Strangers in The Night

١

توجد في قرطبة الأرجنتينية، مثل عديد مدن بالأرجنتين، ميادين كثيرة، ومدارات واسعة. هي منعطفات وملتقيات تتقاطع عندها شوارع وأزقة، فتراها تصبُّ فيها كما تصب الجداول في النهر الكبير. تشهدها محاطة بالمتاجر وباحات المقاهي، ومزدانة بأحواض العشب النظيف، والأرصفة الممتدة حواليها صقيلة كالمرايا. أما نظافتها فعزَّ نظيرها، لأنك حين تشهدها لا تملك نفسك من المقارنة، وبمجرد ما تقارن يمكن أن تتورط، كما أتورط أنا عادة، لأنجر إلى ما لا يخطر لي أحيانًا على البال.

٢

لا أتصور أن الساحة التي أعجبتني في قرطبة الأرجنتينية لها ما يشبهها أو يضاهيها، وقد اقتنعت في إعجابي بها، وبمدينتها، حدًّا أني قلت: هذا مكان أستطيع العيش فيه بهناء، وقضاء ما تبقى من العمر هنا. أنسى كوني عشت وما زلت أتقلَّب في أيما أماكن ومضاجع أخرى. في البداية حسبت ارتياحي من اتساقها وحيويتها المفرطة، وكثرة ما تحويه من محلات مبهجة، ثم تبين لي أن هذا لا يكفي؛ إذ ثمة ما هو أبهج منها وألطف اتساقًا، وإذن أين يكمن الفرق؟ ما الذي يصنع جاذبية المكان، يدفع إلى الارتباط به، أحيانًا مطلقًا؟ وماذا؟

٣

مددت رجلي براحة، وأنا مسترخٍ في باحة مقهى (توريتو) بساحة (أوسموس) في قرطبة الأرجنتينية، تتجاذبني هذه الخواطر والمساءلات. الأرجح عندي أنه الإحساس بالمكان هو ما يربط الكائن به: إنك تراه، تشمُّه، تُقبِل عليه، تشتاق إليه، فأي توقع، أي لهفة، أي وحشة في الغياب، أي غبطة وامتنان بالعودة إليه. ثم، وأنا أمد رجلَي أكثر أبعد عن مربع الطاولة فتهتز بحركتي وتنقذف القنينة الموضوعة فوقها، متكسرة شظايا حولها، لأهتز بدوري كأنما منتَزعًا من سبات، لأقول بأن هناك بالتأكيد شيئًا آخر متواريًا في الخلف، لا يبين إلا مواربًا، أو مخاتلًا ومختلسًا، وهنا بالصدفة رفعت عينَي فاختلست …

٤

قبالتي في أقصى الساحة، من جهة اليمين مبنى أسطواني الشكل، يئوي متجرًا ضخمًا باسم Osmos يرصِّع أعاليه بالنيون تكوينٌ لملاكٍ ينفخ في مزمار، وصورة راقص بالنيون.

أسفل المبنى لا تتوقف حركة الدخول والخروج من الزوار والمتبضِّعين، بينهم نسوة كثير. زرت المكان بخيالي، فتفقدتُ أجواءه، ولا أعرف كيف قفزت إليه لأزوره حقيقة فوجدته مطابقًا لتوقعاتي: مليء بمتاجر للساعات والثياب والأحذية، وباحة واسعة لالتهام الهمبورغر، ولم يختلف إلا في المدهش فيه، والمحزن، أيضًا، فهنا كان مسرح قائمًا بأبهة؛ آه، هنا كان!

٥

كلا، إنما زال مسرح وحلَّ عوضه آخر. أين؟ هنا، في هذه الساحة بالضبط. أنا، ومَن حولي، والجالسون في باحة المقهى، والعابرون، وسواهم ممن لا أرى، وهم يرونني حتمًا، نحن جميعًا ممثِّلون، لا بد أن لكل واحدٍ منا دورًا، سواء عرفه أو جهله، وعاه أو أنكره. بالنسبة لي، رغم إنكاري فعل التمثيل، وشخصية الممثل، أحس أن وجودي هنا، جلستي في هذه الساعة المسائية الرائقة، في هذه الساحة الضاجَّة والمُبهجة في آنٍ، بمدينة قرطبة الأرجنتينية، ترتبت بالصدفة والقصد معًا، ليتكوَّن منها شيء ما، أو لتولد بعض الصور، والتمثيل صورة مثل الحياة، وإن احتاج إلى ضرورة التركيب، تركيب الصدفة، مثلًا.

٦

قبل أن أحسَّ بما يلمس يدي المبسوطة على فخذي كنت قد رمقته قادمًا عن بُعد. نظرت أولًا إلى عمود تبديل إشارات المرور. أنارت الإشارة خضراء، فانطلقت السيارات الواقفة تعبر، ليقف المشاة ينتظرون. بدا لي أنه متعجلٌ يريد استباق العبور، ثم وهو يتردد قبل العبور، رغم إضاءة العلامة الحمراء في وجه السائقين. رمقْتُه يتلفَّت أكثر من مرة، بانتباهٍ، بحذرٍ، بل بحذرٍ زائدٍ، يقدِّم خطوة ويؤخر أخرى، ثم بعد لأي يعبر نحو الرصيف المفضي إلى جهة باحة مقهاي، ليضيع مني وسط كثافة المشاة.

٧

عدت أنجذب إلى الجدارية الكبرى لمتجر (أوسموس)، لا تتوقف في بوابته حركة الداخل والخارج. عيناي تدخلان معهم، قدماي تمشيان برفقتهم، رغباتي تترافق ربما برغباتهم، أو تشذ عنها. حاجتي وحرماني، لو وُجدا، بعض حاجتهم. ألهث بالنظر. ألحس ما يُرى، والخفي مما لا يُرى. أستنفر مثلهم مكبوتي، ولا شيء يشبع مطلبي. لا أكف أدخل وأخرج من المبنى التجاري، أصعد، أهبط في درج المسرح القديم، أخيرًا أركب جسدي بفحيحه، وحوحاته، شدِّه وجذبه، وأخرج، تخرج عيناي لتقابلا الساحة من جديدٍ.

٨

هما عيناي تفعلان بي، كالعادة، الفعائل، هما! دليلي التصاق جسدي بالكرسي التصاقًا، ويدي على الكأس قابضة، بينا دخان السجائر من الطاولة المجاورة يقتحم وجهي. دليلي اللمسة. ما هذه اللمسة؟ هل هي يدٌ تربِت؟ أم لسان يلعق؟ أم أصابع تتحسس؟ اللمسة. لا معرفة لي بأي امرأة هنا، وفي هذ البلد بالذات، لتأتي فتتحسسني، وتؤنس غربتي المؤقتة، أو لعلَّها فاتنة غيرها جاءت تراودني عن نفسي وقد لاحظت وحدتي، ورصدت شبه قلقي وهواجسي، لكن، مَن أنا لتأتي وتفعل شيئًا من أجلي؟! هي اللمسة الآن دليلي.

٩

وإذن، هو أنت! سمعته كأنه يقول: أجل، هو أنا، وأنا هنا، وماذا في الأمر. فأواصل: كلا، بتاتًا، أنت حرٌّ في أن تكون هنا، وهنا على الخصوص، حيث أنتم، كما لاحظت، في كل مكان.

فيجيب: طبعًا، في كل مكان، أحرار، نتنقل حيث نشاء، ولا أحد يضيق بنا ذرعًا، رغم أن عيشتنا، خلافًا للظاهر، ليست هيِّنة؛ إذ الحرية لا تهب كل شيء، بل قد تتحوَّل إلى فخٍّ وورطة، والدليل، انظر، ها أنا حر، وتراني أُقبِل عليك، أنت الغريب بالذات، لقد شممتك من بعيدٍ، والآن أتلمسك، أريد منك أنت بالذات، الحقيقة أني خجِلٌ من الطلب، حتمًا أنت تفهم طلبي يا …

١٠

طلبت من النادل أن يحضر لي صحنًا مكونًا … نظرت إليه كأني أسأله ما يرغب … من شريحة لحمٍ وبطاطس مقلية، وماءً باردًا يناسب حرارة الجو. وضعت الصحن أمامه فأقبل عليه بشهية ونهمٍ، لا شك لم يأكل منذ وقت. تأكدت من هذا وقد أتى على الصحن، لحسه من جميع جوانبه ليعود إلى أصله أبيض لامعًا. ثم انتقل إلى إناء الماء شربه عن آخره. وبعد أن أكمل غَمَره حبورٌ شديد، فأقبل عليَّ يتحسس ساقَي وركبتَي وهو يتحرك في محيط الطاولة جيئةً وذهابًا، بينا طفق ذَنَبه يتأرجح عاليًا مثل راية في الريح.

١١

لم أنتبه إليه وهو ينصرف؛ إذ انتقل بصري إلى متجر (أوسموس)، إلى مدخله حيث كلب ضئيل وهرِم يلهث من الحر وهو يحاول التسلل إلى الداخل بين أرجل الداخلين، وفي كل مرة يصدُّه الحارس ليعيد الكَرة. تساءلت فطِنًا: عجبًا، من كان ضيفي قبل قليل؟ ثم فكرت بأني لا أستطيع، مهما فعلت، إطعامَ مجموع ساكنة هذا الكوكب، آدميين وحيوانات؛ فالفقر كثير، والجياع أكثر، ثم إنني لو أنفقت كلَّ ما أملك من مال فسأصبح فقرًا، جائعًا بدوري، وسأضطر لأطوف مثل ضيفي السابق، أو غيره، حول باحات المقاهي، أو عند مدخل المتاجر. وقبل الاسترسال في هذه المخاوف رأيتها، وهي التي لا تنظر إلى أحد، كأنها تقبِل نحوي.

١٢

باحة المقهى دائرية، في شكل نصف هلال. عيناي أبصرتاها وهي تنبت من قُنة الهلال، نحيلة كخط الهلال، بيضاء كأبيضه. مرَّت أمامي شبه ذاهلة، فذهلت من ذهولها حدَّ أني لم أتبيَّن كيف ومتى وصلت إلى أخمص قدمي من الهلال، ثم اختفت خلفه في الظلام … ﻟ … تعود فتظهر من قُنته، مرة ثانية ورابعة، من غير أن ألمسها أو تلمسني. وكلما حاولت بعيني دائمًا، تكون قد أكملت دورة الهلال، انزلقت في منحناه، وأنا أبعث عينَي تجوسان في الذهول، ربما في انتظار … لمسة … قادمة.

١٣

عادت رجلاي تتمددان، وإحساسي يشعُّ، وشعوري يتسع بالمكان، لا بل تضخَّمتُ، صرت المكان والزمن والزمان. لا طارئ يشوش على جلستي، واستمتاعي بساحة (أوسموس) بقرطبة، إلا … ماذا؟ إلا أن قرطبة هذه أرجنتينية، وليست … ليست ماذا؟ كنت سأنتقل إلى استغراقٍ آخر، إلى دوران في رأسي، كما دار ضيفي قبل قليل، ودارت هي حول نصف الهلال، كدت، لولا سماعي عزفًا دخيلًا على ما كان أصلًا صخبًا متجاوبًا بين عبور سيل السيارات بالساحة، وموسيقى روك هارد منفجرة من قعر المقهى، أو ربما من رأسي، مَن يدري؟!

١٤

جاء عزفه مختلفًا، قادمًا من عمقٍ، من بُعدٍ سحيقٍ، ثم وهو آتٍ يصادف دُغلًا أو أحراشًا، فيخترقها ليواصل، وليصل إلى أسماعنا نحن الجلوس في باحة المقهى. فهو توسطَها، قبالتنا، وشرع يعزف على الترومبيت، بمهارة، لكن بغير ما تعب، يظهر في تصلُّب الأوداج مع صعوبة التقاط النفس بعد أكثر من نفخة على الآلة، واللحن يمرُّ منغمًا، لا شك، وإن متعثرًا قليلًا بين أصابع ترتعش وهي تتناوب على أزرار الترومبيت لتؤدي لحن أغنية فرانك سيناترا الشهيرة: Strangers in the night، وانتهى يدور على الزبائن بصحن يلتمس منهم بعينيه بضع بيزُوات، وهامته شبه منكسرة، يؤكد حالته كتفان واضحٌ أن الدهر أخنى عليهما بكلكل.

١٥

رأيت ضيفي السابق عائدًا من جهة إشارة المرور، لكن دون عجلة، طبعًا فقد كان شبعان. والمرأة الهزيلة قادمة من قُنة الهلال تمارس دورة جديدة، وفيما حسِبتُ العازف غادر، إذا به يعود للظهور، وهذه المرة في نمرة مختلفة. فقد بدا وهو يقنع شابًّا وخليلته أنه عازف كامل لا متطفل، أو شحاذ. الدليل صورته في الجريدة، وقد عزف النشيد الوطني ذات سنة أمام رئيس الجمهورية، وها هو بكامل قيافته، تلك، وشبابه، ذاك، هذا هو الزمن، وقد دار دورته؛ ولذا فهو مثل الزمن مضطر أن يدور معه، وأن يغني بحرقة، بتعبٍ، ونصَب، أغنية سيناترا …

١٦

عييت من الجلوس فقمت أحرك ساقي، وفكرت بأني أطلت القعود هنا، بعد أن كررت المشروب، وصرنا ننتقل من المساء إلى الليل، وقلت ربما من الأنسب تغيير المكان، رغم اقتناعي، لأمرٍ ما، بأني هنا في أفضل مكان، وأن المَشاهد التي رأيت تكفيني هذه الليلة، وربما للأيام القادمة، فلا داعي للتغيير ولا للدوران. هم مضطرون له، أما أنا فشخص سائح، متفرغ للحياة، ولا يبغي، بقدر ما يعي ويملك، أفضل مما هو فيه، وإذن فأنا حِلٌّ من متاعبهم، ويكفيني أن أؤدي الدور الموكل لي الليلة في هذه الساحة، وحتى في الحياة برمتها، وليذهبوا هم إلى …

١٧

أردت أن أقول الجحيم، فلم أكمل الكلمة، كأنما هناك شخصٌ غيري يسكنني ألجم نطقي فكفَّ عن الدنيا لساني. هو عينُه من جعلني أحس بالتخلخل في وقفتي، وبذر الشك في يقيني لأصبح أكثر من شخص يريد له مؤلف ما أن يمثِّل دورًا في مسرحية أو قصة عابرة، متسائلًا إن كان حقًّا منسجمًا في وضعه، مكتفيًا برحلة السائح، متصالحًا تمامًا مع نفسه والعالم عبر جلسة اتفاقية في ساحة مدينة من مدن العالم المبهجة، من غير شكٍّ، لكن البعيدة عن أراض أخرى هو أعلم بها، وأناس أعلق بالوجدان والذاكرة … ثم ماذا؟ ثم ماذا؟ ماذا بعد؟

١٨

لم يتركني أكمِل منطقي، فتصدَّى لي: هذا هَوسُك، رومانسيتُك لن تفارقك، هي ومحليتك، بينما العالم واسع جدًّا، والبشر كثير متعددون، متنوعون، والحياة شاسعة الآفاق، وهذا البهاء، هنا في قرطبة أين ستجد أفضل منه، وهذه المتعة التي ستتأجج بعد قليلٍ في الليل، أو تعرف أقوى وأعذب منها. لا تبحث عن السعادة أبعد من أرنبة أنفك، والمتاح لك هو مالَك حقًّا، وسواه حلم فسيح أحلم به إن شئت، لكنه ليس لك. الأرض التي تجد فيها السكينة هي أرضك، وحيث تلفي كرامتك، وترفع هامتك، وتلقَى من يضمك إلى أعطافه بصدقٍ، فذاك وطنك، أجل.

١٩

سمعت خلفي تصفيقًا متواصلًا، وكنت أعطي ظهري للساحة. فلما التفتُّ لأستطلع السبب رأيتهم هم ثلاثتهم، ضيفي وسطهم، يواصلون تصفيقهم، الظاهر أنه خاص للاحتفاء بي، ربما لما قلت، أقصد لما كان يساورني، فأيقنت أنهم مسكونون مثلي وليسوا على شاكلة من رأيت في البداية، أو في الأدوار التي أدوها على حدة في الساحة، وإلا كيف يسمعون الكلام الصامت، ويتبدَّل هندامهم بالسرعة التي أرى، حتى الكلب ضيفي يرتدي حلة سموكينغ تحسبه يترجَّل إلى سهرة، ودعك من المرأة الضامرة استقام ظهرها، والعازف اسودَّ شعره وزال انكساره، وأنا، أنا زرعوا ألف شكٍّ في يقيني فاهتز مني كلُّ يقين، وقبل أن أسألهم لم أستحق هذا التصفيق خطر ما ليس في الحسبان، حسابي على الأقل؛ إذ دارت عليَّ الدوائر.

٢٠

الكلب والعازف والمرأة، وأنا، طفقنا ندور حول كل واحد منا، حول بعضنا البعض. شيئًا فشيئًا أخذ جمهور متكاثر يقبل على الساحة من شوارعها وأزقتها المتفرعة، فحصل اكتظاظ شديد نجم عنه توقف حركة المرور، والتصاق السيارات ببعضها كالأجنة في الأرحام. المدهش حقًّا هو حين شاهدنا في أعلى بناية (أوسموس) التجارية الملاكَ العازف، والملاكَ الراقص، والملاك الأخير، الذي فرد جناحيه وقال اصعدوا، وقال أيضًا: صحيح الحياة هنا جميلة، مبهجة، لكنكم، بالرغم من كل شيء، غرباء؛ لذا سآخذكم إلى قرطبة … الأصلية، قبل أن يلتفت إلى عازف الترومبيت ويطلب منه: والآن اعزف لنا لحن سيناترا من فضلك، ورافقناه نحن نغني:

Strangers in the night exchanging glances
Wondering in the night
What were the chances we’d be charing love
Before the night was through.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤