طعم الكرز

١

هذا المساء، مِثل كل مساء سابق، ولأمرٍ ما، هو عندي مساءٌ مختلف.

٢

لا شيء في بَرنامجي سيتغيَّر، لا أريد أن يتغيَّر، أشعر أنه يجدر بي ألَّا أتغيَّر وأنا على عتَبة الستين، وبعد أن تخلَّفتُ عن قطار الزواج قصدًا، وقد أصبحت الوحدة هي زوجتي وخليلتي، في آن.

٣

سأكون قد تركت شركة التأمين في السادسة مساء، ووصلت إلى النادي في السادسة والنصف، وشرعت في تماريني الرياضية في السابعة، وأنهيتها في الثامنة، وفي الثامنة والنصف غادرت النادي، منتعشًا بحيويتي تفيض على وجهي، خاصة من أثر الدش الساخن.

٤

إذا جئتم للحق، فالإنعاش الحقيقي الذي يتفتح في مسامي يوجد «عند باتريسيا». هو اسم المقصف الذي أرتاد، واسم صاحبته، من باب أولى وأحرى، واسمنا، نحن أيضًا، زبناءها الاعتياديين: «زبناء باتريسيا» كما يحلو لها أن تتدلَّع وهي تشرب نخبنا بدلالٍ ونخوة المالك، تعطينا بوسة للواحد قبل أن تسقينا، فسميناه «البوساج». ونحن عند باتريسيا جماعةٌ، وواحدٌ، وواحدٌ في جماعة، ثم واحد، أي كل وهمُّه.

٥

هذا أفضل، فكرت دائمًا. أن تكون وحدك يعني أنك حر. ولا يمكن أن تكون حرًّا إلا إذا كنت وحدك. جان ميشال يعاضدني في هذا الرأي، بارك الله فيه. حين تتصدى لي الجماعة تصفني بأني Associable (أي منفر)، كائن لا اجتماعي، أو أي صفة أخرى مقعَّرة، ينبري لهم، يشنِّع وصفهم، منتصرًا لموقفي، وهو يطلب شرابًا للجميع.

٦

في هذا المساء بالذات، لم تكن لي أي رغبة للعودة إلى الاستوديو الذي أؤجر، منذ ما لا أذكر. أنام فيه، فقط، وأبدِّل ثيابي، وأغتسل، والباقي كله أحصل عليه في الخارج. مشكلتي في الاستوديو هي علبة اسمها جهاز التلفاز، قدمتها لي باتريسيا ذات عام برسم عيد ميلادي، وهي تغمز: إذن لا مانع لديك، أتفرج عندك بين الفينة والأخرى.

٧

لم أحتج لما طالت الفينات، لم أطلب من باتريسيا أن تأخذ عني علبتها لأنها ترهنني بهذه الفينات. ما ضايقني هو العادة التي أخذت تستحكم فيَّ، بسببها هي. أن أمدَّ يدي كلما صرت في الداخل، وأضغط على الزر، فتأتي الصور متلاحقة، يسبقها الصوت، وهما معًا، كل الآخرين الذين يهجمون عليَّ بلا استئذان. يسلبونني نفسي، يقتحمون عليَّ وحدتي، بينما أنا وحدي، حين آوي إلى الاستوديو فلكي أخلو إلى نفسي، أن أكون وأبقى وحدي!

٨

الحقيقة أن هذا المساء لم يكن ككل مساء؛ لا يوجد وقتٌ يشبه الوقت، ونحن إنما نتوهم ذلك. هذا المساء لم أكن متوهمًا على الإطلاق، رغم أن الحياة لا تطاق أحيانًا بدون أن تتوهم فيها.

كنت على غير العادة قد قررت العودة إلى الاستوديو لأنام مبكرًا، فأجمع عظامي المفككة، ثم سأستريح قليلًا من صخب وشغب الجماعة، فضلًا عن فرقعات باتريسيا ذات الهمة والشأن!

٩

لكني عدلت عن قراري في اللحظة الأخيرة، نادرًا ما أتراجع عن قرار، إنما كان ما خلفه أقوى من أن أمضي فيه. والخارج هو الذي حسم، رغم أني لا أبالي به عادة، وإلا سأصبح أسير الكبيرة والصغيرة. وهنا، حيث أعيش، منذ ما لا أذكر، لا تتوقف الأحداث، وإذا لم توجد تصنعُها الصحافة، أو يروجُها الكذابون، والمولولون بأنواع المصائب في المقاهي والحانات.

١٠

لا أهتم عادة لا بالسياسة، ولا أخبار المجتمع، والكوارث التي تقع يوميًّا في أنفاق المترو، وبأرقام البورصة أحيانًا، لأنها مصدر ربحٍ، ومصدر خوفٍ لدى كثير من البشر، وأنا أحب أن ينتشر الخوف لينتعش قطاع التأمين. كلما انتعش تربح الشركة، أربح معها، وكلما ربحت أزداد أمانًا لتوفير لوازم وحدتي. لكن الظاهر أن بيضة هذه الوحدة تكسَّرت اليوم بالرغم من قراري، فما حدث حشر البشر في بعضهم، وتداخل الكلام على اليمين والشمال؛ أي ضجيج!

١١

رفضت في الشركة أن أعلق، أو أردَّ على تنبيه أحد: «إيه، لقد نال النهاية التي يستحق؛ المجرم.» «ستصبح الحياة أكثر أمانًا بزواله.» «ليذهب إلى الجحيم!» ومثله كثير. لا أحب الدخول في هذا السوق، ثم ما علاقتي أنا بالإرهاب وتوابعه؟ ثم لماذا يزدحم الخلق، أليسوا يطلبون الموت؟! ولهذا لا أحب الاختلاط بهم، الاختلاط عمومًا، ما عدا أصحابي، بالأحرى الزبائن الاعتياديون «عند باتريسيا»، وهؤلاء مسالمون على الأقل، ولن يفجر أحدٌ منهم نفسه!

١٢

لم أكن قد شغلت نفسي يومًا به. ما اسمه؟ آه، هذا ابن، Ben Laden، وها هو يتسلط عليَّ دفعة واحدة، وفي اليوم الذي قررت أن آوي مبكرًا إلى فراشي، لأجمع عظامي وأخلد إلى وحدتي.

١٣

لم يبقَ بيني وبين عمارتي سوى مائة متر، حين قفلت عائدًا في الاتجاه المعاكس. طنَّت في أذني ذبابة طنينًا قويًّا: إذا أنت دخلتَ إلى الاستوديو، فستفتح التلفاز، وستأتي الصورة، ويُدوي الصوت. وبما أن الجدران، وأروقة المترو، والصفحات الأولى للجرائد، وسواها، أُلصق عليها كلها صورة واحدة، وحيدة، فهي نفسها ما سيملأ الشاشة، لا شأن لك به وبها، وهذا سيجهض مشروعك، لن تنال مرادك، لن تعانق حبيبتك، وحدتك، لن …

١٤

جرجرت جسدي المتداعي جرًّا «عند باتريسيا». هناك على الأقل، سأرى الوجوه الأليفة، كأني أراها، وأسمع كلامًا كأني لا أسمعه. وهناك ما أظن أنهم سيأتون على ذكره. هنا يستخفون بالسياسة، ويقولون «طز» لرئيس الجمهورية، وقد أجاريهم ولا. هكذا في النهاية، كل واحد يشرب كأسه، وكل واحد داخلٌ في سوق رأسه، كما يقول المغاربة، منهم مغربي يحشر أنفه في مجموعتنا، أظن اسمه المدني، المديوني، المدايني، أظن … لا أهمية لذلك.

١٥

حين وصلت «عند باتريسيا» لم أجد الجو أفضل حالًا. جماعتنا حاضرة كلها، إلا أنهم صامتون، ومكتئبون، على غير العادة. باتريسيا نفسها التي تتصنَّع المرح مكتئبة بدورها، منكفئة الوجه على صندوق الحساب. وفجأة شرخ الصمتَ صوتٌ كالحشرجة، كالبكاء؛ هذا صوته، وتعجبت، ثم أنكرت: هل يعقل أن يكون هو؟ أم هي أوهامي تلعب بي، تغزوني كلما هجم الليل؟! كلما سعيت أبحث عنها، لآخذها كي تدفئ فراشي، وتحضن وحدتها … وحدتي.

١٦

في المرة الثانية تأكدت أنه هو: جان ميشال، لا أحد غيره، يجهش، نشيجه يتعالى، وهو يغمغم بكلماتٍ متقطعة، نصف منطوقة، نصف مسموعة، التقطت بعضها، هكذا: لا … لا … أحد … يحبني … لا … لماذا؟ … لكم … فعلت … يحبني … تمتد له ذراع من هنا، تمتد أخرى أقرب أو أبعد، يدٌ تربت، لتضم. بدا كأنه في هذيان، قد تجاوز الثمَل ولا يبدو أنه، أيضًا، سكران. لم أرَ جان ميشال يومًا هكذا، ولا عرفته شقيًّا، ثم، هوب، كيف أناخ عليه كل هذا الحزن بكلكله، كيف؟!

١٧

خمَّنت أنه مدير شركته، وزملاؤه في المصلحة يشتكي دائمًا من كيدهم وخِستهم، بسبب تفوقه، وذكائه، ولأنه يغوي النساء جميعهن، بملاحته، ولباقته، كذلك. ثم تنبهت أن فطنته أكبر من هؤلاء. وعدت افترضت الأمر صحيحًا فوجدت أنه لا يستحق هذه المناحة؛ إذ من يحب هنا آخر، نحن نعيش هنا مواضعات، وتوافقات مرتبة تناسبنا، وفي كل لحظة يمكن للحلقة أن تنفصل فتنقطع السلسلة، وهنا ينكشف سريعًا ما في جوفنا، وأظن كأس جان ميشال قد فاضت.

١٨

غمزتْ باتريسيا نحوي لتهمس لي بسرعة: إنها تلك الأفعى، لقد لوَّعت قلبه، وثقبت جيبه، وهو تفانى في حبِّها، أنت تعرف طيبته، وحتى هشاشته، ثم بلعتها الأرض، لم تعجبني يومًا، أنا أعرف بنات جنسي، ولا تظننني أغار، خاصة من تلك الرقطاء المجلدة، وطالما حذرته وهو يغدق عليها بالكئوس: عزيزي جيجو، انتبه أين تضع قدميك، هذه ليست لك، وهو يفرط كلما حذَّرت، وهي تسرف حتى لا مزيد، والنتيجة، كنا نظنُّه جبلًا، وها هو يجهش كالأطفال!

١٩

لم تقنعني رواية باتريسيا، التي عرضت على جان ميشال شراكة المقصف، شريطة الاقتران بها، وقد سفَّهها أمامنا معلنًا بأنه مرتاح في عزوبته اليوم، وإذا غيَّر رأيه، أو غيَّرت أنا، وهو يشير لي، وحتى هذا، يشير إلى المغربي الذي يأتي وحيدًا أبدًا، يكون حديثًا آخر. لا شك أن له همًّا آخر لا يريد البوح به لأحدٍ، لي أنا، أيضًا، نديمه الأول والدائم، وها قد طفح به الكيل، في وقت ما يطفح بنا الكيل، قلت له، وأنا أجدد كأسه، وانظر، وهنا فرقع ضحكه من بكائه، أنا مثلك وأكثر، لا أحد يحبني، إلا، أنطونيو كارلوس خوبيم أدخلنا في موسيقى «البوسا نوفا» وهو يغني Garota de Ipanema، فاستوحشت أن تكون لي طفلة، أسمِّيها باسم شاطئ إبنيما!

٢٠

تركت جان ميشال بين ذراعَي باتريسيا، خمَّنت ستأخذه لتواسيه في فراشها، وقفلت عائدًا إلى جحري، ما زلت أستدل الطريق. وبينا أنا على مفترق الطرق المؤدي إلى عمارتي انبثق من حولي، قدامي وخلفي، باقة من البنات، كل واحدة منهن تقول للقمر إما تضيء أو أضيء مكانك، ووسطهن الأنور، قد أحاطت عنقها بشريطٍ تدلى إلى خصرها مُوشَّى برسومٍ. تقدمت إليَّ ووضعت بين شفتيها كرزة، وقالت، إنني أودِّع عزوبتي، وقد وقع اختيارنا عليك لتقبرها، ستأكل الكرزة من شفتَي، هكذا حكمن عليَّ، وجذبتني إلى شفتيها، ثم جذبتني، والبنات يصفِّقن ويصخبن، صرن كلهن كرزات، وفي الصباح استيقظت في وحدتي، وأنا أتلمظ طعم الكرز!

باريس في ٠٥ / ٠٤ / ٢٠١١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤