الفصل التاسع

السياسة الكونية للحضارات

(١) دولة المركز وصراعات خط التقسيم الحضاري

الحضارات هي القبائل الإنسانية النهائية، وصدام الحضارات هو صراع قبلي على نطاق كوني. في العالم الناشئ، قد تقيم الدول والجماعات التي تنتمي إلى حضارتين مختلفتين علاقات وتحالفات تكتيكية محدودة وخاصة بغرض تنمية مصالحها ضد كيانات تنتمي إلى حضارة ثالثة أو من أجل أهداف مشتركة. على أن العلاقات بين الجماعات التي تنتمي إلى حضارات مختلفة غالبًا لن تكون وثيقة، بل عادة ما تكون باردة وعدائية في معظم الأحوال. العلاقات بين الدول التي تنتمي إلى حضارات مختلفة والموروثة عن الماضي مثل تحالفات الحرب الباردة العسكرية من المرجح أن تضعف أو تتبخر.

الآمال في «مشاركات» وثيقة ومتداخلة بين الحضارات كتلك التي كانت مُفَصَّلة بواسطة القيادات في روسيا وأمريكا لن تتحقق. العلاقات متداخلة الحضارات والتي تنشأ، سوف تتنوع بين التباعد والعنف مع تحلل كبير فيما بينهما وفي حالات كثيرة من المرجح أن تقترب من «السلام البارد»، الذي حذر «بوريس يلتسين» من أنه قد يكون مستقبل العلاقات بين روسيا والغرب. العلاقات الأخرى بين الحضارات قد تقترب من حالة «الحرب الباردة». اصطلاح «الحرب الباردة» صنعه إسبان القرن الثالث عشر لكي يصفوا به «تعايشهم القلق» مع المسلمين في البحر الأبيض المتوسط، وفي التسعينيات كان كثيرون يرون «حربًا حضارية باردة» تنمو مرة أخرى بين الإسلام والغرب.1

وفي عالم مكون من حضارات، لن تكون تلك هي العلاقة الوحيدة التي توصف بهذا المصطلح. السلام البارد، الحرب الباردة، حرب التجارة، شبه الحرب، السلام القلق، العلاقات المضطربة، التنافس الحاد، التعايش التنافسي، سباق التسلح … هذه العبارات كلها هي الوصف الأكثر احتمالًا للعلاقات بين الكيانات المنتمية لحضارات مختلفة. الثقة والصداقة ستكون عملة نادرة. الصراعات بين الحضارات تأخذ شكلين: على المستوى المحلي أو الصغير، تحدث صراعات خطوط التقسيم بين دول الجوار المنتمية إلى حضارات مختلفة، وبين جماعات تنتمي إلى حضارات مختلفة داخل دولة ما، وبين جماعات تحاول إقامة دول جديدة على أنقاض الدول القديمة كما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق ويوغوسلافيا السابقة. صراعات خطوط التقسيم متفشية خاصة بين المسلمين وغير المسلمين، وسوف نتحرى أسباب هذه الصراعات وطبيعتها والقوى المحركة لها في الفصلين العاشر والحادي عشر.

على المستوى الكوني أو الكبير، تحدث صراعات دول المركز بين الدول الرئيسية في الحضارات المختلفة، والقضايا في هذه الصراعات هي القضايا الكلاسيكية في الصراعات الدولية وتتضمن:
  • (١)

    النفوذ النسبي في تشكيل التطورات الكونية وأداء المنظمات العالمية مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

  • (٢)

    القوة النسبية التي تتجلى في الخلاف حول سياسات عدم الانتشار والتحكم في التسليح وسباقات التسلح.

  • (٣)

    القوة الاقتصادية والرفاه، والتي تتبدى في النزاع على التجارة والاستثمار وقضايا أخرى.

  • (٤)

    أناس يستخدمون جهود دولة من إحدى الحضارات لحماية أقارب لهم في حضارة أخرى أو للتفرقة ضد أناس من حضارة أخرى، أو لطرد أناس ينتمون إلى حضارة مختلفة من أراضيها.

  • (٥)

    القيم والثقافة التي تنشأ حولهما الصراعات عندما تحاول دولة ما أن تتبنى أو أن تفرض قيمها على شعب حضارة أخرى.

  • (٦)

    وأحيانًا أراض تصبح فيها دول المركز مشاركة في صراعات خطوط التقسيم بها.

    هذه القضايا بالطبع هي مصادر الصراع بين البشر عبر التاريخ، وعندما تتورط في الصراع دول من حضارات مختلفة، فإن الاختلافات الثقافية تجعل الصراع أكثر حدة.

في منافسات بعضها مع البعض، تحاول دول المركز أن تحشد جماعاتها الحضارية، وأن تحصل على دعم من دول حضارة ثالثة، وأن تتبنى الانقسامات في الحضارات المعارضة والخروج عنها، وأن تستخدم أقصى ما تستطيع من التحركات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والسرية وإغراءات وقسر الدعاية لتحقيق أهدافها. إلا أنه من غير المرجح أن تستخدم دول المركز القوة العسكرية مباشرة ضد بعضها الآخر إلا في مواقف مثل تلك التي حدثت في الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية، حيث يجاور بعضهم البعض على خط تقسيم حضاري. على أن حروب دول المركز يمكن أن تنشأ تحت ظرفين فقط:
  • أولًا: قد تتطور نتيجة تصعيد صراعات خطوط التقسيم بين الجماعات المحلية، حيث تحتشد جماعات القربى بما فيها دول المركز لدعم المقاتلين المحليين، هذه الإمكانية قد تخلق دافعًا أساسيًّا لدول المركز في الحضارات المعارضة لاحتواء صراع خط التقسيم أو حله.
  • ثانيًا: حروب دول المركز قد تنتج عن تغير في ميزان القوى الكوني بين الحضارات. القوة المتزايدة لأثينا داخل الحضارة اليونانية — كما يقول «تشيديدس» — أدت إلى حرب «بيلوبونيسيان»، وتاريخ الحضارات الغربية بالمثل هو تاريخ «حروب سيطرة» بين قوى صاعدة وقوى منهارة.

يتوقف مدى تشجيع العوامل المماثلة للصراعات بين دول المركز الصاعدة والدول المنهارة في الحضارات المختلفة — إلى حدٍّ ما — على الطريقة التي تفضلها الدول للتكيف مع القوة الجديدة الناشئة، وهل هي التوازن معها أو الالتحاق بها. وبينما قد يبدو الالتحاق هو الأكثر تمييزًا للحضارات الآسيوية، إلا أن صعود القوة الصينية استطاع أن يُولِّدَ محاولات التوازن من دول في حضارات أخرى مثل الولايات المتحدة والهند وروسيا. حرب السيطرة المفقودة في التاريخ الغربي، هي تلك التي بين بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، ومن المفترض أن التحول من سلام بريطاني إلى سلام أمريكي كان يرجع في حدٍّ كبير إلى علاقة القربى الثقافية الوثيقة بين المجتمعَين. غياب قربى من هذا النوع في ميزان القوى المتغير بين الغرب والصين لا يجعل الصراع المسلح مؤكدًا، وإن كان يجعله ممكنًا. القوى المحركة للإسلام هي المصدر المستمر لحروب كثيرة صغيرة نسبيًّا على حدود التقسيم، وصعود الصين هو المصدر المحتمل لحرب تداخل حضاري كبيرة بين دول المركز.

(٢) الإسلام والغرب

يقول بعض الغربيين بمن فيهم الرئيس «كلينتون» إن الغرب ليس بينه وبين الإسلام أي مشكلة، وإنما المشكلات موجودة فقط مع بعض المتطرفين الإسلاميين، أربعة عشر قرنًا من التاريخ تقول عكس ذلك. العلاقات بين الإسلام والمسيحية سواء الأرثوذوكسية أو الغربية كانت عاصفة غالبًا. كلاهما كان «الآخر» بالنسبة للآخر. صراع القرن العشرين بين الديمقراطية الليبرالية والماركسية اللينينية ليس سوى ظاهرة سطحية وزائلة، إذا ما قورن بعلاقة الصراع المستمر والعميق بين الإسلام والمسيحية. أحيانًا، كان التعايش السلمي يسود، غالبًا كانت العلاقة علاقة تنافس واسع مع درجات مختلفة من الحرب الباردة. «محركاتهما التاريخية» كما يعلق «جون إسبوسيتو»: «وجدت المجتمعَين دائمًا في حالة تنافُس، وثبتت أحيانًا في صراع مميت للقوى والأرض والأنفس.»2 عبر القرون كانت خطوط العقيدتين تصعد وتهبط في تتابع من نوبات انبعاث مهمة، فوقفات، وانتكاسات. الاكتساح العربي الإسلامي في اتجاه الخارج من بداية القرن السابع إلى منتصف القرن الثامن أقام حكمًا إسلاميًّا في شمال أفريقيا وأيبريا والشرق الأوسط وفارس وشمال الهند، ولمدة قرنين تقريبًا كانت خطوط التقسيم بين الإسلام والمسيحية مستقرة. بعد ذلك، في أواخر القرن الحادي عشر، أكد المسيحيون سيطرتهم على البحر الأبيض المتوسط الغربي، غزوا صقلية، واستولوا على طليطلة، وفي ١٠٩٥م بدأت المسيحية الحملات الصليبية، ولمدة قرن ونصف القرن حاول الحكام المسيحيون — مع نجاح متناقص — أن يقيموا حكمًا مسيحيًّا في الأرض المقدسة والمناطق المجاورة في الشرق الأدنى، وخسروا آخر موضع لقدَم هناك في عام ١٢٩١م، في نفس الوقت كان الأتراك العثمانيون قد ظهروا على المسرح. أضعفوا بيزنطة في البداية، ثم غزوا معظم البلقان بالإضافة إلى شمال أفريقيا، واستولوا على القسطنطينية في ١٤٥٣م وحاصروا فيينا في ١٥٢٩م. ويلاحظ «برنارد لويس»: «لمدة ما يقرب من ألف سنة، منذ أول رسو موريسكي في إسبانيا وحتى الحصار التركي الثاني ﻟ «فيينا»، كانت أوروبا تحت تهديد مستمر من الإسلام.»3 الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك، وقد فعل ذلك مرتَين على الأقل.

وبحلول القرن الخامس عشر. بدأ المد ينقلب، المسيحيون — بالتدريج — استعادوا أيبيريا مكملين المهمة حتى غرناطة في ١٤٩٢م، في نفس الوقت مكَّنت الابتكارات الأوروبية في الملاحة البحرية البرتغاليين ثم غيرهم من تطويق الأراضي الإسلامية، وشق طريقهم في المحيط الهندي وما وراءه، وفي نفس الوقت كان الروس قد أنهوا قرنين من حكم التتار. العثمانيون — بالتالي — قاموا باندفاعة أخيرة إلى الأمام ليحاصروا «فيينا» مرة ثانية في ١٦٨٣م.

فشلهم هناك كان بداية تراجع طويل، متضمنًا كفاح الشعوب الأرثوذوكسية في البلقان لتحرير أنفسهم من الحكم العثماني، وتوسع إمبراطورية هابسبورج والتقدم الدرامي للروس نحو البلقان والقوقاز. وفي ظرف قرنٍ تقريبًا كان «جلاد المسيحية» قد أصبح «رجل أوروبا المريض».4

وبانتهاء الحرب العالمية الأولى، أطلقت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا رصاصة الرحمة، وأقاموا حكمهم المباشر أو غير المباشر على الأراضي العثمانية الباقية ما عدا مساحة الجمهورية التركية. وبحلول سنة ١٩٢٠م لم يكن هناك سوى أربع دول مستقلة على نحوٍ ما عن الحكم غير الإسلامي وهي، تركيا والسعودية وإيران وأفغانستان.

تراجع الكولونيالية الغربية بالتالي بدأ بطيئًا في العشرينيات والثلاثينيات، ثم تسارع بصورة كبيرة نتيجةً للحرب العالمية الثانية، كما أن سقوط الاتحاد السوفيتي حقق الاستقلال لمجتمعات إسلامية إضافية. وطبقًا لأحد التقديرات، حدث ما يقرُب من ٩٢ حالة استيلاء على أراضٍ إسلامية من قِبَل حكوماتٍ غير إسلامية عامَي ١٧٥٧م و١٩١٩م، وبحلول عام ١٩٩٥م كان ٦٩ من تلك المساحات قد عاد مرة أخرى تحت الحكم الإسلامي، وفي حوالي ٤٥ دولة مستقلة كانت الأغلبية الساحقة من السكان مسلمين.

الطبيعة العنيفة لهذه العلاقات المتغيرة تعكسها حقيقة أن ٥٠٪ من الحروب التي تضمنت ثنائيات من دول ذات أديان مختلفة بين عامَي ١٨٢٠م و١٩٢٩م كانت حروبًا بين مسلمين ومسيحيين.١ أسباب هذا النمط من الصراع لا تكمن في ظاهرة انتقالية مثل العاطفة المسيحية في القرن الثاني عشر، أو الأصولية الإسلامية في القرن العشرين. إنها تتدفق من طبيعة الديانتَين والحضارتَين المؤسستَين عليهما. الصراع كان من ناحية نتيجة الاختلاف، خاصة مفهوم المسلمين للإسلام كأسلوب حياةٍ متجاوز ويربط بين الدين والسياسة، ضد المفهوم المسيحي الغربي الذي يفصِل بين مملكة الرب ومملكة قيصر. كما كان الصراع نابعًا من أوجُهِ التشابه بينهما. كلاهما دين توحيد ويختلف عن الديانات التي تقول بتعدُّد الآلهة ولا يستطيع أن يستوعب آلهة آخرين بسهولة. وكلاهما ينظر إلى العالم نظرة ثنائية: «نحن» و«هم».

كلاهما يدَّعي أنه العقيدة الصحيحة الوحيدة التي يجب أن يتبعها الجميع. كلاهما دين تبشيري يعتقد أن مُتبعيه عليهم التزام بهداية غير المؤمنين وتحويلهم إلى ذلك الإيمان الصحيح.

الإسلام منذ البداية انتشر بالفتح، والمسيحية كانت تفعل نفس الشيء عند وجود الفرصة، مفهوما «الجهاد» و«الصليب» المتوازيان لا يُشبِهُ بعضُهما الآخر فقط، وإنما يميزان العقيدتَين عن الأديان العالمية الأخرى. الإسلام والمسيحية مع اليهودية لهم كذلك نظرات غائية5 للتاريخ، على عكس النظرات الحلقية أو الساكنة السائدة في الحضارات الأخرى. مستوى الصراع العنيف بين الإسلام والمسيحية عبر الزمن كان يتأثر دائمًا بالنمو الديموغرافي وهبوطه، وكذلك بالتطورات الاقتصادية والتحول التكنولوجي وشدة الالتزام الديني. انتشار الإسلام في القرن السابع كان مصحوبًا بهجرات كثيفة من الشعوب العربية لم يسبق لها مثيل — من ناحية «الحجم والسرعة» — إلى أراضي الإمبراطوريتَين البيزنطية والساسانية. بعد ذلك بقرون قليلة كان الصليبيون — إلى حد كبير — نتاجًا للنمو الاقتصادي والتوسع السكاني في أوروبا القرن الحادي عشر والتي جعلت من الممكن تعبئة أعدادٍ كبيرة من الفرسان والفلاحين من أجل المسيرة نحو «الأرض المقدسة». عندما وصلت الحملة الصليبية الأولى إلى «إسطنبول» كتب أحد المراقبين البيزنطيين: يبدو الأمر وكأن «الغرب بأكمله بما فيه من قبائل البربر الذين يعيشون في ما وراء البحر الأدرياتيكي حتى أعمدة هرقل، قد بدءوا هجرةً جماعية وحثوا الخُطى متدفِّقين باتجاه آسيا في كتلة متراصة … وبكل أمتعتِهم.»6 وفي القرن التاسع عشر أدى النمو السكاني الهائل إلى انفجار أوروبي مرةً أخرى وأحدث أكثر عملية هجرة في التاريخ تدفقت في أراضي المسلمين وفي أراضٍ أخرى.

مجموعة مشابهة من العوامل زادت من الصراع بين الإسلام والغرب في أواخر القرن العشرين.

  • أولًا: خَلَّفَ النمو السكاني الإسلامي أعدادًا كبيرة من الشبان العاطلين والساخطين الذين أصبحوا مُجندين للقضايا الإسلامية ويشكلون ضغطًا على المجتمعات المجاورة ويهاجرون إلى الغرب.
  • ثانيًا: أعطت الصحوة الإسلامية ثقة متجددة للمسلمين في طبيعة وقدرة حضارتهم وقيمهم المتميزة مقارنة بتلك التي لدى الغرب.
  • ثالثًا: جهود الغرب المستمرة لتعميم قيمه ومؤسساته من أجل الحفاظ على تفوقه العسكري والاقتصادي، والتدخل في الصراعات في العالم الإسلامي تولد استياء شديدًا بين المسلمين.
  • رابعًا: سقوط الشيوعية أزال عدوًّا مشتركًا للغرب والإسلام وترك كلًّا منهما لكي يصبح الخطر المتصور على الآخر.
  • خامسًا: الاحتكاك والامتزاج المتزايد بين المسلمين والغربيين يُثير في كل من الجانبين إحساسًا بهويته الخاصة وكيف أنها مختلفة عن هوية الآخر.

التداخل والامتزاج أيضًا يفاقمان من الخلافات حول حقوق أبناء حضارة ما في دولة يسيطر عليها أبناء حضارة أخرى، في الثمانينيات والتسعينيات انهار بشدة ذلك التسامح بالنسبة للآخر في كل من المجتمعات الإسلامية والمسيحية. وهكذا فإن أسباب الصراع المتجدد بين الإسلام والغرب تُوجَد في الأسئلة الأساسية للقوة والثقافة. «من الفاعل ومن المفعول به؟» «من الذي يجب أن يحكم، ومن الذي يجب أن يكون محكومًا؟» القضية المركزية للسياسة كما حددها «لينين» هي جذر الخلاف بين الإسلام والغرب، إلا أن هناك أيضًا الصراع الإضافي الذي كان يراه «لينين» بلا معنى بين صورتَين مختلفتَين لما هو صواب وما هو خطأ، ونتيجة لذلك: من هو المحق ومن هو المخطئ؟

طالما أن الإسلام يظل (وسيظل) كما هو الإسلام، والغرب يظل (وهذا غير مؤكد) كما هو الغرب، فإن الصراع الأساسي بين الحضارتين الكبيرتين وأساليب كل منهما في الحياة سوف يستمر في تحديد علاقتهما في المستقبل، كما حددها على مدى الأربعة عشر قرنًا السابقة. هذه العلاقات يزيد من تعكيرها عدد من القضايا الجوهرية تختلف عليها مواقفهم أو تتصارع.

تاريخيًّا: كانت إحدى القضايا الرئيسية هي السيطرة على مساحة من الأرض، ولكن ذلك — نسبيًّا — لم يكن مهمًّا. في منتصف التسعينيات كان هناك ١٩ صراعًا بين المسلمين والمسيحيين من مُجمل ٢٨ صراعًا بين المسلمين وغير المسلمين عبر خطوط التقسيم الحضاري. كان من بينها ١١ مع مسيحيين أرثوذوكس و٩ مع أتباع المسيحية الغربية في أفريقيا وجنوب شرق آسيا. واحد فقط من هذه الصراعات العنيفة أو التي كان يمكن أن تكون عنيفة، هو ذلك الذي حدث مباشرة بين الكروات والبوسنيين على طول خط التقسيم بين الغرب والإسلام.

انتهاء الاستعمار الغربي للأراضي وغياب التوسع الإسلامي أحدثا نوعًا من العزلة الجغرافية لدرجة أن التجاور المباشر بين مجتمعات غربية وإسلامية لا يوجَد إلا في مناطق قليلة في البلقان. وهكذا فإن تركيز الصراع بين الغرب والإسلام على الأراضي أقل مما هو على قضايا التداخُل الحضاري الأوسع مثل نشر الأسلحة وحقوق الإنسان والتحكم في النفط والهجرة وإرهاب الإسلاميين والتدخل الغربي. شدة هذا العداء التاريخي المتزايد كانت أمرًا معترفًا به من قِبَل أبناء المجتمعَين في أعقاب الحرب الباردة. في سنة ١٩٩١م مثلًا كان «بارن بوزان» يرى عدة أسباب لنشوب حرب مجتمعية باردة «بين الغرب والإسلام تقف فيها أوروبا على خط المواجهة».

هذا التطور له علاقة بالقيم العلمانية مقابل القيم الدينية، له علاقة بالخصومة التاريخية بين المسيحية والإسلام، وبالغيرة من القوة الغربية، وبالاستياء من السيطرة الغربية الناجمة عن بنية الشرق الأوسط السياسية بعد زوال الاستعمار، وبالشعور بالمرارة والامتهان نتيجة المقارنة البغيضة بين إنجازات الحضارتَين الإسلامية والغربية في القرنَين الأخيرين.

كما لاحظ، بالإضافة إلى ذلك، أن حربًا مجتمعية باردة مع الإسلام سوف تساعد على تقوية الهوية الأوروبية بشكلٍ عام، في وقت حاسم بالنسبة للوحدة الأوروبية. ومن هنا «قد يكون هناك مجتمع في الغرب مُستعد، ليس لدعم حرب مجتمعية باردة فقط مع الإسلام، بل ولتبنِّي سياسات تشجع عليها.» في سنة ١٩٩٠م قام «برنارد لويس»، وهو مفكر غربي بارز مُهتم بالإسلام، بتحليل «جذور الغضب الإسلامي» واستنتج قوله: «يجب أن يكون واضحًا الآن أننا نواجِهُ حالة وحركة تتخطَّى بكثير مستوى القضايا والسياسات والحكومات التي تتابعها، وهذا ليس أقل من صدام حضارات والذي ربما كان غير منطقي، ولكنه بالتأكيد رد فعل تاريخي لتنافُسٍ قديم ضد تراثنا اليهودي المسيحي وحاضرنا العلماني وانتشار كل منهما على مستوى العالم، ومن المهم جدًّا أننا من جانبنا لا يجب أن نُستثار إلى رد فعل تاريخي ولا منطقي معادل ضد ذلك المنافس.»7 وهناك ملاحظات مشابهة في الجانب الإسلامي. الكاتب الصحفي البارز «محمد سيد أحمد» كان يقول في عام ١٩٩٤م: «هناك علامات لا تخطئها العين على صدامٍ يتنامى بين الفكر اليهودي المسيحي الغربي وحركة الإحياء الإسلامي، والذي يمتدُّ الآن من الأطلنطي غربًا إلى الصين شرقًا.» كما تنبأ هندي مسلم بارز في عام ١٩٩٢م بأن «المواجهة القادمة للغرب ستأتي تحديدًا من العالم الإسلامي، مع زحف الدول الإسلامية من المغرب إلى باكستان سيبدأ صراع من أجل نظام عالمي جديد.» كما يرى محامٍ تونسي كبير أن الصراع قائم بالفعل «الكولونيالية حاولت أن تشوِّه كل التقاليد الثقافية للإسلام. أنا لست متأسلِمًا ولا أعتقد أن هناك صراعًا بين الأديان. هناك صراع بين الحضارات.»8 في الثمانينيات والتسعينيات كان التوجُّه العام للإسلام مضادًّا للغرب، وهذا في جزءٍ منه نتيجة طبيعية للصحوة الإسلامية ورد فعل ضد ما يُعتقَد أنه «تسميم غربي للمجتمعات الإسلامية.» «تأكيد الإسلام مهما كان شكله المذهبي يعني رفض المؤثرات الأوروبية والأمريكية على المجتمع المحلي وعلى السياسة والأخلاق.»9

كان زعماء المسلمين في الماضي يقولون لشعوبهم أحيانًا: «لا بد أن نتغرب.» ولو قال ذلك أي قائد مسلم في الربع الأخير من القرن العشرين لا بد أن يكون حالة فردية. والحقيقة أننا من الصعب أن نجد عبارات مديح للقِيَم والمؤسسات الغربية على لسان أي مسلم سواء من السياسيين أو الرسميين أو الأكاديميين أو رجال الأعمال. إنهم بدلًا من ذلك يؤكدون على الاختلافات بين حضارتهم والحضارة الغربية وعلى تفوق ثقافتهم والحاجة إلى الحفاظ على ثبات تلك الثقافة ضد الهجوم الغربي. المسلمون يخشون ويمتعضون من القوة الغربية وما يمثله ذلك من خطر لمجتمعاتهم ومعتقداتهم.

وهم يرَون الثقافة الغربية ثقافة مادية فاسدة متفسِّخة ولا أخلاقية، كما يرونها مغوية، ومن هنا يؤكدون أكثر فأكثر على الحاجة لمقاومة تأثيرها على أسلوب حياتهم. ويهاجم المسلمون الغرب بدرجة متزايدة لا لأن الغرب يتبع دينًا غير كامل أو خاطئ رغم أنه دين كتاب، بل يُهاجمونه لأنه لا يتبع أي دين بالمرة.

في نظر المسلمين: العلمانية اللادينية وبالتالي اللاأخلاقية، شرور أشد سوءًا من المسيحية الغربية التي أنتجتْها. في الحرب الباردة، كان الغرب يصف خصمه ﺑ «الشيوعية الكافرة»، في صراع حضارات ما بعد الحرب الباردة المسلمون يرون خصومهم «الغرب الكافر». هذه الانطباعات عن الغرب كمتغطرس ومادي وقمعي ومتوحِّش ومتفسِّخ لا تُوجَد عند أئمة الأصوليين فقط وإنما أيضًا عند أولئك الذين يعتبرهم كثيرون من الغرب حلفاءهم ومؤيديهم الطبيعيين. قليل من الكتب التي ألَّفها مسلمون والتي نُشرت في الغرب في التسعينيات حظيَ بمثل ما حظي به كتاب «فاطمة المرنيسي»: «الإسلام والديمقراطية» من مديح، والذي رحَّب به الغربيون بشكلٍ عام ككلمة شجاعة من امرأة مسلمة تقدُّمية وليبرالية.10

«الغرب» مادي و«إمبريالي» و«ألحق أذى» بالأمم المتحدة من خلال «الرعب الكولونيالي» (ص٣، ص٩). الفردانية، السمة الدامغة للثقافة الغربية «هي مصدر كل المتاعب» (ص٨) القوة الغربية مُخيفة. «الغرب منفردًا هو الذي يُقرر إذا ما كانت الأقمار الصناعية سوف تُستخدَم لتعليم العرب أو لإلقاء القنابل عليهم. إنه يسحق إمكانياتنا ويغزو حياتنا بمنتوجاته المستوردة وأفلامه المتلفزة التي تُغرق موجات الأثير … الغرب قوة تسحقنا، تحاصر أسواقنا وتتحكَّم في أقل مواردنا ومبادراتنا وقدراتنا. هكذا كنا نتخيَّل موقعنا، ثم جاءت حرب الخليج لتحول هذا التخيل إلى يقين.» (ص١٤٦-١٤٧).

الغرب «يصنع قوته من خلال البحث العسكري.» ثم يبيع منتوجات هذا البحث إلى الدول المتخلفة، «المستهلك السلبي» لها. ولكي يحرر نفسه من هذا الخنوع لا بد أن يقوم الإسلام بتخريج مهندسيه وعلمائه وصُنع أسلحته (سواء نووية أو تقليدية … لم تحدد) وتحرير نفسه من الاعتماد العسكري على الغرب. (ص٤٣-٤٤). وأكرر، هذه ليست أوامر واحد من آيات الله المعممين الملتحين.

وأيًّا كانت آراؤهم السياسية أو الدينية فإن المسلمين مُتفقون على وجود اختلافات أساسية بين ثقافاتهم وثقافة الغرب. وكما عبر عن ذلك الشيخ «الغنوشي» بقوله: «الخط الأساسي هو أن مجتمعاتنا مؤسسة على قِيَم غير تلك التي لدى الغرب»، ويقول مسئول حكومي مصري: «الأمريكيون يجيئون إلى هنا ويريدوننا أن نُصبح مثلهم. إنهم لا يفهمون شيئًا عن قِيَمنا أو ثقافتنا.» ويتفق صحفي مصري: «نحن مختلفون، لنا أرضية مختلفة، تاريخ مختلف، ونتيجة لذلك يصبح من حقِّنا أن يكون لنا مستقبل مختلف»: المطبوعات الإسلامية سواء الشعبية أو الفكرية، تصف على نحوٍ مُتكرر ما يُعتقد بأنه مؤامرات غربية ومخططات لإخضاع وإذلال المؤسسات الثقافية الإسلامية والتقليل من شأنها.11 ويمكن أن نرى رد الفعل تجاه الغرب ليس فقط في الاندفاع الفكري الرئيسي للصحوة الإسلامية بل وفي التحول في مواقف حكومات الدول الإسلامية تجاه الغرب.

الحكومات التي جاءت بعد الاحتلال مباشرة كانت غربية عمومًا في أيديولوجيتها وسياستها وموالية للغرب في سياستها الخارجية مع استثناءات جذرية مثل الجزائر وإندونيسيا، حيث كان الاستقلال نتيجة ثورات وطنية. إلا أن الحكومات الموالية للغرب راحت واحدةً تلوَ الأخرى تخلي الطريق لحكومات أقلَّ توحدًا مع الغرب أو مُعادية له: في العراق وليبيا واليمن وسوريا وإيران والسودان وأفغانستان. كما حدثت تغيرات أقل درامية في نفس الاتجاه في توجهات وانحيازات دول أخرى من بينها تونس وإندونيسيا وماليزيا.

الحليفان العسكريان الرئيسيان للولايات المتحدة في سنوات الحرب الباردة هما تركيا وباكستان، واقعتان تحت ضغطٍ سياسي إسلامي في الداخل وروابطهما مع الغرب عرضة لتوتر مُتزايد. في عام ١٩٩٥م كانت الكويت هي الدولة الإسلامية الوحيدة الأكثر موالاة للغرب بكل وضوح عما كانت عليه قبل عشر سنوات.

أصدقاء الغرب المقربون في العالم الإسلامي الآن إما أنهم مثل الكويت والسعودية ومشيخات الخليج المعتمدة على القوة العسكرية الغربية، أو مثل مصر والجزائر يعتمدون عليها اقتصاديًّا. في أواخر الثمانينيات انهارت الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية عندما أصبح واضحًا أن الاتحاد السوفيتي لم يعد قادرًا أو لن يكون قادرًا على تقديم العون الاقتصادي والعسكري لهم. وإذا اتضح أن الغرب لن يكون قادرًا على المحافظة على توابعه من الأنظمة الإسلامية، فالمرجَّح أنهم سيلقون نفس المصير.

العداء الإسلامي المتزايد للغرب، يمكن مُقارنته بالقلق الغربي المتزايد من «الخطر الإسلامي» المتمثل في التطرف. إنهم ينظرون إلى الإسلام كمصدر للانتشار النووي والإرهاب، وإلى المسلمين كمهاجرين غير مرغوب فيهم في أوروبا.

وهذه المخاوف تشترك فيها الجماهير والقادة معًا. في نوفمبر ١٩٩٤م عندما طُرِحَ سؤال إذا ما كان «الانبعاث الإسلامي» يُعتبر خطرًا على مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط مثلًا، كانت إجابة ٦١٪ من عينة قوامها ٣٥٠٠٠ أمريكي من المهتمين بالسياسة الخارجية هي «نعم». قبل ذلك بعام واحد عندما طُرِحَ سؤال: أي الدول يمثل أكثر خطرًا على الولايات المتحدة؟ حددت عينة عشوائية من الجمهور: إيران والصين والعراق كأعلى ثلاث دول. وفي سنة ١٩٩٤م عندما طُلِبَ تحديد «أخطر التهديدات» على الولايات المتحدة، أجاب ٧٢٪ من الجمهور و٦١٪ من قيادات السياسة الخارجية بأنه: «الانتشار النووي، وقال ٦٩٪ من الجمهور و٣٣٪ من القيادات إنه: الإرهاب الدولي، وهما قضيتان مرتبطتان بالإسلام لدرجةٍ كبيرة. بالإضافة إلى أن ٣٣٪ من الجمهور و٣٩٪ من القادة كانوا يرون تهديدًا في الاتساع المحتمل للأصولية الإسلامية.»

الأوروبيون لديهم نفس التوجهات. في ربيع ١٩٩١م مثلًا، قال ٢٥٪ من الشعب الفرنسي إن الخطر الرئيسي على فرنسا يأتي من الجنوب، بينما قال ٨٪ فقط إنه قد يأتي من الشرق. الدول الأربع التي يخشاها الشعب الفرنسي أكثر من غيرها كانت كلها إسلامية: العراق ٥٢٪، إيران ٣٥٪، ليبيا ٢٦٪، الجزائر ٢٢٪.12
القادة السياسيون في الغرب بمن فيهم المستشار الألماني ورئيس الوزراء الفرنسي، عبروا عن مخاوف مماثلة مع السكرتير العام لحلف شمال الأطلنطي — NATO — مُعلِنين في عام ١٩٩٥م أن الأصوليين الإسلاميين كانوا «خطرين مثل الشيوعيين على الأقل.» كما أشار عضو «رفيع المستوى» في إدارة «كلينتون» إلى الإسلام كمنافسٍ كوني للغرب.13

ومع الزوال الفعلي للتهديد العسكري من الشرق، يتجه تخطيط اﻟ «ناتو» بشكلٍ مُتزايد نحو التهديدات المحتملة من الجنوب. في سنة ١٩٩٢م لاحظ أحد المحللين العسكريين الأمريكيين أن: «الصف الجنوبي يحل محل الجبهة المركزية، كما أنه سيُصبح خط الجبهة الجديد ﻟ «ناتو» بسرعة.» ولمواجهة هذه التهديدات الجنوبية فإن الأعضاء الجنوبيين في اﻟ «ناتو»: إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال قد بدءوا تخطيطًا عسكريًّا وعمليات مشتركة، وفي نفس الوقت حثت حكومات الغرب من خلال مشاورات بينها على مواجهة المتطرفين الإسلاميين.

هذه التهديدات المفهومة قدمت كذلك تبريرًا منطقيًّا لتواجُدٍ عسكري أمريكي دائم في أوروبا. وكما يلاحظ مسئول أمريكي سابق: «بينما قوات الولايات المتحدة في أوروبا ليست علاجًا للمشكلات التي صنعها الإسلام الأصولي، إلا أن تلك القوات تلقي ظلًّا قويًّا على التخطيط العسكري في المنطقة بكاملها. هل تذكر الانتشار الناجح للقوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية من أوروبا في حرب الخليج في ١٩٩٠-١٩٩١م؟ أبناء المنطقة ينذكَّرونه.»14
وربما أضاف: يتذكرونه بخوف واستياء وكراهية. وبوجود هذه التصورات السائدة لدى المسلمين والمسيحيين كل منهما عن الآخر، بالإضافة إلى صور التطرف الإسلامي، لم يكن غريبًا أن تتطور حالة شبه حرب حضارية بين الإسلام والغرب بعد الثورة الإيرانية في ١٩٧٩م، وهي شبه حرب لأسباب ثلاثة:
  • أولًا: لم يكن كل الإسلام يحارب كل الغرب. دولتان أصوليتان (إيران والسودان) وثلاث دول غير أصولية (العراق وليبيا وسوريا) بالإضافة إلى عددٍ كبير من المنظمات الإسلامية بدعمٍ من دول إسلامية أخرى مثل السعودية كانوا يحاربون الولايات المتحدة وأحيانًا بريطانيا ودولًا وجماعات غربية أخرى إلى جانب إسرائيل واليهود بوجهٍ عام.
  • ثانيًا: هي شبه حرب لأنها — بصرف النظر عن حرب الخليج في ١٩٩٠-١٩٩١م — كانت تتم بوسائل محدودة: الإرهاب في جانب: والقوة الجوية والعمل السري والعقوبات الاقتصادية في الجانب الآخر.
  • ثالثًا: هي شبه حرب؛ لأن العنف رغم تواصُله إلا أنه لم يكن بشكل مُستمر. كان يتضمن أعمالًا متقطعة من جانب، تثير ردودًا من الجانب الآخر. ومع ذلك تظل شِبه الحرب حربًا، وحتى مع استبعاد عشرات الألوف من الجنود والمدنيين العراقيين الذين قتلوا من جراء القصف في يناير وفبراير ١٩٩١م فإن الوفيات والخسائر الأخرى تصل إلى الألوف، وكانت تقع فعلًا في كل عام بعد ١٩٧٩م، وقد قُتِلَ غربيون كثيرون في شِبه الحرب هذه أكثر من الذين قُتِلُوا في الحرب الحقيقية في الخليج.
هذا إلى جانب أن كلا الطرفين كان يعترف بأن هذا الصراع حرب، فقد صرح «الخميني» باكرًا وبدقة شديدة أن: «إيران في حالة حرب فعلية مع أمريكا.»15 و«القذافي» كان باستمرار يُعلن الحرب المقدسة ضد الغرب، وكان القادة المسلمون في الجماعات المتطرفة والدول الأخرى يتكلمون بنفس الأسلوب.

على الجانب الغربي، حددت الولايات المتحدة سبع دول «كدول إرهابية»، بينها خمس دول إسلامية (إيران – العراق – سوريا – ليبيا – السودان) والدولتان الأخريان هما كوبا وكوريا الشمالية. هذا في الواقع يصنفها كأعداء لأنها تهاجم الولايات المتحدة وأصدقاءها بأكثر الأسلحة فاعلية في أيديها، وبالتالي فهم يعترفون بوجود حالة حرب معهم. المسئولون الأمريكيون يشيرون إلى تلك الدول كدولٍ «خارجة على القانون» و«عنيفة» و«شاذة»، وهكذا يضعونها خارج المجتمع الحضاري العالمي ويجعلون منها أهدافًا شرعية لإجراءاتٍ مضادة جماعية أو فردية. حكومة الولايات المتحدة اتهمت الذين فجروا «مركز التجارة العالمي» بقصد: «شن حرب إرهاب مدني ضد الولايات المتحدة.» وقالت إن المتآمرين المتهمين بالتخطيط لأعمالٍ مشابهة في «مانهاتن» «كانوا جنودًا» في صراع «يتضمن الحرب» ضد الولايات المتحدة. فإذا كان المسلمون يزعمون أن الغرب يحارب الإسلام، والغربيون يزعمون أن الإسلام يحارب الغرب، يصبح من المعقول أن نستنتج أن ما يدور شيء يُشبه الحرب إلى حدٍّ كبير. في شبه الحرب هذه يعتمد كل طرف على جوانب قوته الخاصة وعلى جوانب الضعف لدى الآخر. من الناحية العسكرية هي حرب إرهاب ضد قوة جوية. المجندون الإسلاميون المخلصون لأفكارهم يستغلون المجتمعات المفتوحة في الغرب ويزرعون السيارات المفخخة في أهداف مختارة. العسكريون الغربيون المحترفون يستغلون السماوات المفتوحة في الدول الإسلامية ويلقون القنابل المدمرة على أهداف مختارة، المشاركون الإسلاميون يخططون لاغتيال شخصياتٍ غربية مهمة، الولايات المتحدة تتآمر لقلب الأنظمة الإسلامية المتطرفة. خلال السنوات الخمس عشرة بين ١٩٨٠م و١٩٩٥م وطبقًا لبيانات وزارة الدفاع الأمريكية، شاركت الولايات المتحدة في ١٧ عملية في الشرق الأوسط كانت كلها موجهة ضد مسلمين، ولم تحدث أي عمليات أمريكية من هذا النمط ضد أي شعب من حضارة أخرى.

وإلى اليوم، باستثناء حرب الخليج، يحافظ كل طرف على درجة العنف عند مستوياتها الدنيا إلى حدٍّ ما، ويُحجِم عن وصف أعمال العنف بأنها أعمال حرب تتطلَّب ردًّا كبيرًا. ولاحظت «الإيكونومست»: «إذا أمرت ليبيا إحدى غواصاتها بأن تغرق سفينة أمريكية فسوف تتعامل الولايات المتحدة مع ذلك كعمل عسكري من قِبَل حكومة، ولن تطلب تسليمها قائد الغواصة. ومن ناحية المبدأ فإن تفجير طائرة ركاب بواسطة المخابرات الليبية لا يختلف عن ذلك.»16 إلا أن المشاركين في هذه الحرب يستخدم بعضهم ضد بعضهم الآخر أساليب أكثر عنفًا مما استخدمته الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ضد بعضهما مباشرة في الحرب الباردة. لم تقتل إحدى القوتين العظميين مدنيين عمدًا أو تضرب منشآت عسكرية للطرف الآخر — مع استثناءات قليلة — ومع ذلك يحدث هذا مرارًا في شبه الحرب. يزعم القادة الأمريكيون أن المسلمين المتورطين في شبه الحرب قلة صغيرة ترفض أكثرية المسلمين المعتدلين سلوكها، وقد يكون ذلك صحيحًا ولكن لا يُوجَد دليل يؤيده. الاحتجاجات ضد العنف المعادي للغرب غائبة تمامًا في الدول الإسلامية. الحكومات الإسلامية، حتى الحكومات المحصنة الصديقة للغرب والمعتمدة عليه تصمت لدرجة مثيرة عندما يكون عليها أن تدين الأعمال الإرهابية ضد الغرب. من الناحية الأخرى نجد أن الحكومات والشعوب الأوروبية كثيرًا ما أيدت ونادرًا ما انتقدت الإجراءات التي تتخذها الولايات المتحدة ضد خصومها المسلمين، بشكل يتناقض مع المعارضة الشديدة التي كانوا يبدونها بالنسبة للإجراءات الأمريكية ضد الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة. في الصراعات بين الحضارات، على خلاف الصراعات الأيديولوجية، الأقارب يقفون إلى جانب بعضهم البعض.

المشكلة المهمة بالنسبة للغرب ليست الأصولية الإسلامية بل الإسلام: فهو حضارة مختلفة، شعبها مقتنع بتفوق ثقافته وهاجسه ضآلة قوته.

المشكلة المهمة بالنسبة للإسلام ليست المخابرات المركزية الأمريكية ولا وزارة الدفاع. المشكلة هي الغرب: حضارة مختلفة شعبها مقتنع بعالمية ثقافته ويعتقد أن قوته المتفوقة إذا كانت متدهورة، فإنها تفرض عليه التزامًا بنشر هذه الثقافة في العالم. هذه هي المكونات الأساسية التي تُغذي الصراع بين الإسلام والغرب.

(٣) آسيا والصين وأمريكا

مرجل الحضارات. التغيرات الاقتصادية في آسيا وبخاصة في شرقها واحدة من أهم التطورات في العالم في النصف الثاني من القرن العشرين.

بحلول التسعينيات كان هذا النمو الاقتصادي قد ولد انتعاشة اقتصادية بين كثير من المراقبين الذين رأوا شرق آسيا وكل الإطار الباسيفيكي مرتبطين معًا في شبكة تجارية ممتدة يمكن أن تؤمِّن السلام والوئام بين الدول.

هذا التفاؤل كان مؤسسًا على افتراضٍ شديد الالتباس، وهو أنَّ التبادل التجاري قوة ثابتة من أجل السلام. إلا أن الحال ليست كذلك. النمو الاقتصادي يخلق عدم استقرار اقتصادي داخل الدول وبينها وبين بعضها، ويغير ميزان القوى في الدول والمناطق. التبادل التجاري يجعل الناس يتَّصِلون ويحتكون بعضهم ببعض ولكنه لا يُوصِّلهم إلى اتفاق. وتاريخيًّا، غالبًا ما كان يُنتج وعيًا أعمق بالاختلافات بين الشعوب ويثير المخاوف المتبادلة.

التجارة بين الدول تولد صراعات إلى جانب ما تحققه من فوائد. ولو صحت خبرة الماضي فإن آسيا سطوع الشمس الاقتصادية، ستُولِّد آسيا الظلال السياسية وآسيا عدم الاستقرار والصراع. النمو الاقتصادي في آسيا والثقة المتزايدة بالنفس في المجتمعات الآسيوية تمزق السياسة العالمية بثلاثة أساليب:
  • أولًا: النمو الاقتصادي يُمَكِّنُ الدول الآسيوية من توسيع قدراتها العسكرية ويثير القلق بشأن العلاقات المستقبلية بين هذه الدول، ويدفع إلى الصدارة بقضايا ومنافساتٍ كانت مكبوحةً أثناء الحرب الباردة، وبالتالي يعجل باحتمالات الصراع وعدم الاستقرار في المنطقة.
  • ثانيًا: النمو الاقتصادي يزيد من حدة الصراعات بين المجتمعات الآسيوية والغرب، والولايات المتحدة أساسًا، ويقوي من قدرة المجتمعات الآسيوية على أن تسود في تلك الصراعات.
  • ثالثًا: النمو الاقتصادي لأكبر قوة في آسيا يزيد من النفوذ الصيني في المنطقة كما يزيد من احتمال تأكيد الصين لسيطرتها التقليدية في شرق آسيا وبالتالي يضطر دولًا أخرى إما لأن «تنضم» وتُكيف نفسها مع هذا التطور، أو لأن «تتوازن» وتحاول احتواء النفوذ الصيني.

خلال القرون الطويلة للسطوة الغربية، كانت العلاقات الدولية المهمة لعبة غربية بين القوى الكبرى في الغرب، تكملها بدرجة ما، أولًا: روسيا في القرن الثامن عشر، ثم اليابان في القرن العشرين، وكانت أوروبا هي الساحة الرئيسية لصالح القوى الكبرى وللتعاون بينها. حتى أثناء الحرب الباردة، كان الخط الرئيسي للمواجهة بين القوى الكبرى يقع في قلب أوروبا. وطالما أن العلاقات الدولية المهمة فيما بعد الحرب الباردة لها حلبة سباق رئيسية، فإن هذه الحلبة هي آسيا أو بالتحديد شرق آسيا.

آسيا هي أتون الحضارات، وشرق آسيا وحده يضمُّ مجتمعات تنتمي إلى ست حضارات: اليابانية والصينية والأرثوذوكسية والبوذية والإسلامية والغربية، وجنوب آسيا يضيف إليها الهندوسية. دول المركز في أربع حضارات (اليابان والصين وروسيا والولايات المتحدة) لاعبون رئيسيون في شرق آسيا، وجنوب آسيا تضيف الهند، كما أن إندونيسيا قوة إسلامية صاعدة. بالإضافة إلى ذلك فإن شرق آسيا يضم قوى عديدة متوسطة المستوى ذات ثقلٍ اقتصادي متزايد مثل كوريا الشمالية وتايوان وماليزيا، إلى جانب فيتنام كقوة محتملة. والنتيجة … أنماط من العلاقات في غاية التعقيد، تُشبه في نواحٍ كثيرة تلك التي كانت قائمة في أوروبا في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، ومفعمة بكل الميوعة والشكوك التي تميز المواقف المتعددة الأقطاب.

هذه الطبيعة المتعددة القوى والحضارات في شرق آسيا تميزها عن غرب أوروبا، كما تقوي الاختلافات الاقتصادية والسياسية من هذا التناقض. جميع دول أوروبا الغربية ديمقراطيات مستقرة، اقتصادها اقتصاد سوق وعلى مستوى عالٍ من النمو. في منتصف التسعينيات كان شرق آسيا يضمُّ دولة ديمقراطية واحدة مستقرة وعدة ديمقراطيات جديدة غير مستقرة وأربع أو خمس ديكتاتوريات شيوعية باقية في العالم بالإضافة إلى حكومات عسكرية ودكتاتوريات شخصية وأنظمة سلطوية تتبع نظام الحزب الواحد. مستويات النمو الاقتصادي تختلف بين تلك في اليابان وسنغافورة وتلك في فيتنام وكوريا الشمالية. هناك توجُّه عام نحو اقتصاد السوق والانفتاح، ولكن الأنظمة السياسة ما زالت تتدرَّج بين السيطرة على الاقتصاد في كوريا الشمالية من خلال الجمع بين سيطرة الدولة والملكية الخاصة، إلى الاقتصاد الحر في هونج كونج. وبصرف النظر عن مدى ما حققته الهيمنة الصينية أحيانًا من نظامٍ في المنطقة، فإن مجتمعًا دوليًّا (بالمعنى الإنجليزي للكلمة) يتحقَّق في شرق آسيا كما حدث في غرب أوروبا.17
في أواخر القرن العشرين ارتبطت دول أوروبا ببعضها بعددٍ غير عادي من المؤسسات الدولية: الاتحاد الأوروبي، اﻟ «ناتو»، الاتحاد الأوروبي الغربي، المجلس الأوروبي، منظمة الأمن والتعاون الأوروبي وغيرها. شرق آسيا لا يُوجَد به شيء شبيه باستثناء اﻟ ASEAN التي لا تضم أي قوى رئيسية، وتتحاشى المسائل الأمنية غالبًا، وما زالت في بداية التحرُّك نحو أكثر الصيغ بدائيةً في التكامل الاقتصادي. في التسعينيات، خرجت إلى حيز الوجود المنظمة الأوسع APEC التي تضم معظم دول الإطار الباسيفيكي، ولكنها أضعف من اﻟ ASEAN حتى في كونها مجرد دكان للكلام. ولا تُوجَد هناك مؤسسات مهمة متعددة الأطراف تضمُّ القوى الآسيوية الرئيسية.
ثم إن بذور الصراع بين الدول كثيرة في شرق آسيا، على العكس من أوروبا الغربية. بقعتان واسعتان للخطر تضمان الكوريتَين والصينَين، وهذا على أية حال من بقايا الحرب الباردة. أهمية الاختلافات الأيديولوجية تتضاءل، وبحلول عام ١٩٩٥م كانت العلاقات بين الصينَين قد اتسعت بشكل كبير، كما بدأت علاقات الكوريتَين تتطور. احتمال أن يحارب الكوريون الكوريين قائم ولكنه ضعيف. احتمالات أن يحارب الصينيون الصينيين أعلى من ذلك، ولكنها ما تزال محدودة إلا إذا تخلى التايوانيون عن هويتهم الصينية وأقاموا جمهورية تايوانية مستقلة. كما تستحسن وثيقة عسكرية صينية مقولة أحد الجنرالات وتقتبسها: «لا بد أن تكون هناك حدود للقتال بين أعضاء الأسرة الواحدة.»18 وبينما يظل العنف بين الكوريتَين أو الصينَين واردًا، فإن العوامل المشتركة من المرجح أن تزيل تلك الإمكانية بمرور الوقت. في شرق آسيا، الصراعات الموروثة عن الحرب الباردة تُضاف إليها وتحل محلَّها صراعات أخرى ممكنة تعكس المنافسات القديمة والعلاقات الاقتصادية الجديدة. تحليلات الأمن الشرق آسيوي في أوائل التسعينيات كانت تشير إلى آسيا بانتظام على أنها «جوار خطر»، «جاهزة للخصومة»، «منطقة حروب باردة كثيرة»، «منطلقة نحو المستقبل»، حيث يمكن أن تسود فيها الحرب وعدم الاستقرار.19 وعلى عكس أوروبا الغربية أيضًا، وُجِدَت في التسعينيات في شرق آسيا نزاعات إقليمية لم تُحل، أهمها تلك التي بين روسيا واليابان على الجزر الشمالية، وبين الصين واليابان، وبين فيتنام والفلبين، وربما دول أخرى جنوب شرقي آسيا على بحر الصين الشمالي. خلافات الحدود بين الصين من جانب وروسيا والهند من جانب آخر، خمدت في منتصف التسعينيات ولكنها قد تعود إلى السطح مثلما قد يحدث للمطالبات الصينية في منغوليا.
حركات التمرد أو الانفصال المدعومة في معظم الأحوال من الخارج، موجودة في «مانداناو» و«تيمور الشرقية» و«التبت» و«تايلاند الجنوبية» و«ميانمار الشرقية». وبينما كان يُوجَد سلام بين الدول في آسيا في منتصف التسعينيات، إلا أن الخمسين سنة السابقة شهدت حروبًا رئيسية في كوريا وفيتنام، بالإضافة إلى أن القوة الرئيسية في آسيا وهي الصين، قد حاربت الأمريكيين إلى جانب جميع جيرانها تقريبًا بما فيهم الكوريون والفيتناميون والصينيون الوطنيون والهنود والتبت والروس. في سنة ١٩٩٣م حدد تحليل عسكري صيني ثماني مناطق كنقاطٍ ساخنة تهدد الأمن العسكري الصيني، واستنتجت اللجنة العسكرية المركزية الصينية أن المستقبل الأمني المتوقع في شرق آسيا كان يبدو «قاتمًا جدًّا». بعد قرون من النزاع، تشعر أوروبا الغربية بالسلام، وأن الحرب غير واردة. ولكن الأمر ليس كذلك في شرق آسيا، وكما يقول «آرون فرايد بيرج»: «ماضي أوروبا قد يُصبح مستقبل آسيا.»20

القوة الاقتصادية المحركة ونزاعات الأراضي والخصومات الناشئة وعدم الاستقرار السياسي، كل ذلك يؤدي إلى زيادات ملحوظة في الميزانيات والإمكانيات العسكرية في شرق آسيا في الثمانينيات والتسعينيات. مستغلة الثروة الجديدة، وفي حالات كثيرة القوى البشرية الجيدة التعليم، تحركت الحكومات في شرق آسيا لإحلال قواتٍ عسكرية أصغر حجمًا وأكثر احترافًا وتجهيزًا بمعداتٍ تكنولوجية متقدمة، محل جيوش «الفلاحين» الكبيرة الرديئة التجهيز. ومع تزايد الشكوك بخصوص الالتزام الأمريكي في شرق آسيا، تسعى الدول لأن تكون معتمدةً على نفسها عسكريًّا. وبينما واصلت دول شرق آسيا استيراد كمياتٍ ضخمة من الأسلحة من أوروبا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، إلا أنها تُعطي أفضلية لاستيراد التكنولوجيا التي تمكنهم من إنتاج طائرات مُتقدمة وصواريخ ومعدات إلكترونية في بلادهم.

اليابان والدول الصينية (الصين – تايوان – سنغافورة – كوريا الشمالية) لديها صناعة أسلحة متقدمة تتطوَّر باستمرار، ومع وضع الجغرافيا الساحلية لشرق آسيا في الاعتبار، يصبح تركيزهم على إبراز القوة والإمكانيات الجوية والبحرية، ونتيجة لذلك فإن الدول التي كانت في الماضي غير قادرة على قتال بعضها الآخر، أصبحت قادرة على ذلك وبشكلٍ متزايد. هذه التعزيزات العسكرية تنطوي على قدْر كبير من عدم الوضوح، وبالتالي فإنها خلقت المزيد من الشك والقلق.21

وفي موقف تغير علاقات القوى، تتساءل كل حكومة بالضرورة وبشكل مشروع: من سيكون عدوِّي بعد عشر سنوات من الآن؟ ومن سيكون صديقي إن كان هناك أحد؟

(٤) الحروب الآسيوية-الأمريكية الباردة

في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات كانت العلاقات بين الولايات المتحدة والدول الآسيوية، بصرف النظر عن فيتنام، قد أصبحت عدائية بشكلٍ متزايد، وتدهورت قدرة الولايات المتحدة على الفوز في تلك الخلافات. هذه التوجهات كانت متأثرةً على نحوٍ ما بالقوى الرئيسية في شرق آسيا والعلاقات الأمريكية بالصين واليايان التي تدور على امتداد مساراتٍ متوازية. كان الأمريكيون من جهة. والصينيون واليابانيون من جهةٍ أخرى يتكلَّمون عن حروب باردة تدور بين بلادهم.22 هذه التوجهات المتزامنة بدأت في عهد إدارة «بوش» وتصاعدت في عهد إدارة «كلينتون». وفي منتصف التسعينيات كانت العلاقات الأمريكية بكل من القوتَين الآسيويتَين الرئيسيتَين توصف على أحسن تقدير بأنها «متوترة»، وكان التوقع ضعيفًا بأن تكون أقل توترًا.٢

في بداية التسعينيات، أصبحت العلاقات اليابانية الأمريكية ساخنة بدرجة متزايدة بسبب الخلاف حول عددٍ كبير من القضايا: بما فيها دور اليابان في حرب الخليج والوجود العسكري الأمريكي في اليابان ومواقف اليابان حول سياسات حقوق الإنسان في الصين وغيرها من الدول، ومساهمات اليابان في حفظ السلام … والأهم من ذلك العلاقات الاقتصادية، والتجارة على نحو خاص.

الإشارات إلى حروب التجارة أصبحت شائعة.23 المسئولون الأمريكيون خاصة في إدارة «كلينتون» كانوا يطلبون من اليابان تنازلات أكثر وأكثر، وكان المسئولون اليابانيون يقاومون مطالبهم بقوة أكثر وأكثر. كل خلاف تجاري بين أمريكا واليابان كان أكثر عنفًا من سابقه وأصعب في حله. في مارس ١٩٩٤م مثلًا وقَّع الرئيس «كلينتون» قرارًا يمنحه سلطات توقيع عقوباتٍ تجارية أشد على اليابان، الأمر الذي لقِيَ معارضة، لا من اليابانيين فقط، وإنما من رئيس اﻟ GATT المنظمة التجارية العالمية الرئيسية. بعد وقت قصير ردت اليابان ﺑ «هجوم لاذع» على سياسات الولايات المتحدة، وبعد ذلك بوقتٍ قصير أيضًا «اتهمت» الولايات المتحدة «اليابان رسميًّا» بالتمييز ضد الشركات الأمريكية في منح العقود الحكومية. وفي ربيع ١٩٩٥م هددت إدارة «كلينتون» بفرض تعريفة جمركية ١٠٠٪ على السيارات اليابانية الفاخرة، ثم تم التوصل إلى اتفاق حالَ دون اللجوء إلى ذلك قبل تنفيذ العقوبات. من الواضح أن شيئًا أشبَهَ بالحرب التجارية كان يدور بين الدولتَين، وبمنتصف التسعينيات كانت الحدة قد وصلت بينهما لدرجة أن القيادات السياسية اليابانية بدأت تُناقش مسألة الوجود العسكري الأمريكي في اليابان. خلال تلك السنوات كان الشعب في كِلا البلدَين قد أصبح أقلَّ ميلًا نحو الآخر. في سنة ١٩٨٥م كان ٨٧٪ من الأمريكيين يقولون إنهم يشعرون باتجاه ودِّي نحو اليابان، وفي سنة ١٩٩٠م هبطت تلك النسبة إلى ٦٧٪، وفي ١٩٩٣م كان ٥٠٪ فقط هم الذين يُكنون مشاعر ودِّية لها، كما قال ما يقرُب من الثلثين إنهم يحاولون تجنُّب شراء المنتجات اليابانية. في ١٩٨٥ كان حوالي ٧٣٪ من اليابانيين يصفون العلاقات مع الولايات المتحدة بأنها ودية، وفي ١٩٩٣م قال ٦٤٪ إنها غير ودية. عام ١٩٩١م كان نقطة التحول الحاسمة في خروج الرأي العام من قبر الحرب الباردة. في هذا العام كانت كل دولة تُسقِط الاتحاد السوفيتي على تصوُّرها عن الآخر. لأول مرة وضعت الولايات المتحدة اليابان في مرتبةٍ متقدمة كخطرٍ على الأمن الأمريكي، ولأول مرة كان اليابانيون يضعون الولايات المتحدة قبل الاتحاد السوفيتي كخطرٍ على أمن اليابان.24 كانت التغيرات في التوجهات العامة متناسبةً مع التغيرات في تصورات النخبة. في الولايات المتحدة ظهرت مجموعة كبيرة من المراجعين الأكاديميين والمثقفين والسياسيين لتؤكد على الاختلافات بين الدولتَين، وعلى ضرورة أن تأخذ الولايات المتحدة خطًّا أكثر تشددًا في التعامُل مع اليابان في القضايا الاقتصادية. صورة اليابان في الإعلام والكتابات والروايات الشعبية أصبحت ازدرائية بدرجةٍ كبيرة. وبشكل موازٍ، ظهر في اليابان جيل جديد من القيادات السياسية لم يكن قد خبر القوة الأمريكية في الحرب العالمية الثانية ومساعداتها بعدها، جيل يزهو بالنجاح الاقتصادي الياباني، مُستعد لمقاومة المطالب الأمريكية بأساليب لم يستخدِمها الكبار. هؤلاء «القادمون» اليابانيون كانوا هم «نظراء» «المراجعين» الأمريكيين، وفي كِلا البلدَين كان المرشحون يجدون أن تبني خطٍّ متشدد في القضايا التي تؤثر على العلاقات اليابانية الأمريكية يحقق آثارًا جيدة مع الناخبين. في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات أصبحت علاقات الولايات المتحدة مع الصين عدائية أيضًا. وكما قال «دنج زياوبنج» في سبتمبر ١٩٩١م إن الصراعات بينهما كانت بمثابة «حرب باردة جديدة»، وهي عبارة كانت تتردد كثيرًا في الصحافة الصينية. في أغسطس ١٩٩٥م أعلنت وكالة الصحافة الحكومية أن «العلاقات الصينية الأمريكية وصلت إلى أدنى مستوًى لها منذ أن أقام البلدان علاقات دبلوماسية في ١٩٧٩م.» المسئولون الصينيون كانوا بانتظام يستنكرون التدخل المزعوم في الشئون الصينية. تقول وثيقة صينية رسمية في سنة ١٩٩٢م: «منذ أن أصبحت هي القوة العظمى الوحيدة، تتطلع الولايات المتحدة بشدة نحو هيمنة جديدة وسياسة قوة، وإن قدرتها على ذلك تتدهور نسبيًّا ولذلك هناك حدود لما يمكنها أن تقوم به.»
وفي أغسطس ١٩٩٥م قال الرئيس «جيانج ريمن»: «إن القوى الغربية المعادية لم تتخلَّ للحظة واحدة عن خطتها لتغريب و«تقسيم» وطننا.» وفي سنة ١٩٩٥م كان هناك إجماع عريض بين القادة والباحثين الصينيين على أن الولايات المتحدة كانت تحاول أن «تقسم الصين إقليميًّا وتخربها سياسيًّا وتحتويها استراتيجيا وتحبطها اقتصاديًّا.»25 وكانت هناك دلائل على كل تلك الاتهامات. الولايات المتحدة سمحت للرئيس التايواني «لي» أن يأتي إلى الولايات المتحدة كما باعت ١٥٠ طائرة F-16 ﻟ «تايوان»، وأعلنت التبت «منطقة محتلة ذات سيادة» واتهمت الصين بانتهاك حقوق الإنسان، وحرمت الصين من تنظيم دورة الألعاب الأوليمبية سنة ٢٠٠٠، وطبَّعت العلاقات مع فيتنام، واتهمت الصين بتصدير مكونات الأسلحة الكيماوية إلى إيران، وفرضت عقوبات تجارية عليها لبيعها معدات الصواريخ لباكستان، وهددتها بعقوبات اقتصادية إضافية، وفي نفس الوقت حالت دون دخولها إلى منظمة التجارة العالمية WTO.
كلا الجانبين كان يتهم الآخر بسوء النية: الصين كما يقول الأمريكيون أَخَلَّتْ بالتفاهم حول تصدير الصواريخ وحقوق الملكية الفكرية والأعمال الشاقة في السجون، والولايات المتحدة كما يقول الصينيون أخَلَّتْ بالاتفاق بسماحها للرئيس «لي» بزيارة الولايات المتحدة وبيع طائرات مقاتلة متقدمة ﻟ «تايوان». العسكر في الصين كانوا أشد الجماعات عداءً للولايات المتحدة ويبدو أنهم كانوا يضغطون على الحكومة باستمرار لكي تتخذ خطًّا أكثر تشددًا معها. في يونيو ١٩٩٣م وجه مائة جنرال صيني رسالة إلى «دنج» يحتجون على السياسة السلبية للحكومة تجاه الولايات المتحدة وفشلها في التصدي لمحاولاتها ابتزاز الصين. وفي خريف نفس العام لخصت وثيقة حكومية صينية سرية أسباب صراع العسكر في الولايات المتحدة: «لأن الصين والولايات المتحدة بينهما صراعات طويلة حول أيديولوجياتهما وأنظمتهما الاجتماعية وسياساتهما الخارجية المختلفة سيكون من المستحيل أن تتحسَّن العلاقات الصينية الأمريكية بشكلٍ أساسي.» وطالما أن الأمريكيين يعتقدون أن شرق آسيا سيصبح «قلب الاقتصاد العالمي»، فإن الولايات المتحدة لن تسمح بقوة مناوئة في شرق آسيا.26

وبمنتصف التسعينيات كان المسئولون الصينيون الرسميون والسلطات يصورون الولايات المتحدة كقوة معادية بشكل روتيني. العداء المتزايد بين الصين والولايات المتحدة كان مدفوعًا في جزءٍ منه بالسياسة الداخلية في كل من البلدَين، وكان الرأي العام الأمريكي منقسمًا تمامًا كما كان الحال بالنسبة لليابان. كثير من رجال المؤسسة كانوا إلى جانب الاتصال البَنَّاء بالصين وتوسيع العلاقات الاقتصادية، وجر الصين إلى ما يُسمى بمجتمع الدول. بينما كان آخرون يؤكدون على التهديد الصيني المحتمل للمصالح الأمريكية ويقولون إن التحركات التنازلية نحو الصين جاءت بنتائج عكسية، ويحثون على سياسة احتواء حازمة. في سنة ١٩٩٣م كان الشعب الأمريكي يضع الصين بعد إيران مباشرة كأكبر خطرٍ على الولايات المتحدة. السياسة الأمريكية كانت تقوم دائمًا بلمحات رمزية تغضب الصينيين مثل زيارة «لي» إلى «كورنل» ولقاء «كلينتون» ﺑ «الدالاي لاما»، وفي نفس الوقت تجعل الإدارة تضحي باعتبارات حقوق الإنسان من أجل المصالح الاقتصادية مثل تمديد معاملة الصين كدولة أولى بالرعاية. على الجانب الصيني كانت الحكومة تحتاج إلى عدوٍ جديد لكي تُصَلِّب ميولها نحو القومية الصينية وتُعطي قوة لشرعيتها. وحيث إن الصراع استمر وطال أمده، ظهر النفوذ السياسي للعسكر بشكلٍ واضح ولم يستطع الرئيس «جيانج» والمتنافسون الآخرون على السلطة بعد «دنج» أن يتقاعسوا عن متابعة المصالح الصينية.

وهكذا، على مدى عقد من الزمن، «تدهورت» العلاقات الأمريكية مع كل من اليابان والصين. التحول في العلاقات الآسيوية الأمريكية كان عريضًا، وشمل مجالات وقضايا كثيرة مختلفة، لدرجةٍ يبدو من الصعب معها أن نجد أسبابه في صراعات مصالح مفردة حول قطع غيار السيارات أو بيع آلات التصوير أو القواعد العسكرية من جانب، أو سجن المنشقين ونقل الأسلحة والقرصنة الفكرية من جانب آخر.

بالإضافة إلى ذلك، من الواضح أنه كان ضد مصالح أمريكا الوطنية أن تترك علاقاتها لتُصبح أكثر صراعًا مع القوتَين الآسيويتَين الرئيستين في وقتٍ واحد. القواعد الأولية للدبلوماسية وسياسة القوة تملي على الولايات المتحدة بأن تحاول أن تُوقِعَ إحداهما ضد الأخرى لتحسين العلاقة مع إحداهما إذا أصبحتا مُتصارعتَين، إلا أن ذلك لم يحدث. كانت هناك عوامل أبعد لتوسع الصراع في العلاقات الآسيوية الأمريكية وتزيد من صعوبة حل المشاكل الفردية التي ظهرت في هذه العلاقة. هذه الظاهرة العامة لها أيضًا أسباب عامة:
  • أولًا: زيادة التفاعل بين المجتمعات الآسيوية والولايات المتحدة التي أخذت شكل اتصالات واسعة وتجارة واستثمار ومعرفة الآخر، ضاعفت من القضايا والموضوعات التي يمكن أن تتصادم فيها المصالح … وقد حدث. هذا التفاعل المتزايد جعل تهديد ممارسات ومعتقدات كل من المجتمعين المتباعدين للآخر يبدو غريبًا وغير ضار.
  • ثانيًا: التهديد السوفيتي في الخمسينيات أدى إلى معاهدة للأمن المتبادل بين الولايات المتحدة واليابان. نمو القوة السوفيتية في السبعينيات أدى إلى إقامة علاقات دبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين في ١٩٧٩م، وإلى تعاون خاص بين الدولتَين لتنمية مصالحهما المشتركة في تحييد ذلك التهديد. انتهاء الحرب الباردة أزال هذا الصالح المشترك بين الولايات المتحدة والقوى الآسيوية ولم يترك شيئًا في مكانه، وبالتالي برزت إلى المواجهة قضايا أخرى يوجد فيها تعارُض مصالح واضح.
  • ثالثًا: النمو الاقتصادي للدول الشرق آسيوية غَيَّرَ ميزان القوى الشامل بينها وبين الولايات المتحدة. والآسيويون كما رأينا راحوا يؤكدون بشكل متزايد صلاحية قِيَمهم ومؤسساتهم وتفوق ثقافاتهم على الثقافة الغربية. من الناحية الأخرى أصبح الأمريكيون خاصة بعد انتصارهم في الحرب الباردة، يميلون إلى افتراض أن قيمهم ومؤسساتهم صالحة عالميًّا، وأنهم ما زالوا يمتلكون القوة لتشكيل السياسات الخارجية والداخلية للمجتمعات الآسيوية.
هذه البيئة العالمية المتغيرة دفعت إلى الواجهة بالفروق الثقافية الأساسية بين الحضارتين الآسيوية والأمريكية. وعلى المستوى الأوسع، فإن الروح الكونفوشية المتغلغلة في المجتمعات الآسيوية تؤكد على قِيَم السلطة، والتسلسل الهرمي وتابعية الحقوق والمصالح الفردية، وأهمية الإجماع، وتحاشي المواجهة، و«حفظ ماء الوجه»، وبشكل عام: سيادة الدولة على المجتمع، والمجتمع على الفرد. هذا بالإضافة إلى أن الآسيويين يميلون إلى التفكير في تطوير مجتمعاتهم بالقرون وبألوف السنين، ويعطون أوليةً لتعظيم المكاسب البعيدة المدى. هذه التوجهات تتعارض مع سيادة الحرية والمساواة والديمقراطية والفردانية في المعتقدات الأمريكية، ومع الميل الأمريكي لعدم الثقة بالحكومات ومعارضة السلطة وتنمية الشيكات والحسابات وتشجيع المنافسة وتقديس حقوق الإنسان ونسيان الماضي وتجاهل المستقبل والتركيز على المكاسب الآنية. مصادر الصراع هذه موجودة في الاختلافات الأساسية في المجتمع والثقافة وهذه الاختلافات لها نتائج مُعينة بالنسبة للعلاقات بين الولايات المتحدة والمجتمعات الآسيوية الرئيسية. السياسيون بذلوا جهودًا فائقة لحل الصراعات الأمريكية مع اليابان حول القضايا الاقتصادية، خاصة الفائض التجاري الياباني ومقاومة اليابان للمنتجات والاستثمارات الأمريكية. المفاوضات اليابانية الأمريكية بخصوص التجارة كانت تحمل كثيرًا من سمات المفاوضات السوفيتية الأمريكية بخصوص السلاح أثناء الحرب الباردة. واعتبارًا من ١٩٩٥م حققت المفاوضات الأولى نتائج أقل من الأخيرة لأن الصراعات تنبع من اختلافات أساسية في النظامين الاقتصاديين، وخاصة الطبيعة الفريدة للاقتصاد الياباني بين أنظمة الدول الصناعية الكبرى. واردات اليابان من السلع المصنعة وصلت إلى حوالي ٣٫١٪ من مجمل نتاجها القومي مقارنة بمتوسط ٧٫٤٪ من GDP مقارنة ﺑ ٢٨٫٦٪ لدى الولايات المتحدة و٣٨٫٥٪ لدى أوروبا. وفي أوائل التسعينيات كانت اليابان هي الدولة الوحيدة بين الدول الصناعية الكبرى التي لديها فائض في الميزانية.27 وبشكل عام فإن الاقتصاد الياباني لم يعمل بالطريقة التي تمليها القوانين العالمية المفترضة للأنظمة الاقتصادية الأوروبية. الافتراض السهل لدى الاقتصاديين الغربيين في الثمانينيات بأن تخفيض قيمة الدولار سوف يؤدي إلى تخفيض الفائض التجاري قد ثبت خطؤه. وبينما عالج اتفاق «بلازا» في ١٩٨٥م العجز التجاري الأمريكي مع أوروبا، إلا أن أثره كان ضعيفًا بالنسبة للعجز مع اليابان، فقد وصل الين إلى أقل من واحد على مائة من الدولار، بينما ظل الفائض التجاري الياباني عاليًا، بل إنه زاد. وعليه كان اليابانيون قادرين على الاحتفاظ بعملية قوية وبفائض تجاري. التفكير الاقتصادي الغربي يتجه إلى وضع تناوب تجاري سلبي بين البطالة والتضخم، بمعدل بطالة يصل إلى أقل من ٥٪ بغرض إطلاق العنان للضغوط التضخمية، إلا أن نسبة البطالة في اليابان ولعدة سنوات كانت تصل إلى أقل من ٣٪، ونسبة التضخم إلى حوالي ١٫٥٪ وبحلول التسعينيات كان كل من الاقتصاديين الأمريكيين واليابانيين قد أصبحوا يدركون ويفهمون الاختلافات الرئيسية بين هذين النظامَين الاقتصاديين.
المستوى المنخفض بدرجةٍ لا مثيل لها لواردات اليابان من السلع المصنعة كما استنتجت دراسة دقيقة: «لا يمكن تفسيره من خلال عوامل اقتصادية معيارية.» «الاقتصاد الياباني لا يتبع المنطق الغربي.» ويقول محلل آخر: «مهما قال المتنبئون الغربيون … للسبب البسيط … وهو أنه ليس اقتصاد سوق حرة غربيًّا، اليابانيون اخترعوا نظامًا اقتصاديًّا يعمل بأساليب تربك قوى التنبؤ لدى المراقبين الغربيين.»28 ما الذي يفسر الطبيعة المائزة للاقتصاد الياباني؟ الاقتصاد الياباني فريد ولا مثيل له بين الدول الصناعية الرئيسية لأن المجتمع الياباني ليس غربيًّا. المجتمع الياباني والثقافة اليابانية مختلفان عن المجتمع والثقافة الأمريكيين. وهذه الاختلافات تبرز في كل تحليل مقارن جاد لليابان وأمريكا.29 وحل القضايا الاقتصادية بين اليابان والولايات المتحدة يعتمد على تغيرات أساسية في طبيعة اقتصاد أحدهما أو فيهما معًا، والذي يتوقف بالتالي على تغيرات أساسية في المجتمع والثقافة في كل دولة منهما أو فيهما معًا. هذه التغيرات ليست مستحيلة، فالمجتمعات والثقافات تتغير بالفعل، وهذا قد ينتج عن حدث سياسي صادم:

الهزيمة الساحقة في الحرب العالمية الثانية حولت دولتين من أكبر الدول العسكرية في العالم إلى دولتَين من أكبر الدول سلامية. إلا أنه يبدو من غير المرجح أن تفرض الولايات المتحدة أو اليابان هيروشيما اقتصادية على الآخر. النمو الاقتصادي أيضًا يمكن أن يغير البنية الاجتماعية في مجتمعٍ ما ويغير ثقافته تغييرًا عميقًا، كما حدث في إسبانيا بين أوائل الخمسينيات وأواخر السبعينيات. وربما تستطيع الثروة الاقتصادية أن تجعل من اليابان مجتمعًا أكثر شبهًا بأمريكا وذا توجهٍ استهلاكي. في أواخر الثمانينيات كان الشعب في كل من اليابان وأمريكا يقول إن بلدَه لا بد أن يُصبح مثل الآخر. وبشكل محدد، كانت الاتفاقية اليابانية الأمريكية بخصوص «مبادرات معوقات البنية» بهدف تنمية هذا التلاقي. ولكن فشل ذلك وغيره من المساعي المشابهة يشهد على تجذُّر الاختلافات الاقتصادية في ثقافة المجتمعين. وبينما الصراعات بين الولايات المتحدة وآسيا لها مصادرها في الاختلافات الثقافية، إلا أن نتائج هذه الصراعات عكست علاقات القوة المتغيرة بين الولايات المتحدة وآسيا.

الولايات المتحدة سجلت بعض الانتصارات في هذه الصراعات، ولكن الاتجاه كان آسيويًّا، والتغير في القوة صَعَّدَ الصراعات لدرجةٍ أبعد. الولايات المتحدة كانت تتوقع أن تقبل الحكومات الآسيوية بها زعيمًا «للمجتمع الدولي» وأن تنصاع لتطبيق المبادئ والقيم الغربية على مجتمعاتها. الآسيويون من الجانب الآخر — كما قال وزير الدولة المساعد «ونستون لورد» — كانوا «على وعيٍ متزايد بإنجازاتهم وفخورين بها.» «يتوقعون أن يُعامَلوا كأندادٍ ويميلون إلى اعتبار الولايات المتحدة «مِعْزَاة عالمية إن لم تكن بقرة».» ومع ذلك تفرض الاحتياجات العميقة في داخل الثقافة الأمريكية على الولايات المتحدة أن تكون «مِعْزَاة» على الأقل في الشئون الدولية إن لم تكن «بقرة»، ونتيجة لذلك كانت التوقعات الأمريكية مفارقة للتوقعات الآسيوية وبدرجة متزايدة.

القادة اليابانيون وغيرهم من الآسيويين تعلموا أن يقولوا «لا» لنظرائهم الأمريكيين في عددٍ كبير من القضايا. وكانت تُقال أحيانًا بالصيغة الآسيوية المهذبة «للانصراف». وربما كانت نقطة التحول الرمزية في العلاقات الأمريكية الآسيوية هي ما أسماه أحد كبار المسئولين اليابانيين ﺑ «أول أكبر تحكم لقطار» في العلاقات الأمريكية اليابانية، والذي حدث في فبراير ١٩٩٤م عندما رفض رئيس الوزراء «موريهيرو هو زوجاوا» طلب الرئيس «كلينتون» تروسًا رقمية للواردات اليابانية من السلع المصنعة. وعلق مسئول ياباني آخر: «لم نكن نتصور شيئًا كذلك يحدث حتى منذ عام مضى»، وبعد عام أكد وزير خارجية اليابان هذا التغيير قائلًا إنه في حقبة تنافس اقتصادي بين الدول والمناطق، مصلحة اليابان القومية أهم بكثيرٍ من «مجرد هوية» كعضو في الغرب.30

التكيف الأمريكي التدريجي مع ميزان القوى المتغير، انعكس في السياسة الأمريكية تجاه آسيا في التسعينيات.

  • أولًا: بعد أن سلمت بأنها فعلًا قد فقدت الرغبة و/أو القدرة على الضغط على المجتمعات الآسيوية، فصلت الولايات المتحدة المجالات التي يمكن أن تمارس ضغطًا فيها، عن المجالات التي تواجه فيها صراعًا. ورغم أن «كلينتون» وضع وأعلن حقوق الإنسان على رأس أوليات السياسة الخارجية بالنسبة للصين، إلا انه رضخ لضغوط رجال الأعمال الأمريكيين والتايوانيين وغيرهم للفصل بين حقوق الإنسان والقضايا الاقتصادية وتجنب استخدام تمديد حالة الدولة الأولى بالرعاية كوسيلة للتأثير على السلوك الصيني تجاه المنشقين السياسيين عليها.

    وفي خطوة موازية، فصلت الإدارة بكل وضوح سياسة الأمن بالنسبة لليابان وهي المجال الذي كان من المفترض أن تمارس ضغطًا فيه، عن قضية التجارة وقضايا اقتصادية أخرى كانت علاقتها باليابان بخصوصها أكثر صراعًا. وهكذا سَلَّمَت الولايات المتحدة الأسلحة التي كان يمكن أن تستخدمها من أجل متابعة حقوق الإنسان في الصين والحصول على تنازلات تجارية من اليابان.

  • ثانيًا: انتهجت الولايات المتحدة وبشكل متكرر مسارًا لتبادلية امتيازات متوقعة مع الدول الآسيوية، فقدمت تنازلات مُتَوقِّعة أن ذلك سوف يؤدي بدوره إلى تنازلات من جانب الآسيويين. هذا المسار كان غالبًا ما يتم تبريره بالإشارة إلى الحاجة إلى الحفاظ على «ارتباط بَنَّاء» أو «حوار» مع الدولة الآسيوية. وأكثر من مرة كانت الدولة الآسيوية تفسر التنازلات على أنها علامة ضعف أمريكي، ومن هنا يمكنها أن تستمر في رفض المطالب الأمريكية. هذا الأسلوب كان ملحوظًا على نحو خاص مع الصين التي استجابت لفصل أمريكا حالة الدولة الأولى بالرعاية، بجولة واسعة من انتهاك حقوق الإنسان.

    وبسبب الولع الأمريكي للتوحيد بين العلاقات «الجيدة» والعلاقات «الودية» أصبحت الولايات المتحدة في وضع سيئ في المنافسة مع المجتمعات الآسيوية التي لا توحد بين العلاقات «الجيدة» وتلك التي تحقق لهم انتصارات. وبالنسبة للآسيويين، فإن التنازلات الأمريكية لا يجب أن يتم الرد عليها بمثلها … بل يجب استغلالها.

  • ثالثًا: الأسلوب الذي تم اتباعه في الصراعات الأمريكية اليابانية المتواترة على القضايا التجارية، والذي يجعل الولايات المتحدة تقدم مطالب لليابان وتهدد بفرض عقوبات عليها إن هي لم تف بها. مفاوضات طويلة قد تبدأ، وفي آخر لحظة قبل البدء في تنفيذ العقوبات يعلن عن الوصول إلى اتفاق. وكانت الاتفاقات بشكل عام تصاغ بعبارات غامضة بحيث تستطيع الولايات المتحدة أن تدعي انتصارًا من ناحية المبدأ، واليابانيون يمكنهم أن يستخدموا أو لا يستخدموا الاتفاق كما يحلو لهم ويسير كل شيءٍ مثلما كان من قبل. وبنفس الأسلوب، قد يوافق الصينيون، بتردُّد، على بعض عبارات حول مبادئ عريضة تتعلق بحقوق الإنسان والملكية الفكرية أو نشر الأسلحة … لمجرد فهمها على نحوٍ مختلف ومواصلة سياساتها السابقة. هذه الاختلافات في الثقافة وميزان القوى المتغير بين آسيا وأمريكا، شجعت المجتمعات الآسيوية أن يدعم بعضها البعض في صراعها ضد الولايات المتحدة. في سنة ١٩٩٤م مثلًا تجمعت كل الدول الآسيوية بالفعل (من أستراليا إلى ماليزيا إلى كوريا الجنوبية) خلف اليابان في رفضها للمطلب الأمريكي لتروس رقمية للواردات. وفي نفس الوقت حدث تجمع مماثل لصالح معاملة الصين كدولةٍ أَولى بالرعاية، كان في مقدمته رئيس وزراء اليابان «هوزوجاوا» وهو يقول إن المفاهيم الغربية لحقوق الإنسان لا يمكن أن «تطبق بعماء» على آسيا، و«لي كوان يو» رئيس وزراء سنغافورة وهو يحذر بأن الولايات المتحدة إذا ضغطت على الصين «فسوف تجد نفسها وحيدة تمامًا كما في الباسيفيك.»31 وفي استعراض آخر للتضامن تجمع الآسيويون والأفارقة وراء اليابانيين لدعم إعادة انتخاب رئيس منظمة الصحة العالمية الياباني ضد معارضة الغرب. كما دعمت اليابان مرشحًا من كوريا الجنوبية لرئاسة منظمة التجارة العالمية ضد المرشح الأمريكي «كارلوس ساليناس»، رئيس المكسيك السابق.

كما يوضح السجل بجلاء أنه بحلول التسعينيات كانت كل دولة في شرق آسيا تشعر أن بينها وبين دول شرق آسيا الأخرى عوامل مشتركة كثيرة بالنسبة للقضايا الباسيفيكية، أكثر مما بينها وبين الولايات المتحدة.

انتهاء الحرب الباردة وزيادة التداخل بين آسيا وأمريكا، التدهور النسبي في القوة الأمريكية … كل ذلك أبرز إلى السطح صدام الثقافات بين الولايات المتحدة واليابان والمجتمعات الآسيوية الأخرى، ومَكَّنَ الأخيرة من مقاومة الضغط الأمريكي. صعود الصين كان يمثل تحديًا أهمَّ بالنسبة للولايات المتحدة. صراعات الولايات المتحدة مع الصين كانت تغطي قضايا في مجالات أوسع عنها مع اليابان بما فيها المسائل الاقتصادية وحقوق الإنسان والتبت وتايوان وبحر الصين الجنوبي ونشر الأسلحة. الولايات المتحدة والصين، لا يوجد بينهما أهداف مشتركة في أي قضية أساسية تقريبًا. الاختلافات تمتدُّ عبر الحدود. وكما هو الأمر مع اليابان، فإن هذه الصراعات — في جزء كبير منها — مُتجذرة في الثقافتين المختلفتين للمجتمعين. الصراعات بين الولايات المتحدة والصين على أية حال، تضمنت كذلك قضايا أساسية تتعلق بالقوة. الصين غير مُستعدة لقبول زعامة أو هيمنة أمريكية في العالم، والولايات المتحدة غير مستعدة لقبول زعامة أو هيمنة صينية في آسيا. على مدى أكثر من مائتي عام، حاولت الولايات المتحدة أن تمنع انبثاق قوة مسيطرة بالكامل في أوروبا، وعلى مدى مائة عام تقريبًا وبدءًا من سياسة «الباب المفتوح» تجاه الصين، حاولت أن تفعل الشيء نفسه في شرق آسيا. ولتحقيق هذه الأهداف خاضت حربَين عالميتَين وحربًا باردة ضد ألمانيا الإمبراطورية، وألمانيا النازية، واليابان، والاتحاد السوفيتي، والصين الشيوعية. هذه المصلحة الأمريكية تظل كما هي، وقد أكدها الرئيسان «ريجان» و«بوش». إن انبثاق الصين كقوةٍ مسيطرة في شرق آسيا لو استمر، فإنه يشكل تحديًا لهذه المصلحة الأمريكية الرئيسية. السبب الرئيسي للصراع بين أمريكا والصين هو اختلافهما الأساسي حول ما ينبغي أن يكون عليه مستقبل توازن القوى في شرق آسيا.

(٥) الهيمنة الصينية: التوازن والالتحاق بالركب

تستطيع آسيا بما فيها من ست حضارات، وثماني عشرة دولة وأنظمة اقتصادية سريعة النمو، واختلافات سياسية واقتصادية واجتماعية جوهرية بين المجتمعات، أن تُطَوِّرَ أي شكل من الأشكال العديدة في العلاقات الدولية في أوائل القرن الواحد والعشرين. من المتصور أن تظهر مجموعة من العلاقات التعاونية والمتصارعة الشديدة التعقيد، تضم معظم القوى الكبرى والقوى ذات المستوى المتوسط في المنطقة. أو قد تتشكل قوة رئيسية ونظام دول متعدد الأقطاب ليضم الصين واليابان والولايات المتحدة وروسيا وربما الهند الذين يتوازنون ويتنافسون بعضهم مع بعض. أو بشكل آخر يمكن أن تسود السياسة الشرق آسيوية منافسة مستمرة ثنائية القطب بين الصين واليابان، أو بين الصين والولايات المتحدة مع دول أخرى تنحاز إلى جانب أو آخر أو تختار سياسة عدم الانحياز. أو ربما عادت السياسة الشرق آسيوية إلى شكلها التقليدي ذي القطب الواحد مع تسلسل قوة حول «بكين». إذا حافظت الصين على مستوياتها العالية من النمو الاقتصادي في القرن الواحد والعشرين، وعلى وحدتها في حقبة ما بعد «دنج»، وإذا لم تعقْها صراعات مستمرة، فمن المرجح أن تحاول تحقيق آخر هذه النتائج. ونجاحها يتوقف على ردود أفعال اللاعبين الآخرين في لعبة سياسة القوة في شرق آسيا.

تاريخ الصين، ثقافتها، تقاليدها، حجمها، قواها المحركة اقتصاديًّا، صورتها عن نفسها … كل ذلك يجبرها على اتخاذ وضع هيمنة في شرق آسيا، وهذا الهدف نتيجة طبيعية لنموها الاقتصادي السريع. كل القوى الرئيسية الأخرى: بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تورَّطت في توسع خارجي وتوكيد واستعمار، وقد تواكب ذلك مع السنوات التي مرت فيها بنمو اقتصادي وصناعي سريع، أو بعدها. ولا يوجد سبب يدعونا للاعتقاد أن امتلاك قوة اقتصادية وعسكرية لن تكون له آثار مماثلة بالنسبة للصين. على مدى ألفي عام، كانت الصين هي القوة المتفوقة في شرق آسيا. والصينيون يؤكدون الآن، وبشكل متزايد، نيتهم على استئناف ذلك الدور التاريخي وأن ينهوا قرنًا طويلًا من الخنوع والتبعية لليابان والغرب، والذي كان قد بدأ بفرض بريطانيا معاهدة «نانكنج» سنة ١٨٤٢م. في أواخر الثمانينيات، بدأت الصين في تحويل مواردها الاقتصادية النامية إلى قوة عسكرية ونفوذ سياسي. ولو تواصل نموها الاقتصادي فإن عملية التحويل هذه ستأخذ نسبًا رئيسية. وطبقًا للأرقام الرسمية، فإن الإنفاق العسكري قد انخفض أثناء معظم الثمانينيات، إلا أنه بين عامي ١٩٨٨م و١٩٩٣م قد تضاعف بكميات جارية وزاد فعلًا بنسبة ٥٠٪. في عام ١٩٩٥م كان المخطط أن يزيد بنسبة ٢١٪، وتقديرات الإنفاق العسكري الصيني لسنة ١٩٩٣م تتراوح بين ٢٢ بليون دولار إلى ٣٧ بليونًا بمعدلات سعر التحويل الرسمية، وإلى ٩٠ بليونًا بسعر التعادل في القوة الشرائية. في أواخر الثمانينيات أعادت الصين رسم استراتيجيتها العسكرية، متحولةً من الدفاع ضد الغزو في حروب كبيرة مع الاتحاد السوفيتي إلى استراتيجية إقليمية تؤكد على تقدير القوة وطبقًا لهذا التحول، بدأت في تطوير قدراتها البحرية والحصول على طائرات مقاتلة حديثة بعيدة المدى، وتُطَوِّر إمكانيات تزويد الطائرات بالوقود في الجو، كما قررت الحصول على ناقلة طائرات، ودخلت في علاقة شراء سلاح مُفيدة للطرفَين. الصين في طريقها الآن لأن تُصبح قوةً مسيطرة في شرق آسيا، والنمو الاقتصادي في شرق آسيا يزداد توجهه نحوها أكثر فأكثر، يُغذيه النمو الاقتصادي على البر الرئيسي والصينات الثلاث الأخرى، بالإضافة إلى الدور المركزي الذي لعبه الصينيون الإثنيون في تطوير اقتصاد تايلاند وماليزيا وإندونيسيا والفلبين. والأكثر خطورةً أن الصين تزداد تصلبًا في مطالبتها ببحر الصين الجنوبي، وتطور قاعدتها على جزيرة باراسيل وتحارب الفيتناميين على عددٍ من الجزر في ١٩٨٨م وتقيم وجودًا عسكريًّا على سلسلة صخور بالقرب من الفلبين وتطالب بحقول للغاز مجاورة لجزيرة «ناتونا» الإندونيسية.

كما أنهت الصين تأييدها الخافت لوجود أمريكي مُستمر في شرق آسيا وبدأت تُعارض هذا الانتشار بنشاط.

وبنفس الأسلوب بدأت في سنوات ما بعد الحرب الباردة تُعبر عن قلقها لتعزيز اليابان لقدراتها العسكرية، رغم أنها كانت تحثها على تقويتها أثناء الحرب الباردة. وبتصرفها بأسلوب كلاسيكي كمُهيمن إقليمي، تحاول الصين أن تُقلل من العقبات التي تعترض طريقها لتحقيق التفوق العسكري الإقليمي إلى أقصى حد. وباستثناءات نادرة مثل بحر الصين الجنوبي ربما، لا يحتمل أن تتضمن الهيمنة الصينية في شرق آسيا بسطًا لسيطرتها الإقليمية عن طريق الاستخدام المباشر للقوة العسكرية.

والمرجح أن تكون الصين متوقعة أن تقوم دول آسيوية أخرى — بدرجات مختلفة — ببعض أو كل ما يلي:
  • تأييد التكامل الإقليمي الصيني والسيطرة الصينية على «التبت» و«جين جيانج» ودمج «هونج كونج» و«تايوان» في الصين.

  • الإذعان وقبول سيادة الصين على بحر الصين الجنوبي وربما على منغوليا أيضًا.

  • تأييد الصين في صراعاتها مع الغرب بشكلٍ عام بخصوص المسائل الاقتصادية وحقوق الإنسان ونشر الأسلحة وغيرها.

  • قبول السيادة العسكرية الصينية في المنطقة والرجوع عن امتلاك أسلحة نووية أو قوات تقليدية تهدد هذه السيادة.

  • تبني سياسات اقتصادية واستثمارية تتماشى مع المصالح الصينية وتؤدي إلى التقدم الاقتصادي الصيني.

  • الإذعان للقيادة الصينية في تناولها للمشكلات الإقليمية.

  • أن تكون مفتوحة بشكل عام للهجرة من الصين.

  • أن تمنع وتكبح أي تحركات معادية للصين وللصينيين في مجتمعاتها.

  • احترام حقوق الصينيين في مجتمعاتهم بما في ذلك حقهم في المحافظة على علاقاتهم بأقاربهم ومواطنهم الأصلية في الصين.

  • الامتناع عن التحالفات العسكرية أو الائتلافات المعادية للصين مع قوى أخرى.

  • تبني استخدام «الماندارين» كلغة إضافية إلى جانب الإنجليزية لكي تحل محلها في النهاية كلغة اتصال أشمل في شرق آسيا.

ويُشَبِّه المراقبون صعود الصين بصعود ألمانيا «ولهلم» كقوة مسيطرة في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر.

انبثاق قوى كبرى جديدة يؤدي إلى عدم الاستقرار بشكل كبير، وإذا حدث، فإن قيام الصين كقوة كبرى سوف يُقَزِّم أي ظاهرة مشابهة في النصف الأخير من الألف الثانية.

وقد لاحظ «لي كوان يو» في ١٩٩٤م أن «حجم الإزاحة الذي أحدثته الصين في العالم، يصل إلى درجة يكون على العالم معها أن يجد توازنًا جديدًا في خلال ٣٠ أو ٤٠ سنة لا يمكن أن ندعي أنها مجرد لاعب كبير آخر، إنه أكبر لاعب في تاريخ الإنسانية.»32

وإذا استمر النمو الاقتصادي الصيني عقدًا آخر — وهذا يبدو ممكنًا — ولو حققت الصين وحدتها خلال الفترة التالية — وهذا يبدو محتملًا — سيكون على دول شرق آسيا والعالم أن يستجيبوا لدور هذا اللاعب الأكبر في التاريخ الإنساني، والذي يزداد تأكيدًا.

وبشكل عام، فإن الدول يمكن أن تستجيب حيال انبثاق قوةٍ جديدة بأحد أسلوبَين، أو بمزيج منهما معًا. قد تقوم الدول فرادى أو بتحالفٍ مع دول أخرى، بمحاولة تأكيد أمنها بالتوازن ضد القوة المنبثقة واحتوائها، أو الدخول في حربٍ لهزيمتها عند الضرورة. وعلى نحوٍ آخر، يمكن أن تحاول الدول الالتحاق بالقوة المنبثقة والتكيف معها والاضطلاع بوضع ثانوي أو تابع لها مع توقع أن تكون مصالحها الرئيسية محمية.

أو يمكن أن نتصور أن تحاول الدول مزجًا بين التوازن والالتحاق رغم أن ذلك ينطوي على مخاطرة معاداة القوة المنبثقة، وعدم وجود حماية ضدها في نفس الوقت. وبناء على نظرية العلاقات الدولية الغربية فإن التوازن هو الخيار المطلوب عادة، ويتم اللجوء إليه كثيرًا عن خيار الالتحاق. وكما يرى «ستيفن والت»:
«يجب أن تشجع حسابات النوايا الدول على التوازن بشكلٍ عام. الالتحاق مخاطرة لأنه يتطلب ثقة، فالمرء يساعد قوة مُسيطرة على أمل أنها ستظل خيرة. التوازن هو الأكثر أمانًا، إذ ربما تحولت القوة المسيطرة إلى العدوان. والأكثر من ذلك أن الانحياز إلى الجانب الأضعف يعجل بنفوذ المرء داخل التحالف الناتج لأن الجانب الأضعف يحتاج إلى المساعدة أكثر.»33
تحليل «والت» عن تكوين التحالف في جنوب شرق آسيا أظهر أن الدول غالبًا ما تحاول دائمًا أن تتوازن ضد الأخطار الخارجية. وكذلك من المفترض بشكلٍ عام أن أسلوب التوازن كان هو المبدأ عبر معظم التاريخ الأوروبي الحديث مع القوى التي كانت تغير تحالفاتها لكي توازن وتحتوي الأخطار التي كانوا يرونها من ناحية «فيليب الثاني»، و«لويس الرابع عشر»، و«فردريك الأكبر»، و«نابليون»، و«قيصر»، و«هتلر». إلا أن «والت» يوافق كذلك على أن الدول قد تختار الالتحاق بقوة منبثقة لأنهم غير راضين، ويأملون من الإفادة من التغيرات في الوضع القائم34 هذا إلى جانب أن الالتحاق يتطلب درجة من الثقة في النوايا الطيبة للدولة الأكثر قوة كما يقول «والت»: وبتوازن القوى تستطيع الدول أن تقوم بأدوار ثانوية أو رئيسية.
  • أولًا: يمكن أن تحاول الدولة «أ» أن توازن القوة ضد الدولة «ب»، التي تتصور أنها منافس محتمل، وذلك بالتحالف مع الدولتين «ج» و«د»، وبتطوير قوتها العسكرية وغيرها (الأمر الذي قد يؤدي إلى سباق تسلح)، أو من خلال الجمع بين هذه الوسائل. في هذا الموقف تكون الدولتان «أ» و«ب» هما الموازن الرئيسي كلٌّ منهما بالنسبة للآخر.
  • ثانيًا: الدولة «أ» قد لا ترى أي دولة أخرى عدوًّا ممكنًا، ولكن قد يكون لها مصلحة في تنمية توازن قوى بين الدولتين «ب» و«ج» اللتين إذا أصبحت إحداهما قوية أكثر من اللازم فقد تُصبح خطرًا على الدولة «أ». في هذا الموقف تقوم الدولة «أ» بدور الموازن الثانوي بالنسبة للدولتين «ب» و«ج» اللتين قد تكونان موازنَين رئيسيَّيْن كل منهما بالنسبة للآخر.

كيف سيكون تصرف الدول مع الصين إذا بدأت في الظهور كقوة مهيمنة في شرق آسيا؟ لا شك أن الاستجابات سوف تختلف بدرجة كبيرة. وحيث إن الصين قد حددت الولايات المتحدة كعدوٍ رئيسي، فإن الميل الأمريكي المألوف سيكون في التصرف كموازن رئيسي لمنع الهيمنة الصينية. الاضطلاع بهذا الدور سيكون بالإبقاء على الاهتمام الأمريكي التقليدي لمنع السيطرة على أوروبا أو آسيا بواسطة قوةٍ واحدة. هذا الهدف لم يعُد متعلقًا بأوروبا ولكنه قد يكون كذلك بالنسبة لآسيا. إن اتحادًا فيدراليًّا واسعًا في أوروبا الغربية، وثيق الارتباط بالولايات المتحدة ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا لن يهدد الأمن الأمريكي. بينما صين متحدة قوية وجازمة يمكن أن تكون تهديدًا. فهل من صالح أمريكا أن تدخل حربًا لمنع هيمنة الصين على شرق آسيا إذا استدعت الضرورة ذلك؟

إذا استمر النمو الاقتصادي الصيني فإن ذلك سيكون القضية الأمنية الوحيدة والأشد خطرًا، التي يواجهها صانعو السياسة الأمريكيون في أوائل القرن الحادي والعشرين. وإذا كانت الولايات المتحدة تريد أن توقف الهيمنة الصينية في شرق آسيا فستكون في حاجة إلى إعادة توجيه التحالف الياباني نحو هذا الغرض، وتطوير علاقات عسكرية وثيقة مع الدول الآسيوية الأخرى وتعزيز وجودها العسكري في آسيا، والقوة العسكرية التي يمكن أن تتحملها في آسيا. أما إذا كانت الولايات المتحدة غير راغبة في الحرب ضد الهيمنة الصينية، فستكون في حاجة إلى أن تتخلى عن عالميتها وتتعلم أن تعيش مع هذه الهيمنة وأن توطن نفسها على تخفيضٍ كبير في قدرتها على تشكيل الأحداث على الجانب البعيد من الباسيفيكي. وكلا المسارين ينطوي على تكلفة ومخاطر كبيرة. الخطر الأكبر هو ألا تحسم الولايات المتحدة خيارًا واضحًا وتنزلق إلى حرب مع الصين دون أن تحسب جيدًا إذا ما كان ذلك في مصلحتها القومية، ودون أن تكون مستعدة لأن تشنَّ حربًا كتلك بكفاءة عالية.

نظريًّا، قد تحاول الولايات المتحدة أن تحتوي الصين بأن تلعب دور توازن ثانويًّا، إذا لعبت دولة أخرى دور الموازن الرئيسي. الاحتمال الوحيد الذي يمكن تصوره هو اليابان، وهذا قد يتطلب تغيرات جوهرية في سياسة اليابان: إعادة تسلح واسعة، امتلاك أسلحة نووية، منافسة نشطة مع الصين من أجل الحصول على دعم القوى الآسيوية الأخرى. وبينما قد تكون اليابان على استعدادٍ للمشاركة في ائتلاف بقيادة الولايات المتحدة لمواجهة الصين — رغم أن ذلك أيضًا ليس مؤكدًا — فإنه من غير المرجح أن تصبح هي الموازن الرئيسي للصين، بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة لم تُبدِ اهتمامًا كبيرًا أو قدرة على لعب دور توازن ثانوي.

وعندما كانت دولة جديدة وصغيرة حاولت أن تفعل ذلك أثناء الحقبة النابوليونية وانتهى بها الأمر لخوض حروب مع كل من بريطانيا وفرنسا. أثناء الجزء الأول من القرن العشرين لم تبذل الولايات المتحدة سوى الحد الأدنى من الجهد لتنمية التوازنات بين الدول الأوروبية والآسيوية، وتورطت نتيجة لذلك في حروب عالمية لاستعادة التوازنات التي خربت. وأثناء الحرب الباردة لم يكن أمام الولايات المتحدة بديل عن أن تكون الموازن الرئيسي للاتحاد السوفيتي. وهكذا لم تكن الولايات المتحدة كقوة كبرى موازنًا ثانويًّا أبدًا، وإن أصبحت فسوف يعني ذلك أنها تلعب دورًا ماكرًا، مرنًا، غامضًا، وربما غير بريء. وقد يعني تحويل الدعم من جانبٍ إلى آخر، ورفض مساعدة أو ربما معارضة دولة قد تكون محقَّةً أخلاقيًّا على أساس القِيَم الأمريكية، ودعم دولة مخطئة. وحتى لو ظهرت اليابان كموازنٍ رئيسي للصين في آسيا، فإن قدرة الولايات المتحدة لدعم هذا التوازن تكون محل تساؤل. الولايات المتحدة أكثر مقدرة بكثير لأن تعبئ مباشرة ضد خطرٍ واحد قائم، عن أنْ تُوازِنَ بين خطرَين محتملَين. وأخيرًا فإن الميل إلى الالتحاق من المرجح أن يُوجَد بين الدول الآسيوية، الأمر الذي يمكن أن يحول دون أي جهد أمريكي للتوازن الثانوي. وبقدر ما يعتمد الالتحاق على الثقة، تنتج ثلاثة افتراضات:
  • أولًا: الالتحاق من المرجَّح أن يحدث بين دول تنتمي لنفس الحضارة أو ذات عوامل ثقافية مشتركة، عنه بين دول لا يُوجَد بينها أي مشترك ثقافي.
  • ثانيًا: مستويات الثقة من المرجح أن تختلف عن المضمون. طفل صغير سوف يلتحق بأخيه الأكبر عندما يواجهان أطفالًا آخرين، والاحتمال الأقل هو أن يثق بشقيقه الأكبر عندما يكونان بمفردهما في المنزل. ومن هنا فإن التداخُلات المتبادلة بين الدول التي تنتمي إلى حضارات مختلفة سوف تشجع على الالتحاق في داخل الحضارات بشكل أكبر.
  • ثالثًا: الميول للالتحاق والتوازن قد تختلف بين الحضارات، لأن مستويات الثقة بين أفرادها مختلفة. شيوع التوازن في الشرق الأوسط مثلًا قد يعكس مستوى الثقة الضعيف الذي يضرب به المثل في الثقافات العربية والشرق أوسطية.
إلى جانب هذه المؤثرات فإن الميل إلى الالتحاق أو التوازن سوف يتشكل على أساس التوقعات والأوليات بخصوص توزع القوى. المجتمعات الأوروبية مرت بمرحلة من الاستبداد ولكنها تجنبت الإمبراطوريات البيروقراطية الطويلة أو «الاستبداد الشرقي» التي كانت تميز آسيا على مدى معظم التاريخ. الإقطاع وضع أساسًا للتعددية ولافتراض أن بعض انتشار القوة كان طبيعيًّا ومطلوبًا في نفس الوقت. وعلى المستوى العالمي، كان توازن القوى يعتبر كذلك أمرًا طبيعيًّا ومطلوبًا وأن مسئولية رجال الدولة هي أن تحميه وتصونه. ومن هنا عندما تهددت المساواة كان لا بد من السلوك المتوازن لاستعادتها. باختصار، النموذج الأوروبي للمجتمع العالمي كان يعكس النموذج الأوروبي للمجتمع المحلي. الإمبراطوريات الآسيوية البيروقراطية على العكس من ذلك لم يكن بها مساحة كافية للتعددية الاجتماعية أو السياسية أو لتقسيم العمل. وفي داخل الالتحاق بالصين، يبدو أن ذلك كان أكثر أهميةً مقارنة بالتوازن عما كان عليه الحال في أوروبا. يلاحظ «لوسيان باي»: في العشرينيات: «حاول القادة العسكريون أولًا أن يتعلموا أنهم يمكن أن يفوزوا عن طريق التوحُّد مع القوة، وحينئذٍ فقط سيكتشفون تكلفة التحالف مع الضعيف … بالنسبة للقادة العسكريين الصينيين لم تكن السلطة هي القيمة النهائية كما كانت في الحسابات الأوروبية لتوازن القوى، وبدلًا من ذلك أسَّسوا قرارهم على الارتباط بالقوة.» وبنغمة مماثلة يقول «آفري جولد شتاين»: إن الالتحاق كان يميز السياسة في الصين الشيوعية عندما كانت بنية السلطة واضحة نسبيًّا من ١٩٤٩م إلى ١٩٦٦م، وعندما خلقت الثورة الثقافية ظروفًا لفوضى قريبة وعدم وضوح بالنسبة للسلطة وهددت وجود اللاعبين السياسيين، بدأ سلوك التوازن يسود.35
ويحتمل أن تكون استعادة بنية سلطة أكثر تحديدًا بعد سنة ١٩٧٨م، قد استعادت معها اللحاق كأسلوبٍ سائد في السلوك السياسي. تاريخيًّا، لم يكن الصينيون يفصلون بحدةٍ بين الشئون الداخلية والشئون الخارجية. «تصورهم للنظام العالمي لم يكن أكثر من نتيجةٍ طبيعية للنظام الصيني الداخلي، وبالتالي انعكاس ممتدٌّ للهوية الحضارية الصينية.» والتي «كان من المفهوم أن تعيد إنتاج نفسها في دائرة أكبر قابلة للاتساع ذات مركزٍ واحدٍ مثل النظام الكوني الصحيح.» أو كما عبر «ماك فارتوهار»: «النظرة الصينية التقليدية إلى العالم كانت انعكاسًا للرؤية الكونفوشية لمجتمع هرمي مفصل جيدًا. الممالك والدول الأجنبية يفترض أنها روافد للمملكة الوسطى: لا توجد شمسان في السماء، لا يمكن أن يكون هناك إمبراطوران على الأرض.» ونتيجة لذلك ليسوا مؤيدين ﻟ «مفاهيم الأمن المتعددة الأقطاب ولا المتعددة الأطراف». الآسيويون عمومًا مستعدون لقبول «التسلسل الهرمي» في العلاقات الدولية، وحروب الهيمنة من النمط الأوروبي لا وجود لها في التاريخ الشرق آسيوي، وكذلك فإن توازن القوى بالشكل المعروف عند أوروبا تاريخيًّا، كان غريبًا بالنسبة لآسيا. وحتى وصول القوى الغربية في منتصف القرن التاسع عشر، كانت علاقات شرق آسيا الدولية مع المجتمعات الأخرى متمركزة حول الصين، ومرتبة بدرجات مختلفة من التبعية أو التعاون أو الاستقلال الذاتي بالنسبة لبكين.36

وبالطبع، لم يتحقق المثل الأعلى الكونفوشي للنظام العالمي في الواقع بالكامل أبدًا، ورغم ذلك فإن النموذج الآسيوي لتسلسل القوة في السياسة الدولية يتعارض بشدة مع النموذج الأوروبي لتوازن القوى. ونتيجة لصورة النظام العالمي هذه، فإن الميل الصيني نحو الالتحاق في السياسة المحلية، موجود أيضًا في العلاقات الدولية. ودرجة تشكيله للسياسات الخارجية تميل للاختلاف حسب درجة اشتراكها في الثقافة الكونفوشية وعلاقاتها التاريخية مع الصين.

كوريا بينها وبين الصين عوامل ثقافية مشتركة كثيرة، وتاريخيًّا كانت دائمًا تميل إلى الصين. بالنسبة لسنغافورة كانت الصين الشيوعية عدوًّا أثناء الحرب الباردة. ورغم ذلك بدأت سنغافورة في تحويل موقفها في الثمانينيات، وكان قادتها يدافعون بشدة عن حاجة الولايات المتحدة والدول الأخرى لأن تتوصَّل إلى تفاهُم مع واقع القوة الصينية. ماليزيا أيضًا كانت تميل إلى الاتجاه الصيني بحجمها السكاني الصيني الكبير وميول قادتها المعادية للغرب. تايلاند حافظت على استقلالها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بأن كيفت نفسها مع أوروبا والاستعمار الياباني وأبدت كل النوايا لكي تفعل الشيء نفسه مع الصين، وهو ميل يقوي منه التهديد الأمني المحتمل الذي تراه من ناحية فيتنام.

إندونيسيا وفيتنام هما الدولتان الأكثر ميلًا نحو التوازن واحتواء الصين في جنوب شرق آسيا. إندونيسيا كبيرة الحجم، إسلامية، وبعيدة عن الصين، ولكن دون مساعدة من الآخرين لا يمكنها أن تمنع التوكيد الصيني للسيطرة على بحر الصين الجنوبي. في خريف ١٩٩٥م التقت إندونيسيا وأستراليا في اتفاقية أمنية تلزمهما بالتشاور معًا في حالة وجود «تحديات معادية» لأمن أي منهما. ورغم أن كليهما أنكر أن يكون ذلك ترتيبًا معاديًا للصين، إلا أنهما يحددان الصين كأكثر مصادر التحديات المعادية احتمالًا.37
فيتنام ثقافتها كونفوشية لدرجة كبيرة، ولكنها تاريخيًّا كان لها علاقات شديدة العداء مع الصين. وفي سنة ١٩٧٩م خاضت معها حربًا قصيرة. فيتنام والصين كلاهما كان يطالب بالسيادة على جزر «سبراتلي»، ودارت بين قواتهما البحرية اشتباكات في السبعينيات والثمانينيات. في أوائل التسعينيات انهارت القدرة القتالية ﻟ «فيتنام» مقارنة بقدرة الصين. وبالتالي، فإن فيتنام لديها الدافع أكثر من أي دولة أخرى في شرق آسيا للبحث عن شركاء لكي تتوازن مع الصين. قبولها في اﻟ ASEAN وتطبيع علاقاتها مع الولايات المتحدة في سنة ١٩٩٥م كانا خطوتَين في هذا الاتجاه. الانقسامات في داخل اﻟ ASEAN وتردد تلك الهيئة في تحدي الصين يجعل من غير المرجح أن تكوِّن تحالفًا مُعاديًا للصين أو أن تقدم دعمًا كبيرًا لفيتنام في صراعها معها.

الولايات المتحدة يمكن أن تكون أكثر قدرة على احتواء الصين، ولكن في منتصف التسعينيات لم يكن واضحًا إلى أي مدى سوف تمضي في مواجهة التوكيد الصيني بخصوص بحر الصين الجنوبي.

وفي النهاية، كان «أقل البدائل سوءًا بالنسبة لفيتنام هو أن تتكيف مع الصين، وتقبل الأسلوب الفنلندي الذي قد يجرح الكرامة الفيتنامية … ولكنه يضمن لها البقاء.»38
في التسعينيات، عبرت جميع الدول الشرق آسيوية بالفعل، باستثناء الصين وكوريا الشمالية، عن تأييدها لتواجُد عسكري أمريكي مستمر في المنطقة. ولكن عند الممارسة، كلهم باستثناء فيتنام، يميلون إلى التكيُّف مع الصين. الفلبين أنهت القواعد الجوية والبحرية بها، وفي «أوكيناوا» تصاعدت المقاومة للقوات الأمريكية الكبيرة على الجزيرة. وفي ١٩٩٤م رفضت تايلاند وإندونيسيا وماليزيا طلبات الولايات المتحدة بإرساء ست سفن إمداد في مياهها لتعمل كقاعدةٍ عائمة من أجل تسهيل تدخل الولايات المتحدة عسكريًّا في جنوب شرق أو جنوب غرب آسيا. وفي تجلٍّ آخر للإذعان رضخ المنتدى الإقليمي ﻟ ASEAN في أول اجتماع له لمطالب الصين بعدم إدراج قضية جزر «سبراتلي» على جدول الأعمال، كما أن احتلال الصين لسلسلة صخور «مستشيف» بالقرب من الفلبين في ١٩٩٥م لم يصادف أي احتجاج من أي دولة أخرى في اﻟ ASEAN، وعندما قامت الصين في سنة ١٩٩٥-١٩٩٦م بتهديد تايوان شفهيًّا وعسكريًّا لم يكن هناك سوى الصمت المطبق من قِبَل الدول الآسيوية. ويخلص «مايكل أوكسينبرج» بدقةٍ مَيْلَهم للالتحاق بقوله: «الزعماء الآسيويون يُقلقهم تحول ميزان القوى لصالح الصين، ولكن في توقعهم القلق للمستقبل لا يريدون أن يواجهوا بكين الآن، ولن ينضموا إلى الولايات المتحدة في حملة صليبية ضد الصين.»39
صعود الصين سوف يشكل تحديًا رئيسيًّا لليابان، وسينقسم اليابانيون بحدة حول الاستراتيجية التي ينبغي على بلادهم اتخاذها، هل تحاول احتواء الصين — وربما بأسلوب تجاري — بأن تعترف بسيادتها السياسية والعسكرية في مقابل الاعتراف بسيادة اليابان في النواحي الاقتصادية؟ هل تحاول أن تعطي معنى جديدًا وقوة للتحالف الأمريكي-الياباني كمركز لائتلاف من أجل التوازن مع الصين واحتوائها؟ هل تحاول أن تطور من قوتها العسكرية الخاصة لتحمي مصالحها ضد أي غارات صينية؟ المرجح أن اليابان سوف تتجنب إجابة محددة عن هذه الأسئلة بقدر ما تستطيع. إن جوهر أي جهدٍ معقول للموازنة مع الصين واحتوائها لا بد أن يكون التحالف العسكري الأمريكي الياباني. والمتصور أن تقبل اليابان ببطءٍ إعادة توجيه التحالف نحو هذا الهدف، وقيامها بذلك يتوقف على ثقتها في:
  • (١)

    القدرة الأمريكية الشاملة في أن تُبقي على نفسها القوة العظمى الوحيدة في العالم وأن تواصل قيادتها النشطة في الشئون الدولية.

  • (٢)

    الالتزام الأمريكي بأن تحافظ على وجودها في آسيا وأن تقاوم بعنفٍ مساعي الصين لتوسيع نفوذها.

  • (٣)

    قدرة الولايات المتحدة واليابان على احتواء الصين دون تكلفةٍ عالية بالنسبة للموارد، ودون مخاطر عالية بالنسبة للحرب.

في غياب عرض رئيسي للحل والالتزام من قِبَل الولايات المتحدة، يُحتمل أن تستطيع اليابان التكيف مع الصين.

اليابان دائمًا كانت تبحث عن الأمن بالتحالف مع من تتصوَّره القوة المسيطرة باستثناء ما حدث في الثلاثينيات والأربعينيات عندما اتبعت سياسة للغزو في شرق آسيا من طرفٍ واحد وجاء ذلك بنتائج سببت كوارث. حتى عندما انضمَّت إلى المحور في الثلاثينيات كانت تنحاز إلى من ظهر على أنه أنشط قوة عسكرية-أيديولوجية في السياسة العالمية. وفي الخمسينيات كذلك، ربطت نفسها بالولايات المتحدة كأقوى دولة في العالم، والوحيدة التي يمكن أن تأمن لها. واليابانيون مثل الصينيين ينظرون إلى السياسة العالمية كتسلسلٍ هرمي لأن سياساتهم الداخلية هكذا. وكما يقول باحث ياباني بارز:

عندما يفكر اليابانيون ببلادهم في المجتمع الدولي، فإن النماذج الداخلية غالبًا ما تُقدم لهم التناظرات اللازمة. اليابانيون يميلون إلى رؤية نظام عالمي يُعبر خارجيًّا عن الأنماط الثقافية المرعية داخليًّا في المجتمع الياباني، والتي تتميَّز ببنيتها التنظيمية الرأسية. صورة النظام العالمي هذه متأثرة بتجربة اليابان الطويلة بالعلاقات الصينية اليابانية القديمة (نظام تابع).

ومن هنا فإن سلوك اليابان في التحالف كان «في الأساس التحاقًا وليس توازنًا» و«انحيازًا للقوة المسيطرة».40 ويوافق أحد الغربيين المقيمين هناك منذ وقتٍ طويل على أن «اليابانيين أسرع من معظم الآخرين في الانحناء للقوة وللتعاون مع مَن يتصورونه أرقى أخلاقيًّا، وأسرع في الاستياء من الظلم من مسيطر ضعيف ومتراجع أخلاقيًّا.»

وبضعف دور الولايات المتحدة في آسيا وسيادة دور الصين، فإن السياسة اليابانية سوف تتكيف طبقًا لذلك، والحقيقة أنها قد بدأت بالفعل. وكما يقول «كيشوري محبوباني» فإن السؤال الرئيسي في العلاقات الصينية-اليابانية هو: «من هو رقم واحد؟» والإجابة تتضح شيئًا فشيئًا.

«لن تكون هناك بيانات واضحة أو تفاهمات، ولكن كان من الواضح أن الإمبراطور الياباني قد اختار أن يزور الصين في ١٩٩٢م في وقت كانت فيه بكين ما تزال معزولة عالميًّا نسبيًّا.»41

من المتصور أن يفضل القادة والشعب في اليابان نمط العقود العديدة الماضية، وأن يظلوا تحت الدرع الواقية لولايات متحدة أمريكية قوية. ومع تراجع تورط الولايات المتحدة في آسيا، فإن العوامل التي تحث اليابان على «الأسينة» ستزداد قوة، وسوف يقبل اليابانيون بالسيادة الصينية على المشهد في شرق آسيا كأمرٍ حتمي. في سنة ١٩٩٤م مثلًا، عندما طرح سؤال: ما هي الدولة التي ستكون صاحبة أكبر نفوذ في آسيا في القرن الواحد والعشرين؟

أجاب ٤٤٪ من الشعب الياباني بأنها «الصين»، بينما قال ٣٠٪ إنها «الولايات المتحدة»، و١٦٪ فقط هم الذين قالوا «اليابان».42

وكما تنبأ أحد كبار المسئولين في اليابان في ١٩٩٥م، أنها سيكون لديها «الانضباط» لكي تتكيف مع صعود الصين، ثم تساءل عما إذا كانت الولايات المتحدة سوف تفعل ذلك. افتراضه الأول معقول، أما إجابة سؤاله الثاني فليست أكيدة. الهيمنة الصينية سوف تُقلل من عدم الاستقرار والصراع في شرق آسيا، كما ستُقلل من النفوذ الأمريكي والغربي هناك وتجبر الولايات المتحدة على قبول ما كانت تحاول أن تمنعه على مرِّ التاريخ: سيطرة قوة أخرى على منطقة مهمة من العالم. مدى تهديد هذه الهيمنة لمصالح الدول الآسيوية الأخرى أو الولايات المتحدة يتوقف في جزءٍ منه على أية حال، على ما يحدث في الصين.

النمو الاقتصادي يُوَلِّدُ قوة عسكرية ونفوذًا سياسيًّا، ولكنه يمكن أيضًا أن يحفز على تقدم سياسي وتحرك نحو شكلٍ من السياسة أكثر انفتاحًا وتعددية وربما ديمقراطية. هناك آراء تقول إن هذا التأثير قد حدث بالفعل في كوريا الشمالية وتايوان. وفي كلتا الدولتين، كان القادة السياسيون الأكثر نشاطًا في الدفع نحو الديمقراطية مسيحيين.

تراث الصين الكونفوشي، وتوكيدها على السلطة والنظام والتسلسل الهرمي وسيادة الجماعية على الفرد كل ذلك يشكل عقبات أمام التحول الديمقراطي. إلا أن النمو الاقتصادي يخلق في جنوب الصين وبدرجةٍ متزايدة معدلات عالية من الثروة وبرجوازية نشطة وتراكمات للقوة الاقتصادية خارج نطاق السيطرة الحكومية، وطبقة متوسطة تتَّسع بسرعة بالإضافة إلى أن الصينيين مُنهمكون بعُمق في التجارة والاستثمار والتعليم في العالم الخارجي، وكل ذلك يخلق أساسًا ثقافيًّا للتحرُّك نحو التعددية السياسية.

الشرط المسبق للانفتاح السياسي عادة، هو وصول عناصر الإصلاح في النظام السلطوي إلى السلطة. فهل يحدث ذلك في الصين؟ ربما ليس في الخلافة الأولى بعد «دنج»، ولكن من الممكن أن يكون في الثانية. القرن الجديد قد يشهد ظهور جماعات في جنوب الصين تحمل جداول أعمال سياسية ستكون في الواقع — وليس اسمًا — أحزابًا سياسية جنينية. من المرجح أن تكون لها ارتباطات وثيقة مع الصينيين في تايوان وهونج كونج وسنغافورة وتتلقى منهم دعمًا. لو ظهرت هذه الحركات في جنوب الصين، وإذا استولى فصيل إصلاحي على السلطة في «بكين»، يمكن أن يحدث شكل من التحول السياسي. التحول الديمقراطي يمكن أن يشجع النزعات القومية عند السياسيين ويزيد من احتمالات الحرب، رغم أن نظامًا تعدديًّا مستقرًّا في الصين من الممكن أن ييسر علاقاتها مع القوى الأخرى على المدى الطويل. وربما يكون ماضي أوروبا هو مستقبل آسيا، كما يقول «فرايد بيرج». والأكثر احتمالًا أن يكون ماضي آسيا هو مستقبلها. الخيار أمام آسيا هو بين قوة متوازنة على حساب الصراع، أو سلام مضمون على حساب الهيمنة. المجتمعات الغربية قد تختار الصراع والتوازن، التاريخ والثقافة وحقائق القوة توحي بأن آسيا سوف تختار السلام والهيمنة. الحقبة التي بدأت بالاقتحامات الغربية في الأربعينيات والخمسينيات انتهت، الصين تستأنف مكانها كمُهيمن إقليمي، والشرق يعود إلى نفسه.

(٦) الحضارات ودول المركز: الانحيازات الناشئة

عالم ما بعد الحرب الباردة متعددة الأقطاب ومتعدد الحضارات، يفتقر إلى تقسيمٍ واحد ومحدد كذلك الذي كان في أثناء الحرب الباردة. وطالما أن التدفق السكاني الإسلامي والانبعاث الاقتصادي الآسيوي مستمران، فإن الصراعات بين الغرب وحضارات التحدي سوف تُصبح أكثر مركزية في السياسة الكونية عن أي خطوط تقسيم أخرى. من المرجح أن تستمر حكومات الدول الإسلامية في أن تكون أقل مودة. والعنف المحدود المتقطع، وربما الشديد، سيحدث بين جماعات إسلامية والمجتمعات الغربية. العلاقات بين الولايات المتحدة من جانب والصين واليابان والدول الآسيوية الأخرى من جانبٍ آخر سوف تكون أشد صراعًا، وقد تحدث حروب كبيرة إذا تحدَّت الولايات المتحدة صعود الصين كقوةٍ مهيمنة في آسيا. في ظل هذه الظروف فإن الصلة الكونفوشية-الإسلامية سوف تستمر وربما تتسع وتتعمق، وفي المركز من هذه الصلة تعاون المجتمعات الإسلامية والصينية التي تعارض الغرب بخصوص انتشار الأسلحة وحقوق الإنسان وغيرهما من القضايا وفي القلب منها العلاقات بين باكستان وإيران والصين والتي تبلورت في أوائل التسعينيات مع زيارة الرئيس «يانج شانج كن» لإيران وباكستان، وزيارة الرئيس «رفسنجاني» لباكستان والصين. هذه الزيارات «أشارت إلى تحالف جنيني بين باكستان وإيران والصين.» في طريقه إلى الصين، أعلن «رفسنجاني» في إسلام آباد عن قيام «تحالف استراتيجي» بين إيران وباكستان، وأن أي هجوم على باكستان يعتبر هجومًا على إيران. وتأكيدًا لهذا الأسلوب، قامت «بنظير بوتو» بزيارة لإيران والصين فور أن أصبحت رئيسة وزراء في أكتوبر ١٩٩٣م. التعاون بين الدول الثلاث تَضَمَّنَ زيارات متبادلة منتظمة بين المسئولين السياسيين والعسكريين والبيروقراطيين وجهودًا مشتركة في عدد من المجالات المدنية والعسكرية بما في ذلك الإنتاج الدفاعي إلى جانب نقل الأسلحة من الصين إلى الدول الأخرى. تطوير هذه العلاقة كان يلقى دعمًا شديدًا من أولئك في باكستان، المنتمين إلى الأفكار «الاستقلالية» و«الإسلامية» في السياسة الخارجية، والذين كانوا يتطلعون إلى «محور طهران – اسطنبول – بكين»، بينما كان يدور في طهران جدل حول أن «الطبيعة المائزة للعالم المعاصر» تتطلب «تعاونًا وثيقًا ومتينًا» بين إيران والصين وباكستان وكازاخستان. وبمنتصف التسعينيات خرج إلى حيز الوجود شيء أشبه بتحالف الأمر الواقع بين الدول الثلاث، جذوره معارضة الغرب والمخاوف الأمنية من الهند والرغبة في مواجهة النفوذ التركي والروسي في آسيا الوسطى.43 فهل تريد هذه الدول الثلاث أن تكون نواة لتجمع أوسع يضم دولًا إسلامية وآسيوية أخرى؟

يقول «جراهام فوللر»: «إن تحالفًا كونفوشيًّا إسلاميًّا غير رسمي قد يتحقق، لا لأن «محمد» و«كونفوشيوس» معاديان للغرب، وإنما لأن هذه الثقافات تقدم أداة للتعبير عن الظلم الذي يُعتبر الغرب مسئولًا عنه — إلى حد ما — الغرب الذي يُعْمِل سيطرته السياسية والعسكرية والاقتصادية بشكل متزايد، في عالم تشعر فيه الدول بأنها «لم تعد تقبل ذلك». أشد الدعوات حماسًا لمثل هذا التعاون صدرت عن «معمر القذافي» الذي أعلن في مارس ١٩٩٤م:

«النظام العالمي الجديد معناه أن يسيطر اليهود والمسيحيون على المسلمين، وإن تمكنوا فسوف يسيطرون بعد ذلك على الكونفوشية والديانات الأخرى في الهند والصين واليابان. ما يقوله اليهود والمسيحيون الآن: كنا مُصرين على سحق الشيوعية والآن لا بد من سحق الإسلام والكونفوشية. الآن نتمنى أن نشهد مواجهة بين الصين التي ترأس المعسكر الكونفوشي وأمريكا التي ترأس المعسكر المسيحي الصليبي، وليس لدينا أي مبررات سوى أن ننحاز ضد الصليبيين. نحن نقف مع الكونفوشية، وبانحيازنا إلى جوارها والقتال بجانبها في جبهة عالمية واحدة سوف نقضي على عدونا المشترك، وهكذا فإننا كمسلمين سوف ندعم الصين في كفاحها ضد عدونا المشترك … نتمنى النصر للصين.»44

إلا أن الحماس لتحالف وثيق بين الدول الكونفوشية والإسلامية، ومعادٍ للغرب، قد خمد على الجانب الصيني بإعلان الرئيس «جيانج زيمن» في ١٩٩٥م أن الصين لن تُقيم أي تحالفاتٍ مع أي دولة أخرى.

هذا الموقف من المفترض أنه يعكس النظرة الصينية الكلاسيكية، حيث المملكة الوسطى، القوة المركزية، الصين التي لا تريد تحالفات رسمية، وحيث إن الدول الأخرى قد تجد من صالحها أن تتعاون مع الصين. صراعات الصين مع الغرب من ناحيةٍ أخرى تعني أنها تثمن المشاركة مع الدول الأخرى المعادية للغرب، والتي يُعتبر الإسلام أكبر من فيها وأكثرها عددًا؟ بالإضافة إلى أن احتياجات الصين المتزايدة للنفط من المرجَّح أن تحملها على توسيع علاقتها مع إيران والعراق والسعودية إلى جانب كازاخستان وأذربيجان. وكما يلاحظ أحد خبراء الطاقة في ١٩٩٤م أن محورًا كهذا: «السلاح مقابل النفط، لن يكون عليه أن يتلقى أوامر من لندن أو باريس أو واشنطن بعد ذلك.»45 علاقات الحضارات الأخرى ودول المركز بها مع الغرب ومتحديه سوف تتباين بشدة. الحضارات الجنوبية وأمريكا اللاتينية وأفريقيا تفتقر إلى دول مركز، كما أنها كانت دائمًا معتمدة على الغرب وضعيفة نسبيًّا من الناحيتين العسكرية والاقتصادية (رغم أن ذلك يتغير بسرعة في أمريكا اللاتينية). في علاقتها مع الغرب من المحتمل أن تتحرك تلك الحضارات في اتجاهات عكسية. أمريكا اللاتينية قريبة من الغرب ثقافيًّا. في الثمانينيات والتسعينيات اقتربت أنظمتها السياسية والاقتصادية لتشبه تلك الموجودة في الغرب. الدولتان الأمريكيتان اللاتينيتان اللتان حاولتا امتلاك أسلحة نووية أقلعتا عن محاولاتهما. مع أقل مستويات ممكنة من المجهود العسكري في أي حضارة، فإن الأمريكان اللاتين قد يستهجنون السيطرة العسكرية الأمريكية، ولكنهم لا يظهرون أي نية لتحدِّيها.
النهوض السريع للبروتستانتية في مجتمعات كثيرة من أمريكا اللاتينية يجعلهم بدرجة أكبر، أشبه بالمجتمعات الكاثوليكية البروتستانتية المختلفة في الغرب، ويوسع من العلاقات الدينية بين أمريكا والغرب عن تلك التي تمر عبر روما. وعلى العكس، فإن تدفق المكسيكيين وأبناء أمريكا الوسطى والكاريبي إلى الولايات المتحدة، والأثر الهيسباني الناتج على المجتمع الأمريكي ينمي أيضًا من التقارب الثقافي. أشد القضايا صراعًا بين أمريكا اللاتينية والغرب (الذي يعني في الممارسة الولايات المتحدة) هي: الهجرة والمخدرات والإرهاب المرتبط بهما، والتكامل الاقتصادي؛ بمعنى السماح بدخول دول أمريكا اللاتينية إلى اتفاقية اﻟ NAFTA في مواجهة توسع المجتمعات اللاتينية مثل اﻟ Mercosur واﻟ Andean، وكما تشير المشكلات التي تطورت بخصوص انضمام المكسيك إلى اﻟ NAFTA، فإن زواج الحضارتين الأمريكية اللاتينية والغربية لن يكون سهلًا، وربما اتخذ شكلًا ما على نحو بطيء خلال معظم القرن الواحد والعشرين وقد لا يتحقق على الإطلاق. ومع ذلك تبقى الاختلافات بين الغرب وأمريكا اللاتينية صغيرة مقارنة بها بينه وبين الحضارات الأخرى.

علاقات الغرب بأفريقيا لا بد أن تتضمن مستويات من الصراع أعلى قليلًا وذلك لأن أفريقيا أساسًا ضعيفة جدًّا، ولكن هناك وجودًا لبعض القضايا. جنوب أفريقيا لم تفعل كما فعلت البرازيل والأرجنتين، لم تتخلَّ عن برنامجها لتطوير الأسلحة النووية، قامت بتدمير أسلحتها النووية التي قد نفذتها بالفعل. كانت تلك الأسلحة قد تم إنتاجها بواسطة حكومة بيضاء لردع أي محاولة خارجية للهجوم على النظام العنصري، ولم ترغب تلك الحكومة في توريث الأسلحة لحكومة سوداء قد تستخدمها لأسبابٍ أخرى. إمكانية إنتاج أسلحة نووية لا يمكن أن تُدمر، ومن الممكن أن تقوم حكومة ما بعد عنصرية ببناء ترسانة نووية جديدة لتؤكد دورها كدولة مركز لأفريقيا، وردع تدخل الغرب في القارة. حقوق الإنسان والهجرة والقضايا الاقتصادية والإرهاب … كلها قضايا على جدول الأعمال بين أفريقيا والغرب. ورغم مساعي فرنسا للحفاظ على علاقات وثيقة مع مستعمراتها السابقة إلا أن عملية واسعة تجري للتخلص من التغريب في أفريقيا، كما أن اهتمامات ونفوذ القوى الغربية في انحسار، الثقافة المحلية تؤكد نفسها، وبمرور الوقت تضع جنوب أفريقيا العناصر الثقافية الإفريقية مكان العناصر الإنجليزية المتأفرقة. وبينما تُصبح أمريكا اللاتينية أكثر تغربًا، تصبح أفريقيا أقل. كلاهما يظل مع ذلك معتمدًا على الغرب على أنحاء مختلفة، وغير قادر على التأثير بحسم في التوازن بين الغرب ومتحدِّيه رغم أصوات الأمم المتحدة. وواضح أن تلك ليست الحال بالنسبة لحضارات المحور الثلاث.

دول المركز بينها لاعبون رئيسيون في الشئون العالمية، والمرجح أن تكون لها علاقات مختلطة ومتضاربة ومتذبذبة مع الغرب ومتحدِّيه. كما ستكون لها علاقات متباينة بعضها مع الآخر. واليابان كما قلنا، بمرور الوقت وبعناء شديد وبحث عن الروح، من المرجح أن تتحول بعيدًا عن الولايات المتحدة وتتَّجِه نحو الصين. ومثل تحالفات الحرب الباردة العابرة للحضارات، فإن روابط اليابان الأمنية مع الولايات المتحدة سوف تضعف رغم عدم احتمال التخلي عنها رسميًّا. علاقاتها مع روسيا ستظل عسيرة طالما أن روسيا ترفض أي تسوية بخصوص جزر «كوريل» التي احتلتها سنة ١٩٤٥م، واللحظة التي كان يجب أن تحل عندها هذه القضية مرت بسرعة عند انتهاء الحرب الباردة مع صعود القومية الروسية، ولم يعد هناك سبب يجعل الولايات المتحدة تؤيد المطلب الياباني في المستقبل كما كانت تفعل في الماضي. في العقود الأخيرة من الحرب الباردة، لعبت الصين بمهارة «بورقة الصين» ضد كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وفي عالم ما بعد الحرب الباردة أصبحت مع روسيا «ورقة روسية» تلعب بها. روسيا والصين إذا اتحدتا فسوف ترجحان التوازن الأوروبي-الآسيوي ضد الغرب، وذلك سوف يثير كل المخاوف التي كانت قائمة عن العلاقات الصينية السوفيتية في الخمسينيات. روسيا إذا عملت بتقارب مع الغرب، فسوف يضيف ذلك توازنًا مضادًّا إضافيًّا للصلة الكونفوشية-الإسلامية بخصوص القضايا الكونية، ويوقظ في الصين مخاوف الحرب الباردة بخصوص غزو من ناحية الشمال. روسيا أيضًا لها مشكلات مع كل من هاتين الحضارتين المجاورتين. هذه المشكلات تبدو قصيرة المدى بالنسبة للغرب على أثر انتهاء الحرب الباردة والحاجة إلى تعريف التوازن بين روسيا والغرب والاتفاق بين كلا الجانبين على المساواة الأساسية ومجال نفوذ كل منهما. وفي الممارسة فإن ذلك قد يعني:
  • (١)

    قبول روسيا لتوسع الاتحاد الأوروبي واﻟ «ناتو» لكي يضمَّا الدول المسيحية في وسط وشرق أوروبا والالتزام الأوروبي بعدم توسيع اﻟ «ناتو» أكثر من ذلك، إلا إذا انقسمت أوكرانيا إلى دولتَين.

  • (٢)

    معاهدة شراكة بين روسيا واﻟ «ناتو» تضمن عدم الاعتداء والتشاور المستمر حول القضايا الأمنية، وجهود تعاونية لتجنب المناقشة في التسلح وتفاوض للوصول إلى اتفاق حول التحكم في التسلح بما يتناسب مع احتياجاتهما الأمنية بعد الحرب الباردة.

  • (٣)

    اعتراف أوروبي ﺑ «روسيا» كمسئول رئيسي عن الحفاظ على الأمن بين الدول الأرثوذوكسية، وفي المناطق التي تسود فيها الأرثوذوكسية.

  • (٤)
    اعتراف من الغرب بالمشكلات الأمنية الفعلية والمحتملة التي تواجهها روسيا من الشعوب الإسلامية جنوبها والاستعداد لمراجعة معاهدة CFE وأن يكون لديها الاستعداد لاتخاذ خطوات أخرى قد تكون روسيا في حاجة إليها لكي تتعامل مع تلك الأخطار.
  • (٥)

    اتفاق بين روسيا والغرب على التعاون كأطراف متساوية في تناول قضايا مثل البوسنة تتضمن مصالح غربية وأرثوذوكسية.

لو ظهر ترتيبٌ ما على امتداد هذه الخطوط أو ما يشبهها، فلن تمثل روسيا ولا الغرب أي تحدٍّ أمني طويل المدى بالنسبة للآخر. أوروبا وروسيا مجتمعات ناضجة ديموغرافيًّا وذات معدلات مواليد منخفضة وسكان طويلة العمر. مجتمعات كتلك ليس لها حمية الشباب لتكون ذات توجهات توسعية وعدوانية.

في الفترة التي تلت الحرب الباردة مباشرة أصبحت العلاقات الروسية الصينية أكثر تعاونًا. مشاكل الحدود تم حلها، القوات العسكرية على كِلا جانبَي الحدود تم تخفيضها، التجارة اتسعت، كل منهما توقف عن توجيه الصواريخ النووية صوب الآخر، وزيرا الخارجيتَين راحا يستكشفان مصالحهما المشتركة في مقاومة الإسلام الأصولي بعنف. والأهم من ذلك أن روسيا قد وجدت في الصين عميلًا متحمسًا ومهمًّا للمعدات العسكرية والتكنولوجية بما فيها الدبابات والطائرات المقاتلة وقاذفات القنابل الطويلة المدى وصواريخ أرض جو.46 ومن وجهة نظر روسيا، يعتبر تسخين هذه العلاقة قرارًا داعيًا للعمل مع الصين «كعميل» آسيوي، بشرط بقاء البرودة الراكدة في علاقاتها مع اليابان، وفي نفس الوقت كرد فعل لصراعاتها مع الغرب حول توسيع اﻟ «ناتو» والإصلاح الاقتصادي والتحكم في الأسلحة والمعونة الاقتصادية والعضوية في المؤسسات الغربية الدولية.
ومن جانبها، فإن الصين كانت تستطيع أن تبين للغرب أنها ليست وحيدة في العالم، وأنها سوف تحصل على الإمكانيات العسكرية الضرورية لتمارس استراتيجيتها الإقليمية في استعراض القوة. وبالنسبة لكلتا الدولتين فإن الصلة الروسية الصينية، مثل الصلة الكونفوشية الإسلامية وسيلة لمواجهة القوة الغربية والعالمية. وبقاء هذه الصلات إلى مدى أطول يعتمد أساسًا على:
  • أولًا: مدى استقرار العلاقات الروسية مع الغرب على أسس مُرْضِية للطرفين.
  • ثانيًا: مدى تهديد صعود الصين في الهيمنة على شرق آسيا اقتصاديًّا وديموغرافيًّا وعسكريًّا.

الحيوية الاقتصادية الصينية تدفقت في سيبيريا، ورجال الأعمال الصينيون مع الكوريين واليابانيين راحوا يستكشفون ويستغلون الفرص هناك. الروس في سيبيريا يرون — وبدرجة متزايدة — مستقبلهم الاقتصادي متصلًا بشرق آسيا أكثر منه بروسيا الأوروبية.

الهجرة الصينية إلى سيبيريا هي الخطر الأكبر الذي يواجه روسيا، عدد المهاجرين بشكل غير قانوني إلى هناك وصل إلى ٣–٥ ملايين في عام ١٩٩٥م مقابل السكان الروس في سيبيريا الشرقية البالغ عددهم ٧ ملايين. وكما حذر وزير الدفاع الروسي «بافل جراشيف»: الصينيون في طريقهم إلى غزو سلمي للشرق الأدنى الروسي»، وكصدى لذلك يقول أكبر المسئولين عن الهجرة في روسيا: «لابد من مقاومة التوجهات التوسعية الصينية.»47 بالإضافة إلى ذلك فإن تطوير الصين لعلاقاتها الاقتصادية مع الجمهوريات السوفيتية السابقة في آسيا الوسطى قد يفسد العلاقات مع روسيا.

التوسع الصيني قد يُصبح عسكريًّا أيضًا إذا قررت الصين أن تُعيد المطالبة بمنغوليا التي انتزعها الروس منها بعد الحرب العالمية الأولى، والتي كانت تابعًا سوفيتيًّا على مدى عدة عقود.

وعند مرحلة ما، فإن «قبائل الصفر» الذين كانوا يؤرقون الخيال الروسي منذ غزوات المغول قد تصبح حقيقة مرة أخرى.

علاقات روسيا بالإسلام يغلب عليها التراث التاريخي لقرونٍ من التوسع عن طريق الحرب ضد الأتراك وشعوب شمال القوقاز وإمارات آسيا الوسطى. روسيا تتعاون الآن مع حلفائها الأرثوذوكس: الصرب واليونان، لكي تواجِهَ النفوذ التركي في البلقان، ومع حليفها الأرثوذوكسي أرمينيا لتقييد ذلك النفوذ فيما وراء القوقاز. وقد حاولت بكل جدٍّ أن تحافظ على نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري في جمهوريات آسيا الوسطى، فأدخلتهم في كومنولث الدول المستقلة كما نشرت قواتها فيها جميعًا. أبرز اهتمامات روسيا هي النفط واحتياطيات الغاز في بحر قزوين والمسارات التي سوف تسلكها هذه الموارد لكي تصل إلى الغرب وإلى شرق آسيا.

كذلك تخوض روسيا حربًا في شمال القوقاز ضد شعب شيشينيا المسلم، وحربًا ثانية في طاجيكستان داعمة للحكومة ضد صحوة تتضمَّن أصوليين إسلاميين. هذه المخاوف الأمنية تقدم حافزًا إضافيًّا للتعاون مع الصين من أجل احتواء «الخطر الإسلامي» في آسيا الوسطى، وهي أيضًا دافع رئيسي للتقارب الروسي مع إيران. روسيا باعت لإيران غواصات وطائرات مقاتلة متقدمة وقاذفات وصواريخ أرض جو ومعدات إلكترونية للاستطلاع العسكري. إلى جانب ذلك وافقت روسيا على بناء مفاعل «ماء خفيف» نووي في إيران وعلى أن تزودها بمعدات تخصيب اليورانيوم. وفي المقابل فإن روسيا — بوضوح — تتوقع من إيران أن تكبح انتشار الأصولية في آسيا الوسطى، وضمنًا أن تتعاون في مواجهة انتشار النفوذ التركي هناك وفي القوقاز. وبالنسبة للعقود القادمة فإن علاقات روسيا بالإسلام سوف تتحدَّد بشكل قاطع اعتمادًا على تصوراتها للأخطار التي يمثلها النمو السكاني الإسلامي الكبير على امتداد محيطها الجنوبي.

أثناء الحرب الباردة كانت الهند دولة المركز «المحورية» الثالثة، حليفًا للاتحاد السوفيتي، وخاضت حربًا مع الصين وحروبًا عديدة مع باكستان وعلاقاتها بالغرب وبخاصة الولايات المتحدة لم تكن ودية إن لم تكن معادية.

في عالم ما بعد الحرب الباردة من المرجح أن تظل علاقات الهند مع الباكستان متصارعة حول كشمير والأسلحة النووية والتوازن العسكري في شبه القارة بشكل عام.

وبمدى ما تستطيع باكستان أن تحظى بتأييد الدول الإسلامية الأخرى ستظل علاقات الهند بالإسلام صعبةً عمومًا. ولكي تواجِهَ ذلك يحتمل أن تقوم الهند بمساعٍ خاصة، كما فعلت في الماضي لإقناع دول إسلامية فردية، بالابتعاد عن باكستان. مع انتهاء الحرب الباردة امتدت مساعي الصين لإقامة علاقات أكثر حميميةً مع جيرانها حتى الهند، وقل التوتر بين الطرفين. إلا أن هذا التوجُّه من غير المرجح أن يستمر طويلًا. الصين ورَّطت نفسها بنشاط في السياسات الآسيوية الجنوبية ومن المتوقع أن تستمر في ذلك: الحفاظ على علاقات وثيقة مع باكستان، تقوية قدرات باكستان العسكرية النووية والتقليدية، مغازلة «ميانمار» بالمساعدات الاقتصادية والاستثمارات والمعونات العسكرية، مع احتمال أن تطور تسهيلاتها العسكرية هناك. القوة الصينية تتسع في الوقت الحاضر وقوة الهند يمكن أن تنمو نموًّا كبيرًا في أوائل القرن الواحد والعشرين، والصراع بينهما يبدو شديد الاحتمال. ويلاحظ أحد المراقبين أن «صراع القوى الرئيسية بين العملاقين الآسيويين وبين صورة كلٍّ منهما عن نفسه كقوة كبرى طبيعية ومركز للثقافة والحضارة، سيواصل دفعهما لدعم دول وقضايا مختلفة. الهند سوف تحاول أن تبرز بشدة ليس فقط كمركز قوة مستقل في عالم متعدد الأقطاب، بل وكثقلٍ مضاد للقوة الصينية والنفوذ الصيني.»48 وعندما تكون الهند في مواجهة حالة كونوفشية-إسلامية أعرض، فمن الواضح أنه سيكون من مصلحتها أن تحافظ على علاقاتها الوثيقة مع روسيا وأن تظل مشتريًا رئيسيًّا للمعدات العسكرية الروسية.

في منتصف الثمانينيات كانت الهند تحصل من روسيا تقريبًا على جميع أنواع الأسلحة، بما في ذلك ناقلة طائرات وتكنولوجيا الصاروخ «كرايوجينيك» (المناسب للأجواء الباردة) التي أدت إلى فرض عقوبات من الولايات المتحدة.

وبالإضافة إلى نشر الأسلحة هناك قضايا أخرى بين الهند والولايات المتحدة تتضمَّن حقوق الإنسان وكشمير وتحرير الاقتصاد. وبمرور الوقت فإن برود العلاقات الأمريكية الباكستانية، والمصلحة المشتركة في احتواء الصين، من المرجح أن تقرب بين الولايات المتحدة والهند. توسع القوة الهندية في جنوب آسيا لن يضير الولايات المتحدة بل قد يخدمها.

العلاقات بين الحضارات ودول المركز فيها علاقات معقدة، وغالبًا غامضة ومتغيرة. معظم الدول في نفس الحضارة سوف تتبع قيادة دولة المركز في تحديد علاقتها بدول من حضارات أخرى.

ولكن ذلك لن يكون الحال دائمًا، وواضح أن جميع الدول في حضارة واحدة ليس لها علاقات متطابقة مع جميع الدول في حضارة أخرى. المصالح المشتركة، وعدو مشترك في حضارة ثالثة يمكن عادة أن تؤدي إلى تعاون بين دول من حضارتَين مختلفتَين.

fig13
شكل ٩-١: السياسة الكونية للحضارات: الانحيازات الناشئة.
من الواضح أيضًا أن الصراعات تحدث في داخل الحضارات وبخاصة الإسلام، بالإضافة إلى أن العلاقات بين الجماعات على امتداد خطوط التقسيم قد تختلف جدًّا عن العلاقات بين دول المركز في نفس الحضارة. إلا أن هناك اتجاهات واضحة، ويمكن أن نخرج بتعميمات معقولة عما يبدو أنه الانحيازات والعداءات الناشئة بين الحضارات ودول المركز، وهذا يُلخِّصه الشكل رقم ٩-١. الثنائية القطبية للحرب الباردة والبسيطة نسبيًّا تفسح الطريق للعلاقات الأكثر تعقيدًا في عالم مُتعدد الأقطاب … متعدد الحضارات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤