الفصل الثالث

العالم فوق القمري

حتى العصر الحديث، كانت السماء تشكِّل حرفيًّا نصف عالم الناس اليومي؛ فلم يكن ممكنًا تجاهل السماء وتحركاتها. الأمر الساخر والمأساوي أنه بينما يعطينا العلم الحديث الآن تفسيرات لآليات عمل العالم السماوي أفضل من أي وقت مضى، فإن التكنولوجيا الحديثة تسببت في أن معظم الناس لم يعودوا قادرين على مشاهدة تحركات هذا العالم الليلية بأعينهم، والشعور بوجوده، والتعجب لجماله؛ فهذا الأمر يتطلب الآن مكانًا مكشوفًا بعيدًا عن التلوث الضوئي والصناعي؛ لنشهد تأثير السماء بالليل كما فعل أسلافنا. فقبل اختراع الكتابة بوقت طويل، كان القدماء يعرفون التحركات التي تحدث في السماء، إلا أن التوصل إلى كيفية تفسير هذه التحركات ظل يشغل أصحاب العقول الفطنة حتى القرن الثامن عشر. ويمثل الكشف التدريجي عن البِنَى الخفية للسماء حكاية رئيسة في تاريخ «الثورة العلمية». وأشهر شخصيات هذا العصر — مثل كوبرنيكوس، وكبلر، وجاليليو، ونيوتن — هم أبطال هذه الحكاية. والواقع أن التطورات التي شهدها علم الفلك ظلت زمنًا طويلًا حكاية هذه الفترة، ولها دور كبير في منحها مسمَّى «الثورة».

اعتبر المفكرون في عام ١٥٠٠ أن الكون ينقسم إلى عالمين: «العالم تحت القمري» المكون من كوكب الأرض وكل ما يعلوه من أشياء وصولًا إلى القمر، و«العالم فوق القمري» المكون من القمر وكل ما وراءه. وهذا التقسيم وضعه أرسطو على أساس الملاحظة الشائعة عن التناقض بين السماء الثابتة والأرض دائمة التغير. في العالم تحت القمري، لا تتوقف العناصر الأربعة — التراب، والماء، والهواء، والنار — عن الاتحاد والانفصال والاتحاد مرة أخرى؛ فتظهر أشياء جديدة، وتختفي أشياء قديمة. أما العالم فوق القمري فيختلف عن ذلك تمامًا؛ إنه عالم الثبات. فعلى مدى قرون قبل أرسطو، شاهد علماء الفلك الكواكب والنجوم تتبع مساراتها بانتظام تام. وقد أوحى هذا الثبات لأرسطو بأن العالم فوق القمري يتكون من مادة واحدة متجانسة؛ أي عنصر خامس أطلق عليه اسم «الأثير» (وأطلق عليه الكُتَّاب فيما بعد اسم «الجوهر») لا يمكن أن يتغير أو يتحلل؛ لأنه نقي وأوَّلي.

خلفية من وحي الملاحظة

بدأ الإغريق رحلة السعي الطويلة لتفسير الحركات السماوية فيزيائيًّا ورياضيًّا، وهذه الحركات أكثر تعقيدًا ونظامًا مما يدرك معظم الناس اليوم. كلنا نألَف الحركة اليومية للشروق والغروب. فكل الأجرام السماوية — الشمس، والقمر، والكواكب، والنجوم — تشرق وتغرب مرة كل يوم في حركة من الشرق إلى الغرب عبر السماء. وتحتاج الحركات السماوية الأخرى مراقبة أكثر تأنيًا. تستغرق النجوم — التي تسمى «نجومًا ثابتة» لأنها لا تتحرك بالنسبة لبعضها البعض — أقل قليلًا من ٢٤ ساعة لكي تعود إلى نفس الموضع في السماء. وهذا يعني أن كل نجم يشرق مبكرًا قليلًا (نحو ٤ دقائق) كل ليلة، ومن ثم إذا نظرت إلى السماء كل ليلة في التوقيت نفسه، فسوف ترى كوكبات من النجوم تتحرك رويدًا رويدًا من الليل إلى الليل في أقواس كبيرة حول — إذا كنت في نصف الكرة الشمالي — النجم الوحيد الذي لا يتحرك أبدًا، وهو النجم القطبي «بولاريس»، الذي يوجد عند نهاية كوكبة «الدب الأصغر» (أو التي يُطلق عليها «بَنَات نَعْش الصغرى»). وتستغرق النجوم عامًا لتعود إلى نفس الموقع في السماء في نفس الوقت من الليل. والانطباع الذي يصل إلينا أن قشرة هائلة مرصعة بالنجوم تدور حول الأرض مرة كل ٢٣ ساعة و٥٦ دقيقة.

تتحرك الشمس حركة أكثر بطئًا قليلًا فتستغرق ٢٤ ساعة كاملة لكل دورة، بمعنى أنها من يوم لآخر تغير موقعها بالنسبة للنجوم الأخرى، فتتحرك حركة بطيئة من الغرب إلى الشرق بالنسبة لستار النجوم الخلفي لها، وتستغرق عامًا قبل أن تنتظم في صف مع نفس النجوم مرة أخرى. ويتحرك القمر حركة مشابهة، لكنها تكون ملحوظة أكثر؛ فالقمر يطلع متأخرًا نحو ٥٠ دقيقة كل ليلة؛ لذا فإنك إن بحثت عنه في نفس الوقت على مدار ليالٍ متتابعة، فستجده قد ابتعد ناحية الشرق كل ليلة. وبعد ٢٩ يومًا، يعود القمر إلى المكان الذي بدأ منه. الكواكب أيضًا تفعل نفس الشيء، لكن بانحراف غريب يحتاج كثيرًا إلى تفسير؛ فهي تتصرف معظم الوقت كالشمس والقمر، فتتحرك حركة بطيئة من الغرب إلى الشرق أمام ستار النجوم الخلفي، لكنها من وقت لآخر تبطئ، ثم تتوقف وتستدير وتتحرك في الاتجاه المضاد؛ أي من الشرق إلى الغرب فيما يسمى «الحركة التراجعية». وبعد برهة، تتوقف مرة أخرى، ثم تستدير وتستأنف حركتها المعتادة.

أطلق الإغريق القدماء كلمة planet أي «كوكب» (ومعناها المتجول) على جميع الأجرام السماوية السبعة التي يبدو أنها تتحرك أمام خلفية النجوم الثابتة. وهذه الأجرام السبعة هي: الشمس، والقمر، وعطارد، والزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل، لكن الكواكب لا تتجول بعيدًا؛ فحركاتها مقصورة على دائرة محدودة في السماء تسمى «دائرة الأبراج». وتنقسم دائرة الأبراج إلى اثني عشر قسمًا متساويًا في الطول، يحتوي كلٌّ منها على كوكبة من النجوم أو «برجًا» مثل: الحمل، والثور، والجوزاء، إلخ. ومن ثم، فبينما تقوم الكواكب بتحركاتها الفردية أمام ستار النجوم الخلفي تبدو وكأنها تتحرك خلال دائرة الأبراج من كوكبة إلى الكوكبة التالية، ومن برج إلى البرج التالي. والبرج الذي ينتسب إليه الشخص هو البرج الذي كانت الشمس بداخله في اليوم الذي وُلد فيه هذا الشخص. سوف نتطرق إلى المزيد عن التنجيم بعد قليل.

خلفية تاريخية

كان أفلاطون مقتنعًا بأن السماء تتحرك تبعًا لقوانين رياضية متناغمة، وكان متأثرًا في ذلك بأفكار الفيثاغوريين، وهم جماعة دينية سرية تعلَّموا أن الرياضيات — بما فيها من أعداد، وأشكال هندسية، ونسبة وتناسب — هي الأساس الحقيقي لكل من الكون والحياة المحكومة أفضل ما يكون. اعتبر أفلاطون ومن تأثروا به حتى العصر الحديث أن «الخالق» هو هَندسيٌّ متمرِّس، غير أن الحركات الشاذة للكواكب بدت لهم غير متسقة مع فكرة العالم الرياضي المنظَّم جيدًا. ومن ثم قال أفلاطون إن حركة تلك الكواكب «تبدو» شاذة فقط، وإنه يوجد تنظيم إلهي لا يظهر أمامنا. ولأنه كان يعتبر الدائرة أكثر الأشكال اكتمالًا وانتظامًا؛ وأن الحركة داخل دائرة تكون بلا بداية ولا نهاية؛ ومن ثم تكون أبدية، فقد تحدَّى تلاميذه أن يفسروا الحركات الظاهرية للكواكب باستخدام توافيق من «الحركات الدائرية المنتظمة». وقد ألهم هذا التحدي الفلكيين على مدار أكثر من ألفَي سنة.

fig2
شكل ٣-١: مقطع عرضي من صورة مبسطة لنموذج دوائر أرسطو متحدة المركز.
fig3
شكل ٣-٢: (إلى اليمين): لو كانت الأرض في مركز دائرة الشمس، كانت الحركة السنوية الظاهرية للشمس ستنقسم إلى أربعة أقواس متساوية، مما سيجعل فصول السنة متساوية الأطوال، لكن الواقع أن فصل الصيف أطول من فصل الشتاء. (إلى اليسار): الأرض البعيدة عن المركز في منظومة بطليموس تقسِّم مسار الشمس إلى أربعة أقواس غير متساوية الأطوال، وهو ما يتطابق تمامًا مع فصول السنة غير متساوية الأطوال. وهذا الترتيب يفسر أيضًا السبب في أن الشمس تبدو أكثر بطئًا في حركتها في فصل الصيف؛ لأنها تكون حينئذ أكثر بعدًا عن الأرض.
fig4
شكل ٣-٣: (إلى اليمين): فلك تدوير وفلك حامل لأحد الكواكب في منظومة بطليموس. يتحرك الكوكب عكس حركة عقارب الساعة (وذلك بالنظر إلى القطب الشمالي للأرض) على فلك التدوير، بينما فلك التدوير محمول على الفلك الحامل في حركة عكس اتجاه عقارب الساعة أيضًا. (إلى اليسار): حركة الكوكب الظاهرية الناتجة عن الحركتين المجتمعتين لفلك التدوير والفلك الحامل. عندما يكون الكوكب خارج الفلك الحامل، فإنه يبدو أكثر عتامة وأنه يتحرك من الغرب إلى الشرق؛ وعندما يكون داخله، فإنه يبدو أكثر سطوعًا لأنه يكون أقرب، وحينما يكون أقرب ما يمكن فإنه يتحرك من الشرق إلى الغرب (الحركة التراجعية).
fig5
شكل ٣-٤: نسخة معدلة لنموذج ابن الهيثم ذي الكرات السميكة من تبسيط جورج بيورباخ، وردت في طبعات القرن الخامس عشر وما تلاه من الكتاب التعليمي الفلكي «الكرة» لساكروبوسكو. الصورة مأخوذة من طبعة فينيسيا الصادرة عام ١٤٨٨، وتوضح كرة الشمس.1
افترض يودوكسوس — أحد تلامذة أفلاطون — أن الكون مكون من دوائر متحدة المركز مثل طبقات نبات البصل، مع وجود الأرض في المركز. تدور كل دائرة بثبات، إلا أن كل كوكب يتلقى الحركة المجتمعة لعدة دوائر، وهذا يؤدي (تقريبًا) إلى الحركة الملحوظة. كانت منظومة يودوكسوس نموذجًا رياضيًّا؛ فلم يكترث لما يحدث في السماء من الناحية الفيزيائية، أو هل توجد كرات في السماء بالفعل أم لا، بل كانت الفكرة تفسير الملاحظات رياضيًّا. إلا أن أرسطو أراد نموذجًا فيزيائيًّا؛ فأضفى على دوائر يودوكسوس صبغة حقيقية؛ أي أجسام جامدة تحمل الكواكب (بالمعنى الحرفي)، وفسر كيفية انتقال الحركة من إحدى الدوائر إلى الدائرة التي تليها، مثل تروس ساعة سماوية، وكان إنجازُه تأسيسَ علمَيْ فلكٍ وفيزياء يعملان معًا في تناغم (الشكل ٣-١).
مشكلة نموذج الدوائر متحدة المركز أنه أخفق في تفسير الملاحظات تفسيرًا دقيقًا. فعلى سبيل المثال، تتغير الكواكب في سطوعها وكأنها تكون أقرب للأرض أحيانًا، وأبعد عنها أحيانًا أخرى، فضلًا عن أن فصول السنة ليست متساوية في الطول، ولم يكن هذا ولا ذاك ليَحدُث لو كانت الكواكب محمولة على دوائر تقع الأرض في مركزها (الشكل ٣-٢).

تطرَّق الفلكيون لاحقًا إلى هذه المشكلات، وبلغت تلك المحاولات ذروتها في منظومة كلوديوس بطليموس (نحو عام ٩٠ ميلادية–نحو عام ١٦٨ ميلادية). فلكي يحل بطليموس مشكلة عدم تساوي الفصول، استخدم نظامًا لا متراكزًا (أي غير متحد المركز)؛ بمعنى أنه نقل الأرض بعيدًا عن المركز. جعل بطليموس في منظومته لكل كرة مركزها الخاص بها دون أن يتطابق أي منها مع الأرض.

ولكي يفسر بطليموس مواقع الكواكب تفسيرًا أفضل، وليحل مشكلة التغير في درجة سطوعها؛ استخدم «أفلاك تدوير» (الشكل ٣-٣). فكل كوكب يتحرك في مسار دائري صغير يرتكز على — ويُحمَل في دورانه بواسطة — دائرة أكبر (تسمى الفلك الحَامِل) حول الأرض. تتحد حركتا فلك التدوير والفلك الحامل معًا لإعطاء الكوكب مسارًا حلقيًّا يفسر جيدًا الحركات الملحوظة، والتي يكون فيها الكوكب أقرب إلى الأرض أحيانًا، ومن ثم يبدو أكثر سطوعًا.
قدمت منظومة بطليموس توقعات جيدة بشأن مواقع الكواكب، لكنها أرضت المهتمين بالرياضيات أكثر مما أرضت المهتمين بالفيزياء. تقول فيزياء أرسطو إن الأجسام الثقيلة تسقط تجاه مركز الكون، وهذا هو السبب وراء وقوع الأرض الكروية في ذلك الحيز، ووراء سقوط الأجسام الثقيلة. لكن الأرض في منظومة بطليموس تبعد عن المركز؛ فلماذا لا تنتقل إلى المركز؟ ولماذا تسقط الأجسام الثقيلة إلى موقع آخر غير المركز؟ هذا التضارب بين النموذج الرياضي والمنظومة الفيزيائية أزعج المؤلفين العرب في العصور الوسطى، في وقت لم تكن فيه أعمال أرسطو وبطليموس معروفة في أوروبا. تبنى العالم العربي الحسن بن الهيثم (حوالي عام ٩٦٥–١٠٤٠) حلًّا وسطًا؛ فتضمنت منظومته كرات مركزها الأرض، وهو ما أرضى الفيزيائيين، لكن هذه الكرات كانت سميكة وصلدة بدرجة تكفي لاحتوائها أنفاقًا دائرية ليست الأرض مركزها تتحرك خلالها الكواكب على أفلاك التدوير والأفلاك الحاملة، وهو ما يفسر ما نراه من مشاهدات (الشكل ٣-٤).

ورث علماء الفلك الأوروبيون في العصور الوسطى هذه الأفكار والمسائل، واستمروا — مثل أقرانهم العرب — في تنقيح المنظومة وتحديثها، واجتهدوا في الحفاظ على أعلى درجات الدقة في التنبؤ بمواقع الكواكب، أو حاولوا — في أحيان أخرى أقل — وضع منظومة مُرضية من الناحية الفيزيائية.

النماذج الفلكية في أوائل العصر الحديث

قضى نيكولاس كوبرنيكوس (١٤٧٣–١٥٤٣) معظم حياته كاهنًا بالكنيسة الكاتدرائية بمدينة فراونبورج (وتسمى حاليًّا فرومبورك في بولندا). درس القانون الكهنوتي في بولونيا والطب في بادوا، وحصل على درجة الدكتوراه في القانون في فيرارا عام ١٥٠٣. وبينما كان في بولونيا بدأ في دراسة علم الفلك، ونحو عام ١٥١٤ كتب ملخصًا لفكرته القائلة إن الشمس — لا الأرض — هي مركز النظام الكوكبي. وفي منظومته شمسية المركز، تدور الأرض حول محورها مرة واحدة يوميًّا، مما ينتج عنه المشهد المألوف من دوران الكون كله حول الأرض، وما يبدو كحركة الشمس خلال دائرة البروج هو في حقيقته انخداع بصري سببه حركة الأرض حول الشمس، وما نلاحظه من حركة تراجعية للمريخ والمشتري وزحل لا تنتج عن حركات هذه الكواكب، بل عن اتحاد حركاتنا وحركاتها كلما تجاوزت الأرض أحد هذه الكواكب في دورانها حول الشمس (الشكل ٣-٥). وحده القمر يدور حول الأرض.
fig6
شكل ٣-٥: تفسير كوبرنيكوس للحركة التراجعية لأحد الكواكب الخارجية، أو الأبعد من الأرض عن الشمس (المريخ، أو المشتري، أو زحل). الحركة التراجعية ليست سوى انخداع بصري يحدث حينما تتجاوز الأرض أحد هذه الكواكب.
انتشرت دراسة كوبرنيكوس في مخطوطة، وذاع صيته في مجال الفلك، حتى إنه عام ١٥١٥ حينما كان أحد مجالس الكنيسة يدرس كيفية تحسين التقويم اليوليوسي القديم — الذي كان يُستخدم منذ عصر الرومان، واحتاج في تلك الآونة إلى إصلاح وتغيير — كتب أعضاء المجلس إلى كوبرنيكوس يلتمسون رأيه (أخبرهم كوبرنيكوس أن طول السنة الشمسية يحتاج إلى تحديد أكثر دقة أولًا). إلا أن كوبرنيكوس كان متحفظًا في نشر شرح كامل لمنظومته، فاستمر في تنقيحها على مدى أكثر من ٢٥ عامًا، ولولا الإلحاح الشديد من جانب العديد من رجال الكنيسة البارزين، لربما لم تكن لتُنشَر أبدًا؛ فعام ١٥٣٣، على سبيل المثال، ألقى يوهان ألبريشت فيدمانستتر — السكرتير الشخصي للبابا — محاضرة عن نظام كوبرنيكوس أمام البابا كليمنت السابع وعدد من الكاردينالات، وكتب كاردينال كابوا نيكولاوس شونبرج إلى كوبرنيكوس:

علمتُ أنك تقول إن الأرض تتحرك، وإن الشمس تحتل المركز الأدنى؛ ومن ثم فإنها مركز العالم … وأنك قد أعددت شروحًا لهذه المنظومة الفلكية … ولهذا فإنني ألحُّ عليك في نقل اكتشافك إلى العلماء.

لكن كوبرنيكوس استمر في تردده، وظل منشغلًا بعمله الكهنوتي، ومُعربًا عن خوفه من انتقادات الآخرين بسبب حداثة منظومته.

عام ١٥٣٨، قَدِم أستاذ فلك صغير السن يدعى جورج يواخيم ريتيكوس مبعوثًا من جامعة فيتنبرج بأمر من ميلانكثون ليَدْرس مع كوبرنيكوس. جمَّع ريتيكوس ملخصًا لأفكار كوبرنيكوس ونشره، وكانت الاستجابة إيجابية للغاية، حتى إن كوبرنيكوس وافق أخيرًا على نشر مخطوطته بالكامل، فدفع بها إلى ريتيكوس ليشرف عليها أثناء الطباعة. شرع ريتيكوس في المهمة التي أُسندت إليه، لكنه حصل بعدها على وظيفة في مدينة لايبسيج، فأسند المشروع إلى قس لوثري يدعى أندرياس أوزياندر. انتهى أوزياندر من عملية النشر، وأخيرًا ظهر كتاب «عن مدارات الأجرام السماوية» عام ١٥٤٣، ووصلت منه نسخة إلى كوبرنيكوس قبل أن يقضي نحبه مباشرة.

لم يسفر ظهور الكتاب عن الانتقاد الذي كان يخشاه كوبرنيكوس. قرأه الناس، لكن لم يقتنع به سوى قليل ممن قرءوه، وربما لم يزد عدد من اقتنعوا بآراء كوبرنيكوس عن اثني عشر شخصًا على مدار ما تبقى من القرن. لماذا؟ لم يكن اتساق منظومة كوبرنيكوس شمسية المركز مع البيانات المستقاة من الملاحظة أفضل بأي حال من المنظومة أرضية المركز، فضلًا عن أنها لم تكن أبسط من الناحية الفيزيائية. الواقع أن كوبرنيكوس اضطر إلى الاستمرار في استعمال أفلاك التدوير والشمس البعيدة عن المركز لكي يجعل منظومته متسقة مع الملاحظات. والأخطر من هذا أن فكرة تحرك الأرض تناقضت مع أساسيات الفيزياء، ومع المنطق، وربما مع الكتاب المقدس؛ فالأجسام الثقيلة مثل الأرض تسقط طبيعيًّا نحو مركز الكون؛ أي أدنى نقطة فيه، ويفسر مبدأ «المكان الطبيعي» هذا سبب سقوط الأشياء. فكيف تبقى الأرض بكاملها مُعلَّقة بعيدة هكذا عن المركز؟ يشير المنطق إلى أننا لا نتحرك. فلكي تدور الأرض مرة يوميًّا، سيتعين دورانها بسرعة هائلة، لكننا لا نشعر بأي حركة، فضلًا عن أن حركة الطيور والسحب لا تتأثر بسبب الدوران السريع للأرض أسفلها. ناقش بعض مفكري العصور الوسطى احتمالية دوران الأرض، واستنتج نيكول أوريزم (حوالي ١٣٢٥–١٣٨٢) أن جميع الحركات نسبية، وأنه من دون وجود نقطة مرجعية يكون من المستحيل تحديد ما إذا كانت الأرض أم السماء تدور، لكنه استنتج أن الاحتمال الأكبر هو ثبوت الأرض ودوران السماء. قد يذكر قارئو الإنجيل ممن يأخذون النص على ظاهره مقاطع تتحدث عن ثبات الأرض وتحرك الشمس، رغم أن التأويلات تتفاوت كثيرًا. وأخيرًا، إذا كانت الأرض تتحرك حول الشمس، فمن المفترض أن تُظهر النجوم اختلافًا في المنظر؛ أي تغيرًا طفيفًا في مواقعها النسبية الظاهرة كلما تحركت الأرض من أحد جانبي مدارها إلى الآخر، لكن لم يُرصد أي اختلاف في منظر النجوم؛ مما يعني أحد أمرين: إما أن الأرض لا تتحرك، أو أن النجوم بعيدة إلى حدٍّ يتعذر معه رصدها. قدَّر كامبانوس، من مقاطعة نوفارا الإيطالية في القرن الثالث عشر، أن زحل يبعد نحو ٧٣ مليون ميل عن الأرض — وهي مسافة مذهلة حتى للأكثر ترحالًا ممن عاشوا في العصور الوسطى — وأن النجوم الثابتة تقع بعده مباشرة. قدَّر كوبرنيكوس أن كرة زحل تبعد نحو ٤٠ مليون ميل، لكن عدم رصد اختلاف في منظر النجوم كان يعني (طبقًا لحسابات أُجريتْ فيما بعدُ) أن النجوم كانت تبعد ١٥٠ مليار ميل على الأقل. وقد بدا هذا الفراغ الشاسع منافيًا للعقل في رأي قارئي كوبرنيكوس (الواقع أن أقرب نجم إلى الأرض يبعد مسافة تزيد ١٧٠ مرة عن أكثر التقديرات السابقة تواضعًا، التي وُضعت على أساس انعدام الاختلاف في منظر النجوم، وهي ظاهرة لم تُرصد حتى عام ١٨٣٨).

يبدو أن هناك عدة عوامل أقنعت كوبرنيكوس بفكرة مركزية الشمس حتى دون وجود دليل قائم على الملاحظة؛ ففي خطاب الإهداء الذي كتبه كوبرنيكوس إلى البابا بول الثالث، أشار إلى منظومة بطليموس بما فيها من لامركزية، وأفلاك تدوير، وتعامل مع كل كوكب على حدة كأنه «وحش غريب». ولمَّا كان الكون قد «خلقه أفضل الحرفيين وأكثرهم تنظيمًا»، على حد قوله، فلا بد أن يكون الكون متناغمًا. رأى كوبرنيكوس — بوصفه مهتمًّا بالإنسانيات — نفسه يتخلص من «إضافات» سابقة ليعود إلى تحدي أفلاطون الأصلي المتمثل في إظهار الطبيعة المنظَّمة للحركات السماوية. وبسبب قلقه من حداثة منظومته، حاول أن يقلل من المظهر التجديدي فيها باقتباس أقوال من سبقوه من القدماء — أمثال أريستارخوس الساموسي، وفيثاغورث — بل إنه أعاد تأويل بعض مقاطع الإنجيل ليعضد فكرة مركزية الشمس.

مع ذلك، يمكن أن يقدِّر المرء نظام كوبرنيكوس من دون أن يعتقد في صحته؛ إذ كان من الأسهل حساب الجداول المستخدمة في تحديد مواقع الكواكب في منظومة شمسية المركز؛ ومن ثم تبنَّاه بعض الفلكيين باعتباره «خيالًا مواتيًا». كوبرنيكوس نفسه قدَّم نظام مركزية الشمس على أنه وصف صحيح للعالم، إلا أن أوزياندر قوَّض هذه الفكرة حينما أضاف خلسةً مقدمة (غير موقَّعة باسمه) إلى كتاب كوبرنيكوس. كتب أوزياندر أننا «جاهلون كل الجهل بالأسباب الحقيقية وراء حركات الكواكب»، وأنه:

ليس من الضروري أن تكون هذه الفرضيات صحيحة أو حتى مرجحة؛ بل يكفي شيء واحد؛ وهو أنها تعطي حسابات تتوافق مع الملاحظات … لا ينبغي لأحد أن يتوقع شيئًا أكيدًا من علم الفلك؛ لأنه لا يستطيع تقديم مثل هذا الشيء، ولا ينبغي لأحد أيضًا أن يتبنى شيئًا استُحضر لغرض آخر وكأنه حقيقة، مخافة ترك هذا المجال أكثر حمقًا مما كان عليه من قبل.

لو لم يكن قد سبق لكوبرنيكوس الإصابة بسكتة دماغية، لربما كان قد أصيب بها عندما رأى كلمات أوزياندر. استشاط ريتيكوس غضبًا، ومحا مقدمة أوزياندر من نسخته من الكتاب. وهكذا عاد التوتر من جديد بين النماذج الرياضية والنظم الفيزيائية. كان أغلب الفلكيين مهتمين في المقام الأول بمواقع الكواكب في أوقات معينة، ولم يكن يعنيهم هل تدور الشمس حول الأرض أم تدور الأرض حول الشمس، والكثيرون منهم كانوا يتشككون بشأن إمكانية الفصل في ذلك. كان يكفي أي نظرية فلكية أن تقدم جداول وحسابات لمعرفة مواقع النجوم الصحيحة؛ فالنتائج العملية تعلو على النظرية في رأي الكثيرين. ولكي نفهم هذا الموقف، يجب أن ندرك أن القوة الدافعة الأساسية وراء الدراسات الفلكية منذ الزمن السابق لبطليموس كان علم التنجيم؛ وهو نشاط عملي يتطلب القدرة على حساب مواقع الكواكب حسابًا دقيقًا، وعادةً ما يكون هذا قبل عدة سنوات في الماضي، أو بعد عدة سنوات في المستقبل.

التنجيم: علم الفلك التطبيقي

قام علم الفلك («قوانين النجوم») على قياس وحساب مواقع الأجرام السماوية، وافترض أنظمة كونية، بينما حاول علم التنجيم («دراسة النجوم»، على غرار علم الجيولوجيا والأحياء وغيرها) تفسير تأثيرات الأجرام السماوية على الأرض، والتنبؤ بهذه التأثيرات. وبصفة عامة، فقد اضطلع بهاتين المحاولتين (الأولى نظرية والثانية عملية) الأشخاص عينهم؛ فكثير من الفلكيين في الفترة الحديثة المبكرة كانوا يتكسبون في الأساس من الاشتغال بالتنجيم. ولا تخلط بين علم التنجيم في العصور القديمة أو الوسطى أو الحديثة المبكرة وبين ما تقرؤه في صحف اليوم من تفاهات عن خريطة الأبراج. كان التنجيم ممارسة جدية ومعقدة تقوم على فكرة التأثير المؤكد للأجرام السماوية على الأرض، وهو جزء أساسي من مفهوم العالم المترابط. وأغلب علم التنجيم في العصور الوسطى والفترة الحديثة المبكرة لم يكن «سحريًّا» أو خارقًا أو غير منطقي، بل اعتمد على آليات طبيعية هي جزء من الطريقة التي يرتبط بها العالم بعضه مع بعض. يصلنا الضوء من النجوم والكواكب، فلمَ لا يكون هناك تأثير إضافي يصاحب هذا الضوء مثلما يعمل الضوء الصادر عن نار مشتعلة على تدفئة الأشخاص والأشياء على بُعد؟ ومن السهل ملاحظة التأثيرات السماوية على الأرض، مثل: علاقة القمر بحركة المد والجزر، أو ارتباط وضع الشمس في دائرة البروج بتغيرات الطقس السنوية. التأثيرات السماوية على جسم الإنسان واضحة أيضًا مثل تزامن الدورة القمرية مع الطمث في النساء. تبدو حقيقة التأثيرات السماوية واضحة للغاية لا خلاف عليها. أما الخلافات العديدة حول علم التنجيم فكانت تتضمن مدى هذه التأثيرات، وكيفية التنبؤ الدقيق بآثارها. وقد أسفرت منظومة التأثيرات المتشابكة لسبعة كواكب تغير مواقعها باستمرار بالنسبة لبعضها البعض («المراكز الفلكية»)، وتتحرك باستمرار عبر اثني عشر برجًا في دائرة البروج — هي نفسها تمر دائمًا عبر اثني عشر «منزلًا» (مواقع الكواكب بالنسبة للأفق) — عن وجود منظومة بالغة التعقيد. ويمكن تشبيه تعقيد الدلالات والدلالات المضادة والمعروفات والمجهولات في العصر الحديث بمهمة تحديد العوامل المؤدية إلى التغير المناخي على كوكب الأرض، أو التنبؤ بالاتجاهات الاقتصادية المستقبلية. وفيما يتعلق بالأمر الثاني، ربما يكون المنجمون في الفترة الحديثة المبكرة قد حققوا قدرًا أعلى من النجاح.

اشتمل علم التنجيم على عدة فروع متراكبة؛ فعلم التنجيم الأرصادي سعى إلى التنبؤ بالطقس على مدى عام قادم، وكان العديد من ممارسي هذا النشاط — الذين غالبًا ما كانوا يسمَّوْن «رياضيين»، وهو دليل على الحسابات التي يحتاجها التنجيم — يكسبون قوت يومهم بإعداد روزنامات تحتوي على التقاويم، والدورات القمرية، وتواريخ الكسوف والخسوف، وتنبؤات الطقس (مثل دورية «روزنامة المزارعين» في وقتنا الحاضر)، وتكهنات بأهم الصيحات أو الأحداث. وقد ساعدت الطباعة في انخفاض تكلفة هذه المطبوعات وانتشارها على نطاق واسع. واستخدم الأطباء علم التنجيم الطبي لاقتراح الأوقات الحاسمة للتدخل العلاجي، ومسار الأمراض وأسبابها المحتملة (انظر الفصل الخامس). واستخدم علم التنجيم الولادي مواقع الكواكب وقت ومكان ميلاد المرء لتحديد التأثيرات التي تركتها على الوليد. والخليط المحدَّد من التأثيرات الكوكبية من شأنه أن ينتج «مزاجًا» فريدًا في النظام الخِلطي للإنسان، مما يؤدي إلى ظهور ميول ونزعات معينة. وهذه النزعات (التعرض لأمراض معينة، أو الميل للغضب أو الكسل أو الكآبة وهكذا) يمكن أن تزداد حدتها مؤقتًا بفعل الانتظامات الكوكبية اللاحقة. ومن ثم كان الهدف من هذا العلم التنجيمي الحصول على معلومات عن التكوين الطبيعي لشخص ما؛ لكي نكون مُدركين لمواطن قوته أو ضعفه؛ ولتقديم إشعار مسبق عن الأوقات الخطرة أو الصحية المحتملة. وفي صور أكثر حدة، تداخلت هذه الممارسة مع نوع من التنجيم التحكمي الذي تعرَّض للانتقاد بسبب جبريته التي لا يمكن قبولها، حيث يفترض أن التأثيرات التنجيمية توجِّه أفعالنا ومصائرنا. أدان اللاهوتيون هذه المفاهيم باعتبارها انتهاكًا للإرادة الحرة للإنسان. وقد أجمع العلماء في الفترة الحديثة المبكرة على أن النجوم تجعلنا ننزع لأمور معينة، لكنها لا تجبرنا على شيء، وأن الشخص الحكيم هو الذي يتحكم في النجوم. باختصار، يمكن للبشر اختيار أفعالهم دائمًا، مع أن الممارسة الحرة للإرادة ربما تكون عرضة لتأثيرات خارجية (مثل انخفاض القدرة على التعقل بسبب غضب مؤقت ناتج عن اختلال خِلطي سببه موقع كوكب المريخ). الواقع أنه يمكن عقد مقارنة بين التنجيم في الفترة الحديثة المبكرة، وبين فكرة «الطبع مقابل التطبع» الحالية فيما يتعلق بمحاولاتهما المشتركة لتفسير السلوك الإنساني. والمفارقة أن الفرق الملحوظ بينهما هو ما يبدو على المعاصرين من نسيان سبق الإرادة الحرة.

حاول علم التنجيم التحكمي تحديد التواريخ المواتية للأحداث المهمة؛ فقد استخدم عالِم الرياضيات وممارِس البراعة الطبيعية جون دي (١٥٢٧–١٦٠٨ / ١٦٠٩) علم التنجيم لكي يختار أنسب يوم لتتويج إليزابيث الأولى. ووُضعت خريطة بروج من أجل تأسيس أكاديمية «دي لينشي» — وهي واحدة من أوائل الجمعيات العلمية — وكذلك لتحديد تاريخ لوضع حجر الأساس لكنيسة سان بيتر الجديدة في روما. كان الاختيار يقع على بعض التواريخ التنجيمية لا للاستفادة من «تأثيرٍ» مُواتٍ، بل لإضافة قيمة إلى الحدث، مثل الطريقة التي اختار بها العلماء الأمريكيون تاريخ هبوط مسبار الفضاء على كوكب المريخ ليتوافق مع الاحتفال بيوم الاستقلال في الولايات المتحدة. وقد سعت صور أخرى من علم التنجيم التحكمي إلى التنبؤ بأحداث مستقبلية مثل الحروب والوفيات. وهكذا ابتعد أولئك المنجمون عن السببيَّة «الطبيعية» التي كان يُعتقد أن علم التنجيم في الفترة الحديثة المبكرة يعمل وفقها. كانت إحدى وسائل التغلب على هذه المشكلة التفكير في أحداث سماوية معينة — المذنبات تحديدًا — لا باعتبارها «أسبابًا»، بل باعتبارها «نُذُرًا»؛ أي علامات مُرسَلة من السماء لأحداث ستقع. وكان الاهتمام بتلك النذر السماوية ملحوظًا أكثر في الشمال؛ أي أوروبا البروتستانتية. وأحدُ أسبابِ ذلك مقدمةٌ كتبها فيليب ميلانكثون للطبعات البروتستانتية من كتاب «الكرة» لساكروبوسكو — وهو كتاب تعليمي أساسي في علم الفلك — حيث أكد فيها على أهمية التنجيم في قراءة علامات الرب في السماء. واختصارًا، كان علم التنجيم بأنواعه المختلفة مصدرًا لمعلومات مفيدة من أجل حياة أفضل. ويؤكد انتشاره في الفكر في العصر الحديث المبكر كيف أن العالم فوق القمري كان يمثل نصف العالم اليومي للبشر.

التغيرات السماوية والتناغمات الإلهية

ساهمت الاهتمامات التنجيمية بالنذر السماوية في الظهور الأول للفلكي والنبيل الدنماركي تيكو براهي (١٥٤٦–١٦٠١)؛ ففي نوفمبر ١٥٧٢، شاهد تيكو جسمًا لامعًا في مجموعة نجوم «كاسيوبيا» حيث لا يُفترض وجود أي أجسام لامعة. تعجَّب تيكو وتساءل عن ماهية هذا الجسم وما يعنيه. وفي روزنامته التنجيمية لعام ١٥٧٣، حاول جاهدًا تفسير هوية هذا الجسم، وخلص إلى أنه نذير إلهي بتغيرات عنيفة ستحل في المستقبل. راقب تيكو تلك النقطة الضوئية اللامعة، فلاحظ أنها لا تتحرك مثلما يفعل المذنب مثلًا. حاول هو وآخرون في أنحاء أوروبا أن يقيسوا اختلاف المنظر اليومي لهذا الجسم ليحددوا بُعده عن الأرض، لكنهم لم يقيسوا أي اختلاف؛ بمعنى أنه كان أبعد بكثير جدًّا عن القمر — في العالم فوق القمري كان يُعتقد أن العالم لا يتغير — لكنه كان نجمًا جديدًا (ما شاهده تيكو كان مستعرًا أعظم (سوبر نوفا supernova)، وقد حُدِّد موقع البقايا المتمددة لذلك الانفجار العنيف عام ١٩٥٢. ولفظ nova مأخوذ من المصطلح اللاتيني الذي أطلقه تيكو على ذلك الجسم السماوي؛ وهو stella nova أو النجم الجديد).

بعد ذلك بقليل، وتحديدًا عام ١٥٧٧، ظهر مذنب لامع. كان أرسطو قد درَّس أن المذنبات — مثل الشهب والنيازك — ظواهر تحت قمرية تنتج عن اشتعال أبخرة سريعة الاشتعال في طبقات الجو العليا. ولأنها أجسام شاردة متغيرة، فإنه لم يكن لها مكان في العالم فوق القمري الثابت. على الصعيد التنجيمي، استنتج تيكو أن المذنب الذي ظهر عام ١٥٧٧ هو استمرار للتحذير الذي أطلقه النجم الجديد، لكنه رصد في هذه المرة اختلافًا يوميًّا في منظر المذنب. وأشارت قياساته — التي أكدها آخرون — إلى أن المذنب كان بعيدًا للغاية عن القمر؛ تحديدًا في كرة الزهرة. ولاحظ تيكو نفس الشيء عام ١٥٨٥ حينما ظهر مذنب لامع آخر. وقدمت هذه المذنبات دليلًا آخر على وجود تغيرات في السماء «الثابتة»، ودلَّت مواقعها على أنها كانت تمر «عبر» الكرات الكوكبية، مما يعني أنه لا توجد كرات صلدة تحرِّك الكواكب. فما الذي يُبقي الكواكب إذن في مساراتها المنتظمة؟ إن هذا التحرر العجيب للكواكب من فكرة الكرات الصلدة يعني أن مسارات الأجرام السماوية يمكن أن يتقاطع بعضها ببعض؛ وهو ما أدى بدوره إلى وضع تيكو منظومة جديدة للسماء جمع فيها بين ملاحظاته وبين أفضل الأجزاء في منظومتي بطليموس وكوبرنيكوس، مع تلافي الأجزاء المثيرة للاعتراض في كلتا المنظومتين. في منظومة تيكو أرضية شمسية المركز، تبقى الأرض مستقرة في المركز — مثلما يقول المنطق والكتاب المقدس — بينما يدور القمر حولها. ومع ذلك، اعتبر أن الكواكب جميعًا تدور حول الشمس، التي انتقلت مع حاشيتها الكوكبية حول الأرض.

وبينما استمر تيكو — في مرصده الفلكي أورانيبورج الذي بناه على جزيرة هفن بالمضيق الدنماركي — في الرصد والتوصل إلى أدق القياسات للسماء، كان يوهانس كبلر (١٥٧١–١٦٣٠)، أحد أتباع كوبرنيكوس، يخط اكتشافاته المذهلة على الورق؛ ففي التسعينيات من القرن السادس عشر، بينما كان كبلر يدرِّس بإحدى المدارس العليا بمدينة جراتس، انشغل عقله بسؤال لم يكن العلماء المحدثون ليفكروا في طرحه. ففي منظومة كوبرنيكوس تدور ستة كواكب فقط حول الشمس، لا سبعة حول الأرض كما كان يُعتقد من قبل. تتماشى الكواكب السبعة مع أيام الأسبوع السبعة، والمعادن السبعة المعروفة، ونغمات السلم الموسيقي السبعة، وكل المجموعات السباعية المهمة في العالم. للكواكب السبعة انسجام مستساغ يتناسب مع فكرة العالم المترابط؛ أما العدد ستة فليس كذلك. فلماذا إذن توجد ستة كواكب فقط، ولماذا وضعها الخالق على تلك المسافات بالذات؟ في العالم الحديث المبكر — العالم المليء بالمعاني والغايات — كان لكل شيء رسالة تستحق القراءة والتدبر.

بينما كان كبلر يلقي محاضرة في يوم ١٩ يوليو من عام ١٥٩٥، أدرك فجأة أنه إذا رسم المرء مضلعًا منتظمًا (وليكن مثلثًا، أو مربعًا، أو مخمسًا، إلخ) داخل دائرة، ثم رسم دائرة داخل ذلك المضلع، فسيحصل على دائرتين تتحدد مساحتيهما النسبية حسب شكل المضلع. وفي خضم الشعور بالإثارة، بدأ في حساب النسب التي تحددها المضلعات المختلفة ليرى هل يتوافق أي منها مع النسب الخاصة بالمسافات التي تبعدها الكواكب عن الشمس؛ فلم يتوافق أي منها، لكن هذا لم يفتَّ في عضده، فجرَّب الكرات والمجسمات متعددة الأوجه بدلًا من الدوائر والمضلعات. في هذه الحالة، وبترتيب الكرات والمضلعات ترتيبًا صحيحًا، حصل كبلر على كرات تتطابق مساحاتها مع المسافات التي تبعدها الكواكب عن الشمس، والتي حددتها نظرية كوبرنيكوس. وفضلًا عن ذلك، ولأنه لا توجد سوى خمسة أشكال متعددة الأوجه منتظمة (وهي أجسام صلبة تتطابق جميع وجوهها، ويطلق عليها «المجسمات الأفلاطونية»؛ وهي: رباعي الأوجه، والمكعب، وثماني الأوجه، والاثنا عشري الأوجه، وعشريني الأوجه) يمكن استخدامها كفواصل، فإن هناك ست كرات لا غير؛ ومن ثم ستة كواكب بالتحديد. كان هذا اكتشافًا مذهلًا في نظر كبلر؛ إذ اكتشف السبب وراء عدد الكواكب وأبعادها، وكشف عن بنية هندسية للسماء مثل جمالها الأخَّاذ أفضل دليل على صحة منظومة كوبرنيكوس. لا يمكن لهذا الترابط اللافت للنظر أن يكون عشوائيًّا، وكبلر اكتشف المخطط الرياضي الذي بنى الخالق السماء على أساسه.

يضرب كبلر مثلًا على وحدة البحث الإنساني التي كانت مألوفة في الفترة المبكرة من العصر الحديث؛ فالبحث اللاهوتي والعلمي لا ينفصل أحدهما عن الآخر: فدراسة العالم الفيزيائي تعني دراسة خلق الله، ودراسة الله تعني التعرف على العالم. والواقع أن اقتناع كبلر بنظرية كوبرنيكوس يرجع في جزء منه إلى أن الكون شمسي المركز يتشابه فيزيائيًّا مع الثالوث المقدس؛ فالشمس المركزية ترمز إلى الله الأب، وكرة النجوم الثابتة التي تتلقى أشعة الشمس وتعكسها ترمز إلى الله الابن، أما الروح القدس — المحبة بين الله الأب والله الابن — فيرمز إليه الفضاء المملوء بالضوء بين الاثنين. وبناءً على فكرة الكتابين (الكتاب المقدس والطبيعة)، كان كبلر ومعاصروه على يقين من أن الله قد ضمَّن رسائل في بنيان الخلق كي يكتشفها الإنسان. ومن ثم، فإن الدوافع اللاهوتية — أي الرغبة في قراءة هذه الرسائل في «كتاب الطبيعة» — قدَّمت أكبر قوة محركة فردية وراء البحث العلمي طوال الفترة المبكرة من العصر الحديث.

أعلن كبلر عن اكتشافه في كتاب «اللغز الكوني» (١٥٩٦)، وأرسل نسخة منه إلى تيكو براهي. دعا تيكو كبلر للتعاون معه، فرفض كبلر في بادئ الأمر، لكن بعد أن انتقل تيكو إلى بلاط الإمبراطور رودولف الثاني في براغ للعمل مستشارًا إمبراطوريًّا، لحق به كبلر هناك عام ١٦٠٠. وبعد أن توفي النبيل الدنماركي في العام التالي، عيَّن الإمبراطورُ كبلرَ مستشار الرياضيات لديه. كان تيكو قد طلب من كبلر دراسة حركات كوكب المريخ، وبعد بذل جهود مضنية من أجل تحديد مسار له يتفق مع المواقع التي لاحظها تيكو، توصَّل كبلر إلى استنتاج مذهل. لقد وجد أن مواقع ذلك الكوكب يمكن تفسيرها أفضل ما يكون بجعلها تتحرك في «قطع مكافئ» بدلًا من الدائرة، ومن ثم تخلَّى كبلر على مضض عن اعتقاد فلكي عمره ألفي عام من التركيز على الدوائر، لكن بما أن تيكو قد «حطَّم الكرات البلورية»، على حد قول كبلر، فما الذي يحافظ على حركة الكواكب في مسارات بيضاوية؟ افترض كبلر وجود «روح محرِّكة» في الشمس؛ أي قوة تدفع الكواكب في مساراتها. تتضاءل هذه القوة — مثلها مثل ضوء الشمس — كلما بعدت المسافة؛ لذا كلما كان الكوكب بعيدًا عن الشمس كانت حركته أبطأ. وبناءً على ما زعمه ويليام جلبرت (١٥٤٤–١٦٠٣) حديثًا وقتها من أن كوكب الأرض مغناطيس عملاق (انظر الفصل الرابع)، افترض كبلر وجود قوة شمسية ثانية مناظرة للقوة المغناطيسية تجتذب الكواكب عند نقاط معينة، وتطردها عند نقاط أخرى، ويؤدي الجمع بين «الروح المحركة» وبين التأثير المغناطيسي إلى الحفاظ على حركة الكواكب في مدارات بيضاوية، دون الحاجة إلى كرات سماوية حاكمة، فتتحرك الكواكب أسرع حينما تنجذب قريبًا من الشمس، وتتحرك حركة أكثر بطئًا حينما تُدفع بعيدًا عنها. في الوقت نفسه الذي تخلى فيه كبلر عن الحركة الدائرية المتجانسة، سعِد باكتشافه تجانسًا آخر يحل محلها؛ وهو «قانون المساحة المتساوية» الذي يقول إن خطًّا من الشمس إلى أحد الكواكب يقطع مساحات متساوية في أزمنة متساوية كلما تحرك الكوكب. بالمثل، في نفس الوقت الذي ساعد فيه كبلر على تفكيك المنظومة الكونية لأرسطو، فإنه وضع عنوانًا فرعيًّا لكتابه «ملخص علم الفلك الكوبرنيكي» هو «مُلحق» لكتاب «عن السماء» لأرسطو. وهكذا نجد أن الاستمرارية والتغيير، والتجديد والتقليد تميز الفلسفة الطبيعية في الفترة الحديثة المبكرة.

التليسكوبات وحركة الأرض

كان تيكو أعظم المراقبين بالعين المجردة، ومن أواخر هؤلاء المراقبين أيضًا. وبينما كان كبلر يجري حساباته، سمع جاليليو جاليلي (١٥٦٤–١٦٤٢) عن جهاز هولندي يقرِّب الأجسام البعيدة، فصنع جهازًا مطوَّرًا لنفسه، ووجَّهه إلى السماء عام ١٦٠٩، وأينما وجَّه جهازه، الذي سُمِّي فيما بعدُ بالتليسكوب، توصَّل إلى اكتشافات جديدة. وجد جاليليو أن سطح القمر مغطًّى بالجبال والوديان والمحيطات، أو بتعبير آخر وجد أنه يبدو مثل الأرض تمامًا، ومن ثم فهو مكوَّن من نفس العناصر الأربعة، لا من الجوهر الذي تحدث عنه أرسطو. واكتشف أيضًا أربعة أقمار تدور حول المشتري، كأنه نظام كوكبي مصغر، واكتسب لنفسه حظوة وتشجيعًا بأن أطلق على تلك الأقمار اسم «النجوم المديتشية» نسبة إلى كوزيمو الثاني دي مديتشي، دوق توسكانا الأكبر. وجد جاليليو أن كوكب زحل له شكل غريب وكأنه ثلاث كرات مرتبطة معًا، أيضًا وجد أن لكوكب الزهرة أطوارًا مثل القمر. وكان هذا الاكتشاف الأخير أول دليل قوي يفند منظومة بطليموس التي تزعم أن كوكب الزهرة ليس سوى هلال بسبب وقوعه دائمًا بين الشمس والأرض. أثبتت ملاحظة جاليليو كون الزهرة هلالًا أحيانًا ومكتملًا أحيانًا أخرى أن هذا الكوكب يقع أحيانًا بيننا وبين الشمس، وأحيانًا أخرى على الجانب البعيد من الشمس؛ أي إنه، باختصار، يدور حول الشمس. ومن ثم يتعين على الفلكيين أن يختاروا بين منظومتَي تيكو أو كوبرنيكوس (الشكل ٣-٦). وهكذا احتل السؤال الخاص بحركة الأرض — وهي نقطة الخلاف الوحيدة بين تيكو وكوبرنيكوس — أهمية جوهرية.
fig7
شكل ٣-٦: مقارنة بين ثلاث منظومات عالمية في الصورة الرمزية الموضوعة في صدر كتاب «المجسطي الجديد» الذي ألفه جيوفاني باتيستا ريتشيولي (بولونيا، ١٦٥١). تزن آستريا — إلهة العدالة عند الإغريق القدماء — منظومتي كوبرنيكوس وريتشيولي (وهي تعديل طفيف لمنظومة تيكو)، بينما يتكئ بطليموس على منظومته التي لم يعد معمولًا بها. (أعلى الصورة): يحمل الملائكة الأطفال الكواكب موضحين الاكتشافات الحديثة: أطوار عطارد والزهرة، وسطح القمر الوعر، وأقمار المشتري، و«مقابض» زحل. تبارك اليدُ الإلهيةُ العالمَ، حيث ترمز أصابعها الثلاثة الممتدة إلى «العدد، والوزن، والقياس» (سِفر الحكمة ١١ : ٢٠) في تعبير عن الترتيب الرياضي للخلق.2

نشر جاليليو أولى اكتشافاته التليسكوبية في كتاب بعنوان «الرسول النجمي» (١٦١٠)، وأرسله إلى الفلكيين والحكام في أنحاء أوروبا مع بعض التليسكوبات. وجد الكثيرون صعوبة في رؤية ما وصفه جاليليو؛ لأن قوة تكبير العدسة كانت منخفضة، وكان علم البصريات متواضعًا، وكان التليسكوب صعب الاستعمال. تلقى جاليليو مصادقة أولى من الفلكيين اليسوعيين في روما الذين أكدوا ملاحظات جاليليو، وواصلوا العمل عليها، وأقاموا مأدبة على شرفه عام ١٦١١. كتب كريستوف كلافيوس (١٥٣٨–١٦١٢) — أحد كبار الأعضاء بالكلية الرومانية، وواحد من أكثر الرياضيين توقيرًا في أوروبا، ومبتكر التقويم الجريجوري الجديد الذي وضع موضع التنفيذ عام ١٥٨٢ على يد البابا جريجوري الثالث عشر (ولا يزال يستعمل حتى يومنا هذا) — أن اكتشافات جاليليو تتطلب إعادة التفكير في بناء السماء. ورغم أن كلافيوس وكثيرين غيره تمسكوا بفكرة مركزية الأرض، فمن المرجح أن بعض الفلكيين اليسوعيين الأصغر سنًّا قد تحولوا إلى فكرة مركزية الشمس، لكن هذه العلاقات الممتازة لم تتحمل خلافات جاليليو (التي صار فيها سليط اللسان عادة) مع اثنين من الفلكيين اليسوعيين؛ وهما: كريستوف شاينر، حول سبق اكتشاف البقع الشمسية وطبيعتها، وأورازيو جراسي حول المذنبات (إذ كان جراسي يؤيد تيكو في أن المذنبات أجرام سماوية، بينما أصر جاليليو على أنها مجرد خداعات بصرية تحت قمرية).

ما من حلقة في تاريخ العلم أكثر عرضةً لدس الخرافات وسوء الفهم من موقف جاليليو والكنيسة. نتجت الأحداث عن تشابك بين القضايا الفكرية والسياسية والشخصية كان على درجة من التعقيد، حتى إن المؤرخين ما زالوا يحاولون فكه. إنه لم يكن مجرد صراع بين العلم والدين؛ فقد كان لجاليليو أنصار وخصوم داخل الهيئة الكنسية وخارجها. كانت الأحداث ترتبط بمشاعر امتهان ومؤامرات سياسية، ومَن المؤهَّل لتفسير الكتاب المقدس، والوجود في المكان غير المناسب في الوقت غير المناسب، وبالتورط في خلافات الأحزاب الكنسية. أما الشرارة الأخيرة فكانت نشر جاليليو عام ١٦٣٢ كتابًا بعنوان «حوار حول منظومتَي العالم الرئيستين»، قارن فيه بين منظومتي بطليموس وكوبرنيكوس، واختار بوضوح المنظومة الكوبرنيكية على أنها صحيحة، وأن الأرض تتحرك. كان الدليل الرئيس لدى جاليليو هو فكرته عن أن حركة الأرض تسبب المد والجزر. وقد كان مخطئًا رغم كونه محقًّا بشأن حركة الأرض، ولم تغامر الكنيسة بتأييد صحة أي من المنظومتين؛ فلم تكن فكرة مركزية الأرض أو المذهب الأرسطي معتقَدًا لدى الكنيسة في أي وقت من الأوقات. لكن كان رهانها على التفسير الإنجيلي، ولم يكن لفكرة الأرض المتحركة تبعات على التفسير فحسب، لكن جاليليو كان قد تورط بلا رويَّة في هذا الأمر في بدايات العقد الثاني من القرن السابع عشر من أجل دعم أفكاره. وهذا التساهل مع الكتاب المقدس يشبه الرخصة التي اتُّخذَت في عصره من جانب البروتستانت لرفض التفاسير التقليدية بما يصب في صالح تفاسيرهم الشخصية. ونتيجةً لذلك؛ طُلب من جاليليو — وهو ما وافق عليه — عام ١٦١٦ بأن يتعامل مع مركزية الشمس وحركة الأرض كافتراض لا كحقيقة إلى أن يظهر دليل يمكن الاستشهاد به. وعام ١٦٢٤ حصل جاليليو من صديقه مافيو باربريني — البابا أوربان الثامن وقتئذٍ — على إذن بتأليف كتابه «حوار»، بشرط أن يتضمن الكتاب رأي البابا المنهجي القائل إن أي ظاهرة طبيعية (مثل المد والجزر) يمكن أن تكون لها أسباب محتملة عديدة قد لا يكون بعضها معروفًا، ومن ثم لا يمكن أن نُرجعها إلى سبب واحد نكون على يقين منه. أذعن جاليليو، لكنه وضع رأي البابا في الصفحة الأخيرة من الكتاب، وعلى لسان الشخصية التي أدت دور الأحمق طوال الكتاب. أيضًا «تجاهل» جاليليو إخبار أوربان بالاتفاق الذي عقده عام ١٦١٦. عندما صدر الكتاب (بموافقة من المرخِّصين والمراقبين في الفاتيكان)، وظهرت تلك الحقائق في دائرة الضوء، استشاط أوربان غضبًا، وشعر بأنه قد تعرض للخديعة والإهانة. ومما زاد الأمور سوءًا أن هذه المشكلة البسيطة قد حدثت بينما كان أوربان منكسرًا بفعل المفاوضات الدبلوماسية المتعلقة بحرب الثلاثين عامًا الجارية، وبفعل الانتقادات المتزايدة، ومحاولات عزله من منصبه، وشائعات موته الوشيك. قضت محكمة التفتيش بشطب الدعوى ضد جاليليو بحيث يعود إلى بيته بعد الاكتفاء بتوبيخه، إلا أن البابا الغاضب رفض ذلك، وأصر على أن يجعل من جاليليو عبرةً لمن يعتبر. أُمر جاليليو بإنكار فكرة حركة الأرض، وهو ما فعله، وحُظر كتابه. ومما يستحق الذكر أن عددًا من الكاردينالات، من بينهم ابن شقيق أوربان، رفضوا توقيع الحكم الصادر ضد جاليليو. ولم يحدث قط أن أُدين جاليليو — مثلما يشاع — بالهرطقة، أو سُجن، أو قُيِّد بالسلاسل.

انتهى الأمر بجاليليو بوضعه رهن الإقامة الجبرية في منزله بمنطقة تلال توسكانا، وهناك استمر في العمل وتدريب الطلبة، وألَّف كتابًا ربما يكون من أهم كتبه، وهو كتاب «عِلمان جديدان». ومن الصعب تقدير أثر الحكم الذي صدر ضده. فمن ناحية، أسفر الحكم عن تردد بعض الفلاسفة الطبيعيين في التعبير عن اقتناعهم بأفكار كوبرنيكوس. أيضًا تسببت الأخبار المتداولة عن إدانة جاليليو في امتناع رينيه ديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠)، على سبيل المثال، عن استكمال كتاب حديث يتبنى فكرة مركزية الشمس. أصبح المنتمون إلى الكهنوت المقدس الكاثوليكي — مثل اليسوعيين — عاجزين عن تأييد أفكار كوبرنيكوس علنًا، ومن ثم تبنوا منظومة تيكو أو صورًا معدَّلة منها (الشكل ٣-٦)، وإن كان ذلك على مضض في بعض الأحيان. ومن الناحية الأخرى، استمر البحث العلمي — بما في ذلك علم الفلك — في إيطاليا ودول كاثوليكية أخرى، مع تفادي الموضوعات الشائكة أحيانًا.

بعد حركتي النهوض الفكريتين في الجيلين السابقين، شهد منتصف القرن السابع عشر تطورات تتعلق بالملاحظة، وأخرى تقنية في الفلك أكثر من التطورات النظرية. أصبح القس الفرنسي بيير جاسندي (١٥٩٢–١٦٥٥) أول من يشهد مرور عطارد عبر قرص الشمس عام ١٦٣١؛ وهو حدَثٌ كان محلَّ توقع من كبلر الذي توفي عام ١٦٣٠. أدت التليسكوبات المتطورة إلى اكتشافات جديدة وقياسات أفضل، لكن الحاجة إلى تجنب الانحرافات الناتجة عن الحيود الكروي واللوني كانت تعني أن التليسكوبات لا بد وأن تكون أكثر طولًا وثقلًا؛ فأحيانًا كان يصل طولها إلى أكثر من ثمانية عشر مترًا. ورغم ذلك، اتُّفق على أن الشكل الغريب لكوكب زحل هو نظام حلقي، واكتُشفت أكبر أقماره على يد كريستيان هويجنز (١٦٢٩–١٦٩٥) عام ١٦٥٦. أضاف جيان دومنيكو كاسيني (١٦٢٥–١٧١٢) — الذي كان يعمل في باريس، مستخدمًا التليسكوبات الأكثر تطورًا التي صنعها خبير البصريات الروماني، جيوسيبي كامباني — أربعة أقمار أخرى، وأطلق عليها «النجوم اللودوفيكية»، نسبة إلى الملك لويس الرابع عشر. وأصدر اليسوعي جيوفاني باتيستا ريتشيولي (١٥٩٨–١٦٧١) دليل نجوم مصور جديد، وأعدَّ — بمساعدة رفيقه فرانشيسكو ماريا جريمالدي (١٦١٨–١٦٦٣) — خريطة قمرية تفصيلية يظهر بها الكثير من الأسماء التي لا تزال تُستعمل حتى يومنا هذا، ومنها تسمية واحدة من أشهر الفوهات البركانية باسم كوبرنيكوس. وفي مدينة جدانسك، أعدَّ يوهان هيفلياس (١٦١١–١٦٨٧) — المرجح أنه آخر شخص أجرى قياسات دقيقة مستخدمًا كلًّا من التليسكوب والعين المجردة — خريطة قمرية، فضلًا عن ملاحظته المذنبات ومشاركته في نقاش امتدَّ في جميع أنحاء أوروبا عما إذا كانت حركتها مستقيمة أم منحنية في مدار حول الشمس.

ظل الاهتمام موجَّهًا إلى المشكلة المتعلقة بكيفية استمرار الكواكب في التحرك في مدارات ثابتة دون مساعدة كرات صلدة. اقترح ديكارت نظامًا عالميًّا شاملًا أصبح واحدًا من أهم النظم المقترحة في القرن السابع عشر؛ فقد تصور أن كل الفضاء ممتلئ بدقائق من المادة بالغة الصغر حتى إنه يتعذر رؤيتها. افترض أن هذه الدقائق تتحرك دائمًا في تيارات دائرية أو دوامات، وأن نظامنا الشمسي كان دوامة عملاقة من هذه الدقائق التي حملت الكواكب في دورانها مثل دوامة تحمل معها قطعًا من القش. وهذا النموذج الدوار يفسر بدقة سبب تحرك كل الكواكب في نفس الاتجاه، وتقريبًا في نفس المستوى. الأرض نفسها تقع في مركز دوامة أصغر تُبقي على حركة القمر في مداره، ودوران المادة حول الأرض كوَّن «رياحًا» تدفع الأشياء تجاه مركز الأرض، ومن ثم تحدث ظاهرة الجاذبية. قدَّمت نظرية الدوامة لديكارت تفسيرًا معقولًا للحركات السماوية، وانتشرت على نطاق واسع في المباحثات العامة والكتب الدراسية، لكنها ظلت تفتقر إلى درجة الدقة التي تجعلها ذات فائدة عملية للفلكيين.

تبنى شاب يُدعى إسحق نيوتن (١٦٤٣–١٧٢٧) نظرية الدوامة التي وضعها ديكارت. ولأنه كان طالبًا بجامعة كامبريدج في مطلع الستينيات من القرن السابع عشر، فقد درس أعمال أرسطو التي ظلت نصوصًا أساسية يدرسها الطلبة في معظم الجامعات، لكنه سرعان ما بدأ يقرأ خارج المنهج الدراسي حيث أفكار «المحدثين» مثل ديكارت. تبنى نيوتن نسخة معدَّلة من مبادئ ديكارت لكل من الحركات الكوكبية والجاذبية، لكن بحلول مطلع الثمانينيات كان نيوتن قد بدأ يفكر تفكيرًا مختلفًا، فطرح فكرة دوامات ديكارت جانبًا، وبدأ يفكر في وجود قوة جاذبة بين الشمس والكواكب، وكانت أمامه مصادر عدة لهذه الفكرة أشهرها ظاهرة المغناطيسية المعروفة والقوة «شبه المغناطيسية» بين الشمس والكواكب التي افترض كبلر وجودها. الجمع بين «الروح المحركة» وهذه المغناطيسية لدى كبلر أسفر عن المدارات البيضاوية للكواكب. أما لدى نيوتن، فربما يكون التوازن بين القصور الذاتي وبين قوة الجذب تجاه الشمس هو ما ينتج المدارات البيضاوية الثابتة. كان الكثيرون من أعضاء الجمعية الملكية في لندن يعملون على أفكار مشابهة لتفسير الحركة الكوكبية، وأشهرهم روبرت هوك (١٦٣٥–١٧٠٣)، الذي كتب إلى نيوتن بشأن أفكاره في عامي ١٦٧٩ و١٦٨٠، لكن شكوى هوك اللاحقة من استيلاء نيوتن على فكرته دون أن ينسب إليه حقه جعلت نيوتن مفرط الحساسية يمحو أي ذكر لهوك من كتاباته، ويعامله بعداء طوال ما تبقى من حياته. وكان الإنجاز الكبير لنيوتن — الذي نشر في كتابه «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية» (١٦٨٧) — أنه وباستخدام الرياضيات البحتة أعاد استنباط قوانين الحركة الكوكبية التي كان كبلر قد استنبطها تجريبيًّا من مشاهدات تيكو، وأنه جعل الجاذبية كونية، بمعنى أنها توجد تبادليًّا بين جميع أجزاء المادة. ولعل كبلر كان سيسعد بذلك بلا شك؛ فها هو دليل آخر على الخطة الرياضية المتناغمة التي خلق الله الكون على أساسها. ألغى قانون نيوتن للجاذبية الكونية آخر بقايا التمييز السابق بين الفيزياء الأرضية والسماوية؛ إذ يحكم القانون نفسه دوران الكواكب وسقوط التفاحة.

لم يُرضِ ذلك الجميع؛ فبإحياء فكرة قوى التجاذب بدا نيوتن وكأنه يبعث الحياة في فكرة غير رائجة على مدى ٧٠ عامًا. ففكرة وجود قوة غير مرئية وغير مادية دون آلية أو سبب يمكن تحديده بين جميع الأجسام لم تكن فقط أقل منطقية من دوامات ديكارت، لكنها بدت للكثيرين عودةً إلى «الخصائص الخفية» التي تبناها أتباع أرسطو، أو التأثيرات التبادلية للسحر الطبيعي. والحق أن أكثر أعمال الفلسفة الطبيعية تقدمًا في النصف الثاني من القرن السابع عشر كان محاولة تفسير ما بدا وكأنه قوى تجاذب وتأثر بفعل تبادل ميكانيكي لدقائق غير مرئية (انظر الفصل الخامس). الآن بدا نيوتن وكأنه يعيد الساعة إلى الوراء.

اتَّهم جوتفريد فيلهلم لايبنتس (١٦٤٦–١٧١٦) — الذي شنَّ عليه نيوتن هجومًا حول السبق في اختراع حساب التفاضل والتكامل — «خاصية الجذب الخفية» لنيوتن بأنها «تربك مبادئ الفلسفة الحقيقية» وتعيدها إلى «عصور الجهل الغابرة». وبينما أكد المدافعون عن نيوتن على أن قوى التجاذب مجرد خاصية أساسية للمادة، فقد أراد نيوتن نفسه التوصل إلى سببها، إلا أن أسلوبه في تعقب هذه الإجابة يذكِّرنا بأن نيوتن لم يكن «عالمًا معاصرًا» وُلد عرضًا في القرن السابع عشر. اعتبر نيوتن — بتواضعه الجم — نفسه أنه لم يفعل شيئًا سوى إعادة اكتشاف قانون الجاذبية الكونية الذي كان معروفًا لدى القدماء. ولأن نيوتن كان يؤمن بفكرة «الحكمة المقدسة» — وهي فكرة رائجة بين كثير من المهتمين بالإنسانيات في عصر النهضة عن «حكمة أصلية» كشف عنها الرب منذ دهور، لكنها فسدت على مر الزمان — فقد بذل جهدًا كبيرًا من أجل تفسير الأساطير الإغريقية، وفقرات الإنجيل، ومجموعة أسرار «الهرميتيكا»؛ ليوضح أنها تخفي أفكارًا عن البناء الخفي للكون، بما فيها قانون التربيع العكسي للجاذبية الذي وضعه. ويبدو أن نيوتن قد اعتقد — وآمن أن «القدماء» قد اعتقدوا هم أيضًا — أن الجاذبية هي نتيجة عن فعل الله المباشر والمستمر في الكون. ومثل كبلر — الذي ظن أنه كشف عن النموذج الأولي الهندسي لخلق الكون — اعتبر نيوتن نفسه مختارًا لاستعادة المعرفة القديمة؛ وليس المعرفة العلمية فحسب. قضى نيوتن سنوات من عمره في الدراسات اللاهوتية والتاريخية، معتقدًا أن الديانة المسيحية — مثل كل المعارف الأخرى — قد فسدت على مر الزمان، وحاول استعادة لاهوتها الأصلي المزعوم الذي لم يتضمن، على سبيل المثال، ألوهية المسيح. وبالمثل، جدَّ في دراسة التقسيم الزمني القديم، وأحد أسباب ذلك رغبته في الحصول على تواريخ تقديرية يمكن الاعتماد عليها في تفسير النبوءات الإنجيلية بشأن نهاية العالم. ونعود هنا مجددًا إلى المنظور الأوسع والأشمل للفلسفة الطبيعية بالنسبة إلى منظور العلم الحديث. نظر نيوتن إلى «مهمة الفلسفة الطبيعية على أنها استعادة المعرفة بالنظام الكامل للكون، بما فيه الله بوصفه الخالق، وبوصفه المهيمن الباقي.»

هوامش

(1) Courtesy of the Johns Hopkins University, The Sheridan Libraries, Rare Books and Manuscripts Department.
(2) Courtesy of the Division of Rare and Manuscript Collections, Cornell University Library.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤