الفصل الرابع

أسباب النوم

تظل الأسباب الكامنة وراء خلودنا إلى النوم أمرًا لا نعرفه حتى الآن، ومثيرًا للإحباط. وبالرغم من طرح العديد من التفسيرات لعملية النوم، فإنه لم تَظهَر فرضية شاملة تفسِّر سبب وجود ذلك المنحى الرئيسي من سلوكنا. وعلى الرغم من أننا أحرزنا تقدمًا كبيرًا في شرح الكيفية التي ننام بها، كما ناقشنا في الفصلين الثاني والثالث، فإن ذلك لم يساعد في فهم «السبب» أو الغرض التطوري من النوم. وهنا سنطرح سؤالين مرتبطين ارتباطا وثيقًا: هل تنام جميع الحيوانات؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فما هو السبب في ذلك؟

(١) هل تنام جميع الحيوانات؟

تُبدي معظم أشكال الحياة، بما في ذلك الكائنات وحيدة الخلية، دورة من النشاط والراحة مدتها ٢٤ ساعة. ويستحث تلك الإيقاعاتِ ذات الأربع والعشرين ساعة شكلٌ من أشكال مؤقت الإيقاع اليومي الذاتي. ويعمل ذلك المؤقت على ضبط وظائف الأعضاء والسلوك بدقة من أجل الاستباق بتوقع المتطلبات المتغيرة لدورة النهار والليل (التزامن الخارجي) ولضمان الاتساق بين الإيقاعات الداخلية المتعددة (التزامن الداخلي). ولقد تبنَّى الكثيرون فرضية أن النوم عبارة عن فترات من الخمول أو اللانشاط، وأن ذلك الخمول يَحدُث على نطاق واسع بين الحيوانات، إلا أن الباحثين في مجال النوم قد اختلفوا كثيرًا حول هذه النقطة تحديدًا.

جدول ٤-١: المعايير السلوكية المستخدمة في تعريف النوم.
(١) حالة من الجمود مع تراجع كبير في الاستجابة الحسية تتميز بارتدادها السريع، وهي السمة التي تميز بين حالة النوم وبين الغيبوبة أو السبات الشتوي.
(٢) زيادة في عتبات الاستيقاظ (حيث يتطلب الكثير من الضوضاء للاستيقاظ) واستجابة أقل للمؤثرات الخارجية.
(٣) تفضيل أماكن وأوضاع بعينها في النوم وفقًا للفصائل.
(٤) القيام بطقوس محددة قبل النوم (على سبيل المثال: التقلب والتثاؤب، وتهيئة مكان للنوم).
(٥) انتظام الإيقاع اليومي واستقرار إيقاع يمتد على مدار أربع وعشرين ساعة تحت ظروف ثابتة.
(٦) وجود سلوك ينتظم بفعل الاستتباب بحيث يرتبط عدم النوم بدافع متزايد للنوم، يعقبه ما يعرف ﺑ «تعويض النوم».
وقبل أن نبدأ في تناول السبب الذي قد يدفع الحيوانات إلى النوم، علينا أن نعمد أولًا إلى التعرف على شكل النوم في مملكة الحيوانات. يعتمد تعريف النوم بين البشر بشكل أساسي على التخطيط الكهربائي للدماغ (انظر الفصل الثاني)، ولكن في حالة غياب دماغ معقد قادر على الدخول في نوم حركة العين غير السريعة ونوم حركة العين السريعة، أصبح تعريف النوم أمرًا أكثر صعوبة. ونتيجة لذلك، عكف الباحثون، وبينهم الباحثة الشهيرة إيرين توبلر، على تطوير سلسلة من المعايير السلوكية بعيدًا عن التخطيط الكهربائي للدماغ في محاولة منهم لتعريف النوم، وقد لخصها الجدول رقم ٤-١. ومن بين تلك السلوكيات الستة يعد تعويض النوم أهمها على الإطلاق. ومن خلال الاستعانة بحالات النوم التي حددها التخطيط الكهربائي للدماغ أثناء النوم (الفصل الثاني) بالإضافة إلى المعايير السلوكية التي حددها الجدول رقم ٤-١، ننتقل الآن إلى أشكال النوم المحتملة بين الحيوانات.

(١-١) الثدييات

لدى الثدييات كافة شكلٌ من أشكال النوم، وحين تُحرَم الثدييات من النوم، فإنها تدخل في حالة من تعويض النوم. في البشر، يؤدي عدم الحصول على قسط غير كافٍ من النوم إلى فترة أكثر طولًا وامتدادًا من النوم في الليلة التالية مع زيادة في النوم ذي الموجات البطيئة أو النوم العميق. ويمكن تعريف النوم، من خلال المجموعات القليلة الأخرى من الثدييات الأرضية (كالقوارض، والقطط، والكلاب، والقرود، وغيرها) في ضوء كلٍّ من المعايير السلوكية (انظر الجدول رقم ٤-١)، وأنماط التخطيط الكهربائي للدماغ أثناء نوم حركة العين غير السريعة (عالي السعة – منخفض التردد)، ونوم حركة العين السريعة (منخفض السعة – عالي التردد) (انظر الفصل الثاني). هذا وقد ظهر نوم مشابهٌ لنوم حركة العين السريعة وما يصحبه من ونى في العضلات في كافة الثدييات ومن بينها حيوان خلد الماء الذي يبيض والذي يُكوِّن نوم حركة العين السريعة لديه أكثر من ٦٠٪ من إجمالي وقت النوم. وعلاوة على ذلك فقد تم وصف أشكال أخرى من النوم بين الثدييات البحرية. وقد وُجد أن التخطيط الكهربائي للدماغ لفقمة الفراء أثناء نومه على اليابسة مشابهٌ لمعظم الثدييات الأرضية الأخرى؛ فكِلتا العينين مغلقتان أثناء النوم، وهناك دورات من نشاط حركة العين غير السريعة وحركة العين السريعة، وثمة تزامن في التخطيط الكهربائي للدماغ عبر كِلَا فصَّيِ الدماغ. على الصعيد الآخر فإن النوم في المياه، غالبًا ما يكون في جانب واحد فقط من الدماغ، حيث تظهر الموجات الكهربائية للدماغ للنوم في جانب واحد من الدماغ مع غلق العين في الجانب الآخر وخمول الزعنفة؛ أي إن نصف الجسد يبدو في حالة من النوم بينما يظهر النصف الآخر في حالة من اليقظة. وكذلك تُظهِر الثدييات البحرية مثل الحيتان والدلافين نومًا في جانب واحد فقط من الدماغ، إلا أنها على النقيض من فقمة الفراء لم تُبدِ على الإطلاق نومًا عبر كِلَا جانبي الدماغ في الوقت ذاته. ويبدو أن تلك السمة المميزة التي يتمتع بها دماغ الثدييات البحرية أثناء نومها هي ما تمكنها من السباحة باستمرار؛ ونتيجة لذلك، تُعدُّ الثدييات البحرية استثناءً للمعايير السلوكية للنوم التي تم تعريفها في الجدول رقم ٤-١.

(١-٢) الطيور

تتشابه الطيور والثدييات، بشكل عام، في التخطيط الكهربائي للدماغ أثناء النوم. تُظهِر الطيور أنماطًا من الموجات الكهربائية لكل من نوم حركة العين السريعة وحركة العين غير السريعة خلال فترات الخمول المصحوبة بأوضاع جسدية معينة للنوم. يرتبط نوم حركة العين السريعة في الطيور بحركات سريعة للعينين مع نقص في قوة العضلات، رغم أنها لا تصل لمرحلة الونى (الشلل) التامة كما هو الحال مع الثدييات. عادةً ما تكون فترات نوم حركة العين السريعة لدى الطيور قصيرة جدًّا (أقل من ١٠ ثوانٍ) مقارنةً بالثدييات، وبشكل عام تقضي الطيور وقتًا أقل في نوم حركة العين السريعة. ولقد كان التفسير الأصلي لقصر فترة نوم حركة العين السريعة لدى الطيور هو أن ذلك يحميها من السقوط من فوق الأشجار أثناء النوم بتقليص ونى العضلات المرتبط بنوم حركة العين السريعة لأقصى درجة ممكنة! غير أن ذلك التصور الآن يبدو بعيد الاحتمال؛ حيث إن الطيور التي تجلس على أعشاشها تستخدم أوتارها للتشبث بالفروع ولا تعتمد على انقباض العضلات المستمر، هذا وقد تم رصد فترات قصيرة للغاية من نوم حركة العين السريعة عند بعض الطيور التي تنام على الأرض مثل الإوز. ولقد أُشير مؤخرًا إلى أن الطيور تمر بالفعل بفترات طويلة من نوم حركة العين السريعة لكن على مستوى جذع الدماغ، وليس على مستوى القشرة الدماغية. وعلى الرغم من أن الطيور تطبق العديد من المعايير السلوكية للنوم على نطاق واسع (انظر الجدول رقم ٤-١)، فإن تلك المعايير تختلف إذا ما قورنت بنظيرتها عند الثدييات. فعلى سبيل المثال، يبدو أن الطيور تفتقر إلى القدرة على تعويض نوم حركة العين السريعة بعد فترة من انقطاع النوم. وفيما يتعلق بالطيور المهاجرة ينخفض التخطيط الكهربائي للدماغ والمعايير السلوكية للنوم بمقدار ٧٠٪ مقارنةً بمعدلات النوم في حالة عدم الهجرة، ولا يقترن ذلك بأي تراجع واضح في السلوك المعرفي أو بتعويض النوم.

ومن الجدير بالذكر أن الطيور، بالإضافة إلى الزواحف، والبرمائيات والأسماك، لديها — بالإضافة إلى النوى فوق التصالبية — ساعات بيولوجية داخل العينين والغدة الصنوبرية؛ مما يساعد على توليد إيقاعات سلوكية يومية على مدار ٢٤ ساعة. وتنظم عمل تلك الساعات بدورها مستقبلات ضوئية خارج الشبكية داخل الغدة الصنوبرية، وما تحت المهاد، والدماغ المقدم. ومن اللافت للنظر، أن أشعة الشمس يمكن أن تمر من خلال الجلد، والريش، والحراشف، والجمجمة وأنسجة الدماغ، وعلى الرغم من أن هذه الأشعة مبعثرة ويتم امتصاصها، فإنه يبقى ضوء كافٍ للمستقبلات الضوئية داخل الدماغ للوصول إلى تقييم شامل لكمية الضوء في البيئة المحيطة؛ ومن ثَمَّ معرفة الوقت.

(١-٣) الزواحف والبرمائيات

لم ينل نوم البرمائيات والزواحف القدْر الكافي من الأبحاث. وقد لوحظ منذ ستينيات القرن العشرين، وجود حالات تُشبِه النوم (انظر الجدول رقم ٤-١) لدى الضفادع والعلاجيم، التي تُظهِر سلوكيات نمطية للنوم، وزيادة في عتبات الاستيقاظ، ونشاطًا أشار إليه بعض الباحثين على أنه موجات كهربائية للدماغ لحالة مشابهة لنوم حركة العين غير السريعة الذي يتسم بزيادة في السعة وانخفاض في التردد. وتوضح الدراسات القليلة التي أُجريت على الزواحف وجود عناصر لسلوكيات النوم (انظر الجدول رقم ٤-١)؛ فعلى سبيل المثال، تُظهِر السلاحف والسلاحف البحرية فترات من الراحة يصحبها انخفاض في الحساسية تجاه المحفزات ويوجد كذلك دليل قوي على قدرتها على تعويض النوم بعد فترة من انعدام الراحة. وأشارت بعض التقارير إلى أن بعض الزواحف (مثل السحالي وبعض التماسيح) تُبدي بطئًا في التخطيط الكهربائي للدماغ لما يشبه نوم حركة العين غير السريعة خلال فترة الراحة. وعلى النقيض، يبدو أن بعض السلاحف، والسلاحف البحرية والتماسيح تفتقر إلى هذا التخطيط الكهربائي للدماغ المشابه لحالة نوم حركة العين غير السريعة. وهناك بعض الأدلة على أن نمط التخطيط الكهربائي للدماغ المشابه لحالة نوم حركة العين السريعة في الزواحف، خاصة السحالي، وبعض الأنواع تُظهِر حركات مميَّزة للعين والرأس يُشار إلى أنها تمثل حالة من نوم حركة العين السريعة. وبشكل عام، لا يوجد دليل قوي على وجود حالات من نوم حركة العين السريعة لدى الزواحف.

(١-٤) الأسماك

تُظهر الكثير من الأسماك مكتملةِ العظام (العظمية) حالاتٍ سلوكيةً تشبه النوم سواء في بيئتها الطبيعية أو في المختبر. ففي المختبر، وأحيانًا في البيئة الطبيعية، ترتبط الراحة الليلية في الكثير من الأنواع بانخفاض معدل التنفس وارتفاع في عتبات الاستجابة. ويبدو أن الكثير من الأسماك أيضًا يتخذ أوضاعًا جسدية معينة أثناء النوم. على سبيل المثال، فإن الفصيلة اللبروسية (لابريديا) تستلقي على الرمال على جنبها خلال الليل، وغالبًا ما توجد في مجموعات، بينما تدفن بعض الأنواع نفسها جزئيًّا. وتطفو بعض الأنواع التي تعيش في المحيطات على سطح المياه المفتوحة. ومن الأوضاع التي تُتخذ بشكل متكرر الطفو مع رفع الرأس قليلًا مقارنةً بمستوى الذيل. وتختبئ أسماك الشعاب المرجانية في فتحات صغيرة داخل المرجان خلال فترة الراحة ويكون توقيت هذا الاختباء دقيقًا بشكل ملحوظ. وتشير دورات النشاط والراحة المحددة بدقة إلى وجود موقِّت للنظام اليومي. ولقد أظهرتْ سمكة الزيبرا (دانيو ريريو)، والعديد من الأنواع الأخرى مثل سمك الفرخ (من فصيلة البلطيات)، استجابةً لاضطراب فترة الراحة ﺑ «النوم» لفترات ممتدة في اليوم التالي؛ مما يشير إلى وجود عمليات تعويض للنوم الاستتبابي. ولا يوجد أي دليل على وجود نوم حركة العين غير السريعة أو نوم حركة العين السريعة لدى الأسماك، على الرغم من أن فترات حركة العين خلال النوم أو الراحة قد شُبهت بنوم حركة العين السريعة.

(١-٥) اللافقاريات

تمثل اللافقاريات ٩٨٪ من أنواع الحيوانات، ومع ذلك يظل النوم غير مفهوم عند هذه الأنواع. يُظهر عدد كبير من أنواع اللافقاريات حالات مشابهة للنوم (الجدول رقم ٤-١). ويرتبط ارتفاع عتبات الاستيقاظ في الرأسقدميات (الحبار والأخطبوط) بكل من ضيق حدقات العين وتغيرات في الألوان. كما تُظهر الحشرات وبعض مفصليات الأرجل مثل العقارب فترات من الانخفاض في الاستجابة الحسية على مدار اليوم الممتد لأربع وعشرين ساعة. أما نحل العسل فيُظهر استجابةً متزايدة للمحفزات البصرية خلال اليوم تنخفض أثناء الليل، وتُظهر هذه الأنواع في هذا الوقت أيضًا أوضاعًا محددة للجسم والرأس وقرون الاستشعار، كما هو الحال مع الصراصير. وهناك كذلك دليل على تعويض النوم عند النحل؛ حيث تعمل ١٢ ساعة من الحرمان من النوم خلال الليل على زيادة جمود قرون الاستشعار لديها واتخاذ وضعية «النوم» في الليلة التالية.

وقد اخترتُ ذبابة الفاكهة (دروسوفيلا) لتكون النموذج الذي نبحثه في محاولة لفهم بيولوجيا النوم. تتميز الدروسوفيلا بجينوم مميز يسهل التعامل معه وتغييره، وهناك العديد من الطافرات التي تم تسجيلها. ويمتلك الذباب نظام ناقلات عصبية مشابهًا للفقاريات، كما أن الاحتفاظ بها أمر غير مكلِّف، ودورات التكاثر لديها سريعة. يُظهِر الذباب وضعًا جسديًّا نمطيًّا أثناء سلوك الراحة، ويصاحب ذلك ازدياد في عتبات الاستيقاظ. ويُظهِر الذباب أيضًا عمليات تعويض واضحة للنوم استجابة للحرمان من النوم. وتُسبِّب المنبهات، مثل الكافيين، انخفاضًا في المعدل الطبيعي للراحة يتوقف على حجم الجرعة، بينما تزيد مضادات الهيستامين من معدل الراحة. كما يُظهر الذباب الذي يفتقر إلى الجين «بيريود»، الجين الرئيسي للساعة البيولوجية (انظر الفصل الثالث) عمليات تعويض للنوم استجابةً للحرمان من النوم؛ مما يشير إلى أن دورات النوم والإيقاع اليومي ليست متشابهة على الإطلاق.

ويشير هذا الملخص الموجز إلى وجود النوم، بشكل ما، في مملكة الحيوانات لكن هذه الرؤية لا تتسم بالشمولية. ولقد استنتج جيروم سيجال من خلال إجراء فحص دقيق لدراسات هذا المجال أن هناك عددًا محدودًا للغاية من الحيوانات التي تُظهِر كافة المعايير السلوكية للنوم، ويُظهِر البعض بالفعل معدلًا منخفضًا من النهوض أو تعويض للنوم وللراحة بعد الحرمان منها. ويرى بعض العلماء ضرورة تعريف النوم على أساس التخطيط الكهربائي للدماغ فقط، وقياسًا على هذا المعيار، فإن اللافقاريات لا تنام على الإطلاق، وتندرج الفقاريات تحت أربع فئات عريضة: (أ) الفصائل التي ترتاح ولكنها لا تُظهِر تخطيطًا كهربائيًّا واضحًا للنوم (مثل الأسماك والبرمائيات). (ب) فصائل تُظهِر نوم حركة العين غير السريعة فقط (معظم الزواحف). (ﺟ) فصائل تُظهِر نوم حركة العين غير السريعة ونوم حركة العين السريعة بشكل جزئي أو فترات قصيرة لنوم حركة العين السريعة (بعض الزواحف والطيور). (د) وفصائل تُظهر دورات قوية لنوم حركة العين السريعة ونوم حركة العين غير السريعة (الثدييات). وعدم الإجماع هذا حول تعريف النوم، وما يترتب عليه من عدم التيقن من وجود النوم من عدمه بين مملكة الحيوانات، من شأنه أن يؤدي إلى تسليط الضوء على المشكلة الرئيسية المتمثلة في محاولة معرفة الوظيفة التطورية للنوم؛ إذ كيف لنا أن نتمكن من تحديد هذه الوظيفة التطورية إذا لم نتمكن من تحديد ماهية النوم في حد ذاته؟

(١-٦) اختلاف فترات النوم بين الثدييات

تختلف فترات النوم بشكل لافت للنظر بين النِّسَب الصغيرة لأنواع الثدييات المدروسة (انظر الجدول رقم ٤-٢). ولقد نتج عن هذا الرأي الذي يقول إنه إذا ما تم ربط تلك الاختلافات ببيئة بعينها أو بالقدرة الفسيولوجية لكل كائن، فيمكن حينئذٍ التوصل إلى تفسير لوجود النوم. ثمة بعض الاتجاهات العامة لدى الثدييات؛ فبشكل عام، تَقِلُّ فترات النوم مع ازدياد حجم الجسم، وكذلك تميل الأنواع المفترسة لقضاء فترات أطول في النوم عن الأنواع التي تُعَدُّ من الفرائس، وتميل الثدييات التي تقيم في أماكن آمنة نسبيًّا أثناء النوم (السكن في الجحور مقابل السهول على سبيل المثال) إلى النوم لفترات أطول.
جدول ٤-٢: النوم لدى مُختلف الأنواع.
النوع متوسط إجمالي فترة النوم (بالنسبة المئوية من ٢٤ ساعة) متوسط إجمالي فترة النوم (بالساعات في اليوم الواحد)
الخفاش البني ٨٢٫٩٪ ١٩٫٩
الأرماديلو العملاق ٧٥٫٤٪ ١٨٫١
الأبوسوم الأمريكي ٧٥٪  ١٨ 
الشمالي
ثعبان الأصلة ٧٥٪ ١٨
القرد الليلي ٧٠٫٨٪ ١٧
البشر (الأطفال) ٦٦٫٧٪ ١٦
النمر ٦٥٫٨٪ ١٥٫٨
ذباب الشجر ٦٥٫٨٪ ١٥٫٨
السنجاب ٦٢٪ ١٤٫٩
العلجوم الغربي ٦٠٫٨٪ ١٤٫٦
النمس ٦٠٫٤٪ ١٤٫٥
الكسلان ثلاثي الأصابع ٦٠٪ ١٤٫٤
الهامستر الذهبي ٥٩٫٦٪ ١٤٫٣
خلد الماء ٥٨٫٣٪ ١٤
الأسد ٥٦٫٣٪ ١٣٫٥
اليربوع ٥٤٫٤٪ ١٣٫١
الجرذ ٥٢٫٤٪ ١٢٫٦
القطة ٥٠٫٦٪ ١٢٫١
الفهد الصياد ٥٠٫٦٪ ١٢٫١
الفأر ٥٠٫٣٪ ١٢٫١
قرد المكاك ٤٩٫٢٪ ١١٫٨
الأرنب ٤٧٫٥٪ ١١٫٤
النمر المرقط (اليغور) ٤٥٪ ١٠٫٨
البط ٤٥٪ ١٠٫٨
الكلب ٤٤٫٣٪ ١٠٫٦
الدولفين ٤٣٫٣٪ ١٠٫٤
الخلد نجمي الأنف ٤٢٫٩٪ ١٠٫٣
قرد البابون ٤٢٫٩٪ ١٠٫٣
القنفذ الأوروبي ٤٢٫٢٪ ١٠٫١
السعدان السنجابي ٤١٫٣٪ ٩٫٩
الشمبانزي ٤٠٫٤٪ ٩٫٧
خنزير غينيا ٣٩٫٢٪ ٩٫٤
البشر (البالغون) ٣٣٫٣٪ ٨
الخنزير ٣٢٫٦٪ ٧٫٨
جوبي (أسماك) ٢٩٫١٪ ٧
الفقمة الرمادية ٢٥٫٨٪ ٦٫٢
البشر (كبار السن) ٢٢٫٩٪ ٥٫٥
الماعز ٢٢٫١٪ ٥٫٣
البقرة ١٦٫٤٪ ٣٫٩
الفيل الآسيوي ١٦٫٤٪ ٣٫٩
الخروف ١٦٪ ٣٫٨
الفيل الأفريقي ١٣٫٨٪ ٣٫٣
الحمار ١٣٪ ٣٫١
الحصان ١٢٪ ٢٫٩
الزرافة ٧٫٩٪ ١٫٩

يبدو هذا الأسلوب المقارن في محاولة فهم النوم جذَّابًا، وسيتم تناوله باستفاضة أكثر فيما يلي، لكن يجب التنويه هنا إلى أمر هام، وهو أن معظم مقاييس النوم التي حصلنا عليها تأتي من ثدييات في حالة من الأسْر؛ أي إن الضغط الناجم عن محاولة حصول تلك الحيوانات على الموارد الأساسية من الغذاء والماء والتزاوج قد اختلفت للغاية. نجد هنا أن الثدييات الكبيرة مثل الزراف والأفيال الواقعة في الأسر تمضي نحو ٥ ساعات من النوم تقريبًا يوميًّا، ولكن هل يمكننا توقع مثل هذه الأنماط من النوم في البرية حيث تنتقل هذه الحيوانات لمسافات طويلة على مدى فترات طويلة من الوقت؟ يكاد يكون الجواب: بالتأكيد لا. وبملاحظة نوم حيوان الكسلان بُنِّي الحنجرة ثلاثي الأصابع في كل من حالة الأسر وفي الحياة البرية الطبيعية، ظهر أن الكسلان الأسير يقضي حوالي ٧٠٪ من وقته في النوم، بينما يُقدَّر معدل نومه في البرية حوالي ٤٠٪ (لاحظ الاختلاف في مقاييس أنماط نوم البشر «في الأسر» سواء في دار لرعاية المسنين أو في سجن مقابل البشر «أحرار الحركة»). وبالمثل، تختلف أنماط النوم والنشاط لدى الفئران بشدة داخل المختبر مقارنةً بالحياة البرية؛ حيث يعانون من صعوبة الحصول على الطعام والتغيرات الشديدة في كل من الضوء والحرارة. ربما يكون الأسلوب المقارن في دراسة النوم ذا قيمة كبيرة، إلا أنه من الضروري تقديم المزيد من الملاحظات والقياسات الميدانية لمعدلات نوم حركة العين غير السريعة ونوم حركة العين السريعة في كل من حالتَيِ الأسر والبرية، حتى يتسنى لنا فهم النوم الطبيعي.

ومن الصعب كذلك قياس النوم «الطبيعي» عند البشر؛ حيث إنه لا يتغير وفقًا للعمر فقط، ولكنه يتأثر بشكل ملحوظ بالإضاءة الكهربائية الحديثة. يؤدي التعرض لضوء الكهرباء إلى التغيير الفوري من طبيعة الضوء المفترض التعرض له ليلًا؛ ومن ثَمَّ يؤثر ذلك في أنماط العمل والنوم. ولقد أُجريت أبحاث رائدة فيما يتعلق بنمط وتوقيت وشكل النوم عند البشر «في البرية» في البرازيل. فعلى سبيل المثال، يخلد البرازيليون البالغون الذين يعيشون في بيئة مدنية إلى النوم في أوقات متأخرة بشكل كبير (نحو الساعة التاسعة وخمسين دقيقة مساء) في أيام أسبوع العمل أكثر من المراهقين الذين يعيشون في بيئة ريفية ولا يتعرضون للكهرباء (نحو الساعة الثامنة وأربعين دقيقة مساء). لا يزال كل من نمط النوم الطبيعي ومدة النوم الطبيعية عند البشر مجهولَين تمامًا؛ هل سنتمكن من الحصول على ٨ ساعات كاملة من النوم إذا ما نمنا بِحريَّة؟ لم تعد أنماط نوم البشر الذين يعيشون في المدن أكثر طبيعية من أنماط نوم الفئران في المختبر.

(١-٧) لماذا تنام الحيوانات؟

يُعد فهم أسباب تطور النوم من أسمى أهداف بيولوجيا النوم. يعتمد بقاء الجين على قدرة الأنواع على التكاثر. وهذه الجينات التي تكوِّن الأفراد الذين يتفوقون على أفراد آخرين في المنافسة ويتكاثرون على نحو أكثر، تسيطر على جينات الأنواع في طور التطور. ويبدو أن النوم مرتبط بأعباء تطورية هائلة؛ فالحيوانات النائمة لا تأكل ولا تشرب أو تتكاثر، وأكثر عُرضة للافتراس. ويفرض هذا العبء التطوري قيمة تكيفية بالغة الأهمية. كيف إذن يخدم النوم هذا الهدف؟ يفترض الكثير من الباحثين وجود محفز تطوري واحد وشامل للنوم له جذور ممتدة في البيولوجيا الخاصة بنا. ويرى آخرون أنه لا يوجد أي تفسير واضح وأن الأنواع المختلفة سوف تلجأ إلى الخمول أو النوم في مراحل مختلفة من دورة حياتها، ربما للحفاظ على الطاقة، أو كآلية لتجنب الافتراس، أو حتى كفترة تسمح بحدوث عمليات التعافي. بل يرى آخرون أن النوم ما هو إلا سمة تفتقر لأي قيمة تكيفية لكنه ناتج ثانوي لسمة تكيفية حقيقية لم تُكتشف بعد، كما هو الحال على سبيل المثال في حالات الزائدة الدودية وسُرَّة البطن. وعلى الرغم من ذلك الجدل الدائر، هناك ثلاث نظريات شاملة هيمنت على النقاش المتعلق بأسباب النوم عند الحيوانات، وتتمثل تحديدًا في العملية التي تؤدي إلى (أ) تجدد الخلايا. (ب) الحفاظ على الطاقة. (ﺟ) تعزيز الذاكرة والقدرة على التعلم.

(١-٨) تجديد الخلايا: النوم هو العملية التي تسمح بتجديد المكونات الرئيسية للخلايا

ظهرت هذه النظرية — بصورها المختلفة — منذ عهد أرسطو. وما يدعم تلك الفرضية هو الفكرة الشاملة الخاصة بتعويض النوم وملاحظة أن المجهود الجسدي الشاقَّ يتسبب في زيادة معتدلة في معدل نوم حركة العين غير السريعة. ويتعارض هذا المفهوم العام «التجديدي» للنوم بشدة مع حقيقة ارتفاع معدل نشاط الدماغ أثناء فترة نوم حركة العين السريعة عنه خلال فترة اليقظة، واحتفاظ أجزاء كثيرة من الجسم بنشاطها القوي مثل القلب. إضافةً إلى ذلك، فالأفراد الذين يستلقون في الفراش طَوَالَ يومهم ينامون نفس المدة (أو أطول) التي ينامها الأفراد الذين يتمتعون بمعدل نشاط مرتفع. ولقد عادت فكرة تجدد الخلايا أثناء النوم إلى الظهور في الفترة الأخيرة بعد أن ثبت تغيير نسبة كبيرة من الجينات الموجودة في الجهاز العصبي المركزي لنمط التعبير الخاص بها خلال النوم، ومن الواضح أن جزءًا كبيرًا من هذا التغيير يرجع سببه إلى النوم وليس وقت اليوم أو الإيقاع اليومي. وترتبط الكثير من تغيرات التعبير الجيني التي يحفزها النوم، بشكل كبير، بمسارات أيضية رئيسية وتجديد حويصلات النواقل العصبية. وتكمن جاذبية فرضية تجدد الخلايا أثناء النوم في أنها شاملة ويمكن تطبيقها على جميع الحيوانات، بما فيها الكائنات وحيدة الخلية. وتكمن نقطة ضعف الفرضية في أن بيانات الجينات متلازمة تمامًا ولا يجوز ربطُها بالوظيفة المباشرة للنوم، وأن الكثير من الجينات المتعلقة بأيض الطاقة لا تتأثر خلال النوم. علاوة على ذلك، لا يُفسِّر تجددُ الخلايا أثناء النوم مدى تعقيد وتنوع نوم حركة العين السريعة ونوم حركة العين غير السريعة.

(١-٩) الحفاظ على الطاقة: أثر تطور النوم في تقليل الحاجة إلى الطاقة

لا يمكن للأنواع أن تتسم بالنشاط طوال الوقت، فقد تطورت لتشغل موضعًا زمنيًّا على مدار اليوم؛ وترتب على ذلك استخدام الأنواع النهارية والليلية والشفقية للنوم كوسيلة لتخزين الطاقة، ولخفض معدل استهلاك الطاقة والبحث عن الطعام في تلك الأوقات التي لا تستطيع فيها استغلال بيئتها. وما يؤكد صحة هذه الفرضية، أن نوم حركة العين غير السريعة يتميز ﺑ «انخفاض الأيض»؛ مما يعني أن معدل الأيض يكون أقل حينها من فترة اليقظة. وبما أن معدل الأيض يتزايد كلما صغرت الثدييات، فسوف يكون من المُتوقع أيضًا زيادة معدل النوم كلما صغرت الثدييات، وهذا ما يحدث بالفعل (انظر الجدول رقم ٤-٢). وتدعم طرق النمذجة أيضًا الفكرة التي تفيد بأن توفير الطاقة، ولو بقدْر بسيط، يمكن أن يكون له تأثير هام على الانتقاء التطوري، خاصة في الثدييات الصغيرة التي تعيش في المناخ البارد. إضافةً إلى ذلك، فلقد تم ربط الأدينوسين، الذي يرتفع معدله مع استهلاك الطاقة أثناء فترة النشاط، بتحفيز النوم (انظر الفصل الثالث).

ومع ذلك، يشير حساب معدل الطاقة التي يوفرها النوم إلى أنه معدل بسيط — ما يعادل شطيرة نقانق (من ٨٠ إلى ١٣٠ سُعرًا حراريًّا) في الليلة الواحدة عند البشر — ويبدو من غير المنطقي تحمُّل هذا الثمن السلوكي الباهظ مقابل هذا العائد البسيط؛ ونتيجة لذلك، فإنه من غير المرجح أن تكون الجاذبية البديهية للتفسير المتعلق بتوفير الطاقة أثناء النوم هي حافز الانتقاء الأساسي سواء للتطور أو للحفاظ على سمة النوم عند معظم جماعات الحيوانات. ومن الناحية الأخرى فإن الرأي المعارض يسلط الضوء على نقطة فاصلة؛ إذ إنه على الرغم من أن نوم حركة العين غير السريعة قد يوفر الطاقة، فإن نوم حركة العين السريعة ينجم عنه زيادة في أيض الدماغ. ومن الجدير بالذكر أيضًا التأكيد على أن أخذ قسط من الراحة يوفر قدرًا من الطاقة يعادل تقريبًا ما يوفره النوم في الكثير من الأنواع. ومع استمرار الثدييات البحرية مثل الحيتان والدلافين في السباحة أثناء النوم، يتضح لنا أن النوم ليس له دور مؤثر في خفض المعدل العام لاستهلاك الطاقة.

وعند مقارنة النوم بالسبات الشتوي، يتضح أن النوم يختلف على نحو جوهري عن حالات الخمول والسبات الشتوي التي توفِّر قدرًا كبيرًا من الطاقة بالفعل. ويشمل السبات، في أنواع مثل سنجاب الأرض (من نوع «سبيرموفيلوس»)، انخفاضًا كبيرًا في الحرارة الداخلية للجسم لتصل إلى حوالي صفر درجة مئوية، ويفتقر الدماغ لأي نشاط كهربائي. ومن المثير للاهتمام، أنه عند تعريض نحل العسل — وهو من الكائنات التي تعتمد على الحرارة الخارجية لتستمد منها حرارة أجسامها — لدرجات حرارة تتراوح ما بين ١٨ و٣٩ درجة مئوية في الليل، اختار النحل درجة حرارة تتراوح بين ٢٣ و٢٦ درجة مئوية؛ مما يشير إلى أن النحل لا يختار درجات حرارة الراحة الليلية التي تحقق أعلى مستوًى من الحفاظ على الطاقة. وتؤكد الآراء المعارضة لمبدأ دور النوم في الحفاظ على الطاقة على أن أي معدل لتوفير الطاقة سيفوقه أهمية زيادة خطر التعرض للافتراس؛ حيث تكون الحيوانات أكثر عرضة للافتراس أثناء النوم، وخاصة خلال نوم حركة العين السريعة حين تدخل في حالة من الشلل الفعلي. تنام الأبقار وغيرها من الثدييات الكبيرة واقفة خلال نوم حركة العين غير السريعة ولكنها تستلقي خلال نوم حركة العين السريعة مما يزيد من فُرَص تعرضها للمخاطر.

(١-١٠) كفاءة الدماغ: تطور النوم لتعزيز الذاكرة والقدرة على التعلم

يؤدي دوران الأرض إلى دورة عميقة في كلٍّ من الضوء ودرجة الحرارة، ويبدو من المحتمل أن أقدم أشكال الحياة قد وزَّعت الكثير من وظائف الأيض على مدار دورة الليل والنهار عبر آلية توقيت ذاتية للإيقاع اليومي. وربما أضافتِ القدرة على التعلم والاحتفاظ بالخبرات إلى تطور تعددية الخلايا، والقدرة على التنقل والأنظمة الحسية المركبة، غير أن هذه العملية تتطلب عملية أيضية كبيرة ومعقدة. ولضمان مراقبة الجودة أثناء بناء هذه الدوائر الكهربائية الدقيقة، فإنها من المحتمل أن تكون قد تشكَّلتْ خلال مرحلة عدم النشاط في دورة الراحة والنشاط حين تكون المتطلبات الأيضية أقل والمدخلات الحسية في أقل معدلاتها. ولهذا، تطور النوم كآلية لتعزيز شبكات عصبية بعينها، وتم استيعاب هذه الآلية خلال هذه الفترة في دورة الراحة/النشاط التي تتميز بمعدل كافٍ من الطاقة وأقل معدل من التدخلات العصبية الخارجية والضوضاء، كجهاز كمبيوتر يفقد اتصاله بالشبكة بينما تنتهي عملية حفظ الملفات.

وتشير الأدلة المُستنتجة من الدراسات التي أُجريت على البشر والحيوانات إلى وجود رابط قوي بين النوم وما أُطلق عليه «معالجة الذاكرة القائمة على النوم». اتضح في العديد من الدراسات التي أُجريت على الحيوانات، أن الحرمان من النوم بعد تعلُّم مهامَّ جديدة يؤدي إلى تدهور الأداء في الاختبارات اللاحقة. ولدى البشر، اتضح أن التعليم الإجرائي، والتعليم التقريري، بل حتى رفع مستوى «الاستبصار» — وهي العملية الخاصة بإعادة الهيكلة العقلية في الدماغ، التي تؤدي إلى الاكتساب المفاجئ للقدْرة على الفهم أو اكتساب المعرفة الواضحة — هي أمور تعتمد جميعها على النوم. وترتفع معدلات اكتساب هذا الاستبصار بنسبة ثلاثة أضعاف إذا ما أُتيح للفرد فرصة الخلود إلى النوم. وهناك بعض المهام التي يتعذر تعلُّمها إذا ما حُرم الفرد من النوم ليلًا بعد التعلم. ولقد أثبتت هذه الدراسات اللامعة أن النوم يسمح بإعادة هيكلة الذكريات الجديدة (انظر المربع رقم ٤، الفصل الثامن).

وإذا كان النوم يسمح للدماغ بأن يعمل بكفاءة عالية عن طريق تحويل المهام البالغة الأهمية والخاصة بالحفاظ على الأعصاب وتعزيز الذاكرة إلى فترة الخمول؛ فإن ما يترتب على ذلك هو أن الحيوانات اللاطئة والبطيئة، أو الحيوانات التي تعيش في بيئة مُوحدة ولا تتغير إلى حدٍّ كبير، لن تَشعُر بالحاجة إلى النوم. ومن المثير للاهتمام، أن الأسماك التي تقضي معظم حياتها في مجموعات، لا تنام. ولقد تم تفسير هذا الافتقار الواضح إلى النوم بأن تقسيم العمل داخل المجموعة، واتباع الأسماك المجاورة لبعضها لنفس طرق الاستجابة، يقلل من شعور العضو الواحد في المجموعة بالحاجة إلى معالجة معقدة للمعلومات. ويؤدي هذا الانخفاض في المعالجة الحسية في بيئة تتسم أساسًا بالبساطة الشديدة إلى تلاشي الشعور بالحاجة إلى النوم.

بشكل عام، هناك الكثير من الأدلة التي تدعم فكرة أهمية النوم لمعالجة الذكريات القصيرة المدى والمُكتسبة مؤخرًا (الأمر الذي قد يؤدي إلى تحول بعض منها إلى ذكريات طويلة المدى) وتقوية الذكريات الطويلة المدى من خلال تغيرات في اللدونة العصبية وتعزيز الدوائر العصبية. وفي الوقت الذي يُضعِف فيه الحرمانُ من النوم من الإدراك والذاكرة والانتباه، واتضح أن النوم يعزز — بشكل ملحوظ — القدرة على التفكير النقدي وحل المشكلات، فقد تم ربط النوم بالمعالجة الأساسية للأعصاب داخل القشرة الدماغية العليا، وعلى وجه التحديد، تعزيز الروابط بين الأعصاب و«تشذيب» تلك الروابط ليسمح فقط لأهم تلك الروابط بالبقاء عند الاستيقاظ. وما تم التوصل إليه عن طريق تصوير الدماغ والفسيولوجيا الكهربائية للدماغ يدعم هذه الفكرة؛ مما يشير إلى ارتباط التعلم بإعادة تشغيل الدوائر العصبية خلال فترة النوم، التي كانت قد توقفت خلال فترة الاستيقاظ، وأن النوم البطيء الموجات أو النوم العميق يكون أكثر شدة في مناطق القشرة الدماغية حيث تحدث عملية حفظ الذكريات.

هناك ثلاث مشكلات تتعلق بفرضية تعزيز الذاكرة والقدرة على التعلم: (أ) ترتبط النظرية فقط بالأنواع التي لديها دماغ معقد. (ب) يحدث الحفظ والتعلم أيضًا في غياب النوم. (ﺟ) إذا تطور النوم ليسمح ببساطة بتشكيل وتعزيز الذاكرة، فمن الممكن التنبؤ بأن الحيوانات التي لديها أكبر دماغ وأكثره تعقيدًا ستنام لفترات أطول. ومع ذلك فإن فترة الخمول/النوم لا ترتبط بنظام عصبي معقد. بعض الأنواع التي تنام لفترات طويلة جدًّا تتضمن: الخفاش البُنِّي، الأرماديلو العملاق، أبوسوم أمريكا الشمالية والأَصَلة، ويبلغ معدل نوم هذه الأنواع ١٨ ساعة في اليوم أو أكثر (انظر الجدول رقم ٤-٢). وهكذا، بإيجاز، بينما يمثل النوم أهمية كبيرة لزيادة قدرة الدماغ على العمل، فلا يمكن أن يكون هذا هو السبب الأوحد لتطور حالة النوم في عالم الحيوان.

(٢) النوم في مقابل نمط الراحة والنشاط

ربما يتطلب إيجاد إجابة على السؤال المتعلق بأسباب النوم منهجًا آخر وينبغي تناوله بمحاولة الإجابة على سؤالين منفصلين:
  • (أ)

    ما هي الضغوط الانتقائية للحفاظ على نمط الراحة والنشاط الذي يكون خاصًّا بنوع معين؟

  • (ب)

    ما هي الضغوط الانتقائية لتخصيص الوظائف الهامة «لإدارة» الجسم للمراحل المختلفة من دورة الراحة والنشاط؟

كما جاء فيما سبق، سيكون الاعتماد على طَور الراحة أو النوم في دورة الراحة والنشاط لتعزيز الذاكرة والقدرة على التعلم؛ نموذجًا تقليديًّا لتخصيص وظيفة الدماغ الحيوية في الحفاظ على الجسم إلى أكثر النقاط الفسيولوجية ملاءمة في دورة الأربع والعشرين ساعة. وهكذا، يوفر التخطيط الكهربائي للدماغ لنوم حركة العين غير السريعة وحركة العين السريعة وصفًا لحدث «إدارة» معين داخل الدماغ، لكنه لا يوفر تفسيرًا شاملًا للنوم عند كل أنواع الحيوانات. قد يبدو هذا وكأنه مجرد اختلاف في دلالات الكلمات، لكنه يُلقي الضوء على النقطة المتعلقة بأن تعريفنا للنوم من شأنه أن يؤثر بشدة على فهمنا لوظيفة النوم.

لقد كان للمناقشات التي لا تنتهي حول تفسير النوم أثرٌ تهميشيٌّ للسؤال الجوهري الذي يدور حول أسباب تطوير كل نوع لنمط محدد للراحة والنشاط. إلى حدٍّ كبير، ثمة تجاهل لضغوط اختيار الفرد لأنماط الراحة والنشاط على مدار الأربع والعشرين ساعة. وفي معظم الحالات، لا نعرف حقًّا سبب خمول بعض الأنواع لمدة ١٩ ساعة، والبعض الآخر لساعتين فقط. ولكن هذا بالتأكيد سينشأ من مجموعة معقدة من العوامل المتنافسة مثل إمكانية الوصول إلى الموارد الأساسية، مثل: الطعام والماء، وشركاء التكاثر، وبالتأكيد تجنب المفترسين، ومسببات الأمراض والعدوى. وبمجرد تطور نمط مستقر من الناحية التطورية للراحة والنشاط لنوع بعينه، حينئذٍ سوف تُدرَج عمليات «إدارة» بيولوجية بشكل ثانوي في هذا الهيكل المؤقت وقد تعمل في ذلك الوقت على تعزيز هذا الإطار. ونتيجة لذلك، يدفع بعض الباحثين في مجال النوم بأن التخطيط الكهربائي للدماغ ما هو إلا مقياس لوظائف الإدارة الرئيسية للدماغ التي تم تخصيصها لفترة الراحة في دورة الراحة والنشاط، بحيث يمثل ذلك واحدًا من العديد من المقاييس البديلة الممكنة لفترة الخمول في دورة الراحة والنشاط. وعلى الجانب الآخر، يدفع باحثون آخرون بأن النوم الذي يتم تعريفه من خلال التخطيط الكهربائي للدماغ يمثل فترة الخمول في دورة الراحة والنشاط. تستمر هذه الآراء المتبادلة في إحداث جدل حاد، ولن ينتهي هذا الجدل إلا بعد التوصل إلى تفسير مُتفق عليه لما يمثله النوم بالتحديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤