الفصل الثالث

الفن ونقيض الفن

قال أندريه بريتون وهو يناقش الجماليات ذات مرة من وجهة نظر سريالية، إن الطريقة التي تُرسَم بها الصورة غير ذات أهمية فعليًّا؛ فالمهم وحده هو الواقع الذهني الذي «تطلُّ عليه» الصورة.

إن أفضل طريقةٍ لتقييم تميُّز توجُّه بريتون هي الإشارة إلى الجماليات الحداثية للناقد كليمنت جرينبرج، التي هيمنت على النقد الفني بعد زوال السريالية في أواخر الأربعينيات. شدَّدَ جرينبرج على «النَّقاء» التخصُّصي؛ فالرسم ليس هدفه الإطلال على واقع آخَر، بل يُراد منه أن يَلفِت الانتباهَ لذاته كنظام فني، وأنْ يَتعاطى مع المشكلات الجوهرية في الرسم، وقد أكَّدَ جرينبرج أن مشاقَّ هذا المَسعَى من شأنها أن تُفضِي إلى نيل درجات من العَزْم الرسمي أو الجمالي.

كان النقاء التخصصي والرسمي لعنةً على أغلب ممارسي الدادائية والسريالية؛ ففي إنتاجاتهم، تداخلَتْ دومًا تخصصاتُهم الفنية؛ فظلَّ النصي والبصري والأدائي عادةً في حالة تخلخُلٍ حرٍّ. ومن المنطلق نفسه، يبدو «الجمال» الرسمي مسعًى غير ذي صلة إذا نظرنا إلى العالم الذي كان الفنَّانون يعيشون فيه؛ لقد كانوا متخبِّطين على أي حالٍ حيال الفن كمؤسسة؛ حيث تعهَّدَ الدادائيون دومًا بهدمه. وبالنظر إلى كلٍّ من الإنتاج الفني والأدبي الدادائي والسريالي في هذا الفصل، يتعيَّن علينا دومًا أن نضع نصب أعيننا هذا التناقض الراسخ ما بين الفن التقليدي والنقاء الجمالي.

لا شك أن جرينبرج بذل قصارى جهده من أجْل تشويه ما يمثِّله الدادائيون والسرياليون؛ ففي مقالة عن السريالية نُشِرت عام ١٩٤٥، انتقد جرينبرج ما اعتبره الأساس «الأدبي» لما يمثِّلونه؛ وعلى الرغم من أن هذا التوجه يبدو الآن عتيقًا نوعًا ما، فإنه ما برح متماسكًا بشكل مدهش. يُوصَم الفنانون السرياليون أمثال دالي أو ماجريت كثيرًا بأنهم «أدبيون»، بينما يُنظَر إلى الدادائيين على أنهم غير جادِّين بالقدْر الكافي؛ نظرًا لانشغالهم بالمحتوى العابث أو الساخر، لكن بالنسبة إلى فناني الدادائية والسريالية، كان هذا النوع من النقد يُخطِئ المغزى من عملهم. كان هؤلاء يفتخرون بظهورهم بمَظهَر الأُدَباء، وبأن لديهم التزامًا محدَّدًا تجاه كل ما هو شعري. استوعب الدادائيون والسرياليون كلمةَ «شعري» بصفة عامة بالطريقة التي كان الكُتَّاب والفنانون الرومانسيون في القرن التاسع عشر استوعبوها بها؛ أيْ باعتبارها «حالة للروح» أو نمطًا من أنماط الوعي لا شكلًا من أشكال الممارسة. وإجمالًا، فالطريقة المُثلَى لفهم الجماليات الدادائية والسريالية ليست عبر الأفكار التقليدية للجمال، بل من خلال فكرة «التوجه» الشعري تلك.

بالنظر إلى تفوُّق الشعر، فاللغة — أو بالأحرى الإشارة اللغوية — تدعم دومًا أعمالَ ممارسي الدادائية والسريالية، وسيتجلَّى ذلك في الكثير مما يلي، لكنَّ غايتي الأساسية هي تحديد سلسلة من الفروق المميزة فيما يختصُّ بالسُّبُل الفنية والإجرائية التي حقَّقَ بواسطتها ممارسو الحركتين نتائجَ شاعريةً. سيُوضَع استغلالُ الدادائية للمصادفة في مواجهةٍ مع الاستخدامات السريالية «للآلية»، وستُوضَع تقنياتُ الدادائية مثل الكولاج والتجميع الصُّوري في مواجهةٍ مع تقنيات السريالية مثل الرسم والتصوير الفوتوغرافي، كما سيُوضَع فنُّ القِطَع الفنية الجاهزة للدادائية في مواجهةٍ مع الغرض السريالي، وهكذا دواليك. ولكن، المكان الواضح الذي يتعيَّن البدءُ منه هو الشعر نفسه.

الشاعرية

بصفة عامة، يمكن تقسيم الشاعرية الدادائية بين التوجُّهات التي سادت في ألمانيا وسويسرا والتوجُّهات التي سادت في فرنسا. في القسم المتعلِّق ﺑ «كباريه فولتير» بالفصل الثاني، ألقيتُ نظرةً على ما قام به هوجو بال في زيوريخ من محاولة العودة إلى «خيمياء الكلمة» عبر أشعاره الصوتية؛ واستتر في ذلك السياق رفْضٌ للقدرات السميوطيقية للغة، وقدرتها على إيصال المعنى. ربما تدين عودةُ بال إلى الوحدات الأساسية للُّغة نوعًا ما إلى وعيه بالشعر المستقبلي الروسي بتأكيده على الخصائص المستقلة للُّغة. ولكن، بدلًا من أن يكون «مجردًا» بالكامل في روحه — وهو التوصيف الذي ينطبق بقدْرٍ أفضل على الشعر الصوتي للدادائي البرليني راءول هاوسمَن — عادةً ما تنقل أشعارُ بال رغبةً مبهمة في البحث عن أسماء أو كلمات جديدة للأشياء؛ كتب بال في مذكراته الشخصية: «لِمَ لا نُطلِق على الشجرة اسمَ بلابلاش أو بلابلاباش عندما تمطر السماء؟» وفي هذا الصدد، يستجيب بال جزئيًّا إلى الفيلسوف الألماني نيتشه — الذي يُعَدُّ عاملَ تأثيرٍ أساسيًّا في جيل بال من الفنانين — الذي كتب عن إحساسه بوجود تنافُر بين الكلمات والأشياء التي تشير إليها تلك الكلمات، حيث رأى اللغة «جيشًا متحركًا من الاستعارات» أمسى باليًا. ويكشف شعراء الدادائية الألمان الآخَرون خيبةَ أمل مماثلة في القدرات الدلالية للغة؛ ففي هانوفر، أنتج كورت شفيترز تنويعاته الخاصة من الشعر الصوتي، المرتبطة بحميمية بتجريداته المعروفة باسم «ميرتس» في التجميع الصُّوري، لكنه أنتج أيضًا نصوصًا يتعايش بعضها مع بعض في مستويات مختلفة من اللغة، مدمِّرًا بذلك أيَّ إحساس كلي بالتجانس، وفيما يلي جزءٌ من قصيدة له:

تحياتي، ٢٦٠ ألف سنتيمتر مكعب.
أنا مِلْكك،
وأنت مِلْكي،
ونحن أنا.
والشمس واللاحدود والنجوم تضيء.
حزن وأحزان وندًى.
يا لويلك مني!
إشعارات رسمية:
جائزة ٥٠٠٠ درجة!

في المقابل، يمكن القول إن شعر الدادائية الفرنسية — وتحديدًا شعر الدادائيين الفرنسيين الذين أحاطوا بدورية «الأدب» — أكثر توافُقًا مع التقاليد الدلالية، ولو أنه كان بالمثل ملتزمًا بكل ما هو لا عقلاني. كان ذلك يرجع جزئيًّا إلى أن شخصيات مثل أندريه بريتون وبول إيلوار كانت لديهم مصادر «أدبية» أكثر سلاسةً ومباشرة؛ على سبيل المثال: الأشعار الفرنسية الرمزية لرامبو أو بول رو الذي أسمى نفسَه القديسَ بول رو. سنرى في القسم التالي أن «الكتابة العفوية» كانت ابتكارَهم الفني الوحيد، لكن ما جمع بينهم أكثر من أي شيء كان مفهومًا للصورة الشعرية، وسيثبت لنا أن هذه المسألة محورية فيما يختص بالجماليات السريالية التي طوَّروها بدايةً من عام ١٩٢٤ فصاعدًا.

اعتمد التوجُّهُ السريالي نحو الصورة على مبدأ التلاقي بين الوقائع غير المتوافِقة. رأى بريتون في الشاعر الفرنسي التكعيبي بيير ريفيردي المؤيِّدَ النظري الأساسي لتلك الأداة، لكن يمكن العثور على أمثلة لتوظيفها في أعمال العديد من الروَّاد الأدبيين للسريالية، ومثال على ذلك رامبو الذي وردت في قصيدته «موسم في الجحيم» عام ١٨٧٣ رُؤًى هذيانيةٌ مثل «غرفة معيشة في قاع بحيرة».

في الشعر السريالي المتكامل الأركان، ينهال علينا سَيْلٌ من الصور الشعرية الصارخة، على غرار الصورة التي رسمها إيلوار عن «الشمس الزرقاء كالبرتقالة»، أو الابتهالات الجيَّاشة في قصيدة بريتون «اتحاد حر» (١٩٣١):

زوجتي بقوامها الشبيه بالقندس بين أسنان النمر …
زوجتي بصدغَيْها الشبيهين بأردواز سقف الدفيئة
بحاجبيها الشبيهين بحافة عش السنونو … زوجتي بعينيها الخشبيتين
اللتين دومًا تحت البلطة …

وثمة أشعار سريالية أخرى تمزج بشكل مميز بين مقابلات مُذهِلة لصور شعرية وسخرية فوضوية، وفيما يلي مثال لذلك من جزء من قصيدة لبنجامين بيريه:

والنجوم التي تبثُّ الرعبَ في قلب السمك الأحمر
ليست للبيع ولا للإيجار
في الواقع، هي ليست حقًّا نجومًا، بل مجموعة من فطائر المشمش
التي خرجت من المخبز.

كانوا يبحثون دومًا عن لمحة من «المدهش». مرارًا وتكرارًا استدعى بريتون مجازًا كهربيًّا لشرارةٍ كي يستثير صدمةَ الإلهام التي تتجلَّى على هيئة صور غير ذات رابط يصطدم بعضها ببعض.

من الواضح أن الدادائية الفرنسية — ومن ثَمَّ السريالية الفرنسية — كانت ملتزمةً بشاعرية غنائية أكثر من الدادائية الألمانية/السويسرية؛ حيث كان هناك تفكيكٌ معادٍ للرومانسية وأكثر شمولًا لِلُّغة. وهناك استثناءات مهمة لذلك؛ فكثيرًا ما أنتج هانز آرب — الذي رحل عن زيوريخ وقصد باريس والسريالية — قصائدَ تكشف عن طابع غنائي راسخ في الرومانسية الألمانية. ولقد أكَّدَ النقاد على أن الشعر الدادائي التفكيكي يعكس الفوضى فحسب، بينما تحقِّق السريالية، بالتوافق مع الاصطلاحات الشعرية التقليدية، نتائجَ أكثر ديمومةً. لا شك أن أشعارًا كتلك التي ألَّفَها إيلوار يبدو لنا الآن أنها تتمتَّع بأناقة رسمية عظيمة، لكنَّ الأشعار الدادائية الأصيلة، كقصيدة شفيترز الإبداعية Ur Sonata التي خطَّها في عامَيْ ١٩٢٢ و١٩٣٢، أبعد ما تكون عن الفوضى فيما يتعلَّق بهياكلها الداخلية التجريدية. تتَّسِم هذه القصائد أيضًا بطابع الحياة الأخرى فيما يختصُّ بتطوُّر الشعر الملموس وجماليات الأداء في الفن الأوروبي فيما بعد عام ١٩٤٥، وربما كان هذا الطابع أكثر أهميةً من الشعر السريالي الذي كثيرًا ما أنتج أسلوبًا متكلفًا وصورًا نمطية مبتذلة.

تكمن الطبيعة الطباقية لشعر الدادائية في تماشيه مع الفلسفات النسبية التي اعتنقها مؤلِّفُو هذا النوع من الشعر؛ فقد أكَّدَ تريستان تزارا في «بيان الدادائية» عام ١٩١٨ على أن «العمل الفني لا يكون أبدًا جميلًا، بموجب قاعدة محدَّدة وبموضوعية، في أعين الجميع.» ولقد شكَّكَ السرياليون أيضًا في الأفكار المعيارية للجمال، لكن أندريه بريتون كتب تنظيرًا عن الصورة السريالية — في شكلها اللفظي والبصري على حد سواء — فيما يختصُّ بفكرة «الجمال الاختلاجي» في مقالته الفلسفية-الذاتية «عشق جنوني» (١٩٣٧). وإذ عمد بريتون بإصرار إلى تفادي معايير الجماليات التقليدية، خاصةً أنه بَدَا مؤيِّدًا ضمنًا للأدب والفنون البصرية، فقد تحدَّثَ عن تجربة الجمال باعتبارها مقارِبةً لشكل من أشكال الاختلاج الجسماني المشوب بتيار قوي وشَبَقي. عرَّفَ بريتون، بغموض نوعًا ما، ثلاثةَ أنواع من «الجمال الاختلاجي» السريالي: «الشبقي المستتر» الذي نشأ بشكل مميز من المزج بين المتحرك والثابت (كما في المرجان)، و«الثابت-الانفجاري» التي ينبع عندما تُتَرجَم الحركةُ إلى سكون (كما في صورة فوتوغرافية لعربة تنمو فوقها النباتاتُ بشكل مفرط)، و«السحري-الظرفي» الذي انبثق من «مواجهة سحرية» مع عبارة أو موضوع عجيب ظاهريًّا.

هذه المحاولة لإنتاج فئات جمالية جديدة، التي تبدو على أي حال جزئية؛ تَشِي بالكثير عن الفارق بين الدادائية والسريالية. بالنسبة إلى الدادائيين، يستحيل أن تكون هناك تجربة جمالية معيارية؛ فالفن نفسُه عرضة للتشكيك. وفي المقابل، تبنَّى السرياليون توقًا يوتوبيًّا دائمًا لشاعرية/جماليات متحولة ومُبَدِّلة من واقع الخبرة.

العفوية في مقابل المصادفة

شكَّلَ الشعرُ أساسًا للجماليات الدادائية والسريالية؛ ولكنْ كيف تولَّدَتْ تحديدًا اللغةُ الشعرية لهاتين الحركتين؟ ومن أين نشأت؟ بالنسبة إلى السرياليين تحديدًا، كانت هناك إجابة واحدة جلية: اللاوعي. في «البيان السريالي الأول» الصادر عام ١٩٢٤، وصف أندريه بريتون كيف خطرت له، في منامه ذات ليلة عام ١٩١٩، عبارةٌ وكأنها «تطرق زجاج نافذته.» وسرعان ما استغلَّ بريتون مثل هذه المادة العارضة بشكل عفوي لأغراض شعرية، ونشر بالتعاون مع الشاعر فيليب سوبول أولَ نصٍّ سريالي-بدائي (عفوي) تحت عنوان «الحقول المغناطيسية» في عام ١٩٢٠. كانت العفوية ترتكز على الاعتقاد بأن سرعة الكتابة مكافِئة لسرعة الفكر؛ وبالكتابة على وجه السرعة دون موضوعٍ مسبق في العقل، أمسى الشاعر — بحسب تعبير بريتون — «جهازَ تسجيل متواضِعًا».

بحلول عام ١٩٢٢، وكجزء من حالة «غموض الحركة» المزعومة التي شهدت تحوُّلَ الدادائية تدريجيًّا إلى سريالية، جرَّبَ بريتون وأصدقاؤه المزيدَ من السُّبُل المؤثِّرة لتجاوز التحكُّم الواعي؛ فكان الواحد منهم لفترة من الوقت يستسلم بمحض إرادته لحالةٍ من التنويم المغناطيسي، ويردُّ على أسئلةٍ يطرحها عليه بقيةُ أعضاء المجموعة. كان الشاعر روبرت ديسنوس تحديدًا يخضع لتلك التجارب، وذات مرة استجابَ بطريقةٍ مُثيرة للأعصاب لأسئلةٍ عن الشاعر بنجامين بيريه:

س: ماذا تعرف عن بيريه؟

ج: سيَلقَى حتفَه داخل سيارة مكتظة بالركاب.

س: هل سيُقْتَل؟

ج: نَعَمْ.

س: على يد مَن؟

ج: (يرسم قطارًا، وثمة رجل يسقط من بابه) على يد حيوان.

س: أي نوع من الحيوانات؟

ج: شريط أزرق، يا متشردي العزيز.

في نهاية المطاف، كادت حالات الغفوة تخرج عن السيطرة؛ حيث حاول الشاعر رينيه سريفيل ذات مرة قيادةَ المجموعة إلى عملية انتحار جماعي، فتخلَّوْا عنها. عُدَّتِ العفوية بشكل متزايد ردَّة فعل لاكتشافات في الطب النفسي والتحليل النفسي. كان تَعَرُّض بريتون الأصلي لهذه التخصُّصات في عام ١٩١٦، عندما مَارَسَ تقنيات فرويد المتعلِّقة بالتداعي الحر للمعاني على مجموعةٍ من الجنود المصابين بالاضطراب العصبي في أثناء خدمته العسكرية كمساعد تمريض. لكن، لم يقدِّم فرويد نموذجَ العفوية بقدر ما قدَّمه الطبيب النفسي الفرنسي بيير جانيت، الذي أورَدَ كتابُه «العفوية النفسية» الصادر عام ١٨٨٩ بإسهاب شديد سيلًا من المعلومات المستخلَصة من المرضى الخاضعين للتنويم المغناطيسي. وعلى الرغم من ذلك، مال جانيت إلى التقليل من شأن الإرادة الإبداعية لمرضاه، وبحلول عام ١٩٢٤، عندما جعل بريتون العفويةَ التقنيةَ السريالية البارزة في «البيان الأول»، أُعطِيت الأولويةُ للتداعي الحر للمعاني لفرويد.

كانت العفوية السريالية ترتكز على كبْتِ الوعي العقلاني، ولكنْ علينا التأكيد على أنها لم تُستَغَلَّ دومًا في خلق الكتابة السريالية؛ فأغلب الأشعار السريالية المُستشهَد بها في القسم الأخير استَغلَّت هذه التقنيةَ استغلالًا جزئيًّا فحسب. ويجب عدم الافتراض أن تلك التقنية كانت من اختلاقات السريالية بالكامل؛ فالأشعار الدادائية السابقة لبيكابيا وتزارا وآرب وشفيترز كثيرًا ما انبثقت من عمليات مشابِهة، ولو أن آرب اعتبر الجسد والعقل على حدٍّ سواء منبعَ تلك الأشعار: «ينبع الشعر العفوي مباشَرةً من أحشاء الشاعر، أو من أي عضو آخَر فيه احتياطيات مخزونة … وهو يهتف ويسبُّ ويتلعثم وينشد متنقِّلًا بين الطبقات الصوتية كما يحلو له.» ويمكن الزعم بأن العفوية وظَّفها الدادائيون بشكل روتيني، وحوَّلها السرياليون في تاريخ لاحق ببساطة إلى نظرية باصطلاحات تحليلية نفسية. وحقيقة الأمر أنه إذا عُدْنا الآنَ إلى الطرق التي استوعب بها الدادائيون — وخاصةً في زيوريخ — التخلِّيَ عن السيطرة الإبداعية، لا لمصلحة العفوية بقدر ما كان تماشيًا مع المصادفة؛ فسيمكن تحديد بعض الفروق المهمة بين التوجهات الجمالية للدادائية والسريالية.

خلال الفترة ما بين عامَيْ ١٩١٦ و١٩١٧ تقريبًا، أنتج آرب — الفنان البصري الأساسي لدادائية زيوريخ — سلسلةً من الأعمال التجريدية بالتعاون مع شريكته صوفي تاوبر، جُمِعَت فيها قصاصات ورقية مربعة الشكل معًا على هيئة شبكات دقيقة على صفحات من الورق. هذه الأعمال، باعتبارها تجريداتٍ بصريةً، ساهمَتْ في بدايات مرحلةٍ واسعةِ النطاق في الفن الأوروبي آنذاك تشمل شخصيات بارزة مثل موندريان وكاندينسكي؛ ولكن الأبرز من ذلك أن القليل من أعمال تجميعات الصور التي أنتجها آرب، تقف على النقيض تمامًا من تلك الأعمال المتناهية الدقة. في تلك الأعمال، أسقَطَ آرب بعشوائية قصاصاتٍ من الورق على حوامل، وثبَّتَها حيث سقطَتْ (شكل ٣-١)، وزعم لاحقًا أن هذا العمل أُنتِجَ «بحسب قوانين المصادفة».

قبلها بفترة وجيزة، أنتج مارسيل دوشامب — الذي كان آنذاك في باريس، ولكن سرعان ما انتقل إلى نيويورك وإلى نسخته الخاصة من الدادائية — عملًا شبيهًا. وإذ شرع في العمل على لوحته «عروس جرَّدَها عزابها من ثيابها»؛ رائعته الفنية التي وضعها في زجاج وآلَ بها المآل إلى أن أمست تصويرًا تخطيطيًّا للرغبة المحبَطة، مُقابلًا بين مجموعة من «العُزاب» الآليين بالأسفل و«عروس» بالأعلى؛ فقد أسقط ثلاثة خيوط و«ثبَّتَ» التكوينات التي تشكَّلَتْ فيها، فأنتج قوالب منها لعبت دورَ تنويعات على مقياس معياري مُقنَّن، وبعدها استخدم تلك «الوقفات المعيارية» (كما سمَّاها) لمساعدته في تحديد وضع العُزاب في «الزجاجة الكبيرة»، مما أوحى بأن عمله اتفق مع مجموعة بديلة ولا عقلانية من القوانين الفيزيائية لقوانين الواقع الخارجي.

fig15
شكل ٣-١: هانز آرب، «مربعات متراصَّة بحسب قوانين المصادفة»، كولاج، ١٩١٦-١٩١٧، متحف الفن الحديث، نيويورك.

كان كلٌّ من آرب ودوشامب يجنحان بشكل جذري بعيدًا عن نموذج سيطرة المؤلف السائد في صناعة الفن آنذاك. كان الاثنان أيضًا رائدَيْن للتوجُّه «الدادائي» المميز الذي قام عليه تقليدُ الفن الجزافي في القرن العشرين، وهو التقليد الذي ضمَّ شخصياتٍ مثل المؤلف الموسيقي جون كيج. والأهم بالنسبة إلى سياق نقاشنا الحالي أن كِلَا الفنانَيْن كانا يستدعيان عمليات غير شخصية أو طبيعية بالمقارَنةِ بالعمليات البشرية ذات التوجُّه النفساني، ولو أن ذلك يُعتبَر من قَبِيل المفارقة في حالة دوشامب. كان لدى آرب فهْمٌ صوفي لما كان يفعله؛ إذ كانت المصادفة بالنسبة إليه ترتبط بالطبيعة، وتمثِّل جزءًا من «علة وجود مُستغلقة … ونظام لا سبيلَ للوصول إليه إجمالًا.» وبينما كان السرياليون في المقام الأول معنيِّينَ بالنفس الفردية، اختار الدادائيون استدعاءَ قوًى كانت مستقلَّة بالكامل عنهم؛ فقد كانوا لا يَثِقون بالغرور البشري والإعلاء المبالَغ فيه للمنطق البشري؛ فثمة حرب عالمية نشأت من مثل هذه القِيَم. ولم يحترموا كذلك مَنْهَجةَ فرويد للاعقلاني؛ إذ وصف تريستان تزارا التحليلَ النفساني ﺑ «المرض الخطير» الذي يُحبِط «ميولنا اللاواقعية»، ويساعد على تخليد المجتمع البرجوازي. لم يَثِقِ الدادائيون بفرويد؛ إذ عقد آماله على ترويض اللاوعي بدلًا من أن يسمح بحرية الحركة فيما يتعلَّق بخدمة النقد الاجتماعي؛ ولذلك شكَّكوا في الأساس الفرويدي للعفوية السريالية، ولو أنه يتعيَّن التشديد على أن السرياليين أقاموا وزنًا لفرويد بسبب سَبْره أغوارَ آليات اللاوعي، وليس بسبب «علاج» العلل التي أفضَتْ إليها تلك الآليات.

وإذ نبيِّن كيف يتعارض فهم الدادائيين للمصادفة مع فهم السرياليين للعفوية، تحوَّلَتْ نقاطنا المرجعية بضرورة الحال من النقاط الشاعرية إلى النقاط البصرية. ويتسق ذلك مع حالات العبور التبادلي ما بين الجماليات الأدبية والبصرية في الدادائية والسريالية السالفة الذكر. وإذا الْتَفَتْنا الآن إلى الفن البصري للسريالية، فمِن المُثير أن نرى أنه في حين وجدَتِ العفويةُ اللفظية مكافئًا لها في الابتكارات الفنية لفنانين بأعينهم، كانت المصادفة الدادائية مدمجة أيضًا خلسةً في ثنايا السريالية.

fig16
شكل ٣-٢: أندريه ماسون، «ميلاد الطيور»، رسم عفوي، حوالي عام ١٩٢٥، متحف الفن الحديث، نيويورك.

في الفترة بين عامَيْ ١٩٢٤ و١٩٢٥، أنتج الرسَّامُ الفرنسي أندريه ماسون، في محاولة منه للبحث عن معادل بصري للعفوية التي دعا لها بريتون في «البيان الأول للسريالية»؛ سلسلةً مهمة من «الرسوم العفوية»، وفيها امتزجَتْ مجموعةٌ من الصور الشخصية جدًّا — أجساد وحيوانات وعناصر معمارية شبقية الطابع — بشكل شعري معًا بينما طفق يرسم بسرعة ودون تعمُّد. قد تبدو هذه «الرسومات» لأول وهلة تجريديةً، لكنَّ السرياليين لم يخطوا نحو التجريدية التي رأيناها لدى آرب بالكامل؛ ولذا، بشيء من الجهد، يمكن تفسير لوحة ماسون «ميلاد الطيور» التي خطَّ خطوطها عام ١٩٢٥، على اعتبار أنها تمثِّل جسدَ امرأة بشكل مباشر نسبيًّا، وتخرج من فرجها الطيورُ.

بعد ماسون بفترة وجيزة، استجاب الفنان ماكس إرنست — الألماني المولد الذي انتقل مؤخرًا من كولونيا إلى باريس — على نحوٍ مثيل للبيان ﺑ «تَدْلاكَاته» عام ١٩٢٥، وهنا وضع الفنان صحائفَ من الورق على أسطح مرتفعة، كحبيبات الخشب، وطفق يمسِّدها، وبعدها سمح للأشكال المتكوِّنة بالتعبير عن نفسها وإيصال الإيحاء الخاص بها، فعزل أو أعاد تأكيدَ أجزاء من الصور لاستدعاء حيوانات ونباتات مخصَّصة. نشر إرنست هذه الصور على هيئة نُسَخٍ طبق الأصل ضمن مجموعة فنية بعنوان «التاريخ الطبيعي»، ومن اللافت أن إرنست الذي كان في مرحلة من المراحل جزءًا من حركة الدادائية، يكشف عن درجة أكبر بكثيرٍ من السلبية في طريقة عمله بالمقارَنة بماسون؛ ولذا، فهو يرجع إلى مبدأ المصادفة الشخصي بحسب فهم الدادائية له، ولو أن إلهامه المباشِر لم ينبع من أحدٍ سوى ليوناردو دافنشي الذي أوْصَى في «أطروحة عن الرسم»، بأنه على الفنانين استخدام لطخات عديمة الشكل كمُثيرات إلهامية للرسوم المركبة.

لقد سَخَّرَ إرنست ببراعة المصادفةَ الدادائية لخدمة العفوية السريالية، فجعلها مسئولةً أمام مقتضيات اللاوعي، وتكشف حالتُه كيف انتكَسَتِ الجماليات السريالية كثيرًا خلسةً إلى الدادائية. كان السرياليون يبتكرون طرقًا كثيرة لتفسير المصادفة تفسيرًا نفسانيًّا، فكانوا يعيشون حياتهم بحسب مبادئ «المصادفة الموضوعية» كما ناقشنا في الفصل السابق. لكن المرء يتساءل: هل انتهى بهم الأمر، في التحليل النهائي، إلى تمدين أو ترويض ما كان، في الدادائية، مبدأً لا بشريًّا ولا سلطويًّا في جوهره؟

الكولاج في مقابل الرسم

وإذ ما زلنا نتحدَّث عن الفن البصري للدادائية والسريالية، يجدر بنا أن نرسِّخ المزيدَ من الفروق بين الحركتين فيما يختصُّ بمنهجهما تجاهَ الوسائط والأساليب الفنية. يمكن عقد مقارَنةٍ مبدئية بالعودة إلى ماكس إرنست الذي أقام جسرًا بين الحركتين على أي حال، وكذلك بالنقلة التي أقدَمَ عليها من الاستخدام الدادائي للكولاج إلى نمطِ رسمٍ سريالي بشكل مميز.

في عام ١٩٢١، ونزولًا على دعوة دادائيي باريس الذين كانوا على دراية بأنشطته في كولونيا، أقام إرنست معرضًا للوحات الكولاج خاصته بمعرض «أو سان باريل» في باريس. كان المعرض وحيًا للباريسيين، وإذا كانت «الحقول المغناطيسية» لبريتون وسوبول قد بشَّرَتْ بالسريالية النصية، فقد بشَّر هذا المعرض بالسريالية البصرية، وسرعان ما انضمَّ إرنست إلى المجموعة وأنتج أعمالًا فنية — مثل «التدلاكات» السابق ذكرها — اتَّسَقَتْ مع نظرياتهم.

فما سرُّ أهميةِ أعمال الكولاج الدادائية لإرنست إذن؟ كان الكولاج راسخًا بالفعل كأسلوب طليعي آنذاك؛ إذ استُخدِمت قِطَعٌ من مشمع الأرضية وورق الحائط وما شابَهَ ذلك، في لوحات بيكاسو وبراك في الفترة ما بين ١٩١٢ و١٩١٤، في المرحلة المسمَّاة «التجميعية» من الحركة التكعيبية، وإلى حدٍّ كبير قد استُخدِمت بهدف إعادة إدخال تلميحات طريفة للعالَم الحقيقي في لوحاتهم التجريدية بشكل متزايد. لكن إرنست جمَعَ قصاصاته الصورية من شذرات لصور يمكن تمييزها؛ حيث جَاوَرَ ما بين أجزاء من صفحات موسوعة وأدلة تجارية مصوَّرة وأطروحات تشريحية وصور فوتوغرافية؛ بغيةَ إنتاج وقائع نقيضة مزعجة. في العمل الفني «المحادثة المقدسة» الصادر عام ١٩٢١ على سبيل المثال، وُضِعت صور الطيور والقصاصات المستخلصة من الرسوم البيانية التشريحية، مع صور فوتوغرافية في فضاء صُوَري شبه مبهم. وإذ تشير ضمنًا في عنوانها لأيقونة دينية — أَلَا وهي الفكرة التقليدية للسيدة العذراء والطفل، ويحيط بهما القديسون — تستدعي لوحةُ «المحادثة المقدسة» بطريقة فيها تجديفٌ فكرةَ الحَبَل بلا دنسٍ، بواسطة تصوير حمامة تعترش «رحمًا» على شكل حوض ينتمي للقوام الأساسي للمرأة الموجودة في الصورة.

فور أن انتقل إلى باريس، في ذروة «الحركة الغامضة»، طفق إرنست يترجم الكولاج إلى اصطلاحات تصويرية، وفي عام ١٩١٩، افتتن بشدة بصورٍ لأعمال الرسَّام الإيطالي جورجيو دي شيريكو. خلال فترةٍ خصبة في باريس فيما بين عامَيْ ١٩١١ و١٩١٥، طوَّرَ دي شيريكو نمطًا «ميتافيزيقيًّا» للرسم تخيَّلَ فيه الميادينَ الإيطالية المهجورة وقتَ الأصيل وثمة ضوء غير أرضي يكسوها، فتُلقِي التماثيلُ بظلالٍ حزينة طويلة. إن الأسلوب الطفولي الطابع الذي رسم به شيريكو تلك الرؤى، والذي انطوى على استخدام منظورات متراجعة بشكل مثير للارتباك، والإحاطة المحكمة بالأشكال المرسومة أفقيًّا بخطوط سوداء، أتاح لإرنست المفردات الصورية التي استطاع بها إعادةَ تجسيد التجاورات المذهلة لتجميعاته الصُّوَرية. تحت تأثير دي شيريكو، أثمرَتِ الإلماحاتُ شبه المبهمة في أعمال كولاج بعينها اقتراحاتٍ بِكَوْنٍ نفسي ملموس، وأمست سلسلة اللوحات التي أنتجها إرنست ما بين عامَيْ ١٩٢٢ و١٩٢٤ — بما في ذلك «أوديب ملكًا»، و«لن نعرف شيئًا عن هؤلاء الرجال»، و«بييتا» (شكل ١-٣) — ركائزَ للسريالية البصرية.
fig17
شكل ٣-٣: ماكس إرنست، «المحادثة المقدسة»، كولاج، ١٩٢١.

ولكن، يُزعَم أنه بترجمة كولاج الدادائية إلى مفردات الرسم السريالي، وجَدَ أن ذلك الكولاج خضَعَ لعملية مناظرة لتلك التي تعرَّضَتْ لها المصادفةُ الدادائية؛ إذ تمَّ ضَمُّها للعفوية. وإذ وظَّفَه إرنست في كولونيا، فقد استدعى الكولاج عالمًا كان معاديًا بشدة للسيطرة البشرية؛ أنظمة كاملة للأفكار ولأساليب التمثيل بَدَتْ متعارِضةً. ولكن عندما كتب بريتون عن أعمال الكولاج لإرنست في الدليل المصور الخاص بمعرض «أو سان باريل» عام ١٩٢١، ربط الأسلوب بالشاعرية السريالية البدائية، مُوَظِّفًا مجازه المفضَّل الخاص بالشرارة المتولِّدة بفعل الْتِقاء الوقائع المنفصلة للتأكيد على آثار إرنست. ولمَّا أقدَمَ إرنست على رسم لوحاته «السريالية» بالكامل في أوائل العشرينيات، تحت رعاية بريتون جزئيًّا، عاد إلى توظيف أسلوبٍ — وهو الرسم بالزيت — حظرَه الدادائيون فعليًّا لما يحمله من مضامين النخبوية والتقليد.

التجميع الصُّوَري في مقابل الرسم

يمكن تعزيز هذا الإحساس بتخفيف المبادئ الدادائية من خلال مقارَنةِ أسلوبٍ دادائي آخَر، ألَا وهو التجميع الصُّوَري (المونتاج الفوتوغرافي) بالرسم السريالي. كان التجميع الصوريُّ الابتكارَ البصري البارز لدادائية برلين، وقد زعمت جماعتا برلين، جماعة هاوسمَن-هوخ وجماعة جروتس-هيرتسفيلده-هارتفيلد، أنهما «اكتشفتا» هذا الأسلوب؛ لكنْ لا ينبغي أن تعوقنا مثل هذه المشاحنات هنا. من المهم، على الرغم من ذلك، أن نميِّز في عُجالةٍ ما بين التجميعات الصُّوَرية لجماعة برلين، وبين قصاصات الصور (الكولاج) لإرنست التي وصفناها في القسم الأخير. نادرًا ما استخدم إرنست إشاراتٍ اجتماعيةً صريحة؛ فقد أوحت أعمالُه بصدامات لا عقلانية بين الأفكار أو الأنظمة الفكرية، وتحقيقًا لهذه الغاية قلَّلَ من شأن الطبيعة المادية لمواده؛ حيث أعاد تصويرَ تجميعاته الصُّوَرية فوتوغرافيًّا بغيةَ خلْقِ أثرٍ سلس. وفي المقابل، كان التجميع الصوري البرليني مُسيَّسًا إلى حدٍّ كبير؛ حيث إن فعْلَ قصِّ الصور من الصحف والمجلات وإعادة المزج بينها، كان يحمل في حد ذاته دلالاتٍ تنمُّ عن شقِّ نسيج الواقع الاجتماعي. لقد جعل التجميعُ الصوري البرليني عمليةَ إنشاء الصورة الفعلية — الطبيعة المتشظِّية لأجزاء الصورة، وتنافراتها فيما يتعلَّق بالتدرُّج الفوتوغرافي … إلخ — تتجلَّى في العمل النهائي. يمكن أن نرى ذلك في صورة «عروسان برجوازيان – شِجَار» لهانا هوخ عام ١٩١٩؛ حيث يصير المحتوى الساخرُ للصورة — وهي عبارة عن محاكاةٍ ساخرة للزواج البرجوازي، يخوض فيها زوجان صبيانيان مجهَّزان بعتاد رياضي غمارَ صدماتهما الخاصة بين أحدث الأجهزة المنزلية — تاليًا في الأهمية لِلْإحساس بأن هذه ما برحت شذرات مُقْتَطَعة من مادة مطبوعة.

بالتحول إلى الرسم السريالي، من الواضح أنه كأسلوب «توقيعي» — وبتعبير آخَر: كأسلوب تشي فيه الخطوطُ والعلامات التي يصنعها الفنانُ بريشته ﺑ «لمسته» — يكاد يكون من المستحيل القول بأن الرسم يشير إلى التفاعل أو التبادل الاجتماعي على غرار التجميع الصوري البرليني. وبينما تكلَّمَ هاوسمَن في برلين ذات مرة عن زملائه الفنَّانين باعتبارهم «خبراء تجميع صور»، حيث درجوا على مواءمة صُوَرهم معًا شأنهم شأن البنَّائين؛ تحدَّثَ الرسمُ السريالي في المقابل عن الخيال الفردي وعبقرية الفنان. لقد افتقَرَ في جوهره إلى الصبغة السياسية الدادائية.

لقد عُومِل الرسم السريالي بشكٍّ إلى حدٍّ ما من داخل الحركة السريالية نفسها؛ ففي عام ١٩٢٥، وصف بريتون الرسمَ السريالي بأنه «حيلة مؤسِفة»، وأنه يُناط بالفنانين أنفسِهم إقناعُه بتطبيقاته. كان الرسم السريالي من بدايته تقريبًا مُسْتَقطَبًا. من ناحية، كان هناك نمط واقعي فني من أنماط الرسم تمَّ فيه تصويرُ الوقائع البديلة اللاعقلانية بدقة شبه أكاديمية. ترسَّخَتْ هذه النزعةُ في أعمال جورجيو دي شيريكو، ولكنها تجذرت أيضًا لدى الرسَّامين الرمزيين الفرنسيين في القرن التاسع عشر، أمثال أوديلون ريدون وجوستاف مورو. ولأغراض التيسير، تُسمَّى تلك النزعةُ «الرسمَ الحالم»، ولو أن أمثلة تلك النزعة، التي أنتجها إرنست ودالي، كما سيتجلَّى لنا لاحقًا، لم تَستغِل بضرورة الحال الأحلامَ الشخصية، بل كثيرًا ما قامت على سجلاتٍ لحالات فرويديَّة.

fig18
شكل ٣-٤: هانا هوخ، «عروسان برجوازيان – شجار»، تجميع صُوَري، ١٩١٩.

من ناحية أخرى، كان هناك الرسم «العفوي» الذي اتَّسَم بالإنتاج العفوي للعلامات أو اللطخات التصويرية للإيحاء بأشكال، والذي مارَسَه فنانون أمثال أندريه ماسون السابقة الإشارة إلى «رسومه العفوية» ذات الصلة. ويمكن الزعم بأن هذا الأسلوب أكثر «سرياليةً» حقًّا فيما يختصُّ بتنظير بريتون.

fig19
شكل ٣-٥: خوان ميرو، «الصياد»، زيت على قماش، ١٩٢٤، متحف الفن الحديث، نيويورك.
إلى جانب ماسون، يُعتبَر خوان ميرو أحدَ رموز تلك النزعة «العفوية»؛ فبعد أن رحل عن بلدته الأم كاتالونيا قاصدًا باريس خلال عامَيْ ١٩٢٠ و١٩٢١، نَمَتْ لديه في بداية الأمر لغةٌ صُوَريَّة متفرِّدة جدًّا في أعمالٍ مثل «الصياد» (١٩٢٣-١٩٢٤) (شكل ٣-٥). في الجهة اليسرى أعلى هذا العمل، تمَّ تصوير «الصياد» الذي يحمل العملُ اسمَه كرجل عصًا، يتجلَّى حذره في أذنه المُضخمة بشكل مهول، وقلبه الذي نراه «مشتعلًا». وفي الجزء السفلي من القماش نرى مَحجره؛ وهو مزيج عجيب من سمك السردين وأرنب. وُصِفت الأعمال الكاملة لميرو لاحقًا بهذا النوع من التحوُّل الشاعري المتلون؛ حيث تخضع الإشارات البصرية إلى تحوُّل مستمر من لوحة إلى اللوحة التالية لها. لقد واءَمَتِ العفوية التي وظَّفَها منذ منتصف العشرينيات — أحيانًا في تخطيط أعماله، وأحيانًا كجزءٍ من النتيجة النهائية كما في لوحته الشهيرة «ميلاد العالم» (١٩٢٥) — أساليبَ عمله الانسيابية.

كما سلف وألْمحنا، تعرض الرسم إلى فترة متأجِّجة على أيدي المنظِّرين السرياليين؛ فبعد البيان الأول مباشَرةً، وضع الكاتب ماكس موريس مقالة تحت عنوان «الحملقة المسحورة»، عبَّرَ فيها عن شكوكه في «رسم الأحلام»؛ فبحسب موريس، لم تكن تلك الأعمال قادرةً على التعبير عن الطبيعة المؤقتة أو المُتكشِّفة للأحلام. كان الفيلم، كما سنرى لاحقًا، أفضلَ جاهزيةً لهذا النوع من التعبير. كذلك كبَحَتِ «المراجعةُ الثانوية»، التي يشتمل عليها إنتاجُ تلك الأعمال، جماحَ اللاوعي؛ ففي أبريل عام ١٩٢٦، أعلن بيير نافيل — وكان آنذاك محرِّرًا للدورية السريالية «الثورة السريالية» — بشكل أكثر تأثيرًا، أن «كل الناس يعرفون أنه ما من شيء يُدعَى الرسم السريالي.» وحتى العفوية الصوريَّة شابَتْها الشكوكُ، بما أن العادات الجمالية، كحسِّ التوازن التركيبي على سبيل المثال، ربما أعاقت الوصولَ إلى التلقائية الكاملة.

انتفض بريتون يُدافع عن الرسم، وكتب سلسلةً من المقالات ومقدمات الأدلة المصورة في سنوات العشرينيات اللاحقة؛ حيث ناصَرَ من الناحية الشعرية فنَّانين مثل الرسَّام الفرنسي إيف تانجي، الذي أُعْجِبَ بلوحاته الطبيعية الحالمة الحافلة بأشكال عجيبة ذات بنية شبيهة بالأحياء. لكن بريتون لم يضع تبريرًا نظريًّا قطُّ للرسم السريالي؛ ولذلك كان الاسم المحدَّد لتلك الكتابات المُجَمَّعَة في نهاية المطاف «السريالية والرسم». كان بريتون على اقتناع بأهمية طلائع السريالية أمثال دي شيريكو وبيكاسو، وقد حاوَلَ أن يخطب ودَّ الأخيرِ تحديدًا لفترة طويلة دون أن ينجح في ذلك، ولا شكَّ أن الرخصة التي مُنِحت للخيالات الجنسية والعنيفة للسريالية ضَخَّتْ حياةً جديدة في إنتاج بيكاسو في العشرينيات والثلاثينيات. لكن بريتون تذبذب في دعمه لأمثال ميرو وماسون، وكان محور النقد عنده، بما يتَّسِق مع الالتزامات الماركسية بشكل متزايد، هو أن الرسَّامين خضعوا بسهولةٍ لإغراءات «مهنتهم»، وسرعان ما استغلوا المنافعَ التجارية التي عُرِضت عليهم؛ ولعل الأسلوب الأكاديمي نسبيًّا لوافد متأخِّر على السريالية نوعًا ما — وهو الرسام البلجيكي رينيه ماجريت — هو الذي أفضى إلى بعض التنازلات، لكن الحَرْفيَّة التي تُعرَض بها أفضل أعمال ماجريت من الظواهر الهذيانية أو المعضلات الفلسفية التي تُضفِي عليها حدَّةً متعنِّتة. من ناحية أخرى، تؤكِّد البراعةُ الفنية لسلفادور دالي، الذي انضمَّ بشكل درامي لجماعة باريس من موطنه كاتالونيا عام ١٩٢٩، كافةَ مخاوفِ بريتون.

fig21
شكل ٣-٦: سلفادور دالي، «الوجه الارتيابي»، مخطط الصفحة كما ظهر في دورية «السريالية في خدمة الثورة»، العدد الثالث، (ديسمبر، ١٩٣١).
لقد كانت الرسومُ السريالية الأولى لدالي — مثل «لعبة الحداد» و«المستحلم الأكبر» عام ١٩٢٩ — إبداعيةً بشكل أصيل؛ حيث كان أسلوبُها «الفائقُ الرجعية»، بحسب وصف بريتون، مناسبًا تمامًا لتحقيق مجموعة من الخيالاتِ المَرَضية النفسية — المجموعةِ عادةً من مصادر أدبية مثل فرويد، أو «المتخصِّص في علم الجنس» في أواخر القرن التاسع عشر ريتشارد فون كرافت-إيبنج — التي حفلت بها تلك الأعمال. في بداية الثلاثينيات، بذل دالي أيضًا جهدًا عظيمًا لدعم الموارد النظرية للسريالية البصرية؛ حيث ابتدع «الأسلوبَ الارتيابي-النقدي»، واستعرض ذلك في مساهمة موجَزة له في دورية «السريالية في خدمة الثورة» عام ١٩٣١، حيث نسَخَ بطاقةً بريدية لمجموعة من الأفارقة الجالسين قبالةَ كوخٍ من القش، وتَظهَر هذه البطاقةُ عند قلبها جانبيًّا على هيئة نموذجٍ لرأس (شكل٣-٦). ومثلما انطوى جنونُ الارتياب السريري على إعادةِ تفسيرٍ قهريةٍ للظواهر الخارجية، ملأ دالي لوحاتِه المرسومةَ على القماش في الثلاثينيات بصور مزدوجة مبتكرة ببراعة، وبذلك، كما قال حرفيًّا، فإنه «ينزع الثقة عن الواقع». ولكن، في نهاية المطاف، مالت تلك الأدواتُ إلى التصنُّع والتكلُّف، وبينما استقطب دالي حتمًا رعاةً أثرياء، أمثال جامع التُّحَف الإنجليزي إدوراد جيمس، تراجَعَتْ قدرتُه على الابتكار، وأمسى دالي «الساعيَ وراء المال»، بحسب الاسم الشهير الذي ابتكره بريتون بعد أنْ أعاد ترتيب أحرف اسم دالي.

انتهى المطاف بالرسم باعتباره وترَ أخيل السريالية؛ فقد كان هناك عيبان يشوبانه؛ ففي شكله العفوي كان يتألَّف من اشتراطاته المسبقة الجمالية جدًّا؛ وفي أكثر أشكاله واقعيةً من الناحية الأكاديمية، يُمكِن أن يُنظَر إليه باعتباره حليفًا للذوق البرجوازي. ويُزعم أن السيناريوهات «السريالية» بشكل مُثقل — للفنان الفرنسي بيير روي، أو البلجيكي بول ديلفو، على سبيل المثال — لا تتجاوز بكثيرٍ كوْنَها جزءًا من النزعة الأكاديمية.

التصوير الفوتوغرافي

إذا أخفق الرسمُ في مضاهاة الطموحات السريالية، فحريٌّ بنا أن نقارن ما بين حظوظه وحظوظ «التصوير الفوتوغرافي المباشر» (تمييزًا له عن التجميع الصُّوَري). في هذا الكتاب، نزعتُ إلى توظيف التصوير الفوتوغرافي، مثلما فعل السرياليون، لتوثيق آرائهم، وبالقدر نفسه للتأكيد على مكانته الخاصة كشكلٍ من أشكال الفن؛ ولكنْ يمكن بسهولةٍ التأكيدُ على أن هذا الفن مَثَّلَ الوسطَ السريالي بامتياز. إن حقيقة كوْنِ التصوير الفوتوغرافي وسطًا ميكانيكيًّا، اقتضَتْ بحدِّ ذاتها أنه يُمثِّل «أداةَ تسجيلٍ متواضعةً» — إنْ شئنا استدعاءَ وصف بريتون للشعراء السرياليين — مُؤَهَّلَةً بشكل متفرِّد لنقل السريالية المدمجة في الواقع بشكل عفوي. من المهم أن نتذكَّرَ أن نموذج بريتون، الوارد في «البيان الثاني للسريالية»، كان دومًا مزيجًا بين الواقعي والسريالي، على العكس من دالي الذي سعى، بحسب ما جاء على لسانه، إلى «تنظيم الارتباك منهجيًّا».

إن التصويرَ الفوتوغرافي سرياليٌّ في جوهره، وكما قالت سوزان سونتاج: «تكمن السرياليةُ في قلب مشروع التصوير الفوتوغرافي، وتحديدًا في خلق عالَمٍ مزدوجٍ، وحقيقةٍ من الدرجة الثانية، أضيق أفقًا ولكن أكثر دراماتيكيةً من المنظورة بالعين المجردة.» فالكاميرا كثيرًا ما تلتقط تفاصيلَ عجيبةً بمحض المصادفة، فتجعلنا على دراية بغرابة المألوف، وبالتأكيد استغلَّ السرياليون ذلك؛ فقد طلب بريتون، على سبيل المثال، من المصور الفوتوغرافي جيه إيه بوفارد إنتاجَ صورٍ فوتوغرافية لمواقع باريسية ممِلَّة ظاهريًّا لروايته «ناديا»، وكما قلنا سابقًا، كانت تلك الرواية تحكي قصةَ حبٍّ تحفل فيها مشاعرُ العاشقين — فضلًا عن الجنون المبدئي لناديا — باكتشافاتٍ عارضةٍ من أشياء يومية.

لا شكَّ أن السريالية كان لها نصيب من التصوير الفوتوغرافي «الفني» المُعَدِّ له مسبقًا؛ ثمة مثالٌ بارز لذلك، هو تجهيزات الاستوديو المبتكرة ﻟ «مان راي» الدادائي السابق بجماعة نيويورك — الذي انجذب إلى باريس، شأنه شأن ماكس إرنست — لحظةَ ميلادِ السريالية تحديدًا؛ فقد جلب مان راي أثرَ مهارات الاستوديو الرائعة إلى صور مغريةٍ ومُؤَلَّفَةٍ تأليفًا كلاسيكيًّا وشديدةِ الفيتشية لجسد المرأة (شكل ٤-٣). كان التلاعُب الصوري الفوتوغرافي أيضًا يُمَارَس على نطاق واسع، ومرةً أخرى نجد أن مان راي يمثِّل أهميةً قصوى ﺑ «صوره المساحية الضوئية»، التي تُوضَع فيها الأغراض على ورق فوتوغرافي في غرفة مظلمة، ويتمُّ جمْعُ الأغراض الجاري تعريضها للضوء، بحيث تُتْرَك الأشكالُ «السلبية» بشكل شبحي في الخلفية؛ و«عمليات التشميس» التي كان يتمُّ فيها إضاءة الغرفة المظلمة لفترة وجيزة أثناء عملية التظهير؛ مما يؤدِّي إلى ظهور هالةٍ من الضوء تحيط بحدود الصور التي تمَّ تصويرُها.

امتدَّ التلاعُب الصوري أيضًا إلى عملياتٍ كالتعريض المزدوج والتراكب أو مزج الصور السلبية بُغْيةَ إنتاجِ صور مشقوقة داخليًّا و«مزدوجة»، وقد اعتبرَتْ مؤرخةُ الفن روزاليند كراوس هذه العملياتِ وأمثالَها، التي قام بها مان راي أو المصور الفرنسي موريس تابارد، مناسِبةً بشكل عجيب للسريالية؛ من الواضح أنها توحي بأن الواقعَ الذي تسجِّله الطبيعة الميكانيكية للتصوير الفوتوغرافي بشكل متكلَّف فيه غيرُ مستقر في جوهره، بل هو مجموعة من الإشارات القابلة للتنقُّل، شأنها شأن النص، وهذه النقطة قد تُذكِّرنا مجددًا بالأساس الشعري للجماليات الدادائية/السريالية. ولكن، على الرغم من رأي كراوس، فإنه عندما يكون التصوير الفوتوغرافي على أقل تقدير «متطفِّلًا على الفن» بوعي ذاتي، كما أَلْمحنا آنفًا، فلربما يُعتبَر سرياليًّا على نحوٍ أصيل. فبينما كان الرسم السريالي يبدو ممتثلًا للتقاليد بعضَ الشيء مقارَنةً بالكولاج والتجميع الصوري للدادائيين، فإن التصوير الفوتوغرافي يتجلَّى باعتباره وسطًا سرياليًّا «عفويًّا» بشكل بارز، وبينما كان للرسم السريالي إرثٌ محبط نسبيًّا، على الأقل في الدول الأوروبية التي نشأ فيها؛ حيث أنتج جحافلَ من المُقلِّدين وقليلًا من الوارثين الفعليين، فقد كان بعضُ أبرز الشخصيات في عالم التصوير الفوتوغرافي في منتصف القرن العشرين — وعلى رأسهم: هنري كارتييه-بريسون، وبراساي، وبيل براندت، وأندريه كيرتيز — متأثِّرًا قطعًا بالسريالية.

الأعمال الفنية الجاهزة في مقابل الأغراض

ربما وجد الرسمُ بعضَ المعاناة عند مقارنته بالتصوير الفوتوغرافي داخل السريالية، ولكنه صمد على الأقل. وفي المقابل، لعب فن النحت بمعناه التقليدي دورًا متواضعًا في كلٍّ من الدادائية والسريالية، واغتصب مكانه ضربٌ جديد من الإنتاج الثلاثي الأبعاد؛ أَلَا وهو الأغراض العادية المسبقة الصنع، ويُعَدُّ مارسيل دوشامب وأعماله الفنية الجاهزة نقطةَ الانطلاق التاريخية هنا. سبق أن ناقشنا أشهر هذه الأعمال، ألَا وهو «النافورة»، التي أنتجها في نيويورك عام ١٩١٧، لكنها لم تكن أولَ الأغراض المسبقة الصنع (ومن ثَمَّ جاءت تسمية «الأعمال الجاهزة») التي ينسبها دوشامب لنفسه. كان ذاك الغرض هو «دولاب الدراجة الهوائية» عام ١٩١٣، وقد أنتجه في باريس قبل انتقاله مباشَرةً إلى أمريكا، وكان في الواقع مزيجًا من غرضين: دولاب والشوكة الأمامية لدراجة هوائية ومقعد خشبي. وقد وُضِع الدولاب والشوكة داخل المقعد رأسًا على عقب لخلق «منحوتة» قابلة للحركة على «قاعدة».

من الواضح ممَّا ورد أعلاه أن اصطلاح النحت ملائم — وإنْ كان بشكل فيه مفارَقة — ﻟ «دولاب الدراجة الهوائية». يسخر هذا الغرض خلسةً من النحت التقليدي بقدر ما يَطعَن في الشقاق الهرمي بين القاعدة والغرض المنحوت؛ فالمقعد يُعتبَر غرضًا نفعيًّا شأنه شأن الدولاب، ولذا فهناك مساواة بين العناصر الهيكلية للعمل الفني. لقد حرَّرَ دوشامب الأغراضَ من البِنَى الهرمية للفن، وأعاد إضفاءَ طابع جمالي لها بشكل فيه مفارَقة في الوقت نفسه. وهذا الاستخدام للأغراض الحقيقية كي تحلَّ محلَّ الأشكال المنحوتة، قد مثَّلَ بلا شكٍّ تحديًا مهولًا للتقليد، على الرغم من أن بيكاسو أدمَجَ قماشًا زيتيًّا وحبلًا في لوحته «حياة جامدة مع كرسي خيزران» عام ١٩١٢. وكما في التركيب الصوري لدادائيي برلين، كانت هناك محاولةٌ لتطهير الفن من مواده المألوفة، والانخراط ماديًّا مع عالم الإنتاج الصناعي الواسع النطاق.

يُحتمَل أن أهم تحدٍّ يمثِّله العملُ الفني «دولاب الدراجة الهوائية» كان على مستوى التأليف. وشأنه شأن سلسلة الأعمال الفنية الجاهزة لدوشامب التي تلَتْه، يطرح هذا العمل سؤالًا محوريًّا عن طبيعة الفن نفسها. إذا كان الفن، كما ذكر دوشامب من قبلُ، من الناحية الاشتقاقية، يعني «أن يصنع المرءُ شيئًا»؛ فقد برَّأ دوشامب نفسَه بالكامل من هذا الالتزام.

لم يحوِّل دوشامب الأعمالَ الفنية الجاهزة إلى شكل من أشكال الاستفزاز المفاهيمي إلَّا عام ١٩١٧، بعد نشْرِ صورة «النافورة» (شكل ١-٢). قبل ذلك، اختيرت الأغراضُ أغلبَ الظن على اعتبار أنها «لُعب فلسفية» خاصة، وكما في حالة «دولاب الدراجة الهوائية»، لم تكن الأعمالُ الفنية الجاهزة بضرورة الحال أغراضًا فردية. وبحلول أوائل العشرينيات — وربما لتسجيل الانشغالات الأدبية لجماعة الدادائية الباريسية الوليدة — كان دوشامب بصدد إنتاج «أعمال فنية جاهزة مساعدة» مثل «الأرملة/النافذة الجديدة» Fresh Widow (١٩٢٠)، وهي عبارة عن زوج من النوافذ الفرنسية بمقاس مُصغَّر نسبيًّا، يحوي مربعات من الجلد الأسود اللامع بدلًا من ألواحها الزجاجية. إن التفاعل بين العنوان والغرض مهم هنا؛ حيث يذكِّرنا مجددًا بالأساس اللفظي للجماليات الدادائية/السريالية؛ فعند لفظ كلمتَيِ العنوان بصوت عالٍ بالإنجليزية، ينطمس الحرف الفاصل n بين الكلمتين، فيستدعي مجموعةً من التداعيات الحرة الانطلاق، بما في ذلك السادية-المازوخية. شارَكَ مان راي — وكان آنذاك واحدًا من شركاء دادائية نيويورك المنسوبة لدوشامب — صديقَه دوشامب دعابتَه السوداء؛ فقد يكون عمله الفني «هدية» عام ١٩٢١ من حديد مسطح، عليه صفٌّ من حبال الأشرعة البارزة بشكل عنيف من القاعدة الحديدية. إن التجميعات الدادائية على مثل هذه الشاكلة شغلت مكانةً أسطوريةً بين سرياليِّي باريس.
في عام ١٩٢٤، كتب الزعيم السريالي بريتون مقالةً مهمة تحت عنوان «مقدمة لخطاب عن قصور الواقع»، وفيها ناقَشَ بريتون كتابًا غامضًا صادَفَه في حلم من أحلامه:

كان ظهر الكتاب يحمل شكلَ عفريتٍ خشبيٍّ، لحيتُه البيضاء المشذبة على الطريقة الأشورية قد بلغَتْ قدمَيْه. كانت ثخانة التمثال عاديةً، لكنها لم تمنعني من قَلْب الصفحات المصنوعة من قماش أسود ثقيل.

إن إيمانه بأن هذه الأغراض ينبغي نشْرُها وبثُّها من أجل «التشكيك» في «إبداعات «العقل» ومنتجاته»؛ بَشَّرَ بإنتاج «الأغراض الوظيفية رمزيًّا» داخل السريالية. وعلى الرغم من ذلك، كان على مرحلة النشاط هذه أن تنتظر حتى عام ١٩٣١.

كان الحافز الفوري لتلك المرحلة منحوتةً نحَتَها الفنانُ السويسري ألبرتو جياكوميتي، وهو المثَّال التقليدي الوحيد الذي دار في مدار السريالية، واستقرَّ في باريس عام ١٩٢٢. كان لعمله الفني «بدون عنوان (كرة مُعلقة)» عامَيْ ١٩٣٠ و١٩٣١ — وهو عبارة عن بناء غامض عُلِّقت فيه كرةٌ من الجص داخل هيكلٍ قفصيِّ الشكل، وثمة شقٌّ في محيطها السفلي يكشط الحافةَ الحادة لهلال جصِّي موضوع أسفلها مباشَرةً — أثرٌ مهول على الجماعة السريالية عندما نُشِرت صورةٌ له في دورية «السريالية في خدمة الثورة»، وامتدح بريتون تحديدًا هالتَها التي تَشِي برغبة غير مُحققة.

إنَّ موجةَ إنتاجِ الأغراض التي تبعت هذا الكشفَ الجماعي قد ولَّدَتْ بعضَ أجمل أعمال السريالية البصرية، وتفوَّقَ دالي على نفسه بمجموعة فتيشية معقَّدة وصفها على النحو التالي:

حذاء امرأة، وُضِعَت داخلَه زجاجةٌ من الحليب، في منتصف معجونٍ لَدْنٍ شكلًا ولونه أشبه بالبراز. تتكوَّن الآلية من غمس قالب سُكَّر رُسِمَت عليه صورة حذاء، بُغْيةَ رؤيةِ قالب السكر، ومن ثَمَّ صورة الحذاء وهي تذوب وتتفكَّك في الحليب.

بعد فترة من الوقت، أنتجَتِ الجماعةُ أغراضًا أقل تعقيدًا، لعل أشهرها «إفطار مغطًّى بالفراء»، وهو عبارة عن كوب وصحن مغطَّيَيْن بالفرو من إنتاج الفنانة السويسرية النشأة ميريت أوبنهايم — وهي واحدة من النساء المعدودات اللائي لعِبْنَ دورًا بارزًا في هذه المرحلة من السريالية — وكان هذا العمل عامِلَ الجذبِ الأساسي بالمعرض الرئيسي للأغراض السريالية بمعرض باريس لتشارلز راتون عام ١٩٣٦. لكن هذا العمل الفني «إفطار مغطًّى بالفراء» صار مألوفًا أكثر من اللازم. ثمة عمل مهمٌّ آخَر لأوبنهايم بعنوان «ممرضتي»، ويستغل هذا العمل أيضًا الأشياءَ المشهورة بفتيشيتها، ألَا وهي الأحذية. من المُثير التفكُّرُ في السُّبُل المختلفة التي يستخدم بها دالي وأوبنهايم تلك الأشياء، مع الوضع في الاعتبار أنه على الرغم من أن علماء النفس بصفة عامة كانوا عازفين عن الإقرار بوجود الفتيشية الأنثوية، فقد كانت تجميعات أوبنهايم تبدو وكأنها تنمُّ عن النقيض. ذكرت أوبنهايم ذات مرة أن الأحذية تستدعي لديها فكرةَ «الوركين المضغوطين معًا في متعة»، في إقرار متأخِّر منها ﺑ «الجو الحسي» الذي كان ينضح من ممرضتها في طفولتها. لعلها تسخر من قضية الفتيشية الأنثوية بأسرها هنا؛ فالفتيشية الأنثوية، إنْ وُجِدت، ترتكز على الوظيفة النفسانية للفتيشية عند للرجال، والتي من المفترض أن تكون عادة مغايرة الجنس في أساسها. لا شك أن غرض دالي يعزِّز هذه الفكرةَ، وبالتأكيد هناك ما يتجاوز التلميحَ إلى خيال مِثلي في تعليق أوبنهايم. يستطيع المرءُ بسهولة أن يرى الحذاءَ المربوط، الذي يلعب أيضًا دورَ ديكٍ تُبِّلَ على صحن، باعتباره يُشكِّل شكلًا من خيالات الاستعباد الجنسي من ناحية الفنانة.

fig22
شكل ٣-٧: ميريت أوبنهايم، «ممرضتي»، صحن معدني، حذاء، رباط، وورق، ١٩٣٦.
وإذا قمنا — بالعودة إلى التناقض بين الدادائية والسريالية — بمقارنة «ممرضتي» لأوبنهايم بأحد الأعمال الفنية الجاهزة لدوشامب مثل «النافورة» (شكل ١-٢)، فسيتضح لنا أن عرض أوبنهايم السريالي يصرُّ صراحةً على محتواه النفساني، بينما ينتظر العملُ الفني الجاهز الدادائي في صمتٍ تفسيرَنا له. لقد فُسِّرَت «النافورة» في واقع الأمر باعتبارها شكلًا ثنائيَّ الجنس، بانحناءاتها والفجوة الكائنة في قاعدتها؛ حيث وَشَتْ بتحوُّل «أنثوي» لوعاء «ذكوري» من وجه آخَر. ومن قَبِيل المفارقة، أنه على الرغم من الاعتقاد بأن الأعمال الفنية الجاهزة قابلةٌ للاستخدام — لو لم تكن مُستخدَمةً مؤقتًا باعتبارها شكلًا من أشكال «الفن» — فإن الغرض السريالي يوضِّح عدمَ جدواه كشيءٍ ذي قيمة ممكنة. تهكَّمَ جورج باتاي، الذي كان ناقدًا بارزًا للنزعات الرومانسية للسريالية في العشرينيات والثلاثينيات، ذات مرة على عُقْم الجماليات، مُعلنًا: «أتحدَّى أيَّ عاشق للفن أن يعشق قماشًا عِشْقَ الفتيشي للحذاء.» في هذا السياق، يمكن النظر إلى «ممرضتي» على اعتبار أنها تخدم تحديدًا الاحتياجاتِ الفتيشيةَ، لا الاحتياجات الفنية.

تُرسِي هذه المقارنة فارقًا واضحًا بين الجماليات الدادائية والسريالية؛ فالأعمال الفنية الجاهزة تعمل على هَدْم التمايُز ما بين الفن واللافن، وهي تُقِرُّ ضمنًا بأن الفن شيء يتمُّ تحديثُه وفقَ شروطه الخاصة فحسب. في المقابل، يتَّسِق الغرضُ السريالي مع تقاليد الفن، مهما تبدَّلَتْ تلك التقاليد، بُغْيةَ الوفاء بوظيفة تجريبية جديدة.

وما من شيء يوضِّح الدورَ المحفِّز الُمتخيَّل للغرض السريالي بقوة أكبر من واقعةٍ اشتُهِرَ أندريه بريتون بروايتها في روايته «عشق جنوني» (١٩٣٧)؛ إذ روى بريتون كيف أن ألبرتو جياكومتي كان يواجِه عثرةً نفسانيةً واضحة فيما يتعلَّق بإنهاء رأسِ واحدةٍ من منحوتاته، عُرِفت لاحقًا باسم «الغرض الخفي»؛ وقد وقع اختياره هو وبريتون على واحدة من شبكات الصيد السريالية المألوفة في سوقٍ للأغراض المستعملة بباريس، واكتشفَا أنهما منجذبان بلا سببٍ واضحٍ إلى نصف قناع معدني عجيب أدرَكَا لاحقًا أنه قناع مبارزة. أدرك جياكومتي لاحقًا أن شكل الغرض يطرح حلًّا بشأن كيفية الانتهاء من رأس منحوتته. لا يتحدَّث بريتون هنا كثيرًا عن الغرض السريالي باعتباره شيئًا أقرب إلى أحد أعمال دوشامب الجاهزة، أَلَا وهو «الغرض المَعْثور عليه» الذي يتوافق بشكل غامض مع إملاءات «المصادفة الموضوعية»، بل قصده أن الرغبات الدفينة في لا وعي جياكومتي هيَّأَتْه فعليًّا للعثور على الغرض. كان بريتون يرى الحبَّ الرومانسي يعمل بطريقة مناظرة، لكن مهمة الغرض السريالي كانت، نوعًا ما، أن يجعل من مثل هذا البحث غيرَ ضروري، وأن يخاطب رغباتِنا بشكل مباشِر. ونظريًّا على الأقل، يعمل هذا الغرضُ على الانتقال بنا إلى ما وراء الجماليات بالكامل.

الفيلم

بينما سعى الدادائيون إلى التشكيك في الفن أو إعادة تعريفه، وابتكروا أثناء ذلك — من قَبِيل المفارقة — أشكالًا فنية جديدة (مثل الأعمال الجاهزة)؛ أوْلَى السرياليون اهتمامًا أقلَّ بالوسائط الفنية في حد ذاتها؛ حيث اقتنعوا بأن المحتوى الشعري سيجعل من قضايا الشكل أمورًا غير ذات صلة، وقد سَعَوْا إلى المزج بين الفن والحياة بالمعنى «الطليعي»، بالشكل المميز الذي تمَّ تحديدُه في بداية الفصل الأول.

ومن سُبُل التأكيد على هذا التمايزِ الالتفاتُ أخيرًا إلى الطرق التي استَغلَّتْ بها الحركتان الفيلمَ السينمائي. كوسطٍ لم يَظهَر على مسرح الأحداث إلَّا في عامَيْ ١٨٩٥ و١٨٩٦، عندما استعرض الأخوان لوميير اختراعَهما، كان الفيلم، لا شك، «أحدثَ» وسيلةِ إعلامٍ وظَّفُوها. وقد كانت الأفلام الدادائية التي أنتجها هانز ريشتر وفاكينج إيجلينج في زيوريخ، أو رينيه كلير ومان راي في باريس، أو الأفلام السريالية لدالي وبونويل؛ جزءًا من موجةٍ مهولة من التجريب السينمائي في العقود الأولى من القرن العشرين، اعتمدَتْ بشكل كبير على إنجازات حركات الفن الطليعي.

يتسم الفيلم الدادائي تحديدًا بوعي ذاتي بخصوص طبيعته المادية كفيلم، وباهتمام بحمْلِ جمهورِه على تقدير هذه الحقيقة. إنَّ ريشتر الألماني المولد وإيجلينج السويدي المولد، اللذين كانا عضوَيْن متأخرين وثانويين نسبيًّا بجماعة دادائية زيوريخ، قد عَمِلَا معًا من أجل احتلال ريادة الأفلام التجريدية خلال الفترة بين عامَيْ ١٩١٩ و١٩٢١. أنتج إيجلينج، الذي وافَتْه المَنِيَّة عام ١٩٢٥، بكَدٍّ واجتهادٍ عملًا كبيرًا وحيدًا، تحت عنوان «السيمفونية القُطْريَّة»، استدعَتْ فيه أشكالٌ تجريدية أنماطًا ونوتاتٍ موسيقيةً. واستجاب عمل ريشتر بالمثل للموسيقى، لكنه كان أكثر ابتكارًا من الناحية البصرية؛ ففي عمله «الإيقاع ٢٣» (١٩٢٣)، على سبيل المثال، تمتزج سلسلةٌ من الأشكال المستطيلة معًا، ثم ينفصل بعضها عن بعض؛ حيث تتمدَّد وتتراجع أثناء تلك العملية.

وكما في حالة الانقسامات الداخلية للدادائية عمومًا، تتناقض النزعات التجريدية لصناع الأفلام في زيوريخ، الذين ستُفضي بهم في نهاية المطاف إلى التحالف مع البنائية العالمية، مع التأكيد الأكبر على المحتوى المُناوِئ للبرجوازية في الأفلام الدادائية التي أُنتجت في باريس. ربما كان أبرز تلك الأفلام — وهو فيلم «فاصل» لرينيه كلير عام ١٩٢٤ — يستغلُّ تقاليد السرد، لكن مسار أحداثه يكاد لا يكون «متصلًا» على غرار أفلام هوليوود المعاصِرة الصامتة. تتعثَّر آثارُ السرد لفيلم كلير دومًا بفعل اللقطات ذات الزوايا الحادة للغاية، والصور المتراكبة والتصوير السينمائي البطيء والسريع. تم توظيف تحرير المونتاج أيضًا، وهو تقنية تنطوي على التجاور الصارخ بين اللقطات؛ بُغْيةَ خلْقِ آثارٍ شعورية أو فكرية قوية لدى المُشاهِد، ولكنها لا تتم على غرار الطريقة العقائدية للأيديولوجيات الروسية المعاصرة لأفلام سيرجي آيزنشتاين على سبيل المثال. كانت المشاغل السينمائية الرسمية لكلير مكبوتةً دومًا بسبب زميله فرانسيس بيكابيا. إبَّان تلك الفترة، أمسَتِ الدادائيةُ الباريسية منهكةً تمامًا، وكان بريتون بصدد تدشين السريالية، ومن ثَمَّ كان إسهام الدادائي السابق بيكابيا في الفيلم يتمثَّل في مقاطعة الأجزاء التجريبية الصريحة لكلير بتتابعات هزلية حافلة بتوقير دادائي مبالَغ فيه؛ على سبيل المثال: ينتهي تتابع مطول شبه تجريدي، يتقاطع فيه بالتبادل انتفاخُ تنوراتِ راقصةِ باليه أثناء دورانها، مع صور كالخطوط الهندسية للبنايات، عندما يُكشَف أن راقصة الباليه هي في واقع الأمر رجل ملتحٍ.

أنتج مان راي أيضًا فيلمًا دادائيًّا مدته خمس دقائق في باريس العام السابق. كان فيلم «العودة إلى المنطق» أكثر تقيُّدًا بشكل رسمي من فيلم كلير وبيكابيا «فاصل»، لكنه لم يكن أقلَّ منه فوضويةً؛ فقد بَعْثَرَ الفنانُ أغراضًا مثل الدبابيس ومسامير الخرائط على السيلولويد، ثم عرَّضَها على غرار ما فعله مع «صوره المساحية الضوئية» الفوتوغرافية، وتجلَّتْ تلك اللقطات الثابتة في طِباق مع غيرها من اللقطات التي عُرِضت فيها أشياءُ مثل جذع امرأة ودوامة خيل خشبية وهي تدور ببطء.

تقاوم كلُّ الأفلام الدادائية المذكورة آنفًا أيَّ تدخُّلٍ خيالي مباشِر من المُشَاهِد، لكنَّ ثمة منطقًا مختلفًا تقوم عليه المجموعةُ الصغيرة من الأفلام السريالية التي أنتجها خلال الفترة ما بين عامَيْ ١٩٢٧ و١٩٣٠ زوجان من المتعاونين: الكاتب الدرامي الفرنسي والشاعر أنطونين أرتو والمُخرِجة جيرمان دولاك من ناحية، والفنان الإسباني سلفادور دالي والمخرج لويس بونويل من ناحية أخرى. وفي تلك الأفلام، تستثير عناصرُ السردِ والتأكيدِ على مشاعر الممثلين بحيوية الانخراط النفساني للجمهور، ولو أن ذلك ما برح يُعترَض كثيرًا من قِبَلِ صور مزعجة أو صادمة أو تحرير المونتاج السريع المستلهَم بالقدر نفسه من باستر كيتون في حالة بونويل، وكذلك من الأسلاف الطليعيين. كان الفيلم الذي أخرجه للنور أرتو/دولاك «صَدَفَة ورَجُل دِين» عام ١٩٢٧ — وهو عبارة عن دراسة فرويدية للمنافسة الأوديبية بين رجل عجوز وآخَر شاب على امرأة غامضة — أولَ فيلم سريالي تحديدًا، لكن الأجواء «الشعرية» الأكثر رقةً للفيلم طغَتْ عليها العروضُ البصرية الصاخبة التي اتَّسَمَتْ بها أعمالُ دالي وبونويل.

كان أول هذه الأعمال فيلم «كلب أندلسي»، ومدته ١٧ دقيقة، الذي تمَّ تصويره في أسبوع واحد في مارس ١٩٢٩؛ أيْ قبلَ أن ينضمَّ دالي مباشَرةً للسرياليين. في المشهد الافتتاحي الشهير، يَظهَر رجل (بونويل نفسه) وهو يشحذ مُوسَاه إلى جوار نافذة، وبينما يراقب خيطًا من السُّحُب يمرق من أمام القمر، إذا بالرجل يشقُّ عينَ امرأة تجلس دون حراك إلى جواره (والواقع أن العين لثورٍ لا لامرأة) (شكل ٣-٨).

فُسِّرَت هذه الافتتاحية بعدة طرق؛ فقد يكون إفقادُ البصر هجومًا مجازيًّا على رؤية الجمهور، وبناءً عليه يكون هجومًا على التقاليد السينمائية بحدِّ ذاتها، ويمكن أيضًا أن تُفسَّر على اعتبار أنها «قَطْع» للفيلم ذاته. لكن مؤرخي الأفلام أمثال ليندا ويليامز فسَّروا المشهدَ تفسيرًا فرويديًّا باعتباره إزاحةً رمزيةً لقلق الخصاء؛ قال بونويل نفسه ذات مرة إن الطريقة الوحيدة لتفسير الفيلم هي التحليل النفساني، وتُثبِت ويليامز وجهةَ نظر مُقْنِعَة بالإشارة إلى مشاهد أخرى في الفيلم حيث يُستثار قلقُ الخصاء لدى البطل عبر أجزاء مبتورة من الجسد. وفي واحد من تلك المشاهد، نتحرَّك عبر سلسلة دراماتيكية من اللقطات المُقَرَّبَة المربِكة من صورةٍ لِيَدٍ يُحاصِرها بابٌ، وثمة جرح شبيه بالندبة في كفِّ اليد تتدفَّق منه أسرابٌ من النمل؛ إلى صورةٍ لامرأة من علٍ تلكز يدًا مبتورة بعصًا.

fig23
شكل ٣-٨: لويس بونويل وسلفادور دالي، مشاهد من فيلم «كلب أندلسي»، ١٩٢٩.

إذا كانت الصور الشبيهة بالحلم لفيلم «كلب أندلسي» تستدعي التفكيكَ عن طريق التحليل النفساني، فسنجد أن الفيلم الثاني لدالي/بونويل — وهو بعنوان «العصر الذهبي»، وإنتاج عام ١٩٣٠ — يتعاطَى بطريقةٍ مباشِرة أكثر مع العالم الواقعي، ولو أن صوره ليسَتْ أقلَّ ترويعًا. شُغْلُ هذا الفيلم الشاغل، بأسلوب سريالي بشكل ملتزم، هو القمع الاجتماعي للرغبة، خاصةً كنتيجة للعقيدة الكاثوليكية. وتتألف ذروةُ الفيلم من عنوان داخلي مُطَوَّل يُعلِن عن الظهور الوشيك من قلعة سيليني للفُجَّار الذين شاركوا في رواية ماركيز دي ساد «أيام سدوم المائة والعشرون». وبينما يُفتَح باب القلعة، نرى أن أول السدوميين هو المسيح نفسه.

إذا كان الفيلم الدادائي لَفَتَ الانتباهَ لذاته كفيلم، وعادةً ما كان يُضمِر نيةً هدَّامةً، فالفيلم السريالي كانت غايتُه أن يُنسِي المُشاهِدَ الوسطَ الفني بُغْيةَ إحداثِ «تحوُّل في الوعي». لقد كان إرثُ الدادائية فيما يتعلَّق بتاريخ الأفلام تقليدًا طليعيًّا أو «سريًّا»، بلغ ذروتَه في الأفلام التجريبية التي أخرَجَها في الخمسينيات والستينيات صانعو أفلامٍ أمثالُ ستان براكاج أو آندى وارهول. لكن كان للسريالية، من ناحية أخرى، أثَرٌ أكبر على الأفلام السائدة حيث يكون الجمهورُ متأهِّبًا للتحرُّر الخيالي، وقد حظِيَ بونويل نفسه بمشوار فني لاحق خصب جدًّا؛ حيث أنتَجَ أفلامًا ذات حيثية، بدايةً من «الملاك المُبيد» (١٩٦٢) وانتهاءً ﺑ «سحر البرجوازية الخفي» (١٩٧٢)، بينما استمرَّ صنَّاعُ الأفلام الدوليون البارزون في مدِّ جذور الإمكانات السريالية للوسط الإعلامي حتى يومنا هذا؛ ومن بين الشخصيات الرائدة هنا مخرجُ أفلامِ الرسوم المتحركة التشيكي يان سفانكماير والأمريكيُّ ديفيد لينش الذي يوضِّح فيلمُه «طريق مولهولاند» (٢٠٠١) المدى الذي ترتقي به قِيَمُ الإنتاج الهوليووديِّ السخيةُ بالآثار السريالية بقوة. إن هؤلاء ممارسون «سرياليون» بوعي ذاتي منهم، لكن الأفلام السائدة عمومًا، بتعطُّشها للتجاورات التي لا تفتأ تزداد إذهالًا، استوعبَتْ بلا عناءٍ تقنياتِ السريالية.

إن المصير التاريخي للأفلام الدادائية والسريالية يُثبِت نقطةً أكثر شمولًا حيالَ جماليات الحركتين؛ ففي السريالية، كانت هناك نزعةٌ للسماح للوسط الفيلمي بأن يؤدِّي وظيفتَه «بشفافية»؛ أيْ بألَّا يتطفَّل بشكل موغل في الإصرار على التوقُّعات الجمالية للمشاهد بُغْيةَ إحداث تحوُّل نفسي. كان هذا أسهلَ في الاستيعاب من طرف الثقافة الجماهيرية، من إصرار الدادائية على تشويش متعة المشاهد وإنكارها عليه؛ في هذا الصدد، يمكن للمرء الإشارة إلى الأثر المهول للسريالية على التصميم الجرافيكي والإعلانات حتى يومنا هذا. يمكن الاستشهاد بالعديد من الحالات، بَيْدَ أن سلسلةَ إعلانات سجائر بنسون وهيدجز السريالية بشكل عبثي، التي ظهرت في السبعينيات؛ تُعَدُّ أمثلةً ممتازة. وقد لاحَظَ نقَّادٌ أمثالُ فريدريك جيمسون أن العبادة السريالية للرغبة، إضافةً إلى التقنيات البصرية المُعزَّزة للتعبير عن تلك الرغبة، تبنَّاها نظامُ السوق بُغْيةَ تلبيةِ «حالات الرضا الزائفة» للنزعة الاستهلاكية الرأسمالية؛ ويعود بنا ذلك نوعًا ما إلى سؤالٍ طُرِحَ في المقدمة عن عجزنا عن أن تفصلنا أيُّ مسافة حقيقة عن التبعات الجمالية للسريالية. قد يكون من المُغري أن نتكلَّم باستسلام هنا عن الطريقة التي أخفقَتْ بها حركتان فنيتان يساريتان بامتياز، إنْ شئنا الجمْعَ بين الدادائية والسريالية، في مقاومة استيعاب الرأسمالية لهما؛ ولكن هذا كفيلٌ بمصادرة النتيجة قبل أن ندرس بعناية الطموحاتِ الثقافيةَ والسياسية الأوسع نطاقًا للدادائية والسريالية. كانت تلك الطموحات، كما سيتجلَّى لنا، معاديةً بشكل عميق للقِيَم الرأسمالية، وهي أيضًا أنسبُ عدساتٍ يمكن من خلالها النظرُ إلى فنِّ هاتين المدرستين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤