مهندس الخيال الأكبر

كل معارفنا كان لها أصلٌ في مخيلاتنا.

ليوناردو دافنشي

بالرغم من تعليمه المتواضع، كان دافنشي يستطيع أن يتخيَّل كيفية عمل اختراعات كبيرة.

راشيل كوستلر جراك

ربما يكون هذا الفصل غيرَ متعلق بالخيال العلمي بوصفه مصطلحًا أدبيًّا حديثًا نوعًا ما، ولكن جرعة الخيال المنطلق من العلم التي وُجِدت في أعمال هذا الرجل، جعلت زيارة مملكته الأدبية ضرورة ملحَّة إذا تحدثنا على الارتباط بين العلم والخيال، تلك المملكة التي أخرجت لنا عددًا من الأفكار العظيمة، لكن هذه المرة أخرجتها على صورة رسومات وتوضيحات بدلًا من الشكل المعتاد للخيال العلمي في رواية أو فيلم. فعندما يجتمع الفن والعلم والمخيلة الخِصبة في شخصٍ ما عاش منذ مئات السنين، فيتصور بل ويُصمم آلاتٍ لم يتم صناعتها فعليًّا إلا بعد وفاته بزمن غير يسير، ويتجلَّى فنُّه في لوحات لا زالت تشهد على عبقريته منذ تلك القرون حتى لحظتنا هذه، بل وسيظل تأثيرها باقيًا إلى أن يشاء الله، فلن تملكَ حين تعرف كلَّ هذا إلا أن تركب سفينة خيالك وتُزودَها بوَقود العلم اللازم لننطلقَ إلى أغوار الماضي، ونسلب منه دقائقَ نتعرف فيها على هذا الفذ العبقري «ليوناردو دافنشي».

في عام ١٤٥٢م وُلد الرسَّام والمخترع والنحَّات والموسيقار «ليوناردو دافنشي» Leonardo da Vinci في مدينة فينسيا بإيطاليا. وكتب خلال حياته ما يُقارب اﻟ ١٣٠٠٠٠ صفحة مذكرات ملأها بالرسومات التوضيحية، وتنوَّعت بين الفن والفلسفة والعلوم.

ولأن العلم وخياله هما شاغِلُنا الأساسي، سنُلقي نظرة على اختراعاته العبقرية ورسوماته (العلمية) الفذة التي تنمُّ عن بصيرة نافذة وحسٍّ علمي تخيُّلي لم يوجد في كثير من البشر على مر الزمان.

الطيران

على مدى حياته، اهتم «دافنشي» بالطيران؛ فهو ظاهرة لم تُحقَّق (حتى ذلك الوقت) للبشرية، وبدأ دراساته على الطيور، كما هو الحال مع أي نظرية أو اختراع يُقتبَس من الطبيعة، فكان له العديدُ من المخطوطات عن الطيور، وهي معروفة باسم «مخطوطات ١٥٠٥» 1505 Codex، وكما يُؤرَّخ، فقد كتبها دافنشي في الفترة من ١٤٩٠ إلى ١٥٠٥م.

أولًا: الهيليكوبتر

بالرغم من أن الطائرة الهيليكوبتر لم تُصنَع قبل ١٩٤٠م، إلا أنَّ دافنشي رسمها، أو رسم شكلًا بُدائيًّا لها، قبل ذلك بمئات السنين، وفي واقع الأمر فإن دافنشي لم يصنع الطائرة الهيليكوبتر نموذجًا واقعيًّا، لكنه وضع مع تلك الرسومات، الموضحة في الشكل، وضع تعليمات وطرق تشغيل هذه الآلة.

figure
صفحة من مخطوطات دافنشي عن الطيور.
figure
الهيليكوبتر التي تحدث عنها «دافنشي».
أحاول أن أتخيل ما الذي سيظنُّه عموم الناس في ذلك الوقت، لو قال لهم أحد إن شيئًا يصنعه البشر سيطير، بل وسيُحمَل على متنه بشر، بالفعل، اعتبر معاصروه أن ذلك المشروع ما هو إلا فانتازيا تقنية، خصوصًا قبل اختراع المحرِّك بقرون.١ وكانت آلة دافنشي تلك مصنوعة من الكتان وأعواد القصب، بقُطر يبلغ ١٥ قدمًا (٤٫٦ أمتار)!

وهو يقول مذيلًا تلك الرسوماتِ إنه إذا صُنِعت هذه الآلة مع مِروحة مصنوعة جيدًا، فإنه مع دوران تلك المروحة سينتج دوامة هوائية تُؤدي إلى رفع هذه الآلة في الهواء!

وحديثًا، الطائرات الهيليكوبتر تُستَخدم على نطاق واسع جدًّا؛ لقدرتها على الدوران كليًّا ﺑ ٣٦٠ درجة، وتعتمد طريقة عملها على تشتيت الهواء تحتها بواسطة دوران المروحة الكبرى بسرعة عالية، والاستفادةِ من ردِّ الفعل المعاكس الذي يستطيع رفع الطائرة، أما عن قوة الدفع، فتنشأ عن طريق المروحة الخلفية، وتكون تلك المروحة أصغر، ويُستخدَم لإدارة المروحة الكبرى بالقدر الكافي محركات توربينية غازية gas turbine engines، فتستطيع توليد الدوران المناسب القادر على رفع الطائرة. وفي كل الأحوال، لا بد أن يكون المحرِّكان قابلَين للتعديل في معدَّل دورانهما كليًّا للتحكم بمسار الهيليكوبتر.

ثانيًا: وماذا عن الطيران بالأجنحة؟

أعتقد أنك لا بد وأن تساءلت بعد أن قرأت فقرة الهيليكوبتر، كيف له أن يُفكِّر في الهيليكوبتر الذي لم يكن له مثيلٌ واضح في عصره، ولم يُفكر في الطائرات المجنَّحة، والتي كان لها نظيرٌ طبيعيٌّ لا يخفى على أحد وهو الطيور التي درسها حقَّ دراستها؟!

حسنًا! لم تَفُت هذه على «دافنشي» بالمرة؛ فقد وضع بالطبع رسوماتٍ توضيحيةً وشروحاتٍ لطريقة عمل هذا النوع. ولعل من أبرز هذه الرسومات تلك الرسمةَ التي تُوضح طائرة تُشبه إلى حدٍّ كبير الوَطواط، وكان ذلك في عام ١٤٨٨م، وفي آلته العجيبة تلك، يجلس «الطيار» على سطح خشبي ويتحكم في الطائرة عن طريق دواستَين بقدَمَيه بحركة متناوبة! وكما يقول، ولأسباب الأمان، لا بد من أن يُجرب الجهاز على سطح بُحيرة قبل أن يتم اعتماده فعليًّا!

figure
الطائرة المجنَّحة التي رسمها «دافنشي».

عربة دافنشي ذاتية الدفع!

من حوالي خمسةَ عشر عامًا، عرَض متحف تاريخ العلوم في فلورنسا بإيطاليا نموذجًا — يعمل فعلًا — من أول عربة ذاتية الدفع في التاريخ، بحسب ما قال مدير المتحف، واستغرق العمل فيه أربعة أشهر. وكان النموذج مبنيًّا على رسومات صديقنا العزيز — دافنشي — بكل تأكيد. وإن كان حجمه لا يتعدَّى ثُلث الحجم الأصلي الذي رسمه دافنشي به.

في عام ١٤٧٨م، رسم دافنشي نموذجه لسيارة بطول ١٫٦٨ مترًا، وعرض ١٫٤٩ مترًا، تستطيع أن تسير بقوة الزنبركات؛ حيث يتم لفُّ الزنبرك ليحتفظ بطاقة مختزنة، وبها نظام فرامل عند إطلاقه تبدأ السيارة بالسير. وعندما حدثت المحاكاة لم تُستخدَم مادة لم تكن موجودة في وقت دافنشي، وهذا يعني أن المادة الأساسية في تكوينها كانت الخشب.٢
figure
جزء من رسمة دافنشي لمنظر من الأعلى للسيارة ذاتية الحركة.

ربما تكون نظرية السيارة التي تسير بالزنبركات مألوفةً لديك بشكل كبير، ولكن تذكر أن ذلك كان في القرن الخامس عشر. لربما لو رأى أحدهم عربة دافنشي تلك تسير بشكل تلقائي لطالب بحرق دافنشي بتهمة السحر والهرطقة!

وكذلك عسكريًّا

لم تكن اختراعات دافنشي بمنأًى عن الأغراض العسكرية، فكان له اختراع بديع جدًّا، حاول باختراعه ذلك المِدفَع الرشاش (عام ١٤٨١م) الذي يُمكنه ضربُ ١٢ مقذوفة أن يُقلل من نسبة الخطأ الذي يقع عند استخدام مقذوفة واحدة، وذلك عن طريق رصِّ هذه المدافع على شكل المروحي الذي يُتيح مجالًا أوسعَ للإصابة. كذلك فهو يُفيد في حالة الحشد العسكري المهاجم، وهو كذلك يحمل ميزة مهمة جدًّا وهي خفَّة الوزن وسهولة التحرك في أرض المعركة، كذلك كان له قابليةٌ للدوران بسهولة، مما يُكسِبه ميزة عظيمة في المعارك التي تتطلب القتال على أكثرَ من جانب.

figure
رسمة «دافنشي» للمدفع.

كان طول هذا المدفع الرشاش حوالي ٢٦ مترًا؛ لذلك هو كبير نسبيًّا، وإن كانت له مميزات عدة، كما ذكرنا، تُعوض هذا الكِبَر في الحجم.

كان لهذا الرشاش، في بعض التوضيحات، ثلاثة أرفف من المواسير المطلِقة The three racks of barrels، وكانت لها وظيفة في غاية الذكاء؛ ألا وهي إعادة تحميل المدفع دون التوقف عن الضرب، فعندما يُطلق أولُ رف طلقاتِه يكون الآخرُ يُحمِّل، وهكذا … كذلك فإنه عندما يُطلق الرفُّ الأول مقذوفاته، ويُصبح الثاني في محل الإطلاق، يتم تبريد الأول. وعندما يكون الثالث في محل الإطلاق يُبرِّد الثانيَ وهكذا، ويلاحظ كذلك أن هناك مَدافعَ تشبه إلى حدٍّ ما هذه المدافع، تم استخدامها في الحرب العالمية الثانية!

طيران من نوع آخر

استُخدِم الباراشوت لأول مرة في العام ١٧٩٣م بواسطة «سبيستيان ليونورماند» . ولكن، عرَف سبيستيان أم لم يعرف، كان اختراعه مرسومًا قبل ذلك بأكثرَ من ثلاثة قرون عن طريق صاحبنا العبقري «دافنشي»، وبالتحديد في عام ١٤٨٣م.
تُوضح الصورة التالية تصميمَ «دافنشي» للمظلات، مذيِّلًا إياها بالطريقة المثلى لاستخدامه، كما اعتدنا من «دافنشي» في اختراعاته قائلًا: «لو أن هناك خيمةً مصنوعة من الكتَّان، وصُنِعت بحيث كان طولها ١٢ ياردة لكل جانب من جوانبها، وارتفاعها ١٢ ياردة٣ كذلك، سيكون من يُمسكها قادرًا على أن يُلقِيَ بنفسه من أي ارتفاع دون أن يؤذيَ نفسه.»
figure
على اليمين المظلة التي رسمها دافنشي، مذيلًا إياها ببعض التعليمات، ويسارها صورة للمظلة الحديثة التي استخدمها أندريان نيكولاس للهبوط.

ومنذ التاريخ الذي ذكرناه مسبقًا لأول استخداماتٍ للمظلات، تطورَت المظلات بشكل كبير، وكانت تختلف إلى حدٍّ ما مع مظلة «دافنشي». إلى أن جاء العام ٢٠٠٠م والذي شهد طيران أول نموذج مصنوع لمظلة دافنشي بحذافيره.

كانت المغامرة من نصيب البريطاني «أدريان نيكولاس» Adrian Nicholas، وبالتحديد يوم ٢٦ يونيو عام ٢٠٠٠م، مستخدمًا تصميم «دافنشي»، بوزن قارب ٨٥ كيلوجرامًا؛ ليقفز من ارتفاع حوالي ثلاثة آلاف متر فوق سطح الأرض، من مِنطاد مُلِئ بالهيليوم الساخن، متجاهلًا التحذيرات التي وُجِّهَت إليه بعدم قدرة هذه المظلة على الطيران بطريقة صحيحة. ولكنه في النهاية هبَط بسلام، وقال إن ركوب هذه المظلة والهبوطَ بها أكثرُ سلاسةً من الهبوط بالمظلات الحديثة!

الفارس الآلي!

يبدو أن «دافنشي» هذا لا يُريد أن يقلَّ حماسُنا في متابعة اختراعاته ولو لثانيةٍ واحدة. وموعدنا الآن مع اختراعٍ عجيب آخرَ من أعاجيب هذا العبقري، ألا وهو الفارس الآلي Robotic Knight! صمَّم دافنشي هذا الفارس الآلي في العام ١٤٩٥م، ويُعَد — كما يعتبر الكثير من المؤرخين — أولَ محاولة بشرية لعمل آلة تُحاكي الإنسان وحركته، وكان على صورة محارب، يرتدي الدروع الإيطالية في العصور الوسطى، ويُمكنه الجلوس والتلويح بذراعَيه وتحريك رأسه وفكَّيه.٤ وبالرغم من أن الرسمة التوضيحية الكاملة لهذا الفارس لم تُكتشَف أبدًا، إلا أنها وُجِدت متفرقة في مذكراته.
لنعُد إذن لذلك الفارس الآلي، والذي كان يُمكنه المشيُ والجلوس والوقوف وتحريك ذراعَيه وفتح وإغلاق فمه، وكان هذا الفارس يحتوي على تركيبَين أساسيَّين للحركة:
  • الأول: نظام تحكُّم رباعي للتحكم في: اليدين والكوع والمِعصمَين والأكتاف.
  • الثاني: نظام تحكم ثلاثي في كلٍّ من: الوَرِكَين والركبتَين والكاحلَين.

ناسا تستفيد من دافنشي!

في العام ٢٠٠٢م، استعان خبير الروبوتات «مارك روزهيم» Mark Rosheim، صاحب شركة لتصنيع الروبوتات بنموذج دافنشي لعمل إنسان آلي لصالح وكالة ناسا. وبالفعل وبعد خمس سنواتٍ من العمل، أُعيد إحياء نموذج دافنشي الآلي، بعد القيام ببعض التطوير في بنائه، وبعض التحسينات على حركات العضلات والمفاصل، وأُطلِق عليه اسم «أنثروبوت» Anthrobot، وهو مشتق من كلمتَي Anthropology وRobot، وهما تعنيان علم «دراسة أصل الإنسان وتطوره» و«الإنسان الآلي» على الترتيب، ويمكن لهذا الروبوت الجديد القيامُ بأعمال لا يمكن للشخص العادي أن يقوم بها، وسيُستخدَم أيضًا في المهام التي تتصل بالذَّهاب إلى المريخ!

لم يكن الفارس الآلي هو الوحيدَ الذي حاول به دافنشي محاكاة الحركة الحية؛ فقد صمَّم كذلك أسدًا ميكانيكيًّا يُمكنه المشي والوقوف أوتوماتيكيًّا. وهذا الأسد تم إنشاؤه فعلًا ولكنه فُقِد إلى أن تم إعادة إنشائه عام ٢٠٠٩م في فرنسا.

الجسر الدوَّار!

بين العامَين ١٤٨٠م و١٤٩٠م صمَّم «دافنشي» ما يُسميه «الجسر الدوار» Revolving Bridge، الذي كان استخدامه الأساسي عسكريًّا لنقل الجنود.

صمم «دافنشي» الجسر ليكون مَعبَرًا سريعًا من فوق المجاري المائية؛ فهو قابل للمد فوق المجرى المائي والعودة إلى وضعه الطبيعي على الضفة التي هو مرتكز عليها، وبذلك فهو صالح للهروب السريع من الأعداء، بحيث يمكن إعادة قبضه بعد العبور من فوقه، وبحسب «دافنشي»، هذا الجسر سيكون خفيفًا كفايةً للقيام بالأغراض التي ذكرناها، واستخدم في تصميم الجسر نظام الحبل والبكرات في ميكانيكية القبض والبسط، أو الإغلاق والفتح.

وفي الأعماق أيضًا!

لم يكن الغوص بعيدًا عن ذهن «دافنشي»؛ فهو محاكاةٌ لكائنات حوله، مثله مثل الطيران الذي رأينا كيف أبدع في رسومات وشروحات تصف آلاتِه التي تُستخدَم الكثير من مبادئها حتى الآن، خصوصًا وأن دافنشي كان من أبناء مدينة الماء «فينسيا».

figure
نموذج دافنشي للتنفس تحت الماء، من كتابه 1505 Codex.
في العام ١٥٠٠م، صمم دافنشي بدلة غوص Scuba Gear، والتي يمكن لمن يرتديها الغوصُ في أعماق البحار والتنفسُ بحرية، وكذلك الرؤية الواضحة في الأعماق. تتكون بدلة الغوص هذه من غطاء جِلدي يُحيط بجسم الغواص، وقِناعٍ به منطقة زجاجية تُقابل العينَين للسماح بالرؤية الواضحة. وكذلك يمتد من هذا القناع خرطومان يتصلان بالسطح؛ للسماح للغواص بالتنفس الحر. وفي إصدارة أخرى، يتنفس الغواص من قِربة مملوءة بالهواء يأخذها معه؛ لتسمح له بالبقاء لأمد طويل تحت سطح الماء!

الطب والتشريح

وكما نظر للطبيعة من حوله واقتبس منها اختراعاتٍ ملهمة، لم يكن «دافنشي» بعيدًا عن النظر في الجسد البشري، والذي حظي بجزء غير يسير من اهتمامه. والذي، على مدار حياته، رسم الآلاف من الصفحات وحرر مثلها ملاحظات عن الجسد البشري. وفي هذه الفقرة بالذات، تستطيع أن تُسمِّيَه «طبيب الخيال»!

ربما كانت خبرة «دافنشي» المعمارية والهندسية قد ساعدته إلى حدٍّ ما في فَهم ورؤية ميكانيكية عمل الجسم بطريقة دقيقة. وقد رأينا ذلك في محاولته محاكاةَ الجسد البشري في الفارس الآلي الذي ذكرناه آنفًا. وسنستعرض هنا مثالَين لتوضيح دقة دافنشي العالية وحرفيته المبهرة فيما يخص التشريح، وهما: الجمجمة، والعمود الفقري.

أولًا: الجمجمة

يعتقد الأطباء والمتخصصون، اعتمادًا على ما تبقى من رسوماته التوضيحية، أن ليوناردو في هذا المجال «قد سبق عصره مئاتٍ من السنين!» وهي الجملة التي سوف تعتادها عند القراءة عن دافنشي واختراعاته وأفكاره!

الرسمة التالية رسمها دافنشي عام ١٤٨٩م، وهي صورة لجمجمة مقطوعة لإظهار ما بها من تفاصيل، ويجب أن تأخذ باعتبارك أن عمل مقطع في جمجمة حقيقية بهذا الشكل لهو أمرٌ صعب للغاية، وغالبًا لن يتم بدون تحطيم الأجزاء الداخلية، وملحوظة أخرى، أن هذا الرسم التوضيحي للجمجمة كان جزءًا من سلسلة رسومات وتوضيحات خصصها دافنشي» للجمجمة البشرية.

figure
صورة تشريحية للجمجمة رسمها دافنشي عام ١٤٨٩م. (Royal Collection, Queen’s Gallery at Buckingham Palace, 2012.)

ثانيًا: العمود الفقري

«الصورة التالية التي توضح العمود الفقري، والتي رسمها «دافنشي» يعتقد أنها الصورة الدقيقة الأولى للعمود الفقري في التاريخ.»

الجملة السابقة ليست من بُنيَّات أفكاري، إنما هي جملة لمتخصِّص بريطاني في التشريح، حيث يقول البروفيسور «بيتر أبراهامز» Peter Abrahams وهو بروفيسور بريطاني متخصص في التشريح الإكلينيكي: «إن «دافنشي» رسم بدقة فائقة (perfectly) تقوُّسَ والتواءَ العمود الفقري، وكذلك تداخل الفقرات ببعضها.»٥
figure
صورة تشريحية للعمود الفقري رسمها دافنشي.

قدَّم دافنشي رسومات تشريحية لأعضاء أخرى كانت دقتها في أغلب الأحيان تبلغ حدًّا أدهش علماء العصر، فرسم كذلك الجذع والرحِمَ وغيرها.

الفن والهندسة والرياضيات

لا تدَع رجلًا غير رياضي يقرأ أعمالي.٦

ربما تكون هذه الجملة، والتي قالها «دافنشي»، خير مقدِّمة ودليل على اهتمام دافنشي بالهندسة والرياضيات. لم يكن الفن منفصلًا يومًا عن النظريات الهندسية والرياضية؛ لذلك آثرنا أن يكونا تحت نفس العنوان في دراستنا لما قدَّمه «دافنشي» بصددهما.

استخدم دافنشي في الفن، بل وأدخل كثيرًا من المفاهيم الرياضية في لوحاته التي أبهرت العالم وما زالت تفعل حتى اليوم. وربما استفاد «دافنشي» كثيرًا بعمله مع «لوكا باتشولي» العالم الرياضي. بل وساعده «دافنشي» بمهاراته الرسومية في كتابه الشهير «النسبة الإلهية» Divina Proportione، والذي نشر عام ١٥٠٩م، والذي تحدث فيه عن عدة مواضيع رياضية، كالنسبة المقدسة أو الذهبية، وكذلك تحدث فيه عن الاستخدامات الرياضية في الفن والعمارة، وتطرق أيضًا إلى بعض المضلعات ثلاثية الأبعاد، كذلك وجد بين ملاحظاته دراسات عن الاتزان الميكانيكي وبرهان على نظرية فيثاغورث المشهورة، بل واخترع أنواعًا متعددة من أدوات الرسم التي تُسهل رسم الأشكال الهندسية كالدائرة والقطع المكافئ Parabola (هو شكل رياضي من الأشكال المخروطية).
figure
صورة لأداة من تصميم دافنشي لرسم شكل قطع مكافئ (parabolic compass).

الرجل الفيتروفي

ويتجلَّى التداخل الرائع بين الفن والرياضيات عند «دافنشي» في لوحة «الرجل الفيتروفي»، والتي رسمها عام ١٤٨٧م، وتُمثل رجلَين عاريَين أحدهما داخل دائرة والآخر داخل مربع في وضعٍ متداخل، ورسمها دافنشي بِناءً على ملاحظات الفنان الإيطالي «ماركو فيترفيو» Marcus Vitruvius، وتُتخَذ هذه اللوحة كرمز لكثير من المؤسسات الطبية حول العالم. وألحق بها «دافنشي» بعض الملاحظات التي تُوضح النِّسَب التي رسمها به، وكتب هذه الملاحظات بطريقة المرآة، بحيث إنك لن تستطيع قراءتها إلا لو نظرت في مِرآة!

ومن تلك النِّسب التي استخدمها، مثلًا أن طول الذراع يساوي أربع مرات طول راحة اليد، وكذلك المسافة من منبت الشعر إلى الحاجبَين يساوي ثلثَ طول الوجه، والمسافة من الكوع إلى الإبط تساوي ثمن طول الإنسان، والمسافة من أسفل الذقن إلى أسفل الأنف تساوى ثُلثًا من طول وجه الإنسان وهي نفس النسبة من أسفل الأنف إلى منتصف الحاجبَين، وأيضًا نفس النسبة من منتصف الحاجبَين إلى منبت الشعر، وغيرها الكثير من النسب.

النهاية!

غادر «دافنشي» عالم الأحياء في عام ١٥١٩م عن ٦٧ عامًا، بعد أن ترك للبشرية إرثًا قلما تركه فرد، ويقال إنه قد طلب قبل موته أن يتبع جنازته ٦٠ شحاذًا حتى قبره! (ربما هناك مغزًى في هذا الرقم الذات). ترك «دافنشي» البشر، وما زالت أعماله تحكي عنه، وتُخبرنا يومًا بعد يوم كم كان ذاك العقل من فرط اشتعاله ذكاءً وإبداعًا وخيالًا، لا نجد حتى كلمات يُمكنها أن تصفه وتُعطيه حقه كما ينبغي.

١  Christo Boutzev, Science fiction in the classroom, The unisco courier magazine, November 1984, p22.
٢  Jhon Hooper, Leonardo’s car brought to life, the guardian, http://www.theguardian.com/world/2004/apr/24/italy.arts, 24 April 2004.
٣  ١٢ ياردة تُساوي ما يُقارب ١١ مترًا.
٤  Micho Kaku, Physics of the impossible (New York, The Doubleday Broadway Publishing Group, 2008), P. 105.
٥  في تقرير للبي بي سي عن رسومات دافنشي الخاصة بالتشريح، بعنوان: Leonardo da Vinci: How accurate were his anatomy drawings?، بتاريخ ١ مايو ٢٠١٢م.
٦  The notebooks of Leonardo da vinci (Richter, 1888).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤