عندما ذهبت إلى البحر

١

اليوم هو الأحد … لا شك عندي في ذلك، فاليومية تؤكد، فتنزع كلَّ شكٍّ بات يعتريني في الأيام الأخيرة، عائد ربما لاضطرابٍ في ذاكرتي أو لتشوُّش لم أحدِّد مصدره بعد. هو يوم أحد من شهر غشت الحار، ومنذ يومين ارتفعت درجات الحرارة بقوة قياسًا بشهر يوليوز السابق، وقد شعرت أمس باحترارٍ شديدٍ لجسدي، ولم أطمئن بأني لستُ محمومًا إلا لما سمعت في نشرة الأخبار الصباحية التقرير اليومي لحالة الطقس الذي يقدمه الخبير في الأرصاد الجوية السيد بلعوشي، سجَّل فيه أن الأيام القادمة ستشهد ارتفاعًا في درجات الحرارة يشمل مختلف أرجاء البلاد، خاصة مناطق الداخل والساحل الغربي، من طنجة إلى الرباط.

٢

كنت في الرباط، قبيل الظهيرة أحسست بحرٍّ شديد، والشقة تلتهب جدرانها، وجسمي ينزُّ بالعرق. قلت سأفعلها، قلت سأفعل ككل الناس، الأغنياء والفقراء، فأنا كيفما كانت نفسيتي، أو نظرتي إلى مَن حولي ومجتمعي، أنتمي بز مني إلى هذا الخلق، ولا أستطيع أن أسلخ جلدي مهما فعلت، رغم أن نظرة الجيران، وزملائي في العمل، والحسين الذي أتبضع من بقالته، إضافة إلى عيسى بائع العصير المقوي للباه؛ كل هؤلاء، وآخرون لا يخفون ارتيابهم مني، وهذا ربما لسببين: أولًا، لأني أعيش وحيدًا، أي أعزب، مما يتنافى في نظرهم مع الإسلام. وثانيًا، لأني أحتجُّ على كل شيء، لأي سببٍ، وهذا قد يجلب المشاكل مع المخزن، مع السلطة.

٣

قلت سأفعلها. سأذهب إلى البحر لأتبرد مع رأسي. من حسن الحظ أن الشاطئ قريب، ليس بعيدًا نسبيًّا، وأنا أملك سيارة ستقلني في دقائق، أي لن أضطر للانحشار مع السردين الذي يفيق مع الضوء ليذهب إلى هناك. لأن البحر، وهو شاسع في الداخل، قليل جدًّا في الخارج. الآلاف، الآلاف ممن يسمون بالشعب، الذين تقلهم الحافلات، أو الأقدام يتجمعون كلهم في أمتار. آخرون، ربما، لأنهم من شعوبٍ أو كواكب أخرى فقد حجزوا لهم باكرًا كلمترات، وهم قلة قليلة. رغم هذا أفضِّل الانضمام إلى السردين، فهو لذيذ، ورائحته من رائحتي، وألطف ما فيه أنه يتكلم ويشتم ويغازل خاصة بالعربية، يكفيني عذرًا أن رأسمالي هو العربية.

٤

لا أسهلَ من الذهاب إلى البحر. أخرج منشفة وتُبَّانًا من الدولاب. عندي مرهم مضاد لاحتراق الشمس، قنينة ماء باردة، كتاب إذا اقتضى الأمر، هذا كل ما في الأمر. لن أحمل طعامًا، لا أشرب المونادا. البشر يحملون كمية مهولة من الطعام؛ أكياس من الخبز، مواعين مليئة بالمرق، بطيخ كثير، إلخ. عيسى يقول إن هذا هو الصح، وأن على بني آدم أن يهتم ببطنه أولًا، والبقية على الله. حارس عمارتنا لا يراني أحمل أي قُفة، فيشي بي عند الجيران كأنني أفعل المنكر. رغم ذلك لا يُبقون له حبة خردل من نفقتهم، لأنهم يقتنون بالغرام. وراءهم ديون لسنواتٍ مديدة، الأطفال الذين أنجبوهم بالدَّيْن، أيضًا … وحدي أنا حر؛ لذا سأذهب إلى البحر.

٥

وصلت إلى الشاطئ. اسمه ووضعه جميل: الرمال الذهبية. لا أذكر مذ متى لم آتِ إلى هنا. ظهر لي الرمل نظيفًا، قلت في نفسي هذا جميل، وحسنًا أننا نحن شعب السردين نتطور، نلبي نداء جمعية آفاق الداعي لاحترام البيئة. كأن الذي نشرتُ منشفتي بقربه قرأ ما في داخلي. لعلَّني كنت أهمهم الكلمات بلا وعي، فهذا يحدث لي أحيانًا، ألم أقل لكم بأني أعيش بعض اضطراب. توجَّه جارُ البحر إليَّ بتلقائية عجيبة، وبصوت السردين الضاج: «هه! انتظر إلى العشية، وسترى كيف أن أكحل الرأس سيحوِّل هذا الذهب إلى مزبلة، والسبب هو البطيخ، نعم البطيخ آلسي!» فكرت بأنها نظرية معقولة، وقررت أن أسميها ببساطة: النظرية البطيخية.

٦

دهنت وجهي وأطراف جسمي بالكريم، أضفت قليلًا من الزيت الملمِّع لأفوز بلون ذهبي، رغم فوات الأوان. هكذا، مجرد نزوة. استلقيت على ظهري لأكسب أكبر قدرٍ من الشمس، شمس الرمال الذهبية، قلت في نفسي مرة أخرى: ينبغي أن نفوز بها ما دامت هي متاحة بعد. مَن يدري، قد يوجد غدًا مَن يقطع وصول السردين إلى الشاطئ، وعليه عندئذٍ أن يسبح في الحمامات البلدية، أو في المجاري، أو في ماء البطيخ، أيضًا، حسب النظرية البطيخية، لمَ لا؟!

كانت الشمس فعلًا قوية، وحادة، ولم يزعجني هذا، بل فتح مسامي، لطَّف الجو تيارٌ هواء غربي. قلت لعلَّه ما كان ينقص مارسو بطل «غريب» كامو، وإلا لما قتل العربي على الشاطئ.

٧

انتبهت بعد أن تمددت أني لم أكتشف محيط منشفتي. لم ألقِ نظرة لا إلى البحر ولا إلى المستحمين، والفضولي الذي كلَّمني لم ألتفت إليه. هذه عادتي، ولكل واحدٍ أن ينظر إلى نفسه، والأفضل إلى داخله، وعندئذٍ ربما انتهت ولائم النميمة الرخيصة، وعمَّ السلام، أووف، ربما.

هي هواجس تنتابني حين أتمدد تحت الشمس في بحر الله، الذي، ربما هو ليس بحر الله، وإلا لماذا طردوني — ذات عام — من بحر المحمدية، ثم أودعوني السجن بتهمة الترامي على بحر الغير، الذي قال لي الضابط، وهو يشتم آخر أجدادي، بأنه ملك لمَن لا ينبغي أن يرِد اسمه على لساني لأنه لن يبقى لي لسان ولا أي عضو آخر، أنا وسلالتي في مشارق الأرض ومغاربها!

٨

سرى الخدر في حسِّي، وتفصَّد جبيني عرقًا، أحسست أني شرعت في التشمُّس. أحسست كذلك بطراوة الهواء رغم قوة الشمس. حمدت الله أن الوقت تبدَّل، كما يقال في الجرائد، وأنه ما زال للسردين مكان يصطاف فيه، حتى ولو في أمتار. كاد الخَدَر أن يسلمني إلى غفوة، لولا، لولا أني سمعت، عن قربٍ، كما عن بُعدٍ، ما يشبه همهمة، تقترب مني وتبتعد، كموج البحر في مدٍّ وجزر. أحسستُني أتقلَّب فوق الهمهمة. أكاد أتميزها شكلًا، بساطًا، لا بل أرضًا تنهض من الأرض، فيصبح لها أقدام، تنطلق كمتسابقين، يصدر عنها دمدمة. أخيرًا، تلهث من عياء، تخور سيقانها، فتسقط في الأرض الأصلية، وتعود الدمدمة إلى سالف عهدها مجرد همهمة.

٩

طردت الدمدمةُ الخَدَر؛ أيقظتني تمامًا. صرت بين رغبتَين؛ أن أواصل إغماض عينَي، بما يقيني رؤية أي قبح، أن أفتحهما وأنهض للاطلاع على ما يحدث، لعلَّ شيئًا حدث، أو قريبًا جدًّا. ثم وجدت من الأنسب لي القيام؛ إن جسمي يحتاج إلى الحركة. أظن أني قضيت وقتًا كافيًا تحت الشمس، أظن أن جسمي يحتاج إلى الماء. ألم آتِ إلى هنا من أجل الماء، البحر، الرمال الذهبية، الساعة الآن الواحدة والنصف. البحر أراه لطيفًا لا هائجًا، أرمي نظري أبعد فأرى سابحين كثرًا متلاصقين كالسردين في العلب. سابحون من كل الأعمار، من الجنسين، الشاطئ ممتلئ على مدِّ البصر؛ طبعًا، هذا يوم الأحد، ونحن في عز الصيف، طبعًا! طبعًا!

١٠

لم أكن وحدي مَن يرى. السابحون والسابحات. الذكور والإناث. الكبار والصغار. المسترخون على الرمال، والواقفون. بدورهم، بل جميعهم كانوا ينظرون. أنا لم أكن أنظر إليهم. أرمي نظري هكذا حيثما اتفق، من غير أن أميز. السردين يشبه بعضه. أنا أشبه السردين. لذا لا يهمني رؤيته إلا لضرورة العيش المشترك، القاهر، بالصدفة، بسبب الاحتكاك، وبسبب هذا الشاطئ. إننا محجوزون هنا بالآلاف في مساحة لا تتعدى مئات أمتار. هذا طبيعي أن تتقاطع وتتداخل نظرات البشر إلى بعضهم، أن يتلاحموا أحيانًا، أن يشتبكوا. أنا واحد منهم، مَن سردينيَّتهم، فطبيعي أن يكونوا مثلي، حرفتهم أو هوايتهم، أن ينظروا … وهذا كل ما في الأمر.

١١

أنهي تردُّدي، أتقدم نحو الماء. كان الموج شبه منعدم، فصرت أمشي كما مشي موسى فوق الماء. أبلِّل أطرافي وأنا أتقدم بتؤدة في مساحة، لا أجدُ من عجبٍ، رغم اكتظاظ الشاطئ، مَن ينافسني فيها. في الشواطئ السردينية لا يجد السابح مترًا ليمدَّ ذراعيه في السباحة، خاصة يوم الأحد. ها أنا ذا في الشاطئ نفسه، واليوم عينه، لكن المنظر اختلف عندي، كأن القوم اتفقوا بينهم لسببٍ أجهله، طبعًا، أن يتكرموا عليَّ، موقِّرين شيبي، مبجِّلين ميلي العنيد إلى الوحدة، فتركوا لي عشرات الأمتار ألقي فيها بجسدي، وحدي، أمدِّد ذراعي، دافعًا ساقَي خلفي، بملء طاقتي، وتمام سعادتي، وأنا أتنفَّس عميقًا، وأغطس، وحين أصعد — ياه — لا أرى أحدًا!

١٢

لا، لم يكن السابحون الآخرون قد اختفوا تمامًا، لم يكن البحر قد أقفر، ولم أكن، أنا بدوري، ضحية واحد من استيهاماتي، التي تجتاحني مرة، مرة. عندما كنت صغيرًا، وأذهب إلى البحر مع رفاق حيي، غالبًا ما نرى حالة طفل، بل وشخص كبير السن، غريق. نرى السابحين بالآلاف وقد صاروا فجأة جماعة متكتلة لمَّها الفضول في دقائق، والكل يريد أن يعرف هل مات الغريق، والكل يعلِّق، ويندِّد بالتهور، وقلة العقل، وأن البحر غول، وأن بني آدم يلقي بنفسه إلى التهلكة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا اتفق أن الغريق لم يغرق، واستطاع النهوض، يسمع ألف شتيمة، وألف موعظة، ويبدأ الجمع في التفرق، وتنتهي حفلة الموت … إلى حين.

١٣

هكذا رأيتهم قد تجمَّعوا مثل صورة الصبا، مع فارق أنهم لم يكونوا عاكفين على شبه غريقٍ، ولكن على النظر في اتجاه واحد، وحيد، اتجاه لم يكن فيه أحدٌ سواي. طبعًا، لم أكن قادرًا أن أرى نفسي، ولكني كنت متأكدًا أن لا أحد غيري حولي، أو بالقرب مني، بالتالي فها أنا ذا وحدي. فقلت في البداية معلقًا بابتسامة ساخرة: أليس هذا هو الوضع الطبيعي الذي أفضِّل. ما ألطف هؤلاء الناس الذين يتيحون لي فرصة مؤقتة لأنسلخ عن الطبيعة السردينية، هم — فعلًا — كرماء ومتسامحون، وها أنا ذا أراهم، يتأكد لي إذ أراهم يتراجعون إلى أقصى مساحة ما زال الشاطئ يتيحها لهم، ولكني، ولأمر ما كنت أرى في عيونهم جحوظًا و… وشررًا!

١٤

ساءلت نفسي هنا: ترى، أوَفيَّ ما يعيب؟ أوَ بدَرَ مني تجاههم سلوكٌ معيبٌ؟ لست إلا مواطنًا سردينيًّا يرتاد الشاطئ يوم الأحد، لأن الحر يزهقه، ولأن البحر، أو ما تبقى منه مجاني، ولأن …

ليست لي كرش متكورة؛ لا عاهة تلفت النظر إلى جسدي؛ لا أقفز كالقردة، ولا يصدر عني صوتٌ قبيحٌ مثل مغني هذه الأيام؛ وها أنا ذا أتلمَّس ذقني فهو حليق … ماذا بقي، ربما، ما قد يخيف، أو يبعث على الاختلاف، فيتراجع القوم إلى أن أصبح البعيييد؟ هكذا لا يوجد ما يخيف، وليستْ إلا هواجسي ما يولد الوسواس الخناس، إلى متى سأبقى ضحية هذا الوسواس؟ إلى متى أظل أنظر إلى مَن حولي كأنهم يريدون بي شرًّا مستطيرًا، وهم طيبون، طيبون!

١٥

هذا ما ظننت، مرة أخرى، ثم ها أنا ذا يكذِّبني ظني، وإلا لمَ صرت أرتجف؟ لمَ أنا الذي طفقت يتراجع في الجهة المعاكسة؟ وهم، الآخرون المتكاثفون جميعًا، نحوي يتقدمون. الشمس التي كانت في قلب السماء تضرب الآن عينَي، فأكاد أعشى، أكاد أترنَّح، ولا أعرف ماذا أفعل والمتجمهرون ما انفكُّوا يتقدمون. لست مارسو، كان مارسو وحده رأسًا لرأسٍ مع العربي فسدَّد إليه إطلاقة قاضية، لأي سبب كان. أنا وحيد، كالعهد بي، ووحدي أواجه الحشد السرديني، لا طاقة لي به، والبحر أمامي، وهم كالعدو قبالتي، فتوجهت إلى شرق الشاطئ حيث صخور ناتئة، مشيت، وثبْتُ، ركضتُ، صرت ألهث، ولم أتوقف إلا في الطريق العام، أنا ألهث!

١٦

كان أول ما صنعت، وقد وصلت سالمًا إلى بيتي، أن وقفت طويلًا أمام المرآة التي في مدخله، كنت ما أزال بهندام البحر. جسمي عارٍ، مُسْمَر، ليس عليَّ غير تُبَّاني، وقلت في نفسي هذا طبيعي. للتوِّ ضجَّت في سمعي أصواتٌ: لا، لا، هذا ماشي طبيعي. تدريجيًّا، بدأت الأصوات تتشكَّل هيئاتٍ لرجالٍ ونساء ضخام، تتخلَّق منها وجوه ملفوفة بعمائم من شعر كثٍّ كالحلفاء. عدت أقول: ولكن أعبادَ الله أنا ماشي عريان! فجاءت أصواتهم تعوي: بل أنت عريان وعار!

أجسام ضخام ترتدي أكياسًا سوداء طويلة حتى الأردان والسيقان، تعلوها قواقع ورءوس أسماك ميتة، ولموج البحر منها اصطخابٌ عنيف، ومن كل فكٍّ أنياب تمتد، وأنا عار أصرخ!

١٧

وعيت أني هالكٌ — لا محالة — لو بقيت قبالة المرآة، فهم شرخوها وخرجوا، أراهم سينقضون عليَّ أنيابهم في عنقي، لحمي يتطاير رممًا ودمًا، وأنا أتسلق الطابق الثالث من عمارتنا، فالرابع، وهم خلفي، لم أعُد أعِد الطوابق، ونفَسي يركب لهاثي، ولهاثي سُلمٌ أصعد عليه، بينما الأنياب تطول، وهي تتسنن مشحوذة، وحلقة الهواء هي الشاطئ، ومن البحر تخرج حيوانات تتخبط وتعوي هائجة: سنذبحك، سنأكلك، أنت عار، عار. لم يبقوا وحدهم؛ إذ انضم إليهم جيراني، انضم إليهم ساكنة الزقاق، نُفيسة البقالة العانس، عيسى بائع مواد تقوية الباه، انضم إليه مختار الحي بنفسه معه صبيته المخبرون، وهم يصرخون: نعم، نعرفه، هو دائمًا عريان!

١٨

كنت قد وصلت إلى السطح، كنت قد وصلت تقريبًا إلى السماء. فيَدي تلامس الفراغ. جسدي العاري مفتوح على عراء مطلق. لا أرض، لا بحر، لا شمس، لا قمر، لا نجوم، لا إنس ولا جان. ليس إلا الفراغ المطلق، جغرافيا الهواء، وأنا كتلة تتموَّج، لا تصعد ولا تنزل، مثل كوكبٍ معلق في الفضاء منذ ما لا أعلم من زمن. فجأة، انشقَّ الفراغ والهواء، فظهرت أبدانهم الضخمة، وتسنَّنت أنيابهم تمتد إلى عُريي المطلق، ولم يبقَ بيننا إلا سحابة من عواء حيواني شنيع، وحين أوشكت الأنياب على الفتك بي، رأيتها اليد البيضاء تنزل من السماء، يد لم أرَ مثلها تتدلى لي وأصابعها تتكلم، تخاطبني: اصعد، نحن هنا في الأعالي نحب العراء!

الرباط في ١٠ / ٠٨ / ٢٠١٠م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤