هروب الجسد

١

ليست المرة الأولى التي يجد نفسه فيها أمام هذه الحالة، أو يعتريه مثل هذا الإحساس، فلقد تكرر ذلك مرات لم يعُد يعدُّها، ولا يشغل باله بها، أو في الحقيقة قليلًا، منها هذه المرة بالذات، وهو في اضطراب بيِّن، لا يعرف من أين يبدأ، ولا أين ينتهي. ماذا يأخذ، وأي شيء ينبغي أن يتخفَّف منه في سفرٍ أصبح عنده اعتياديًّا، معلومًا، مختلفًا تمامًا عن أسفار جميع الناس، بمشاغلهم واحتياطاتهم التي لا تُحصى.

٢

ومع ذلك يجب أن يعترف، فهذه المرة تختلف نوعًا ما عن سابقاتها بدرجاتٍ، وانفعالُه بها أقلقه حدًّا لم يعهده منه. عملُه ما فرض عليه هذا الوضع؛ أي لم يكن له أي خيارٍ فيه من البداية، وحين قبِله لم يقدِّر العواقب، ظن أنه سيناسبه وسيغبطه عليه كثير من العاملين في المؤسسة: أووه، إنه محظوظ، سيعمل في الخارج، سيعيش هناك وتتحسَّن حياته، سيزيد راتبه، سيتعرَّف على عالمٍ جديدٍ، وبشرٍ آخرين، مختلفين عنا حتمًا، لن يحس بالملل، ولا هو سيتقلب في روتين العمل، مثلنا نحن هنا نقوم بعملٍ واحدٍ دائمًا، تقريبًا، وبنايتنا هي هي، والطريق بين مسكننا وعملنا، أووف! أما هو، فما أسعده، أووه!

٣

كان على الشركة التي فتحت فرعًا لها في باريس للتنسيق مع الشركات الفرنسية مباشرة أن توفِد مَن يمثِّلها، وحرص المدير نفسُه على تجنُّب الصراع والمنافسة البغيضة بين أطر مؤسسته، وتجنُّب المفاضلة بينهم في كفاءاتهم، إنهم جميعًا أكفاء عنده، ولو بنسبة متفاوتة، ولو أوفد واحدًا على حساب الباقين فسيتعطل الشغل لا محالة؛ الغيرة قاتلة، الأنسب أن يُجري بينهم قرعة، والمحظوظ سيفوز. هكذا طلع سهمه، وهو مَن يعيش هذه الحالة الغامضة، التي باتت تشبه مرضًا ذا أعراض غريبة، أصبح المحظوظ، رغم أنه لا يستطيع أن يقنع أحدًا بأنه في وضعٍ لا يُحسد عليه، سيقولون — لا محالة — إنه مجنون، كالمجنون، وماذا لو وصف لهم حالته، إنما كيف؟

٤

في البداية غمره فرحٌ جامح لم يحس بمثلِه قبل، لا يضاهيه فرح كل نجاحات امتحاناته الدراسية، ولا المناسبات التي أوتيها في حياته، وتلفَّت حوله فوجد نفسه محسودًا فجأة، الجميع حوله يتهامسون إنه ذاهب إلى باريس، إنه ممثِّل الشركة في باريس، راتبه كذا، تعويض سكنه كذا، وسيعيش ملكًا، فعنده مخصصات إضافية للتمثيل، وهو فوق هذا، تتهامس السكرتيرات، أعزب، كل واحدة تحس بفجيعة أنها لم تحط عنقه بما يسميه بعبارته: «حبل المشنقة» الذي يحيط في نظره بكل الأزواج، ويزهق أرواحهم وهم شبه أحياء! هذا المنصوري لا شك مَرْضي الوالدين، أمه تدعو له عند كل الأولياء، يجهلون أنها رحلت عن عالمهم، لا شك!

٥

طبعًا دعت له مليون مرة قبل أن ترحل عن هذا العالم البغيض، وإلا كيف يتاح له أن يتنقَّل — بهناء — بين باريس والدار البيضاء، بانتظامٍ، كأنه سفير، لم يتأخروا بمجرد تعيينه عن تلقيبه بالسفير فوق العادة، لا سخرية، بل حسدًا من زميلٍ تحتاج الشركة لحضوره إليها في مقرِّها مرة في الشهر، وراتبه خلالئذٍ مدفوع، وهكذا فلن يحسَّ بأي غربة، لن ينقطع عن جذوره، هو خارج بلاده وداخلها، وهو يحلق دائمًا، هكذا يقولون، يسكن طائرة، ما أسعده!

٦

وما أدراهم بمقامه أو بغربته، ماذا يعرف هؤلاء القوم المحبوسون في قماقم رواتبهم عما يمكن أن يضطرم في النفس ما دامت نظرتهم إلى باريس لا تختلف عن النظر إلى غانية مشتهاة تنفِّس كبتهم للحين، وللحين فقط. وهو يعرف هذه الرءوس المغربية والعربية عامة، الخاوية، قبل أن تحط بهذه المدينة، وعندما تصل إليها ولهاثهم فيها وهم يملئُون الأكياس، وبعد العودة، وبين مطارَين لا ينفك يتفحَّص وجوههم وسلوكهم، وفي الطائرات بطرهم وحقائبهم، ينزلون كأنهم جدران مصبوغة وهم يزفرون، ثم يتبخر زهوهم في انتظار الرحلة القادمة!

٧

ليعترف بأنه تباهى على أقرانه، وإن حافظ على تعامله معهم كي لا يزيد من غيظهم، ففي دخيلته ورأسه كان عالم جديد يُبنى، رآه يتشيَّد كل يوم، تنهض لبِناته من ساعة إلى أخرى، رغم أنه لم يكن يملك ما يكفي من الوضوح ليقول هل إنه ينفصل تدريجيًّا عن محيطه الأصلي، هل هو سيزدريه، وينجذب أكثر فأكثر إلى هذا العالم الباهر الذي اسمه باريس، صعبٌ عليه أن يستوعبه مهما فعل، أم أنه ملتصق بأرضه، بأولاد البلاد كما يسمونهم في الخارج، وهم يحنون دائمًا إلى أطباق أمهاتهم، والدريبات حيث وُلِدوا ولعبوا، ولا يتوقفون عن الحنين حتى إلى بؤسهم، فلا يرون ما هم فيه، ولا الحياة كيف تبدَّلت، تتبدَّل.

٨

ليعترف أنه مع مرور الوقت راح يتبدَّل، لا يستطيع أن يجزم هل نحو الأفضل أم إلى الأسوأ، وهذا ليس مجرد كليشي للاستعمال، الغبي والعنيد المكابر وحدهما يظلَّان جامدين، وهو تغيَّر، أجل تغيَّر، لا يقصد مأكلَه وملبَسه وأسلوبَ حياته عامة، خاصة وهو يعيش في محيطٍ لا يتوقف فيه الجديد، ربما مخه، شعوره، نظرته اليومية للدنيا، ماذا أيضًا؟ أووف، كثير، إنما الأهم هو ذلك الشيء الذي يكاد لا يعرفه، أو كيف يسميه، أحيانًا يشرد في عمله كما في الشارع، فيكلم ذاته مُسائلها: مَن أنت؟ ماذا تريد مني؟ ما الذي حدث أو يحدث لي بالضبط؟ ثم ما يلبث أن يعي أن أي جوابٍ لن يأتي، فيمسك رأسه كي لا يسقط في الشارع.

٩

والأهم من كل ما مضى أن يعترف بالحالة المضطربة التي يمسي عليها في كل مرة سينتقل فيها من … إلى … ثم عودًا على بدء إلى … في الاتجاهين كليهما لا يحتاج سفرُه عادة إلى استعدادٍ كبيٍر، فعدا الأوراق التقنية لعمله لا يحتاج إلى أي استعدادٍ استثنائي، وخاصة وهو ذاهب من باريس إلى مقر الشركة في الدار البيضاء، فهنا ما زال يحتفظ بشقة صغيرة تضم أثاثًا ودولاب ملابس، وخزانة كتب صغيرة مع تسجيلات غنائية، والضروري جدًّا للمطبخ. وعنده دائمًا كمية من المعلبات تكفي لطعامه، يقضي — بعد مهمته — أغلب الوقت في هذه الشقة في انتظار العودة من حيث جاء، من غير أن يفكر بالضرورة في وقتها وما سيتبعها.

١٠

ليعترف بأن عودته هي التي تزرع الاضطراب في تنقُّله، تجعله، كما يقول لنفسه، في حالة غير طبيعية، منها أنه يحس كأنه ينظر، للمرة الأولى، لما حوله: إلى بيته بمحتوياته، إلى الشارع من الشرفة، إلى الغادين والرائحين، يتطلع إلى قاماتهم ووجوههم كمن يكتشفهم للمرة الأولى، وصولًا إلى وضعه هو بالذات: وجهُه إذ يتفحَّصه في المرآة، أطرافه يتحسَّسها، جسمه يكرر تدقيق وزنه في الميزان، وأخيرًا الانتباه إلى حاجاتٍ متفرقة بين ثيابٍ وكُتب وأوراق مبعثرة، يعيد ترتيبها، يرغب في تنظيمها، يظن أنه سيفعل ذلك للمرة الأخيرة، ثم يسأل: لماذا؟

١١

حين أعيته الحيلة، ولم يعثر وحده على الجواب حمل سؤاله إلى الطبيب النفسي، جازف وتوجَّه إليه للمرة الأولى وهو يريد أن يحقق هدفين: محاولة للانتصار على خوفه، وعجزه، أيضًا، وانتصار للعلم، فكم سمع أن الطب النفسي قادر على علاج حالاتٍ مستعصية، ربما منها حالته. استرخى فوق الأريكة، وأطلق لسانه: تكلمْ على سجيتك، يمكنكَ إن شئت أن تسرد ما تعيش وما تحلم به. ولم يجد في مطلب الطبيب جديدًا عليه، فهو متعود على السرد، كثيرًا ما يفعل هذا في رأسه، وهي عنده الطريقة المُثلى لتحمُّل الرتابة، كل شيء يتعدد، حتى هو يصبح أكثر من واحدٍ، أنت على عتبة السكيزوفرينيا، لم ينبس الطبيب بالكلمة، وإنما قرأها في عينيه، وأضاف: خفِّف من السفر، قبل أن يزيد حكمة سقراط: و«اعرف نفسك بنفسك»!

١٢

ليعترف بأن أزمته بلغت ذروتها في الرحلة الأخيرة من الدار البيضاء إلى باريس. في هذه المرة لم يعِ جيدًا هل هي رحلة ذهاب أم إياب، وشعر بارتباكٍ شديدٍ يومين قبل السفر. قام يتفقد دولاب ثيابه، يبحث فيها عما سيأخذ وسيترك. بعد وقتٍ وجيزٍ فزَّ، انتبه أنه في غير حاجة إليها؛ إذ تكفيه حقيبة يدٍ صغيرة يلم فيها أغراضًا صغيرة بلا أهمية تقريبًا، حتى إن الجمارك يستغربون دائمًا من هذا المسافر بلا متاعٍ، أحيانًا تنظر إليه شُرطية المراقبة بريبة وهي تسأل: أهذا كل ما عندك؟ ليردَّ عليها بنظرة استغراب دافعًا قامته إليها: هاه، فتِّشيني!

١٣

يومٌ واحدٌ بقي له قبل السفر قضاه في تشوشٍ كاملٍ. كان قد أنهى معاملاته في الشركة، وعاد إلى البيت معولًا ألا يغادره إلا إلى المطار، وبدل أن يستريح — كما نوى — قام من جديدٍ يتفقد ثيابه في الدولاب، بعثر قمصانًا وربطات وجوارب، جرَّب سترة ورماها، فتح حقيبة اليد، ونظر إلى جوفها الفارغ، ملأها وعاد يفرغها للمرة كم، جلس قبالة التلفزة، أطفأ زرَّها، جلب كتابًا، كتابَين، تخلَّى عنهما، هو ذاهب إلى عاصمة الكتاب، كلما جلس عاد يجمع الوقفة، وفي كل دقيقة يسأل ماذا ينقصه، لا يحتاج إلى أي غرضٍ لهذه السفرة، وربما يحتاج إلى كل شيء، ما الذي يحرص على جمعه ولا يعرفه؟ ماذا نسي؟ ماذا ينبغي أن يتذكر، أوووف؟

١٤

قبل أن يغلق الباب خلفه مغادرًا إلى المطار طاف بسرعة في الشقة متفحصًا، وفي رأسه يتلولب السؤال: ماذا نسيت؟ يدور مكرورًا إلى ما لا نهاية كأسطوانة مشروخة، وسمْعُه وانتباهُه كله إليه فلا يبالي بالجمركي في استغرابه المعتاد، ولا الشُّرطية المرصودة له في ريبتها الساذجة، ولا المسافرين يصرون على التدافع والازدحام عند بوابة المغادرة قبل إعلان موعد الإقلاع، يتعجب أهمْ سيسافرون أم هاربون من الجحيم، أم لعلَّه المتكاسل هنا، المتردد بين الرحيل أو البقاء، ربما شأنٌ آخر يعرفه يشدُّه إلى هذه الأرض، أم لعلَّه نسي الأهم؟ ماذا؟

١٥

في مطار أورلي دفع جواز سفره، ووضعه في فتحة الحاجز الزجاجي الفاصل بينه وشُرطي الحدود، ووقف ينتظر أن يدمغ هذا على الجواز. صفٌّ طويلٌ وراءه والشرطي يقلِّب نظره بين الوثيقة تحت بصره والشخص قبالته، ويقلِّب، ويعيد، ويراه يحدق فيه باستغرابٍ، أولًا، باستنكارٍ، ثانيًا، همهمات تعلو من خلفه، ثالثًا، الشُّرطي يحرك يديه بعصبية، رابعًا، وهو يتساءل هل سيمنعونه من الدخول إلى فرنسا وهو في وضعٍ قانوني، خامسًا، وسادسًا وسابعًا يسمع الشرطي يصرخ: هل تمزح يا مسيو؟ فرنسا لا يدخلها الأشباح! مَن أنت؟ أين جسدك مسيو؟ مَن أنت للمرة الأخيرة؟ وهنا تحسَّس نفسه فألفى أنه بلا أعضاء، أنه واقفٌ في الفراغ، وأدرك أخيرًا … ظن أنه أدرك ماذا نسي هناك!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤