الفصل الرابع

اضمحلال الغرب: القوة والثقافة والعودة إلى المحلية

(١) القوة الغربية: السيطرة والاضمحلال

هناك صورتان لقوة الغرب بالنسبة للحضارات الأخرى. الأولى هي صورة لسيطرة وسيادة غربية شاملة. تفكك الاتحاد السوفيتي أزال المتحدي الخطير الوحيد بالنسبة للغرب، ونتيجة لذلك فإن العالم قد أصبح وسيظلُّ يتشكل طبقًا لأهداف وأوليات ومصالح الدول الأوروبية الغربية القوية وربما بمساعدة من اليابان أحيانًا. وحيث إنها القوة الكبرى الوحيدة المتبقية، فإن الولايات المتحدة، مع بريطانيا وفرنسا، يتخذون القرارات الحاسمة في القضايا السياسية والأمنية، والولايات المتحدة مع ألمانيا واليابان يتخذون القرارات الحاسمة في القضايا الاقتصادية.

الغرب هو الحضارة الوحيدة التي لها مصالح أساسية في كل حضارة أو منطقة أخرى، ولها القدرة على التأثير على سياسة وأمن واقتصاد كل حضارة أو منطقة أخرى. المجتمعات التي تنتمي إلى حضارات أخرى محتاجة دائمًا إلى مساعدة غربية لتحقيق أهدافها وحماية مصالحها. والدول الغربية، كما لخص أحد الباحثين:
  • تمتلك وتدير النظام المصرفي العالمي.

  • تتحكم في كل العملات الصعبة.

  • الزبون الرئيسي في العالم.

  • تقدم غالبية سلع العالم الرئيسية.

  • تسيطر على أسواق العالم الرئيسية.

  • تمارس قيادة معنوية كبيرة داخل مجتمعات كثيرة.

  • قادرة على التدخل العسكري الواسع.

  • تتحكم في الطرق البحرية.

  • تقود معظم البحث العلمي والتطوير التقني.

  • تسيطر على وسائل الدخول إلى الفضاء.

  • تسيطر على الصناعة الخاصة بالفضاء.

  • تسيطر على وسائل الاتصال العالمية.

  • تسيطر على صناعة الأسلحة ذات التقنية العالية.1

الصورة الثانية للغرب مختلفة تمامًا. إنها صورة حضارة تنهار، نصيبها من القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية في العالم في هبوط بالنسبة لنصيب الحضارات الأخرى. انتصار الغرب في الحرب الباردة لم يسفر عن فوز، بل إنهاك. الغرب مُهتم بدرجة متزايدة بمشاكله واحتياجاته الداخلية، حيث يواجه نموًّا اقتصاديًّا بطيئًا وركودًا سكانيًّا وبطالة وعجزًا حكوميًّا وأخلاقيات عمل متدهورة ومعدلات ادخار منخفضة، وفي دول كثيرة بما فيها الولايات المتحدة يواجه تفككًا اجتماعيًّا بالإضافة إلى مشكلات المخدرات والجريمة. القوة الاقتصادية تنتقِل بسرعة إلى شرق آسيا، وبدأت تتبعها القوة العسكرية والنفوذ السياسي. الهند على حافة إقلاع اقتصادي والعالم الإسلامي يتزايد عداؤه للغرب. استعداد المجتمعات الأخرى لقبول أوامر الغرب أو التقيد بنصحائه يتبخر بسرعة، وكذلك ثقة الغرب بنفسه وإرادته في السيطرة. أواخر الثمانينيات شهدت جدلًا واسعًا حول أطروحة ضعف الولايات المتحدة، وفي منتصف التسعينيات انتهى تحليل متوازن إلى نفس الاستنتاج تقريبًا:

في جوانب كثيرة، سوف تتدهور القوة النسبية للولايات المتحدة بمعدل متسارع. ومن ناحية قدراتها الاقتصادية الخام فإن وضع الولايات المتحدة بالنسبة لليابان وفي النهاية بالنسبة للصين، من المحتمل أن يضعف أكثر من ذلك. في المجال العسكري فإن ميزان القدرات المؤثرة بين الولايات المتحدة وعدد من القوى الإقليمية النامية (بما فيها إيران والهند والصين) سوف يتحول من المركز إلى المحيط الخارجي.

بعض قوة أمريكا البنيوية سوف ينتقل بسرعة إلى دول أخرى، وسيجد جزء من قوتها غير البنيوية كذلك طريقَه إلى أيدي لاعبين غير رسميين مثل الشركات متعددة الجنسية.2

فأيٌّ من هاتَين الصورتَين لمكانة الغرب في العالم يصف الحقيقة؟ الإجابة بالتأكيد: كلتاهما.

الغرب الآن مُسيطر بشكل طاغٍ وسيظل رقم واحد من ناحية القوة والنفوذ في القرن الواحد والعشرين. وهناك كذلك تغيرات تدريجية قوية وأساسية تحدث في موازين القوى بين الحضارات، وقوة الغرب بالنسبة لقوة الحضارات الأخرى سوف تستمر في الاضمحلال.

ومع تآكُل أولية الغرب، فإن معظم قوته سوف يتبخر والباقي منها سوف ينتشر على أساس إقليمي بين الحضارات الرئيسية العديدة ودولها المركزية. الزيادة البارزة في القوة تتراكم، وسوف تتراكم لدى الحضارات الآسيوية مع بروز الصين كمجتمعٍ هو الأكثر ترجيحًا لتهديد الغرب على النفوذ الكوني.

هذه التحولات في القوة بين الحضارات أدت وسوف تؤدي إلى يقظة المجتمعات غير الغربية وتوكيد ثقافتها، وإلى زيادة رفضها للثقافة الغربية.

اضمحلال الغرب له ثلاث سمات أساسية:
  • أولًا: هي عملية بطيئة. صعود القوة الغربية أخذ أربعة قرون. انحسارها قد يأخذ مثل تلك المدة الطويلة. في الثمانينيات كان الباحث البريطاني المتميز «هيدلي بول» يقول: «إن السيادة الغربية أو الأوروبية على المجتمع العالمي بكامله يمكن أن يقال إنها وصلت إلى أوجها حوالي سنة ١٩٠٠م.»3 الجزء الأول من كتاب «شبنجلر» ظهر سنة ١٩١٨م، وكان «اضمحلال الغرب» موضوعًا رئيسيًّا في تاريخ القرن العشرين. العملية نفسها امتدَّت عبر معظم القرن، وواضح أنها يمكن أن تتسارع. النمو الاقتصادي والزيادات الأخرى في مقدرات أي دولة تسير عادة بامتداد «منحنى» S: بداية بطيئة ثم تسارع يتبعه معدلات اتساع أقل ثم ثبات أو استواء. انهيار واضمحلال الدول يمكن أن يتم أيضًا بأسلوب المنحنى S المعكوس كما حدث بالنسبة للاتحاد السوفيتي. اعتدال في البداية ثم تسارع قبل الهبوط إلى القاع. انهيار الغرب ما زال في المرحلة الأولى البطيئة، ولكنه قد يتسارع بدرجةٍ كبيرة عندما يصل إلى نقطة مُعينة.
  • ثانيًا: الانهيار لا يسير في خط مستقيم، وهو غير منتظم، به وقفات وانعكاسات وإعادة توكيد للقوة الغربية على أثر تجليات للضعف. المجتمعات الغربية المنفتحة لديها إمكانات عظيمة للتجدُّد، بالإضافة إلى أن الغرب يُوجَد به مركزان رئيسيان للقوة، على عكس كثير من الحضارات. الانهيار الذي كان «بول» يرى بدايته في حوالي سنة ١٩٠٠م، كان في الأساس انهيار المكون الأوروبي في الحضارة الغربية.

    من سنة ١٩١٠م إلى سنة ١٩٤٥م كانت أوروبا منقسمة على نفسها ومشغولة بمشاكلها الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وفي الأربعينيات بدأت المرحلة الأمريكية في السيادة الغربية، سادت الولايات المتحدة العالم في سنة ١٩٤٥م لفترة قصيرة، وإلى درجة يمكن أن تقارن بقوة الحلفاء في سنة ١٩١٨م.

    انحسار الاستعمار الذي حدث بعد الحرب قلَّل من النفوذ الأوروبي بدرجة أكبر، ولكن ليس من نفوذ الولايات المتحدة الذي أحلَّ استعمارًا جديدًا مُتخطيًا للحدود القومية، بديلًا للإمبراطورية التقليدية. وأثناء الحرب الباردة، كانت القوة العسكرية الأمريكية تتناسب مع مثيلتها عند السوفيت، والقوة الاقتصادية الأمريكية تدهورت بالنسبة لمثيلتها في اليابان، إلا أن جهودًا كانت تبذل من وقت لآخر من أجل التجديد العسكري والاقتصادي.

    في سنة ١٩٩١م كان الباحث الإنجليزي البارز «باري بوزان» يقول أيضًا: «الحقيقة الأعمق هي أن المركز قد أصبح الآن أكثر سيادة والمحيط أكثر تبعية عن أي وقتٍ مضى منذ بدأ انحسار الاستعمار.»4 إلا أن دقة هذه الملاحظة تضعف حيث إن النصر العسكري الذي أدى إلى قيامها كان هو الآخر يضعف تدريجيًّا.
  • ثالثًا: القوة هي قدرة فرد أو جماعة ما على تغيير سلوك فرد أو جماعة أخرى، والسلوك يمكن أن يتغير عن طريق الإقناع أو القسر أو النصح، والذي يتطلب بدوره أن يكون لدى مُستخدِم القوة مصادر اقتصادية وعسكرية ومؤسسية وديموغرافية وتكنولوجية واجتماعية أو غيرها. قوة الجماعة أو الدولة هكذا تقدر عادة بحساب المصادر الموجودة تحت تصرفها، في مقابل تلك التي في يد الدول أو الجماعات التي تريد أن تمارس نفوذًا عليها.

نصيب الغرب من معظم — وليس كل — مصادر القوة المهمة وصل إلى أعلى مستوًى له في بدايات القرن العشرين، ثم بدأ في التدهور مقارنةً به لدى الحضارات الأخرى.

مساحة الأرض والسكان

في سنة ١٤٩٠م كانت المجتمعات الغربية تسيطر على معظم شبه الجزيرة الأوروبية خارج البلقان، أو ربما ١٫٥ مليون ميل مربع من مجمل مساحةٍ (باستثناء الأنتاراكتكا) تبلغ ٥٢٫٥ مليون ميل مربع. وفي قمة اتساعه المساحي في سنة ١٩٢٠م كان الغرب يحكم — مباشرة — ٢٥٫٥ مليون ميل مربع أو ما يقرب من نصف مساحة الكرة الأرضية. وبحلول ١٩٩٣م كانت هذه السيطرة قد انخفضت إلى النصف، أي إلى حوالي ١٢٫٧ مليون ميل مربع. عاد الغرب إلى مركزه الأوروبي الأصلي بالإضافة إلى أراضي الاستيطان المترامية في أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندة.

في المقابل، ارتفعت مساحة المجتمعات الإسلامية المستقلة من ١٫٨ ميل مربع في سنة ١٩٩٣م وحدثت تغيرات مماثلة في السكان. في سنة ١٩٠٠م كان الغربيون يمثلون ٣٠٪ تقريبًا من سكان العالم، وكانت الحكومات الغربية تحكم قرابة ٤٥٪ من السكان آنذاك، و٤٨٪ في سنة ١٩٢٠م، وفي سنة ١٩٩٣م كانت الحكومات الغربية لا تحكم أحدًا سوى الغربيين، باستثناء بغض البقايا الاستعمارية مثل هونج كونج.

جدول ٤-١: الأراضي الواقعة تحت السيطرة السياسية للحضارات: (١٩٠٠–١٩٩٣م)*
السنة تقدير إجمالي لأراضي الحضارات محسوبة بألف ميل مربع
المغربية الإفريقية الصينية الهندو الإسلامية اليابانية الأمريكية اللاتينية أرثوذوكسية آخرون
١٩٠٠ ٢٠٢٩٠ ١٦٤ ٤٣١٧ ٥٤ ٣٥٩٢ ١٦١ ٧٧٢١ ٨٧٣٣ ٧٤٦٨
١٩٢٠ ٢٥٤٤٧ ٤٠٠ ٣٩١٣ ٥٤ ١٨١١ ٢٦١ ٨٠٩٨ ١٠٢٥٨ ٢٢٥٨
١٩٧١ ١٢٨٠٦ ٤٦٣٦ ٣٩٣٦ ١٣١٦ ٩١٨٣ ١٤٢ ٧٨٣٣ ١٠٣٤٦ ٢٣٠٢
١٩٩٣ ١٢٧١١ ٥٦٨٢ ٣٩٢٣ ١٢٧٩ ١١٠٥٤ ١٤٥ ٧٨١٩ ٧٩٦٩ ٢٧١٨
تقدير الأراضي بالنسبة المئوية
١٩٠٠م ٥٣٨٫٧ ٠٫٣ ٨٫٢ ٠٫١ ٦٫٨ ٠٫٣ ١٤٫٧ ١٦٫٦ ١٤٫٣
١٩٢٠م ٤٨ ٠٫٨ ٧٫٥ ٠٫١ ٣٫٥ ٠٫٥ ١٤٫٥ ١٩٫٥ ٤٫٣
١٩٧١م ٢٤٫٤ ٨٫٨ ٧٫٥ ٢٫٥ ١٧٫٥ ٠٫٣ ١٤٫٩ ١٩٫٧ ٤٫٤
١٩٩٣م ٢٤٫٢ ١٠٫٨ ٧٫٥ ٢٫٤ ٢١٫١ ٠٫٣ ١٤٫٠٩ ١٣٫٧ ٥٫٢
ملحوظة: المساحات العالمية النسبية محسوبة على أساس حدود الدول في السنة المبينة.
†  تقدير أراضي العالم ﺑ ٢٥٫٥ مليون ميل مربع لا يتضمَّن «انتراكتكا».
المصادر: Statesman’s year-book (New York: St Martin’s Press, 1901–1927) World Book Atlas (Chicago: Field Enterprises Education Corp., 1970); Britannica Book of the Year (Chicago: Encyclopedia Btitannica, Inc., 1992–1944).
الغربيون وصلوا إلى ما يزيد قليلًا عن ١٣٪ من البشر في العالم، ومن المحتمل أن تهبط النسبة إلى ١١٪ مع بداية القرن القادم، وإلى ١٠٪ بحلول عام ٢٠٢٥م.5

ومن حيث عدد السكان الكلي، كان الغرب في سنة ١٩٩٣م يحتل المركز الرابع بعد الحضارات الصينية والإسلامية والهندية. الغربيون يمثلون إذن أقلية في سكان العالم وهي تتناقص باطراد.

من ناحية الكيف فإن الميزان بين الغرب وعدد سكان الحضارات الأخرى يتغير أيضًا. شعوب الدول غير العربية أصبحت أكثر صحة، أكثر تمدينًا، وزاد فيها عدد القادرين على القراءة والكتابة، كما أصبحت أفضل تعليمًا.

في بداية التسعينيات كانت معدلات الوفيات بين الأطفال في أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، والشرق الأوسط، وجنوب آسيا، وشرق آسيا، وجنوب شرق آسيا، قد انخفضت من ثلث إلى نصف ما كانت عليه قبل ثلاثين عامًا. متوسط العمر المتوقع في تلك المناطق ارتفع ارتفاعًا ملحوظًا، بمعدلات تتراوح بين ١١ سنة في أفريقيا و٢٣ سنة في شرق آسيا. في بداية الستينيات كان عدد من يقرءون ويكتبون في معظم دول العالم الثالث أقل من ثلث عدد البالغين. في بداية التسعينيات كان من يستطيعون القراءة والكتابة في بلاد قليلة جدًّا ما عدا أفريقيا، أقل من نصف عدد السكان.

حوالي ٥٠٪ من الهنود و٧٥٪ من الصينيين يستطيعون القراءة والكتابة. معدلات القراءة والكتابة وصلت في الدول النامية في سنة ١٩٧٠م إلى ٤١٪ مما هي عليه في الدول المتقدمة وفي سنة ١٩٩٢م وصلت إلى ٧١٪، في بداية التسعينيات، كانت المجموعات العمرية الملائمة بالكامل مسجلة في التعليم الابتدائي بالفعل في جميع المناطق ما عدا أفريقيا. ومن الدلائل المهمة أنه في بداية الستينيات في آسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وأفريقيا كان أقل من ثلث المجموعة العمرية الملائمة مُسجلًا في التعليم الثانوي، وفي أوائل التسعينيات وصل التسجيل إلى نصف المجموعة ما عدا أفريقيا.

جدول ٤-٢: تعداد الدول التي تنتمي إلى الحضارات الرئيسية في العالم – ١٩٩٣م (بالألوف)*
الصينية ١٣٤٠٩٠٠ أمريكا اللاتينية ٥٠٧٥٠٠
الإسلامية ٩٢٧٦٠٠ الإفريقية ٣٩٢١٠٠
الهندو ٩١٥٨٠٠ الأرثوذوكسية ٢٦١٣٠٠
الغربية ٨٠٥٤٠٠ اليابانية ١٢٤٧٠٠
المصدر: محسوبة بناء على الأرقام: Encyclopedia Britannica 1994 book of the Year (Chicago: Encyclopedia Britannica, 1944) pp. 764–69.
في سنة ١٩٦٠م كان سكان المدن يمثلون أقل من ربع سكان العالم الأقل نموًّا. بين ١٩٦٠م و١٩٩٢م ارتفعت نسبة سكان المدن من ٤٩٪ إلى ٧٣٪ في أمريكا اللاتينية، ومن ٣٤٪ إلى ٥٥٪ في الدول العربية، ومن ١٤٪ إلى ٢٩٪ في أفريقيا، ومن ١٨٪ إلى ٢٧٪ في الصين، ومن ١٩٪ إلى ٢٦٪ في الهند.6

هذه التغيرات في معرفة القراءة والكتابة والتعليم والتمدين خلقت سكانًا معبَّئين اجتماعيًّا، لديهم إمكانيات سريعة وتوقعات أعلى يمكن أن تنشط من أجل أغراضٍ سياسية، وعلى نحو ما كان يمكن أن يحدث للفلاحين الأميين.

المجتمعات المعبأة اجتماعيًّا مجتمعات قوية. في سنة ١٩٥٣م عندما كان القادرون على القراءة والكتابة من الإيرانيين ١٥٪، وسكان المدن أقل من ١٧٪، تمكن «كيرمت روزفلت» ومجموعة من اﻟ CIA من قمع انتفاضة وإعادة «الشاه» إلى عرشه. في سنة ١٩٧٩م عندما كان ٥٠٪ من الإيرانيين يقرءون ويكتبون، ونسبة من يعيشون في المدن ٤٧٪، لم يستطع أي قَدر من القوة العسكرية أن يُبقي «الشاه» على عرشه.
جدول ٤-٣: أنصبة السكان في العالم تحت السيطرة السياسية للحضارات (١٩٠٠–٢٠٢٥م) (٪)*
السنة الغربية الإفريقية الصينية الهندو الإسلامية اليابانية الأمريكية اللاتينية الأرثوذوكسية آخرون
الإجمالي العالمي
١٩٠٠م [١٫٦] ٤٤٫٣ ٠٫٤ ١٩٫٣ ٠٫٣ ٤٫٢ ٣٫٥ ٣٫٢ ٨٫٥ ١٦٫٣
١٩٢٠م [١٫٩] ٤٨٫١ ٠٫٧ ١٧٫٣ ٠٫٣ ٢٫٤ ٤٫١ ٤٫٦ ١٣٫٩ ٨٫٦
١٩٧١م [٣٫٧] ١٤٫٤ ٥٫٦ ٢٢٫٨ ١٥٫٢ ١٣٫٠ ٢٫٨ ٨٫٤ ١٠٫٠ ٥٫٥
١٩٩٠م [٥٫٣] ١٤٫٧ ٨٫٢ ٢٤٫٣ ١٦٫٣ ١٣٫٤ ٢٫٣ ٩٫٢ ٦٫٥ ٥٫١
١٩٩٥م [٥٫٨] ١٣٫١ ٩٫٥ ٢٤٫٠ ١٦٫٤ ١٥٫٩ ٢٫٢ ٩٫٣ ٦٫١ ٣٫٥
٢٠١٠م [٧٫٢] ١١٫٥ ١١٫٧ ٢٢٫٣ ١٧٫١ ١٧٫٩§ ١٫٨ ١٠٫٣ ٥٫٤ ٢٫٠
٢٠٢٥م [٨٫٥] ١٠٫١ ١٤٫٤ ٢١٫٠ ١٦٫٩ ١٩٫|| ١٫٥ ٩٫٢ ٤٫٩ ٢٫٨
ملاحظات: تقديرات سكان العالم النسبية مبنية على أساس حدود الدول الموجودة في السنة المبينة. تقديرات السكان من سنة ١٩٩٥م وحتى سنة ٢٠٢٥م على أساس حدود ١٩٩٤م.
†  التقدير محسوب بالبليون.
‡  التقديرات لا تتضمن أعضاء كومنولث الدول المستقلة ولا البوسنة.
§  التقديرات تتضمن كومونولث الدول المستقلة وجورجيا ويوغوسلافيا السابقة.
||  المصادر: United Nations, Population Division, Department of Economic and Social Information and Policy Analysis, World Population Prospects, the 1992 Revision (New York: United Nations, 1993). Statesman’s Year-Book (New York: St. Martin’s Press, 1901–1927) World Almanac and Book of Facts (New York: Press Pub Co., 1970–1933).

هناك هوة كبيرة ما زالت تفصل الصينيين والهنود والعرب والأفارقة عن الغربيين واليابانيين والروس، إلا أنها تضيق بسرعة. وفي نفس الوقت هناك هوة أخرى مختلفة تتفتح. متوسط العمر عند الغربيين واليابانيين والروس يزيد باطراد، والنسبة الأكبر من السكان الذين لم يعودوا يعملون تفرض عبئًا كبيرًا على أولئك الذين ما زالوا يعملون وينتجون. الحضارات الأخرى مُثقلة بأعداد كبيرة من الأطفال، ولكن الأطفال هم عمال وجنود الغد.

النتاج الاقتصادي

نصيب الغرب من مجمل النتاج الاقتصادي العالمي ربما يكون قد وصل إلى أعلى معدلاته في العشرينيات، وواضح أنه بدأ في الانهيار منذ الحرب العالمية الثانية. في سنة ١٧٥٠م كان نصيب الصين من النتاج الصناعي العالمي الثلث تقريبًا، والهند حوالي الربع، والغرب أقل من الخمس. في سنة ١٨٣٠م كان الغرب قد تقدم قليلًا على الصين. وفي العقود التالية كما يشير «بول بايروخ»، أدى تصنيع الغرب إلى عدم تصنيع بقية العالم، وفي ١٩١٣م كان النتاج الصناعي للدول غير الغربية ثلثي ما كان عليه تقريبًا في سنة ١٨٠٠م، ومع بداية منتصف القرن العشرين ارتفع نصيب الغرب بدرجة كبيرة ليصل إلى قمته في سنة ١٩٢٨م وتصبح نسبته ٤٨٫٢٪ من نتاج العالم الصناعي. وبعد ذلك انخفض نصيب الغرب حيث ظل معدل نموه متواضعًا، كما زادت الدول الأقل تصنيعًا من إنتاجها بعد الحرب العالمية الثانية.

وفي سنة ١٩٨٠م كان الغرب يقدم ٥٧٫٨٪ من النتاج الصناعي العالمي، وهذا تقريبًا نفس نصيبه منذ ١٢٠ سنة أو في ستينيات القرن التاسع عشر.7
ولا تُوجَد بيانات يُعوَّل عليها عن مُجمَل النتاج الاقتصادي لمرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية. في سنة ١٩٥٠م كان الغرب يقدم ٦٤٪ تقريبًا من مجمل النتاج العالمي، وهبطت النسبة في الثمانينيات لتصل إلى ٤٩٪ (انظر الجدول ٤-٥).
وطبقًا لأحد التقديرات، فإن الغرب سيكون مسئولًا عن نسبة ٣٠٪ من مجمل نتاج العالم في سنة ٢٠١٣م، ويشير تقدير آخر إلى أنه في سنة ١٩٩١م كان هناك أربع دول غير غربية بين الدول السبع الأقوى اقتصاديًّا، وهي اليابان (في المركز الثاني) والصين (الثالث) وروسيا (السادس) والهند (الرابع). وفي سنة ١٩٩٢م كانت الولايات المتحدة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، كما كانت أكبر عشرة أنظمة اقتصادية تضم تلك الموجودة في خمس دول غربية، يُضاف إليها الدول الرئيسية في خمس حضارات أخرى وهي: الصين واليابان والهند وروسيا والبرازيل. وتشير تقديرات معقولة إلى أنه في سنة ٢٠٢٠م ستكون أعلى خمسة أنظمة اقتصادية موجودة في خمس حضارات مختلفة، وأنه ستكون هناك ثلاثة أنظمة غربية فقط بين أعلى عشرة أنظمة في العالم. هذا الانهيار النسبي للغرب، ناتج في جزءٍ كبير منه عن الصعود السريع لشرق آسيا.8
جدول ٤-٤: أنصبة الحضارات أو الدول في الناتج الصناعي العالمي ١٧٥٠م–١٩٨٠م (محسوبة بالنسبة المئوية، العالم = ١٠٠٪)
الدولة/الحضارة ١٧٥٠م ١٨٠٠م ١٨٣٠م ١٨٦٠م ١٨٨٠م ١٩٠٠م ١٩١٣م ١٩٢٨م ١٩٣٨م ١٩٥٣م ١٩٦٣م ١٩٧٣م ١٩٨٠م
الغرب ١٨٫٢ ٢٣٫٣ ٣١٫١ ٥٣٫٧ ٦٨٫٨ ٧٧٫٤ ٨١٫٦ ٨٤٫٢ ٧٨٫٦ ٧٤٫٦ ٦٥٫٤ ٦١٫٢ ٥٧٫٨
الصين ٣٢٫٨ ٣٣٫٣ ٢٩٫٨ ١٩٫٧ ١٢٫٥ ٦٫٢ ٣٫٦ ٣٫٤ ٣٫١ ٢٫٣ ٣٫٥ ٣٫٩ ٥٫٢
اليابان ٣٫٥ ٣٫٥ ٢٫٨ ٢٫٦ ٢٫٤ ٢٫٤ ٢٫٧ ٣٫٣ ٥٫٢ ٢٫٩ ٥٫١ ٨٫٨ ٩٫١
الهند/ باكستان ٢٤٫٥ ١٩٫٧ ١٧٫٦ ٨٫٦ ٢٫٨ ١٫٧ ١٫٤ ١٫٩ ٢٫٤ ١٫٧ ١٫٨ ٢٫١ ٢٫٣
روسيا/ الاتحاد السوفيتي* ٥٫٠ ٥٫٦ ٥٫٦ ٧٫٠ ٧٫٦ ٨٫٨ ٨٫٢ ٥٫٣ ٩٫٠ ١٦٫٠ ٢٠٫٩ ٢٠٫١ ٢١٫١
البرازيل/ المكسيك - - - ٠٫٨ ٠٫٦ ٠٫٧ ٠٫٨ ٠٫٨ ٠٫٨ ٠٫٩ ١٫٢ ١٫٦ ٢٫٢
آخرون ١٥٫٧ ١٤٫٦ ١٣٫١ ٧٫٦ ٥٫٣ ٢٫٨ ١٫٧ ١٫١ ٠٫٩ ١٫٦ ٢٫١ ٢٫٣ ٢٫٥
بما في ذلك دول حلف وارثو في سنوات الحرب الباردة (المصدر: Paul Bairoch, “Internationalization Industrialization Levels from 1750 to 1980,” Journal of European Economic History, 11 (Fall 1982), 269–334).

الأرقام الكلية عن النتاج الاقتصادي، تخفي جزئيًّا المميزات الكيفية للغرب. الغرب واليابان تقريبًا يسيطران تمامًا على الصناعات التكنولوجية المتقدمة. التكنولوجيات تنتشر، وإذا كان الغرب يريد أن يحافظ على تفوقه فسوف يفعل كل ما في وسعه ليكون ذلك الانتشار عند حدِّه الأدنى. وبفضل العالم الذي أصبح وثيق الاتصال، والذي خلقه الغرب، يصبح من الصعب عرقلة انتشار التكنولوجيا وتعطيل وصولها إلى حضارات أخرى. وتزداد الصعوبة في غياب خطرٍ واحد متفق عليه مثل ذلك الذي كان إبان الحرب الباردة والذي كان يعطي وسائل التحكم في نقل التكنولوجيا بعض الفعالية. ويبدو محتملًا أن الصين كان لديها أكبر اقتصاد في العالم على مدار معظم التاريخ.

جدول ٤-٥: أنصبة الحضارات من مجمل الناتج الاقتصادي العالمي (١٩٥٠–١٩٩٢م) (٪)*
السنة الغربية الإفريقية الصينية الهندو الإسلامية اليابانية الأمريكية اللاتينية الأرثوذوكسية آخرون
١٩٥٠م ٦٢٫١ ٠٫٢ ٣٫٣ ٣٫٨ ٢٫٩ ٣٫١ ٥٫٦ ١٦٫٠ ١٫٠
١٩٧٠م ٥٣٫٤ ١٫٧ ٤٫٨ ٣٫٠ ٤٫٦ ٧٫٨ ٦٫٢ ١٧٫٤ ١٫١
١٩٨٠م ٤٨٫٦ ٢٫٠ ٦٫٤ ٢٫٧ ٦٫٣ ٨٫٥ ٧٫٧ ١٦٫٤ ١٫٤
١٩٩٢م ٤٨٫٩ ٢٫١ ١٠٫٠ ٣٫٥ ١١٫٠ ٨٫٠ ٨٫٣ ٦٫٢ ٢٫٠
تقدير الحضارة الأرثوذوكسية لسنة ١٩٩٢م يتضمن الاتحاد السوفيتي السابق ويوغوسلافيا السابقة.
†  «الآخرون» يتضمن حضارات أخرى وخطأ تقريبيًّا.
‡  المصادر: النسب الخاصة بسنوات ١٩٥٠م، ١٩٧٠م، ١٩٨٠م محسوبة على أساس بيانات الدولار الثابتة كما قدمها: Herbert Block, The Planetary Product in 1980: A Creative Pause! (Washington, D.C: Bureau of Public Affairs, U.S Dept. of State, 1981) pp. 30–45.
ونسب ١٩٩٢م محسوبة بناءً على تقديرات البنك الدولي للقوة الشرائية في الجدول رقم ٣٠ من: World Development Report 1994 (New York: Oxford University Press, 1994).

انتشار التكنولوجيا، والنمو الاقتصادي للدول غير الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين، يؤديان الآن إلى عودة النموذج التاريخي، وهذه ستكون عملية بطيئة. ولكن في منتصف القرن الواحد والعشرين — إن لم يكن قبل ذلك — يحتمل أن يماثل توزع النتاج الاقتصادي والنتاج الصناعي بين الحضارات الرئيسية، ما كان عليه في سنة ١٨٠٠م.

الضغطة الغربية التي استمرت مائتي عام على الاقتصاد العالمي سوف تنتهي.

القدرة العسكرية

للقدرة العسكرية أربعة أبعاد:

  • بعد كمي: عدد الأفراد والأسلحة والمعدات والمصادر.
  • بعد تكنولوجي: فاعلية وتعقد الأسلحة والمعدات.
  • بعد تنظيمي: التماسُك والانضباط والتدريب ومعنويات القوات وفاعلية علاقات القيادة والسيطرة.
  • بعد مجتمعي: القدرة والاستعداد لدى المجتمع لاستخدام القوة العسكرية بكفاءة.

في العشرينيات، كان الغرب سابقًا الجميع في كل تلك الأبعاد. في السنوات التالية لذلك انهارت قوة الغرب العسكرية بالنسبة لتلك التي لدى الحضارات الأخرى، وهو انهيار يتضح من الميزان المتغير في عدد العسكريين، أحد المقاييس رغم أنه ليس أهمها لقياس القدرة العسكرية.

التحديث والتقدم الاقتصادي يولدان المصادر والرغبة لدى الدول لتطوير قدراتها العسكرية، والقليل من الدول هو الذي يفعل ذلك. في الثلاثينيات أنشأت اليابان والاتحاد السوفيتي قوات مسلحة قوية، كما ظهر في الحرب العالمية الثانية. أثناء الحرب الباردة كان لدى الاتحاد السوفيتي واحدة من أقوى قوتين عسكريتين في العالم. وفي الوقت الحاضر، يحتكر الغرب المقدرة على نشر قوات عسكرية تقليدية كبيرة في أي مكان من العالم، ولا يُوجَد تأكيد على أنه سيستطيع الاحتفاظ بهذه القدرة. ويبدو مؤكدًا أنه لن تتمكن أي دولة ولا مجموعة من الدول غير الغربية أن تحقق مقدرةً مماثلة خلال العقود القادمة. بالإضافة إلى ذلك، كانت تسود السنوات التي تلت الحرب الباردة خمسة توجهات في تطور القدرات العسكرية الكونية الرئيسية:

جدول ٤-٦: أنصبة الحضارات من مجمل القوى البشرية العسكرية في العالم (٪)*
السنة الإجمالي العالمي الغربية الإفريقية الصينية الهندو الإسلامية اليابانية الأمريكية اللاتينية الأرثوذوكسية آخرون
١٩٠٠م (١٠٫٨٦) ٤٣٫٧ ١٫٦ ١٠٫٠ ٠٫٤ ١٦٫٧ ١٫٨ ٩٫٤ ١٦٫٦ ٠٫١
١٩٢٠م (٨٫٤٥) ٤٨٫٥ ٣٫٨ ١٧٫٤ ٠٫٤ ٣٫٦ ٢٫٩ ١٠٫٢ ١٢٫٨ ٠٫٥
١٩٧٠م (٢٣٩٩١) ٢٦٫٨ ٢٫١ ٢٤٫٧ ٦٫٦ ١٠٫٤ ٠٫٣ ٤٫٠ ٢٥٫١ ٢٫٣
١٩٩١م (٢٥٧٩٧) ٢١٫١ ٣٫٤ ٢٥٫٧ ٤٫٨ ٢٠٫٠ ١٫٠ ٦٫٣ ١٤٫٣ ٣٫٥
ملاحظات: التقديرات على أساس حدود الدول في السنوات المبينة.
إجمالي تقديرات القوات المسلحة (العاملة) مبينة بالألوف عن كل سنة.
†  نصيب الاتحاد السوفيتي من هذا الرقم مقدر بسنة ١٩٢٤م حسب: J. M. Mackintosh in B. H. Liddell-Hart, The Red Army: The Red Army-1918: 1945, The Soviet Army-1946 to present (New York: Harcourt, Brace, 1956).
المصادر: U.S Arms Control and Disarmament Agency, World Military Expenditure & Arms Transfers (Washington D.C.: The Agency, 1971–1994); Statesman’s Year Book (New York: St. Martin’s Press, 1091–1927).
  • أولًا: بعد اختفاء الاتحاد السوفيتي مباشرة، لم يعد للقوات المسلحة السوفيتية وجود. وبصرف النظر عن روسيا، فإن أوكرانيا فقط هي التي ورثت إمكانيات عسكرية بارزة. القوات الروسية تم تخفيض حجمها لدرجة كبيرة، وسحبت من أوروبا الوسطى ودول البلطيق. حلف وارسو انتهى. هدف تحدي البحرية الأمريكية تم التخلي عنه. المعدات العسكرية إما تم التخلص منها أو تركت لتسوء حالتها وتفقد صلاحيتها. مخصصات الدفاع في الميزانية خفضت جدًّا. انخفاض الروح المعنوية ساد صفوف الضباط والجنود. في نفس الوقت كانت العسكرية الروسية تعيد تحديد واجباتها ومبادئها وتعيد بناء نفسها من أجل الدور الجديد في حماية روسيا والتعامل مع الصراعات الإقليمية مع الجوار.
  • ثانيًا: التخفيض الشديد في الإمكانيات الروسية حفز تخفيضًا بطيئًا — وإن كان كبيرًا — في الإنفاق العسكري الغربي، وكذلك في القوات والإمكانيات. وفي ظل خطط إدارتي «بوش» و«كلينتون»، كان المطلوب تخفيض الإنفاق العسكري بنسبة ٣٥٪ من ٣٤٢٫٣ بليون دولار في سنة ١٩٩٠م إلى ٢٢٢٫٣ بليون دولار في ١٩٨٨م، وليصبح حجم القوات المسلحة في ذلك العام ما بين نصف إلى ثلثي ما كان عليه في نهاية الحرب الباردة.

    ويهبط عدد الأفراد العسكريين من ٢٫١ مليون إلى ١٫٤ مليون تم إلغاء برامج تسليح رئيسية، ويجرى إلغاء أخرى. المشتروات السنوية من الأسلحة الرئيسية هبطت بين ١٩٨٥م و١٩٩٥م: السفن من ٢٦ إلى ٦، الطائرات من ٩٤٣ إلى ١٢٧، الدبابات من ٧٢٠ إلى صفر، الصواريخ الاستراتيجية من ٤٨ إلى ١٨.

    وبدءًا من أواخر الثمانينيات نفذت بريطانيا وألمانيا وفرنسا تخفيضات مماثلة في نفقات الدفاع والإمكانيات العسكرية، وإن كان بدرجةٍ أقل. وفي منتصف التسعينيات كان المخطط هو تخفيض عدد أفراد القوات المسلحة الألمانية من ٣٧٠٠٠٠ إلى ٣٤٠٠٠٠ وربما إلى ٣٢٠٠٠٠، وتخفيض الجيش الفرنسي من ٢٩٠٠٠٠ في سنة ١٩٠٠م إلى ٢٢٥٠٠٠ في سنة ١٩٩٧م، كما تم تخفيض عدد الأفراد في القوات المسلحة البريطانية من ٣٧٧١٠٠ في سنة ١٩٨٥م إلى ٢٧٤٠٠٠ في سنة ١٩٩٣م، كما اختصرت دول القارة الأعضاء في حلف شمال الأطلنطي NATO شروط التجنيد وناقشوا إمكانية إلغائه.
  • ثالثًا: : في آسيا، كانت التوجهات تختلف تمامًا عنها في روسيا والغرب. زيادة الإنفاق العسكري وتطوير القوات كانت بمثابة جدول الأعمال، كما كانت الصين هي محددة سرعة الانطلاق. الدول الشرق آسيوية الأخرى تقوم بتحديث قواتها العسكرية وزيادة حجمها، يحفزها إلى ذلك القوة الاقتصادية المتزايدة والتعاظم الصيني. اليابان واصلت تطوير قدراتها العسكرية المتقدمة. تايوان وكوريا الجنوبية وتايلاند وماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا … كلهم يزيدون من الإنفاق العسكري ويقومون بشراء الدبابات والطائرات والسفن من روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ودول أخرى. وبينما هبط الإنفاق الدفاعي لحلف شمال الأطلنطي NATO بحوالي ١٠٪ بين عامَي ١٩٨٥م و١٩٩٣م (من ٥٣٩٫٦ بليون دولار إلى ٤٨٥ بليون دولار)، نجد أنه قد زاد في شرق آسيا بنسبة ٥٠٪ تقريبًا (من ٨٩٫٨ بليون دولار إلى ١٣٤٫٨ بليون دولار) وذلك خلال نفس الفترة.9
  • رابعًا: تنتشر الإمكانيات العسكرية بما فيها أسلحة الدمار الشامل على نطاقٍ واسع في العالم. ومع تقدُّم الدول اقتصاديًّا، تُصبح لدَيها القدرة على إنتاج السلاح. بين الستينيات والثمانينيات مثلًا زاد عدد دول العالم الثالث المنتجة للطائرات من ١–٨، والمنتجة للدبابات من ١–٦، ولطائرات الهيلكوبتر من ١–٦، وللصواريخ التكتيكية من صفر-١، كما شهدت التسعينيات توجهًا رئيسيًّا نحو عالمية صناعة الدفاع، الأمر الذي سيُقلل من أفضلية العسكرية الغربية.10

    الكثير من الدول غير الغربية إما أنهم يمتلكون أسلحة نووية (روسيا – الصين – إسرائيل – الهند – باكستان – وربما كوريا الشمالية)، أو يقومون بجهود دءوبة للحصول عليها (إيران – العراق – ليبيا – وربما الجزائر)، أو في وضع يمكنهم من الحصول عليها بسرعة إن استدعت الحاجة (اليابان).

  • وأخيرًا: فإن كل تلك التطورات تجعل تقسيم العالم إلى مناطق هو التوجُّه الرئيسي في الاستراتيجية والقوة العسكرية في عالَم ما بعد الحرب الباردة. هذا التقسيم الإقليمي يقف وراء منطق عمليات تخفيض القوات المسلحة في روسيا والغرب، وزيادتها في الدول الأخرى. لم يعد لروسيا قدرات عسكرية كونية، ولكنها تركز استراتيجيتها وقواتها على خارجها القريب. الصين أعادت توجيه استراتيجيتها وقواتها لتأكيد القوة المحلية والدفاع عن المصالح الصينية في شرق آسيا. الدول الأوروبية كذلك توجِّه قواتها من خلال كلٍّ من اﻟ «ناتو» و«الاتحاد الأوروبي الغربي» للتعامُل مع القلاقل على حدود وأطراف أوروبا الغربية. الولايات المتحدة حولت تخطيطها العسكري بوضوح من ردع وقتال الاتحاد السوفيتي على أساس كوني، لكي تكون مُستعدة للتعامُل مع الطوارئ الإقليمية في الخليج الفارسي وشمال شرق آسيا في نفس الوقت. ورغم ذلك لا يبدو أن الولايات المتحدة لديها الإمكانيات العسكرية للوفاء بهذه الأهداف. فلكي تهزم العراق، قامت الولايات المتحدة بنشر ٧٥٪ من طيرانها التكتيكي النشط في الخليج الفارسي، وكذلك ٤٢٪ من دباباتها الحديثة و٤٦٪ من رجال البحرية.

ومع التخفيض الكبير في القوات في المستقبل، سيكون من الصعب عليها أن تنفذ تدخلًا واحدًا، ومن الأكثر صعوبة أن تنفذ تدخُّلَين ضد قوى إقليمية كبيرة خارج نصف الكرة الغربي. إن الأمن العسكري في أنحاء العالم أصبح بشكلٍ متزايد لا يعتمد على التوزع الكوني للقوة، ولا على أعمال القوى الكبرى، وإنما على توزع القوة داخل كل منطقة في العالم وعلى أعمال دول المركز في الحضارات.

وباختصار، فإن الغرب سيظل أقوى الحضارات في العقود الأولى من القرن الواحد والعشرين، وربما استمرت له الصدارة بعد ذلك من ناحية الموهبة العلمية وإمكانيات البحث والتطوير والإبداع التكنولوجي في النواحي المدنية والعسكرية.

السيطرة على مصادر القوة الأخرى أصبحت أيضًا موزعة وبشكلٍ مُتزايد بين دول المركز والدول القيادية في الحضارات غير الغربية.

سيطرة الغرب على تلك المصادر كانت قد بلغت ذروتها في العشرينيات، ومنذ ذلك أخذت تضمحل بشكل غير مُنظم وإن كان واضحًا. في سنة ٢٠٢٠م أي بعد حوالي مائة عام من تلك الذروة ستُصبح سيطرة الغرب على حوالي ٢٤٪ من مساحة العالم (بعد أن كانت ٤٩٪)، وعلى ١٠٪ من سكان العالم (بعد أن كانت ٤٨٪) وربما على ١٥–٢٠٪ من سكان العالم المعبَّئين اجتماعيًّا، وعلى حوالي ٣٠٪ من مجمل النتاج الاقتصادي العالمي (بعد أن كانت ٧٠٪) وربما على ٢٥٪ من النتاج الصناعي (بعد أن كانت ٨٤٪) وعلى أقل من ١٠٪ من مجمل القوة البشرية العسكرية في العالم (بعد أن كانت ٤٥٪).

في سنة ١٩١٩م كان «وودرو ويلسون» و«لويد جورج» و«جورج كليمنصو» يتحكمون في العالم بالفعل. وهم جالسون في باريس، قرروا ما هي الدول التي يجب أن تُوجَد وما هي التي لا ينبغي لها، ما هي الأقطار الجديدة التي تنشأ، ما هي حدودها ومن يحكمها، وكيف يجب أن يُقسَّم الشرق الأوسط وأرجاء أخرى من العالم بين القوى المنتصرة. كما اتخذوا قرارات بشأن التدخُّل العسكري في روسيا والتنازلات الاقتصادية التي يجب أن تنتزع من الصين. بعد مائة عام لن تكون أي مجموعة صغيرة من الدول قادرة على ممارسة قوة مماثلة. وإن حدث، فإن أي مجموعة تستطيع ذلك لن تكون مكونةً من ثلاث دول غربية، وإنما من قادة دول المركز في حضارات العالم السبع أو الثماني الرئيسية. خلفاء «ريجان» و«تاتشر» و«ميتران» و«كول» سوف يزاحمهم خلفاء «دنج زياوبنج» و«ناكاسوني» و«أنديرا غاندي» و«يلتسين» و«الخميني» و«سوهارتو».

عصر السيادة الغربية سينتهي، وفي نفس الوقت فإن اضمحلال الغرب وصعود مراكز قوى أخرى، سينمي عمليات التأصيل الكونية والعودة إلى المحلية وصحوة الثقافات غير الغربية.

(٢) التأصيل: صحوة الثقافات غير الغربية

توزُّع الثقافات في العالم يعكس توزُّع القوة. التجارة قد تتبع العلم وقد لا تتبعه، ولكن الثقافة تتبع القوة دائمًا. وعبر التاريخ كان توسع حضارة ما، يحدث دائمًا إبان ازدهار ثقافتها، وكان يتضمن دائمًا استخدام تلك القوة لنشر قيمها ومؤسساتها وممارساتها والوصول بها إلى مجتمعات أخرى.

الحضارة العالمية تحتاج إلى قوة عالمية. القوة الرومانية صنعت حضارة قريبة من العالمية داخل حدود العالم الكلاسيكي. القوة الغربية متمثلة في الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر والهيمنة الأمريكية في القرن العشرين، نشرا الثقافة الغربية في معظم أنحاء العالم المعاصر. الاستعمار الأوروبي انتهى. الهيمنة الأمريكية تنحسر، وذلك يتبعه تآكُل في الحضارة الغربية، حيث تهبُّ الأعراف العميقة الجذور واللغات والمعتقدات والمؤسسات الأصلية لتؤكد نفسها. القوة المتنامية للمجتمعات غير الغربية الناتجة عن التحديث، تؤدي إلى إحياء الثقافات غير الغربية في أنحاء العالم.١
هناك فرق كما يقول «جوزيف ناي» بين «القوة الصارمة» التي هي قوة الأمر والتي تستند إلى قوة اقتصادية وعسكرية، و«القوة اللينة» التي هي قدرة أي دولة على «حمل دولة أخرى على أن تقول ما تريده» من خلال اللجوء إلى ثقافتها وأيديولوجيتها. وكما يقر «ناي»، فإن هناك انتشارًا واسعًا للقوة الصارمة في العالم، والأمم الرئيسية «أقل قدرة من استخدام مصادر قوتها التقليدية لتحقيق أهدافها عما كانت عليه في الماضي». ويواصل «ناي»: «إذا كانت ثقافة وأيديولوجية دولة ما، لها جاذبية، سيكون الآخرون أكثر استعدادًا «لاتباع قيادتها»، ومن هنا تكون القوة اللينة «على نفس درجة أهمية القوة الصارمة».»11

ولكن ما الذي يجعل الثقافة والأيديولوجية جذابة؟ إنها تُصبح كذلك عندما ينظر إليها متجذرة في النجاح المادي وفي النفوذ. فالقوة اللينة لا تكون قوة إلا عندما تعتمد على أساس من القوة الصارمة. الزيادة في القوة الاقتصادية والعسكرية تولِّد ثقة بالنفس وغطرسة واعتقادًا بتفوق الثقافة الخاصة مقارنة بتلك التي لدى الآخرين، كما تزيد من جاذبيتها بالنسبة للغير. انهيار القوة الاقتصادية والعسكرية يؤدي إلى عدم الثقة بالنفس وإلى أزمة هوية والسعي لإيجاد مفاتيح للتقدم الاقتصادي والعسكري والسياسي لدى الثقافات الأخرى.

وحيث إن المجتمعات غير الغربية تزيد من قدراتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، فإنها — بدرجة متزايدة — تعلن بعلوِّ الصوت عن فعالية قيَمِها ومؤسساتها وثقافاتها الخاصة. الأيديولوجية الشيوعية كانت تروق لكثيرين في أنحاء العالم في الخمسينيات والستينيات عندما كانت مرتبطة بالنجاح الاقتصادي والقوة العسكرية للاتحاد السوفيتي، هذا الميل تبخَّر عندما كسد الاقتصاد السوفيتي وعجز عن الحفاظ على القوة العسكرية السوفيتية. القِيَم والعادات الغربية تروق لأناس من ثقافات مختلفة لأنهم ينظرون إليها على أنها مصدر القوة والثروة. هذه العملية استمرت عدة قرون. وكما يشير «وليم ماكنيل» إن المجريين والبولنديين والليتوانيين تبنوا المسيحية والقانون الروماني وعناصر الثقافة الغربية الأخرى بين عامي ١٠٠٠ و١٣٠٠، وإن «الحافز على هذا القبول للثقافة الغربية، كان الخوف الممزوج بالإعجاب بالقوة العسكرية للأمراء الغربيين».12
ومع انهيار القوة الغربية، فإن قدرة الغرب على فرض المفاهيم الغربية الخاصة بحقوق الإنسان والليبرالية والديمقراطية على حضارات أخرى تنهار كذلك، كما تنهار جاذبية تلك القيم بالنسبة للحضارات الأخرى، وقد حدث ذلك بالفعل. على مدى قرون عدة، كانت الشعوب غير الغربية تحسد المجتمعات الغربية على تفوقها الاقتصادي وتقدُّمها التكنولوجي وقوتها العسكرية وتماسُكها السياسي، وكانوا يبحثون عن سر هذا النجاح في القيم والأعراف الغربية. وعندما تأكد لهم أن ما يتصورنه قد يكون هو المفتاح حاولوا تطبيقه في مجتمعاتهم: لكي يصبحوا أغنياء وأقوياء لا بد أن يكونوا مثل الغرب. هذه التوجهات «الكمالية»٢ اختفت الآن من شرق آسيا. الآسيويون يعزون نموهم الاقتصادي الكبير إلى التزامهم بثقافاتهم الخاصة وليس إلى مستورداتهم من الثقافة الغربية. ويقولون إنهم يحققون نجاحًا لأنهم مختلفون عن الغرب. وبالمثل، عندما شعرت المجتمعات غير الغربية بالضعف مقارنة بالغرب، توسَّلوا بالقيم الغربية لتحقيق الذات، وبالليبرالية والديمقراطية والاستقلالية لتبرير مُعارضتهم للسيادة الغربية. لم يعودوا ضعفاء، بل إن قوتهم تتزايد باستمرار، والآن لا يتردَّدون في الهجوم على نفس تلك القيم التي سبق أن استخدموها لتنمية مصالحهم. التمرد على الغرب كان في الأساس يجد شرعيته من خلال توكيد عالمية القِيَم غير الغربية.
نهوض هذه التوجهات هو أحد تجليات ما يُسميه «رونالد دور» ﺑ «الجيل الثاني لظاهرة التأصيل». في كلٍّ من المستعمرات الغربية السابقة والدول المستقلة مثل الصين واليابان، فإن «الجيل الأول للتحديث أو ما بعد الاستقلال كان يتلقَّى تعليمه غالبًا في الجامعات الأجنبية (الغربية) وبلغة غربية كوزموبوليتانية. وإلى حدٍّ ما لأنهم كانوا يذهبون إلى الخارج في مُقتبل العمر، قابلين للتأثر، ربما كان استيعابُهم للقيم الغربية وأساليب الحياة عميقًا». الجيل الثاني الأكبر حجمًا، على العكس من الجيل الأول تلقى تعليمه في الداخل، في جامعات أنشأها الجيل الأول، حيث يتم استخدام اللغة المحلية في التعليم بتوسُّع أكثر من اللغة الاستعمارية. هذه الجامعات «توفر حدًّا أدنى من الاحتكاك بالثقافة العالمية» «و» يتم تأصيل المعارف عن طريق الترجمة — وعادة على مستوى محدود وهزيل. خريجو هذه الجماعات يَستهجِنون سيطرة الجيل السابق — الذي تدرب في الغرب — عليهم، ومن هنا فإنهم غالبًا ما «يستجيبون لنداء حركات المقاومة المحلية».13

ومع انحسار النفوذ الغربي، لا يستطيع القادة الصغار الطموحون أن يتطلَّعوا إلى الغرب لكي يزوِّدَهم بالقوة والثروة. عليهم أن يبحثوا عن وسائل النجاح في داخل مجتمعاتهم، ومن هنا فلا بد لهم من أن يتأقلموا مع القِيَم والثقافة المحلية.

عملية التأصيل أو العودة إلى المحلية ليست في حاجةٍ لانتظار الجيل الثاني. قادة الجيل الأول القادرون، المدركون، والذين يستطيعون التكيُّف يقومون بعملية التأصيل بأنفسهم.

وتُوجَد لذلك ثلاث حالات جديرة بالذكر هي «محمد علي جناح» و«هاري لي» و«سولومون باندرانايكا». الثلاثة كانوا خريجين لامِعين من «أكسفورد» و«كمبردج» و«لنكولنز إن» على التوالي. محامون ممتازون ومن بين النخبة في مجتمعاتهم المتغربة تمامًا. «محمد علي جناح» كان علمانيًّا ملتزمًا، «لي» كما يصفه وزير بريطاني كان «أفضل إنجليزي شرق السويس»، «باندرانايكا» نشأت مسيحية. ولكي يقود الثلاثة بلادهم نحو الاستقلال وبعدَه كان عليهم أن يعودوا إلى الأصول … إلى المحلية. عادوا إلى ثقافاتهم، ارتدُّوا إلى ثقافات الأسلاف، وفي الطريق إلى ذلك غيروا أحيانًا هوياتهم، أسماءهم، ملابسهم، معتقداتهم.

المحامي الإنجليزي «محمد علي جناح» أصبح «القائد الأعظم» في الباكستان، «هاري لي» أصبح «لي كوان يو»، «جناح» العلماني أصبح المصلح الإسلامي المتحمس للإسلام كأساس لدولة إسلامية. «لي» المتأنجلز: تعلم «الماندارين» وأصبح داعية للكونوفوشية، «باندرانايكا» المسيحية تحولت إلى البوذية ولجأت إلى القومية السنهالية.

التأصيل والعودة إلى المحلية والجذور كانت هي جدول الأعمال في كل العالم غير الغربي في الثمانينيات والتسعينيات. الصحوة الإسلامية، والتأسلُم هي القضايا الرئيسية في المجتمعات الإسلامية، التوجُّه السائد في الهند هو رفض الأنماط والقيم الغربية والعمل على «تهنيد» السياسة والمجتمع. الحكومات في شرق آسيا تتبنى الكونفوشية، والقادة السياسيون والمفكرون يتحدثون عن «آسينة» بلادهم (جعلها آسيوية قلبًا وقالبًا).

في منتصف التسعينيات كانت اليابان تستحوذ عليها فكرة «النيهون جيزون» — أو اليابان واليابانيون. بعد ذلك كان مفكر ياباني بارز يقول إن اليابان تاريخيًّا قد مرت ﺑ «دورات استيراد للثقافات الخارجية»: «تأصيل» تلك الثقافات عن طريق المطابقة والتقنية، اضطراب حتمي ناتج عن استنفاد المستورد، انفتاح أخير على العالم الخارجي، واليابان في الوقت الحاضر «عاكفة على المرحلة الثانية من هذه الدورة».14

مع نهاية الحرب الباردة، أصبحت روسيا «دولة ممزقة» مرة أخرى مع عودة ظهور الصراع التقليدي بين المتغربين والمتعصبين للسلاقية. لمدة عقد من الزمان تقريبًا كان التوجُّه من التغريب إلى السلاقية، عندما أفسح «جورباتشوف» المتغرب المجال أمام «يلتسين» الروسي الأسلوب والغربي الأفكار، والذي كان بدَوره مهددًا من قِبَل القوميين الذين يمثلون التأصيل الروسي الأرثوذوكسي. وعملية التأصيل تتعمَّق من خلال التناقُض الديمقراطي الظاهري: تبني المجتمعات غير الغربية للتقاليد الديمقراطية الغربية يُشجع ويفتح الطريق نحو السلطة أمام الحركات السياسية القومية والمعادية للغرب. في الستينيات والسبعينيات، كانت الحكومات المتغربة والموالية للغرب في الدول النامية مهددة بالانقلاب عليها والثورة ضدها. في الثمانينيات والتسعينيات كانت تواجه خطرًا متزايدًا بأن تخرج من السلطة عن طريق الانتخابات. التحول إلى الديمقراطية يتصادم مع التغريب، والديمقراطية في صميمها عملية محدودة وليست كوزموبوليتانية. والسياسيون في المجتمعات غير الغربية لا يفوزون في الانتخابات عن طريق إظهارهم مدى تغربهم أو تعلقهم بالغرب، بل إن المنافسة الانتخابية تغريهم، بدلًا من ذلك، بتقديم ما يتصورون أنه يُرضي المطالب الشعبية، والتي عادة ما تكون عرقية ودينية في طبيعتها.

والنتيجة، هي التعبئة الشعبية ضد النخب ذات الثقافة والتوجهات الغربية. الجماعات الإسلامية الأصولية فازت في بعض الانتخابات التي تمت في الدول الإسلامية، وكانت قاب قوسين أو أدنى من السلطة في الجزائر، لو لم يُقدِم العسكر على إلغاء انتخابات ١٩٩٢م.

في الهند، ربما تكون المنافسة على التأييد الانتخابي قد شجعت على الفتنة الطائفية والعنف الطائفي.15 الديمقراطية في سريلانكا هي التي مكنت حزب الحرية السريلانكي من إسقاط الحزب الوطني الاتحادي النخبوي ذي التوجه الغربي في عام ١٩٥٦م، وهيأت الفرصة لحركة «باثيكاشينتاليا» السنهالية الوطنية في الثمانينيات.

قبل عام ١٩٤٩م كان كل من جنوب أفريقيا والنخب الغربية ينظرون إلى جنوب أفريقيا على أنها دولة غربية وبعد اتضاح شكل النظام العنصري، بدأت النخب الغربية تطرد جنوب أفريقيا من المعسكر الغربي بالتدريج، بينما استمر البيض في جنوب أفريقيا يعتبرون أنفسهم غربيين. ولكي يستعيدوا مكانهم في النظام العالمي الغربي، اضطروا إلى إدخال المؤسسات الديمقراطية الغربية التي أدت إلى وصول النخبة السوداء الشديدة التغريب إلى السلطة. وإذا قام عامل التأصيل في الجيل الثاني بمهامِّه بنجاح، فإن خلفاء تلك النخبة سيكونون أكثر انتماء لقبائل «الهاوسا» و«الزولو»، وأكثر إفريقية في توجيهاتهم، وسوف يتزايد تعريف جنوب أفريقيا لنفسها كدولة إفريقية.

في مراحل مختلفة قبل القرن التاسع عشر، كان البيزنطيون والعرب والصينيون والعثمانيون والمغول والروس، على ثقةٍ عالية بقوتهم وإنجازاتهم مقارنة بتلك التي لدى الغرب. في تلك المراحل أيضًا، كانوا يشعرون بازدراءٍ نحو ضعف الغرب الثقافي وتخلف مؤسساته وما به من فساد وتفسخ. ومع انخفاض نجاح الغرب نسبيًّا، تعود تلك الاتجاهات للظهور ويشعر الناس أنهم «ليسوا في حاجة للاقتباس عنه».

إيران حالة متطرفة لذلك، ولكن كما يلاحظ أحد المراقبين: «القيم الغربية مرفوضة بصورة مختلفة ولكنها ليست أقل حزمًا مما هي عليه في ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة والصين واليابان.»16 نحن نشهد «نهاية الحقبة التقدمية»، التي كانت تسودها الأيديولوجيات الغربية، ونتحرك نحو حقبة تتفاعل فيها حضارات متعددة ومتنوعة، وتتنافس وتتعايش وتتكيف مع بعضها البعض.17

تتجلى عملية التأصيل الكونية هذه بشكل واضح في الإحياء الديني الذي يحدث في أجزاء كثيرة من العالم، خاصة ذلك الانبعاث الثقافي في الدول الآسيوية والإسلامية، الناجم في جزءٍ كبير منه عن نشاطها الثقافي ونموها الديموغرافي.

(٣) ثأر الله

في النصف الأول من القرن العشرين، كانت النخبة المثقفة تفترض أن التحديث الاقتصادي والاجتماعي يؤدي إلى ذبول الدين كعاملٍ مُهم في وجود الإنسان. هذا الافتراض كان يشترك فيه المرحبون بهذا التوجُّه والمندِّدون به على السواء. العلمانيون من دعاة التحديث كانوا يرحبون بالمدى الذي وصل إليه العِلم والعقلانية والبراجماتية في القضاء على الخرافات والأساطير واللاعقلانية والطقوس التي تُكَوِّنُ جوهر الأديان الموجودة: المجتمع الناشئ سيكون مُتسامحًا، عقلانيًّا، عمليًّا، تقدميًّا، إنسانيًّا، وعلمانيًّا.

المحافظون المنزعِجون على الجانب الآخر، حذروا من العواقب الوخيمة لاختفاء المعتقدات والمؤسسات الدينية والهداية الأخلاقية التي يُقدمها الدين والمتعلقة بسلوك الفرد والجماعة. النتيجة النهائية ستكون: الفوضى والفساد وتقويض الحياة المتحضرة. كان «ت. س. إليوت» يقول: «إن لم تتخذ لنفسك إلهًا — وهو إله ضنين — فلا بدَّ أن تقدم احتراماتك ﻟ «هتلر» أو «ستالين».»18
النصف الثاني من القرن العشرين، أثبت أن تلك الآمال والمخاوف لا أساس لها. التحديث الاقتصادي والاجتماعي أصبح كونيًّا من ناحية الحجم، وفي نفس الوقت حدثت يقظة أو صحوة دينية كونية. هذه الصحوة، أو «ثأر الله» كما يطلق عليها «جيل كيبل»، انتشرت في كل قارة وكل حضارة وكل دولة في الواقع. وكما يلاحظ «كيبل» أيضًا أن التوجُّه نحو «العلمنة» ونحو تكييف الدين مع العلمانية «أخذ وجهةً معاكسة»، ظهر توجُّه ديني جديد، لم يعُد يهدف إلى التكيف مع القِيَم العلمانية وإنما إلى استعادة أساس مُقدس لتنظيم المجتمع، وعن طريق تغييره إذا لزم الأمر. وباستخدام طرقٍ متعددة للتعبير عن ذلك، فإن هذا التوجُّه يؤيد التحول عن الحداثة التي فشلت، مع عزو انتكاساتها ونهايتها الميتة إلى البعد عن الله. ولم تعد القضية قضية تحديث، وإنما قضية «أنجلة٣ ثانية لأوروبا»، ولم يعد الهدف هو تحديث الإسلام، وإنما «أسلمة الحداثة».19 هذا الإحياء الديني تضمن في جزءٍ منه اتساع رقعة بعض الأديان التي كسبت مُعتنقين جددًا في مجتمعات لم يكن لها فيها أنصار من قبل، وتضمَّنت الصحوة الدينية إلى حدٍّ بعيد أناسًا يعودون إلى التعاليم الدينية لمجتمعاتهم وتنشيطها وإعطائها معاني جديدة. المسيحية والإسلام واليهودية والهندوسية والبوذية والأرثوذوكسية، كلها حدثت فيها صحوة في الالتزام والاقتراب والممارسة من قِبَل الذين كانوا يعتنقونها في السابق. وجميعها ظهر فيه حركات أصولية ملتزمة بتنقية عنيفة للمعتقدات والتقاليد والعادات الدينية وإعادة تشكيل السلوك الشخصي والاجتماعي العام بما يتفق مع العقائد الدينية. الحركات الأصولية مُثيرة ويمكن أن يكون لها أثر سياسي واضح. وهي ليست سوى الأمواج السطحية على المد الديني الأوسع والأعمق والذي يُعطي شكلًا مختلفًا للحياة الإنسانية في نهاية القرن العشرين. تجديد الدين في أنحاء العالم يتخطى بكثير نشاطات الأصوليين المتطرفين، ويتجلى ذلك في الحياة اليومية للناس واهتمامات وخطط الحكومات في مجتمع بعد الآخر.
الصحوة الثقافية في الثقافة الكونفوشية العلمانية تتخذ شكل توكيد القيم الآسيوية، ولكنها في بقية العالم تُعبر عن نفسها بتوكيد القيم الدينية. وكما يلاحظ «جورج ويجل» فإن «نزع العلمنة عن العالم، هو إحدى الحقائق السائدة في أواخر القرن العشرين».20 ظهر تغلغل الدين وانتشاره جليًّا في الدول الشيوعية السابقة، وتدفَّق دعاة الإحياء الديني عليها من ألبانيا إلى فيتنام. وفي روسيا حدثت صحوة كبرى للأرثوذوكسية، وفي ١٩٩٤م أعلن ٣٠٪ من الروس تحت سن الخامسة والعشرين أنهم تحولوا من الإلحاد إلى الإيمان بالله. عدد الكنائس العاملة في منطقة موسكو زاد من ٥٠ في سنة ١٩٨٨م إلى ٢٥٠ في سنة ١٩٩٣م، القادة السياسيون أصبحوا يحترمون الدين، والحكومات تدعمه.
وكما نقل أحد المراقبين الأذكياء في سنة ١٩٩٣م: في المدن الروسية «تعود أصوات أجراس الكنائس لتملأ الجو مرة أخرى، وتلمع قباب مذهبة جديدة في الشمس، ويتردد الإنشاد الديني في الكنائس التي كانت أنقاضًا منذ وقت قريب … وهي أكثر الأماكن ازدحامًا في المدينة.»21

ومع إحياء الأرثوذوكسية في الجمهوريات السلافية، اجتاحت آسيا الوسطى صحوة إسلامية في نفس الوقت. في سنة ١٩٨٩م كان يُوجَد في آسيا الوسطى ١٦٠ مسجدًا عاملًا ومدرسة إسلامية واحدة. في أوائل ١٩٩٣م كان العدد قد أصبح عشرة آلاف مسجد وعشر مدارس.

ورغم أن هذه الصحوة كانت تتضمن بعض الحركات السياسية الأصولية ومدعومة من الخارج بواسطة السعودية وإيران وباكستان، إلا أنها كانت حركات ثقافية واسعة بالأساس.22 فكيف يمكن تفسير هذه الصحوة الدينية الكونية؟ من المؤكد أنه كانت هناك أسباب خاصة في بعض الدول والحضارات، إلا أنه من المبالغة أن نتوقع أن عددًا كبيرًا من الأسباب المختلفة يمكن أن يؤدي إلى تطوراتٍ مماثِلة ومتزامِنة في معظم أنحاء العالم. الظاهرة الكونية تتطلب تفسيرًا كونيًّا، ومع ذلك فقد يكون الكثير من الأحداث في دول بعينِها قد تأثَّرَ بعواملَ فريدة، مع تدخُّل بعض الأسباب العامة. فما هي؟ السبب الأكثر وضوحًا والأكثر بروزًا والأقوى في هذه الصحوة الدينية الكونية هو ما يفترض أنه كان سببًا لموت الدِّين بالتحديد: عملية التحديث الاجتماعي والاقتصادي والثقافي التي اجتاحت العالم في النصف الثاني من القرن العشرين … مصادر الهوية وأنظمة السلطة التي بقِيت طويلًا تمزقت. الناس ينتقلون من الريف إلى المدينة، ينفصلون عن جذورهم ويشتغلون بأعمالٍ جديدة أو لا يعملون. يتفاعلون ويتعاملون مع أعدادٍ كبيرة من الأغراب ويتعرضون لأنماط جديدة من العلاقات. يحتاجون إلى: مصادر جديدة للهوية، أشكال جديدة من مجتمعات مستقرة، مجموعات جديدة من التعاليم والمبادئ الأخلاقية التي تجعل لحياتهم معنى. الدين العام والأصولي يفي بهذه الاحتياجات. وكما يشرح «لي كوان» عن الوضع في شرق آسيا: «نحن مجتمعات زراعية تحولت إلى التصنيع خلال جيلٍ واحد أو جيلَين. وما حدث في الغرب على مدى ٢٠٠ سنة يحدث هنا في خلال ٥٠ سنة أو أقل. كل شيءٍ مكدس ومضغوط في وقتٍ محدد، ولذلك لا بد أن يحدث اضطراب وقصور. إذا نظرت إلى دول سريعة النمو — مثل كوريا وتايلاند وهونج كونج وسنغافورة — تجد أن هناك ظاهرةً واحدة مميزة: لم تعد التقاليد والعقائد القديمة — عبادة الأسلاف: الشامانية٤ — كافية، هناك بحث جديد عن تفسيرات أرقى لهدف الإنسان، لماذا نحن هنا، ويصاحب ذلك كله فترات توتر شديد في المجتمع.»23

الناس لا يعيشون بالعقل فقط، لا يمكنهم أن يفكروا أو يتصرفوا بعقل في متابعة مصالحهم الخاصة إلا إذا عرفوا أنفسهم. سياسة المصالح تفترض وجود الهوية. في أوقات التغير الاجتماعي السريع تذوب الهويات الراسخة، لا بد من إعادة تعريف الذات، هكذا تخلق هويات جديدة. بالنسبة لمن يواجهون احتياجًا لتحديد «من أنا؟» و«لمن أنتمي؟» يقدم الدين إجاباتٍ قوية، وتوفر الجماعات الدينية مجتمعاتٍ صغيرةً عوضًا عن تلك التي فقدت أثناء عملية التمدين. كل الأديان، كما يقول «حسن الترابي» تزود الناس «بإحساس بالهوية وباتجاه في الحياة».

في هذه العملية يُعيد الناس اكتشاف هويتهم أو يخلقون هوية جديدة، ومهما كانت أهدافهم العامة فإن الدين يمنحهم هوية بما يصنعه من تمييز بين المؤمنين وغير المؤمنين، بين جماعة متماسكة أرقى وجماعة خارجية أقل.24
ويقول «برنارد لويس»: «في العالم الإسلامي يُوجَد ميلٌ متواتر لدى المسلمين في أوقات الأزمة، لأن يبحثوا عن هويتهم الأساسية وانتمائهم في المجتمع الإسلامي — أي في كيان محدد بالإسلام أكثر منه بأي معيار آخر إثني أو مكاني.» ومثله يبرز «جيل كيبل» مركزية البحث عن هوية: «إعادة التأسلم من القاعدة، هي أولًا وأخيرًا وسيلة لإعادة بناء هوية في عالمٍ فقدَ معناه وتحول إلى فوضى ويدفع إلى الاستلاب.»25
في الهند «هوية هندية جديدة في سبيل البناء» نتيجة للتوتر والاستلاب الناجمين عن التحديث.26 في روسيا، الصحوة الدينية «نتيجة لرغبة فورية في الهوية التي يمكن أن توفرها الكنيسة الأرثوذوكسية فقط، الصلة الوحيدة غير المقطوعة مع ماضي الروس الذي يبلغ ألف عام»، بينما تنبع الصحوة في الجمهوريات الإسلامية كذلك «من طموح سكان آسيا الوسطى القوى لتوكيد الهوية التي قمعتها موسكو لعدة عقود».27 الحركات الأصولية على نحو خاص، هي «وسيلة للتأقلم مع تجرية الفوضى وفقدان الهوية، ومعنى وضمان للبنية الاجتماعية التي نتجت عن إدخال الأنماط الاجتماعية والسياسية الحديثة بسرعة، والعلمانية، والثقافة العلمية، والتقدم الاقتصادي». ويتفق «وليم ﻫ. ماكنيل» على أن «الحركات الأصولية المهمة هي تلك التي يتم التجنيد فيها من المجتمع ككل، وتنتشر لأنها تجيب أو تبدو أنها تفي بالاحتياجات الإنسانية الجديدة. وليس مصادفة أن تتركز تلك الحركات في دول مزدحمة، حيث الضغط السكاني على الأرض يجعل استمرار أساليب القرية القديمة مستحيلًا بالنسبة لغالبية السكان، وحيث بدأت وسائل الاتصال الجماهيري المتمركزة في المدينة تُحدث تآكلًا في إطار العمل القديم للحياة الريفية عن طريق اختراقها للقرية».28
وبشكل أعم، فإن الصحوة الدينية في أرجاء العالم هي رد فعل ضد العلمانية، والنسبية الأخلاقية، والانغماس الذاتي، وإعادة تأكيد لِقيم النظام والانضباط والعمل والعون المتبادل والتضامن الإنساني. الجماعات الإنسانية تلبي الاحتياجات الاجتماعية التي أهملتها بيروقراطيات الدولة (الأجهزة الإدارية)، وهي تتضمن توفير الخدمات الطبية والعلاجية ودور الحضانة والمدارس ورعاية المسنين والإغاثة السريعة بعد الكوارث الطبيعية وغيرها والمساعدة الاجتماعية أثناء فترات الحرمان الاقتصادي. انهيار النظام والمجتمع المدني يحدث فراغًا تملؤه الجماعات الدينية، والأصولية غالبًا.29

وإذا كانت الأديان التقليدية السائدة لا تشبع الاحتياجات العاطفية والاجتماعية للمجتثين من جذورهم، فإن جماعات دينية أخرى تتحرك، وأثناء ذلك تُوسِّع من عضويتها ومن إبراز دور الدين في الحياة الاجتماعية والسياسية.

تاريخيًّا، كانت كوريا الجنوبية مجتمعًا بوذيًّا بشكل عام، المسيحيون فيه كانوا تقريبًا ١ : ٣٪ في سنة ١٩٥٠م، وعندما أقلعت كوريا الجنوبية نحو النمو الاقتصادي مع حركة تمدين واسعة وتمايز مهني، شعر الناس بغياب البوذية … افتقدوها، «بالنسبة للملايين الذين تدفقوا على المدن، وبالنسبة للكثيرين من الذين ظلوا في الريف المتغير ضاعت البوذية الهادئة، وفقدت بوذية عهد الإصلاح الزراعي الكوري جاذبيتَها. المسيحية برسالتها في الخلاص الشخصي والمصير الفردي قدمت لهم السلوى المريحة في وقت الفوضى والتحول.»30
وفي الثمانينيات كان عدد المسيحيين، وغالبيتهم من المنتمين للكنيسة والكاثوليك، قد أصبح على الأقل ٣٠٪ من سكان كوريا الجنوبية. في أمريكا اللاتينية حدثت نقلة مماثلة ومتوازية، زاد عدد البروتستانت من ٧ ملايين تقريبًا في سنة ١٩٦٠م إلى حوالي ٥٠ مليونًا في سنة ١٩٩٠م، وكانت أسباب هذا النجاح كما أدرك الكهنة الكاثوليك في سنة ١٩٨٩م تتضمن «بطء الكنيسة الكاثوليكية في الوصول إلى وفاق مع الأساليب الحديثة في الحياة المدينية» و«بنيتها التي تجعلها عاجزة عن الوفاء بالاحتياجات النفسية لناس اليوم.» ويلاحظ أحد القساوسة البرازيليين أن الكنائس البروتستانتية، على عكس الكنيسة الكاثوليكية تفي «بالاحتياجات الأساسية للفرد، دفء إنساني، شفاء، تجربة إنسانية عميقة.» انتشار البروتستانتية بين الفقراء في أمريكا اللاتينية ليس بالأساس عملية إحلال لعقيدة مكان أخرى، وإنما بالأحرى زيادة رئيسية في الالتزام الديني والمشاركة، حيث يصبح الكاثوليكيون اسمًا والسلبيون، إيفانجليكيين نشطاء ومخلصين. في بداية التسعينيات، في البرازيل مثلًا، كان ٢٠٪ من السكان يُعرفون أنفسهم بأنهم بروتستانت، و٧٣٪ كاثوليك، ورغم ذلك كان ٢٠ مليونًا يذهبون إلى الكنائس البروتستانتية في أيام الأحد وحوالي ١٢مليونًا يذهبون إلى الكنائس الكاثوليكية.31 ومثل الأديان العالمية الأخرى، تمر المسيحية بصحوة ذات علاقة بالتحديث، وقد أخذت في أمريكا اللاتينية شكلًا بروتستانتيًّا أكثر منه كاثوليكيًّا.

هذه التحولات في كوريا الجنوبية وأمريكا اللاتينية تعكس عجز البوذية والكاثوليكية الراسخة عن الوفاء بالاحتياجات النفسية والعاطفية والاجتماعية للناس الواقعين في فخ أذى التحديث. وحدوث تحولات أخرى مهمة في الالتزام الديني، يتوقف على مدى قدرة الدين القائم على الوفاء بتلك الاحتياجات. وبسبب جفافها العاطفي، تبدو الكونفوشية هي الأكثر تعرضًا للسقوط.

في الدول الكونفوشية، يمكن أن تجد البروتستانتية والكاثوليكية جاذبيةً مماثلة لما حدث مع البروتستانتية الإيفانجيليكية في أمريكا اللاتينية والمسيحية في كوريا الجنوبية والأصولية بالنسبة للمسلمين والهندوس. في نهاية الثمانينيات وعندما كان النمو الاقتصادي في أوجِهِ في الصين، انتشرت المسيحية «خاصة بين الشباب». هناك حوالي خمسين مليون مسيحي صيني. حاولت الحكومات أن تمنع زيادة أعدادهم عن طريق سجن القساوسة والمبشرين وتحريم وقمع الطقوس والأنشطة الدينية، وفي سنة ١٩٩٤م أصدرت قانونًا يحظر على الأجانب القيام بمحاولات لهداية الناس إلى أديان أو إقامة مدارس أو مؤسسات دينية، ومنع الجماعات الدينية من الدخول في أنشطة مستقلة أو ممولة من الخارج. في سنغافورة، كما في الصين، حوالي ٥٪ من الناس مسيحيون. وفي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات تم تحذير الإيفانجيليست من قلب «الميزان الديني الدقيق» واعتقال العمال المتدينين بما فيهم المسئولون عن المنظمات الكاثوليكية، كما طاردوا الجماعات المسيحية والأفراد المسيحيين بوسائل مختلفة.32
وبنهاية الحرب الباردة، ومع الانفتاح السياسي الذي تبعها، تحركت الكنائس الغربية أيضًا في الجمهوريات الأرثوذوكسية في الاتحاد السوفيتي السابق ودخلت في منافسة مع الكنائس الأرثوذوكسية التي تم إحياؤها، وهنا أيضًا بُذِلَ جهد كبير لتحجيم دعوتهم كما حدث في الصين. وفي سنة ١٩٩٣م، وبعد إلحاح من الكنيسة الأرثوذوكسية أصدر البرلمان الروسي تشريعًا يقضي بأن تحصل الجماعات الدينية على تصريح من الدولة، أو أن تكون تابعة لمؤسسة دينية روسية إن كانت ستعمل في التبشير أو أي نشاط تعليمي آخر، ولكن الرئيس «يلتسين» رفض أن يُوقع على مشروع هذا القانون.33

وبوجهٍ عام، فإن هذا السجل يُبين أنه حينما يُوجَد صراع، فإن «ثأر الله» يلعب الورقة الرابحة، ورقة العودة إلى الأصول:

فإذا كانت الاحتياجات الدينية للتحديث لا يمكن الوفاء بها عن طريق المعتقدات القديمة، فإن الناس يتحولون إلى المستوردات الدينية المشبِعة لعواطفهم. وبالإضافة إلى الصدمات النفسية والعاطفية والاجتماعية للتحديث، فإن المحفزات الأخرى على الصحوة الدينية تتضمَّن تراجع الغرب وانتهاء الحرب الباردة. مع بداية القرن التاسع عشر، كانت استجابات الحضارات غير الغربية للغرب بشكلٍ عام تتحرك خلال متوالية من الأيديولوجيات المستوردة من الغرب. وفي القرن التاسع عشر، كانت النخبة غير الغربية تتشرب القيم الليبرالية الغربية، وكان أول تعبير لهم عن معارضتهم للغرب يأخذ شكل القومية الليبرالية. في القرن العشرين، استوردت النخب الروسية والآسيوية والعربية والإفريقية والأمريكية اللاتينية، الأيديولوجيات الاشتراكية والماركسية ومزجتها بالقومية في معارضة للرأسمالية الغربية والاستعمار الغربي.

انهيار الشيوعية في الاتحاد السوفيتي، تعديلها العميق في الصين، فشل الأنظمة الاقتصادية الاشتراكية في تحقيق تقدم مُستمر … كل ذلك أحدث فراغًا أيديولوجيًّا. الحكومات والجماعات والمؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حاولت أن تملأ هذا الفراغ بالمبادئ الاقتصادية والسياسات الديمقراطية الجديدة، ولا يُوجَد تأكيد لاستمرارية تأثير هذه المبادئ على الثقافات غير الغربية. في نفس الوقت ينظر الناس إلى الشيوعية على أنها ليست سوى الإله العلماني الوحيد الذي فشل مؤخرًا. وفي غيبة آلهة علمانية جديدة قوية، فإنهم يتوجَّهون بكل عواطفهم وبكل ارتياح نحو الشيء الحقيقي. الدين يتسلَّم الزمام من الأيديولوجية والقومية الدينية تحل محل القومية العلمانية.34

التحركات من أجل الإحياء الديني معادية للعلمانية، ومعادية للعالمية، ومعادية للحضارة الغربية أيضًا فيما عدا تجلياتها المسيحية. كما أنها معارضة للنسبية وللأنانية وللاستهلاكية المرتبطة بما يُطلِق عليه «بروس ب. لورانس»: «الحداثة» التي تختلف عن «العصرية»، وبشكل عام فإنهم لا يرفضون التمديُن ولا التصنيع ولا التنمية ولا الرأسمالية ولا العلم ولا التكنولوجيا ولا ما يعنيه أي من ذلك بالنسبة للمجتمع. وبهذا المعنى فهم ليسوا ضد الجديد. وهم يَقبلون «التحديث»، أو كما يقول «لي كوان يو»: «حتمية العلم والتكنولوجيا وما يوفرانه من أساليب الحياة» ولكنهم «لا يتقبلون فكرة أن يستغربوا».

ويقول «الترابي»: إن «لا القومية ولا الاشتراكية حقَّقت التقدُّم للعالم الإسلامي. الدين هو محرك التقدم»، والإسلام النقي هو الذي سيلعب دورًا في الحقبة المعاصرة مثل ذلك الذي قام به الخُلُق البروتستانتي في تاريخ الغرب. كما أن الدين لا يتعارض مع تطور الدولة الحديثة.35
الحركات الإسلامية قوية في المجتمعات الإسلامية الأكثر تقدمًا والتي تبدو علمانية مثل الجزائر وإيران ومصر ولبنان وتونس.36 الحركات الدينية بما فيها تلك الأصولية على نحوٍ خاص، شديدة الحرص على استخدام وسائل الاتصال وأساليب التنظيم الحديثة لنشر رسالتها، كما يتضح ذلك بشكلٍ جلي في نجاح استخدام التليفزيون لنشر البروتستانتية في أمريكا الوسطى. المسهمون في الصحوة الدينية يأتون من كل المهن والتخصُّصات ولكن بشكلٍ عام من دائرتَين: كلاهما مديني ومتنقِّل. المهاجرون الجدد إلى المدن، عادة ما يكونون في حاجة إلى عونٍ وإرشاد عاطفي واجتماعي ومادي، وهو ما تُقدمه لهم الجماعات الدينية أكثر من أي مصدرٍ آخر. والدين بالنسبة لهم كما يقول «ريجيه ديبراي»، ليس «أفيون الشعوب» وإنما «فيتامين الضعفاء»37 الدائرة الرئيسية الأخرى التي يجيئون منها هي الطبقة المتوسطة الجديدة، والتي تجسد فكرة «دور»، التي يطلق عليها «ظاهرة الجيل الثاني في التأصيل». النشطاء في الجماعات الدينية الأصولية ليسوا «المحافظين من كبار السن ولا الفلاحين الأميين»، كما يقول «كيبل» بالنسبة للمسلمين وكما هو الحال بالنسبة للآخرين: الصحوة الدينية ظاهرة مدينية، تروق لأناسٍ من ذوي التوجُّهات الحديثة، والتعليم الجيد، والذين يمارسون أعمالًا ووظائف في الحكومة والتجارة.38
بين المسلمين: الشباب متدينون والآباء علمانيون. نفس الشيء تقريبًا نجده في الهندوسية، حيث قادة الحركات الإحيائية ينتمون إلى الجيل الثاني في التأصيل، وهم غالبًا «رجال أعمال وإداريون ناجحون». الذين أيَّدوهم واتبعوهم في أوائل التسعينيات كانوا — وبدرجة متزايدة — من «هندوس الطبقة المتوسطة الصلبة، تجارها ومحاسبيها ومحاميها ومهندسيها»، ومن «كبار موظفيها ومثقفيها وصحفييها».39

في كوريا الجنوبية، كان نفس النوع من الناس يملأ الكنائس الكاثوليكية والمشيخية في الستينيات والسبعينيات.

الدين سواء كان أصليًّا أو مستوردًا، يقدم المعنى والاتجاه للنُّخَب الصاعدة في المجتمعات الآخذة بالتحديث. وكما لاحظ «رولاند دور» فإن «نسبة القيمة إلى دين تقليدي دعوى تستحقُّ الاحترام، معلنة ضد دولٍ أخرى مسيطرة، وغالبًا في نفس الوقت ضد طبقة محلية حاكمة تتبنى قيم وأساليب حياة تلك الدول الأخرى المسيطرة.» ويلاحظ «وليم ماكنيل» أن «إعادة تأكيد الإسلام مهما كان شكله الطائفي، يعني رفض النفوذ الأوروبي والأمريكي على المجتمع والسياسة والقيم المحلية.»40 وبهذا المعنى فإن صحوة الأديان غير الغربية، هي أقوى مظاهر معاداة التغريب في المجتمعات غير الغربية.

هذه الصحوة ليست رفضًا للحداثة، بل هي رفض للغرب وللثقافة العلمانية النسبية المتفسخة المرتبطة به. إنها رفض لما يطلق عليه «التسمُّم بالغرب» الذي يُصيب المجتمعات غير الغربية، وهي إعلان استقلال ثقافي عن الغرب، إعلان كله كبرياء يقول: «سنكون حديثين، ولكننا لن نكون أنتم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤