الفصل الثاني

الحضارات في التاريخ واليوم

(١) طبيعة الحضارات

التاريخ الإنساني هو تاريخ الحضارات، ومن المستحيل أن نفكر بتاريخ الإنسانية بأي معنى آخر، والقصة ممتدة عبر أجيال من الحضارة منذ السومرية القديمة إلى المصرية إلى الكلاسيكية والأمريكية الوسطى، وعبر تجلياتٍ متتالية للحضارات الصينية والهندية. والنتيجة، أن أسباب وظهور وصعود وتفاعلات وإنجازات وانهيار وسقوط الحضارات، كان يتمُّ استكشافها بواسطة مؤرِّخين وعلماء اجتماع وأجناس مُتميزين … منهم «ماكس ويبر» و«إميل دوركهايم» و«أوزوالد شبنجلر» و«بيتريم سوروكين» و«أرنولد توينبي» و«ألفريد ويبر» و«أ. ل. كروبر» و«فيليب باجباي» و«كارول كويجلي» و«رشتون كولبورن» و«كريستوفر داوسن» و«س. ن. إيزنشتاد» و«فرناند برودل» و«وليم. ﻫ. ماكنيل» و«آدا بوزيمان» و«إيمانويل وولرشتاين» و«فيليب فرناندز آرمستو».1

هؤلاء الكتاب وغيرهم أنتجوا كمًّا ضخمًا من المؤلفات العميقة مكرسة للتحليل المقارن بين الحضارات. ورغم الاختلافات في المنظور والمنهج وبؤرة الاهتمام والمفاهيم التي تعم تلك المؤلفات، إلا أن هناك اتفاقًا عريضًا على الفروض الرئيسية التي تتعلق بطبيعة وهوية الحضارات وقواها المحركة.

  • أولًا: هناك فروق بين الحضارة بمعناها المفرد والحضارات بصيغة الجمع، وقد كشف المفكرون الفرنسيون عن فكرة الحضارة وطوَّروها في القرن التاسع عشر كنقيضٍ لمفهوم «البربرية»، فالمجتمع المتحضر يختلف عن المجتمع البدائي لأنه كان مُستقرًّا ومَدينيًّا وليس أُميًّا. كان من الحسن أن تكون متحضرًا، ومن السيئ ألا تكون.

    ومفهوم الحضارة قدم معيارًا نحكم به على المجتمعات، وخلال القرن التاسع عشر، كرس الأوروبيون الكثير من الجهد الفكري والدبلوماسي والسياسي لشرح المعيار الذي يمكن على أساسه الحكم على المجتمعات غير الأوروبية، إن كانت «متحضرة» بما يكفي حتى يمكن قبول عضويتها في النظام العالمي الذي تسيطر عليه أوروبا.

    في الوقت نفسه، كان الناس يتكلمون بشكل متزايد عن الحضارات بصيغة الجمع، وكان هذا يعني رفض «الحضارة التي تعرف على أنها نموذج، أو بالأحرى على أنها المثال الذي يجب أن يحتذي». كما يعني تحولًا عن الافتراض الذي يقول إن هناك معيارًا واحدًا لما هو متحضر، أو بعبارة «برودل»: «مقصور على قلة متميزة من الشعوب أو الجماعات، النخبة الإنسانية.»

    بدلًا من ذلك، كان هناك عدة حضارات، كل منها متحضر على طريقته الخاصة. أما الحضارة بصيغة المفرد فباختصار قد «فقدت جزءًا من طابعها»، والحضارة بصيغة الجمع يمكن في الواقع أن تكون غير متحضرة بالمعنى الفردي.2 الحضارات بصيغة الجمع هي ما يهم هذا الكتاب، بيد أن التمييز بين الفردي والجمعي يحمل علاقة وثيقة، وقد عادت فكرة الحضارة بالمفهوم المفرد للظهور في المحاجة بأن هناك حضارة عالمية عامة.
  • ثانيًا: الحضارة كيان ثقافي خارج ألمانيا. لقد وضع المفكرون الألمان في القرن التاسع عشر تمييزًا حادًّا بين الحضارة التي تتضمن الآلات والتكنولوجيا والعوامل المادية، وبين الثقافة التي تتضمن القِيَم والْمُثلَ والصفات الذهنية والفنية والأخلاقية الراقية في المجتمع. وظل هذا التمييز قائمًا في الفكر الألماني وإن كان لم يُقبَل في أي مكان آخر. وقد عكس بعض علماء الأجناس العلاقة وفكروا بثقافاتٍ لها سمات المجتمعات البدائية الجامدة غير المدينية، بينما اعتبروا المجتمعات الأكثر تعقيدًا وتطورًا ومدينية وحركةً، حضارات. إلا أن هذه المحاولات للتمييز بين الثقافة والحضارة لم تنتشر. وهناك اتفاق عام خارج ألمانيا مع «برودل» على أن «من المضلل أن نحاول — على الطريقة الألمانية — فصل (الثقافة) عن أساسها (الحضارة)».3
    الحضارة والثقافة كلاهما يُشير إلى مجمل أسلوب الحياة لدى شعبٍ ما، والحضارة هي ثقافة على نطاقٍ أوسع. وكلاهما يضم «المعايير والقِيَم والمؤسسات وطرائق التفكير، التي علقت عليها أجيال متعاقبة أهمية أساسية في مجتمعٍ ما.»4 الحضارة عند «برودل»: «فضاء …» «مساحة ثقافية»، «مجموعة من المواصفات الثقافية»، و«ظاهرة». ويعرفها «وولرشتاين» بأنها: «نظرة مركزة إلى العالم والعادات والبنى الثقافية (المادية والراقية معًا) التي تُكوِّن نوعًا من الكل التاريخي والتي تتعايش (وإن لم يكن دائمًا في نفس الوقت) مع ظواهر أخرى متنوعة.»

    الحضارة عند «داوسن» نتاج: «عملية أصيلة خاصة من الإبداع الثقافي والتي هي من صنع شعب ما.» بينما هي عند «دوركهايم» و«ماوس»: «نوع من وسط أخلاقي يضمُّ عددًا معينًا من الأمم، كل ثقافة وطنية هي شكل خاص من الكل.» وعند «شبنجلر»: «الحضارة هي المصير الحتمي للثقافة … نتيجة.»

    والثقافة هي الفكرة العامة في كل تعريفٍ للحضارة تقريبًا.5
    وقد حدَّد الأثينيون العناصر الثقافية الأساسية التي تعرف الحضارة على شكل كلاسيكي، عندما أكدوا لأهل «إسبرطة» أنهم لن يفشوا أمرهم للفرس: «حيث إن هناك اعتبارات كثيرة وقوية تمنعنا من أن نفعل ذلك حتى لو كنا نريد. أولًا وأساسًا هناك صور ومنازل الآلهة، الآثار المحروقة والمدفونة: هذه تحتاج إلى أن ننتقِم لها بأقصى ما نستطيع بدلًا من أن نصِل إلى تفاهم مع من ارتكب تلك الأفعال. ثانيًا، الجنس الإغريقي من نفس الدم ونفس اللغة، ومعابد الآلهة والأضحيات عمومًا وعاداتنا المتشابهة … وأن يخون الأثينيون، ذلك لن يكون فعلًا حسنًا.» الدم واللغة والدين وأسلوب الحياة، كانت هي العوامل المشتركة بين الإغريق وما يميزهم عن الفرس والآخرين من غير الإغريق.6والدين هو أهم عامل بين العوامل الموضوعية التي تعرف الحضارات كما كان الأثينيون يؤكدون. والحضارات الرئيسية في التاريخ الإنساني كانت دائمًا متوحدة ومتطابقة مع ديانات العالم الكبرى وبدرجة كبيرة، والناس المشتركون في العرق واللغة ويختلفون في الدين قد يذبحون بعضهم البعض كما حدث في لبنان ويوغوسلافيا السابقة وشبه القارة.7 وهناك تشابه كبير بين تقسيم الناس إلى حضارات طبقًا للمواصفات الثقافية، وتقسيمهم إلى أجناس طبقًا لمواصفات جسمانية، إلا أن الحضارة والجنس ليسا مُتماثلَين. الناس المنتمون لنفس الجنس يمكن أن ينقسموا حضاريًّا، كما أن الناس المنتمين لأجناس مختلفة، قد توحدهم الحضارة.

    الأديان الكبرى ذات الرسالة مثل الإسلام والمسيحية على نحوٍ خاص تضمُّ مجتمعات من أجناس مختلفة، أما الاختلافات الأساسية بين الجماعات الإنسانية فتتعلق بالقيم والمعتقدات والبنى الاجتماعية وحجم الجسم وشكل الرأس ولون البشرة.

  • ثالثًا: الحضارات شاملة، بمعنى أن أي جزء من مكوناتها لا يمكن فهمه تمامًا دون الرجوع إلى الحضارة التي تضمه. يقول «توينبي»: «الحضارة تشمل … ولا يشملها غيرها … الحضارة وحدة كلية.» ويقول «ميلكو»: «الحضارات بها درجة معينة من التكامل، أجزاؤها تُعرف أو تتحدد بعلاقتها بالأجزاء الأخرى وبالكل، وإذا كانت الحضارة مكونةً من دول، فإن هذه الدول ستكون بينها علاقات أكثر ممَّا بينها وبين دولٍ من حضارات أخرى، وهي قد تُناضل أكثر، وتدخل في علاقات دبلوماسية أكثر، وسيكون اعتمادها الاقتصادي المتبادل على بعضها أكثر، وستكون هناك تيارات فنية وفلسفية سائدة.»8

    الحضارة هي الكيان الثقافي الأوسع. القرى والمناطق والجماعات العرقية والقوميات والجماعات الدينية … كلها لديها ثقافات مُحددة وعلى مستويات مختلفة من التمايز الثقافي. فثقافة قرية في الجنوب الإيطالي قد تختلف عن ثقافة قرية في الشمال، ولكنهما يشتركان في ثقافة إيطالية عامة تميزهما عن القرى الألمانية. والمجتمعات الأوروبية بالتالي ستشترك في ملامح ثقافية تميزها عن المجتمعات الصينية أو الهندية.

    الصينيون والهندوس والغربيون ليسوا جزءًا من أي كيان ثقافي أوسع وهم يشكلون حضارات.

    وهكذا فإن الحضارة هي أعلى تجمع ثقافي من البشر وأعرض مستوى من الهوية الثقافية يمكن أن يميز الإنسان عن الأنواع الأخرى. وهي تُعرف بكل من العناصر الموضوعية العامة مثل اللغة والتاريخ والدين والعادات والمؤسسات والتحقق الذاتي للناس. وهناك مستويات للهوية لدى البشر. فساكن روما قد يعرف نفسه بدرجات مختلفة من الاتساع: روماني، كاثوليكي، مسيحي، أوروبي، غربي.

    والحضارة التي ينتمي إليها هي أعرض مستوى من التعريف الذي يمكن أن يعرف به نفسه. الحضارات هي «نحن» الكبرى، التي نشعر ثقافيًّا بداخلها أننا في بيتنا، في مقابل أي «هم» عند الآخرين خارجنا.

    والحضارات قد تضم عددًا كبيرًا من البشر مثل الحضارة الصينية، أو عددًا قليلًا مثل الكاريبي الأنجلوفوني. وعلى مدى التاريخ وُجدت جماعات صغيرة كثيرة ذات ثقافات مائزة وتفتقر إلى مَعينٍ ثقافي أوسع لهويتها. وكانت الفروق تتحدد حسب الحجم والأهمية بين الحضارات الرئيسية والفرعية (باجباي) أو بين الحضارات الرئيسية والحضارات المعتقلة أو الجهيضة (توينبي).

    وهذا الكتاب معني بما يعتبر — بوجه عام — الحضارات الرئيسية في التاريخ الإنساني. الحضارات ليس لها حدود حاسمة التحديد ولا بدايات أو نهايات دقيقة. الناس بإمكانهم إعادة تعريف هوياتهم ويفعلون ذلك حقيقة، وكنتيجة لذلك فإن تكوين وشكل الحضارات يتغير مع الزمن.

    ثقافات الناس تتفاعل وتتداخل، ومدى التشابُه أو الاختلاف بين الحضارات مُتباين كذلك إلى حدٍّ كبير. إلا أن الحضارات كيانات ذات معنى وهدف، وبينما الخطوط بينها نادرًا ما تكون حادة، إلا أنها حقيقية.

  • رابعًا: الحضارات فانية … أو ليست أبدية إلا أنها أيضًا تعيش طويلًا، فهي تتطوَّر وتتكيَّف وهي أكثر الجماعات الإنسانية ثباتًا وتحمُّلًا … «حقائق المدى الطويل» … «جوهرها الفريد والخاص» هو «استمرارها التاريخي الطويل. الحضارة هي أطول قصة في الواقع.»
    الإمبراطوريات تنهض وتسقط، الحكومات تجيء وتذهب، الحضارات تبقى و«تنجو من كل التقلبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكبرى وحتى الأيديولوجية».9
    ويصل «بوزيمان» إلى نتيجة مؤداها أن: «التاريخ الدولي يُوثِّق عن حقٍّ أطروحة أن النظم السياسية حِيَل زائلة على سطح الحضارة، وأن مصير كل مجتمعٍ مُتحد لغويًّا ومعنويًّا يعتمد تمامًا على بقاء أفكار بنية أساسية تجمعت والتحمت حولها أجيال متتالية، وبالتالي فهي ترمز إلى استمرارية المجتمع.»10

    وعمليًّا، فإن جميع الحضارات الرئيسية في العالم في القرن العشرين، إما أنها استمرت لمدة ألف عام، أو مثل حضارة أمريكا اللاتينية، الذُّرية المباشرة لحضارة أخرى عاشت طويلًا. وبينما الحضارات تبقى، إلا أنها تتطور أيضًا وهي حركية، تنهض وتسقط، تتَّحد وتنقسِم، وكما يعرف كل دارس للتاريخ فهي أيضًا تندثر وتُدفن في رمال الزمن. ويمكن تحديد مراحل تطورها بوسائل مختلفة. ويرى «كويجلي» أن الحضارات تتحرك عبر سبع مراحل: الامتزاج، الحمل، التوسع، عصر الصراع، الإمبراطورية الكونية، التآكل، الغزو.

    ويعمم «ميلكون» نموذجًا للتغير من نظام إقطاعي مُحدد، إلى نظام إقطاعي في مرحلة تحوُّل، إلى نظام دولة مُحددة، إلى نظام دولةٍ في مرحلة تحول، إلى نظامٍ إمبراطوري ضخم.

    ويرى «توينبي» أن الحضارة تقوم ردًّا على تحديات، ثم تمر بمرحلة نموٍّ تتضمَّن سيطرةً متزايدة على بيئتها بفضل أقليةٍ خلَّاقة، يتبعها مرحلة صعوبات، قيام دولة شاملة، ثم بعد ذلك يكون التفسخ.

    وبينما تُوجَد فروق أساسية بين تلك النظريات، إلا أنها جميعًا ترى أن الحضارات تتطوَّر عبرَ مرحلة من الصعوبات أو الصراعات إلى دولة شاملة، ثم إلى تآكل وتفسخ.11
  • خامسًا: وحيث إن الحضارات كيانات ثقافية وليست كيانات سياسية، فهي لا تحفظ النظام ولا تُقِيم العدل أو تجمع الضرائب أو تخوض الحروب أو تتفاوض على اتفاقيات أو تفعل شيئًا آخر مما تفعله الحكومات. والتركيب السياسي للحضارات يختلف من حضارة إلى أخرى، كما يختلف مع الزمن داخل الحضارة الواحدة. وبالتالي فإن الحضارة الواحدة قد تحتوي على وحدة سياسية واحدة أو أكثر. وهذه الوحدات قد تكون ولايات، إمبراطوريات، اتحادات فيدرالية، اتحادات كونفيدرالية، دولًا قومية، دولًا متعددة الجنسيات، وكل منها قد يكون له شكل حكومة مختلف.

    ومع تطور الحضارة، تحدث عادة تغيرات في عدد وطبيعة الوحدات السياسية المكونة لها، وقد يصل الحد إلى أن تتصادف حضارة مع كيان سياسي.

    يقول «لوسيان باي» إن «الصين عبارة عن حضارة تتظاهر بأنها دولة».12 اليابان حضارة ودولة، ومع ذلك فقد تضم معظم الحضارات أكثر من دولة أو كيان سياسي آخر، وفي العالم الحديث معظم الحضارات تضم دولتين أو أكثر.

    وأخيرًا، فإن الباحثين بشكلٍ عام متفقون في تحديدهم للحضارات الرئيسية في التاريخ وعلى تلك الموجودة في العالم الحديث، ولكنهم غالبًا ما يختلفون على العدد الإجمالي للحضارات التي وجدت في التاريخ.

    «كويجلي» يقول بوجود «١٦» حالة تاريخية واضحة وباحتمال وجود «٨» إضافية أخرى.

    «توينبي» حدد الرقم في البداية ﺑ «٢١» ثم ﺑ «٢٣»، «شبنجلر» يحدد «٨» ثقافات رئيسية، «ماكنيل» يناقش «٩» حضارات في التاريخ كله، «باجباي» يرى «٩» حضارات أيضًا أو ربما «١١» إذا تمايزت اليابان والأرثوذوكسية عن الصين والغرب. «برودل» يحدد «٩»، كما يحدد «روستافاني» «٩» حضارات رئيسية معاصرة.13
هذه الاختلافات تعتمد في جزء منها على ما إذا كانت الجماعات الثقافية مثل الهندية أو الصينية حضارة واحدة عبر التاريخ، أو حضارتين، أو أكثر من حضارة قريبة الصلة، أو أن إحداهما كانت من ذُرية الأخرى. ورغم هذه الاختلافات والفروق، فإن الحضارات الرئيسية لا خلاف عليها. وبعد مراجعة للمؤلفات التي تناولت هذا يصل «ميلكو» إلى نتيجة مؤداها أن «هناك اتفاقًا معقولًا على ١٢ حضارة على الأقل، من بينها ٧ لم يعُد لها وجود، (وادي الرافدين – المصرية – الإغريقية – الكلاسيكية – البيزنطية – وسط أمريكا – الأندين)، بينما تظل هناك خمس، (الصينية – اليابانية – الهندية – الإسلامية – الغربية).14

ويضيف عدد كبير من الباحثين: الحضارة الروسية الأرثوذوكسية كحضارةٍ مُستقلة متميزة عن سلفها الحضارة البيزنطية وعن الحضارة المسيحية الغربية.»

ومن المفيد لأهدافنا في العالم المعاصر أن نضيف إلى تلك الحضارات الست، الحضارة الأمريكية اللاتينية، كما يمكن أن نضيف الحضارة الإفريقية. وهكذا تكون الحضارات الرئيسية المعاصرة هي:

الصينية: يقر جميع الباحثين إما بوجود حضارة صينية واحدة متميزة ترجع على الأقل إلى عام ١٥٠٠ قبل الميلاد وربما قبل ذلك بألف عام، أو بوجود حضارتَين صينيتَين تلت إحداهما الأخرى في القرون الأول من العهد المسيحي. وفي مقالي الذي نشَرَتْه (Foreign Affairs) أطلقتُ على تلك الحضارة اسم الحضارة الكونفوشية. من الأدق أن نستخدم اصطلاح «الصينية»، إذ بينما الكونفوشية أحد المكونات الأساسية في الحضارة الصينية، إلا أن الحضارة الصينية أكبر من مجرد أن تكون كونفوشية، كما أنها تتخطى الصين ككيانٍ سياسي. واصطلاح «الصينية» الذي استخدمه كثير من الباحثين يصف الثقافة العامة للصين — بشكل صحيح — في جنوب شرق آسيا وفي أي مكان آخر خارج الصين، وكذلك الثقافات ذات الصلة مع فيتنام وكوريا.

اليابانية: يضم بعض الباحثين الثقافتين الصينية واليابانية تحت عنوان: حضارة الشرق الأقصى، ويعتبرونهما حضارةً واحدة، ولكن كثيرين لا يفعلون ذلك، ويعتبرون اليابان حضارة مستقلة، وأنها كانت من ذُرية الحضارة الصينية وظهرت خلال الفترة من سنة ١٠٠ق.م. إلى سنة ٤٠٠م.

الهندية: وهي حضارة أو أكثر من حضارة متتالية، والمتفق عليه بشكل عام هو أنها وُجدت على شبه القارة منذ سنة ١٥٠٠ق.م. على الأقل. ويشار إليها عادة ﺑ «الأندين» أو «الإنديك» أو «الهندو» والاصطلاح الأخير هو المفضل بالنسبة للحضارة الأحدث. وعلى نحوٍ أو آخر فإن الهندوسية كانت دائمًا في المركز بالنسبة لثقافة شبه القارة منذ الألف الثانية ق.م. «وهي أكثر من مجرد دين، أو نظام اجتماعي، فهي لب الحضارة الهندية.»15 وقد استمرت في أداء هذا الدور عبر الأزمنة الحديثة، رغم أن الهند نفسها يُوجد بها مجتمع إسلامي كبير بالإضافة إلى أقليات ثقافية أخرى متعددة. ومثل «الصينية» فإن اصطلاح «الهندية» أيضًا يَفصل اسم الحضارة عن اسم دولة المركز، وهو الأمر المرغوب فيه — كما في تلك الحالات — عندما تمتدُّ ثقافة الحضارة إلى خارج حدودها.

الإسلامية: يقر جميع الباحثين الرئيسيين بوجود حضارة إسلامية متميزة. بعد أن نشأ الإسلام في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، انتشر بسرعةٍ عبر شمال أفريقيا وشبه جزيرة أيبيريا، كما انتشر شرقًا في آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا. ونتيجة لذلك فإن ثقافات متميزة وحضارات فرعية كثيرة تُوجَد داخل الإسلام، تضم العربية والتركية والفارسية والملايو.

الغربية: يؤَرَّخُ للحضارة الغربية عادة بأنها ظهرت حوالي سنة ٧٠٠ أو ٨٠٠ ميلادية، ويرى الباحثون عامة أنها تتكوَّن من ثلاثة مكونات رئيسية في أوروبا وأمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية.

الأمريكية اللاتينية: أمريكا اللاتينية لها هوية مميزة تجعلها مختلفة عن الغرب، ورغم أنها من نبت الحضارة الأوروبية إلا أنها تطورت على امتداد كل المسارات المختلفة عن أوروبا وأمريكا الشمالية، وقد كانت لها ثقافتها المشتركة الخاصة كالتي كانت لأوروبا بدرجة أقل، بينما لم تكن متوفرة لأمريكا الشمالية بالمرة. وقد شعرت كل من أوروبا وأمريكا الشمالية بآثار الإصلاح وجمعتا بين الثقافة الكاثوليكية والبروتستانتية. ومن الناحية التاريخية — ورغم أن ذلك قد يكون متغيرًا — كانت أمريكا اللاتينية كاثوليكية فقط. ويندمج في الحضارة الأمريكية اللاتينية ثقافات محلية لم تكن موجودةً في أوروبا وتم إزالتها بحسمٍ في أمريكا الشمالية، وهي تتنوع في أهميتها من المكسيك وأمريكا الوسطى وبيرو وبوليفيا من ناحية، إلى الأرجنتين وشيلي من ناحية أخرى.

وقد كان التطور السياسي والتقدم الاقتصادي في أمريكا اللاتينية يختلفان تمامًا عن الأنماط السائدة في دول شمال الأطلنطي. من الناحية الذاتية فإن الأمريكان اللاتين منقسِمون في تطابُقهم مع أنفسهم، بعضهم يقول: «نعم … نحن جزء من الغرب.» والبعض الآخر يقول: «لا، نحن لنا ثقافتنا الفريدة.»

وكم كبير من الأدب المكتوب بواسطة اللاتين والأمريكيين الشماليين يُفَصِّلُ اختلافاتهم الثقافية.16

أمريكا اللاتينية يمكن اعتبارها، إما حضارة فرعية داخل الحضارة الغربية أو حضارية مستقلة مرتبطة بالغرب، ومنقسِمة حول ما إذا كانت تنتسِب إليه.

وبالنسبة لتحليل يركز على المتضمنات السياسية الدولية للحضارات، بما في ذلك العلاقات بين أمريكا اللاتينية من جانب، وأمريكا الشمالية وأوروبا من جانب آخر، فإن الأخير يكون هو التعيين الأكثر ملاءمة والأكثر فائدة. الغرب إذن يضمُّ أوروبا وأمريكا الشمالية بالإضافة إلى دول الاستيطان الأوروبي الأخرى مثل أستراليا ونيوزيلندة.

ومع ذلك فقد تغيرت العلاقة بين المكونين الرئيسيين للغرب مع الزمن. وعلى امتداد معظم تاريخهم، كان الأمريكيون يعرفون مجتمعَهم في مقابل أوروبا … أمريكا كانت هي أرض الحرية والمساواة والفرصة والمستقبل، أوروبا كانت تمثل الظلم والصراع الطبقي والكهنوت والتخلف. بل كانت هناك محاجَّة أن أمريكا تمثل حضارة مائزة.

هذا الافتراض بوجود تعارض بين أمريكا وأوروبا، كان بقدْرٍ كبير نتيجةً لحقيقة قائمة، وهي أنه حتى نهاية القرن التاسع عشر لم يكن لأمريكا سوى علاقات محدودة بالحضارات غير الغربية، وبمجرد أن خرجت الولايات المتحدة إلى المشهد العالمي، ظهر الإحساس بالتطابق الأوسع مع أوروبا.17

وبينما كانت أمريكا القرن التاسع عشر تُعرِّف نفسها بأنها مختلفة عن أوروبا ومضادة لها، فإن أمريكا القرن العشرين تعرف نفسها كجزء، والحقيقة كقائد، لكيان أوسع وهو الغرب … الذي يضم أوروبا.

واصطلاح «الغرب» يُستخدَم الآن بشكل عام للإشارة إلى ما كان يُسمى عادة ﺑ «العالم المسيحي الغربي»، وهكذا فإن الغرب هو الحضارة الوحيدة التي تُحدَّد باتجاه بوصلة، وليس باسم شعب أو دين أو مساحة جغرافية بعينها.١

هذا التحديد يرفع الحضارة من سياقها التاريخي والجغرافي والثقافي. ومن الناحية التاريخية فإن الحضارة الغربية حضارة أوروبية. وفي العصر الحديث الحضارة الغربية هي حضارة أوروبية أمريكية أو شمال أطلنطية. يمكن أن نجد أوروبا وأمريكا والشمال الأطلنطي على خريطة، بينما لا يمكن أن نجد الغرب. واسم الغرب هو الذي أدَّى إلى نشأة مفهوم «التغريب» كما أدى إلى الدمج المضلل بين التغريب والتحديث: من الأسهل أن نفكر باليابان «متغربة» أكثر منها «متأمركة» أو «متأوربة».

الحضارة الأوروبية الأمريكية يشار إليها عمومًا كحضارة غربية ورغم الضعف الخطير في هذا الاصطلاح إلا أنه سوف يستخدم هنا.

الإفريقية: (احتمال): معظم الباحثين في الحضارة باستثناء «برودل» لا يعترفون بوجود حضارة إفريقية مائزة، فشمال القارة الإفريقية وساحلها الشرقي ينتمون إلى الحضارة الإسلامية. تاريخيًّا، كانت إثيوبيا تمثل حضارة خاصة بها. وفي أماكن أخرى جاء الاستعمار والمستوطنون بعناصر من الحضارة الغربية. في جنوب أفريقيا صنع المستوطنون الهولنديون والفرنسيون ثم الإنجليز ثقافة أوروبية متعددة المكونات الصغيرة.18
والأهم من ذلك أن الاستعمار الأوروبي جلب معه المسيحية إلى معظم البلاد جنوب الصحراء. عبر أفريقيا، الهويات القبلية سائدة ومنتشرة، ولكن الإفريقيين — وبدرجة متزايدة — أصبحوا يتبعون إحساسًا بالهوية الإفريقية، ويمكن أن نفكر بأفريقيا المجاورة للصحراء والتي يمكن أن تتَّحِد في حضارةٍ مائزة ويمكن أن تكون جنوب أفريقيا هي دولة المركز فيها. الدين من السمات الأساسية المحددة للحضارات، وكما يقول «كريستوفر داوسن»: «الأديان الكبرى هي الأسس التي تعتمد عليها الحضارات الكبرى.»19

ومن بين أديان العالم الخمسة عند «ويبر»، أربعة مرتبطة بحضارات رئيسية: وهي المسيحية والإسلام والهندوسية والكونفوشية. أما الخامس «البوذية» فهو ليس كذلك. ولكن لماذا؟

البوذية، مثل المسيحية والإسلام، انقسمت باكرًا إلى قسمَين فرعيين رئيسيين. ومثل المسيحية لم تبقَ البوذية في مكان مولِدها. في بداية القرن الأول الميلادي تم تصدير بوذية الماهيانا إلى الصين ومن ثم إلى كوريا وفيتنام واليابان. وفي تلك المجتمعات تم تكييف البوذية على أنحاء مختلفة، وتم استيعابها في الثقافات المحلية (في الصين مثلًا تم استيعابها في الكونفوشية والطاوية) وبعد ذلك طمست. وبالتالي رغم أن البوذية تظل مكونًا مهمًّا من مكونات ثقافتهم، إلا أن تلك المجتمعات لا تعتبر نفسها جزءًا من الحضارة البوذية ولا تعرف نفسها بها.

وما يمكن بحق أن يطلق عليه اسم «حضارة الثيرفادا البوذية» موجود في «سريلانكا» و«بورما» و«تايلاند» و«لاوس» و«كمبوديا». هذا بالإضافة إلى أن سكان التبت ومنغوليا وبهوتان قد أسهموا تاريخيًّا في النمط «اللامي» من بوذية الماهيانا، وهذه المجتمعات تمثل منطقة ثانية من الحضارة البوذية. وبشكلٍ عام على أية حال فإن الانقراض الفعلي للبوذية في الهند، وتكييفها ودمجها في الثقافات القائمة في الصين واليابان يعني أن البوذية، رغم أنها دين رئيسي لم تصبح أساسًا لحضارة٢ رئيسية.20

(٢) العلاقات بين الحضارات: مواجهات: الحضارات قبل سنة ١٥٠٠ق.م.

مرت العلاقات بين الحضارات عبر مرحلتَين وهي الآن في الثالثة، ولمدة تزيد على ثلاثة آلاف عام بعد ظهور الحضارات كانت الاحتكاكات بينها إما غير موجودة أو محدودة أو متقطِّعة أو متوترة، مع بعض الاستثناءات.

وطبيعة هذه العلاقات تُعبر عنها جيدًا العبارة التي يستخدمها المؤرخون عادة بوصفها على أنها «مواجهات».21

الحضارات كان يفصل بينها الزمان والمكان. القليل منها فقط كان يوجد في وقت واحد، وهناك فرق كبير، كما يقول «بنيامين شوارتز» و«صامويل إيزنشتاد» بين حضارات العصر المحوري وحضارات ما قبل العصر المحوري بخصوص إدراكهم للفرق بين «الأنظمة المتسامية والأنظمة الأرضية».

حضارات العصر المحوري على غير أسلافها كان لها أساطيرها المتسامية التي روجت لها طبقة مثقفة متميزة: «الأنبياء والكهنة اليهود، الفلاسفة الإغريق والمتصوفة، المثقفون الصينيون، البراهما الهندوس، إلسانفا البوذيون، وعلماء المسلمين».22

وقد شهدت بعض المناطق جيلين أو ثلاثة من الحضارات ذات الصلة، مع زوال حضارة وخلو المساحة الذي يتبعه نهوض جيل تالٍ.

ويقدم الشكل ٢-١ رسمًا توضيحيًّا مبسطًا (عن كارول كويجلي) يبين العلاقة بين الحضارات الأوراسية الرئيسية عبر الزمن. والحضارات أيضًا منفصلة عن بعضها جغرافيًّا. وحتى سنة ١٥٠٠ لم يكن بين حضارتي الأندين والأمريكية الوسطى أي احتكاك بأي حضارات أخرى ولا ببعضها البعض.

الحضارات الباكرة على وديان النيل ودجلة والفرات والإندوس والبحار الصفراء أيضًا لم يكن لها احتكاك ببعضها.

وأخيرًا زادت الاحتكاكات بين الحضارات في شرق البحر الأبيض المتوسط وجنوب شرق آسيا وشمال الهند. كانت الاحتكاكات والعلاقات التجارية مقيدة بسبب المسافات التي تفصل بين الحضارات ومحدودية وسائل الانتقال المتيسرة لقهر تلك المسافات. وبينما كانت هناك تجارة ملاحية محدودة عن طريق البحر الأبيض والمحيط الهندي «كانت الخيول قاطعة السهول وليست السفن قاطعة المحيطات هي وسائل الانتقال الرئيسية بين حضارات العالم المنفصلة كما كانت قبل سنة ١٥٠٠، هي الصلة بقدر المستطاع.»23
fig4
شكل ٢-١: حضارات نصف الكرة الشرقي (المصدر: كارول كويجلي، تطور الحضارات، مقدمة لتحليل تاريخي Indianapolis: Liberty Press: 2nd edition 1979 p. 83).

انتقلت الأفكار والتكنولوجيا من حضارة إلى أخرى، ولكن ذلك أخذ قرونًا لكي يحدث، وربما كان أهم انتشار ثقافي لم يتم نتيجة غزو، هو انتشار البوذية في الصين، والذي حدث بعد ستمائة عام من نشأتها في شمال الهند. الطباعة اخترعت في الصين في القرن الثامن والأسلوب المتحرك في القرن الحادي عشر، ولكن هذه التكنولوجيا لم تصل إلى أوروبا إلا في القرن الخامس عشر. الورق دخل إلى الصين في القرن الثاني، وجاء إلى اليابان في القرن السابع، ثم انتشر شرقًا إلى آسيا الوسطى في القرن الثامن، وإلى شمال أفريقيا في العاشر، وإسبانيا في الثاني عشر، وشمال أوروبا في الثالث عشر.

اختراع صيني آخر وهو البارود الذي صنع في القرن التاسع، وصل إلى العرب بعد قرون قليلة، وإلى أوروبا في القرن الرابع عشر.24

أهم وأبرز صور الاحتكاك بين الحضارات كانت عندما يغزو شعب من حضارة معينة، شعبًا آخر من حضارة أخرى ويزيله من الوجود أو يخضعه له. هذه الاحتكاكات لم تكن عنيفة فقط، وإنما قصيرة أيضًا ولم تحدث إلا على نحوٍ متقطع.

الاحتكاك الحضاري بين الإسلام والغرب، والإسلام والهند بدأ في القرن السابع وتعزَّز نسبيًّا، وفي بعض الأحيان كان متوترًا. معظم العلاقات التجارية والثقافية والعسكرية المتبادلة كانت تتم في إطار حضارات. وعلى سبيل المثال بينما كانت الهند والصين محتلَّتَين وخاضعتَين لشعوب أخرى (المغول والمنغول)، إلا أن الحضارتَين عرفتا مراحل «حروب بين دول» داخل الحضارة نفسها. نفس الشيء حدث عند الإغريق الذين حارب بعضهم البعض وتاجر بعضهم مع البعض أكثر مما فعلوا مع الفرس وغيرهم من الحضارات الأخرى.

(٣) الأثر: صعود الغرب

بدأت المسيحية الغربية في الظهور كحضارةٍ مائزة في القرنين الثامن والتاسع، وظلت عدة قرون متخلفة عن عدة حضارات أخرى في مستواها الحضاري.

الصين تحت حكم أُسَر «تانج» و«سانج» و«مينج»، العالم الإسلامي من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر، البيزنطيون من القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر … كل أولئك كانوا مُتفوقين على أوروبا في الثروة والاتساع والقوة العسكرية والإنجازات الفنية والأدبية والعلمية.25
بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر بدأت الثقافات الأوروبية في التقدم، وقد سهل ذلك «استيعابٌ منظَّم ومتحمِّس لعناصر ملائمة من الحضارات الإسلامية والبيزنطية الراقية، مع تطويع ذلك الميراث لظروف ومصالح الغرب الخاصة» أثناء نفس الفترة، كانت هنغاريا وبولندة وسكاندينافيا وساحل البلطيق قد تحولوا إلى المسيحية الغربية، مع ما استتبع ذلك من القانون الروماني وجوانب الحضارة الغربية الأخرى، واستقرت الحدود الشرقية للحضارة الغربية حيث ستبقى بعد ذلك دون تغير يذكر. أثناء القرنين الثاني عشر والثالث عشر ناضل الغربيون لبسط نفوذهم على إسبانيا ونجحوا بالفعل في تحقيق سيطرة مؤثرة على البحر الأبيض المتوسط، إلا أن صعود القوة التركية بعد ذلك أدى إلى انهيار أول «إمبراطورية أوروبية غربية فيما وراء البحار».26 ورغم ذلك كانت النهضة الأوروبية في الطريق بحلول عام ١٥٠٠، وكانت التعددية الاجتماعية، والتجارة التي أخذ نطاقها يتسع، والإنجازات التكنولوجية، تضع الأساس لمرحلة جديدة في السياسة الكونية.

المواجهات متعددة الاتجاه — سواء كانت متقطعة أو محدودة — بين الحضارات، أفسحت الطريق أمام التأثير القوي والمستمر ذي الاتجاه الواحد من الغرب على كل الحضارات.

كما شهدت نهاية القرن الخامس عشر إعادة الاستيلاء على شبه جزيرة أيبيريا من المورسكيين، وبداية الاختراق البرتغالي لآسيا والاختراق الإسباني لأمريكا. وخلال المائتين وخمسين عامًا التالية، كان كل نصف الكرة الغربي وأجزاء كبيرة من آسيا قد أصبحت تحت حكم أوروبا أو تحت سيطرتها.

وشهدت نهاية القرن الثامن عشر تراجعًا للنفوذ الأوروبي المباشر، أولًا: الولايات المتحدة، ثم هايتي، ثم معظم أمريكا اللاتينية، كلهم تمردوا على الحكم الأوروبي وحصلوا على الاستقلال.

إلا أن الاستعمار الغربي الجديد، في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر بسط النفوذ الغربي على معظم أفريقيا تقريبًا ودعم السيطرة الغربية على شبه القارة وفي أماكن أخرى من آسيا، ومع بداية القرن العشرين كان قد أخضع كل الشرق الأوسط تقريبًا — فيما عدا تركيا — للسيطرة الغربية المباشرة أو غير المباشرة.

في سنة ١٨٠٠م كانت المستعمرات الأوروبية، أو الأوروبية سابقًا (في أمريكا) تسيطر على ٣٥٪ من مساحة سطح الأرض، وفي سنة ١٨٧٨م على ٦٧٪ وفي سنة ١٩١٤م على ٨٤٪، وفي سنة ١٩٢٠م كانت النسبة ما تزال مرتفعة حيث تم تقسيم الإمبراطورية العثمانية بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.

في سنة ١٨٠٠م كانت الإمبراطورية البريطانية تتكون من «١٫٥» مليون ميل مربع و«٢٠» مليون نسمة.

وفي سنة ١٩٠٠ كانت الإمبراطورية الفيكتورية التي لم تغرب عنها الشمس تضم «١١» مليون ميل مربع و«٣٩٠» مليون نسمة.27

ومع التوسع الأوروبي فإن الحضارتين الأندينية والأمريكية الوسطى كانتا قد مُحِيتا بالفعل، والهندية والإسلامية والإفريقية قد أُخضعت، والصينية اختُرقت وخضعت للنفوذ الغربي. الحضارات الروسية واليابانية والإثيوبية فقط، وكلها كانت محكومة بواسطة سلطات مركزية عالية، كانت قادرة على مقاومة الهجمة الغربية والمحافظة على وجود مُستقل ومُتميز. وعلى مدى أربعة قرون، كانت العلاقات المتبادلة بين الحضارات عبارة عن تبعية من المجتمعات الأخرى للحضارة الغربية. أسباب هذا التطور الفريد والعميق كانت تتضمن البنية الاجتماعية والعلاقات الطبقية بالغرب، نشوء المدن والتجارة، التفرق النسبي للقوة في المجتمعات الغربية بين سلطات إقطاعية وملكية وعلمانية ودينية، ظهور روح الوعي القومي بين الشعوب الغربية وتطور بيروقراطيات الدولة. وعلى أية حال، كان المصدر المباشر للتوسع الغربي تكنولوجيًّا: اختراع وسائل الملاحة في المحيطات للوصول إلى شعوب بعيدة وتطور القدرات العسكرية لغزو تلك الشعوب، وكما يلاحظ «جيوفري باركر» أن صعود الغرب كان يعتمد على ممارسة القوة إلى حدٍّ كبير، وعلى حقيقة أن التوازن العسكري بين الأوروبيين وخصومهم فيما وراء البحار كان يميل باطراد لصالح المجموعة الأولى … مفتاح نجاح الغربيين لإقامة أول إمبراطوريات كونية بحق بين عامي ١٥٠٠م و١٧٥٠م كان يعتمد تحديدًا على تلك التحسينات في القدرة على شن حرب، وهو ما أطلق عليه «الثورة العسكرية».

ومما سهل توسع الغرب أيضًا تفوقه في التنظيم والانضباط وتدريب القوات، ثم في النهاية الأسلحة المتفوقة، وسائل الانتقال، الإمداد والتموين، الخدمات الطبية، وكان ذلك كله من نتائج قيادته للثورة الصناعية.28
وقد استطاع الغرب أن يكسب العالم، ليس فقط بسبب تفوق أفكاره أو قِيمه أو دِينه (الذي تحول إليه عدد من الحضارات الأخرى)، وإنما بالأحرى بسبب تفوقه في تطبيق العنف المنظم، وكثيرًا ما ينسى الغربيون تلك الحقيقة ولكن غير الغربيين لا ينسونها. وبحلول عام ١٩١٠م كان العالم قد أصبح وحدة سياسية واقتصادية أكثر مما كان في أي وقتٍ آخر في التاريخ الإنساني. وكجزء من الناتج الإجمالي العالمي، كانت التجارة العالمية أكبر مما كانت في أي وقت قبل ذلك ولن تقترب من ذلك مرة أخرى حتى السبعينيات والثمانينيات. الاستثمار الدولي، كنسبة من الاستثمار الإجمالي، كان أعلى حينذاك عنه في أي وقت آخر.29 وكانت الحضارة تعني الحضارة الغربية. والقانون الدولي يعني القانون الغربي الدولي النابع من قاموس «جروتيوس»، والنظام الدولي هو نظام «وستفالين» الغربي للدول القومية المتحضرة ذات السيادة، والمناطق التي تسيطر عليها.

ظهور هذا النظام العالمي المسمى ﺑ «الغربي»، كان هو التطور الرئيسي الثاني في السياسة الكونية في القرون التالية لسنة ١٥٠٠م، وبالإضافة إلى التفاعل بأسلوب السيطرة/التبعية مع المجتمعات غير الغربية، كانت المجتمعات الغربية أيضًا يتفاعل بعضها مع البعض على أساس أكثر مساواة. هذه التفاعلات المتبادلة بين كيانات سياسية داخل حضارة واحدة، كانت تشبه تلك التي حدثت داخل الحضارات الصينية والهندية واليونانية. كانت تقوم على تجانس ثقافي يتضمن «اللغة والقانون والدين والممارسات الإدارية والزراعة وملكية الأراضي وربما درجة القربى أيضًا».

الشعوب الأوروبية «كانت تشترك في ثقافة عامة، وحافظت على اتصالٍ كبير عبر شبكة تجارة نشطة، وحركة انتقال مستمرة للأفراد وتواشج واسع بين الأُسَر الحاكمة». كما حارب بعضهم البعض عمليًّا وبلا نهاية. السلام كان هو الاستثناء بين الدول الأوروبية وليس القاعدة.30 ورغم أن الإمبراطورية العثمانية كانت معظم تلك الفترة تسيطر على ربع ما كان يعرف بأوروبا، إلا أن الإمبراطورية لم تكن تُعتبر عضوًا في النظام الأوروبي العالمي.

وعلى مدى ١٥٠ عامًا، كانت سياسة الغرب بين الحضارات، يغلب عليها الانقسام الديني الكبير والحروب الدينية وحروب الأسر الحاكمة، ولمدة قرنٍ آخر ونصف قرن بعد معاهدة «وستفاليا» كانت صراعات العالم الغربي أساسًا بين الأمراء والأباطرة والملوك الطغاة والملكيات المستبدة والملكيات الدستورية الذين يحاولون بسط نفوذ بيروقراطياتهم وجيوشهم وقوتهم الاقتصادية غير الواقعية … والأهم من ذلك توسيع المساحات التي يحكمونها. في أثناء ذلك كله صنعوا الدول القومية، ومع بداية الثورة الفرنسية كانت خطوط القتال الرئيسية قد أصبحت بين دول أكثر منها بين أمراء.

وفي سنة ١٧٩٣م كما يقول «ر. ر. بالمر»: «كانت الحروب بين الملوك قد انتهت وبدأت حروب الشعوب.»31 وقد استمر نموذج القرن التاسع عشر هذا حتى الحرب العالمية الأولى. في سنة ١٩١٧م، ونتيجة للثورة الفرنسية، أُضيف إلى الصراع بين الدول صراع الأيديولوجيات: في البداية بين الفاشية والشيوعية والديمقراطية الليبرالية، ثم بين الأخيرتَين. في أثناء الحرب الباردة تجسَّدت تلك الأيديولوجيات في قوتَين كُبريين، كلتاهما كانت تعرِّف هويتها بأيديولوجيتها، ولم تكن أي منهما دولة قومية بالمعنى الأوروبي التقليدي. كان وصول الماركسية إلى السلطة في روسيا أولًا، ثم في الصين وفيتنام ثانيًا، يمثل مرحلةً انتقالية من النظام الأوروبي العالمي، إلى نظامٍ ما بعد أوروبي مُتعدِّد الحضارات. كانت الماركسية أحد منتوجات الحضارة الأوروبية، ولكنها لم تتجذَّر هناك … ولم تنجح. وبدلًا من ذلك استوردتها النُّخَب الثورية والتحديثية في المجتمعات غير الغربية … طوَّعها «لينين» و«ماو» و«هو» لأهدافهم واستخدموها لتحدي القوى الغربية، ولتعبئة شعوبهم، ولتأكيد هويتهم الوطنية واستقلالية بلادهم. انهيار تلك الأيديولوجية في الاتحاد السوفيتي، وتطويعها الأساسي في الصين وفيتنام لا يعني بالضرورة أن تلك المجتمعات سوف تستورد الأيديولوجية الغربية الأخرى، أي الديمقراطية الليبرالية. الغربيون الذين يُفترض أنهم يفعلون ذلك، من المحتمل أن يُفاجَئوا بإبداعٍ ومرونة ونهجٍ مُستقل من الثقافات غير الأوروبية.

(٤) التفاعلات: نظام متعدد الحضارات

هكذا انتقلت العلاقات بين الحضارات في القرن العشرين من مرحلةٍ يغلب عليها التأثير الموجَّه من إحدى الحضارات على غيرها، إلى تأثير ذي تفاعلات متعددة الاتجاه بين كل الحضارات. السمات الرئيسية للعلاقات المتداخلة بين الحضارات، والتي كانت تميز المرحلة السابقة بدأت في الاختفاء.

  • أولًا: وبعبارات المؤرخين المفضلة: انتهى «توسُّع الغرب» وبدأ «التمرد على الغرب». القوة الغربية تراجعت بدرجاتٍ غير متساوية وبوقفات وتقلبات، بالنسبة لقوة الحضارات الأخرى. خريطة العالم في عام ١٩٩٠م أصبحت تحمل القليل من الشبَه بخريطة العالم سنة ١٩٢٠م، موازين القوى العسكرية والاقتصادية والنفوذ السياسي تغيرت (سنتناولها تفصيلًا في فصل لاحق). استمر الغرب في أن يكون له تأثير واضح على المجتمعات الأخرى ولكن العلاقات بين الغرب والحضارات الأخرى أصبح يغلب عليها «رد فعل» الغرب إزاء التطورات في تك الحضارات. وبعيدًا عن كونها أدوات للتاريخ المصنوع بواسطة الغرب، فإن المجتمعات غير الغربية أصبحت تحرك وتشكل تاريخها وتاريخ الغرب.
  • ثانيًا: نتيجة لتلك التطورات امتد النظام العالمي إلى ما وراء الغرب وأصبح متعدِّدَ الحضارات، في الوقت نفسه، خمد الصراع بين الدول الغربية وهو الذي كان يسيطر على ذلك النظام على مدى قرون، وبأواخر القرن العشرين خرج الغرب كحضارة، من مرحلة «حالة الحرب» نحو مرحلة «حالته العالمية». وفي نهاية القرن تظل هذه المرحلة ناقصة، حيث تترابط الدول القومية مع بعضها في دولتين نصف عالميتين … في أوروبا وأمريكا الشمالية. هذان الكيانان ووحداتهما المكونة، مرتبطان معًا بشبكة معقدة — بدرجة غير عادية — من الروابط المؤسسية الرسمية وغير الرسمية.

كانت الدول العالمية في الحضارات السابقة إمبراطوريات، وحيث إن الديمقراطية هي الشكل السياسي للحضارة الغربية، فإن الدولة العالمية الناجمة عن الحضارة الغربية ليست إمبراطورية، وإنما هي بالأحرى تركيبة من فيدراليات وكونفيدراليات وأنظمة ومؤسسات دولية.

الأيديولوجيات السياسية الكبرى في القرن العشرين تتضمن: الليبرالية، الاشتراكية الفوضوية، الاتحادية، الماركسية، الشيوعية، الديمقراطية، الاشتراكية المحافظة، القومية، الفاشية، الديمقراطية المسيحية، وكلها تشترك في شيء واحد: جميعها من نتاج الحضارة الغربية، ولم يتولد عن أي حضارةٍ أخرى مثل هذا الكم الكبير من الأيديولوجيات السياسية.

الغرب كذلك، لم ينتج دينًا رئيسيًّا. أديان العالم الكبرى جميعًا كانت نتاج حضارات غير غربية، وفي معظم الأحوال أقدم من الحضارات الغربية.

والعالم ينتقل خارجًا من مرحلته الغربية، تنهار الأيديولوجيات التي طبعت الحضارات الغربية المتأخِّرة بصِيَغ هوية والتزام، تقوم على الدين وعلى أُسس ثقافية أخرى. فصل «وستفالين» بين الدين والسياسة الدولية، والذي هو نتاج خاص للحضارة الغربية يصل إلى نهايته. والدين كما يرى «مورتيمر»: «من المرجح تدخُّله بشكل متزايد في الشئون العالمية.»32 صدام الأفكار السياسية بين الحضارات الذي أفرخه الغرب، يحل محله صدام ثقافات وأديان بين الحضارات.

وهكذا انتقلت الجغرافيا السياسية الكلية من عالم ١٩٢٠م الواحد، إلى عوالم ١٩٦٠م الثلاثة، إلى عوالم التسعينيات التي تزيد عن ست. صاحَب ذلك تقلُّص إمبراطوريات العشرينيات الغربية الكونية إلى «العالم الحر» المحدود في الستينيات (والذي يضم الكثير من الدول غير الغربية المعارضة للشيوعية)، ثم إلى «الغرب» والذي أصبح أكثر تحديدًا في الستينيات.

هذا التحول كان له انعكاسات لغوية بين ١٩٨٨م، ١٩٩٣م في تدهور استخدام الاصطلاح الأيديولوجي «العالم الحر»، وزيادة استخدام الاصطلاح الحضاري «الغرب» (انظر الجدول ٢-١). كما نراه كذلك في الإشارات المتزايدة إلى «الإسلام» كظاهرة ثقافية-سياسية، و«الصين الكبرى» و«روسيا» و«خارجها القريب» و«الاتحاد الأوروبي»، وجميعها مصطلحات ذات مضامين حضارية.

العلاقات الحضارية في هذه المرحلة الثالثة متعددة وأوسع كثيرًا مما كانت عليه في المرحلة الأولى، وهي أكثر مساواة وتبادلًا مما كانت عليه في المرحلة الثانية. كذلك، وعلى عكس الحرب الباردة، لا سيادة لتفرع واحد من الانقسام، بل إن هناك تفرعات كثيرة تُوحِّد بين الغرب والحضارات الأخرى، كما بين غير الغربيين.

وكما يقول «هيدلي بول»: «يُوجَد نظام عالمي، عندما يكون هناك احتكاك كافٍ بين دولتين أو أكثر، لهما تأثير كافٍ على قرارات الآخر بحيث تجعله يتصرف — إلى حدٍّ ما على الأقل — كجزء من الكل.»

وعلى أية حال، فإن المجتمع الدولي يُوجَد فقط عندما تكون الدول في النظام العالمي لها «مصالح مشتركة»، «يشاركون في عمل مؤسسات مشتركة» و«لديهم ثقافة أو حضارة مشتركة».33 وكما كان الأمر في الحضارات السالفة عند السومريين والإغريق والهيلنستيين والصينيين والهنود والمسلمين، فإن النظام الأوروبي العالمي من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر كان أيضًا مجتمعًا عالميًّا، أثناء القرنين التاسع عشر والعشرين اتسع النظام الأوروبي العالمي لكي يضم بالفعل جميع المجتمعات في الحضارات الأخرى.

كما تم تصدير بعض الممارسات والمؤسسات الأوروبية إلى تلك الدول أيضًا. إلا أن تلك المجتمعات ما زال ينقصها الثقافة المشتركة التي كان يستند عليها المجتمع الأوروبي العالمي.

وحسب نظرية العلاقات الدولية البريطانية، فإن العالم هكذا يكون نظامًا عالميًّا متطورًا ولكنه في أفضل حالاته مجتمَع عالمي بدائي.

كل حضارة ترى نفسها مركزًا للعالم، وتكتب تاريخها وكأنه الدراما الرئيسية في التاريخ الإنساني، وربما كان ذلك ينطبق على الغرب أكثر مما هو على أي ثقافة أخرى.

جدول ٢-١: استخدام مصطلحي «العالم الحر» و«الغرب»*
عدد الإشارات ٪ التغيير في الإشارات
١٩٨٨م ١٩٩٣م
نيويورك تايمز
- العالم الحر ٧١ ٤٤ -٣٨
- الغرب ٤٦ ١٤٤ +٢١٣
الواشنطن بوست
- العالم الحر ١١٢ ٦٧ -٤٠
- الغرب ٣٦ ٨٧ +١٤٢
سجل الكونجرس
- العالم الحر ٣٥٦ ١١٤ -٦٨
- الغرب ٧ ١٠ +٤٣
المصدر: Lexis/Nexis. عدد الإشارات هو عدد الموضوعات عن «العالم الحر» أو «الغرب» أو التي يرد فيها المصطلحان. الإشارات إلى «الغرب» تمت مراجعتها من ناحية ملاءمة المضمون للتأكد من أن المصطلح يشير إلى «الغرب» كحضارة أو ككيان سياسي.

وجهات النظر هذه ذات المنطلق الحضاري المفرد، ليست ذات صلة كبيرة أو فائدة في عالم متعدد الحضارات، وقد أدرك الباحثون في الحضارة هذه الحقيقة البدهية منذ زمن.

في سنة ١٩١٨م استنكر «شبنجلر» تلك النظرة القاصرة للتاريخ السائدة في الغرب، بتقسيمه إلى مراحل قديمة ووسطى وحديثة تتعلق بالغرب فقط. وقال إن: «من الضروري أن يحل محل ذلك «تحليل بطليموس للتاريخ»، ويُتناوَل بأسلوب «كوبرنيكوس»، وأن يحل محل التلفيق الفارغ لتاريخ خطي، دراما يشترك فيها عدد من الثقافات القوية.»34 وبعد عقود قليلة كان «توينبي» ينتقد بشدة «ضيق أفق الغرب ووقاحته» التي تتبدى في «الأوهام المتمركزة حول الذات» بأن العالم يدور حوله، وأن هناك «شرقًا ثابتًا» وأن «التقدم» حتمي.
ومثل «شبنجلر» لم يجد فائدة لافتراض وحدة التاريخ، افتراض وجود «نهر واحد للحضارة، حضارتنا، وأن الآخرين جميعًا إما روافد له، أو يضيعون في رمال الصحراء.»35
بعد «توينبي» بخمسين عامًا، كان «برودل» أيضًا — وبدرجة مماثلة — يستحث الحاجة إلى منظور أوسع وإلى فهم «الصراعات الثقافية الكبرى في العالم وتعدد حضاراته».36

ما زالت الأوهام والتحيزات التي حذر منها هؤلاء الباحثون حية، وقد أزهرت في أواخر القرن العشرين على هيئة وهْمٍ وضيق أفقٍ وزعْم بأن حضارة الغرب الأوروبية هي الحضارة العالمية اليوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤