الباب السابع

خلافة أبي بكر

هذا هو الرجل المديد القامة، النحيف الجسم، الذي رأيته بعيني مخيلتي لا يفارق ظل صاحبه محمد منذ بداية مهاجرتهما من مكة حتى دخولهما «المدينة»، هذا هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه أتمثله الآن وهو خارج من داره صبيحة اليوم التالي لمبايعته بالخلافة، وقد حمل على عاتقه حزمة من أقمشة يريد عرضها في الأسواق.

وأتمثله وقد قابله عمر مصادفة في الطريق، وإذا به يستوقفه ويسأله عن وجهته، فيقول: هذه بضاعتي أقصد بها إلى السوق.

فتمتلك الدهشة عمر، ويقول: لم تعُد تاجر الأقمشة يا أبا بكر، إنك الآن خليفة رسول الله، تُنفذ شريعته، وتقضي في المسلمين بما أمر الله، وترعى شئونهم، وتخدم مصالحهم.

– ومن أين أعيش؟

– إنك لتخدم المسلمين، وفي عنقهم لك أجر تتقاضاه شهريًّا (وكان مبلغًا يقرب من سبعة جنيهات) من بيت مالهم، كما كان يفعل الرسول.

ويترك أبو بكر التجارة، ويتربَّع على دست الخلافة، فالله أكبر.

إن أبا بكر ليس بالرجل الأَسِيف، إنه لشديد البأس، لا تأخذه هوادة في تنفيذ تعاليم محمد وسنته وكتاب الله المبين.

أعمال أبي بكر

لقد لاحظ أبو بكر طموح المسلمين إلى الفتح، فسيَّر الجيوش منهم شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، وكان أول ما فعله تنفيذ أمر الرسول بإرسال جيش أسامة لمعاقبة قبيلة قُضاعة إحدى قبائل الشام من المشركين.

كانت تجريدة تأديب كبرى جردها الرسول قبيل وفاته، وجعل على إمارتها أسامة بن زيد، وكان مولى من الموالي، وشابًّا أو على الأصح فتًى في الثامنة عشرة من عمره، فما كان كبار المسلمين يظنون إلا أنه فتى مراهق لا يُحسن فن القيادة، بل كانوا يتوهمون أنه ليس في سن تُهيِّئه للبطش والضرب والنزال، ولكن من ذا عساه كان ذلك الذي يستطيع مراجعة محمد، والمسلمون يعتقدون، بل إنهم ليؤمنون بأن كل أعمال محمد هي بأمر الله، وأن كل شأن من الشئون يجري بإرادة الله، وأنه لا ينطق عن الهوى.

وحاول أولئك المتذمرون أن يعقدوا لواء التجريدة على أمير غير أسامة، ولكن أبا بكر لم يكن الرجل الأسيف، ولكنه كان الرجل الأمين على تعاليم محمد، الشديد العزم والحزم في معالجة الأمور، حتى لقد أمسك بلحية عمر حين رأى منه ميلًا إلى مشايعة المعترضين في رأيهم، وقال: «حتى أنت يا عمر؟!» وفي رواية أخرى: «ثكلتك أمك يا ابن الخطاب.»

والتفت أبو بكر إلى أولئك المعارضين، ليُشعرهم بأنه لا يجوز أن يستعمل الرسول أسامة في قيادة الجيش ثم يأتي أبو بكر بعد وفاته فينزعه من مكانه، أو يُغيِّر أو يُبدِّل من شريعة الرسول وسنته، فقال: «والله لو منعتموني عقال بعير كنتم تؤدونه للرسول لحاربتكم.»

وأثلج صدر عمر ما شاهده في أبي بكر من شدة عزم، وقوة حزم، وتمت الإمارة فعلًا لأسامة.

•••

لقد فعل أبو بكر رضي الله عنه أكثر من هذا، وأعظم من هذا، وأجَلَّ من هذا، لقد علَّم الجيش من كبار رجاله الانصياع إلى الطاعة، وحب النظام، والجري في الحرب على سنن الإنسانية والرجولة والنخوة، والتحلي بجميع صفات الجندية الحقة.

أما الطاعة وحب النظام فقد مثلهما أبو بكر في خروجه مع الجيش إلى ظاهر المدينة وهو سائرٌ على قدميه خلف أسامة الذي كان ممتطيًا صهوة جواده، خليفة رسول رب العالمين يمشي وأسامة يركب! فإذا قال له أسامة: «يا خليفة رسول الله، لتركبن أو لأنزلنَّ»، أجابه في تواضعٍ رفيع، بل هو الرفعة كل الرفعة: «والله لا نزلتَ، ولا ركبتُ، وما عليَّ أن أغبِّر قدمي ساعة في سبيل الله.»

وإنها لعمري المثل الأعلى لمظاهر الطاعة.

وقُبيل توديع أبي بكر للجيش استأذن أسامة في أن يسمح بتخلف عمر في المدينة ليعاونه كوزير على تفقد شئون المسلمين، فقبِلَ أسامة راضيًا مرتاحًا.

وإن في ذلك لمثلًا أعلى لحب النظام.

وخطب أبو بكر الجيش يُعلِّمه ويوصيه بالرجولة ومراعاة الإنسانية في الحرب والقتال، فقال:

لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتلوا طفلًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأةً، ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيرًا إلا للأكل.

وسوف تمرون بأقوامٍ قد فرَّغوا أنفسهم في الصوامع، فدَعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدِمون على قومٍ فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم خفقًا، ثم ودَّعهم قائلًا: اندفعوا باسم الله.

فهل يوجد في العالم اليوم قادة شعب أو زعماء أمة يجرءون على الدعوى بأنهم متمدِّنون متحضرون يرعون مبادئ الإنسانية في الحرب الآن كما كان عليه العرب، بل المسلمون، من عِظَم الأخلاق والإنسانية في القديم؟

•••

حقًّا، لقد كانت الخلافة في بدايتها في حاجة إلى خليفة كأبي بكر في حزمه وعزمه، فبهما تمكَّن من التغلُّب على ما واجهه من المشكلات والمُعضِلات، واستطاع أن يحتفظ بوحدة الإسلام، فحارب أهل الردة جميعًا حتى عادوا إلى حظيرة الدين، واشتدَّتْ شكيمة المسلمين، وتألَّفَتْ من قبائلهم الجيوش الجرَّارة وعلى رأسها الأبطال المغاوير، والغُزاة الميامين.

وما كان أبو بكر إلا خليفة الرسول، ينفذ تعاليمه، ويعمل لرفع شأن الدين، وأمة المسلمين، لا تأخذه في ذلك مجاملة كبير، ولا رعاية قائد، ألم يؤنِّب خالد بن الوليد، سيف الله المسلول، لأنه ترك الجُند يقاتلون في العراق وأسرع لأداء فريضة الحج، ثم عاد إلى جنده يستأنف قيادته لهم في القتال.

لم يتركها أبو بكر تمرُّ، فقد خلعه من إمارة جيش العراق، وأسند إليه قيادة الجيش المُسيَّر على الروم.

نعم، إنها كانت مهمة أخطر من تلك التي نُزع منها، ولكنها تشير في ذاتها إلى عدم رضا من أبي بكر خليفة الرسول.

فتوحات أبي بكر

مرت بذاكرتي كل تلك الحوادث وأنا ما زلت واقفًا أمام قبر الصديق رضي الله عنه وإذا بي أشعر بيد المدعي تربت على كتفي وهو يقول: هلَّا ردَّدت الأدعية؟

قلت: نعم.

وأخذ المدعي يقول أدعية كثيرة مستفيضة، كنت لا أعي شيئًا منها؛ لأن مخيلتي كانت محلقة في الجو الذي سمت فيه محبة أبي بكر في قلوب رفاقه من صحابة الرسول الأجلاء، ومن قُوَّاد جيشه، ومن أجناد جيوش المسلمين أجمعين، حتى لقد كانوا كلهم طواعية لنواهيه، ممتثلين لأوامره، يسارعون إلى تلبية ندائه، فقد وجدوا منه الخليفة العظيم حقًّا الذي لا يمكن أن يحِيد قيد أنملة عن كتاب الله وسنة الرسول.

ولا غرو أن يكون المسلمون — على الرغم من قلة عددهم وعُدَّتهم — ذوي بأسٍ شديد في الحروب في عهده، بل لقد بلغوا أبعد من هذا، فقد استطاع جيش خالد بن الوليد وهو لم يزِدْ عدده على ثلاثين ألفًا أن يهزم جيش الروم الذي كان عدده يزيد على الربع مليون مقاتل! ولكن شتَّان بين الجيشين، فلقد كان جيش المسلمين يقاتل في سبيل الذَّود عن دين الله وفي سبيل نصره وتأييده ونشره، وإخضاع أمم العالم تحت لوائه شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، حتى لقد قال ابن الوليد: «ما أقلَّ الروم! إن الجيوش إنما تستكثر بالنصر وتقل بالخذلان.»

متانة الأخلاق

ومرت بذاكرتي في تلك الآونة تلك المزايا الباهرة التي انطبعَتْ في نفس الصديق خليفة الرسول، فلقد كان عهده عهد عظمة عاجلة متوثبة، مُستمدَّة من متانة خلقه، ولقد كانت هذه المتانة الخلقية تنطبع في نفوس رفاقه وقُوَّاده وأجناده جميعًا، وذكرتُ إذ ذاك كيف أن خالد بن الوليد حين خشيَ أن تتفرق وحدة الجيش بعامل حب الرياسة وتسلُّطه على نفوس الضباط، جمعهم وصلى بهم وخطب فيهم ناصحًا، فقال: «هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلِصوا جهادكم، وأرضوا الله بعملكم، فإن هذا اليوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قومًا على نظام وتعبئة وأنتم متساندون، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي، وإن مَن وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته.» قالوا: «هات، فما الرأي؟» قال: «إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أننا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون لما جمعكم، إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا قد فرَّقَتْ بينكم، فالله الله! فلقد أفرد كل رجل منكم ببلد لا ينقصه منه إن دان لأحد من أمراء الجنود، ولا يزيده عليه إن دانوا له، إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله هلموا، فإن هؤلاء قد تهيَّئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لن نُفلح بعدها، فهلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن بعضنا علينا اليوم والآخر غدًا، والآخر بعد غدٍ حتى يتأمَّر كلكم، ودعوني أَلِكم اليوم.» فأمَّروه فعلًا، وزال من نفوسهم ما كان من عوامل التفرُّق والتخاذل.

وإذن فإن من متانة خلق أبي بكر استمدَّ ابن الوليد منها متانة خلقه، كما استمدها القُوَّاد والأجناد وعُمَّال الإيالات وأمراؤها.

عفة نفس أبي بكر

إن جميع نواحي أبي بكر الخلقية باهرة فاخرة، فلقد مرَّتْ بأجمعها أمام مخيلتي، فبهرتني وملكت على نفسي، سيَّما عفة نفسه وعيشه على الكفاف، وزهده وتقشفه، حتى إنه يعزف عن أكل الحلوى لكيلا يُرهِق براتبه القليل بيت المال.

ذكرتُ قصته مع زوجه رضي الله عنهما حين اشتهت حُلوًا، وقال لها: «ليس لدينا ما نشتري به هذا الحلو.» فأجابته أنها ستقتصد من النفقة عدة أيام حتى يتجمع لها ما يمكن به صنع الحلو، فوافقها، ولما جمعتْ ما جمعتْ ردَّه إلى بيت المال قائلًا: «هذا يفضُلُ عن قُوتنا»، ثم أنقص بمقداره من النفقة المخصصة له.

وذكرتُ وصيته لابنته عائشة رضي الله عنها وقوله لها: «إذا أنا متُّ فرُدِّي إلى المسلمين صفحتهم، وعبدهم، ولَقْحَتهم، ورحاهم، ودِثَارة ما فوقي اتقيت به البرد، ودِثَارة ما تحتي اتقيت بها أذى الأرض، كان حشوها قطع السعف.»

بل لقد أوصى بأرضه بعد موته للمسلمين مقابل ما أخذه في حياته من أموالهم.

عفة نفس ما أجَلَّها وأشرفها!

ولا عجب، فإن أبا بكر قد تنزَّه عن كل كبوة، وشهد له بذلك الرسول إذ قال: «ما دعوتُ أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة غير أبي بكر.»

وفضلًا عن ذلك فقد شهد له الرسول بالجنة، وبعتقه من النار، وأخبر بخلافته تلميحًا حين قال لامرأة: «إن لم تجديني فإنكِ تجدين أبا بكر.»

وشهد أبو بكر مع الرسول المشاهد كلها، وأعتق سبعة عبيد كانوا يعذَّبون قبل عتقهم في الله، منهم «بلال»، الصحابي الجليل.

وكان أول من سمَّى ما كُتب فيه القرآن مُصحفًا، وأول من سُمِّيَ خليفة، وأول خليفة ولي وأبوه حي، وأول خليفة فرضت له رعيته نفقة.

وكان يُسوِّي في قسمته بين السابقين الأولين والمتأخرين في الإسلام، وبين العبد والحر.

•••

شعرتُ بالمدعي وهو يهزني من كتفي ويقول: ما بالك يا هذا؟

قلت: ماذا؟

قال: إني لا أجدك تدعو شيئًا.

قلت: كيف! ثم استطردتُ: «اللهم إني أودعتُ الشهادة بالوحدانية لله، والرسالة لمحمد، في هذا المكان الطاهر إلى يوم يُبعَثُون.»

والتفتَ إليَّ المدعي قائلًا: وهذا هو قبر عمر، إلى جانب قبر أبي بكر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤