطة يمكن توجيه ثورتنا ضده. فنحن لم نَعُد محرومين من الحرية ولكن من فكرة الحرية؛ فقد تصورنا الحرية طوال قرنين من الزمن من خلال النطاق السياسي الذي كان ينظمها. وأردنا أن نكون مواطنين، ولكن المواطنة لم تَعُد اليوم سوى وسيلة مريحة للتعبير عن عدم رضانا عن قادتنا. لقد فقدنا ما كانت تعتمد عليه كرامتنا كرجال أحرار وذلك بالتطلع إلى إقامة كيان سياسي. وتأثير تلك اللامبالاة متخفٍّ على عكس الاستبداد القديم، فهي ناعمة مثل النزيف البطيء الذي يتعذر إيقافه.

وفي الثاني من أغسطس ١٩٩٠م تم غزو الكويت، فهل كان عملية سطو من الطراز القديم أو محاولة لتحديد تخوم العالم الإمبراطوري؟ لقد تمكن عالم العلاقات من إبعاد العنف عنه بمزيج من اللامبالاة الساذجة والشراسة البحتة. فالقتلى من العراقيين لم يزيدوا أبدًا عن كونهم مجرد إحصائية غير دقيقة وعدد محدود من الصور، بل وتحولت الحرب إلى إحدى ألعاب الفيديو. كما أن الأمر لم يتطلب منا حتى البغض أو المقت! فطوال مدة هذا النزاع كانت مراعاة وجهات النظر الداخلية من هموم حكوماتنا الرئيسية. فنحن لم نكن مستعدين لا لتقديم تضحيات ولا للتعبير عن الكراهية. ولأول مرة منذ تاريخ الحروب أولى القادة العسكريون اهتمامهم بإدارة الرأي العام وبمشاعره الجماعية، بنفس قدر اهتمامهم بالمعارك بعد أن استوعبوا دروس فيتنام. فقد تم خوض هذه الحرب وكأنها مجرد عملية تهدف إلى استتباب الأمن تولاها محترفون مكنهم التفوق التكنولوجي الهائل من حصر الخسائر في أضيق نطاق. لقد تم سحق المتمردين ونالوا العقاب، ولكن هل سيظل الحال دائمًا على هذا المنوال؟ هناك سباق دائر بين انتشار التكنولوجيا الذي يزيد في إمكانات اللجوء إلى العنف، والتوسع في العلاقات بين السلطات الذي ينزع فتيل العنف. وقد يكون انتشار التكنولوجيا أسرع ولكن حتى متى سنحتفظ بذلك التفوق بحيث نكون قادرين على إبعاد ما قد يهدد مجتمعاتنا المعقدة التركيب؟ ولو تم اللحاق بنا، هل سنتمكن من إذابة انفعالات الآخرين في عالمنا المجرد من العواطف؟ وهل سيتغلب التعقيد على الأفكار البسيطة أم أن تلك الأفكار ستودي بذلك التعقيد؟

إن صحراءنا البشرية المحرومة من العواطف والمحاطة بدواعي الحقد قد تشتعل فيها النار مثل الأحراش الجافة. لقد كانت الإمبراطورية الرومانية تتجاهل بكل عجرفة أقاليم البرابرة المحيطة بها، وكان ذلك التجاهل يساعدها على مواصلة الحياة. ولكن هذا اليسر غير متاح لنا. فما هي تلك «العقيدة» المانعة والفظة التي سنبتكرها لكي نبرر لأنفسنا سعادتنا في خضم ذلك الشقاء المحيط بنا؟ إننا أهداف طبيعية لبغض آلاف الملايين البشر وحسدهم، فهل سيكون رد فعلنا شيئًا خلاف الخوف والحياة بلا عواطف في عالم تتأجج فيه المشاعر؟ وهل ستستبد تلك الدوافع المتعصبة بدورها بهذا العالم الإمبراطوري الذي يقف أمامها عاجزًا بحكم منطقه؟ وهل سيكون ذلك التعصب المتفشي أخطر من العنف الُمركز والمنظم على يد النظم الشمولية في عصر القوميات؟

لا توجد حتى الآن إجابات على تلك الأسئلة. وكل ما يمكن أن نحرزه فقط هو أن النظام الاجتماعي، شأنه شأن المارد الذي أفلت من عقال صاحبه، تكمن بداخله قوة لم تعهد أبدًا من قبل ولا تخضع لأي توجيه حتى إن محاولة تحديد مسارها لا تقل صعوبة عن الادعاء بإمكانية السيطرة عليها إثر انطلاقها.

إننا لا نزال في ما قبل تاريخ هذا العصر الجديد. وسيظل منطق الدول القومية متعايشًا لأمد طويل مع منطق العالم الإمبراطوري. فهل سيحاول هذا الأخير إن يمدَّ سلطانه على غرار الإمبراطوريات التي سبقته لكي يحدَّ من التهديدات التي تحيط به أم هل سيصيبه بالشلل المنطق الذي يحكم حركته؟ وأولئك المتواجدون عند أطراف الإمبراطورية الذين ستسول لهم أنفسهم تحديها، سينتابهم التردد باستمرار؛ فبوسعهم المراهنة على عجز تلك السلطة اللاحقة للقومية عن التصدي بفعالية للتهديد الكلاسيكي من جانب الدولة القومية، أو أن يخشوا رد الفعل العاصف من جانب الدولة الإمبراطورية إذا ما تعرضت للاستفزازات. لقد تمثَّل خطأ صدام حسين الاستراتيجي في أخذه بعين الاعتبار أن العالم الإمبراطوري الذي يتولد لا تزال تنظمه دول قومية ذات إرادة سياسية. لقد تصدَّى تخالف عدة دول لدولة أخرى. فماذا سيحدث لو أن انتشار القوة في العالم الإمبراطوري كان متكاملًا للغاية لكي تُنظم إرادة سياسية؟

الثاني من مارس ۱۹۹۲م: يوم عادي كبقية الأيام الأخرى في هونج كونج.

رجال مسرعون لا ينفصلون أبدًا عن تليفوناتهم التي تصاحبهم في جيوبهم. تلك هي قمة عالم العلاقات. وهنا تتوفر الحرية المجردة من الديموقراطية، وطاقة هائلة تدفع عناصر الليجو البشري القابلة للتبادل نحو المزيد من الاتصالات والارتباطات. لقد حلت المراكز التجارية محل الكاتدرائيات، والاستهلاك هو الذي يحظى بالاهتمام ويجرى استعراضه ببذخ وسط فيض من الرخام الأبيض. ولا يُسأل الشخص: «من أنت؟» ولكن بالأحرى: «مع من تتعامل؟» ومن فرط التقاء الشخص بالآخرين؛ فإنه لا يلتقي مع نفسه. وهكذا تتجسد عزلة ووحدة الإنسان الذي لم يلتقِ أبدًا مع نفسه. وكل مقابلة تجرى الآن عن طريق الوساطة وتخضع لرموز معينة منمطة؛ كارت الحساب الإلكتروني والعلاقات المميزة للمنتجات الكمالية الباذخة. إننا رجال شبكات الاتصال، رجال بلا مبادئ، لا نملك إلا صيغًا عملية. وعصر العلاقات يعمل بشكل أفضل من أي تنظيم إنساني آخر، ولكن دون أن يعرف أحد ما هو الهدف. لقد انطلقت الآلة وراحت تواصل عملها، والعالم الإمبراطوري ليس أيديولوجية بل عملية تطور وهو يفرز الامتثالية، وإن كانت تلك الامتثالية لا تدري إلى أي شيء يجب أن تمتثل. ولكن هل تتم هذه العملية من داخل ذاتها أم تحتاج إلى عالم آخر لا يخضع لنفس القوانين لكي تحافظ على ديناميتها؟

وهذه الحركة الرائعة والباطلة لا تكفُّ عن إصابتنا بالدوار، ولكن تمرُّ أحيانًا في خلدنا فكرة غير معهودة؛ متى سنتحرر من طغيان التقدم؟ ألن تكون هناك نهاية لتكاثر خلايا العلاقات؟ ومن أين تنبع تلك الحاجة الملحة إلى عدم ترك أي «مساحة بيضاء» على خريطة الإمبراطورية؟ إن منطق الإمبراطورية يدفع إلى التوسع بلا حدود، ولكننا نعلم مع ذلك تمامًا أنه من المستحيل عمليًّا تعميم سير عمل العالم الصناعي ليشمل بقية كوكبنا. فهل نحن مثل هواة اقتناء المجموعات المهووسين الذين تتراكم عندهم الأشياء حتى تلفظهم بيوتهم بعد أن تصبح غير قابلة للسكن؟ وهكذا يطرد الإنسان من العالم على يد إبداعاته.

لقد ادَّعت الشيوعية أنها تحل التناقض بإضفاء معنًى على عمل كل إنسان. وقد قبلت أن تنجرف في تيار التاريخ ودفعها طموحها البروميثيوسي إلى الارتفاع على ذلك التيار وإنهاء التاريخ باختراع حقيقة عن العلاقات الاجتماعية. ونحن أكثر تواضعًا ونزعم أيضًا أننا «نضع حدًّا للتاريخ»، ولكن عن طريق زوال معركة الأفكار في ظل عالم منظم ومرتب بما فيه الكفاية بحيث تصبح الحقيقة غير لازمة.

ونحن بدور الحداثة الرُّحل الذين أنهكتهم الحركة الدائبة التي يفرضها علينا التقدم منذ قرنين من الزمن، نتطلع إلى بعض الراحة. والبحث عن الحقيقة يثقل علينا كالمتاع المربك الذي أصبح عديم النفع، بل وخطرًا. وربما يحدونا الأمل في قرارة فؤادنا بأن نفلت من السباق المجنون الذي يجرفنا سعيًا وراء الحقيقة بالكف عن البحث عنها. فهل يتعين علينا ألا نعرف السكينة إلا في النوم وأن يظل قلق الإنسان لأمد طويل نهرًا يجري في جوف الأرض؟

أمامنا ثورة يجب أن تنجز، وهي ثورة غير سياسية بل روحية. ولا جدوى من التباكي على أزمة التنوير، ويجب أن نتقبل وصولنا الآن إلى نهاية مطاف عصر القوة المعتمدة على المؤسسات. ولن نرى هذا العصر يبتعد عنا بلا تحسر عليه؛ فقد كانت قدراته استثنائية في مجال تنظيم البنيات المعقدة وتبسيطها، كما أنه نجح على مدى قرنين تقريبًا في مواكبة التطور غير المسبوق للمجتمع. وتعقدت تفرعاته إلى ما لانهاية دون أن ينال ذلك من المبادئ الأساسية لاعتماد القوة على المؤسسات، ودون أن يعرقل التنظيم المؤسساتي إثراء البنيات الاجتماعية. فقد نمت المنشآت وتطورت النقابات واختفت نواحٍ كاملة من الاقتصاد وحلت نواحٍ أخرى محلها. وبدا من ضخامة تلك التطورات أنها الدليل على أن النظام المعتمد على المؤسسات؛ الدولة القومية والديموقراطية البرلمانية، يتميز هو وحده بالمرونة الكافية التي تمكنه من التوافق مع المجتمع المتغير بلا توقف.

ويتضح لنا الآن أن الانتصارات التي كنا نظنها نهائية تنال منها دوائر القوة. لقد أقمنا الصرح فوق الرمال وراحت أساساته تخور. وكلمات الأمس العظيمة؛ الديموقراطية والحرية … يصدر عنها الآن نغم أجوف. وقد استبدت بنا البلبلة فبات أمامنا أحد خيارين:

  • أولهما العودة إلى منابع النظام المؤسساتي الآفل والبحث عن أسس عقيدة جديدة، عقيدة القانون الطبيعي الذي لا يوجد قانون بدونه، وذلك عن طريق اتفاق غير محدد المعالم حول بعض المبادئ العامة الشاملة. وقد أوضح هذا الكتاب مخاطر مثل هذا المسار وغموضه. فلم نَعُد بعدُ في عصر التنوير، كما لم يَعُد هناك نظام سياسي قادر على خلق قِيَم. وتحويل القانون إلى عقيدة نؤمن بها لن يكون على الأرجح سوى خدعة لن تجدي فَتيلًا. وسنصبح بذلك حراسًا تسلط عليهم وسواس آلية تدور بكفاءة. ولكن هذه الخدعة البائسة لن تسد الفراغ المركزي. وتلك استراتيجية خطرة لأنها تترك في الواقع المجال مفتوحًا لكل ضروب الخداع عن طريق شمولها المتسامح ظاهريًّا.

  • وثانيهما، وهو الخيار الذي حاولنا اتباعه، هو مواجهة الواقع والإقرار بنهاية عصر التنوير، ثم بعد ذلك محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولكن إلى أي منبع نرجع؟ لقد اقترح البعض العصر الوسيط وإمبراطوريته المقدسة، ولكن لا محل لإمبراطورية مقدسة بدون المسيحية. ويتعين هنا العودة إلى مدى أبعد والوصول إلى رواقيي العصور القديمة الذين عرفوا كيف يضفون على الحرية معنًى فلسفيًّا أكثر من المعنى السياسي بعد سقوط أثينا.

وخير ما يمكن أن نرجوه للعصر الإمبراطوري الجديد الذي راح ينمو، أن يكون شبيهًا بالإمبراطورية الرومانية في عهدي أدريانوس وماركوس أوريليوس. ويتعين على هذا العصر الجديد ألا يزعم أنه يرقى إلى السماء، ولا يمتلك السماء من أجل احتياجات الأرض. فهو عصر لا يقبل إلا أن يكون طريقة للإدارة ويدرك أنه ليس سوى ذلك. وهذا هو مصدر ضعفه وقوته. فلا توجد إذَن أي «وصفة» سياسية لمواجهة أخطار عصر ما بعد السياسة.

وبهذا المعنى تكون الثورة المطلوب إنجازها ذات طابع روحي. وستدور مناقشات المستقبل حول علاقة الإنسان بالعالم. وستكون الحوارات ذات طابع أخلاقي، وربما تولدت السياسة عنها من جديد، من خلال تطوير يبدأ من أسفل، من الديموقراطية المحلية وتعريف المجتمع لنفسه بغية التوجه إلى الأعلى. وسيكون التطور على نفس المنوال سواء في أجزاء العالم التي لم تفرض الديموقراطية وجودها فيها، مثل الاتحاد السوفييتي السابق، أو في تلك التي وصلت فيها الديموقراطية إلى حد الإنهاك. فالتضامن الذي يجب أن يسمح بتجاوز تراجع المجتمع لن يكون إذَن «سياسيًّا» في البداية، وسينبع أساسه من الشعور بالمسئولية المشتركة أمام عالم يجب أن تقرر حدوده تطلعات الإنسان.

فالحركة الإيكولوجية التي تهتم في المقام الأول بعلاقة الكائنات الحية ببيئتها، تؤكد أنها ترفض اعتبار الإنسان مقياس كل شيء، وتحاول اكتشاف قواعد نظام يتجاوزنا، وذلك على خلاف المدافعين عن البيئة المحيطة بنا الذين سبقوا الإيكولوجيا، وربما فتحت هذه الحركة مجالًا جديدًا للتعريف المجدد للمجتمع البشري، شريطة تحررها من الميل إلى إضفاء الصفات البشرية على كل ما يحيط بنا، وألا تقوم في الوقت نفسه بإحلال أيديولوجية حقوق الأعشاب محل أيديولوجية حقوق الانسان وتقدم الطب الذي يخلصنا من مصادفات الوراثة يجبرنا على الإجابة على الأسئلة التي لم نطرحها أبدًا على أنفسنا، وعلى إعادة تعريف المجالات الخاصة بكل من الإنسان والمجتمع. إننا لم نَعُد ندرك ما هي الحرية في حدود المجال السياسي الذي تطرقنا إليه. فهل سنعيد اكتشافها بمعنًى عميق وجديد وسط هذه المجاهل المتفتحة أمام براعة الإنسان؟ ففي الزمن الذي كان لا يزال للجغرافية فيه معنًى، كانت أمريكا الشمالية مركز التجربة السياسية الأولى لعصر المؤسسات. وربما أتاح كل من علمي الإيكولوجيا والبيوطيقا (علاقة علم الأحياء بالأخلاقيات) للعالم الإمبراطوري الجديد إمكانية فتح الحوار أخيرًا حول المبادئ التي يحتاجها العالم ليكتسب معنًى، علمًا بأن هذَين العلمَين يشكلان في حد ذاتهما قارتَين لا يزال مضمونهما مجردًا.

ولكي يصبح مثل هذا المسعى ممكنًا؛ فإن الأمر يستلزم أن يكون هناك أناس وحيدَين و«حكماء» قادرين على تصور العالم المنتهى الذي أضحى نصيبنا المشترك من جديد: إنه إقرار بديهي بالنسبة لحكيم من العصور القديمة، وضرب من السذاجة الغربية والخيالية في عالم قائم على المؤسسات، ننتظر فيه كل شيء من الآلية الاجتماعية.

وعليه فإن آلية نهاية عصر التنوير وتطلعه إلى التوصل إلى نظام رشيد عن طريق السياسة لن يكون بالضرورة تخليًّا عن العقل وعودة إلى الانفعالات الغامضة. غير أن تفادي تلك المخاطرة يتطلب منا أن نعود إلى الحكمة، بالمعنى الرواقي للكلمة؛ أي حماية استقلال الفكر ليس فقط من شرطة النظم الدكتاتورية ولكن أيضًا من إفقار الوعي.

ولن يكون الأمر بسيطًا، والواقع أن هذا العصر متسامح بوجه عام، وسيجد الذين اختاروا ألا يكونوا ممتثلين لمعايير مقررة، مثير للإعجاب وليس خطرًا، على غرار أولئك الرهبان اليابانيين ذوي الشعور الطويلة التي دبَّ فيها البياض بسبب عزلتهم. وكم سيكون من الصعب على المرء أن يقف راسخ القدمين على أرض صلبة، أي باختصار أن يأخذ قضية حرية الفكر مأخذ الجد، كما أقدم على ذلك الذين خاطروا بحياتهم في برلين وموسكو في معركة كان السعي فيها إلى الحقيقة لا يزال عملًا سياسيًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤