الفصل الرابع

الإلياذة

تتَّسم «الإلياذة» بأنها هائلة الطول إلى حدٍّ يجعلها مستعصية على الفهم السريع. وإذ نَستحضِر إلى ذاكرتنا أن تقسيم الكتب إلى أربعة وعشرين جزءًا وفقًا لحروف الأبجدية اليونانية جاء بعد وقتٍ طويل من إملاء هوميروس لنصه، فبوسعنا مع ذلك أن نرى أن هوميروس يُعمِل/يُدخِل وحدات ذات نطاقٍ واسع، وأحيانًا قائمة بذاتها، في بنائه لحبكته. هذه الوحدات، أو المشاهد، كانت واضحة بما فيه الكفاية لمن قسَّم الملحمتَين الشعريتَين، أيًّا كانت ماهيته، إلى أربعة وعشرين كتابًا لكلٍّ منهما؛ لأن الوحدة الواحدة غالبًا ما سوف تكون بطول كتاب. وكان لدى اليونانيِّين أسماء لهذه الوحدات، مثال ذلك «هيلين على الأسوار»، و«المعركة عند السفن»، و«معركة الآلهة». وكان لبعض هذه الوحدات، دون شك، منزلةٌ مستقلة في التقليد الشفاهي أو ربْط بوحداتٍ أخرى بطرقٍ مختلفة على يد مُنشدِين مُختلفِين في أوقاتٍ مختلفة. في أيام التحليل الهوميري، كان يُعتقد أن هذه الوحدات شكَّلَت قصائدَ منفصلة جمعها المُنقِّحون لينشئوا النص الذي وصلنا، ولكن لم يعُد أحدٌ يعتقد بذلك الآن.

في الواقع أن كل ملحمة من الملحمتَين الشعريتَين الهوميريتَين هي، دون شك، عبارة عن وحدةٍ واحدة، ووحدات السرد التي أُميِّزها فيما يأتي هي لمعاونتنا على فهم هذه القصيدة التي أحيانًا ما تكون صعبة التناول. وسوف أستخدم عناوين لهذه الوحدات، وغالبًا ما ستكون من ابتكاري.

(١) الابتهال: «غضبة آخيل» (١، ١–٧)

إننا نقرن طول «الإلياذة» الهائل الذي يصل إلى حوالي ١٦ ألف بيت بالنوع الأدبي المُسمَّى «الملاحم». ويكمن الخطر في الملحمة في افتقاد الخيط السردي (حبكة القصة)، بيْد أن الاستهلال يضع القصة مباشرة أمام أعيننا. إن أول كلمة في القصيدة باليونانية هي «غضبة» (mênis): وكأنه يقول إن ما يلي هو قصة عن «الغضب» وما يصنعه «الغضب» بك، كما سوف يتضح من معرفة مصير آخيل، ابن بيليوس: «غنِّي يا ربة [الشعر]، غضبة آخيل، ابن بيليوس.» و«ربة الشعر» هي ذلك الكائن الغامض الذي يُجسِّد قدرة المُنشد الملحمي على الاستفاضة والتوسُّع في ارتجال أنشودة ما ارتجالًا وليد اللحظة؛ فهي سوف تُعينه على أن يحكي عن كيفية نشأة الغضب وعن كل الضرر الذي ألحقه.
ومتى بدأ هذا الغضب؟

منذ أن وقَع النزاع بين أتريوس، ملك الرجال، وآخيل الرائع. (الإلياذة، ١، ٥)

لا يَشرَع هوميروس في قصته «في وسط الأحداث» كما يُزعَم كثيرًا، وإنما يَبدأ من البداية، من التنازُع بين آخيل وأجاممنون. تحدث قصة غضب آخيل، من بدايتها إلى نهايتها، خلال بضعة أيام على ما يبدو في السنة العاشرة للحرب (الإلياذة، ٢، ١٣٤). ولكن ما الباعث على هذا التنازع؟

(٢) «فدية خريسيس» (١، ٨–٦١١)

كان الإله أبولُّو هو من تسبَّب في اشتداد الأزمة. كان الكاهن خريسي قد قَدِم إلى المعسكر اليوناني ليستردَّ ابنتَه خريسيس، التي أُسرَت في إحدى الغارات، ولكن خريسيس الآن كانت مِلكًا، «غنيمة» (التي تُكافئها كلمة geras باليونانية) لكبير قادة الحرب أجاممنون. وغنيمة أحدهم هي برهانٌ ظاهر وواضحٌ على ما له من timê (tēmā)، وهي كلمة عادةً ما تُترجَم «سُؤْدُد/شرف» ولكنها تعني «حُظْوة» أو «وَجَاهة».

يأمر أجاممنون خريسي بمُغادرة المعسكر على الفور. ويغادر بالفعل، ولكنه يبتهل إلى أبولُّو، الإله الذي يخدمه، والذي من أجله سَقَّف مزارًا مقدسًّا. وينتصر تأثير خريسي الخاص، وصار الإله هو الذي يخدمه الآن. يطلق أبولُّو سهامًا فتاكة على الحيوانات أولًا، ثم على البشر، كناية عن الطاعون.

بحكم سلطته، يدعو آخيل، الذي يشغل منصب قائدٍ حربي من منطقة ثيساليا إلى جانب كونه ملكًا أو بالأحرى زعيمًا (المرادف اليوناني هو كلمة basileus، التي منها جاءَت أسماء الأشخاص «فاسيلي» Vasily و«باسيل» Basil)، إلى اجتماع لمناقَشة الخطر المُشترك. ويكشف النبي كالخاس، الذي كان مُحجِمًا في البداية، أن الخطأ يقع على عاتق قائدهم، وأن رفض أجاممنون التخلِّي عن خريسيس تَسبَّب في الطاعون.
يُوافق أجاممنون، في ظلِّ عجزه عن مناهضة المصلحة العامة، على التنازُل عن الفتاة، شريطة أن يُعطى «غنيمة» أحدٍ ما حتى لا يصير، وهو أعظم الملوك قاطبةً، بلا سُؤْدُد. وإن استلزم الأمر، فسيصلُ به الأمر إلى أن يأخذ بريسئيس، غنيمة آخيل، في القِسمة العادلة للغنائم. فيُؤدِّي وعيد أجاممنون، وتهديده الصريح «لغنيمة» آخيل إلى ردٍّ فظ من آخيل، يُحدِّد فيه بوضوح بنودَ الخلاف بينهما:

فنظر إليه آخيل ذو القدمَين السريعتَين شزرًا وقال له: «آه، المُتلحِف بقلة الحياء، المُنشغِل بالغنائم، كيف لأي رجل من الآخيِّين أن يطيع كلماتك بقلبٍ متلهِّف، في الارتحال أو في قتال رجالٍ أشداء؟ أنا لم آتِ هنا من أجل قتال حامِلي الرماح الطرواديِّين؛ فهم لم يُسيئوا لي. ولم يُشتِّتوا ماشيتي ولا خيولي ولا أفسدوا محاصيلي في أرض فثيَّا [في ثيساليا] الخصبة، راعية الرجال. فثَمَّةَ الكثير مما يفصل بينا وبينهم؛ كالجبال الظليلة والبحر الهادر. ولكنَّنا، يا مَن لا يعرف الخجل، تبعناك لنُرضيك، يا ذا العينَين الكلبيتَين، وأنت تسعى للظفر بالشرف لمينلاوس ولنفسك من الطرواديِّين. إنك لا تَفطِن لهذا الأمر. والآن تُهدِّد بأن تأخذ مني غنيمتي، التي جاهَدتُ جهادًا مريرًا لأنالها، التي منحني إياها أبناء الآخيِّين. وأنا الذي لم أحصل أبدًا على غنيمةٍ مثل غنيمتك، عندما سلب الآخيون حصنًا منيعًا للطرواديِّين. أنا الذي أتحمل وطأة القتال الضاري، ومع ذلك عندما يحين وقت توزيع الغنائم، تكون غنيمتُك أنت أكثر بما لا يُقاس، بينما أعود أنا إلى سفني بغنيمةٍ أصغر ولكنها غالية على نفسي، بعدما يكون قد أعياني الجهد في القتال. أمَّا الآن فإني سأعود إلى فثيا. إن العودة إلى الوطن في سفني ذات المُقدِّمات المعقوفة أفضل كثيرًا، ولا أنتوي وأنا هنا مهانٌ أن أُكوِّم لك الغِنى والثراء.» (الإلياذة، ١، ١٤٨–١٧١)

يُهدِّد آخيل مباشرةً سلطة أجاممنون، بهجومٍ جَبْهويٍّ مباشر، ويتملَّك الغضب أجاممنون. إنه بالفعل سوف يأخذ فتاة آخيل، بريسئيس. ويستلُّ آخيل، الغاضب هو الآخر، سيفه ليقتل أجاممنون، وهو الأمر الذي قد يُبرِّره حرصه على الظفر بالشرف. الموقف يخرج عن السيطرة: إنْ قتَلَ آخيل أجاممنون، فستنهار الحملة وسيَخسرون الحرب (ولن يكون ثَمَّةَ قصة تُروى). غير أن أثينا، التي لا يراها إلا آخيل وحده، تجذبُه من شعره وتوقف يده، وتقول له إنه إن رضَخ الآن، فسوف يَنال لاحقًا من التشريف أكثر من أي وقتٍ مضى ويَحصُل على ثلاثة أضعافٍ من الغنائم.

يَرضخ آخيل بالفعل. يُمكن لأجاممنون أن يأخذ بريسئيس، ولكن المقابل هو بحر من الغضب يستنزف آنذاك كل كيان آخيل. لقد تعرض للإهانة على رءوس الأشهاد. لن يقاتل بعدئذٍ لأجل حُثالةٍ مثل أجاممنون وغايته الرخيصة. قريبًا سوف يندم الملك أجاممنون، وكل من سمحوا له بأن يتصرَّف بهذه الطريقة، أن آخيل لن تطأ قدماه ساحة القتال بعد الآن. يُحاول نيستور، الذي يمنحه عمرُه المديد حكمةً واعتبارًا، تهدئة القائدَين، ولكن الأمور كانت قد تجاوَزَت الحد ويَفترقان غاضبَين.

هكذا تبدأ القصة. يقع ذلك الفيض من الأحداث في أقل من ٣٠٠ بيت، ويُعد واحدًا من تسلسلات الأحداث العظيمة في الأدب. يُعَرِّف هوميروس، مُبتكِر الحبكة الأدبية، القصة ذات المأزق المزدوج: أي أيًّا كان الاتجاه الذي تسلكه الشخصية، فإنها هالكة. وهو تصوُّر يوناني الخصائص. فنحن نتعاطف مع آخيل، ونعتقد أن أجاممنون يعامله بإجحاف، ولكن ما الخيار الذي يَملكه أجاممنون؟ إذ لا بد أن يستبدل أجاممنون غنيمته geras، التي يجبره الطاعون على التنازل عنها، وإلا فسوف يَصير بلا سُؤْدُد، وهو أمر من غير المحتمل أن يليق بقائد حملةٍ دولية في عالم كل السلوك فيه مُوجَّه صوب الظفر بالسُّؤْدُد. فالسُّؤْدُد يُولِّد «الشهرة/الذِّكر» والتي تُكافئ كلمة kleos باليونانية، والتي تعني في واقع الأمر «ذاك الذي يُسمَع»، ومصدرها kluo «يسمع». فأنت تمتلك شهرة kleos عندما يتغنى «مُنشدٌ ملحمي» aoidos بمآثرك، وعبْر الشهرة kleos تظل حيًّا (مثلما ما زلنا إلى يومنا هذا نذكر آخيل). بهذه الطريقة يتحدَّى المُحارب العظيم لعنة فناء البشر. يقول هيكتور عندما يطرح على الآخيِّين تحديًا من أجل أن يُواجِهه أحدهم في مبارزةٍ قوية:
ولكن إن سلبتُه حياته، ومنحني أبولُّو مدعاة للتفاخُر، فسأُجرِّده من درعه وأحمله إلى إليون المقدَّسة، وأُعلِّقه أمام معبد أبولُّو، الإله الذي يرمي عن بُعد. وأمَّا جثته فسأُعيدها لتؤخذ بين السفن ذات مقاعد التجديف الجيد، لكي يَدفنه الآخيون ذوو الشعور المُنسدلة، ويجمعوا له sêma [مرادفها «إشارة/شاهد»، ويعني كومة تراب] قرب شاطئ بحر هيليسبونت الرحب. وذات يومٍ سوف يقول شخصٌ ما، من الأجيال القادمة، وهو يُبحر بسفينته ذات مقاعد التجديف الكثيرة في البحر القاتم بلون الخمر: «هذا شاهد قبر رجلٍ مات في الأيام الغابرة، قُتل وهو في أوْج عظمته (أوج العظمة يُكافئه كلمة aristeia)، على يد هيكتور المجيد.» هكذا سيتحدث رجلٌ ما ذات يوم، ولن ينقطع ذكري أبدًا. (الإلياذة، ٧، ٨٧–٩١)

إن تنازُله عن فتاته والتي هي غنيمته لأجاممنون هو أمرٌ شأنه شأن التنازُل عن الهدف من الوجود. ومن الناحية الأخرى، كان يمكن له أن يتصرف بطريقةٍ أكثر لباقة (ولكن ذاك كان من شأنه أن يُقوِّض القصة).

يحاول نيستور أن يُوقف هذا التنازُع المحفوف بالمخاطر بتذكيره للقائدَين بهدفهما المشترك، وهو الاستيلاء على طروادة، التي سيُسَر حكامها بمثل هذا الشقاق. بيْد أنه لا هدف مُشترك يمكن أن يطغى على النزاع الشخصي. لا يوجد في عالم هوميروس حكومات، تلك القوة المركزية التي من شأنها كبح رغبة الفرد في فرض إرادته على العالم. إنَّ الحملة على طروادة تُواجه خطر التفكُّك والتشرذم.

يُعيد الآخيون (ويُدعَون أيضًا الدانانيِّين أو الأرجوسيِّين) خريسيس إلى أبيها، ويأخذ المُرسَلون بريسئيس من كوخ آخيل. ويمضي آخيل ليجلس وحيدًا على شاطئ البحر. ويَذرف الدمع ويُنادي أمه الإلهية ثيتيس، وهي حورية من حوريات البحر، قائلًا:

أُماه، بما أنكِ حملتِني، وإن كان حدث لحياةٍ قصيرة، فإنه كان يجب على سيد الأولمب، زيوس مُطلِق الرعد من الأعالي، أن يضع السُّؤْدُد بين يدَيَّ، ولكنه لم يُقدِّم من ذلك ولا النزْر اليسير. بل إن ابن أتريوس، أجاممنون ذا السلطان المديد، قد سلبني سُؤْدُدي، بأخذه غنيمتي بفعلته المُتغطرِسة واحتفاظه بها. (الإلياذة، ١، ٣٥٢–٣٥٦)

تأتي ثيتيس من البحر لِتواسيَه. ويطلب منها آخيل أن تتشفَّع إلى زيوس، الذي تتحقَّق مشيئته دومًا، بأن يَسقط الآخيون، حلفاؤه السابقون، أمام ضراوة الطرواديِّين. أمَّا من جانبه هو، فلن يقاتل معهم بعد ذلك.

يَختم هوميروس الوَحدة (المشهد) بتضرُّع ثيتيس المستجاب إلى زيوس وبشكوى هيرا التالية بشأن تأثير النساء الأُخريات. وفي النهاية يرد هيفايستوس المُصلِح الأعرج، الذي نجح في مسعاه أكثر ممَّا فعل نيستور على الأرض، سكان الأولمب إلى كئوسهم وإلى عقولهم.

(٣) «الحلم المُلَفَّق» (٢، ١–٤٤٠)

يُقدِّم مشهد «فدية خريسيس» إيضاحًا بشأن منشأ التنازُع بين آخيل وأجاممنون، ورفْض آخيل الغاضب للقتال هو نقطة التحوُّل الأُولى في الحَبكة؛ إذ يتبدَّل الآن اتجاه الأحداث تمامًا. في الفيلم الروائي الطويل الحديث يُطلَق على السرد حتى نقطة التحول الأولى في الحبكة «التمهيد أو التأسيس» وتستغرق ربع الفيلم، أي حتى الدقيقة الثلاثين. يتَّسم تمهيد هوميروس بأنه مضغوط على نحوٍ هائل، الأمر الذي يعطي استهلال الشاعر قوةً عظيمةً؛ فأمورٌ كثيرة تحدث بسرعةٍ كبيرة.

لا بدَّ لتسلسل المَشاهِد الذي يتبع انسحاب آخيل أن يُبين كيف ألحق زيوس الهزيمة بالآخيِّين، حسب طلب آخيل من ثيتيس وطلب ثيتيس من زيوس. إنَّ الأمر الوحيد الذي يُمكن أن يطفئ غضب آخيل هو موت أصدقائه. ومع أن هوميروس لا ينسى مُطلقًا مقصده، فإنه الآن ينتهز الفرصة ليروي «قصة حرب طروادة»، ووجود آخيل لا يُستشْعَر إلا بالكاد لفترةٍ طويلة جدًّا. من الأمور المستحيلة في فيلمٍ معاصر أو روايةٍ معاصرة أن تُسقِط شخصيةً رئيسية لثلث القصة، مثلما يُسقَط آخيل هنا. ومع ذلك فإن تسلسل المَشاهد — التي يربط بينها خيطٌ سردي أحيانًا ما يكون خفيًّا — بالفعل يعطي الإحساس بأن الوقت يمر وأن أمورًا تحدث بينما آخيل يُمضي الوقت مكتئبًا في خيمتِه.

ومن أجلِ أن يُحقِّق زيوس مقصده المتمثِّل في معاقبة الآخيِّين، حسب طلب ثيتيس، يُقرِّر أن يُرسل حُلمًا مُلفَّقًا إلى أجاممنون. وفي اليوم التالي مباشرةً لليوم الذي يستطيع فيه نهبَ طروادة، سيُهمَس بالحلم المُلفَّق. من الواضح أن مقصد زيوس هو استدراج الآخيِّين إلى العراء في انتظار النصر حيث يكونون عُرْضة لغضب الطرواديِّين، كما لو كانوا بحاجة لأن يُستدرَجُوا إلى القتال.

يُقدِّم هوميروس الخديعة في صورةٍ ساخرة؛ فيُدبِّر أجاممنون الأخرق، بعد تلقِّيه للحلم، خُطةً حمقاء ليَعكِس رسالة الحلم (المُلفَّق)؛ إذ سوف يُخبر القوات أنهم لن يستولوا «أبدًا» على طروادة! ظنًّا منه أن هذا القول سيُحفِّزهم لا محالة على القتال بضراوةٍ أكثر فحسب. بدلًا من ذلك يَهرب المحاربون الآخيون وهم يصرخون في فوضى عارمة عائدِين إلى القوارب، مُتلهِّفِين للإبحار إلى ديارهم، في فرارٍ جماعي من أجل السلام. ولا يستطيع إيقافهم إلا الداهية أوديسيوس.

إنَّ التسلسل في مجمله طُرفة والغرض منه إثارة الضَّحِك؛ إذ تكمن الفكاهة، وهي الشيء الذي يَجعلك تضحَك أو تَبتسِم، في الشعور بالتناقض، وثَمَّةَ الكثير منها في «الإلياذة» (ولكن ليس لها وجود تقريبًا في «الأوديسة»). من المفترض أن الآخيِّين المُدرَّعين بالبرونز لا يَتُوقون إلى شيء في الحياة أكثر من السُّؤدُد الذي يُمكن للبسالة في القتال أن تَجلبه، ومع ذلك ففي لحظة وبسبب سوء فهمٍ يَهرُبون مذعورِين! إن جمهور هوميروس يُطلُّ برأسه عبر هذا المشهد؛ فالطُّرفة تَرُوق للمُقاتلِين الذين شعروا بحاجةٍ ماسَّة إلى مجرَّد الهرب. وقد كان مُقدَّرًا للشاعر الجندي أرخيلوخوس، الذي ربما يكون قد عاش في القرن السابع قبل الميلاد، أن يكتب قصيدةً شهيرة يتفاخَر فيها بأنه ألقى درعه وهرَب؛ إذ كان في استطاعته دومًا أن يَحظى بآخر، كما أن شعراء آخرين في أزمنةٍ لاحقة تباهَوا بالأمر ذاته؛ فالمُحاربون الحقيقيون يعرفون قدرًا كبيرًا للغاية عن الحرب يجعلهم لا يُصدِّقون أن بها صلاحًا، وما قد ندعوه الموضوعات المناهضة للحرب كان دومًا جزءًا من ثقافة المُحارب اليوناني.

ينتزع أوديسيوس الصولجان، رمز السلطة، من أجاممنون المرتبك ويستعيد النظام. ويجلس الجميع باحترام عدا ثِرسيتيس، «أقبح رجلٍ أتى إلى طروادة»، الذي كان هدفًا للسخرية بجسده المُشوَّه ورأسه المُدبَّب. فهو المقابل لآخيل، الذي قيل عنه إنه «أكثر الرجال الذين أتوا إلى طروادة وسامة.» وأورَد التراث في أزمنةٍ لاحقة أن آخيل قتل ثِرسيتيس؛ لأنه تهكَّمَ على آخيل بسبب اشتهائه بينثيسيليا الملكة الأمازونية (التي قتَلها آخيل). واعتبر مُعلِّقون كثيرون أن ثِرسيتيس هو الفرد الوحيد الذي ذُكر اسمه، باليونانية dêmos، من «الناس» العاديِّين (جنود الصف) بسبب وقاحته وقبحه. ومع ذلك فإن تسلسل نسَبه يبدو كتسلسل نسب أي أحدٍ آخر. كذلك لسنا مُتيقنِين تمامًا من المقصود بلفظة «عاديِّين/جنود الصف» في القتال الهوميري. يتبرَّم ثِرسيتيس بشأن الحرب وسلوك أجاممنون تجاه آخيل إلى أن يلطمه أوديسيوس بصولجان أجاممنون الملكي، مُخلِّفًا كَدمةً كبيرة، ويضحك الجميع كثيرًا.

يغتنم أوديسيوس الفرصة ليُوضِّح المُسلَّمات السياسية التي يعيشون في ظلِّها: لا يُمكِن للجميع أن يصيروا ملوكًا! يُذكِّر أوديسيوس الجيش وجمهور هوميروس بمُبتغاهم من هذه الحرب وبحتمية النصر في نهاية المطاف. من المُقرَّر للقتال أن يبدأ.

(٤) «قائمة السفن» (٢، ٤٤١–٨٨٧)

لتمجيد عظمة المعركة، وتوافُقًا مع مبتغاه المتمثل في التراجُع إلى الوراء وسرد «قصة حرب طروادة» كنوع من الحشو السردي، ولأنَّ المادة السردية جذابة في ذاتها، يُدرِج هوميروس أسماء المُقاتلِين في «قائمة السفن». تبدأ هذه الوحدة المهمَّة بأشهر مجموعة من التشبيهات في القصائد الهوميرية. في البداية يُشبه هوميروس القوات بالطيور والذباب:

وكما تَنطلِق سحائب الطير المختلفة، من إوزٍّ وكراكيَّ وبجع طويل العنق في المُروج الآسيوية قرب روافد نهر كاوستريوس [في آسيا الصغرى] وهي تتماوج في طيرانها مزهوةً بقوة أجنحتها، ثم تحُط في موجاتٍ مُتصادِمة فتُردِّد المروج أصداءها، كذلك كانت القبائل العديدة تتدفَّق من السفن والمقرات إلى سهل سكاماندروس، والأرض ترتجُّ مُرعِدةً تحت أقدامهم وتحت حوافر خيولهم. أخذوا مواقعهم في سهل سكاماندروس المزهر وكانوا بالآلاف، مثل الأوراق والزهور التي تتفتح في موسمها. ومثل الأعداد التي لا تُحصى من أسراب الذباب التي تنتقل بين مرابط الحظائر في فصل الربيع حين يتطايَر الحليب من أوعيته بأعدادٍ غفيرة كهذه، هكذا وقف الآخيون ذوو الشعور المُسترسِلة في السهل في مواجهة الطرواديِّين، والقلوب تتحرَّق لتمزيقهم إربًا. (الإلياذة، ٢، ٤٥٩–٤٧٣) [ترجمة المجمع الثقافي السوري، ص٧٧ (بتصرف)]

ومع استمراره في تكديس المزيد من التشبيهات التي تؤكِّد على عظمة الحملة، يتضرَّع إلى الميوزات (ربَّات الإلهام)، اللواتي لا بد وأن يكنَّ معادِلات «للربَّة» المذكورة في البيت الأول للقصيدة، أن يُساعدنه على تذكُّر قادة الفِرَق المتنوِّعة وأعداد السفن بترتيبها.

تُشتهر قائمة السفن بكونها قراءة مُمِلَّة وأحيانًا ما تُحذَف من الترجمات، بيْد أنها وثيقةٌ ذات أهميةٍ عظيمة؛ إذ تُعَد أول عملٍ جغرافي للعالم الغربي. إنَّ المعلومات التي تحتويها لا تتَّفق دومًا مع المعلومات في بقية القصيدة، كما لو كان للقائمة مسارٌ مُستقِل بذاته. ها هو بندٌ نمطي، وهو البند الخاص بالعوبيِّين، الذين عاشوا في الجزيرة الطويلة المحاذية للساحل الشرقي لِبَر اليونان الرئيسي، وهو الموضع الذي استُخدمَت فيه الأبجدية اليونانية لأول مرة والذي قد تكون نصوص هوميروس قد خرَجَت منه إلى حيز الوجود:

والأبانتيون الذين يَنفثون الغضب، الذين كانوا يُسيطرون على عوبية وخالكيس وإريتريا وهيستيايا، الغنية بالكروم، وكيرينثوس المطلة على البحر وقلعة ديوس الشديدة الانحدار، والذين كانوا يَسيطرون على كاريستوس ويقطنون في ستيرا؛ وكان يقود هؤلاء جميعًا إليفينور، تابع آريس، الذي كان ابنًا لخالكودون وزعيمًا للأبانتيِّين ذوي الهمة العالية. وتبعه الأبانتيون السريعو الخُطى ذوو الشعور الطويلة المنسدلة على ظهورهم، الرمَّاحون التوَّاقون، برماحهم الطويلة المصنوعة من خشب الدردار، لتمزيق الصِّدارات المشدودة على صدور الأعداء. وتبعه أربعون سفينةً سوداء. (الإلياذة، ٢، ٥٣٦–٥٤٥)

ليس واضحًا السبب في تسمية العوبيِّين بالأبانتيِّين. كانت خالكيس وإريتريا أقدم دويلتَين متنافستَين في اليونان التاريخية في اجتذاب حلفاء من الخارج، حسب كتابات المؤرخ ثوسيديديس (الكتاب ١، الفصل ١٥)، وكانت «الدولة المدينة» كاريستوس تقع على أقصى الساحل الجنوبي، ولكن لا أحدَ يَعرف أين تقع الدول المدن هيستيايا، أو كيرينثوس، أو ديوس. إنَّ المزج بين أماكنَ معروفةٍ وغير معروفة هو أمرٌ نمطي في قائمة السفن، مثلما هو ظهور أبطالٍ شهيرين جنبًا إلى جنب مع أشخاصٍ مجهولِين بالكلية من أمثال إليفينور وخالكودون.

لا بُدَّ أن قائمة السفن كانت أنشودةً تقليدية في مقاطعة بيوتيا، وهي منطقة البر الرئيسي التي عاش فيها هيسيود الذي يكاد يكون معاصرًا لهوميروس قُبالة جزيرة عوبية. لذلك السبب، يبدأ هوميروس وصفه بالبيوتيِّين بدلًا من أن يبدأ بالأرجوسيِّين، الذين قادُوا الحملة، وهو الأمر المُحيِّر للمُعلِّقِين، ثم يدور عكس اتجاه عقارب الساعة جنوب غرب بيوتيا إلى الفرقة العسكرية القادِمة مِن منطقة فوكيس، ثم شرقًا إلى منطقة لوكريس، ثم أبعد شرقًا إلى جزيرة عوبية، ثم جنوبًا عبر جزيرة سالاميس إلى مدينتَي أرجوس وميسينيا. ونحن بالتأكيد مُندهِشون لمعرفة أن ديوميديس يُسيطر على أرجوس، في حين إنَّ ميسينيا التي تَبعُد أميالًا فقط هي موطن أجاممنون العظيم؛ ولكن لعلَّها مُحاوَلة لتوضيح أنه في زمن هوميروس كان سلطان الدوريِّين مُنبسِطًا على إسبرطة (مما يَعني أن ديوميديس من شمال غرب اليونان، من حيث جاء الدوريون). وتَهبط القائمة أكثر جنوبًا إلى إسبرطة، ثم تدور مع اتجاه عقارب الساعة إلى مدينة بيلوس الساحلية، ومنطقة أركاديا الداخلية، ومنطقة إيليا الساحلية، والجزر الأيونية (ومنها إيثاكا)، عبورًا إلى منطقة أيتوليا. من أيتوليا تهبط القائمة إلى الجنوب إلى جزيرة كريت، ثم تدور مرةً ثانية عكس اتجاه عقارب الساعة لتضمَّ جزيرتَي رودس وكوس وجُزرًا أخرى بالقرب من ساحل آسيا الصغرى، ثم تعود مباشرةً إلى البر الرئيسي لتضمَّ الممالك الثيسالية شمال بيوتيا، ومنها فثيا موطن آخيل وإقليم هيلاس (الذي أُطلق اسمه لاحقًا على اليونان كلها)، ثم شمالًا إلى إيولكوس، ثم أبعد إلى الغرب عبر سلسلة جبال بيندوس إلى منطقة شمال غرب اليونان النائية، ومنها منطقة دودونا.

ليس لدينا دليل على وجود خرائط في القرن الثامن قبل الميلاد، ولكن تنظيم هوميروس لجغرافية القائمة هو تنظيم مكاني؛ إذ مِن المُمكن رسمه على خريطةٍ حديثة. لا بد أن المسافرِين كانت لديهم وسيلةٌ ما لتنظيم المعلومات المُتعلِّقة بالأماكن التي يزورونها، بخاصة البَحَّارة، كما أنه لا بد وأن سلسلة أماكن هوميروس — التي تتحرك في شكلٍ دائري، في البداية عكس اتجاه عقارب الساعة، ثم مع اتجاه عقارب الساعة — تعكس معرفةً جغرافيةً شائعة. يتَّفق التركيز على بيوتيا والبيوتيِّين في القائمة مع الاقتراحات القائلة إنَّ جمهور هوميروس الحقيقي ضم هؤلاء الأبانتيِّين أنفسهم عبْر المضيق الذي يفصل بيوتيا عن جزيرة عوبية.

إنَّ القائمة هي عبارة عن سِجلٍّ طويل للغاية؛ ابتهج جمهورها بموسيقى الأسماء وما يتَّصل بها. والقائمة الطروادية الأقصر كثيرًا، والتالية لها، هي أيضًا قائمةٌ جغرافية، تُرتَّب الآن من الشمال إلى الجنوب، من طروادة إلى إقليم كاريا، ثم تتبع الساحل الجنوبي لآسيا الصغرى إلى ليكيا، وهي الأراضي التابعة للاستيطان اليوناني في أوائل العصر الحديدي فيما بعد حوالي عام ١٠٠٠ قبل الميلاد. وهذا الكم الهائل من الأسماء في كلتا القائمتَين يُعطينا إحساسًا بعِظَم الحرب التي على وشك النشوب.

(٥) «هيلين على الأسوار» (٣، ١٢١–٢٤٢)، و«المبارزة بين مينلاوس وباريس» (٣، ١–١٢٠؛ ٢٤٥–٤٦١)

إنَّ آخيل في حالة حرب مع أجاممنون، ولكن الآخيِّين في حالة حرب مع طروادة، بقيادة هيكتور الذي لا نظير له، ابن الملك بريام. قبل أن يَشتبِك حشد الآخيِّين (عشرة رجال لكل طروادي) مع الطرواديِّين، وقبل أن يبدأ الصراع، نلتقي الآن مع هيكتور العظيم عندما يقف أمام الجميع ويقترح إجراء مبارزة بين الفاعلَين الأصليَّين، باريس ومينلاوس. بالتأكيد أي مُبارزة مِن هذا النوع تخصُّ، منطقيًّا، بداية الحرب، وليس عامها العاشر. لا بُد أن هوميروس كان لديه الكثير من هذه المواد في ذخيرته الأدبية، التي يُعادُ استخدامها الآن كعملية إرجاء لكسب الوقت من أجل خلق وهْم بأن أمورًا كثيرةً تَحدُث بينما آخيل ينتظر تحقيق مشيئة زيوس. إن هوميروس ليس معنيًّا بمعقولية المبارزة وإنما بالحاجة إلى تأخير الحدث؛ فهو يتجاهَل الواقعية من أجل تلبية الحاجة الدرامية.

يقود اقتراح المبارزة بسهولةٍ إلى مشهَد «هيلين على الأسوار». لقد سمِعنا بالفعل عن هيلين. فآخيل في مَذمَّته لأجاممنون، الذي كان يُهدِّد بأخذ امرأته، ذَكَّر أجاممنون بأنهم جاءوا إلى طروادة لأجل امرأة. إن الشخصية Character (والتي تعني في الأصل imprint «دمغة/سِمة») مُعزِّزة للحبكة، ولكن هوميروس لا يَصِف لنا أبدًا الشخصية، خلافًا لما يجري في الرواية المعاصرة حيث يُمكننا أن نعرف أعمق أفكار بطل الرواية. بدلًا من ذلك، يستعرض هوميروس أُناسًا يقومون بأمورٍ ويقولون أمورًا.

تسمَع هيلين شائعاتٍ بشأن المبارَزة وتترك مخدعها لتلحق بالشيوخ الطرواديِّين على الأسوار، لتُطلَّ بناظرَيها على السهل، ربما كما كانوا يفعلون في الأيام الأولى للحرب. وقد سبق وأن رأينا في «الحلم المُلفَّق» قصد التسلية عن طريق السخرية من الشخصيات المثالية البطولية (فلا يَليق بالأبطال أن يُفضِّلوا الديار على الحرب) وعن طريق السخرية من ثِرسيتيس مُشوَّه الخِلقة المُثير للمَتاعب. وتُقدِّم وحدة «هيلين على الأسوار» التسلية بأن تَعرض لنا ما لامرأةٍ رعناء على الشيوخ من الرجال من سلطان، ولكنَّها تتحوَّل إلى الجدية في صورةٍ ذهنية للصراع الداخلي الذي يَكتنِف هيلين والحزن إزاء عارها.

عندما يرى بريام والشيوخ هيلين، يُثرثِرون بشأن مدى ما تتمتَّع به من جمال، بيْد أنها لا تُساوي ثمن الحرب. يدعو بريام هيلين إلى جانبه ويؤكِّد لها، وهو يقف على مقربةٍ منها، أن ما حدث كان خارجًا عن نطاق سيطرة أي أحد. ويسأل عن هوية الأبطال الواقفِين بالأسفل على السهل الذين يَستعدُّون للمُبارزة، وهو ثانيةً أمرٌ مناسب للأيام الأولى للحرب. وبسخريةٍ ماكرة تُشير إلى أجاممنون شقيق زوجها، وأوديسيوس (أحد الخُطَّاب)، وأياس ابن تيلامون (المدعو أياس الأعظم)، وإيدومينيوس الكريتي. عندما لا ترى أخوَيها كاستور وبولوديوكيس، تخشى ألَّا يكونان قد أتيا لشعورهما بالعار من سلوكها؛ إذ تدعو نفسها بقولها «أنا بغي». والحقيقة أنهما قد ماتا؛ إذ قُتِلا وهما يقومان بغارة لسرقة الماشية، إلا أن فِسق هيلين تسبَّب في عُزلتها عن أُسرتها وفجأةً أصبَحَت بمفردها. يصف هوميروس ببراعةٍ طبيعة شخصية هيلين لكل الأزمان في هذا المشهد القصير؛ فهي محاصَرة بالافتقار إلى الثقة بالنفس والحزن، ولكنها مع ذلك امرأةٌ تحصل على ما تُريده من خلال جاذبيتها وفتنتها.

أمَّا المبارزة فهي عبارة عن تمثيليةٍ هزْليةٍ مضحكة بين زوج وعشيق زوجته. فشخصية باريس في القصائد الهوميرية هي شخصية زيرِ نساء مُخنَّث ولا قِبل له بمينلاوس الضخم المفتول العضلات، الذي يطرحه أرضًا ويُجرجِره من خوذته. ويتوغل حِزام الخوذة عند الذقن في حَلق باريس. وفجأةً وفي لمح البصر، يختفي باريس من أمام عينَي مينلاوس! أين يمكن أن يكون؟ ويُفتش حوله، وهو يبدو تمامًا كالأحمق.

لقد جاءت أفروديت من السماء لتزيح فتاها المُفضَّل بعيدًا، حاملةً إياه إلى خِدر هيلين؛ فالإلهة تُمثِّل قوة «الرغبة الجنسية» المدمرة التي لا تُقاوَم؛ فهي التي استدرَجَت هيلين إلى فراش باريس في المقام الأول، وهي التي تستطيع أن تفعل أشياءَ مثل هذه. لا أحد يستطيع مقاومة أفروديت، ولا حتى زيوس (كما سوف نعرف لاحقًا في القصة). بيْد أن الظلام والموت هما النتيجة التي تعقُب الرغبة الجنسية الجامحة، بل يصل الأمر إلى حدِّ دمار مدن بأكملها وهلاك شعوب بأَسرها، وعالمٍ ملتهب.

في المخدع تُذكِّر أفروديت هيلين، التي كانت تجأر بالشكوى، بحاجتها إلى حماية أفروديت، فيتعيَّن عليها أن تمضي إلى فراش باريس من فورها. يبدو على باريس بعض الاندهاش من نجاته أو من حظِّه الطيب أو من رغبته في معاشرة هيلين في تلك اللحظة، وهو ما يفعله بالفعل بينما زوجُها المثير للسخرية يَثِب بجنون، إلى أعلى وإلى أسفل وهو يَضرب برجلَيه السهل بحثًا عنه.

(٦) «غدر بانداروس» (٤، ١–٢١٩)، و«تعبئة الحشد» (٤، ٢٢٠–٤٢١)،و«مجد ديوميديس» (٤، ٣٦٤–٥، ٩٠٩)

عندما يَصِل هوميروس إلى نهاية وحدةٍ ما، مثلما في هذا الحال، عادةً ما يُقدِّم «مشهد اجتماع في السماء» ليتمكَّن من تحريك الأحداث ثانيةً. فالاجتماع الإلهي، هو مشهدٌ نمطي، وأداة مِن أدوات السرد.

ومن المِزَح المستمرة عن الحياة في السماء التذمُّر المزعج من قِبل الإلهات، وبخاصة هيرا وأثينا، من زيوس وحاجة زيوس إلى تذكير الإلهات بانخفاض مرتبتهن. ويُذكِّرنَه بمنزلته، هو أيضًا، وفي هذه الحالة يُذكرنه بحقيقة أن مينلاوس انتصر في المبارَزة. ويرين أنه بسبب أن هيلين لم تكن ستعود، على أيَّة حال، إلى الآخيِّين، فلا بد أن يبدأ القتال مجدَّدًا.

تفد أثينا متخفيةٍ إلى صفوف المقاتلين وتُشجِّع الطروادي بانداروس على خرق الهدنة المُقدَّسة برمية قوسٍ مختلَسة. ويُؤخذ مينلاوس، الذي أُصِيب إصابةً سطحية جدًّا، لتلقِّي الرعاية الطبية بينما يُواصل هوميروس تعطيل اندلاع الحرب الشاملة بقائمةٍ ثانية من أسماء المقاتلِين الآخيِّين، تلك التي تُعرف باسم «تعبئة الحشد».

يَمشي أجاممنون ببطء يستعرض صفَّ القوات ويستجمع قوى الأبطال واحدًا تلو الآخر، مبلورًا نصائحه بتفصيلات من حياتهم وخلفياتهم. فيبدأ أولًا بإيدومينيوس، زعيم الكريتيِّين؛ ثم «الأياسين» (من الجائز أنه في هذا المَوضِع يقصد أياس ملك سلاميس وأخاه غير الشقيق توسر)؛ ثم نيستور، زعيم البيلوسيِّين؛ ومينيسثيوس، زعيم الأثينيِّين. لسببٍ ما يختصُّ أجاممنون بالتقريع أوديسيوس الإيثاكي، الذي يَكبح جماح نفسه، وديوميديس الأرجوسي، وهو ما يسمح لهوميروس بالاستطراد بشأن توديوس والد ديوميديس، الذي مات في الحرب مع مدينة ثيفا (طيبة). إنَّ هوميروس يستخرج من مخزونٍ من القصص عن تلك الحرب العظيمة الأخرى التي نشبت قبل جيل. ويُنشِئ تحدي أجاممنون لبسالة ديوميديس أول سلسلةٍ كبيرة من مشاهد قتال، تتمحوَر حول مآثر ديوميديس.

ثَمَّةَ أنماطٌ متعدِّدة تحكم وصف هوميروس للقتال. ويبدو أنه لا تُوجد وحداتٌ منظمة، مثلما كان يُوجد في الحروب التقليدية، وإنما يُقاتل الأبطال بمفردهم أو بمساندةٍ عرضية من رفاق لهم. وهذا النوع من أساليب القتال هو أساس انشغال القصيدة بفكرة السُّؤْدُد، وهي مكافأة تأتي لمقاتلٍ منفرد عندما يكون مظفرًا، وليس لفرقة أو فيلق أو سرية أو كتيبة. فالبطل هو من يَقتُل وهو الذي يتلقى التشريف. ويُطلَق على تتابُع المَشاهد التي تُمجِّد بطلًا ما باليونانية اسم aristeia وتعني «لحظة الامتياز».

كيف يصف المرء عنف الحرب وفظاعتها؟ وكيف يَنقُل اضطراب الحرب، وهولها، وشدتها إلا عبْر وصفٍ تصويري نابض بالحياة للعنف المُفرِط؟

فاقترب منه ابن فيليوس، الشهير برُمحه، وضرَبَه برأس رمحٍ حادٍّ على وتر رأسه، فمرق البرونز مباشرةً من بين أسنانه ليقطع لسانه من جِذره. فسقط في التراب وهو يعَض على البرونز البارد بأسنانه. (الإلياذة، ٥، ٧٢–٧٥)

لا أحد يهتمُّ إذا ما سقطت جمهرة من الجنود التافهِين المجهولِين على الأرض؛ لذا عادةً ما يتوقَّف هوميروس للحظة، مع موت كل رجل، ليُخبرنا بمعلوماتٍ كافية عنه حتى نشعر بالأسى لموته. وهكذا مات، على سبيل المثال، فيريكلوس ابن تكتون الطروادي (الصانع)، ابن هارمون (الذي يجمِّع الأشياء معًا). كان تكتون قد بنى السفن التي أبحر بها باريس إلى إسبرطة، بيْد أنه بقيامه بذلك كان يصنع حزنه هو:

وقتَل ميريونيس فيريكلوس، ابن تكتون، ابن هارمون، ذي اليدَين المدربتَين على صنع كل أنواع الأعمال التي تتطلَّب المهارة. وكانت بالاس أثينا تحبه أكثر من كل الرجال. وكان هو الذي بنى لألكسندروس السفن الجميلة، منبع الكروب، التي صُنعَت لتجلب اللعنة على كل الطرواديِّين وعليه هو نفسه أيضًا؛ لأنه لم يفهم نبوءات الآلهة. (الإلياذة، ٥، ٥٩–٦٤)

أمَّا وحدة «مجد ديوميديس»، التي تستغرق معظم الكتاب الخامس، فهي عبارة عن aristeia «لحظة الامتياز» الخاصة بواحد من أعظم المقاتلين الآخيِّين. بعد مناوشات بين العديد من الآخيِّين والطرواديِّين، يقتل ديوميديس مجموعة من الطرواديِّين، ثُمَّ يُواجه بانداروس، الذي كان قد خرق الهدنة والذي في هذا المَوقف يُصيب ديوميديس بجُرحٍ مثلما أصاب مينِلاوس. يُمثِّل الموت العادل للطروادي الغادر إحدى العُقد في سلسلة مَشاهد القتال. فما دام بانداروس يُطلِق سهامه من بعيدٍ دون أن يُشارك في القتال، لا يستطيع ديوميديس قتله. وعندما يعتلي بانداروس العربة مع إنياس، وهو حليفٌ طروادي مهم (والمُقدَّرٌ له أن يُنشِئ العِرْق الروماني، حسبما يَرِد في تراثٍ لاحق)؛ سيحمله إنياس إلى موضعٍ قريب من القتال الدائر حيث يمكنه أن يموت كالرجال.
ثَمَّةَ نوع من الصخب في القتال الهوميري، مثلما نجد في قتال الشوارع بين العصابات. ففي هذا الموقف نجد ديوميديس، رغم أنه مدجج بدروع من البرونز ومُسلَّح برمح وسيف، بيْد أنه:

أمسك بيديه حجرًا، ويا له من عملٍ جبار، يعجز عن حمله رجلان من رجال هذه الأيام، ومع ذلك فقد تمكَّن من التحكُّم فيه بمُفرده. وأصاب به إنياس في مؤخِّرته عند موضع التقاء مفصل الفخذ بالمؤخرة — أي الكأس، كما يدعوه الرجال — وهشَّم عظْمة الكأس وقطع الوترَين ومزَّق الحجر المُسنَّن الجلد تمزيقًا. (الإلياذة، ٥، ٣٠٢–٣١٠)

تتدخل أفروديت، أم إنياس (ولهذا فهي حامية عائلة يوليوس قيصر، الذي زُعم أنه يَنحدِر من نسل إنياس)، لصالح ابنها، إلا أن ديوميديس ثابت الجأش يُهاجمها ويَجرح يدها. إن الحرب ليست للنساء، وخاصةً إن كانت هذه المرأة هي إلهة الرغبة الجنسية!

قد يُذكِّرنا هذا النوع من المشاهد بأنه من غير المحتمل أن يكون جمهور هوميروس قد اشتمل على النساء، على الأقل حسبما هو مألوف؛ ففي وصف «الأوديسة» «للمُنشد الملحمي»، نجد أن كل الجمهور من الرجال باستثناء أريت، الملكة، على جزيرة فياشيا. فمِن شأن جمهورٍ كله من الرجال أن يستمتع بقصة «جرح أفروديت»، التي يرجع أصلها إلى بلاد ما بين النهرَين والتي تشتمل عليها وحدة «مجد ديوميديس»، التي تحكي أنها هربت شاكيةً إلى زيوس، الذي وبَّخها برفقٍ على سلوكها غير اللائق (للاطِّلاع على نموذج بلاد ما بين النهرَين لهذه القصة، طالع قسم «هوميروس والشرق الأدنى» في الفصل الثاني: ملحمتا هوميروس عند المؤرِّخِين). وتُبدي أثينا ملاحظةً دنيئة حقًّا؛ إذ تقول إنه لا بد وأنها أصابت نفسها بخدش من دبُّوس زينتها وهي تحُضُّ إحدى النساء الآخيَّات على ممارَسة الجنس مع طروادي (الإلياذة، ٥، ٤٢١–٤٢٥).

إنَّ دخول أفروديت المعركة هو دخولٌ هزْلي، بيْد أنه عندما يظهر آريس إلى جانب هيكتور، يرتعد الآخيون خوفًا. وهذا هو هدف هوميروس الأعظم، أن يَجعل الآخيِّين يَتقهقرون إلى الخلف، ولكنه يريد أولًا أن يُجسِّد عظمة الحرب وتعقيدها. فالحروب العظمى تَستلزم خصومًا عظماء، وهوميروس يُبرهن على بسالة الحليف الطروادي ساربيدون بإظهاره وهو يَقتل رجلًا يُدعى تليبوليموس في مُبارزةٍ طويلة. إننا بحاجة لأن نرى عظَمة ساربيدون؛ لأنه في أزهى أوقاته سوف يُقتَل على يد باتروكلوس في جزءٍ حاسم من القصة.

لا يُؤدي تَدخُّل آريس إلا إلى تحريض هيرا وأثينا على مناوأته، ويسخر هوميروس من المشهد النمطي لتسلُّح أحد الأبطال استعدادًا للمعركة حينما يروي كيف أن أثينا:
ابنة زيوس الذي يحمل الدرع «أيجيس» تركت رداءها المطرز بسخاء ينزلق عنها على عتبات أبيها، ذلك الرداء الذي حاكتْه بيدَيها، وارتدَت عباءة زيوس جامع السحب ولَبِسَت الدروع استعدادًا للحرب المُفجعة. ورمَت على كتفَيها الدرع «أيجيس» aegis ذا الذؤابات، يَملؤها الذعر، الذي تُحيط به لوكي، رُوح الهزيمة المُنكَرة، من كل جانب كالتاج وبداخِلِه رُوح آريس ربَّة الشقاق، ورُوح الجرأة ورُوح الهجوم التي تُجمِّد الدم في العروق، وبداخله رأس الوحش الرهيب، الجورجونة، الرهيبة والمهولة، النذيرة بزيوس الذي يحمل الدرع «أيجيس». وعلى رأسها وضعَت الخَوذة المصنوعة من الذهب ذات القرنَين وبها أربعة نقوشٍ بارزة، والمُزيَّنة بصور رجالٍ مدججين بالسلاح من مائة مدينة. ثم امتطت العربة النارية وقبضَت على رمحها الثقيل والضَّخم والقوي، الذي به تُشتِّت صفوف الرجال من المحارِبين الذين تصبُّ عليهم غضبها؛ فهي ابنة السيد الجبَّار. وبسرعة لمسَت هيرا الخيول بالسوط. (الإلياذة، ٥، ٧٣٣–٧٤٨)

يُعَد هذا الوصف مصدر إلهام لآلاف التجسيدات القديمة للإلهة، ولكن يُوجد في سياقها سُخرية وخفَّة ظل في وصف أنثى تَرتدي الدروع كما لو كانت آخيل أو أجاممنون. عندما تعتلي عربة ديوميديس، «أحدث مِحور العربة المصنوع من خشب البلوط صريرًا عاليًا تحت وطأة ثقلها؛ إذ كانت تَحمل إلهةً رهيبة ومحاربًا لا نظير له» (الإلياذة، ٥، ٨٣٨).

إنَّ هذا المزج المُمتع للعادات المتصلة بالواقع — كالاستعداد للمعركة، والانتقال بالعربة، والقتال — مع الحصانة الواجبة للآلهة يَبلغ ذروته عندما يطعن ديوميديس آريس في أحشائه، بمساعدة أثينا، ويُطلق صرخةً عالية كصرخة عشرة آلاف محارب. ويُضطرُّ إله الحرب البائس المقهور إلى الشكوى لوالده زيوس بشأن المصير القاسي الذي ابتُلي به في الحياة. ويُلقي زيوس باللوم كلِّه على زوجته!

(٧) «جلاوكوس وديوميديس» (٦، ١١٩–٢٣٦)

يُفترض أن تكون القصة الكبرى هي اطِّلاعنا على الطريقة التي يُهزَم بها الآخيون بموجب وعد زيوس لثيتيس، ولكن في واقع الأمر أنَّ الآخيِّين بقيادة ديوميديس وأياس وأوديسيوس ومينلاوس وأجاممنون يسحقون الطرواديِّين. فثلاثة طرواديِّين يَلْقَون حتفهم في مقابل كل واحد من الآخيِّين. لا بد وأن هوميروس قد توارَث تراثًا خصبًا يحكي عن انتصارات الآخيِّين، يعود بلا شك لأسلاف أمثال هؤلاء من مقاتلي العصور القديمة، وتراثًا هزيلًا يحكي عن انتصار الطرواديِّين.

أيًّا كان الأمر، يستغل هوميروس تفوق الآخيِّين ليدفع هيلينوس، العراف، شقيق هيكتور إلى إرسال هيكتور إلى المدينة للتضرُّع إلى أثينا. وليس الأمر أن الأحداث تتطلب مثل هذا التضرع في هذه اللحظة، وإنما يريد هوميروس أن يظهر لنا شِيَمًا معيَّنةً لدى هيكتور الرجل الذي سوف يُقتَل عمَّا قريبٍ على يد آخيل.

في ذلك الحين، يُتيح لقاء جلاوكوس، ابن هيبولوخوس، من ليكيا (الساحل الجنوبي الأوسط لتركيا المعاصرة)، وديوميديس، ابن توديوس، من أرجوس (في شبه جزيرة بيلوبونيز) فرصة لالتقاط الأنفاس من سفكِ الدِّماء ونهاية هادئةً لمآثر ديوميديس البطولية في ميدان الحرب الدموية. كان ديوميديس قد جرَحَ لتوِّه إلهَين واستعان بأثينا للقيام بدور قائدة مركبتِه، ولكنه يتوقَّف لبُرهة عندما يرى جلاوكوس، مُعتقدًا أنه قد يكون إلهًا. (لم يُهاجم ديوميديس آريس إلا بتوجيه من أثينا.) يقصُّ ديوميديس قصة صغيرة عن معاناة البشر عندما يدخلون في صراع مع الآلهة، وعن ملك تراقيا المدعو ليكورجوس والذي طارَدَ ديونيسوس إلى البحر ولكنه دفع ثمنًا باهظًا جراء ذلك، وهي إحدى الإشارات القليلة إلى الإله البهيج ديونيسوس في القصائد الهوميرية، ولعلَّ جمهور هوميروس الأرستقراطي لم يُرحِّب بهذا الإله الجامح وبالإباحية التي صاحبَت عبادته. تُمثِّل قصة ليكورجوس ما ندعوه «أسطورة»، على الرغم من أن هوميروس لا يَستخدم كلمة muthos على هذا النحو مطلقًا.
ورَدًّا عليه يقصُّ جلاوكوس، هو الآخر، «أسطورة»، هي عبارة عن سلسلة نسب تحتوي قصة بيليرفونتيس، الذي ذبَحَ وحْش الكِمِّير الضاري، وهي حكايةٌ شعبيةٌ شرقية تحتوي على الإشارة الوحيدة للكتابة في القصائد الهوميرية (انظر أعلاه؛ الفصل ١، قسم «لوح بيليرفونتيس: حجج فريدريش أوجست وولف».). يُطلِق الباحثون في الأدب الشعبي على هذا النمط القصصي اسم «زوجة فُوطيفَار» نسبةً إلى يوسف في الكتاب المقدَّس، الذي خانته زوجة فُوطيفَار الشهوانية وأودَت به إلى السجن. في قصة جلاوكوس، رَغِبَت ملكة إفيري (أي مدينة كورنث [كورنثوس]) في مضاجعة بيليرفونتيس الوسيم، إلا أنه رفضها. فقالت لزوجها الملك إن بيليرفونتيس قد تحرَّشَ بها جنسيًّا. ولم يستطع الملك أن يقتل ضيفه، مثلما استحق تمامًا، دون أن يخالف الأعراف المقدَّسة xenia (خانيا)، التي تعني «حسن الضيافة»؛ لذا أرسله إلى والد الملكة في ليكيا حاملًا اللوحَ المطويَّ الشهير الذي يَحوي «علامات مهلكة».
يَتذكَّر ديوميديس أن جَدَّه قد أحسن وفادة بيليرفونتيس، مما جعَلَ البطلَين xenoi، أي «أصدقاء ضيافة»؛ ومِن ثَمَّ لا يُمكنهما أن يتقاتَلا. واحتفاءً بصداقة خانيا xenia التي تجدَّدَت، يتبادَلُ الرجلان درعَيهما. ولأن درع جلاوكوس كان مصنوعًا من الذهب (وهو احتمالٌ مُستبعَد) ودرعَ ديوميديس من البرونز، فإن ديوميديس كان الطرف الأكثر ربحًا في الصفقة، حسبما يُشير هوميروس. بيْد أن أحدًا لم يُفسِّر مطلقًا ما كان الشاعر يَقصده بهذه المبادَلة المستغربة.

(٨) «هيكتور وأندروماك» (٦، ٢٣٧–٥٢٩)

في بقية الكتاب السادس يُقدِّم هوميروس هيكتور في أدواره المتمثِّلة في كونه ابن هيكوبا، وشقيق باريس، وشقيق زوج هيلين، وزوج أندروماك، ووالد أستياناكس (الاسم يعني «ملك المدينة»). قد يتساءل آخيل عن السبب الذي يَدفعه للمجازفة بحياته بالقتال على السهل العاصف، ولكن هيكتور يعرف جيدًا جدًّا: من أجل أن يَحمي حياة المدينة وعلاقاتها الأُسرية المتشابكة التي يُوحِّدها الاحترام والحب. ومع أن مآله هو والمدينة إلى الهلاك، ولكن عليه أن يتصرف كما لو أن جهوده يمكن أن تصنع فارقًا.

يَلْقى هيكتور أُمه في القصر البديع ويرفض تناوُل كأس من الخمر؛ فهذا ليس أوان الخمر. تأخذ هيكوبا ثوبًا من صناعة صيدونية (أي فينيقية) منسوجًا نسجًا متقنًا وتَحمِله في موكب إلى معبد أثينا، وهي المرة الوحيدة التي يُشير فيها هوميروس إلى معبدٍ قائمٍ بذاته. تضع الكاهنة الثوب على ركبتَي الإلهة، ولكن الإلهة ترفض الصلاة.

في تلك الأثناء يذهب هيكتور إلى مخدع هيلين، حيث كان باريس الوسيم قد أنهى مطارحة الغرام معها. يُعنِّف هيكتور أخاه على جموده وتراخيه. فيقول باريس دائم المرح إنه سوف يَبذُل جهدًا أكبر، بينما تحاول هيلين الفاتنة أن تجعل هيكتور يَسترخي ويَجلِس. وكما رفض كأسًا من الخمر من أمِّه، يَرفُض طلبها بكياسة ويحث خُطاه إلى بيته ليتفقَّد زوجته أندروماك وطفلهما أستياناكس. ولكنها، كحال هيلين، كانت قد ذَهبَت إلى الأسوار. ويَلقاها عند بوابة سكَاي (أي «الغربية») بينما كان على وشك العودة إلى السهل.

إنَّ مشهد هيكتور وأندروماك عند بوابة سكَاي هو واحد من أشهر المَشاهد في القصائد الهوميرية. تتوسَّل أندروماك إلى هيكتور ألا يرجع إلى القتال وتَرسُم صورة لما سوف يحدث لابنهما، الذي كان في ذلك الحين نائمًا بين ذراعَي المُربِّية، إنْ فقَد والده. من الطبيعي لها، كونها زوجةً وأمًّا، أن تخشى وقوع ما هو أسوأ وأن تحاول أن تمنع حدوثه. غير أن هيكتور يُبيِّن لها أن القتال أو عدم القتال ليس أمرًا له فيه خيار؛ إذ قد يَفقِد هو وأسرته السُّؤْدُد إن قعد عن القتال. إن واجبه، كونه ابنًا، وزوجًا، وفردًا في المجتمع، أن يُقاتل.

بعد ذلك يرسم صورةً قاتمة لما سوف يحدث لأندروماك؛ أن تُغتصَب وتُسترَقَّ ويُقتل ابنهما، إذا ما سَقطَت المدينة. ويمدُّ هيكتور يده ليَحمِل طفله، الذي يَبكي، مرتاعًا من الخَوذة المخيفة. فيضع هيكتور الخوذة على الأرض وحينَها يتعرَّف الطفل عليه، على هيكتور الأب، وليس هيكتور المُحارب. وفي مشهد يحمل مشاعرَ عذبةً يضحك هيكتور وأندروماك مثلما يفعل أبوان مُحبان لطفلهما.

إنَّ المستمع إلى هيكتور وأندروماك لَيعرف أن رؤية هيكتور القاتمة للمُستقبَل في واقع الأمر سوف تتحقَّق. إن هيكتور وأندروماك، وأستياناكس هم أُسرة، على عكس زواج باريس وهيلين الذي لم يُثمِر عن أطفال، والقائم على الشهوة، والذي لا يؤدِّي إلى شيء إلا الموت. إن انغماسَهما في الملذات، وعبوديتهما للمُتعة الأنانية سوف يؤدِّيان إلى هلاك المدينة، التي ما هي إلا مجموعة من البيوت ومن الأُسر التي تقيم فيها.

(٩) «المبارزة بين هيكتور وأياس» (الكتاب ٧)

يَجري نطاق «الإلياذة» الزمني في مجمله عبْر عدة أسابيع، إلا أن الأحداث كلها تقريبًا تجري في أربعة أيام ويومَي هدنة (من الكتاب الثاني إلى الثاني والعشرين). لم نُكمل بعدُ اليوم الأول للقتال حينما يرجع هيكتور إلى السهل، هذه المرة بصحبة باريس. قد نتوقَّع أن تغيب الشمس، كختام ليوم جيد، إلا أن مشهد «هيكتور وأندروماك» يَدفعُنا إلى توقعِ أحداث فورية. وكالمعتاد تتدخَّل الآلهة للمضيِّ قُدمًا بالأحداث؛ فبتحريضٍ من أبولو، يَطرح هيكتور فجأة تحديًا على الآخيِّين للنزال في مبارزة، فما زال ثَمَّةَ مشهدٌ آخرُ، مثل مشاهد «قائمة السفن»، و«هيلين على الأسوار»، و«المبارَزة بين مينلاوس وباريس»، يَنتمي إلى السنوات الأولى للحرب.

كان مشهد «المبارزة بين مينلاوس وباريس» مشهدًا هزليًّا صاخبًا وكأنه سيرك، إلا أنَّ المبارزة يُمكن أن تُتيح للشاعر أن يُعطي مثالًا على السلوك الرجولي والفضيل. فيُصرِّح هيكتور بأنه سوف يَمنح خصمه مدفنًا لائقًا، إن سقط، وأنه يتوقَّع المعاملة نفسها، إلا أن المنتصر يُمكنه الاحتفاظ بالدرع. يُصور المشهد رجالًا نبلاء في مسعًى نبيل، فكل شيء يُساعد على تحقيق السُّؤْدُد والخير العظيم الذي يَستتبِعُه، وهو الاشتهار الأبدي.

يتطوَّع مينلاوس لقتال هيكتور، ولكن سرعان ما يُكبَح جماحه [على يد أجاممنون]. فهو ليس نِدًّا لهيكتور (رغم أنه قد أبلى بلاءً حسنًا في ميدان القتال)، وعلى أيِّ حال فقد كان صبيحة ذلك اليوم في مُبارزة مع باريس. ويتطوَّع تسعة أبطال. ومن أجل أن يَحسِموا الأمر، يضع كل واحد منهم علامةً على قُرْعة ويَضعها في سلة. قد يكون هوميروس أشار ها هُنا إلى الكتابة، لو كان يعرف أي شيء عن الكتابة. وتتطايَر قرعة أحدهم خارجةً من السلة ويمرُّ بها البشير على الصف إلى أن يتعرَّف أياس على العلامة.

تتبَع المُبارزة أسلوبًا متقنًا؛ إذ يتواجَه الخصمان، أياس بترسه المتفرد «الذي يشبه جدار مدينة»، والذي يُعيد على نحوٍ واضح إلى الأذهان شكل الدرع في العصر البرونزي. ويُصرِّح كلٌّ منهما بأنه رجلٌ ذو بأس، وهو نوع من التجاوز اللفظي الشِّعري القتالي الذي يُطلَق عليه أحيانًا flyting «المساجلة اللفظية/المهاجاة» (وهو يُكافئ ما يدعوه الأسكتلنديون contention أي «الإلحاف في الهجاء»). في الحقبة الكلاسيكية كان مقاتل الهوبليت يَحمل رُمحًا طعنيًّا منفردًا ثقيلًا لم يكن يَقذفه أبدًا، ولكن في القصائد الهوميرية نجد أن الرُّمح يُقذَف. فيُلْقي هيكتور أولًا، ولكن درع أياس يصمد؛ ففي القتال الهوميري لا تُكلَّل الرَّمية الأولى أبدًا بالنجاح. ثم يُلْقي أياس رمحه ويَخترق الرمح درع هيكتور وصِداره ولكنه لا يُلحِق به أذًى. عندئذٍ يَسحب الرمح المغروز في درعه ويُوجِّه به طعنة إلى خصمه. ويُجرَح هيكتور جرحًا طفيفًا. ومن الواضح أنهما حينئذٍ يُلقيان الرمحَين؛ لأن الأمر التالي الذي نعرفه هو أن كلًّا منهما يَلتقِط حجرًا ضخمًا ويرميه نحو الآخر. وكالعادة تخيب الرمية الأولى. ويَطرح حجر أياس هيكتور أرضًا، ولكنه سرعان ما يَنتصِب.

من المتوقَّع الآن، بعد أن استنفَدا رُمحَيهما وألقيا حجرَيهما، وكما هو معتاد، أن يسحب المُتبارزان سيفَيهما القصيرَين من غمدَيهما ويتجالدا بهما في مواجهةٍ مباشرة، ولكن لإبراز الشكل الرسمي المنهجي لهذه المبارَزة، يتدخل رسولان ليفُضَّا الاشتباك بينهما. لقد أثبت كل رجلٍ منهما جدارته. ومنح كلٌّ منهما الآخر هبةً نابعة من الاحترام المتبادَل، وهي تُعادلهما في مباراة السلوك المُشرِّف، مثلما يحدث في حدثٍ رياضي. وهكذا تتضافَر الحرب والمنافَسة الرياضية تضافُرًا وثيقًا في «المبارزة بين هيكتور وأياس».

يبدو مستغربًا أن هوميروس قد أدخل مبارزتَين في يومٍ واحد، ولكن الجمهور مأخوذ بفيض السرد ولا يَشعر بمرور الوقت على نحوٍ صحيح. إن تلك الأحداث لا تُؤدِّي إلى أي شيء فيما بعدُ في القصيدة، ولكنها تَستكشِف طبيعة الحرب والشخصيات المتورِّطة فيها. لقد عرفنا بشأن أياس (الأعظم شأنًا) ومينلاوس وأوديسيوس وإيدومينيوس، وبشأن هيكتور الطروادي، وبريام، وباريس (وهيلين). وختامًا للعرض التفصيلي الطويل، يَدعو نيستور إلى هدنة لدفن الموتى، وفي انتقالٍ آخرَ لافت أيضًا إلى بداية الحرب، يُوصي نيستور بأن يَبني الآخيون جدرانًا ترابية لحماية السفن، وفي العام العاشر للحرب يَبنون جدارًا دفاعيًّا! الأمر ببساطة أن هوميروس سوف يحتاج إلى هذا الجدار في القتال القادم، ولهذا يُدخِله إلى القصة.

في هذه الأثناء يَجتمع المجلس الطروادي للنظر في أمر التنازُل عن هيلين والكنز الذي سرَقَه باريس، وهي محاوَرة تختصُّ هي الأخرى بالأيام الأولى للحرب. ويقول باريس إنه سوف يُعيد الكنز ولكنه أبدًا لن يُعيد المرأة. وهكذا يُودِّي الغدر والبغي بالطرواديِّين، بمَن فيهم هيكتور الرائع وأسرته الجميلة، إلى التهلُكة.

بعد بناء الجدار، يتذكَّر بوسيدون على جبل الأولمب جدارًا سابقًا كان قد بناه هو وأبولُّو من أجل الملك الطروادي لاوميدون، وهي أسوار المدينة نفسها، ويخشى من أن هذا الجدار الجديد قد يَحجب مجدَهم. ولذلك يفكر زيوس بالمستقبل ويُعطي الإذن بتدمير هذا الجدار الترابي تدميرًا كاملًا ما إن تضع الحرب أوزارها. ومثلما كان الحال في التشبيهات، يشقُّ هوميروس نافذةً داخل السرد ويذهب بالمستمع بعيدًا داخل عوالمَ موازيةٍ مُدهِشة؛ ومن ثَمَّ فهو في فَقْرات كهذه يضع أحداث الحرب في إطارٍ أعظم في شكل يُوحي بالخلود في زمن كانت فيه حرب طروادة، بكل مجدها، قد ولَّت دون أثر. يعتقد البعض استنادًا إلى هذه التفصيلة أنه لا بد أن يكون هوميروس قد رأى منطقة ترواد بنفسه، حيث لم يكن للجدار الترابي أي وجود.

(١٠) «الطرواديون المُظفَّرون» (الكتاب ٨)

بعد أن قدَّم هوميروس شخصيات قصَّته وخلفيتها، يلزمه أن يُهيئ نقطة التحوُّل الوسطى في حبكته، وذلك حينما يرفض آخيل البعثة التي يُريد أعضاؤها أن يَجعلوه يعود إلى المشاركة في الحرب (الكتاب ٩). ولكي يَشعر الجمهور بوجود حاجة إلى البعثة، نحتاج إلى أن نرى الآخيِّين مُتراجعِين تراجُعًا كاملًا. لم يَصِلِ الأمر بعدُ إلى الهزيمة الساحقة التي وعد بها زيوس ثيتيس، والتي سوف تَحين لاحقًا، وإنما هي نكسةٌ خطيرة مِن شأنها أن تُسوِّغ إرسال البعثة. وفي واقع الأمر أن الآخيِّين حتى ذلك الحين كانوا بالإجمال وفي غالب المواجَهات مُتفوقِين على الطرواديِّين.

يتعيَّن على هوميروس بطريقةٍ ما أن يُنفِّذ مسألة اندحار الآخيِّين دون قتل أو جرح مقاتلِيه الرئيسيِّين؛ أوديسيوس، وأجاممنون، ومينلاوس، وديوميديس، الذين يدَّخر هوميروس أمر القضاء عليهم إلى القتال الرهيب القادم. ويَفعل هذا بأن يجعل زيوس يُمسِك بزمام الموقف بغلظة إلى حدٍّ ما ويُنزِل صواعق تُلقي الرعب في قلوب الآخيِّين وتُثبِّط إرادتهم. ورغم ذلك يُعيد الآخيون تنظيم صفوفهم ويَحظى البطل الثانوي توسر (الأخ غير الشقيق لأياس الأعظم شأنًا) ﺑ aristeia «لحظة امتياز»، وكأن هوميروس لا يستطيع أن يَكبح جماح نفسه من الاحتفاء ببطلٍ آخي.

في العلياء، يحظر زيوس على الآلهة أن يتدخلوا، وبخاصةٍ أثينا وهيرا، اللتَين تكرهان طروادة وسبق وأن آزرتا الآخيِّين، ويُعلِن عن قوته في صورة مباراة لشد الحبل؛ إذا أمسك كل الآلهة الآخرين حبلًا وحاولوا زحزحتَه، فبمقدوره أن يقتلعهم جميعًا، ومعهم الأرض والبحر. يَعتلي هوميروس مَركبته ويذهب إلى جبل إيدا خلف طروادة، وهي صورةٌ تكرَّرت لعدد لا يُحصى من المرات في الأعمال الفنية فيما بعد حِقبة هوميروس. يتقاتَل البشر الفانون البائسون على السهل العاصف بالأسفل، أمَّا هوميروس فيَحمِل موازينه ليرى إلى أيِّ جانب سوف تَميل كِفَّة الحرب. فتهبط كفَّة [موت] الآخيِّين، وتصعد كفة الطرواديِّين؛ وذلك توضيحًا للأمور في حال إذا ما التبسَ الأمر على أيٍّ من المستمعِين بشأن ما ستئول إليه القصة.

قد تَرجع جذور صورة زيوس المُذهِلة، التي يظهر فيها في هيئة المُمسك بميزان الأقدار، إلى الديانة المصرية؛ فإجراء وضع قلب الرجل المُتوفَّى في الميزان، لمعرفة إذا ما كان قد عاش حياةً مستقيمة، مرسومٌ في كتاب الموتى الذي يرجع إلى عهد المملكة المصرية الحديثة (النصف الثاني من الألفية الثانية قبل الميلاد)، بيْد أن الأمر في هذه الحالة مجرد مِن كلِّ مدلولٍ ديني. فزيوس هنا شاء للآخيِّين أن يعانوا، ويُوضِّح الميزان قطعيةَ مشيئتِه. والصاعقة التي تسقط أمام عربة ديوميديس، بينما كان ديوميديس يُطبِق على هيكتور، هي دليلٌ قاطع على تحيُّز زيوس للطرواديِّين، وهو الأمر الذي يُدركه ديوميديس؛ ومن ثَمَّ يسمح لنيستور بأن يقوده بعيدًا عن ساحة القتال.

يُعرِب هيكتور عن ابتهاجه بالإشارات الواضحة على التفضيل الإلهي في خطابَين، أحدهما يُوجِّهه إلى القوات والآخر إلى خيوله (الإلياذة، ٨، ١٧٣–١٩٧)، ولكن حتى يُطيل هوميروس أمد قصته، يجعل أجاممنون يعود ليُلهب حماس الآخيِّين مُجدَّدًا (ويوافق زيوس بإرساله نسرًا فألًا وعلامة). يَقتل رامي السهام الآخي توسر الكثيرِين، إلى أن يُسقِطَه هيكتور بِحجر، في الوقت الذي يتذكَّر فيه زيوس مقصده المتمثل في الوقوف إلى جانب الطرواديِّين. ويهاجم هيكتور الخندق والجدار هجومًا ضاريًا، حتى إن هيرا وأثينا لا تستطيعان منع نفسَيهما من التسلُّح وامتطاء عربتَيهما، ولا تمتنعان عن ذلك إلا عندما يُهدِّدهما زيوس تهديدًا عنيفًا.

يركب زيوس عائدًا من جبل إيدا إلى جبل الأولمب ويجلس على عرشه ويُهدِّد الإلهتَين مجددًا، بأنه ينبغي ألا تُكثران من الشكوى؛ إذ يتنبأ زيوس بأن باتروكلوس سوف يموت، ثم سيعود آخيل، وهي مُحصِّلة في غير صالح الطرواديِّين الذين تُكن لهم الإلهتان كراهيةً شديدة. وبنبوءته تلك يُبقي زيوس الأطر الرئيسية للقصة الكبرى جليةً، ويثير هوميروس شهيتنا لمعرفة ما سوف تئول إليه هذه الأحداث. عندما يقيم هيكتور المُفرِط في الثقة والمقاتلون الطرواديون معسكرًا على السهل وراء جدار الآخيِّين، نعتقد في وجود خطرٍ مُحدق بالآخيِّين وحاجتهم إلى القيام بشيء حياله.

(١١) «البعثة إلى آخيل» (الكتاب ٩)

يحتلُّ مشهد «البعثة إلى آخيل» الكتاب التاسع ويعتبره كثيرون تَسلسُل الأحداث الأشهر في «الإلياذة»، ونموذجًا لدراسة مسألة القدرة على الإقناع وقوة الحُجة، ونقطة التحوُّل الوسطى للحبكة الطويلة الممتدة. في مشهد «فدية خريسيس» عرفنا السبب وراء غضب آخيل؛ أما هنا فنرى ما أحدثه غضب آخيل من تغيير في ذاته وفي كيفية رؤيته للعالم.

حدثَت أمورٌ كثيرة منذ وعد زيوس لثيتيس بأنه سوف يثأر لما حاق بآخيل من إجحاف، ولكن هوميروس كان مهتمًّا بقصة حرب طروادة أكثر من اهتمامه بتجسيد هزيمة الآخيِّين لمُستمعيه. كان الآخيون يُحقِّقون الانتصارات تحت قيادة ديوميديس البارع، الذي بلغ به الأمر أن جرَح أفروديت وآريس لبسالته، وأردى سائق مركبة هيكتور قتيلًا، وكاد أن يَقتل هيكتور هو الآخر، لولا أنَّ زيوس تدخل بإرسال صاعقة. يريد هوميروس هُنا أن يعيد قصته إلى آخيل، الذي قاده غضبه إلى التنكُّر لرفقائه ولعنهم. يفصح هوميروس مباشرةً عما أصاب الآخيِّين من قنوط وضِيق، كما رأينا، ويُقدِّم الطرواديِّين المُتحمسِين وهم يُقيمون معسكرًا لهم بعجرفة على السهل. وفي تشبيهٍ جدير بأن يُذكر، تبدو نيران معسكرهم في كثرتها كالنجوم في سماء ليلة بلا غَيم.

في معسكر الآخيِّين، يُكرر أجاممنون ذو الروح الانهزامية المشهد السابق في «الحُلم المُلفَّق»، مُعلنًا أمام القوات أنهم لا يُمكنهم أبدًا أن يَستولوا على طروادة وأنه ينبغي عليهم العودة إلى ديارهم، بيْد أنه هذه المرة يعني حقًّا ما يقوله. لقد كان المشهد السابق هزْليًّا وينطوي على استهزاء بالأبطال عندما هرب الجميع في فوضى عارمة إلى السفن. أمَّا في حالتنا هذه، فالمشهد جادٌّ إلى أقصى حد ولا أحد يَهرُب. وينتقد ديوميديس الجَسور أجاممنون انتقادًا شديدًا لضعفه، ويرى نيستور فرصةً سانحة لإعادة آخيل إلى القتال.

يَنزوي القادة إلى مجلس، ويتَّهم نيستور أجاممنون صراحةً بإهانة شرف آخيل وجَرِّهم إلى هذا الوضع الراهن المؤسف. يجيب أجاممنون موافقًا: «نعم، لقد تَملَّكني آتي atê [a-tā] الجنون» (الإلياذة، ٩، ١١٦). يَقصد أجاممنون بقوله «آتي» atê «الجنون» نوعًا من القوة المتجسدة التي تُذهِب منطق المرء السليم (إلهة الأذى والخداع والخراب والحماقة)، مثلما نقول «لقد خرج عن شعوره». ليس واضحًا على الإطلاق إن كان أجاممنون يتحمَّل المسئولية عما اقترف، بخلاف وقوعه ضحيةً «آتي» atê، ولكنه يُوافِق على إرسال هدايا رائعةٍ كثيرة، فيض من الغنائم geras، لكي يُعيد إلى آخيل سُؤْدُده timê ويُخفِّف غضبه. لقد توقَّعَت ثيتيس أن هذا سوف يَحدُث بحذافيره. سوف يُقدِّم له سبعة مراجل ثلاثية القوائم، وعشرة مثاقيل مِن الذهب، وعشرين قِدرًا، واثنا عشر جوادًا قويًّا، وسبع نساءٍ حسناواتٍ ماهرات في الأشغال اليدوية اللطيفة، وبريسئيس، التي يُقسِم أنه لم يُجامعها مطلقًا، بالإضافة إلى عشرين امرأة من طِروادة، عندما يستولون على المدينة، بل سوف يُنْكِح آخيل إحدى بناته الثلاث (حتى يُصبحَ آخيل زوج ابنته!). يبدو أن هوميروس لا يعرف القصة التي اشتُهرَت عن طريق روايةٍ تراجيديةٍ يونانية، والتي تَحكي أن أجاممنون كان قد قتل إحدى بناته، وهي إفيجينيا، ليُؤمِّن للأسطول رياحًا مواتيةً عندما يُبحِر من أوليدة إلى طروادة. وأيضًا سوف يَمنحه ثلاث مدنٍ خاضعة:

إذا ما تخلَّى عن غضبه فليَهدأ؛ فإن هاديس، حسبما أظنُّ، هو وحده الذي لا يَهدأ ولا يُسيطِر على غضبه، ولهذا السبب هو المكروه من البشر أكثر من كل الآلهة، وليُذعِن لي؛ فأنا الأكثر سلطانًا، وأنا الأكبر سنًّا. (الإلياذة، ٩، ١٥٨–١٦١)

يَحمِل ثلاثة رجال العرض إلى خيمة آخيل؛ أوديسيوس، بحديثه المُقنِع، وأياس الأعظم شأنًا، المُحارِب شديد البأس (ولكن لماذا ليس ديوميديس؟) وشخصية تَظهر من العَدَم، هو فوينيكس، مُعلِّم آخيل. ويَتبعهم، أيضًا، رسولان. لقد سبَقَ أن ناقَشنا هذه الإشكالية الجوهرية، حيث نُلاحظ أن الأمر يبدو وكأنَّ المُنشِد الشفاهي يُدخِل تعديلات على أنشودته وهو مُستطرِدٌ في إنشاده، ولكن الأمور لا تستقيم معه على الدوام؛ فبدلًا من أن يقول إنَّ الرجال الثلاثة ساروا بمُحاذاة شاطئ البحر (أو الرجال الخمسة، إذا ما أحصَينا الرسولَين)، نجده يقول: «وسار «الاثنان» بمُحاذاة شاطئ البحر الهادِر» (الإلياذة، ٩، ١٨٢) (طالع: الفصل ١، قسم «بقايا التأليف الشفاهي في نصوص هوميروس»). إنَّ اللغة اليونانية الهوميرية تَشتمِل على صيغة المُثنَّى (المُستخدَمة في لفظة «الأياسين» [أي الاثنان اللذان يحملان اسم أياس])، بالإضافة إلى صيغتَي المفرد والجمع اللتَين تشتمل عليهما اللغة الإنجليزية، وفي هذا الموضع يَستخدم هوميروس صيغة المُثنَّى للضمير وللفعل (أي إنه في الواقع يقول «الاثنان سارا»)، وفي موضعٍ تالٍ يَتراجع عائدًا إلى صيغة الجمع عندما يشير إلى أعضاء البعثة. طُرحَت تفسيراتٌ كثيرة لهذا الشذوذ النحوي، إلا أن أنه يبدو أن أفضل تفسير هو ذلك القائل إنَّ هوميروس توارَث صيغة لمشهد البعثة لم يكن فوينيكس مشمولًا فيها. ثَمَّةَ دورٌ مهمٌّ لفوينيكس يُؤدِّيه في بعثة هوميروس، إلا أنَّ الأمر يبدو وكأن الأرض تنشق عنه ليظهر فجأةً في القصة؛ فالأمر إذن أن هوميروس أدخل فوينيكس إلى القصة، ولكنه لم يكن دائمًا يُعدِّل صيغة المُثنى (فالرسولان الإضافيان ليسا حقًّا طرفًا في البعثة). في هذا الموضع نرى «المُنشد الملحمي» وهو دليلٌ جيد ولكنه مُحيِّر على أن الشاعر — أو مُحرِّري نصه — لم يُدخِلوا تعديلات على «الإلياذة» و«الأوديسة»، المكتوبتَين عن طريق الإملاء، لاستبعاد الأشياء الخارجة عن المألوف ومحو الأجزاء المُملَّة.

تجد البعثة آخيل يَعزِف على قيثارة غَنِمها في نفس الغارة على طيبة التي سَبى فيها خريسيس. ويَجدونه يُنشِد عن «مآثر الرجال»، وهي الإشارة الوحيدة في «الإلياذة» إلى أنشودةٍ بطولية، ولو أنَّ آخيل ليس «بمُنشدٍ ملحمي». أمَّا «الأوديسة» فهي، على النقيض من «الإلياذة»، تُشير إلى المُنشدِين الملحميِّين مرارًا وتكرارًا.

ولكونه مُضيفًا كريمًا يُقدِّم آخيل الطعام إلى الرجال، الذين بعدئذٍ يسلمونه رسالتهم. ويَبتدئ أوديسيوس، مُكرِّرًا حرفًا بحرفٍ عرضَ أجاممنون السخي، وفقًا للنمط الشفاهي في نقل الرسائل، عدا أنه يُسقِط كلمات أجاممنون الأخيرة غير المقبولة عن كونه الأكثر سلطانًا. يَستميل أوديسيوس تعطُّش آخيل نحو الاشتهار إلى الأبد والسُّؤْدُد اللذَين سوف تَمنحهما له كثرة الغنائم. وبعودة آخيل إلى القتال، سوف يُقدِّم أيضًا العون إلى رفاقِه، الذين يُعانون كثيرًا، وفي المقابل سوف يُجلُّونه كل الإجلال. ويُضيف أوديسيوس أنَّ الآن هو فرصته المُثلى ليَقتُل هيكتور.

تُجسِّد إجابة آخيل الشهيرة حالته الذهنية، وغضبه المتأصِّل من الطريقة التي كان يُعامَل بها، تجسيدًا مثاليًّا. إنَّ حديثه «يُمثِّل» غضبه. فهو يَكره من يقول شيئًا، ولكنه يُضمِر في قلبه شيئًا آخر بقَدْر ما يَكره بوابات هاديس (وهو السلوك الذي يَفتخِر به أوديسيوس في «الأوديسة»). وهو لا يجد أي تأثير في إغرائهم له بالسُّؤْدُد؛ لأنَّ التقدير، كما يُمكن لكلِّ شخص أن يرى، ليس بالضرورة أن يكون هو الجزاء؛ فالموت يتربَّص بالجميع ولذلك فالجميع مُتساوون، مَن يستحقُّون التقدير ومَن لا يَستحقُّونه. ويقول إنهم ربما يكونون قد أتَوا إلى طروادة للثأر من سرقة امرأة من أحدهم، ولكن قائدهم الجبان ذاته مُتورِّط في سرقة مِن نفس النوع. من أجل ذلك ما الداعي لأن يَموت أي أحدٍ في سبيل استعادة هيلين؟ وأمَّا عن هيكتور، فليقاتلْهُ أجاممنون؛ إن كان هو «أفضل الآخيِّين» كما يدَّعي. كان يتعيَّن عليه ألا يُوجِّه الإهانة إلى أعظم مُقاتليه. غدًا سوف يَحزِم آخيل أغراضَه ويُبحِر عائدًا إلى الديار. أمَّا عن غنائم أجاممنون، فلا يُمكِن أن تكون كافية أبدًا؛ لأنَّ حياة آخيل ليسَت للبيع. وحياته هو هي المُهدَّدة بالخطر. أمَّا عن ابنة أجاممنون، فليَجِد لها شخصًا من مكانةٍ اجتماعيةٍ مُناسِبة؛ لأنَّ من الواضح أن آخيل ليس من مَرتبةٍ لائقة بما يَكفي. عندما يفقد المرء حياته، لن تُعيدَها أيُّ عطايا ولا أيُّ نساء. وحسب إحدى النبوءات، فإن آخيل يستطيع أن يُحرِز مجدًا، لكنه سوف يَموت شابًّا، أو يعيش مديدًا دون مجدٍ، ويقول مهدِّدًا إنه دربٌ ربما يكون عليه الآن أن يَختاره؛ نظرًا لأن المسعى العسكري بلا طائل. ويَنصحُهم جميعًا بأن يذهبوا إلى ديارهم مثلما سوف يَفعل هو لا محالة. إنهم بحاجة إلى خطةٍ أخرى مِن أجل إنقاذ أنفسهم؛ فهذه الخطة ليسَت مُجْدية.

يا لعِظَم الغضب الذي يَستنزِفه!

ومع ذلك فإنَّ إجابة آخيل، رغم ما به من غضبٍ يَختلج في كل جوارِحه، تُلبِّي المُتطلِّبات المنطقية لمناشَدة أوديسيوس؛ فهو ليس بمَقدورِه أن يَقبل العَرض؛ لأنه رفض القيم التي يَعتبرها العرض من المُسلَّمات، تلك القيم التي طالَما عاش هو وفقًا لها إلى أن أظهر له أجاممنون، الأعلى منه سياسيًّا ولكنه أدنى منه حربيًّا وأخلاقيًّا، كم هي فارغة. يَصرِف آخيل البعثة ويسألُ مُعلِّمه فوينيكس أن يَبيتَ ليلته عنده.

ربما كان هوميروس نفسه هو مَن ابتدع الظهور المفاجئ لفوينيكس، الذي يُمثِّل الالتزامات العاطفية التي يُكنها المرء لعائلته وضرورة الاستجابة لاستعطاف متوسِّلٍ. يَحكي فوينيكس قصةً مشوقة عن حياته، وكيف أنه عاشرَ مَحظية والدِه، ثم صارَ عِنينًا بسبب لعنة والده. واستقبَلَه بيليوس والد آخيل كلاجئ وسلَّم إليه الطفل الصغير آخيل ليتولى تَنشئتَه. (لذا فرغم كل شيء يَنبغي على آخيل أن يَقبَل التماس أجاممنون.) إنَّ فوينيكس هو، نوعًا ما، «بمثابة» الأب لآخيل، وكونه أبًا، فهو يَتوقَّع من آخيل أن يَجلِب له الشهرة، وأن يُقرَّ بفضله. ويقول فوينيكس إنه حتَّى الآلهة يُمكن إقناعها؛ لذا فآخيل، الذي هو مجرَّد إنسان، يُمكِن إقناعه أيضًا.

يَسرد فوينيكس قصةً رمزيةً مُبهَمة نوعًا مًا عن كينوناتٍ لاهوتية، هنَّ «إلهات الصلاة» اللواتي يتبعْنَ درب «آتي» atê، [ربة] «الغضب الشديد والجنون والأذى والخداع والخراب والحماقة»، ذات القوة التي تذرَّع بها أجاممنون لتبرير سلوكه الطائش. يقولُ فوينيكس إن «آتي» Atê تتَّسم بالسرعة ودائمًا ما تَسبِق إلهات الصلاة. إذا ما خضع المرء لإلهات الصلاة اللواتي يُتَحْن بعدما تُصيبه «آتي» atê (في تلميح إلى أنَّ ذلك الحال الذي كان عليه أجاممنون)، فستُصبِح الأمور كلها على ما يُرام. ولكن إنْ أنتَ أنكرتَ إلهات الصلاة، فستُتابع «آتي» atê مسيرها بسرعةٍ أكبر. بعبارةٍ أخرى، الأمور لا تزداد سوءًا إلا عندما يَرفض المرء أن يَقبل التسويات العادلة المُقدَّمة بصدق.

في البداية يُقدِّم فوينيكس نصيحةً مباشرة، ثم حكايةً رمزية، والآن «أسطورة ميلياجروس» المُعقَّدة عن ذلك البطل من أيتوليا (الركن الجنوبي الغربي من بر اليونان الرئيسي، شمال شبه جزيرة بيلوبونيز) الذي قتَل الخنزير البري الكاليدوني الرهيب. وأدَّى الصراع حول الصيد (الخنزير) إلى حرب بين الكاليدونيِّين وجيرانهم الكوريتيِّين والتي في غمارها أجهز ميلياجروس على خالِه، شقيق والدته. ومقتًا لابنها بسبب هذا، أطلقت أم ميلياجروس عليه لعناتها. واستياءً من اللعنة حبس ميلياجروس نفسه في حجرته مع زوجته. ورغم أن الكاليدونيِّين عرضوا عليه هدايا كثيرةً ليعود إلى الحرب، فلم يَعُد إلا عندما وَصلَت النار إلى بابه، وعندئذٍ لم يتلقَّ سُؤدُدًا من أي أحد. والمَغزى الأخلاقي من هذه القصة هو: لا تجعل هذا يكون مصيرك يا آخيل.

خاطب أوديسيوس حبَّ آخيل للمجد، بيْد أن فوينيكس خاطب تقديره للسلوك الأخلاقي؛ فالأمور تَجري في العالم بهذه الطريقة أو تلك. إن تعَرَّضتَ للأذى يَنبغِي أن تَقبل التعويض؛ حتى يُمكن للحياة أن تَمضي في طريقها. كان موقف ميلياجروس مفهومًا، ولكن لأنه تمادى فيه، لم ينَلْ أيَّ سُؤْدُد في النهاية. وتلك طبائع الأمور.

أما ردُّ آخيل فمقتضب:

فوينيكس، يا سيدي الكبير، يا أبي، يا من رباك زيوس، إنني لست بحاجة لسُؤْدُدهم؛ فإنني، حسبما أظن، أتلقَّى سُؤدُدًا قَسَمه لي زيوس. (الإلياذة، ٩، ٦٠٧-٦٠٨)

اعتبر بعض المُعلِّقِين أن تصريح آخيل الغريب والمتطرف ينطوي على اكتشافه لطريقةٍ مُختلفة لهيكلة القيم، مشابهة لطريقة العالم الغربي المعاصر، يكون فيها الذنب، وليس العار، هو الشعور الأساسي الذي يَختلِج المرء عندما يَتجاوز القواعد الأخلاقية، التي أسماها آخيل قِسْمة زيوس. وهذا النوع من المَواقِف تجاه السلوك الخيِّر والشرِّير هو مَوقِفٌ مصري في الأصل، ولكنه نُقِّح من قِبل اليهود والمسيحيِّين لكي يكون مألوفًا لنا. فرادِع الذنب نابعٌ من الداخل، وهو شعور المرء بتأنيب الضمير؛ ذلك هو حالنا. أمَّا العار، على النقيض، فيَنبع من قصور في نمطٍ مثالي لسلوكٍ اجتماعي؛ وذلك هو الحال مع المُحارِب الهوميري. ظلَّت الحضارات الآسيوية الحديثة «ثقافات عار» لا يترك فيها «فقدان ماء الوجه» (خسارة المرء لكبريائه) سببًا يُذكَر لبقاء الفرد على قيد الحياة. إنَّ رادع العار هو رادعٌ خارجي، مثلما أن «غنيمة» آخيل هنا هي مُعادِلة لسُؤْدُده. إننا نرى بوضوح عبقرية هوميروس الأخلاقية في ادعاء آخيل الاستثنائي بعدم مبالاته بما يَعتقِده الناس بشأنه، في رفضه لثقافة العار.

ومع ذلك يَقبل آخيل بأن يُفكِّر هو وفوينيكس في اليوم التالي بشأن ما إذا كانا سيَرحلان أم لا؛ أي إنه خفَّف من موقفِه. وعندئذٍ يُوجِّه له أياس الأعظم شأنًا أقصر مُناشَدة، مُبديًا ملاحظة مفادها أنك إن قتلتَ رجلًا، فإن الناس يأخُذون ديتَه ويتغاضَون عن الأمر؛ وهذا التنازع دائر حول شيء أقلَّ أهمية بكثير، حول امرأة، بل إنهم قد عرضوا عليه سبع نساءٍ أخريات. من الواضح أن قلبَ آخيل قد قُدَّ من الصخر؛ فهو رجل سيَسمح بموت رفاقه بسبب خصومة حول امرأة.

إنَّ توسُّل أياس بالصداقة الحميمة له الأثر الأعظم على آخيل، ومع ذلك لا يُمكن تنحية غضب آخيل الكاسح جانبًا. فهو يتراجَع خطوةً واحدة: فهو لن يُقاتل إلى أن تصلَ النار إلى السفن. حينئذٍ فقط سوف يتدخل.

(١٢) «أنشودة دولون» (الكتاب ١٠)

تَشغل القصة، المُسماة «الدولونِيا» (وتعني أنشودة دولون أو قصيدة دولون)، التي تدور حول غارةٍ ليلية على الطرواديِّين، الكتاب العاشر ببراعة، وهي قطعةٌ أدبيةٌ رائعة تَشتمِل على مزاجٍ وحشيٍّ غريب يَميل لقطع الرقاب يُظهِر لنا جانبًا من الحرب لم نُعاينْه؛ وهيَ العملية الخفية في خطوط العدو وسط عددٍ لا يُحصى من الجثث من أجل قتل المزيد من الرجال والحصول على معلوماتٍ استخباراتية.

تُعَد «الدولونِيا» أوضح مثالٍ على وقوع إقحامٍ جوهري على نصِّ القرن الثامن قبل الميلاد الذي أملاه هوميروس. لا تُوجد إشارة في أي موضعٍ آخر في «الإلياذة» إلى الأحداث الواردة فيها، وأشار بعض الدراسات الأسلوبية إلى وجود اختلافات عن الكتب الأخرى. على الجانب الآخر، تُشير «الدولونِيا» إشارةً صريحة إلى الموقف المُصوَّر قبل حدوث البعثة إلى آخيل، وهي كالآتي: الطرواديون مُعسكِرون في السهل آملِين تحقيق النصر في اليوم التالي، وكل جانب يَبتغي معرفة المزيد من المعلومات عن نوايا الجانب الآخر. وتحتاج القصيدة إلى فترة راحة من التحرك الكبير المحصور بين بداية غضب آخيل في مشهد «فدية خريسيس» وفورته في مشهد «البعثة إلى آخيل»، و«الدولونيا» تقدم فترة الراحة هذه. قبل بدء القتال في الصباح التالي، يجب أن نُشجِّع الآخيِّين المُحبَطين لدرجة أنه في اليوم السابق كان أجاممنون على استعداد لتقبيل قدمَي آخيل. لا يمكننا أن نستهلَّ المعركة الكبرى — التي سوف تنتهي بهزيمة الآخيِّين — بهزيمة وعندئذٍ سوف تتحقَّق مشيئة زيوس وصلاة زيوس لثيتيس. إنَّ الآخيِّين بحاجة إلى التشجيع في هذه المرحلة، والنجاح في الهجوم الليلي يُمدُّهم به. لربما كان هوميروس يَستعين بمادةٍ أدبيةٍ أقدم، ولكنه أدخل عليها تعديلات لتتناسَب مع نواياه الدرامية.

ومع وجود نيران معسكر الطرواديِّين مُشتعلةً على مقربة، وآخيل الراغب عن مد يد العون، يُوقظ بعضُ قادة الآخيِّين بعضَهم ويُقرِّرون إرسال ديوميديس وأوديسيوس إلى داخل المعسكر الطروادي لاكتِشاف ما يُمكنهم اكتشافه. في تسليح الجاسوسَين تَتبيَّن لنا واحدة من الإشارات القليلة إلى أداةٍ ميسينية، وهي خَوذة ناب الخنزير التي يأخذها أوديسيوس من شخصٍ يُدعى ميريونيس (انظر شكل ٢-٣):

وأعطى ميريونيس أوديسيوس قوسًا وجَعبة سهام وسيفًا، ووضع على رأسه خَوذةً مصنوعة من الجلد، ومُقوَّاةً من الداخل بشرائطَ رفيعةٍ مشدودة بإحكام، أمَّا من الخارج فوُضعَت بإحكام وبطريقةٍ بارعة أنياب خنزيرٍ بري لامعة على هذا الجانب وذاك، وفي وسطها ثُبِّتَت بِطانة من اللبَّاد. (الإلياذة، ١٠، ٢٦٠–٢٦٥)

تُنوقِلَت الخوذة عبر أجيالٍ عديدة حتى وصلت إلى ميريونيس؛ لذا فقد يكون هوميروس نفسه قد رأى واحدةً، ولم يَؤُلْ إليه الوصف من مئات السنوات قبله.

في الوقت ذاته، يَشرَع الطروادي دولون، الذي يتَّصف بالحُمق الصارخ، في التجسُّس على الآخيِّين. تعهَّد هيكتور بغطرسة أن يَمنح دولون جياد آخيل مكافأةً له؛ إذ كان هيكتور واثقًا من تحقيق انتصارٍ سريع في اليوم التالي. يَرصد ديوميديس وأوديسيوس دولون، ويُخضعانه، ويَستخرجان منه معلوماتٍ، ثم دون سابق إنذار يَقطعان رأسه (شكل ٤-١). إنَّ دولون هو عبارة عن شخصيةٍ هزْلية، مستغرب في ادِّعاءاته، وقتله ليس أكثر إثارة للشفقة من قتل قط لفأر.

قبل موتِه يُخبر دولون آسِرَيه عن ريسوس ملك الثراسيِّين، الوافد حديثًا ومعه خيولٌ أصيلة ورجالٌ كثيرون، ويَتسلَّل الثُّنائي الذي لا يكلُّ إلى الصفوف، ومثل أبطال لعبة فيديو يُجهِزان على واحدٍ تلو الآخر. فبينما يتولى ديوميديس عملية القتل، يَسحب أوديسيوس جانبًا الجثث ليُمهِّد سبيلًا للخيول التي يسرقانها، والتي قد تُحجِم عن السير فوق الجثث البشرية! ثم يَقتلان ريسوس نفسه، ويأخذان الخيول الأصيلة وبمَهارة ويعودان إلى المعسكَر معتلَين صَهوتها وبداخلهما نشوة الانتصار، وهي الإشارة الوحيدة في القصائد إلى الركوب على صهوة الخيل.

تَنسجِم الأحداث في «الدولونِيا» مع قَدْر التعطُّش للدماء الذي يُمارَس في أكثر أحداث الحرب. ومثل هذا السلوك بالضبط كان النشاط الرئيسي للقبائل الهندية الأمريكية المقاتلة في السهول الشمالية إبَّان القرن التاسع عشر، من التسلُّل إلى معسكرٍ للعدو، وقتل بعض الأعداء أثناء نومهم، وسرقة الخيول، وقتل الأسرى، ثم الانصراف مُمتطِين ظهور الخيل دون سرج. وحمل رجال القبائل أولئك أيضًا الأقواس والسهام أسلحةً رئيسية لهم، مثلما يحمل أوديسيوس قوسًا وسهامًا هنا، وإن كان لا يستخدمها على الإطلاق. وفي الواقع لم يعرف ديوميديس وأوديسيوس أي شيء عن نوايا العدو، ولكن لا يبدو أن أحدًا يُعير ذلك اهتمامًا.

يَعترِض نُقاد «الدولونيا» على سلوكيات قطْع الرقاب التي تَتضمَّنها، ولكن هذا النوع من النقد هو نقدٌ غير تاريخي. أو أنهم يَرون أن الكتاب خارج عن سياق «الإلياذة»، بل مجرَّد مُطاردةٍ مُثيرة عبر الظلال فوق تلالٍ من الجثث وأن كسر شوكة عدوٍّ غافل هو أمر سيُبرِّر نفسه بنفسه. ولا نَندهِش أن نجد الآخيِّين في الصباح التالي مُستعدِّين للهجوم.

(١٣) «جرح القادة» (١١، ١–٥٩٥)

وهذا بالضبط ما حدث؛ إذ عندما يبدأ القتال في اليوم التالي، يَصِف هوميروس في تفصيلٍ مُمتع مهاراتِ أجاممنون القتالية الفذة، عدو آخيل اللدود، الذي كان آخيل قد دعاه جبانًا و«امرأة». هذه هي فرصتنا لنرى أجاممنون، الذي يَزعم أنه «أفضل الآخيِّين»، في غمار معركةٍ حربية. بادئ ذي بدءٍ يُسلِّح أجاممنون نفسه (١١، ١٥–٤٦)، في واحد من أكثر نماذج مَشاهد هوميروس النمطية عن التسلُّح تفصيلًا، عدا مشهد تسلُّح آخيل الذي يأتي لاحقًا (١٩، ٣٦٩–٣٩١). عندما يتسلَّح مُحارب، فإنه يرتدي أو يخلع القِطع نفسها بالترتيب ذاته. يرتدي أجاممنون أولًا درع الساق، ثم قِطَعًا فضية للكاحل، ثم الدرع الواقي للصدر، وهو هدية من قُبرص مُزيَّن بلفائفَ من اللازَوَرْد، والذهب، والقصدير ومُرصَّع بحلياتٍ لازَوَرْدية على شكل حيَّات، ثم يَضع حول كتفَيه سيفه، ويَرفع درعه «الذي يَحمي الرجل على الجانبَين» (١١، ٣٢)، المُزيَّن بدوائر من البرونز، ونقوشٍ بارزة من القصدير، ورأس الجورجونة. ثم يأخذ خَوذته ذات القرنَين والمُزيَّنة بعرف مِن شعر الخيل، وأخيرًا، رمحَين.

fig25
شكل ٤-١: «الدولونيا»، على مزهريةٍ أتيكية، يرجع تاريخها إلى حوالي سنة ٤١٠ قبل الميلاد. المشهد يحدث في غابة. أوديسيوس إلى اليسار، يَرتدي قُبعة مسافر مخروطية ويُمسِك بخنجر، ويُمسك بتلابيب دولون بيده اليسرى بينما إلى اليمين نجد ديوميديس، مرتديًا خوذة، يحتضن رمحًا، يُمسِك به من الناحية الأخرى. يحمل دولون قوسًا وجَعبة سهام ويلبس قبعةً وعباءة من جلود الحيوانات. حقوق النشر محفوظة للمتحف البريطاني (F 157).

مُدجَّجًا بالسلاح والدروع، يسحق أجاممنون الطرواديِّين سحقًا في «لحظة امتياز» بديعة. ويصل الأمر إلى درجة أن زيوس يُثْني هيكتور عن الاقتراب من أجاممنون، الذي من الجلي أنه في مجدِه، إلى أن يُصاب أجاممنون، ويَعِده زيوس أنه عندئذٍ سوف يتحول التفوُّق إليه. وعلى مدار ٢٠٠ بيتٍ لاحقة يَظلُّ أجاممنون يجتز الرءوس، إلى أن يُصاب أخيرًا بجرح يُؤلمه مثل الألم الوَخْزي الذي تشعر به المرأة عند المخاض.

عندئذٍ يأتي دور هيكتور في القتل. في بيان المعمعة، يستخدم هوميروس أداةً لدفع المستمع إلى التركيز عندما يَنقل زمام القيادة إلى شخصيةٍ أُخرى، ويطرح لغزًا بلاغيًّا على المستمع؛ إذ يتساءل قائلًا: «من كان أول القتلى؟» لنَحصُل حينها على قائمةٍ طويلة.

أُصيب أجاممنون، والآن يأتي دور ديوميديس، الذي يَضربه باريس بسهم. فيقول ديوميديس مُتبرِّمًا إنَّ الرجال الحقيقيِّين يُقاتِلون بالرماح (وهو أمر فوق طاقة باريس)، ولكنه يُصاب «بالفعل» ويتدخَّل أوديسيوس ليكون له ساترًا. يمرُّ أوديسيوس «بلحظة امتياز» محدودة، ويسقط طرواديون كثيرون قبل أن يُصاب هو الآخر. والآن يأتي دور أياس الأعظم شأنًا، الذي يَقتُل المزيد من الطرواديِّين، ولكنه يُدفَع هو الآخر إلى التراجُع.

إنَّ هوميروس آخذ في التجهيز لنقطة التحوُّل الثانية في الحبكة، وهي موت باتروكلوس، تلك التي سوف تُعيد آخيل إلى القتال وتُوجِّه القصَّة إلى موضع انحلال عُقدتها المتمثِّل في مقتل هيكتور وافتداء جثَّته؛ إذ يُؤدِّي جرح الأبطال أجاممنون، وديوميديس، وأوديسيوس وتراجُع أياس إلى جعل هذا التحوُّل في الأحداث حتميًّا.

(١٤) «خطة نيستور» (١١، ٥٩٦–٨٤٨)

أصاب باريس ماخاون، طبيب الجيش، ويَحمل نيستور الحكيم الرجل الجريح بعيدًا في عربته. ويراهما آخيل بينما يَشرئب بعنقه ويُراقب من مؤخر سفينته، متلهفًا معرفة أخبار سير المعركة. فيَبعث بباتروكلوس لمعرفة من جُرِح. كان باتروكلوس حتى ذلك الحين في خلفية الأحداث، ولكنه في هذه اللحظة يتحدَّث للمرة الأولى وسرعان ما يُصبح محطًّا للأنظار.

يوَدُّ نيستور أن يُحسِن وفادة باتروكلوس ويُبرِز كأسًا متوارثة، وهي «كأس نيستور» الشهيرة. كما رأينا سابقًا (راجع حديثنا عن كأس نيستور في نهاية الفصل الأول)، تُشير كأس من جزيرة إسكيا في خليج نابولي، منقوش عليها«هذه هي كأس نيستور …»، إلى وجود نص أقدم من «الإلياذة»، إن كانت الكأس تفصيلة من بنات أفكار هوميروس وليس عنصرًا تقليديًّا متوارَثًا في نَظمِ الشِّعر الشفاهي. على الرغم من أن باتروكلوس يتوق للعودة إلى خيمته، ما إن يرى أن ماخاون هو الذي جُرِح، فإن نيستور يُبقيه بأن يروي له مآثره القتالية عندما كان شابًّا في شمال غرب شبه جزيرة بيلوبونيز. والسبب وراء قتلِه لرجلٍ يُسمى إيتيمونيوس في غارة لسرقة الماشية في عملٍ انتقامي مُوجَّهٍ ضد أوجياس ملك إيليس (الذي قتله هِرَقل [هيراكليس] حسب تراثٍ شعبيٍّ لاحق). ويصف له الحرب التي أعقَبَت ذلك. يَعتقِد الكثيرون أن هذا النوع من القصص المحلية، مثل قصة نيستور، تَولَّد عن أحداثٍ حقيقية، حفظها المُنشِدون الملحميُّون، وأن هوميروس، بطريقة أو بأخرى، سمع القصائد تُنشَد في غرب شبه جزيرة بيلوبونيز.

إن نيستور ثرثار ولكنه واضعٌ للخطط، فيَقترح أن يلبس باتروكلوس درع آخيل ليجعل الطرواديِّين يظنُّون أن آخيل قد عاد. وهذا من شأنه تخفيف العبء ورفع المعاناة عن الآخيِّين، المُتدهور وضعهم في القتال تدهورًا كبيرًا. ومن خطة نيستور يأتي كربٌ لا يُخمَد يُصيب آخيل ودافعٌ جديد لغضبه الهائل.

(١٥) «المعركة عند الجدار» (الكتاب ١٢)

وصف هوميروس سابقًا بناء جدارٍ غامض لحماية السفن (مع أنهم تدبَّروا أمرهم لتسع سنين من دون جِدار)، والآن يَستعين باللغة الأسطورية للفيضان العالَمي ليُعلِّل اختفاء الجدار في نهاية المطاف:

عندما لقيَ أشجع الطرواديِّين جميعًا حتفهم، وماتَ كثيرٌ مِن الأرجوسيِّين وبقيَ بعضُهم، ونُهبَت مدينة بريام ودُمِّرَت في السنة العاشرة، ورجع الأرجوسيون في سُفُنهم إلى أرض أجدادهم الحبيبة، عندئذٍ تشاور بوسيدون وأبولُّو بشأن تدمير الجدار، مُستعينِين بقوة جميع الأنهار التي تجري من جبل إيدا إلى البحر. (الإلياذة، ١٢، ١٣–١٨)

إنَّ رؤية هوميروس هي رؤيةٌ مستقبلية لوقته الحاضر الذي يَسترجِع من خلاله الأحداث التي يصفُها في هذه اللحظة. ليس ثَمَّةَ شك بشأن النهاية التي سوف تئول إليها الحرب، فلا حيرة ولا ترقُّب في أذهان المُستمعِين. إنَّ تدمير الجدار يرمز إلى الفاصل بين الماضي البطولي وزمن هوميروس المعاصر، ولكن لغة الطوفان العظيم، الذي يكتسح كل شيء أمامه، قد تعود إلى قصة يرجع أصلها إلى بلاد ما بين النهرَين عن الطوفان الذي أغرق العالم. لا يُمكن لأي يوناني أن يكون قد مرَّ بتجربةٍ مباشرة مع مثل هذه الفيضانات الكارثية، ولعلنا في هذه الفِقرة نلمح العناصر العريقة في القِدم في قصائد هوميروس.

عندما يتَّخذ باتروكلوس سبيله عائدًا إلى خيمة آخيل، يُشدِّد هوميروس على الخطر المُحيق بالسفن ويُصعِّد من الاحتياج الماسِّ إلى تنفيذ مخطَّط نيستور لإرسال آخيل بديلًا. إن هيكتور يُهاجم الجدار فعليًّا، والكتاب الثاني عشر بأَسْره مُخصَّص لهذه المعركة المهمة والضخمة. ونعرف الآن أن ثمَّة خندقًا به أوتاد خطرة مثبتة فيه يجثم أمام الجدار، الذي يَشتمِل على بوابات عديدة. وخوفًا من الخندق، يترجَّل الطرواديون على أقدامهم، وينقسمون إلى ستِّ فِرَق، ويتحضَّرون للهجوم في الوقت الذي يهرع فيه الآخيون إلى الداخل.

إن لغة هوميروس في هذه السلسلة الطويلة لمَشاهِد المعركة، التي تؤدِّي إلى نصرٍ مؤقت لهيكتور، مُستمَدة مِن الموضوع التقليدي المتعلِّق بنهبِ وتدمير مدينة، وفي بعض الصيغ من موضوع نهْب وتدمير طروادة. بل إنَّ هوميروس يُشير في إحدى المرات إلى الجدار بكونه «حجريًّا» تضطرم فيه النيران (١٢، ١٧٧-١٧٨)، على الرغم من أن الجدار ليس حجريًّا ولا النيران مُضطرمة فيه. ونجد أن التصوير على مدار الكتاب الثاني عشر يتمحور حول نهب وتدمير مدينة، وليس حول الاستيلاء على جدار دفاعي:

سعَوا، مُعتمدِين على بأسهم، لتحطيم جدار الآخيِّين العظيم. فهدموا أبراج التحصينات وأسقطوا شُرُفات الجدار الدفاعية ونزعوا الدعامات التي كان الآخيون قد وضعوها في البداية في الأرض تدعيمًا للجدار، فحاولوا سحبها وإخراجها، وكانوا يأملون أن يُحطموا جدار الآخيِّين. ومع ذلك لم يفسح لهم الدانانيون السبيل، وإنما سيَّجوا شُرُفات الجدار الدفاعية بجلود الثيران وتحصَّنوا بها واستمروا يَقذِفون على الأعداء، بينما كانوا يقتربون من الجدار. (الإلياذة، ١٢، ٢٥٦–٢٦٤)

ويُثبِت فألٌ مخيف لنسرٍ يُهاجم ثعبانًا لا يزال حيًّا أن نصر الطرواديِّين سيكون مؤقتًا، ولكن هيكتور يَرفض الفأل بغضبٍ شديد؛ فمِثل هذا الهوَس مُتوقَّع من رجل مصيره الهلاك (١٢، ١٩٥–٢٥٠).

بعد قتالٍ مثير، يُهاجم الليكيون بقيادة ساربيدون وجلاوكوس (الذي تبادَل الدروع في السابق مع ديوميديس فأعطاه درعه الذهبي وأخذ درع ديوميديس البرونزي) إحدى البوابات. ويُلخِّص ساربيدون عقيدة الأبطال (١٢، ٣٢٢–٣٢٨): لو كان بمقدور المرء، بطريقةٍ ما، أن يُفلت من قبضة الموت، لما كان للحرب معنًى؛ ولكن بما أنه لا يُوجد إنسانٌ يفلت من قبضة الموت، فيُمكنك بالمثل أن تسلك مسلكًا مشرفًا.

وفي حماسةٍ شديدة، يُهاجمان الجدار بضراوة حتى إنَّ مينلاوس، ملِك الأثينيِّين، المُدافِع عنه، يَستدعي الأياسَين، اللذَين يُحبان أن يُقاتِلا معًا (ليسا أقرباء). فيُهرع أياس الأعظم شأنًا، ابن تيلامون، إلى معاونة مينلاوس ويقتل الكثيرِين حينما يصعد هيكتور، الذي يلتقط حجرًا ضخمًا ويقذف به على البوابات، فيكسر المزلاج، وتنفتح البوابة على مصراعيها. ويُخترق الجدار.

(١٦) «المعركة عند السفن» (الكتاب ١٣)

كان من شأن دخول المعسكر وحرق السفن أن يكون فائق السهولة على هيكتور والطرواديِّين، في الوقت الذي يعود فيه باتروكلوس أدراجه إلى خيمة آخيل. ولكن هوميروس بحاجة إلى إبطاء الأحداث حتى يستطيع الاستمرار في تسلية المُستمعِين عبْر تصويراتٍ حية للعنف. ثَمَّةَ ميزةٌ ملحوظة في أسلوب هوميروس؛ إذ رغم تسارع الأحداث، لا يُوجد تعجُّل لإنهاء القصة، كما لو لم يكن لديه أي قيودٍ زمنية على الإطلاق. كنا نتمنى لو استطعنا تفسير ميل هوميروس إلى هذه الوتيرة المُتمهِّلة، ولكن لا يَسعُنا إلا أن نَستنتِج أن ناسخَه وراعيه أُعجبا واستمتَعا بها. لقد كان هوميروس هو أعظم أساتذة إطالة أمد الأحداث؛ إذ، حسبما نعلم، لم يَنظِم أيُّ شاعرٍ آخر قصائد بهذا الطول.

في هذا الموضع نجده يُبطئ تسارع الأحداث بمشهد «المعركة عند السفن»، الذي يُخْتَبَر فيه إقدام هيكتور؛ بسبب تغافل زيوس وتحريض بوسيدون. يجلب هوميروس إلى الموقف الدرامي كل القادة العظام (عدا آخيل) من الجانبَين، ونحصل على أفضل لقطة لقادة الجيشين المتحاربَين حتى الآن. فقادة الآخيِّين (بالنظر إلى أن ديوميديس، وأجاممنون، وأوديسيوس مُصابون) هم الأياسان، وتوسر (الأخ غير الشقيق لأياس ابن تيلامون)، وأنتيلوخوس (ابن نيستور)، ومينلاوس، وإيدومينيوس ملك الكريتيِّين، ومينيسثيوس ملك أثينا (وليس ثيسيوس الشهير، الذي كان سلفه)؛ أما قادة الطرواديِّين فكانوا الأشقَّاء الأربعة هيكتور، وباريس، وديفوبوس (الذي سوف يُصبِح قرين هيلين بعد موت باريس)، وهيلينوس (العراف)، فضلًا عن إنياس (ابن أفروديت).

عندما يقول هوميروس إنَّ انتباه زيوس شَرُد بعيدًا عن ساحة المعركة، يعرف المستمع أن ثمَّة استطرادًا في سبيله إلى الوقوع، وهو في هذه الحال استطراد طويل جدًّا؛ إذ لا يعيد هوميروس المعركة إلى ما كانت عليه عند نهاية مشهد «المعركة عند الجدار» إلا بعد ذلك بكتابَين ونصف.

في موضع سابق هدَّد بوسيدون وهيرا بالتصدِّي لمُخطَّط زيوس لهزيمة الآخيِّين، والآن يستغلُّ بوسيدون غفلة زيوس الطائشة ليَدْخُل المعركة بنفسه. يُقْبِل بوسيدون على طروادة في وصفِ مؤثِّر:

فأسرج إلى عربته جوادَيه ذوَي الحوافر البرونزية، سريعَي الحركة بعرفَيهما الذهبيِّين، وكسا جسده بالذهب وتزوَّد بالسوط الذهبي مُتقن الصنع وامتطى عربته وقادَها فوق الأمواج. إذ ذاك تقافَزَت وحوش البحر من تحتِه من كلِّ جانبٍ منطلقةً من الأعماق؛ إذ كانت تَعرِف سيدها جيدًا، وانشقَّ البحر عن طيب خاطرٍ أمامه. وانطلَقَ الجوادان المُتبختِران بأقصى سرعةٍ دون أن يبتلَّ دولاب العجلات البرونزي تحتهما يَحمِلان سيدهما إلى سفن الآخيِّين. (الإلياذة، ١٣، ٢٣–٣١)

إنَّ كل تمثيلٍ فني لبوسيدون/نيبتون يرجع إلى هذا الوصف، كما فهم هيرودوت عندما أشار إلى أنَّ هوميروس وهيسيود «هما اللذان لقَّنا اليونانيِّين بشأن نزول الآلهة، ومنَحا الآلهة أسماءها، وحدَّدا نطاقاتها وأدوارَها، ووصَفا أشكالها الخارجية» (كتاب «التاريخ» لهيرودوت، ٢، ٥٣).

متَّخذًا هيئة العرَّاف كالخاس، يُحمِّس بوسيدون الأياسَين وقائمةً من الأسماء الأخرى. ويموت الكثيرون مع اشتداد وطيس القتال. يتَّخذ بوسيدون هيئة شخص يُدعى ثواس ويُشجِّع الملك الكِريتي إيدومينيوس، الذي يَلقى مواطنه الكريتي ميريونيس بعد ذلك بفترةٍ وجيزة، على الخروج من المعركة لجلب رمح، مما يُتيح لإيدومينيوس أن يُلقي خطابًا عن الشجاعة والجُبن، وكأن هوميروس لا يشعر أبدًا بالحاجة إلى العَجَلة.

من الصعب أن نُدرك كيف يتخيَّل هوميروس توزيع القوات؛ لأنَّ بوابةً واحدة فقط هي التي خُلعَت، وهو الموضع الذي منه هاجم هيكتور ودافع الأياسان. غير أنه يبدو أن الصف مُنقسِم إلى ثلاثة أجزاء، جناحَين وقلب، مع أننا لا نَسمَع أي شيء على الإطلاق عن ميمنة الجيش الطروادي. يمضي إيدومينيوس وميريونيس إلى ميسرة الجيش الطروادي ويقتلان كثيرِين، بعضهم ممَّن لهم شأن. وسرعان ما يجد إيدومينيوس نفسه مع إنياس العظيم، الذي يدخل معه في مبارَزةٍ غير فاصلة. ويُصاب الطروادي هيلينوس، وهو رامي سهام مثل باريس، والطروادي ديفوبوس وينسحبان. وفي رقصة الموت المعقدة، يُرضي هوميروس ولع جمهوره بسفك الدماء التخيلي ويُقدِّم للعالم أول وصفٍ لمشهد «إصابة بطلقة في الأحشاء»، وهي أسوأ طريقة للموت (كما يعرف كل مقاتل بالأسلحة النارية):

تراجَعَ أداماس وسط جمع رفاقه، اتقاءً للمَنيَّة. ولكن ميريونيس لاحَقه فيما كان يمضي ورماه برمحه، وأصابه في المنتصف فيما بين أعضائه الحميمة وسُرَّته، وهي أكثر المواضع التي يقسو فيها آريس على الفانِين التعسِين. ومع ذلك غرز [ميريونيس] رمحه في ذلك الموضع وكان الآخر [أداماس] يَتَلوَّى، وهو يَنحني نحو قصبة الرمح التي اختَرقَته، كثورٍ قيَّده الرعاة وسط الجبال بحبالٍ مجدولة وجرُّوه معهم بالقوة، هكذا، حينما تلقَّى الضربة، تلَوَّى قليلًا، ولكن ليس لوقتٍ طويل. (الإلياذة، ١٣، ٥٦٦–٥٧٣)

بعد ذلك في موضعٍ ما (١٣، ٦١٧)، يُحطِّم مينلاوس عظام وجه أحد الرجال تحطيمًا؛ حتى إنَّ عينَيه تَخرُجان من محجرَيهما وتسقطان على الأرض!

تُؤدِّي إنجازات إيدومينيوس العظيمة في ميسرة الجيش الطروادي، بالإضافة إلى مقاومة الأياسَين الصلبة لهيكتور في قلب الصف، ببوليداماس إلى حث هيكتور على التراجُع. كان بوليداماس هو الذي فسَّر في وقتٍ سابق نذير النسر والثعبان الباقي على قيد الحياة. يَتفقَّد هيكتور الميسَرَة ويَنتقِد شقيقه باريس بغلظة، كما هي العادة، ثم يعود إلى قلب الجيش حيث يَتجدَّد القتال. يستعدُّ هيكتور لمُنازَلَة أياس ابن تيلامون. من الناحية العسكرية، لم يتغيَّر شيء منذ حطم هيكتور البوابة. ويستمر هوميروس ببراعةٍ فائقة في تأخير الأحداث. وإننا لنتساءل أين آخيل وأين باتروكلوس طوال هذا الوقت؟

(١٧) «خداع زيوس» (الكتاب ١٤)

من أجلِ أن يَمنح هوميروس عمقًا لتأخيره للأحداث، وليُضفي معقولية على عنفوان المقاومة الآخية، يُقدِّم سلسلةً من المَشاهد التي تجري على ما يبدو في نفس وقت «المعركة عند السفن»، حسب عُرْفٍ في النَّظم الشعري الملحمي مفادُه أن الأحداث المتزامنة تُروى متواليةً (لا يتَّفق جميع الباحثين مع هذا الرأي). على أيِّ حال، فإنه في نهاية مشهد «المعركة عند السفن»، يدخل هيكتور في مواجهةٍ مباشِرة مع أياس؛ وفي نهاية مشهد «خداع زيوس» يُواجه أياس مرة أخرى. يَبدو أن هوميروس يُكمِل من حيث توقَّف.

والآن فقط يخرج نيستور من خيمتِه؛ إذ يدفعه صوت المعركة إلى التنبُّه. فيتسلح سريعًا، ويَنطلِق، وعلى الفور يلقى رهط القادة الذين أُصيبوا سابقًا في القتال، أجاممنون، وديوميديس، وأوديسيوس، وثلاثتهم يتَّكئون على رماحهم كما لو أنهم شيوخٌ طاعنون في السن، ويا له من منظرٍ بائس! للمرة الثالثة في القصيدة، يقترح أجاممنون القانط والفظ أن يلوذوا بالفرار، إلا أن أوديسيوس يُسكِته بمحاضَرةٍ خشنة مفادها: إن هربوا، فسيَفقِد الرجال المُرابطون على الجدار شجاعتهم وثقتهم ويُقتَلون. لدى ديوميديس الجواب؛ فرغم أنهم مُصابون، فإنهم ينبغي أن يعودوا ويُقاتلوا. ويظهر بوسيدون المُتخفِّي، الذي يتجول بين الصفوف يُلهِب حماس الآخيِّين للقتال دفاعًا عن السفن، بجانبهم.

في تلك الأثناء، تستمر الحياة في السماء بسلاسة وبلا هموم. فلا نجدُ تفسيرًا على الإطلاق لغفلة زيوس في بداية «المعركة عند السفن»، إلا أنَّ هيرا تُبرزها؛ إذ تَستحسِن جهود بوسيدون للتدخُّل. إنَّ رؤية هوميروس الهزْلية لاذِعة وهو ينتقل من المِيتات البَشِعة للكثيرِين ومصير المُحارب المُروِّع إلى ما يَجري في قاعات السماء. وحتى تتيقَّن هيرا من أن يظلَّ زيوس غافلًا عن نية بوسيدون لمُعاوَنة الآخيِّين، فإنها تضع خطةً مستحيلة؛ إذ سوف تُغوي زوجها!

يصف هوميروس، في محاكاةٍ ساخرةٍ قوية لمَشهد تسلُّح [أثينا]، كيف تضعُ هيرا زينتها؛ إذ تمسَح بالزيت بغزارة على جسدها، الذي لا يكون لزيوس رغبةٌ عادةً في لمسِه. ومع ذلك ستظلُّ بحاجة إلى المزيد مِن المساعَدة، وتحصلُ عليها من شقيقتها أفروديت، في صورة تميمةٍ للحب على هيئة حزام. وأيضًا ترشو الإله العظيم النوم لينضمَّ إليها.

في مشهدٍ مُضحكٍ يَتملَّى هوميروس بناظرَيه في الإلهة المجدِّدة ولا يدور بخلده إلا خاطرٌ واحد، وهو أن يَقنع هيرا بحدة رغبته الجنسية، فيُلقي على سمعِها قائمة سريعة بالنساء الكثيرات جدًّا اللواتي خانَها معهن:

أما الآن، فتعالِ نَسعد ونضطجع معًا عشقًا، فلم تُواتِنِي الرغبة إلى ربَّة أو حتى إلى امرأةٍ فانيةٍ بمثل ما تغمر قلبي الذي بين أضلعي وتدفعني لإشباعها الآن. بل إنني لم أُتيَّم عشقًا، ولا حتى بعروس إكسيون التي أنجَبَت لي بيريثوس، صِنو الآلهة في الحكمة. ولا شغفتني حتى داناي، جميلة الكعبَين، ابنة أكريسيوس، التي أنجبَتْ بيرسيوس المتفوِّق على المُحارِبين أجمعِين؛ وما هِمتُ بابنة فوينيكس ذائعة الصيت التي أنجبَت لي مينوس ورادامانثيس الإلهي؛ ولا لم أُتيَّم بسيميلي ولا بألكميني في طيبة التي أنجَبَت لي هرقل الابن الشجاع القلب؛ وسيميلي التي أنجَبَت ديونيسوس بهجة الفانِين؛ ولا بالمليكة ديميتر جميلة الضَّفائر. ولم أُشغَف بليتو المجيدة، بل ولا بكِ أنتِ نفسكِ بمثل ما أُتيَّم بكِ الآن وتتملكني الرغبة اللذيذة والشهوة الطاغية. (الإلياذة، ١٤، ٣١٤–٣٢٨) [ترجمة عبد السلام البراوي، المركز القومي للترجمة (بتصرف)]

وبينما يتطارَح زيوس وهيرا الغرام على قمة جبل إيدا تنبُت الزهور مِن حولهما. يَربط مؤرِّخو الأديان هذا الوصف بعبادة الخصوبة؛ لأنَّ زيوس هو إله السماء وهيرا مثل الأرض، كما لو كان اتحادهما هو اتحاد بين السماء والأرض الكائنَين منذ الأزل. غير أنَّ اهتمامات هوميروس هي اهتماماتٌ ساخرة تمامًا. فهوميروس يُخفِّف مشاهد سفْك الدماء وبَقْر البطون وتمجيد الذات المبالَغ فيه لأبطاله الفانِين بضحكٍ فاحش من شأن جمهورٍ كله من الذكور له زوجةٌ واحدة فقط أن يَستمتِع به كثيرًا.

ما إن يُفتَن زيوس على يدِ هيرا ويُخضِعه [إله] النوم، حتى يُصبِح لدى بوسيدون الحرية في أن يفعل ما يشاء (أي أن يتصرَّفَ بالطريقة التي ورَد وصفها في مشهد «المعركة عند السفن»). في المبارزة بين أياس وهيكتور، التي نعود إليها الآن، يضرب أياس هيكتور بحجر، وتذهب كل جهود زيوس لتنفيذ الوعد الذي قطعه على نفسه لثيتيس، في اللحظة الحاضرة، هباءً؛ فبمشيئة زيوس فقط يمكن أن تكون الغلبة للطرواديِّين. وزيوس في سُباتٍ عميق.

(١٨) «النيران تحيق بالسفن» (الكتاب ١٥)

عندما يستيقظ زيوس يتميَّز غيظًا ويرى مسلك بوسيدون ودور زوجته فيه. وإبهاجًا لجمهور هوميروس بلمحاتٍ من سلطة الذكور التي لا تُقاوَم، يصفُ زيوس معاملته القاسية لهيرا في السابق، عندما تجاوَزَت حدودها:

ألا تذكرين عندما عُلِّقتِ من عَلٍ، ومن قدميكِ دَلَّيْتُ سندانَين، وحول معصمَيكِ سَبكتُ عِصابةً من الذهب لا يُمكن كسرها؟ وتدليتِ مُعلَّقةً في الهواء وسط السحب، وكانت الآلهة في كل أرجاء الأولمب الشاهق ساخطةً، ولكنهم لم يكونوا قادرِين على الاقتراب وتخليصك؟ (الإلياذة، ١٥، ١٨–٢٢)

تقسم هيرا قسمًا لا يُنقَض أن «الأمر كله من فعل بوسيدون». أوضح زيوس موقفه بجلاء، وبنبرةٍ ألطف يأمُر بأن تتدخل إيريس هي وأبولُّو لقلب الأوضاع غير المرضية.

في «الإلياذة» لا يستخدم زيوس العنف أبدًا مع الآلهة الآخرِين، على الرغم من أنهم يتآمرون عليه باستمرار. في هذا الموقف يُجمِل زيوس حبكة «الإلياذة»، مؤكدًا سلطته وموضِّحًا مسلكه، بعبارات احتفظ بها هوميروس في رأسه وهو يَستفيض ويتوسَّع بتكاسُل في نظم ١٦ ألف بيت من الشعر:

ليقهر هيكتور الآخيِّين ثانيةً، بأن يبثَّ فيهم رعبًا شديدًا مثلما فعل من قبلُ. حتى يَهرُبوا ويتراجَعُوا بين سفن آخيل بن بيليوس كثيرة المجاديف، ولسوف يبعث آخيل رفيقَه باتروكلوس، الذي مع ذلك سيُقتَل على يد هيكتور المجيد برمحٍ أمام أعين سكان إليون، بعد أن يَقتُل باتروكلوس آخرِين كُثُر، ومن بينهم ابنَي ساربيدون الوسيم. وفي فورة غضب آخيل لمصرع باتروكلوس سوف يقتل هيكتور. ومن ذلك الحين فصاعدًا سوف أُحدِث تراجعًا في صفوف الطرواديِّين بعيدًا عن السفن أكثر وأكثر إلى أن يَستولي الآخيُّون على إليون العالية بناءً على توصيات أثينا. ولكن حتى ذلك الحين لن أكبحَ جِماح غضبي، ولن أسمح لأي أحدٍ آخر من الآلهة الخالدِين أن يُقدِّم العون للدانانيِّين هنا، إلى أن تتحقَّق رغبة ابن بيليوس، كما تَعهَّدتُ في البدء وأومأتُ برأسي موافقةً أيضًا، في اليوم الذي أمسَكَت فيه الإلهة ثيتيس بركبتَيَّ، سائلة إيَّاي أن أُمجِّد آخيل مُدمِّر المدن. (الإلياذة، ١٥، ٦١–٧٧)

في توضيحه يرضخ زيوس لهيرا؛ لأنه يُسلِّم بأنه في النهاية سوف تسقط طروادة، كما ترغب. إنَّ زيوس مع كل ما له من قدرةٍ لا يَستطيع أن يُغيِّر ما هو مُقدَّر له أن يكون.

بيْد أن ما تَحيكه هيرا السيئة الطبع من مكائد لزوجها المُهدِّد المُتوعِّد لم يَنتهِ، وعندما تعود إلى الأولمب تُحرِّض الآلهة الآخرِين وتُثير غضب آريس، بسبب موت أحد أبنائه، حتى إنَّ آريس يستعد للذهاب إلى السهل وخوْض غِمار المعركة مُتحديًا توجيهات زيوس. فتُثْنيه أثينا، التي تظنُّ أن زيوس يعني ما يقول، عن ذلك. وكذلك لا تلقى الرسولة إيريس بترحاب عندما تُبلِغ بوسيدون بأن يَكُف [عن الحرب والقتال]. إن تفهُّم بوسيدون لتوزيع السلطات منذ الأزل يَضعُه في مكانةٍ مُتساوية مع زيوس ومع هاديس، ويحتجُّ بأن كل واحدٍ منهم يُسيطِر على ثلثٍ من العالم. من الواضح أن سلطان زيوس ليس مكفولًا تبعًا للقواعد المُنظِّمة للسُّلُطات أكثر من سلطان أجاممنون. ومع ذلك فإنَّ بوسيدون يُفضِّل، هذه المرة، ألا يُشدِّد على هذه النقطة.

يُنعِش أبولُّو الإله الشافي هيكتور ويُعيد الآخيِّين — وهو يُمسك «أيجيس» (الدرع) المخيف السِّحري أمامه، وهو أداةٌ ترتبط عادةً بزيوس أو أثينا — أدراجهم نحو السفن. قد يكون «الأيجيس»، (وتعني «جلد الماعز») في الأصل درعًا بدائيًّا ويظهر في الفن الكلاسيكي مع ثعابين على هيئة شُرَّابات (شراشيب) عليه رأس جورجونة. لا يُريد هوميروس أن يُورِد ثانيةً وصفًا لهجومٍ مُعقَّد على الجدار؛ لذا يدكُّ أبولُّو بتلويحة من يده قِسمًا من التحصينات. وبأمرٍ من زيوس تَمضي المعركة في مصلحة الطرواديِّين (على الرغم من أنك إن عَدَدتَ القتلى، ستجد أمام كل قتيل من الآخيِّين قتيلَين من الطرواديِّين). يُذكِّرُنا هوميروس بأن باتروكلوس لا يزال في طريقه إلى خيمة آخيل.

في قتالٍ شرِس يَتراجَع الآخيون إلى السفن، ويَعتلي أياس الأعظم شأنًا، ابن تيلامون، إحدى السفن وبِحربةٍ طولها ثلاثون قدمًا من الحراب التي تُستخدَم في المجابَهات بين السفن يُبعِد الطرواديِّين حامِلي النيران، مُردِيًا اثنَي عشر بضرباتٍ بارعة. بيْد أن النار تصلُ لا محالة إلى السفن.

(١٩) «موت باتروكلوس» (الكتاب ١٦)

ينتقد باتروكلوس، المُهتاج بسبب المِحنة التي يتعرَّض لها الجيش، آخيل انتقادًا لاذعًا؛ لأنه سمح للغضب بالقَضاء على ما لديه من شفقة. يعترف آخيل بذلك ولكنه عاجزٌ أمام هذا الشعور الطاغي:
إن حزنًا رهيبًا يُصيب القلب والروح عندما يبتغي رجلٌ أن يُحقِّر ندًّا له ويُجرِّده مما حظيَ به من غنائم geras لأنه يفوقه سلطة. إن هذا الأمر أصابني بحزنٍ رهيب، ولقد عانيتُ حرقةً في قلبي جرَّاء ذلك. الفتاة التي انتقاها لي أبناء الآخيِّين غنيمةً geras، تلك التي فزتُ بها برمحي عندما اجتحتُ مدينةً مُحصَّنة، سلبها أجاممنون بن أتريوس صاحب الأمر من بين ذراعَي، كما لو كان يَحسبُني دخيلًا لا حقوق له. (الإلياذة، ١٦، ٥٢–٥٩)
يعود آخيل بتألقٍ فائق إلى شخصية متَّبع منهج الأخلاق المطلَقة الذي تعرَّض وما زال يَتعرَّض للغَبن، ومع ذلك لن يَسكُت على هذا الغَبن، وهي الشخصية التي تتوهَّم عالَمًا يفنى فيه كل الطرواديِّين وكل الآخيِّين. ولا يَبقى فيه إلا هو وباتروكلوس فحسب:

يا أبانا زيوس ويا أثينا ويا أبولُّو، إنني أتمنَّى ألا ينجو واحدٌ من الطرواديِّين، أيًّا كان عددهم، من براثن الموت، ولا مِن الأرجوسيِّين، فلا يَسلم من الهلاك سوانا نحن الاثنَين، حتى نقضي وحدنا على تاج طروادة المقدَّس. (الإلياذة، ١٦، ٩٧–١٠٠)

لن يَرجع آخيل ولكنه لن يخرج على خُطة نيستور. إن آخيل في اضطرابه لا يرى أنه تخلَّى عن عزمه على ألَّا يَستسلِم أبدًا حتى يتجرَّع أجاممنون مرارة الهزيمة حتى الثُّمالة. فقد قال لأياس في مشهد «البعثة إلى آخيل» إنه سوف يعود عندما تصلُ النيران إلى السفن، ولكنَّه لن يفعل. إنه يُحاول أن يُمسك بالعصا من المنتصَف؛ بأن يتمسَّكَ بعزمه على أن يجعل أجاممنون وأعوانه يُقاسون الويلات، وأن يرضخ أمام استعطاف رفيقه والشدة التي يتعرَّض لها الجيش. إنه لا يَعرِض لعدم الاحترام الذي أُبديَ له إلا لميلٍ لديه نحو تجاوُز ما يشعر به من ضَير. فسماح آخيل لباتروكلوس بالذهاب إلى المعركة بديلًا له يَتعارَض مع ما عزم عليه، ويُعرِّض حياة رفيقه للخطر، ويَزيد من تعرُّض سُؤْدُد وشرف آخيل نفسه للخطر، إن أحرز باتروكلوس نجاحًا أكثر من اللازم؛ ولهذا السبب يُنبِّه آخيل باتروكلوس إلى أن يصدَّ الطرواديِّين فقط، وأن يَرجع بعد ذلك. ووسط مشاعرَ من الغضب والتعاطُف تتنازَعُه، يتَّخذ آخيل قرارًا لا يُمكن أن يجلب إلا كارثةً مع خروج حياته عن نطاق السيطرة.

يَلبس باتروكلوس أسلحة آخيل (عدا الرمح، الذي لا يَستطيع أحدٌ حمْلَه إلا آخيل). كان الغرض الأصلي من ذلك هو بث الخوف في قلوب الطرواديِّين بإيهامهم بعودة آخيل إلى القتال، ولكن هوميروس يَصرف النظر عن هذه الحيلة ويُقدِّم باتروكلوس فحسب في لحظة امتيازٍ مُبهرة. فيقتل عددًا كثيرًا، ويعوق تقدُّم الطرواديِّين، ويُلقي بآخرين داخل الخندق أمام الجدار. ويُجابهُ ساربيدون العظيم، زعيم الليكيِّين، أحد أبناء زيوس نفسه ورفيق جلاوكوس (الذي أعطى درعَه الذهبيَّةَ لديوميديس؛ لأنَّ أسلافهما كانوا أصدقاء ضيافة). يُفكِّر زيوس المهموم في أمر إنقاذ ساربيدون، وهو من الأبطال الأدنى شأنًا، من مصيرِه، ولكن هيرا تُذكِّره بأنها كانت ستفعل الشيء نفسه، وبعدها يُمكن لأي شيء أن يحدث. إنَّ حديثهما ليس بيانًا للتصوُّر اليوناني للقَدَر بقدْر ما هو وصف لمُتطلبات القصة. إن «القدَر» بالنسبة إلى هوميروس هو الحبكة، ومن أجل مصلحة الحبكة، يجب أن يموت ساربيدون.

في كل سرديات القتال يواجه هوميروس مشكلة تمجيد مقاتلِيه مع تجنُّب القضاء على الرجال أنفسهم الذين سوف يَجلب مَقتلُهم المجد؛ فاللافت للنظر أن بطلَين فقط من الأبطال الرئيسيِّين يَلقيان مصرعهما في القصيدة، وهما باتروكلوس وهيكتور. فعلى الأقل لا بُد لساربيدون أن يموت إن أُريد لباتروكلوس المجد. يبعث زيوس ربَّيِ النوم والموت إلى الأرض ليَحمِلا جثمان ساربيدون العاري المسلوب عائدَين به إلى ليكيا، في الساحل الجنوبي الأوسط لتركيا الحالية، وهو الموضوع الذي تَتناوله المزهريات المرسومة التي ترجع إلى الحِقبة الكلاسيكية القديمة (شكل ٤-٢).
تَحين ساعة باتروكلوس ويدفعه أبولُّو الغامض نفسه إلى الوراء ليُبعده عن أسوار طروادة التي لوهلةٍ تَوعَّدها باتروكلوس، الذي تملَّكَت منه «آتي» atê. يَضرب أبولُّو نفسه باتروكلوس ويتطاير درعه، فيصبح حاسرًا بلا دروع، يُحاصِره الطرواديون من كل جانب. ويصيبه طروادي برمحٍ في ظهره ويُجهِز عليه هيكتور بطعنة في البطن. كان آخيل قد أخبر باتروكلوس ألَّا يمضي ليقف في مواجهة أسوار طروادة، التي يُحبها أبولُّو، وحيث يكون هيكتور في أوْج قوته، ولكن باتروكلوس نسي. إنَّ مجد قتْل باتروكلوس لا يُنسَب حتى إلى هيكتور؛ فقد كان ثالث من تمكَّنوا من إصابته بضربة. بيْد أن هيكتور سوف يتحمَّل الجزاء النهائي جرَّاء موت باتروكلوس.
fig26
شكل ٤-٢: إله النوم (هيبنوس) إلى اليسار وإله الموت (ثاناتوس) إلى اليمين يَحمِلان ساربيدون الميت من ساحة القتال، يُراقبهما هيرميس، الذي يُرشد الأرواح إلى العالم الآخر. وعلى الجانبَين يقف محاربان من الهوبليت. آنية لخلط الخمر من طراز الرسوم الحمراء رُسمَت بواسطة يوفرونيوس، حوالي عام ٥١٥ قبل الميلاد (مدينة نيويورك، متحف متروبوليتان 1972,11,10. مُعارة من قِبل الجمهورية الإيطالية L.2006.10. حقوق النشر لصالح متحف متروبوليتان للفن، نيويورك).

(٢٠) «التصارع على جثة باتروكلوس» (الكتاب ١٧)

لم يَقبل آخيل بشروط البعثة؛ لأن عرض أجاممنون، رغم سخائه، لم يكن عن تواضُع. ومن ثَمَّ فقد شكَّك آخيل في الأساس الأخلاقي للسلوك البطولي، الذي انتُهك جرَّاء ممارَسات أجاممنون. كان إرسال باتروكلوس بمَثابة تسويةٍ هزيلة. فلو أنَّ النصر كان حليف باتروكلوس، وقتَل هيكتور، حينئذٍ كان آخيل سيَخسَر فرصته لنَيل المجد؛ ولو قُتِل باتروكلوس، فذاك سيكون أسوأ. وكما تنبَّأ فوينيكس في «البعثة»، حينما يرفض المرء إلهات الصلاة، حينئذٍ يُرسل زيوس «آتي»، وثمار «آتي» atê هي الكوارث.

يَقبع جسد باتروكلوس الميِّت والحاسر بلا دروعٍ تُغطِّيه (والذي رغم ذلك وبطريقةٍ ما يُجرِّده هيكتور من درع آخيل) عاريًا على السهل ويَنشَب حوله صراعٌ مُعقَّد ودموي لحمل الجثمان إمَّا إلى المعسكر أو إلى طروادة حيث يُمكِن امتهانه حسبما هو مُتعارَف عليه. يتمكَّن هوميروس ببراعة من إتاحة الفرصة لهيكتور للاستيلاء على الدرع، دون الجسد. فمِن شأن استيلاء الطرواديِّين على جثة باتروكلوس أن يَعصف بالقصة؛ وذلك لأنه يُمكن بعد ذلك إعادتها بمبادلتها بجسد هيكتور، الذي يُشكِّل أمر فِدْيَتِه وتخليصه ذروة الحَبكة والانحلال النهائي للعقدة في القصيدة. ولكن يجب أن يلبس هيكتور درع آخيل، ليَرمز إلى تملُّكِ «آتي» منه وهلاكه البائن.

يرى الكثير من الباحثين أن هذا المشهد نشأ أولًا في التقليد المَلحمي ليُصوِّر التقاتُل على جثمان آخيل، ولكن لأن هوميروس لا يريد أن يُدرِج موت آخيل في قصته؛ لذا فقد كيَّفَها في هذا الموضع لمُقتضَياتٍ أخرى. وهذا النهج النقدي للقصائد الهوميرية يُطلَق عليه «التحليل النقدي الحديث»، وهو البحث عن قصائدَ أقدم غيرِ مُوثَّقة كامنةٍ وراء النص الذي حُفظَ حتى وصَلَ إلى أيدينا. إننا نَعرِف من رواياتٍ لاحقة على «الإلياذة» أن آخيل قتلَ مُحاربًا عظيمًا يُسمَّى مِمْنون، ملك إثيوبيا. وبعد ذلك بفترةٍ وجيزةٍ يقتل باريس آخيل بمعاونة أبولُّو. وفي «الإلياذة» المعروفة لنا، يَقتل باتروكلوس، الذي يقوم مقام آخيل، ساربيدون، الذي يُعَد حليفًا للطرواديِّين مثلما كان مِمْنون، ثم يُقتَل هو نفسه بمعاونة من أبولُّو. إذن فقد أبقى هوميروس على النمط العام ولكنه بدَّل الأسماء. وتُبرز مسألة ارتداء باتروكلوس لدرع آخيل التشابُه. فنجد أن خيول آخيل الإلهية الخالدة تَنتحِب نحيبًا لا يَنقطِع عند موت باتروكلوس، وهو تصرُّف أكثر ملاءمةً لموت آخيل.

يتَّخذ التقاتُل المُطوَّل على جسد باتروكلوس شكل سلسلةٍ من أنماط السرد المُتكرِّرة. فنجد مُحاربًا يُوبِّخ آخر على تقاعُسه، ويقود المُحارب المُوبَّخ هجمةً مفاجئة. وهذا النمط يظهر خمس مرات. في نمطٍ آخر نجد رجلًا يُنادي طلبًا للعون ويُجاب طلبه. كذا يُنادي مينلاوس أياس ابن تيلامون طالبًا منه العون، ثم يُنادي قادة الآخيِّين، وأخيرًا وباقتراحٍ من أياس يُستدعى آخيل عن طريق أنتيلوخوس، أحد أبناء نيستور. وهكذا يُغادر أنتيلوخوس ساحة القتال.

يختلط بالسرد التشبيه تلو الآخر، ومعظم هذه التشبيهات يُشبِّه الآثار المدمِّرة للحرب بالهجمات الضارية للحيوانات أو اصطيادها من قِبل حيواناتٍ أخرى ومن قِبل البشر. في النهاية يرفع مينلاوس وميريونيس الجسد العاري بينما يُعيق الأياسان هيكتور ورفاقه من الطرواديِّين.

(٢١) «درع آخيل» (الكتاب ١٨)

كان آخيل سلفًا يخشى أن يكون باتروكلوس قد مات، ولكن عندما يُبلِّغُه أنتيلوخوس بالحقيقة، نجده يُصعَق حزنًا. يُورِد أنتيلوخوس الحقائق المجرَّدة، أن باتروكلوس قد مات، وأنهم يتقاتَلون على جسده، وأن الدرع في حوزة هيكتور.

لا يقول آخيل أي شيء؛ فلا تُوجد كلمات يُمكن أن تبوح بحزنه. فيسقط على الأرض في يأسٍ بليغ. تَسمَع أمه الإلهية في أعماق البحر صرخته، وفي شكواه يُفصِح لثيتيس عن أنه يُدرك سير أحداث حياته وأن قصَّته تدور حول القوة المُدمِّرة للغضب، ذلك الغضب حلو المذاق:

كعبء لا طائل منه على الأرض، وأنا الذي ليس لي نظير في الحرب، مِن بين الآخيِّين لابسِي البرونز، رغم أنه يُوجَد مَن يفوقني حكمةً ومشورة؛ فليت الصراع بين الآلهة والبشر يَنتهي، وكذلك الغضب الذي يجعل الغضب يتزايد في نفس الرجل، مهما كانت حِكمته ويكون مذاقه أحلى من العسل المُتقطِّر ويَتمدَّد كالدخان في صدور الرجال، تمامًا مثلما دفعني أجاممنون، ملك الرجال إلى الغضب. (الإلياذة، ١٨، ١٠٤–١١١)

يوافق آخيل على التخلِّي عن غضبه نحو أجاممنون، فقط لينقلَه إلى قاتل باتروكلوس، الذي لا يمكنه حاليًّا أن يهرب. لقد تغيرت دوافع آخيل؛ ففي السابق كان الغَبن هو ما يستثير غضبه، والآن شهوة الانتقام. بيْد أن حزن آخيل على باتروكلوس سوف يستحيل إلى حزن ثيتيس. إنها تعرف أن سلسلة الأحداث التي انطَلقَت من عقالها سوف تنتهي بموت آخيل نفسه. إنَّ الأم والابن متَّحدان في شعورهما بالحزن، الأمر الوحيد الذي يَشترِك فيه كل البشر.

على الأقل يُمكنها أن ترجع من عند هيفايستوس بطاقمٍ جديد من الدروع بدلًا من الدروع التي أخذها هيكتور، والتي كانت هي الأخرى دروعًا إلهية، ورثها آخيل من بيليوس، الذي حصل عليها من هيفايستوس. وبينما تَرتحِل إلى الأولمب، يَستمرُّ الاقتتال على الأرض على جسد باتروكلوس. فيما سبق تدخَّل أبولُّو مباشرةً إلى جانب الطرواديِّين حينما ضرَب باتروكلوس على ظهرِه وتطايَرَت الدروع الإلهية عن جسده. والآن تتوسَّط أثينا لصالح الآخيِّين وتُلقي حول آخيل درعها «الأيجيس» aegis، وغيمةً ذهبية حول رأسه، فيتوهَّج جسده كنارٍ متوهِّجة.

في مشهدٍ غريب يُبشِّر بأحداثٍ أكثر غرابة، يَقف آخيل على الربوة التي تقع وراء المعسكر ويَصيح ثلاث مرات بصوتٍ عالٍ حتى إنه «في التوِّ هلَكَ اثنا عشر رجلًا من خيرتهم وسط عجلاتهم الحربية ورماحهم» (١٨، ٢٣٠). تَهِن عزيمة الطرواديِّين، حتى إن الآخيِّين يتقدَّمون ويأخذون جثمان باتروكلوس بينما تغرب الشمس. يحملون الجثمان إلى معسكر آخيل، حيث تُنظفه الإماء وينُحْن عليه، وفوق الجثمان يُقسِم آخيل على الانتقام.

في تغييرٍ تام للحال السائد وللمكان تدخل ثيتيس إلى سحر وغموض بيت هيفايستوس على الأولمب، حيث يَصنع لآخيل أروع درعٍ شهدها العالم، وهو ما ناقشناه سابقًا وقلنا إنه تصويرٌ لعالم هوميروس نفسه (راجع: الفصل ٢، قسم «هوميروس والفن»). يقول هوميروس إنَّ هيفايستوس يَسبِكُ معدن البرونز، ولكن في وجود اثنَي عشر منفاخ كير لتوليد درجات حرارة عالية، لا بدَّ أن يكون هوميروس يتخيَّل ورشة حدادة من عصره. ألهم وصف هوميروس للدرع الكثير من المقلِّدين، حيث في وصف تصويري لعمل فني ekphrasis («مشهد جانبي» مطول يصف عملًا فنيًّا) يصف الشاعر بحيوية شديدة شيئًا ماديًّا كما لو كان يَخلق عالَمًا مستقلًّا أو موازيًا.

برغم كونه متسخَا وأعرج ومنبوذًا من المجتمع، فإن هيفايستوس هو الكرم ذاته حين يَستريح من عمله الشاق ليُكرم وفادة ثيتيس، ممتنًّا لها ومستعدًّا لردِّ الجميل. ويقول إنها فيما مضى شملته برعايتها عندما رمَتْه أمه من السماء لكونه أعرج (مع أن هيفايستوس في الأبيات ٥٩٠–٥٩٤ من الكتاب الأول من «الإلياذة» يَذكُر أن «زيوس» هو من ألقاه من السماء؛ راجع الفصل ٣، قسم: «هوميروس والأساطير»).

حاول كثيرون إعادة تشكيل شكل الدرع ورَسمَه فنانون، بَيْد أن وصف هوميروس مُبهَم وغير واضح. فهو درعٌ دائري وله طبقاتٌ خمس، وربما يكون مُقسمًا إلى أرباع دائرة. لا بدَّ أن هوميروس يتخيَّل قطعةً معدنية كان قد شاهَدَها. إن التقليد الفني للشرق الأدنى الذي يشتمل على تمثيل الملوك والآلهة بمقياسٍ أكبر من البشر العاديِّين هو ما يُؤكِّد على أن نموذج هوميروس على ما يبدو مأخوذ في الأصل عن الشرق الأدنى:

وذهب الباقون، يَقودُهم آريس وبالاس أثينا، وكلاهما مُشكَّل من الذهب، وكانت ملابسُهما التي يَرتديانها من الذهب. وكانا مَليحَين وفارعَي الطول في هيئتهما التي تَليق بالآلهة، ويَبرُزان بوضوح بين الباقِين، وكان القوم عند أقدامهما أصغر حجمًا. (الإلياذة، ١٨، ٥١٦–٥١٩)

إنَّ درع هيفايستوس هو درعٌ سحري، وهو أفضل مثال في القصائد الهوميرية لشيءٍ ماديٍّ ثَمينِ ومشغول بإتقانٍ فائق؛ فالأشياء والأشخاص عليه مُفعَمون بالحياة ويتحرَّكون مثل المراجل السحرية الثلاثية الأقدام ذات العجلات في غرفة استقبال هيفايستوس، التي تُقبِل عليك كالروبوتات حينما تَستدعيها. وكأن الدرع هو النظام الكوني وهيفايستوس هو خالقه. وعليه تجدُ الأرض، والسماء، والبحر، والشمس، والقمر، والمجموعات النجمية. وفي مصر نجد أن الإله الحِرَفي بتاح، المعادل لهيفايستوس عند الإغريق، كان خالق الكون.

لا يُوجد أي مضمونٍ أسطوري للأحداث الواردة على الدرع المُتحرِّرة من الحاجة إلى إنشاء بُعدٍ مَلحمي. ففي المدينة التي تعيش في سلام، نجد نزاعًا يُسوَّى، مع أننا لا نَستطيع أن نفهم قواعد هذه التسوية. وفي المدينة التي تعيش في حال حرب، نجد عدوًّا يُحاصِر مدينة بينما يَنصِب سكان المدينة كمينًا. وفي قِسمٍ آخر من الدرع نجد أرضًا مُنخفِضةً وحصادًا وكرمةً بها صناعة نبيذ وقطعان ماشية. وحول كل ذلك يجري نهر أوقيانوس الذي يُحِيط بالعالَم كما يعلم الجميع.

(٢٢) «اعتذار أجاممنون» (الكتاب ١٩)

يُعَدُّ موت باتروكلوس هو نقطة التحوُّل الثانية في الحبكة، التي تُعيد آخيل إلى الأحداث حتى يتسنَّى له قتْل هيكتور وبذلك يَحكم على نفسه بالموت. قبل أن يكون بوُسعنا أن ندخل إلى «لحظة الامتياز» الختامية العُظمى، التي انتظرناها طويلًا جدًّا، يَحتاج آخيل إلى إبرام اتفاق صداقة مع أجاممنون ويتخلَّى عن غضبه تجاهه:

ليتَ أرتميس كانت أردَت بريسئيس بسهم عند السفن يوم أخذتُها من الغنيمة، بعدما دمرتُ ليرنيسوس! ساعتها ما كان كثيرون من الآخيِّين سيلقَون حتفهم مدحورِين على يد العدو بسبب غضبي الجامح. كان ذلك لصالح هيكتور والطرواديِّين، ولكن الآخيِّين فيما أعتقد سيذكرون لأمدٍ طويل الخصومة بيني وبينَك. على أي حال لندع هذه الأمور تصبح ماضيًّا فات ومات، من أجل كل ما كابدناه من ألم، كابحِين جماح ما يَجيش في صدورنا؛ لأن الضرورة تُلزمنا بذلك. إنني الآن صدقًا أُنهي غضبي. فليس من الصواب أن أكون غاضبًا إلى الأبد دون توقُّف. (الإلياذة، ١٩، ٥٩–٦٨)

يُصِرُّ أجاممنون على تقديم الهدايا التي عرَضها سابقًا. ويُوافِقه أوديسيوس؛ فليس ثَمَّةَ سبيل إلى المحافظة على قواعدِ المجتمع إلا عن طريق الطقوس المناسبة، مهما يكن من ترفُّع آخيل عن الحزن وعدم اكتراثه بتلك الهدايا، لدرجة أنه يَتمنى لو أنَّ بريسئيس، التي لم يَمْسَسها أجاممنون أبدًا، كانت قد ماتت. فهي عنده الآن ليست إلا امرأة تسبَّبَت في تناحُرٍ لا داعيَ له وفي موت صديقه.

إنَّ آخيل جافٌّ وحديثه مُقتضَب وفي صلب الموضوع فيما يتعلَّق بنبذه لغضبه، ولكن في اعتذار مطول يتَّسم بالإطناب المُمل يُبيِّن أجاممنون كيف أنه لم يُرِد مطلقًا لأيٍّ من هذا أن يجري. إن الأمر كله كان من جَرِيرة «آتي»؛ فهي مَن فَعلَتها. وحتى يُثبت قدرة «آتي»، فإنه يحكي أسطورة. ذات يوم احتالت هيرا على زيوس حتى خضع ابنه الحبيب هرقل، الذي كانت هيرا تكرهه، لسلطان يوريسثيوس المُستبِد. ورماها زيوس من السماء مُلقيًا اللوم على «آتي» كبرى بناته.

تُعرَض الهدايا أمام الجميع ليَرَوها ويُبدوا إعجابهم بها. ومع أن آخيل يرفض تناوُل الطعام، يُصِر أوديسيوس على أن يُمنَح الآخرون فرصةً للأكل. ويكشف آخيل لأول مرة عن أنَّ له ابنًا، وهو نيوبتوليموس، على جزيرة سكيروس (شرقي جزيرة عوبية)، لا يَظهر أبدًا في «الإلياذة» ولكن كان له دورٌ مهم في القصص التي تتناول خراب طروادة وما أعقبه من أحداث. يَرتدي آخيل درعه الجديدة، المصنوعة بِيَد إله ولكنه قاصرٌ عن إنقاذ حياته. حتى إنَّ حِصانه الخرافي كسانثوس «وتعني الأحمر» يتنبَّأ بموته في نهاية المطاف، قبل أن تُسكِته الإيرينيات، اللواتي يُحافظن على النظام الطبيعي، بما في ذلك الفصل بين البشر والحيوانات.

(٢٣) «مجد آخيل» (الكتاب ٢٠)

مع عودة آخيل إلى المعركة يبدأ حلُّ عقدة الحبكة الذي سوف تصل فيه حرب آخيل مع العالم إلى نهايتها. ربما يكون هوميروس قد جعل آخيل يَندفِع إلى السهل، ويُلاحق هيكتور حتى يُمسِك به ويَقتُله، ولكنه يبتغي عوضًا أن يُبطِّئ الأحداث، حتى يُؤجِّل اللحظة الكبرى. ويَبتغي كذلك أن يُظْهِر آخيل وهو يُلحق هزيمةَ ساحقة بالجيش الطروادي كله، لا أن يقتل قائده فحسب.

لقد شهِدنا الكثير من القتال، ولكن هذا القتال سوف يكون أكبر وأفضل من كل ما سبق. يَلفت هوميروس، بطريقة درامية، الانتباه إلى جسامة الصراع الوشيك بجعل زيوس يدعو الآلهة جميعهًا، بمَن فيهم الأنهار والحوريات، للمُشارَكة في القتال، مُتحيِّزِين لأي جانبٍ شاءوا. يُقسِّم هوميروس الآلهة تقسيمًا يدعو إلى التعجُّب. فمُعظَم الآلهة يذهبون إلى جانب الآخيِّين: هيرا، وأثينا، وبوسيدون، وهيرميس، وهيفايستوس؛ ولكن يحصل الطرواديون على آريس، وهو بصرفِ النظر عن كل شيء إله الحرب، وبالطبع فويبوس أبولُّو، ومن ثَمَّ أيضًا أخته أرتميس وأمه ليتو (التي لا يكاد يُوجد ذكرٌ لها على الإطلاق من قِبل هوميروس). واستشرافًا لمَشهد «المعركة مع النهر»، ينضمُّ النهر كسانثوس (الذي يُسمِّيه البشر سكاماندروس) إلى جانب الطرواديِّين.

يُضاهي هذا المشهد، الذي يُمثِّل المعركة الأخيرة في القصيدة، مشهد «مجد ديوميديس»، أول معركة في القصيدة، ويقوم فيه آخيل مقام ديوميديس. في كلتا المعركتَين نجد الآلهة ماثلِين. يُحرِّض أبولُّو، المُتخفِّي في هيئة بشريٍّ فانٍ، إنياس ليتصدى لآخيل، الذي تحول الآن إلى آلةٍ للقتل آخذةٍ في الاندفاع عبْر السهل على رأس الآخيِّين. يَقبل إنياس التحدي ويرمي [رمحه] ولكنه يُخفِق. يقذف آخيل [رمحه] ليمُرَّ عبر حافَة درع إنياس ويكاد يقتله وحينئذ يختفي إنياس في غَمامةٍ من الغبار، ويُنقَل بعيدًا على يد بوسيدون (مثلما أنقذ أبولُّو إنياس أثناء مبارزته مع ديوميديس). وشاءت الأقدار أن ينجو إنياس من حرب طروادة وأن يحكم أحفادُه منطقة ترود، حسبما يقول بوسيدون للآلهة الآخرين:

هيَّا؛ لننقذه من الموت حتى لا يغضب ابن كرونوس [أي زيوس] إنْ قتَله آخيل؛ لأنه مُقدَّر له أن يُفلِت فلا يَنقطِع نسل داردانوس [الطرواديِّين] ولا تفنى له ذرية؛ فداردانوس كان ابن كرونوس الذي أحبه حبًّا فاق كل أبنائه الذين وُلدوا له من نساء البشر. وإذ صار ابن كرونوس مؤخرًا يكره نسل بريام، والآن حقًّا سيُصبح إنياس الجبَّار ملكًا على الطرواديِّين، وسيَحكمهم أحفاده، وسُلالتهم في مُقبِل الأيام. (الإلياذة، ٢٠، ٣٠٠–٣٠٨)

على هذه الفِقرة استنَدَت أسطورة تأسيس إنياس لروما ذات التأثير الهائل، والمُستوحَى منها القصة التي استعان بها فيرجيل لصياغة ملحمتِه العظيمة «الإنياذة» بعد هوميروس بثمانمائة سنة؛ فقد اعتقَد كثيرون أن هوميروس يشير إلى سلالةٍ حاكمةٍ حقيقية ادَّعت انحدارها من نسل إنياس وحكمَت منطقة ترود في زمن هوميروس، ولكن ليس ثَمَّةَ دليلٌ مباشر على أي سُلالةٍ حاكمة من هذا القبيل.

بعد قتله للكثيرِين، يَعثُر آخيل على هيكتور، بيْد أن أبولُّو يُبعده ويُخفيه عن الأنظار. إنَّ هوميروس لا يَزال يَبتغي إرجاء قتل هيكتور لوقتٍ أطول، إلى أن يكون قد برهن على نحوٍ أوفى السبب الذي من أجله كان يَنبغي على أجاممنون أن يُولِيَه المزيد من الاحترام من البداية. أضف إلى ذلك أننا نَستطيب هذا التعطيل. هذه هي المرة الثالثة التي يُبعِد فيها إلهٌ بطلًا ويُخفيه عن الأنظار في غَيمة، وهو ما شهِدناه أول مرة في مشهد «المبارزة بين مينلاوس وباريس».

(٢٤) «المعركة مع النهر» (٢١، ١–٣٨٢)، و«معركة الآلهة» (٢١، ٣٨٣–٥١٣)

يُقسِّم آخيل الطرواديِّين نصفَين، مُرسِلًا نصفًا إلى المدينة بينما يُسقِط النصف الآخر في مياه نهر سكاماندروس، الذي يُعرف أيضًا باسم كسانثوس، «المُخضَّب بالحُمرة» (مثل حصان آخيل). ولكن حتى قبل هذا المشهد لم يكن النهر قد صار بارزًا في طوبوغرافية ساحة المعركة. ويَمضي آخيل عبر المياه الضحلة، مُعمِلًا سيفه في الجميع. ويُصادِف ليكاوون، أحد أبناء بريام والأخ غير الشقيق لهيكتور. كان آخيل قد أسره في السابق وحصل على فديةٍ مقابله. وعندما يتوسل إليه ليكاوون كي لا يقتله، يُذكِّره آخيل أنَّ الجميع هالكون لا محالة؛ كباتروكلوس مثلًا، الذي كان رجلًا أفضل من ليكاوون، ثم يُغمِد سيفه في عَظْم تَرقُوته بجانب رقبته. نتبيَّن الكراهية المُفعَم بها آخيل واستبداده الفكري؛ إذ صاغ أساسًا فلسفيًّا لمسلكه الذي تَنعدِم فيه الشفقة، مثلما فعل الكثير من القتَلة المُتعمدِين عبر التاريخ.

يُلقي آخيل بجثَّة الشاب في نهر كسانثوس، مُطلِقًا بذلك واحدةً من أغرب وأكثر تسلسلات الأحداث خياليةً في الأدب. كل الأنهار لها أرواح، أو هي أرواح في ذاتها، في عقيدة هوميروس، وفي مشهد «مجد آخيل» رأينا في تقسيم الآلهة كيف أن كسانثوس انضم إلى جانب الطرواديِّين. يُمثِّل المشهد بانوراما سيرياليةً لمواقف تنطوي على مُبالَغات. تملأ جثثٌ كثيرة جدًّا النهر لدرجة أنها تَعلَق بفروع شجرةٍ مائلة إلى أسفل وتسد النهر حتى إنه يَثور ويُهاجم آخيل، ويكاد أن يُغرِقه. وينجو بمعجزة عندما يُجفِّف هيفايستوس، المنوط به جانب الآخيِّين، المياه بعاصفتِه النارية.

تفصلنا الحالة الخيالية التي تسود المشهد عن مشهد قتل ليكاوون بدمٍ بارد وتُمهِّد للقتال الكبير القادم. إنَّ آخيل بشريٌّ فانٍ، بيْد أن مشهد «المعركة مع النهر»، شأنها كشأن واقعة بناء الجدار أمام المُعسكَر السالفِ تناولها، قد تَرجِع جذوره إلى رواياتٍ أسطورية لأحداث القرون الأولى، حينما وُجد العالم من التناقُض بين الماء والنار. إنَّ قصة المواجهة بين بطل وبين المياه المدمِّرة والماحقة هي قصةٌ بالغة القِدَم، ونجدها مُثبتةً في قصيدة الشرق الأدنى من أوغاريت التي ترجع إلى حوالي ١٤٠٠ قبل الميلاد، والتي فيها يتصارَع إله العواصف إيل مع الإله يم، الذي يُمثِّل البحار في القرون الأولى، ويتغلَّب عليه.

يَتقاتَل آخيل مع النهر، وهو ما يَنتج عنه قتال هيفايستوس ضد كسانثوس، الذي يُؤدِّي إلى مشهد «معركة الآلهة» الشامل، الذي فيه يَشنُّ الخصوم الذين كانوا مُجتمعِين في السابق هجومًا شديد الوطأة بعضهم على بعض. فتدخل هيرا في صراع مع آريس في مشهدٍ هزلي بعيد كليةً عن حدث المذبحة الصارم وهالة الخطر الكوني اللذَين شهدناهما في صراع آخيل في النهر. من شأن جمهور هوميروس أن يتهكَّم على أثينا وهي تتصرَّف مثل أياس وتَلتقِط حجرًا ضخمًا وتُصيب به إله الحرب نفسه بعدما يهاجمها برمحٍ:

قال هذا وضرَب درعها «أيجيس» المُزيَّن بالشُّرَّابات (شراشيب) — درع «أيجيس» الرهيب الذي لا تستطيع حتى صاعقة زيوس أن تتغلَّب عليه — ضربه آريس الملطخ بالدماء برمحه الطويل. تراجَعَت [أثينا] وأمسَكَت بيدها القوية حجرًا أسود هائلًا مُسنَّنًا كان على أرض السهل، كان القُدامى يَضعونه علامةً حدودية لحقل. ضرَبَت به آريس الغاضب على عنقِه فتراخَت أوصاله. تَمدَّد في سقطتِه على سبعة أفدنة وتَوسَّخ شَعره بالتُّراب وأصدَرَت دروعه حوله أصوات قعقعة. ولكن بالاس أثينا أطلَقَت ضحكةً وقالت بكلماتٍ مُجنِّحة وهي تقفُ فوقه مُتفاخِرة: «أحمق، لم تكن حتى بعدُ تعرف كم أنا أقوى منك، لدرجة أنك ضاهَيتَ قوتَك بقوتي. الآن تُكفِّر بالكامل عن النقمات التي استَنزلَتْها عليك أمك، التي تُدبِّر لك الشر غضبًا منك لأنك تخلَّيتَ عن الآخيِّين وتمدُّ يدَ العون للطرواديِّين المُغترِّين.» (الإلياذة، ٢١، ٤٠٠–٤١٤)

أيضًا تُوجِّه أثينا لأفروديت ضربةً في صدرها (في الموضع الذي يؤلم كثيرًا). يَرفض أبولُّو أن يَشتبِك مع بوسيدون، حتى إنَّ أخته أرتميس تُوبِّخه إلى أن تُبرهِن هيرا البغيضة لمَن تكون الزعامة:

عندئذٍ أمسَكَت بيدها اليسرى كلتا يدَي الأخرى [أرتميس] من مِعصمَيهما وباليُمنى أخذَت القوس وعُدَّته من على كتفَيها وضربتها بهذه الأسلحة، وهي تَبتسِم طوال الوقت، بجانب أذنَيها وهي تدور يَمنةً ويسرةً، وتساقَطَت السهام السريعة من الجَعبة. (الإلياذة، ٢١، ٤٨٩–٤٩٢)

لا يُمكِن للقتال بين الكائنات الإلهية إلا أن يكون مدعاةً للسخرية.

(٢٥) «مصرع هيكتور» (الكتاب ٢١، من البيت ٥١٤ إلى الكتاب ٢٢)

في بعض الأحيان يَتقاطَع عالَما البشر والآلهة، وفي هذا المشهد يُلاحِق آخيل أبولُّو عبر السهل، وهو يَحسب أنه يُطارِد أجينور، أحد نُبلاء الطرواديِّين. عندما يكشف أبولُّو عن خدعتِه، يعود آخيل أدراجه صوب المدينة. يَراه بريام، كنَجم الشِّعرى اليمانية، يسطع لامعًا، نذير سوءٍ. في خطبةٍ مطولة بإملال وتَنطوي على رثاء للذات يتوسَّل بريام لهيكتور راجيًا إياه أن يدخل. إنَّ مصرع هيكتور لَهُو هلاك لطروادة، ويتصوَّر بريام الهول الذي سيُلاقيه عند موتِه هو نفسه:

أراني أنا نفسي في النهاية تُمزِّقني كلابٌ متوحِّشة عندما تأتي إلى بابي، بعدما تُنتزَع الحياة من أوصالي بطعنة سيفٍ برونزي حادٍّ أو رمية سهم. نفس تلك الكلاب التي ربَّيتها في قاعات قصري وأطعمتُها من أطايب مائدتي لتحرس بابي. وبعد أن تشرب دمي في وحشية تَضوُّرها، سوف تتمدَّد هناك في المدخل؛ فالشاب يَبدو حسنًا عندما يُصرَع في المعركة ويُجندَل مُمزقًا بالبرونز الحاد؛ إذ رغم أنه ميِّت، فالأمر كله جليل ومُشرِّف، عندما يكون بمَقدورِك أن ترى كل جزء منه. ولكن عندما تُلحِق الكلاب الهوان بالرأس الأبيض الشعر واللحية البيضاء وفي عورة شيخٍ كبيرٍ ميِّت، فهذا أكثر شيء مَدعاة للشفقة يصيب التُّعَساء من البشر. (الإلياذة، ٢٢، ٦٦–٧٦)

تكشف هيبوكا أم هيكتور ثديَيها؛ فهو قد رضع من هذَين الثديَين وهو مدينٌ لأمه بشيء. تتدافع الأفكار في ذهن هيكتور. هل يَدلُف إلى الداخل ويَفقِد السؤدد والشرف؟ هل يُحاوِل أن يَعقد صفقةً مع آخيل، ويُعيد هيلين والأسلاب؟ ماذا لو مزَّق آخيل أوصاله مثل امرأة؟ لقد سبق السيف العَذَل بالفعل بالنسبة إلى هيكتور؛ فآخيل يوشك أن يَلحق به. يفقد الطروادي العظيم رَباطة جأشه ويجري بكل ما أُوتي من قوة كأنما يَجري خلفه أسد؛ إذ تغلَّب خوفه على شجاعته. إنَّ آخيل الآن يستحق نعته «ذا القدمَين السريعتَين». في الطليعة رجلٌ صالح ولَّى الأدبار، كان لديه أشياءُ مهمة يتوجَّب عليه الدفاع عنها وأمورٌ كثيرة مِن شأنه أن يخسرها، ولكنه مُلاحَق من قِبل رجلٍ أشد قوة، دروعه وأسلحته من صُنعِ الآلهة ومُتفانٍ في الانتقام. «ولم يكن سباقهما من أجل أضحية أو جِلد ثور؛ تلك الجوائز التي تُقدَّم لأسرع الرجال في سباقات الجري، ولكنَّهما كانا يَتسابقان من أجل حياة هيكتور، مُروِّض الخيول» (٢٢، ١٥٩–١٦٢).

يُطارد آخيل هيكتور على طريق العربات، مرورًا بالنبعَين، اللذَين يتَّسم واحدٌ منهما بسخونة مياهِهِ حتى في الشتاء عندما يَتصاعد منه البخار، وواحدٌ ببرودة مياهه التي تصل إلى التجمُّد حتى في الصيف. بحَثَ مُستكشِفو العصر الحديث دون جدوى عن هذَين النبعَين، بيْد أنهما دلالتان أدبيتان على البلاد وقت السلم، عندما كانت الصبايا الطرواديات يَغسلن ثيابهنَّ فيهما. أمَّا الآن فطروادة في حربٍ وعلى وشك أن تفقد أفضل أبنائها. يركض البطلان ثلاث مراتٍ حول أسوار طروادة (ولكن الأطلال في منطقة هيسارليك، التي تُعتبَر طروادة، واقعة على نتوءٍ صخريٍّ بحري).

حينما مات باتروكلوس، ضرَبَه أبولُّو أولًا حتى تتطايَر دُروعه. الآن تتَّخذ أثينا هيئة ديفوبوس شقيق هيكتور وتَستدرِج هيكتور إلى قتالٍ لا يمكنه أن يخرج منه منتصرًا. يتبارَز آخيل وهيكتور، ولكن عندما يَختفي ديفوبوس كسحابة دخان، يُدرك هيكتور أنه هالك. نحن الجمهور كنا نعرف ذلك من البداية. يَضرب آخيل هيكتور برمحٍ يمرُّ عبْر حلقه ولكنه لا يُصيب الأحبال الصوتية، حتى يظلَّ بإمكان هيكتور أن يتوسَّل طالبًا أن يحظى بجنازةٍ مُشرِّفة. فيُصرِّح له آخيل بأنه يُفضِّل أن يَلتهم لحمَه. على الأقل يُمكنه حينها أن يُعامل جسد هيكتور معاملةً مشينة. ويموت هيكتور.

ينهار بريام وهيكوبا، اللذان يُراقبان من فوق الأسوار، بيْد أن الزوجة الطيبة في غرفتها تغزل. تسمع صرخةً وتُطل من فوق الأسوار، فترى زوجها مسحوبًا خلف عجلة آخيل الحربية، وشعره الطويل الداكن مُنسدلٌ خلفه.

ثُمَّ غشَّى عينيها ظلام ليلٍ حالك السواد وطوَّقها وسقَطَت على ظهرها وتصاعد لُهاثها شاهقةً وكأن رُوحها تكاد تفارق جسدها. وطرَحَت عن رأسها زينتها اللامعة؛ الإكليل والمِنديل والعِصابة المجدولة، والحجاب الذي كانت أفروديت الذهبية قد أعطَتْها إياه يوم اقتادَها هيكتور ذو الخوذة اللامعة عروسًا له من بيت إييتيون بعدما كان قد أحضر هدايا زواجٍ لا تُعَد ولا تُحصى. (الإلياذة، ٢٢، ٤٦٦–٤٧٢)

يُمثِّل حجاب أندروماك عفَّتَها، الرابط الجنسي بينها وبين هيكتور الذي عاجلًا ما سيُنتهَك عند الاستيلاء على المدينة وتقديم النساء للاغتِصاب. إنَّ طرحها للحجاب يُمثِّل تقديمها لنفسها للاغتصاب، مثلما يعني «هتكُ حجابِ» مدينةٍ ما تدميرَها؛ فالكلمة اليونانية krêdemnon ذاتها تعني «حجاب» و«شُرفة الحصن الدفاعية». ونحن نتناول كذلك «اغتصاب مدينة». تُصوِّر أندروماك المستقبل البائس الذي ينتظر طفلهما اليتيم الأب حتمًا، بيْد أننا نَعرف أنه سوف يكون أكثر سوءًا.

(٢٦) «شبح باتروكلوس» (٢٣، ١–١٠٧)، و«جنازة باتروكلوس» (٢٣، ١٠٨–٨٩٧)

لن يَغتسِل آخيل حتى يُدفَن باتروكلوس. في تلك الليلة تظهر psychê «روح» باتروكلوس أو شبحه لآخيل في حُلم، وهو تَسلسُل في الأحداث يُقابله تَسلسُل مناظر في قصيدة جلجامش من الشرق الأدنى، عندما يَظهر شبح إنكيدو لجلجامش ويتوسَّل إليه أن يُدفَن. الفِقرة الهوميرية هي عبارة عن «شاهدٍ كلاسيكي» على فهمنا للتصوُّر الهوميري لما يُطلَق عليه psychê، الذي يعتبرها بالفعل النفخة التي تُبارح الجسد عند الموت (فكلمة psychê تكافئ «روح الحياة/أو نسمة الروح»، وجمعها psychai):
ادفِنِّي بأسرعِ ما يمكن حتى يَتسنَّى لي عبور بوابات هاديس؛ فالأرواح psychai، أشباح الرجال الموتى الذين عبَروا، تدفعني وتُبقيني بعيدًا ولن تسمح لي بأن أنضم إليها فيما وراء النهر، ولكني أَهِيم بلا هدفٍ عبْر بيت هاديس ذي البوابات الهائلة. (الإلياذة، ٢٣، ٧١–٧٤)

لا يُمكن للروح أن «تُطرح»؛ أي أن يُتخلَّص منها، وتُبعث إلى العالم الآخر، إلا بعد أن تُدفَن، وهي تعاني عندما تكون هائمةً على غير هدًى في عالَمٍ متوسِّط بين عالمَين. وعلى الرغم من أن للروح نفس الهيئة التي كانت عليها في الحياة، فإنها غير مادية، وعندما يمدُّ آخيل يده ليَلمسها، «مضت الروح مثل بخار تحت الأرض، مُصدِرة همهمةً غير مفهومة» (٢٣، ١٠٠-١٠١). يَرِد مشهدٌ مشابه في «الأوديسة» عندما يُحاول أوديسيوس أن يَلمس رُوح أمه، ولكنه لا يستطيع، ويُحاكيه فيرجيل عندما يُظهِر إنياس في العالم السفلي يمد يده نحو شبح دايدو (الإنياذة، ٦، ٤٧٢-٤٧٣).

لا يعصي آخيل أمر الروح. ويحرق جسد باتروكلوس في محرقةٍ اكتست بدماء التضحية بالعديد من الرجال والحيوانات. تتأجَّج نيران المحرقة وتُجمَع العظام. في الألعاب الجنائزية التي تعقب ذلك يغير أسلوبه تمامًا ليقدم أقدم تعليقٍ رياضي في العالم، هذا الذي رأى فيه كثيرون أرقى صور براعة هوميروس الأدبية، مُثبتًا مرةً أخرى تمسُّكه بإيقاعٍ سرديٍّ بطيء.

في هذا السياق نجد، خلافًا للألعاب في الحِقبة الكلاسيكية القديمة، أن كلَّ مُتسابِق يفوز بجائزة، وتُخبرنا الجوائز شيئًا عن الاقتصاد الهوميري. على سبيل المثال، في إحدى المسابقات يَحصُل الخاسر على امرأة، تَعْدل أربعة ثيران! والأنشطة الثمانية هي سباق العجلات الحربية، والملاكَمة، والمصارَعة، وسباق العَدْو، والقتال بالأسلحة، ورمي الجُلَّة، ورماية السهام، ورمي الرمح. ولعلَّ سباق العجلات الحربية هو أطولها وأكثرها تعقيدًا؛ إذ يَستغرِق نصف طول الألعاب بأكملها. وحتى الآلهة تُشارِك في الحدث؛ فنرى أثينا تتدخل لإعادة سَوط ديوميديس بعدما يسقط من يده. وتتَّضح حالة النُّبل السائدة في الألعاب الجنائزية جليةً، مقارنةً بالوحشية والكآبة اللتَين كانتا مُسيطرتَين سابقًا، عندما يُقدِّم أنتيلوخوس، ابن نيستور، هديةً ثانية لمينلاوس ويرفضها مينلاوس بلباقة. ونجد آخيل، المسيطر سيطرة كاملة على انفعالاته والذي يظهر في صورة المدير المثالي للألعاب، يمنح جائزةً لأجاممنون رغم أنه لا يَتبارى، قائلًا إن أجاممنون هو «الأعلى سلطةً»، ومن ثَمَّ يضع حدًّا لمصالحتهما الرسمية.

(٢٧) «فدية هيكتور» (الكتاب ٢٤)

بعد دفن باتروكلوس، ينتاب آخيل شعور بالحزن والوحشة، ويكاد سلوكه المُفرِط دومًا يصل إلى حافة الجنون؛ فيستغرق في التفكير في الأوقات الطيبة التي تشاركاها، ويَمشي على الشاطئ ليلًا، وفي الصباح يجُر جثة هيكتور الهامدة عبر التراب في مشهدٍ بديع ينمُّ عن انعدام جدوى الجسد الفاني. لا يُمكن لآخيل أن يَتعافى أبدًا، وليس ثَمَّةَ حُرمَة في الانتقام. لقد حظيَ باتروكلوس بدَفْنتِه الحسنة اللائقة، وهو ما يكاد يكون تعويضًا عن الموت نفسه. أمَّا هيكتور فهو، على النقيض، جثَّة مُمثَّل بها (رغم أن أبولُّو لن يدَعها تتحلَّل). ومع ذلك لا تقلُّ حدَّة حزن آخيل. ترغَب الآلهة في إنهاء الانتهاك وتُفكِّر في إرسال هيرميس، إله اللصوص، لسَرِقة الجسد. وفي هذا السياق يُقدِّم لنا هوميروس الإشارة الوحيدة في القصائد الهوميرية إلى قصة حكم باريس الشهيرة؛ فيَذكُر هوميروس بوسيدون، إلى جانب هيرا وأثينا، باعتبارهم المُتضرِّرين جرَّاء قرار باريس بالحكم بأن أفروديت أكثر جمالًا من هيرا أو أثينا؛ ربما لأن هؤلاء الآلهة الثلاثة هم الأعداء الإلهيون الرئيسيون لطروادة:

وسَرَّ الأمرُ [إرسال هيرميس ليسرق الجسد] الباقين جميعًا، عدا هيرا وبوسيدون والفتاة ذات العينَين اللامعتَين [أي أثينا] ولكنَّهم استمروا كما كانوا في البداية في كراهيتهم لمدينة إليون المُقدَّسة ولبريام وشعبه، بسبب جريمة ألكسندروس [أي باريس] الذي ألحق العار بهاتَين الإلهتَين عندما قَدِمتا إلى مزرعتِه وفضَّل تلك التي أجَّجَت شهوته المشئومة. (الإلياذة، ٢٤، ٢٥–٣٠)

يَستدعي زيوس ثيتيس، التي ستَنصَح آخيل بأن يتخلَّى عن الجثمان حتى يُدفَن. تذهب الإلهة الرسولة إيريس إلى بريام وتُخبِره بأنه يجب أن يقوم برحلة إلى خيمة آخيل، حاملًا فديةً مقابل جثمان ابنه. غير أنَّ آخيل يُشارِف من خلال فهمه الخاص على الوصول إلى نهاية غضبه، الذي وجَّهه في البداية نحو أجاممنون، ثم هيكتور؛ فيقول ببساطة ردًّا على طلب أمه:

فليَكُن. ليَحمِل الجُثة ويأخذها من يجلب الفِدية، إن كان ذلك هو مَقصِد الأوليمبي وغايته الحقيقية. (الإلياذة، ٢٤، ١٣٩-١٤٠)

إنَّ هيرميس لم يُطالِعْنا إلا قليلًا في هذه القصيدة؛ فنراه ينضمُّ إلى «معركة الآلهة» في مواجهة ليتو، لكنهما يُقرِّران ألَّا يشتبكا. في العقيدة الإغريقية الكلاسيكية يصلُ هيرميس هذا العالَم بالعالَم الآخر، وقد لاحظ كثيرون أن مشهد «فِدية هيكتور» يبدو مستندًا إلى ما يُسمَّى katabasis، أي «الذهاب إلى الأسفل»، وهي أسطورةٌ مُوغِلة في القِدَم عن الهبوط إلى العالم السُّفلي. وبينما يتسلَّل بريام في جُنح الظلام عابرًا السهل، يصلُ إلى نهر (يتوسل باتروكلوس من أجل أن يُسمَح له بعبور النهر إلى العالم الآخر). وهناك يَلتقي به هيرميس، مُتخفِّيًا في هيئة تابعٍ لآخيل. يتولَّى هيرميس قيادة العَرَبة، وعندما يَصلون إلى المتاريس، يهبط نومٌ غريبٌ جميل على عيون الحراس وتنفتِح البوابات على مِصراعَيها من تلقاء نفسِها. إن مَسكَن آخيل موصوف في السابق وصفًا مُبهمًا بأنه كوخ أو خيمة، ولكنه الآن حصنٌ ضخم له مِزلاجٌ هائل لا يَستطيع تحريكَه إلا ثلاثة رجال عاديِّين (بالطبع يستطيع آخيل أن يقوم بالأمر بمفرده). يبدو آخيل مثل ربِّ الموت، وهذا المكان هو مُستقرُّه. إنَّ هوميروس يستخدم لغة katabasis (النزول إلى العالم السفلي) التقليدية حتى يُضفيَ هَيبة وتأثيرًا دراميًّا على انحلال عقدتِه النهائي. قَدِم بريام ليَستجلِب جثةً، يقودُه هيرميس الذي يصل هذا العالَم بالعالَم الآخر. وفي أسطورةٍ لاحقة، يَهبِط أورفيوس إلى العالم السفلي لكي يسترجع زوجته المُتوفَّاة يوريديس.

تُضفي البنية الأساسية الأسطورية على المشهد جوًّا مخيفًا، بيْد أن مُراد هوميروس هو أن يحلَّ عقدة قصته. ينبذ آخيل الأساس الأخلاقي الذي يقوم عليه السلوك البطولي في مشهد «البعثة إلى آخيل»، رافضًا الهدايا المقدَّمة وزاعمًا أن سُؤدُده/شرفه يأتي من زيوس. بعد قتلِ آخيل لهيكتور، تَكلَّم بمغالاةٍ مماثلة، وبمفرداتٍ مشابهة، عندما قال إنه لن يترك قَط الجُثة لتُدفن، ولا حتى إن نالَ وزنها ذهبًا. أما الآن «فلسوف» يتركها، ويترك معها سخطه. ويُدرِك أنه لا طائل من تقسيم العالم إلى أصدقاء وأعداء في حين أنَّ كل البشر، حتى هو وبريام، مُتحِدون في معاناتهم. في هذا المشهد نَختبِر عبقرية هوميروس الأخلاقية؛ إذ يتوقَّع مبدأ الأُخوَّة بين بني البشر الذي نشَرَه لاحقًا فلاسفة الإغريق والفلاسفة الأخلاقيون المسيحيون.

وبفضل معاوَنة هيرميس، يدخل بريام إلى الكوخ دون أن يُلاحظه أحد:

دخَلَ بريام العظيم دون أن يراه أحد ووقَف على مقربةٍ من آخيل وطوَّق ركبتَي آخيل بذراعَيه وقبَّل يدَيه، اليدَين الرهيبتيَن قاتلتَي الرجال اللتَين أودتا بحياة كثير مِن أبنائه. ومثلما يَحدُث حين تحيق آتي برجل فيَقتُل في وطنه رجلًا آخر ويَهرُب إلى أرضٍ غريبة، وإلى بيت رجلٍ ذي مكانة، فيتملَّك العجب من كلِّ مَن يرَونه، تملَّك العُجب آخيل وهو ينظر إلى بريام شبيه الآلهة وتملَّك العجب الآخرِين أيضًا، وأخذ كلٌّ منهما ينظر إلى الآخر. بيد أن بريام توسل إليه وتكلم قائلًا: «يا آخيل الشبيه بالآلهة، تَذكَّر أباك، الذي في مثل سني، على عتبة الشيخوخة المُفزِعة.» (الإلياذة، ٢٤، ٤٧٧–٤٨٧)

وإذ يَنظر آخيل إلى الرجل المُسن يرى فيه أباه، وعند هذه اللحظة يفهم:

ولكن تعالَ واجلِس، ولندع أحزاننا قابعة في قلوبنا، رغم ألمنا. فلا فائدة تُرجى مِن الندب المرير. فهكذا غَزلَت الآلهة حياة البشر التُّعَساء حتى يعيشوا في ألم في حين أنَّ الآلهة لا تعرف الحزن. فعلى عتبات زيوس توجد جرَّتان للعطايا التي يَمنحُها، إحداهما تحوي الشر، والأخرى تحوي البركات. فمَن يُعطيه زيوس، الذي يطلق الصواعق، نصيبًا مختلطًا، عندئذٍ يواجه الشر تارة، والخير تارةً أخرى. أمَّا مَن لا يُعطيه إلا الشر فإنه يَجعله مكروهًا من بني البشر ويُسيِّره على وجه الأرض المقدَّسة جوعٌ مقيت، ويَهيم على وجهه لا يجدُ مكرمةً من الإلهة ولا مِن البشر. (الإلياذة، ٢٤، ٥٢٢–٥٣٣)

إنَّ الحياة بالنسبة إلى البعض سيئة تمامًا، ولآخرِين، ثَمَّةَ خير يحدث أحيانًا، أما فيما عدا ذلك فالحياة سيئة، وهو تلخيصٌ نموذجي للفلسفة التشاؤمية عند الإغريق. لا يُطيق بريام صبرًا على هذا التفلسُف ويريد أن يأخذ الجثة ويَمضي في سبيله، وفي تصويرٍ أدبي واضح للشخصية نرى غضب آخيل وهو يَنتفِض عائدًا للحياة. حسنًا، إنه قد يَقتُل الرجل المُسن بأي حال؛ كونه أبا الرجل الذي قتَل صديقَه، وربما يَنبغي على بريام أن يضَع ذلك في اعتباره.

ثم يَتناولان الطعام وبتناوُلهما للخمر واللحم تَذوي الكراهية والريبة حتى إن كليهما يرى عَظَمة الآخَر. وهكذا ينتهي غضب آخيل. وبعد أحد عشر يومًا، يحرق الطرواديون هيكتور ويَدفِنونه. وبذلك تَنتهي القصيدة.

(٢٨) الملخص والاستنتاجات: تراجيديا «الإلياذة»

إن «الإلياذة»؛ كونها نتاجًا للنَّظْم الشفاهي نُقلَت إلى الكتابة الأبجدية عبر الكلام المُملَى، مُكوَّنةٌ إلى حدٍّ كبير من موضوعاتٍ وأدوات تقليدية تراثية. فنجد الفكرة العامة المتعلِّقة بانسحاب بطل مِن القتال، وما يَعقُب ذلك من دمار، ثم عودته المُظفَّرة والثأرية تظهر في قصصٍ من كل أنحاء العالم، ونجده في «الإلياذة» يُشكِّل قصةً موازية عن ميلياجروس (الكتاب ٩) والتي يَرويها فوينيكس من أجل أن يُقنع آخيل بالتخلِّي عن غضبه. سلْب النساء وعواقبه الوخيمة هو، بالطبع، ما يمثل خلفية أحداث القصة، ولكنه يقود الأحداث مباشرةً في سلْب أجاممنون، أولًا، لخريسيس، ثم لبريسئيس. الأمر اللافت وسط المَشاهِد النمطية هو التوسُّل والدعاء، وله أربعة أمثلةٍ رئيسية؛ عندما تتوسَّل ثيتيس إلى زيوس ليُحيق الأذى باليونانيِّين (الكتاب ١)، وعندما تتوسَّل البعثة إلى آخيل من أجل أن يعود (الكتاب ٩)، وعندما يتوسل باتروكلوس لآخيل من أجل أن يعود (الكتاب ١٦)، وعندما يتوسَّل بريام لآخيل من أجل جثمان هيكتور (الكتاب ٢٤). يوجد، كذلك، العديد من المَشاهِد الثانوية للتوسُّل والدعاء، وبخاصة في ميدان المعركة. وتُوجد مبارزاتٌ عدة بين أبطالٍ رئيسيِّين: بين باريس ومينلاوس (الكتاب ٣)؛ وبين هيكتور وأياس (الكتاب ٧)، وبين آخيل وهيكتور (الكتاب ٢٢). وثَمَّةَ مشهدٌ نمطي آخر وهو الألعاب الجنائزية المُكرَّسة لأجل باتروكلوس (الكتاب ٢٣)، المُماثِلة للألعاب الجنائزية المكرَّسة لأجل آخيل والمذكورة في الكتاب ٢٤ من «الأوديسة».

تتَّسم الآلهة بطلاقة الوجود دومًا وفي كل مكان، ولكنَّهم نادرًا ما يتخذون أي مبادَرة، فيما عدا إبعادهم لأبطالهم المفضَّليِن عن مواطن الخطر خفية. ويكاد لا يُوجد أيُّ سحر في القصيدة، وحتى الأبطال المولودون من آلهة لا يقومون بأعمالٍ فائقة للبشر، مثلما هو معهودٌ في الأعمال التراثية الملحمية. فيبدو أن هوميروس، أو التقليد الذي آل إليه، قد طمس تلك العناصر، ولكنها أحيانًا ما تُطِل في لمحةٍ خاطفة؛ فمثلًا، الدروع التي يستعيرها باتروكلوس من آخيل، التي أعطاها الإله هيفايستوس لبيليوس والد آخيل، لا يُقال عنها أبدًا أنها منيعة، مثلما هو معتادٌ في الأعمال التراثية الملحمية، ومع ذلك لا يموتُ باتروكلوس إلا بعد أن يُسقِطَها أبولُّو عن كتفَيه. عندما يَقتل آخيل هيكتور، الذي كان مُرتديًا الدروع في ذلك الحين، فإنه لا يَخرق دروع هيكتور، وإنما حلقَه. إنَّ هوميروس بتجنُّبه أو طمسه للعناصر الخيالية، يُشكِّل منظوره الإنساني المتفرد.

لا يُمكننا تفسير الطول الهائل لملحمة «الإلياذة»، إلا عن طريق تخيُّل ظروف خاصة أنشأ في ظلِّها ناسخٌ ما النص، وعن طريق تخيُّل الدافع لدى مَن أمر بإنشاء النص. إن الأمر الأجدر بالملاحظة يتمثَّل في أن هوميروس لا يُشَكِّل ملحمته اللانهائية عن طريق تكديس حادثةٍ فوق أخرى، أو عن طريق سرد «قصة حرب طروادة» كاملةً، وإنما عن طريق التركيز على أربعة أيام في العام العاشر من الحرب (دون حساب أيام الطاعون التسعة والاثني عشر يومًا التي أمضاها الآلهة بين الإثيوبيِّين، الكتاب ١؛ والأحد عشر يومًا التي انتهك فيها آخيل جثة هيكتور وأيام مأتم هيكتور التسعة، الكتاب ٢٤).

ومن الأمور الرائعة استخدام هوميروس للحوار المباشِر. فنسبة ٤٥ بالمائة تقريبًا من القصيدة تدور على لسان شخصياتها. وفي الكتاب التاسع، الذي يُمثِّل مشهد «البعثة إلى آخيل»، تَرتفِع تلك النسبة إلى ٨١ بالمائة. يَميل هوميروس إلى عرض الحوار دون تعليق، ولا يزيد عادةً على التعليق بعبارة «وهكذا تَحَدَّثَت» أو «قال ما يلي» حتى يكون انطباع القارئ شبيهًا بقراءة عملٍ درامي، ذاك الذي يَرِدنا فيه كل ما نعرفه عن أفكار شخصيةٍ ما مما تقوله. ومما لا شكَّ فيه أن حوارات هوميروس كان لها تأثيرٌ مباشر على الكُتَّاب التراجيديِّين، الذين نَشَئوا على قراءة شعره وقصائدَ سداسيةِ التفعيلات.

وكحال مشاهد الأحداث، تَنقسِم المشاهد الحوارية أيضًا إلى أنواع:
  • الإقناع (بخاصة في جَمْعٍ).

  • الرسائل (عادة ما تُكرر حرفيًّا).

  • المُفاخَرة (بخاصة قبل الهجوم على غريمٍ مباشرةً).

  • التحدِّي (قد يُصاحِب التفاخر).

  • التوسُّل (عادةً في أرض المعركة).

  • التحميس (الخطب الحماسية من أجل المعركة).

  • التقريع (عندما يعجز شخصٌ ما عن إنجاز أمر على نحوٍ نموذجي).

  • مناجاة النفس (أعمق أفكار المرء مُقدَّمة في هيئة حوار).

يصف هوميروس طبيعة شخصياته عبْر الحوارات برشاقة ودقة. وهكذا نعرف من الحوار الأول لأجاممنون في الكتاب الأول أنه متغطرس (في رفضه لمطلب خريسي المقبول)، وفظ (في ملاحظةٍ يُبديها عن زوجته)، وغير مبالٍ بمصلحة الجماعة (في بغيه على آخيل ورفضه لمطلب خريسي). تُميط هيلين الفاسقة، في حوارها مع بريام الذي ينطوي على انتقاصٍ للذات في الكتاب الثالث، اللثام عن امرأةٍ حزينة لديها مشاعرُ رقيقة تجاه عائلتها، بينما تسحَرُ لبَّ الملك بجمالها. يظهر هيكتور — في حديثه إلى أندروماك المتوسلة في الكتاب السادس — رجلًا مُحبًّا لأسرته وسوف يُؤدِّي واجبه، مهما كانت العواقب؛ لذا يَعتبره كثيرٌ من القراء المُعاصرِين أكثر الشخصيات جاذبيةً في القصيدة.

كانت «التراجيديا»، التي تعني حرفيًّا «الأغنية العنزية»، عبارة عن قصيدةٍ تُؤدَّى على مسرح ديونيسوس في مدينة أثينا بدايةً من أواخر القرن السادس قبل الميلاد، ولكنها تدلُّ بالمعنى النقدي على نوع من القصص، تُمثِّل «الإلياذة» أقدم مثال له. في التراجيديا يخوض شخص ذو شخصيةٍ فردانية إلى حدٍّ كبير صراعًا مع العالم من حوله، ويُصبح تدريجيًّا أكثر انعزالًا عن هذا العالم، وفي النهاية يصبح وحيدًا تمامًا، وينتهي به الحال إلى عزلةٍ مميتة، أو تكاد تكون كذلك. ورغم ذلك يجد آخيل نفسه في نزاع مع رئيسِه وأنصاره. وينغمس في مشاعره القوية المستندة إلى مفهوم للعدالة، ويأبى أن يتصالح مع أولئك الذين أهانوه حتى وصل به الأمر إلى إيذاء شخصٍ يُحبه، وعندها يفقد التصالح كل معنًى له. ويَتحوَّل غضب آخيل نحو أجاممنون إلى غضبٍ نحو هيكتور، الذي تُعامَل جثته معاملةً بربريةً من قِبَل آخيلو. عندما يتخلى آخيل عن غضبه، ويتخلَّى معه عن جثة هيكتور، يعتنق رؤيةً أخلاقيةً عميقة حيال المعاناة العالَمية التي تُوحِّد البشرية كلها، ولكنه لا يجد أحدًا ليتشارك معه هذه الرؤية. تُخبرنا القصيدة مرارًا وتكرارًا أن قريبًا سيكون مصيره الموت، وهو الأمر الذي بات الآن يقينًا فعليًّا. في تراجيديا «الإلياذة» ليس ثَمَّةَ حلٌّ سعيد للمعضلة التي تُواجهها البشرية كلها، وهي أن تكون حيًّا ولكن مصيرك المحتوم هو الموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤