حكاية مملة

(من مذكرات رجل عجوز)

١

يوجد في روسيا أستاذ بارز هو نيقولاي ستيبانوفتش (الفلاني)، وهو مستشار سري١ وحامل أوسمة. ولديه العديد من الأوسمة الروسية والأجنبية، حتى إنه عندما يضطر إلى حملها يلقبه الطلبة ﺑ «الحاجز الأيقوني».٢ ومعارفه من أرقى الأوساط الأرستقراطية … وعلى أي حال فخلال الخمسة والعشرين أو الثلاثين عامًا الأخيرة لم يوجد في روسيا ولا يوجد عالم شهير إلا يعرفه الأستاذ معرفة قريبة. أما الآن فليس هناك من يصادقه، ولكن إذا تحدثنا عن الماضي فإن قائمة أصدقائه العظام تنتهي بأسماء مثل: بيروجوف، وكافيلين، والشاعر نيكراسوف،٣ الذين وهبوه أخلص وأحر صداقة. وهو زميل في جميع الجامعات الروسية وفي ثلاث جامعات أجنبية. وهلُمَّ جرًّا، وهلم جرًّا. كل هذا، وكثير غيره مما كان يمكن أن يقال، يشكل ما يُعرف باسمي.

واسمي هذا مشهور على نطاق واسع. ففي روسيا يعرفه كل شخص متعلم، وفي الخارج يذكرونه من فوق منصات الجامعات مقرونًا بنعت: شهير وموقر. وينتمي هذا الاسم إلى عداد تلك الأسماء المحظوظة القليلة التي يعتبر سبها أو ذكرها بسوء بين الناس أو في الصحف دليلًا على قلة الذوق. وهذا هو المفروض. فباسمي يرتبط أوثق ارتباط مفهوم الإنسان الشهير، السخي المواهب والمفيد بلا شك. وأنا دءوب وذو جلد كالجمل، وهذا مهم، وموهوب، وهذا أهم. وفوق ذلك، وبالمناسبة، فأنا مهذب، متواضع، وإنسان شريف. لم أحشر أنفي أبدًا في الأدب والسياسة، ولم أبحث عن الشهرة في مجادلة الجهلاء، ولم ألقِ خطابًا في المآدب أو على قبور رفاقي … وعمومًا فاسمي لا تشوبه أي شائبة وليس له أن يشكو من شيء. إنه محظوظ.

وحامل هذا الاسم؛ أي أنا، أبدو رجلًا في الثانية والستين، أصلع الرأس، بأسنان صناعية وعرَّة٤ لا برء منها. وبقدر ما اسمي باهر وجميل بقدر ما أنا نفسي كابٍ وقبيح. فرأسي ويداي ترتعش من الضعف. وعنقي، كعنق إحدى بطلات تورجينيف، يشبه ذراع الكونتراباص، وصدري غائر وظهري ضيق. وعندما أتحدث أو أقرأ ينحرف فمي جانبًا، وعندما أبتسم يمتلئ وجهي كله بتجاعيد شيخوخة ميتة. وليس هناك أي شيء مهيب في هيئتي التعيسة، اللهم إلا عندما تنتابني العرَّة فيظهر على وجهي تعبير خاص، لا بد أنه يثير في نفس كل من ينظر إليَّ فكرة مهيبة قاسية: «يبدو أن هذا الرجل سيموت قريبًا».

وما زلت، كما في السابق، ألقي المحاضرات بصورة لا بأس بها. وكما في السابق أستطيع أن أشد انتباه السامعين على مدى ساعتين. فحماستي، ولغة عرضي الأدبية، وروح الفكاهة تجعل عيوب صوتي غير ملحوظة تقريبًا، فصوتي جاف، حاد، أخن منفر كصوت المنافق. وأنا أكتب بصورة سيئة. فذلك الجزء من مخي الذي يشرف على الملكة الكتابية قد توقف عن العمل. وضعفت ذاكرتي، وتفتقر أفكاري إلى المنهجية اللازمة، وعندما أصوغها على الورق يبدو لي دائمًا أنني فقدت الإحساس بترابطها العضوي، وتأتي التراكيب رتيبة، والعبارة شحيحة مترددة. وكثيرًا ما أكتب غير ما أريد، وعندما أكتب النهاية لا أعود أذكر البداية. وكثيرًا ما أنسى الكلمات العادية، ودائمًا ما أضطر إلى بذل جهد كبير كي أتجنب في الكتابة العبارات الزائدة والجمل التمهيدية التي لا ضرورة لها، فهذه وتلك تدلان بوضوح على انحطاط النشاط العقلي. ومن اللافت للانتباه أنه كلما كانت الكتابة أبسط ازداد توتري إرهاقًا. وعندما أكتب مقالة علمية أشعر أنني أكثر حرية وذكاء بكثير مما عندما أسطر رسالة تهنئة أو مذكرة تقريرية. وهناك أمر آخر: فمن الأسهل بالنسبة لي أن أكتب بالألمانية أو الإنجليزية من أن أكتب بالروسية.

أما بخصوص نمط حياتي الحالي فينبغي أن أشير قبل كل شيء إلى الأرق الذي أعاني منه في الآونة الأخيرة، ولو سئلت: ما الذي يشكل الآن القسمة الرئيسية والأساسية لوجودك؟ لأجبت: الأرق. فكما في السابق، وحسب العادة أخلع ملابسي في منتصف الليل تمامًا وآوي إلى الفراش. وأنعس بسرعة، ولكني أستيقظ والساعة تدور في الثانية بإحساس كأني لم أنَم أبدًا. وأضطر إلى النهوض من الفراش وإشعال المصباح. وأمضي أذرع الغرفة من ركن لركن ساعة أو ساعتين وأتفحص اللوحات والصور المعروفة لي منذ زمن بعيد. وعندما أمل من المشي أجلس إلى مكتبي. أجلس بلا حراك، دون أن أفكر في شيء أو أشعر بأي رغبات. وإذا كان هناك كتاب أمامي، أقربه مني آليًّا وأقرأ دون أدنى اهتمام. وهكذا قرأت آليًّا منذ فترة قريبة، في ليلة واحدة، رواية كاملة بعنوان غريب «عمَّ غنت السنونوة». أو أذهب لكي أشغل نفسي، أعد حتى الألف، أو أتصور وجه زميل من زملائي وأمضي أتذكر: في أي سنة، وفي أي ظروف التحق بالوظيفة؟ وأحب الإصغاء إلى الأصوات. فتارة تهذي ابنتي ليزا بشيء ما في الحلم بسرعة على بعد غرفتين مني. وتارة تعبر زوجتي الصالة حاملة شمعة، ولا بد أن تسقط منها علبة الكبريت، وتارة يصر صوان جف خشبه، أو تطن فجأة ترمسة المصباح … ولست أدري لماذا تهيجني هذه الأصوات.

ألَّا تنام ليلًا يعني أن تدرك كل لحظة أنك لست طبيعيًّا، ولذلك أنتظر بفارغ الصبر مجيء الصباح والنهار حيث يكون من حقي ألا أنام. ويمر وقت مرهق طويل قبل أن يصيح الديك في الفناء. وهذا أول بشير لي. فما إن يصيح حتى أعرف أنه بعد ساعة سيستيقظ البواب في الطابق الأسفل، ولغايةٍ ما سيصعد الدرج وهو يسعل بغضب. وبعد ذلك يبدأ الهواء خلف النوافذ في الشحوب شيئًا فشيئًا، وتتردد الأصوات في الشارع …

ويبدأ نهاري بمجيء زوجتي. تدخل غرفتي مرتدية تنورة، غير مصففة، ولكنها مغتسلة، وتفوح منها رائحة كولونيا الزهور، ويبدو على هيئتها كأنما دخلت عرضًا، وفي كل مرة تقول نفس الشيء: عفوًا، سأبقى دقيقة واحدة … مرة أخرى لم تنَم؟ وتطفئ المصباح، وتجلس بجوار المكتب، وتشرع في الكلام. وأنا لست نبيًّا ولكني أعرف مسبقًا عمَّ سيدور الحديث. كل صباح نفس الشيء. فعادة، وبعد الأسئلة القلقة عن صحتي، تتذكر فجأة ابننا الضابط الذي يخدم في وارسو. فبعد اليوم العشرين من كل شهر نرسل له خمسين روبلًا، وهذا في الأساس ما يشكل موضوع حديثنا.

تقول زوجتي متنهدة: طبعًا هذا مرهق لنا، ولكن واجبنا أن نساعده طالما لم يقف بعدُ على قدميه تمامًا. فالولد في بلد غريب، والراتب قليل … وعمومًا فإذا شئت، يمكننا أن نرسل له في الشهر القادم أربعين روبلًا بدلًا من خمسين. ما رأيك؟

كان من الممكن أن تستخلص زوجتي من الخبرة اليومية أن النفقات لا تصبح أقل بسبب كثرة الكلام عنها، ولكن زوجتي لا تعترف بالخبرة، وتتحدث كل صباح بانتظام عن ابننا الضابط، وعن أن الخبز، والحمد لله، أصبح أرخص، أما السكر فارتفع سعره كوبيكين … تقول كل ذلك بنبرة كأنما تفضي إلي بخبر جديد.

وأصغي إليها وأومئ آليًّا، وربما لأنني لم أنَم الليل تنتابني أفكار غريبة لا داعي لها. أنظر إلى زوجتي وأدهش كالطفل. وأسأل نفسي في حيرة: أصحيح أن هذه المرأة العجوز، البدينة جدًّا، الخرقاء الهيئة، والتي يلوح على وجهها تعبير الهموم الصغيرة والخوف على لقمة الخبز، والنظرة الغائمة من التفكير الدائم في الديون والحاجة، هذه المرأة التي لا تجيد الكلام إلا عن النفقات والابتسام فقط لرخص الأسعار، أصحيح أنها كانت في وقت ما هي فاريا الدقيقة القوام، تلك التي أحببتها بهيام لعقلها الصافي الطيب، وروحها الطاهرة وجمالها، وكما أحب عطيل ديدمونة، «لشفقتها» على علمي؟ أصحيح أن هذه المرأة هي نفسها زوجتي فاريا، التي أنجبت لي في وقت ما ابنًا؟

وأتفحص بتوتر وجه العجوز الخرقاء المترهلة، وأبحث فيها عن فارياي، ولكن لم يبقَ من الماضي فيها سوى الخوف على صحتي وعادة أن تسمي راتبي راتبنا، وقبعتي قبعتنا. وأتألم وأنا أنظر إليها، ولكني أعزيها ولو قليلًا، أسمح لها بأن تقول أي شيء، بل حتى أصمت عندما تظلم أحدًا في أحكامها أو تبكتني لأنني لا أمارس العلاج ولا أؤلف كتبًا مدرسية.

وينتهي حديثنا دائمًا بنفس الصورة: فجأة تتذكر زوجتي أنني لم أتناول الشاي بعد، فتفزع. وتقول ناهضة: ما لي أجلس هكذا؟ السماور على الطاولة من زمان وأنا أثرثر هنا. يا إلهي، كم أصبحت بلا ذاكرة!

وتمضي بسرعة، ثم تتوقف عند الباب لتقول: إننا مدينون ليجور براتب خمسة أشهر. هل تعرف؟ كم مرة قلت لك، لا يصح أن نتأخر في سداد رواتب الخدم! الأسهل كثيرًا أن نعطي كل شهر عشرة روبلات من أن نعطي خمسين روبلًا لخمسة أشهر!

وبعد أن تخرج من الغرفة تتوقف عند الباب مرة أخرى وتقول: لا أرثي لأحد مثلما أرثي لابنتنا ليزا المسكينة. البنت تدرس في الكونسرفتوار، وتتحرك دائمًا في وسط راقٍ، ولكن أي ملابس ترتديها، الله أعلم. شيء مخجل الظهور في الشارع بمعطف كمعطفها. لو كانت ابنة أحد آخر، ولكن الجميع يعرفون أن أباها أستاذ مشهور، مستشار سري!

وبعد أن تعيِّرني باسمي ورتبتي تنصرف أخيرًا. هكذا يبدأ نهاري. ويستمر بصورة ليست أفضل.

عندما أجلس لتناول الشاي تأتي إلي ابنتي ليزا في المعطف والقبعة، حاملة نوت الموسيقى، ومستعدة تمامًا للذهاب إلى الكونسرفتوار. إنها في الثانية والعشرين. وتبدو أصغر من ذلك، جميلة، تشبه قليلًا زوجتي في شبابها. تقبِّلني في صدغي وتلثم يدي قائلة: مرحبًا يا بابي، هل أنت بخير؟

كانت في طفولتها تعشق الأيس كريم، فكنت آخذها كثيرًا إلى محلات الحلوى. وكان الأيس كريم بالنسبة لها معيارًا لكل ما هو رائع. فإذا أرادت أن تمتدحني قالت: «أنت يا بابا مثل الكريمة.» وكانت إحدى أصابعها تسمى كريمة والثانية فستق، والثالثة فراولة … حسب أنواع الأيس كريم. وفي العادة، عندما كانت تأتي في الصباح لتسلم علي، كنت أُجلسها على ركبتي وأقبِّل أصابعها مرددًا: «الفستق … الكريمة … الليمون …»

والآن أيضًا، كما في أيام زمان، ألثم أصابع ليزا وأدمدم: «الفستق … الكريمة … الليمون …» ولكن ذلك يصدر عني بصورة أخرى تمامًا. إنني بارد كالأيس كريم، وأشعر بالخجل. وعندما تأتي ابنتي وتمس صدغي بشفتيها أنتفض كما لو أن نحلة لسعتني في صدغي، وأبتسم بتوتر، وأدير وجهي. فمنذ أن أُصبت بالأرق وهناك مسألة تنتصب في ذهني كالمسمار: إن ابنتي كثيرًا ما تراني، أنا الرجل العجوز، الشهير، أتعذب خجلًا من أنني مدين للخادم؛ وهي كثيرًا ما ترى أن هموم الديون الصغيرة تضطرني إلى أن أترك عملي وأذرع الغرفة ساعات طويلة وأفكر، فلماذا لم تأتِ مرة واحدة، خفية عن أمها لتهمس: «يا أبي، خذ هذه ساعتي، وأساوري، وأقراطي، وفساتيني … ارهن هذا كله فأنت بحاجة إلى نقود»؟ ولماذا، وهي ترى أنني وأمها، وقد استسلمنا لإحساس كاذب، نحاول أن نخفي فقرنا عن الناس، لماذا لا تتخلى عن هذه المتعة المكلفة؛ دراسة الموسيقى؟ وما كنت لأقبل منها لا الساعة، ولا الأساور، ولا التضحيات، حاشا لله، فليس هذا ما أحتاجه.

وبهذه المناسبة أتذكر ابني، الضابط العامل في وارسو. إنه إنسان ذكي وشريف وراجح التفكير. ولكن ذلك قليل عندي. إنني أفكر: لو كان لدي أب عجوز أو لو كنت أعرف أنه يواجه لحظات خجل من فقره، لأعطيت مكاني كضابط لأي شخص آخر والتحقت بعمل ما أجيرًا. ومثل هذه الأفكار عن أبنائي تسمم حياتي. فما جدواها؟ فالإنسان الضيق الأفق أو الحاقد هو وحده الذي يُكِن مشاعر الكراهية للأناس العاديين لأنهم ليسوا أبطالًا. ولكن دعونا من هذا.

في العاشرة إلا ربعًا ينبغي أن أذهب إلى أبنائي الأعزاء لأقرأ المحاضرة. أرتدي ملابسي وأسير في الطريق الذي أعرفه منذ ثلاثين عامًا والذي له عندي تاريخه الخاص. ها هو ذا البيت الرمادي الكبير وبه الصيدلية. في وقت ما كان هنا بيت صغير به حانة بيرة. وفي هذه الحانة كنت أفكر في رسالة الدكتوراه، وكتبت أول رسالة حب إلى فاريا. كتبتها بالقلم الرصاص، على ورقةٍ مطبوع أعلاها: Historisa Morbi.٥ ها هو ذا دكان البقال. في وقت ما كان صاحبه يهوديًّا صغيرًا يبيعني السجائر بالدَّين، ثم حلت محله امرأة بدينة كانت تحب الطلبة «لأن كلًّا منهم لديه أم». والآن يجلس تاجر أحمر الشعر، رجل غير مبالٍ تمامًا، يشرب الشاي من إبريق نحاسي، وها هي ذي بوابة الجامعة القاتمة، التي لم ترمَّم منذ زمن بعيد، والبواب السأمان في معطف فروي ضخم، والمكنسة، وأكوام الثلج … إن مثل هذه البوابة لا يمكن أن تترك انطباعًا طيبًا في نفس الصبي الطازج، القادم من الأقاليم، والمتصور أن محراب العلم هو حقًّا محراب … وعمومًا فقِدم المباني الجامعية، وظلام طرقاتها، والسناج على جدرانها، وضعف الإضاءة، ومنظر الدرجات والمشاجب والأرائك الكئيب تحتل في تاريخ التشاؤم الروسي إحدى المراتب الأولى بين الأسباب المساعدة عليه … وها هي ذي حديقتنا. ومنذ أن كنت طالبًا لم تصبح، على ما يبدو، أفضل أو أسوأ. أنا لا أحبها. فقد كان من الأصوب كثيرًا لو نمَت هنا، بدلًا من أشجار الزيزفون المسلولة والأكاسيا الصفراء والبنفسج المقصوص المتناثر، أشجار الصنوبر الفارعة والبلوط القوي. إن الطالب، الذي يتأثر مزاجه في معظم الأحوال بالوضع المحيط به، ينبغي ألا يرى أمامه حيث يدرس، وفي كل خطوة، إلا الأشياء السامية، القوية، الرشيقة … وليحفظه الله من شر الأشجار الهزيلة، والنوافذ المكسورة، والجدران الرمادية، والأبواب المبطنة بمشمعٍ ممزق.

وعندما أقترب من مدخلنا يُفتح الباب على مصراعيه، ويستقبلني زميلي القديم في العمل وتربي وسميي الحاجب نيقولاي. وبعد أن يدخلني يزحر ويقول: صقيع يا صاحب المعالي!

فإذا كان معطفي مبتلًّا يقول: مطر يا صاحب المعالي!

ثم يركض أمامي ويفتح جميع الأبواب في طريقي.

وفي غرفة المكتب ينزع عني بحرصٍ معطف الفراء، وأثناء ذلك يتمكن من الإفضاء إليَّ بخبر من أخبار الجامعة. فبفضل المعرفة الوثيقة القائمة بين جميع حُجاب الجامعة وحراسها، يعرف نيقولاي كل ما يحدث في الكليات الأربع وفي الإدارة وفي مكتب مدير الجامعة وفي المكتبة. وما أكثر ما يعرف! فمثلًا عندما تصبح مسألة إحالة مدير الجامعة أو العميد إلى المعاش قضية الساعة، أسمع نيقولاي، وهو يتحدث مع الحراس الشبان، يذكر أسماء المرشحين، ويوضح على الفور أن فلان الفلاني لن يعتمد الوزير ترشيحه، أما فلان الفلاني فسيعتذر هو نفسه، ثم يتطرق إلى تفاصيل خرافية عن أوراق غامضة وردت إلى الإدارة، وعن حديث سري، جرى، كما يدعي، بين الوزير وأحد الوكلاء … إلخ. وإذا استبعدنا هذه التفاصيل فإن تقديراته بشكل عام تكون دائمًا سليمة. والتشخيصات التي يضعها لهذا المرشح أو ذاك ذات طابع خاص، ولكنها أيضًا صادقة. ولو أردت أن تعرف من ناقش رسالة الدكتوراه وفي أي عام، ومن التحق بالوظيفة، ومن أحيل إلى المعاش أو توفي، فلتستعن بذاكرة هذا الجندي الهائلة، وعندئذ لن يذكر لك السنة والشهر واليوم فحسب، بل والتفاصيل المحيطة بهذا الظرف أو ذاك. إن من يحب هو وحده الذي يستطيع أن يذكر بمثل هذه القوة.

وهو حافظ الأساطير الجامعية. فقد ورث عن أسلافه الحجاب كثيرًا من أساطير الحياة الجامعية، وأضاف إلى هذه الثروة من عنده الكثير مما حصل عليه أثناء الخدمة، وإذا شئت فسوف يروي لك العديد من الحكايات الطويلة والقصيرة. وبوسعه أن يحكي عن الحكماء الأفذاذ الذين كانوا يعرفون كل شيء، وعن الكادحين الرائعين، الذين لم يناموا أسابيع، وعن شهداء العلم وضحاياه العديدين. والخير عنده ينتصر على الشر، والضعيف يتغلب دائمًا على القوي، والحكيم على الأحمق، والمتواضع على المتكبر، والشاب على العجوز … ولا حاجة للتسليم بصحة كل هذه الأساطير والخرافات، ولكن لو رشحتها فسيترسب لديك في المرشح الشيء المطلوب: تقاليدنا الطيبة وأسماء الأبطال الحقيقيين المعترف بهم من الجميع.

وفي مجتمعنا تنحصر كل المعلومات عن دنيا العلماء في بعض النكات عن شرود ذهن الأساتذة العجائز غير العادي، وفي مزحتين حادتين أو ثلاث، تنسب إما إلى جروبر وإما إلي، وإما إلى بابوخين.٦ وهذا قليل بالنسبة للمجتمع المثقف. ولو كان هذا المجتمع يحب العلم والعلماء والطلبة كما يحبهم نيقولاي، لكان لدى أدبه منذ زمن بعيد ملاحم وروايات وسيَر كاملة ليست لديه الآن للأسف.

بعد أن يفضي إلي نيقولاي بالخبر، يرتسم على وجهه تعبير صارم، ومن ثم يبدأ بيننا حديث العمل. ولو سمع شخص غريب في تلك اللحظة كيف يتعامل نيقولاي بطلاقة مع المصطلحات فلربما ظنه عالمًا متنكرًا في هيئة جندي. وبالمناسبة فالشائعات عن معارف الحراس الجامعيين مبالَغ فيها إلى حد كبير. صحيح أن نيقولاي يحفظ أكثر من مائة تسميةٍ لاتينية، ويعرف كيف يركب الهيكل العظمي، وأحيانًا يعد أحد المستحضرات، ويُضحك الطلبة بالاستشهاد بمقطع علمي طويل، ولكن نظرية الدورة الدموية البسيطة مثلًا ما زالت بالنسبة له حتى الآن مجهلًا كما كانت منذ عشرين عامًا.

وفي غرفة المكتب يجلس إلى الطاولة مساعدي في التشريح بيوتر أجناتيفتش منحنيًا بشدة فوق كتاب أو مستحضر. وهو رجل دءوب، متواضع، ولكنه غير موهوب، في حوالي الخامسة والثلاثين وقد أصبح أصلع وبكرش كبيرة. وهو يعمل من الصباح إلى المساء، ويقرأ كمية هائلة من الكتب، ويذكر جيدًا كل ما قرأه، ومن هذه الناحية فهو كنز وليس رجلًا. أما فيما عدا ذلك فهو حصان جر، أو كما يقال بتعبير آخر، بليد عالم. إن الملامح الأساسية التي تميز حصان الجر عن الموهبة الحقيقية هي أن أُفقه ضيق ومحدود جدًّا بحدود التخصص؛ وهو خارج تخصصه ساذج كطفل. وأذكر أنني دخلت مرة ذات صباح غرفة المكتب وقلت: تصوروا، يا للمصيبة! يقال إن سكوبليف٧ توفي.

فرسم نيقولاي علامة الصليب، أما بيوتر أجناتيفتش فقد التفتَ نحوي وسأل: من هو سكوبليف هذا؟

وفي مرة أخرى — وكان ذلك قبلها بقليل — أعلنت أن الأستاذ بيروف٨ توفي، فسألني بيوتر أجناتيفتش العزيز: وفيم كان يحاضر؟
ويبدو لو أن باتي٩ غنَّت فوق أذنه تمامًا، ولو هجمت جحافل الصينيين على روسيا، ولو وقع زلزال، فلن يتحرك فيه عضو، وسوف يواصل النظر في مجهره بهدوء وبعينٍ مزرورة. وباختصار فلا يهمه من أمر الكون شيء. إنني مستعد أن أدفع غاليًا كي أرى كيف يضاجع هذا البارد زوجته.

ولديه سمة أخرى: الإيمان الأعمى بعصمة العلم وبالدرجة الأولى كل ما يكتبه الألمان. هو واثق من نفسه، ومن مستحضراته، ويعرف غاية الحياة، ولكنه لا يعرف أبدًا الشكوك وخيبة الأمل التي تشيب منها المواهب. ثم التبجيل الذليل للأسماء الشهيرة وانعدام الحاجة إلى التفكير المستقل. ومن الصعب أن تقنعه بالعدول عن رأي ما، ومن المستحيل أن تجادله فلتحاول أن تجادل شخصًا يؤمن إيمانًا عميقًا بأن أفضل العلوم: الطب، وأفضل الناس: الأطباء، وأفضل التقاليد: التقاليد الطبية. فمن الماضي الطبي السيئ لم يبقَ إلا تقليد واحد: رباط العنق الأبيض الذي يحمله الأطباء الآن. وبالنسبة للعالم، وللشخص المتعلم عمومًا لا يمكن أن تكون هناك تقاليد سوى التقاليد الجامعية العامة، دون تقسيم لها إلى طبية وحقوقية … إلخ، ولكن من الصعب على بيوتر أجناتيفتش أن يسلم بذلك، وهو مستعد أن يجادلك إلى يوم القيامة.

وأتصور مستقبله بوضوح. فخلال حياته كلها سيعد بضع مئات من المستحضرات الفائقة النقاء، وسيكتب الكثير من الدراسات الجافة، المعقولة جدًّا، وسينجز حوالي عشر ترجمات متقنة، ولكنه لن يخترع البارود. فالبارود يحتاج إلى الخيال والابتكار والقدرة على التخمين، أما بيوتر أجناتيفتش فليس لديه شيء من هذا. وباختصار فهو في العلم ليس بسيد، بل عامل أجير.

نتحدث أنا وبيوتر أجناتيفتش ونيقولاي بصوت خافت. ونشعر بقليل من الانزعاج. ويراود النفس إحساس خاص عندما تهدر القاعة خلف الباب كالبحر. خلال ثلاثين عامًا لم أتعود على هذا الإحساس، وأشعر به كل صباح. أزرر سترتي بعصبية، وأوجه إلى نيقولاي أسئلة لا داعي لها، وأغضب … وأبدو وكأنني أجبن، ولكن هذا ليس جبنًا، بل شيء آخر أعجز عن أن أصفه.

وأتطلع إلى الساعة دون أي داعٍ وأقول: حسنًا … ينبغي أن نذهب.

ويتحرك ركبنا بهذا الترتيب: في المقدمة يسير نيقولاي حاملًا المستحضرات أو الأطالس، ومن ورائه أنا، ومن ورائي يسير حصان الجر مطأطئًا رأسه بتواضع؛ أو، إذا لزم الأمر، يسير حاملو الجثة في المقدمة، وخلف الجثة نيقولاي، وهكذا. ولدى ظهوري يقف الطلبة ثم يجلسون، ويهدأ هدير البحر فجأة. ويحل السكون.

وأنا أعرف عمَّ سأحاضر، ولكني لا أعرف كيف سأحاضر وبمَ سأبدأ وكيف سأنتهي. وليس في رأسي جملة واحدة جاهزة. ولكن ما إن أطوف بنظراتي على القاعة (وهي مشيدة على شكل مدرج)، ما إن أتفوه بالعبارة التقليدية «في المحاضرة الماضية تناولنا …» حتى تطير العبارات من صدري صفًّا طويلًا … وتنطلق العجلة! أتحدث بسرعة جارفة، بحماسة، ويبدو أنه لا توجد قوة تستطيع أن توقف مجرى حديثي. ولكي تحاضر جيدًا، أي دون ملل، وبفائدة للسامعين، ينبغي أن يكون في حوزتك، بخلاف الموهبة، البراعة والخبرة، وأن يكون لديك أوضح تصور عن قواك، وعن أولئك الذين تحاضرهم، وعن مادة حديثك. وبالإضافة إلى ذلك ينبغي أن تكون حويطًا وتراقب بيقظة وألا يغيب عنك مجال الرؤية ثانية واحدة.

إن قائد الأوركسترا الجيد، إذ ينقل فكرة الموسيقار، يقوم في وقت واحد بعشرين أمرًا: فهو يقرأ أدوار النوتة، ويلوح بعصاه، ويتابع المغني، ويأتي بحركة تارة في اتجاه الطبل، وتارة في اتجاه البوق وغير ذلك. ونفس الشيء أفعله أنا عندما أحاضر. فأمامي مائة وخمسون وجهًا لا يشبه أحدها الآخر، وثلاثمائة عين تحدق مباشرة في وجهي. وهدفي أن أهزم هذا الوحش الخرافي المتعدد الرءوس. وطالما كان لدي في كل دقيقة من محاضرتي تصور واضح عن درجة انتباهه ومدى فهمه، فهو إذن تحت سيطرتي. أما غريمي الآخر فيقبع داخلي أنا. إنه التنوع اللامحدود للأشكال والظواهر والقوانين والكثير من أفكاري وأفكار الآخرين المرتبطة بها. وفي كل لحظة ينبغي أن تكون لدي المهارة لكي أنتشل من هذه المادة الضخمة أهم شيء وألزمه. وبنفس السرعة التي يتدفق بها حديثي أصوغ فكرتي في شكل يكون في متناول فهم الوحش ويثير اهتمامه، وأن أراعي بانتباه ألا تنتقل الأفكار حسب تراكمها، بل وفق نظام محدد لا غنى عنه لتركيب صحيح للصورة التي أرغب في رسمها. ثم إنني أحاول أن تكون لغتي أدبية، والتعريفات موجزة ودقيقة، والعبارة بسيطة وجميلة ما أمكن. وكل لحظة ينبغي أن أكبح نفسي وأن أذكر أنه ليس في حوزتي سوى ساعة وأربعين دقيقة. وباختصار فهناك عمل كثير. وفي وقت واحد يكون عليك أن تجعل من نفسك عالمًا ومربيًا وخطيبًا، والمصيبة لو انتصر الخطيب فيك على المربي والعالم، أو العكس.

أقرأ ربع ساعة، نصف ساعة، وها أنا ذا ألاحظ أن الطلبة بدءوا يتطلعون إلى السقف، وإلى بيوتر أجناتيفتش، ويستخرج أحدهم منديله، ويعتدل الآخر في جلسته، ويبتسم الثالث لأفكاره الخاصة … وهذا يعني أن الانتباه قد ضعف. ينبغي اتخاذ الإجراءات اللازمة. وأستغل أول فرصة مناسبة وأطلق مزحة ما. وتبتسم الوجوه المائة والخمسون كلها ابتسامات عريضة، وتلمع العيون بمرح، ويتردد هدير البحر لفترة قصيرة … وأضحك أنا أيضًا. لقد تجدد الانتباه، وبوسعي الآن أن أستمر.

إن أي نقاش، وأي تسلية أو ألعاب لم تمنحني أبدًا مثل هذه المتعة التي يمنحني إياها إلقاء المحاضرات. ففي المحاضرة فقط أستطيع أن أستسلم كليةً للشغف، وأدرك أن الإلهام ليس بدعة الشعراء، بل يوجد فعلًا في الواقع. وأعتقد أن هرقل، لم يشعر بعد أكثر مآثره إثارة بمثل هذا الوهن اللذيذ الذي كان ينتابني بعد كل محاضرة.

كان ذلك فيما مضى. أما الآن فلا أشعر في المحاضرات إلا بالعذاب. فما أن يمر نصف ساعة حتى أبدأ أحس بضعف لا يقهر في ساقي وكتفي؛ فأجلس على الكرسي، بيد أني لم آلف الإلقاء جالسًا؛ فأنهض بعد دقيقة، وأواصل الإلقاء واقفًا، ثم أجلس ثانية. ويجف حلقي، ويبح صوتي، ويدور رأسي … ولكي أخفي عن السامعين حالتي أُكثر من شرب الماء، وأسعل، وأتمخط كثيرًا كأنما يزعجني الزكام، وألقي مزحًا في غير مناسبة، وفي النهاية أعلن الاستراحة مبكرًا عما ينبغي. ولكني في الأساس أشعر بالخجل.

ويقول لي ضميري وعقلي إن أفضل ما يمكن أن أفعله الآن هو أن أقرأ للأولاد محاضرة الوداع، وأقول لهم كلمتي الأخيرة، وأباركهم، وأترك مكاني لشخص أصغر وأقوى مني. ولكني، وليحاسبني الله، لا أجد في نفسي الشجاعة لكي أتصرف كما يملي ضميري.

ولسوء الحظ فأنا لست فيلسوفًا ولا عالم لاهوت. وأنا أعلم تمام العلم أنني لن أعيش أكثر من نصف عام؛ وإذن فقد كان من المفروض الآن أن تشغلني أكثر من أي شيء آخر مسائل مثل ظلمات العالم الآخر والرؤى التي ستراودني في نومة القبر. ولكن روحي لا تبغي، لست أدري لماذا، أن تعرف هذه المسائل، رغم أن عقلي يدرك مدى أهميتها. ومثلما منذ عشرين أو ثلاثين عامًا، لا يشغلني الآن، قبيل الموت، إلا العلم وحده. وحتى عندما ألفظ آخر أنفاسي فسوف أظل مؤمنًا بأن العلم هو أهم وأروع وألزم شيء في حياة الإنسان، وأنه كان وسيظل دائمًا أسمى مظاهر الحب، وبه وحده سينتصر الإنسان على الطبيعة وعلى نفسه. وربما كان هذا الإيمان ساذجًا وغير محق في أساسه، ولكني لست مذنبًا في أنني أؤمن بهذه الصورة وليس بصورة أخرى؛ ولا أستطيع أن أقهر في نفسي هذا الإيمان.

ولكن ليست هذه هي القضية. كل ما أرجوه أن تتسامحوا مع ضعفي وتفهموا أن انتزاع شخص تهمه مصائر النخاع الشوكي أكثر مما تهمه الغاية النهائية للكون، أن انتزاع هذا الشخص من كرسيه وتلاميذه يعادل تمامًا لو أنكم وضعتموه في تابوت وأغلقتم عليه دون أن تنتظروا حتى يموت.

وبسبب الأرق، ونتيجة الصراع المجهد ضد الضعف المتزايد يحدث لي شيء غريب. ففي وقت المحاضرة تمسك الغصة فجأة بحلقي، وتقترب الدموع من مآقيَّ، وأشعر برغبة لاهبة هستيرية في أن أمد ذراعي إلى الأمام وأشكو حالي. أود أن أصرخ بصوت عالٍ بأن القدر قد حكم علي، أنا الرجل الشهير، بالإعدام، وأنه بعد فترة لا تتجاوز نصف عام سيتصرف في هذه القاعة شخص غيري. أريد أن أصرخ بأنني مسموم؛ وأن أفكارًا جديدة، لم أعرفها من قبل قد سممت آخر أيام عمري، وما زالت تلدغ دماغي كالبعوض. وفي تلك اللحظة تبدو لي حالتي فظيعة إلى درجة أود معها أن يفزع كل سامعي، ويقفزوا من أماكنهم في هلع مجنون، ويندفعوا إلى الأبواب بصيحات يائسة.

ما أصعب معايشة هذه اللحظات!

٢

بعد المحاضرة أجلس إلى مكتبي في البيت وأعمل. أقرأ المجلات العلمية ورسائل الدكتوراه، أو أعد المحاضرة التالية، وأحيانًا أكتب شيئًا ما. أعمل على فترات متقطعة لأنني أضطر لاستقبال الزوار.

يدق الجرس. إنه زميل جاء يتحدث في أمر ما. يدخل بقبعته وعصاه، فيمد لي هذه وتلك قائلًا: جئتك لدقيقة! لدقيقة واحدة! لا تنهض يا Collega!١٠ كلمتان فقط! وقبل كل شيء نحاول أن نظهر أحدنا للآخر أننا مهذبون للغاية وسعداء جدًّا برؤية بعضنا بعضًا. أجلسه في الفوتيل وهو أيضًا يجلسني؛ وأثناء ذلك يمسح كل منا بحرص على خصر الآخر، ونلمس أزرارنا، ويبدو كأننا نتحسس بعضنا البعض ونخشى أن تُكوى أصابعنا. ونضحك كلانا، رغم أننا لا نقول ما يضحك. وبعد أن نجلس نقرب رأسينا نحو بعضنا البعض ونشرع في الحديث بصوت خافت. ومهما بلغت درجة المودة التي نكنها بعضنا لبعض فإننا لا نستطيع ألا ننمق حديثنا بشتى عبارات التهذيب الصيني مثل: «لقد تفضلتم فأشرتم عن حق»، أو: «كما سبق وتشرفت فأبلغتكم»، لا نستطيع ألا نقهقه عندما يمزح أحدنا، حتى لو لم تكن مزحة موفقة. وبعد أن يفرغ زميلي من حديثه في الأمر الذي جاء من أجله ينهض دفعة واحدة ويلوح بقبعته نحو كتبي ومجلاتي ويودعني. ومرة أخرى نتحسس بعضنا بعضًا ونضحك. وأصحبه إلى ردهة المدخل. وهنا أساعده على ارتداء معطفه، ولكنه يحاول أن يتنصل من هذا الشرف الرفيع بكل وسيلة. وبعد ذلك، وعندما يفتح يجور الباب، يؤكد لي زميلي أنني سأصاب بالبرد، أما أنا فأتظاهر بأنني مستعد أن أرافقه حتى إلى الخارج. وعندما أعود، أخيرًا، إلى غرفة مكتبي يظل وجهي مستمرًّا في الابتسام، بقوة القصور الذاتي فيما يبدو.
وبعد قليل يدق الجرس ثانية. ويدلف أحد ما إلى ردهة المدخل وينزع معطفه فترة طويلة ويسعل. ويبلغني يجور أن طالبًا جاء فأقول له: أدخله. وبعد دقيقة يدخل غرفتي شاب لطيف الهيئة. منذ عام وعلاقتنا مشدودة؛ فهو يجيب على أسئلة الامتحانات بصورة فظيعة، وأنا أضع له درجة «واحد».١١ وكل عام يتجمع عندي حوالي سبعة من أمثال هؤلاء الشطار الذين ألهبهم وأسقطهم، كما يقول الطلبة. والذين يرسبون منهم في الامتحان بسبب ضعف قدراتهم أو بسبب المرض عادة ما يحملون صليبهم في صبر ولا يفاصلونني. الذين يفاصلون ويترددون علي في البيت هم فقط الدمويو المزاج ذوو الطباع الحية الذين يفسد عليهم تأجيل الامتحان شهيتهم ويعوقهم عن التردد على الأوبرا بانتظام. أما الفريق الأول فأتساهل معهم، وأما الفريق الثاني فألهبهم طوال العام.

وأقول للضيف: اجلس. ماذا تريد أن تقول؟

فيبدأ الحديث متلجلجًا ودون أن ينظر في عيني: معذرة يا أستاذ على الإزعاج. ما كنت لأجرؤ على إزعاجكم لولا أنني … لقد تقدمت لامتحانكم خمس مرات و… رسبت. أرجوكم، لو سمحتم أعطوني «مقبول» لأن …

والحجة التي يوردها جميع الكسالى للدفاع عن موقفهم هي دائمًا نفس الحجة؛ فقد أدوا امتحانات جميع المواد بصورة رائعة ولم يرسبوا إلا في مادتي، وهذا أدعى إلى الدهشة لأنهم كانوا يدرسون مادتي دائمًا باجتهاد، ويعرفونها معرفة رائعة، ولم يرسبوا إلا بسبب التباس غير مفهوم.

وأقول للضيف: معذرة يا صديقي … أنا لا أستطيع أن أعطيك مقبول. اذهب وذاكر المحاضرات قليلًا ثم تعال. وعندئذٍ سنرى.

فترة صمت. وتراودني رغبة في تعذيب الطالب قليلًا لأنه يحب البيرة والأوبرا أكثر من العلم، فأقول له متنهدًا: في رأيي أن أفضل ما تستطيع أن تفعله الآن هو أن تترك تمامًا كلية الطب. فإذا كنت لا تستطيع أن تؤدي الامتحان ولديك هذه القدرات، فمن الواضح إذن أنه ليست لديك لا الرغبة ولا الاستعداد لأن تصبح طبيبًا.

فيستطيل وجه ذي المزاج الدموي ويقول مبتسمًا بمرارة: معذرة يا أستاذ، ولكن ذلك يكون من جانبي أمرًا غريبًا على أقل تقدير. أدرس خمس سنوات ثم فجأة … أترك!

– ولم لا؟ الأفضل أن تهدر خمس سنوات على أن تظل طوال حياتك تزاول عملًا لا تحبه.

ولكني على الفور أرق لحال الطالب فأسارع إلى القول: وعمومًا كما تشاء. حسنًا، فلتذاكر قليلًا ثم تعالَ.

فيسأل الكسول بصوت أصم: متى؟

– متى تشاء. ولو غدًا.

وأقرأ في عينيه الطيبتين: «طبعًا من الممكن أن آتي، ولكنك أيها الوغد ستطردني.»

وأقول له: بالطبع لن تزداد علمًا لمجرد أنك ستقدم لي الامتحان خمس عشرة مرة أخرى، ولكن ذلك سيربي فيك الصلابة. حسنًا، لا بأس حتى بهذا.

ويحل الصمت. أنهض وأنتظر انصراف الضيف، أما هو فيقف ويتطلع إلى النافذة، ويحك لحيته الصغيرة ويفكر. وأشعر بالضجر.

صوت ذي المزاج الدموي لطيف، ريان، وعيناه ذكيتان ساخرتان، ووجهه بشوش، ذابل قليلًا من كثرة شرب البيرة والاستلقاء الطويل على الكنبة. يبدو أنه يستطيع أن يروي لي الكثير من القصص الطريفة عن الأوبرا، وعن مغامراته العاطفية، وعن رفاقه الذين يحبهم، ولكن العرف لم يجرِ بذلك للأسف. أما أنا فعلى استعداد لأن أسمعه عن طيب خاطر.

– يا أستاذ، أعدكم بشرفي أنني لو أعطيتموني مقبول فسوف ….

ما إن تصل الأمور إلى «أعدكم بشرفي» حتى أشيح بيدي وأجلس إلى المكتب. ويفكر الطالب دقيقة أخرى ثم يقول باكتئاب: إذن وداعًا … ومعذرة.

– وداعًا يا صديقي. تصحبك السلامة.

ويمضي نحو المدخل بتردد، وهناك يرتدي معطفه ببطء، وعندما يخرج إلى الشارع لا بد أنه يفكر ثانية فترة طويلة، ودون أن يتفتق ذهنه عن شيء، اللهم إلا: «يا للشيطان العجوز!» موجهة إلي، يمضي إلى مطعم سيئ ليشرب البيرة ويتغدى، ثم إلى منزله لينام. عليك الرحمة أيها الكادح الشريف!

ويدق الجرس لثالث مرة. ويدخل طبيب شاب في حلة سوداء جديدة، ونظارة مذهبة، وبالطبع في رباط عنق أبيض. ويقدم نفسه. وأدعوه إلى الجلوس وأسأله عما يريد. ويبدأ كاهن العلم الشاب يحدثني بشيء من الانفعال عن أنه في هذا العام نجح في امتحان الدكتوراه ولم يبقَ إلا أن يكتب الرسالة. وهو يود أن يعمل تحت إشرافي، وسيكون مدينًا لي بالكثير لو أعطيته موضوعًا للرسالة.

فأقول له: يسعدني جدًّا يا زميل أن أكون ذا فائدة لك، ولكن دعنا نتفق أولًا على ما معنى الرسالة. من المتعارف عليه أن المفهوم من هذه الكلمة أنها مؤلَّف يمثل نتاجًا للإبداع المستقل. أليس كذلك؟ أما المؤلَّف المكتوب حول موضوع يقدمه آخرون، وتحت إشراف آخرين، فله اسم آخر …

ويلوذ الطبيب بالصمت، فأنفجر، وأقفز من مكاني وأصرخ بغضب: ما لكم تأتون إلي جميعًا، لا أفهم! هل أنا صاحب دكان أم ماذا؟ أنا لا أتاجر بالمواضيع! للمرة الواحدة بعد الألف أرجوكم جميعًا أن تدعوني وشأني! أرجو المعذرة على هذه الخشونة، ولكنني سئمت كل هذا!

يلوذ الطبيب بالصمت، فقد تحمر وجنتاه. ويعبر وجهه عن الاحترام العميق لاسمي الشهير ومكانتي العلمية، ولكني أرى في عينيه أنه يحتقر صوتي وهيئتي البائسة، وحركاتي العصبية. وأبدو له في غضبي هذا غريب الأطوار.

وأقول بغضب: لست صاحب دكان، شيء عجيب، لماذا لا تريد أن تكون مستقلًّا؟ لماذا تنفر من الحرية إلى هذا الحد؟

وأقول غير ذلك الكثير، ولكنه يلوذ بالصمت. وفي النهاية تهدأ ثائرتي شيئًا فشيئًا، وبالطبع أستسلم. سيحصل الطبيب مني على الموضوع الذي لا يساوي خردة، وسيكتب تحت إشرافي رسالة لا حاجة إليها، وسينجح بجدارة في المناقشة المملة، وسيحصل على الدرجة العلمية التي ليس بحاجة إليها.

ويمكن أن تتوالى الأجراس تباعًا بلا نهاية. ولكني سأكتفي هنا بأربعة منها. ها هو ذا الجرس الرابع يدق، وأسمع وقع الخطوات المألوفة، وحفيف الفستان، والصوت الرقيق …

منذ ثمانية عشر عامًا مات رفيقي أخصائي العيون وترك ابنة في السابعة تدعى كاتيا، وحوالي ستين ألف روبل. وفي وصيته اختارني وصيًّا على ابنته، وعاشت كاتيا معنا في البيت حتى العاشرة من عمرها، ثم أرسلناها إلى المعهد، وأصبحت لا تقيم عندي إلا في شهور الصيف أثناء العطلات. ولم يكن لدي الوقت لأهتم بتربيتها، ولم أتابعها إلا لمامًا، ولذلك لا أستطيع أن أذكر عن طفولتها إلا القليل جدًّا.

وأول ما أذكره وأحبه من الذكريات عنها الثقة والبراءة غير العادية التي دخلت بها بيتي، وتعالجت بها عند الأطباء، والتي كانت تتهلل دائمًا على وجهها الصغير. كان يحدث أحيانًا أن تكون جالسة في ركن، معصوبة الخد، ولا بد أن تنظر إلى شيء ما باهتمام. وسواء كانت تراني في هذا الوقت وأنا أكتب وأقلب صفحات الكتب، أم ترى زوجتي وهي تسعى في شئون البيت، أم الطاهية وهي تقشر البطاطس في المطبخ، أم الكلب وهو يلعب، فإن عينيها كانتا تنطقان دائمًا بشيء واحد، ألا وهو: «إن كل ما يجري في هذه الدنيا لرائع وحكيم.» كانت محبة للاستطلاع وتهوى الحديث معي. وكان يحدث أن تجلس قبالتي إلى المكتب تتابع حركاتي وتوجه إلي الأسئلة. وكان يهمها أن تعرف ما الذي أقرؤه، وماذا أفعل في الجامعة، وهل أخاف الجثث، وماذا أصنع براتبي.

وتسألني: هل يتشاجر الطلبة في الجامعة؟

– نعم يا عزيزتي، يتشاجرون.

– وهل تجعلهم يركعون على ركبهم؟

– نعم أجعلهم.

كان من المضحك بالنسبة لها أن الطلبة يتشاجرون، وأنني أجعلهم يركعون على ركبهم، فتضحك. كانت طفلة وديعة صبورة، وطيبة. وأحيانًا كان يحدث أن أراها وقد انتُزع منها شيء ما، أو عوقبت ظلمًا، أو لم يشبع حب استطلاعها؛ وعندئذ يمتزج تعبير الثقة والبراءة الدائم على وجهها بالحزن، ولا شيء أكثر. ولم أعرف كيف أناصرها، وفقط عندما كنت أرى حزنها كانت تراودني الرغبة في أن أضمها إلي وأواسيها بنبرة مربية عجوز: «يا يتيمتي الحبيبة!»

وأذكر أيضًا أنها كانت تحب الثياب الجميلة والتطيب بالعطور. ومن هذه الناحية كانت تشبهني. فأنا أيضًا أحب الثياب الجميلة والعطور الجيدة.

ويؤسفني أنه لم يكن لدي لا الوقت ولا الرغبة في متابعة بداية وتطور ذلك الشغف الذي استولى على كاتيا تمامًا عندما بلغت الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة. وأقصد حبها الجارف للمسرح. فعندما كانت تأتي إلينا من المعهد في العطلة وتعيش عندنا، لم تكن تتحدث عن شيء بمثل هذه المتعة وهذه الحرارة كما كانت تتحدث عن المسرحيات والممثلين. وقد أرهقتنا بحديثها الدائم عن المسرح. ولم تكن زوجتي والأولاد يصغون إليها. أنا الوحيد الذي لم تواتني الشجاعة لكي أرفض إيلاءها انتباهي. وعندما كانت تشعر بالرغبة في الإفصاح عن إعجابها كانت تدخل غرفة مكتبي وتقول بصوت ضارع: نيقولاي ستيبانوفيتش، اسمح لي أن أتحدث معك عن المسرح!

فأشير لها إلى الساعة قائلًا: سأمنحك نصف ساعة. هيا تكلمي.

وفيما بعد كانت تأتي معها بعشرات من صور الممثلين والممثلات الذين كانت تعبدهم. ثم حاولت عدة مرات أن تشارك في الحفلات التمثيلية للهواة، وفي نهاية المطاف، عندما أنهت دورة المعهد، أعلنت لي أنها ولدت لكي تصبح ممثلة.

لم أشاطر كاتيا أبدًا ولعها بالمسرح. ففي اعتقادي أنه إذا كانت المسرحية جيدة فلا حاجة لإرهاق الممثلين لكي تترك الانطباع اللازم، ويمكن الاكتفاء بقراءتها فقط. أما إذا كانت المسرحية سيئة فلن يستطيع أي أداء أن يجعلها جيدة.

كنت أتردد كثيرًا على المسرح في شبابي، والآن كذلك تحجز أسرتي مقصورة مرتين في السنة وتأخذني كي «أتهوَّى». بالطبع هذا لا يكفي لإعطائي الحق في الحكم على المسرح، ولكني سأتحدث عنه قليلًا. في رأيي أن المسرح لم يصبح أفضل مما كان عليه منذ ثلاثين أو أربعين عامًا. فكما في السابق، لا أستطيع أبدًا أن أحصل لا في طرقات المسرح ولا في ردهاته على كوب ماء. وكما في السابق يغرمني الحجاب عشرين كوبيكا «ضريبة» نزع المعطف، بالرغم من أنه ليس هناك ما يعيب في ارتداء الملابس الثقيلة شتاء. وكما في السابق تعزف الموسيقى في فترات الاستراحة بلا أي داعٍ، فتضيف إلى الانطباع الذي تتركه المسرحية انطباعًا جديدًا غير مطلوب. وكما في السابق يذهب الرجال أثناء فترات الاستراحة إلى البوفيه لتناول المشروبات الروحية. فإذا لم يكن التقدم ظاهرًا في الجزئيات الصغيرة فمن العبث أن أبحث عنه في الأشياء الكبيرة. فعندما يحاول الممثل، المكبل من قمة رأسه إلى أخمص قدميه بالتقاليد المسرحية والأحكام المسبقة، أن يلقي المنولوج البسيط العادي «أنكون أم لا نكون» لا ببساطة، بل ولست أدري لماذا، بفحيح وتشنجات في جسده كله، أو عندما يحاول أن يقنعني مهما كلف الأمر أن تشاتسكي، الذي يتحدث كثيرًا مع الحمقى ويحب فتاة حمقاء، هو شخص ذكي جدًّا، وأن «ذو العقل يشقى»١٢ ليست مسرحية مملة، فإنه تهب علي من خشبة المسرح نفس رائحة الروتين التي كانت تثير فيَّ الملل منذ أربعين عامًا مضت، عندما كانوا يضيفونني عواءً كلاسيكيًّا ودقًّا على الصدر. وبعد كل زيارة للمسرح أخرج أكثر محافظة عما كنت عليه عند دخولي.

والجموع العاطفية، الميالة إلى التصديق، يمكن إقناعها بأن المسرح، في صورته الحالية، هو مدرسة. ولكن الذي يعرف ما في المدرسة بمعناها الحقيقي، لا يمكن اصطياده بهذا الطعم. ولست أدري ما الذي سيكون بعد خمسين أو مائة سنة، ولكن المسرح، في ظل الظروف الراهنة، لا يمكن أن يكون إلا تسلية. بيد أن هذه التسلية جد مكلفة لكي يواصل المرء تمتعه بها. إنها تحرم الدولة من آلاف الرجال والنساء الأصحاء الموهوبين، الذين لو لم يكرسوا أنفسهم للمسرح لكان من الممكن أن يصبحوا أطباء أو زراعًا أو مدرسات أو ضباطًا جيدين. وهي تنتزع من الجمهور ساعات المساء، أفضل وقت للعمل الذهني ولتبادل الأحاديث الودية. هذا فضلًا عن النفقات المالية والخسائر الأخلاقية التي يتكبدها المشاهد، عندما يرى على المسرح جريمة قتل، أو زنا أو افتراء، معللةً تعليلًا خاطئًا.

أما كاتيا فكان لها رأي آخر تمامًا، كانت تؤكد لي أن المسرح، حتى في صورته الراهنة، أسمى من قاعات الدراسة، والكتب، أسمى من أي شيء في الوجود. المسرح هو القوة التي تجتمع فيها وحدها جميع الفنون، أما الممثلون فمبشرون. وليس بوسع أي فن أو أي علم أن يؤثر بمفرده في روح الإنسان بتلك القوة والإيجابية التي تؤثر بها خشبة المسرح، ولهذا فليس من الصدفة أن يحظى الممثل المتوسط القدرات في البلاد بشعبية أكثر من أعظم عالم أو مصور. وليس بمقدور أي نشاط اجتماعي أن يوفر مثل تلك المتعة والارتياح اللذين يوفرهما النشاط المسرحي.

وذات يوم انضمت كاتيا إلى إحدى الفرق المسرحية، ورحلت إلى مدينة أوفا على ما أعتقد، حاملة معها الكثير من النقود، وما لا يحصى من الأحلام الوردية، والآراء الأرستقراطية حول القضية المسرحية.

وكانت رسائلها الأولى المرسلة من الطريق مدهشة. قرأتها مذهولًا، إذ كيف يمكن أن تتضمن هذه الوريقات الصغيرة كل هذا الصبا والطهارة والسذاجة البريئة، وفي الوقت نفسه هذه الأحكام الحصيفة المرهفة التي يمكن أن يتشرف بها أي عقل رجالي جيد. لم تصف بل مجدت الفولجا، والطبيعة، والمدن التي زارتها، وزملاءها ونجاحاتها وإخفاقاتها، وكان كل سطر ينبض بتلك البراءة الطفولية التي اعتدت أن أراها على وجهها. وبالرغم من هذا، كمية من الأخطاء النحوية، أما علامات التنقيط فلم يكن لها وجود تقريبًا.

ولم يمر نصف سنة حتى تلقيت منها رسالة تطفح إعجابًا وشاعرية إلى أقصى حد، تبدأ بكلمتين: «لقد أحببت.» وكانت مع الرسالة صورة لرجل شاب، بوجه حليق، وقبعة عريضة الحواف، وحرام يمر عبر كتفه. أما الرسائل التالية فكانت رائعة كما في السابق، ولكن ظهرت فيها علامات التنقيط، واختفت الأخطاء النحوية، وفاحت منها بقوة رائحة رجل. وأصبحت كاتيا تكتب لي عن أنه حبذا لو أقيم في مكان ما في منطقة الفولجا مسرح كبير، وعلى أسس المساهمة ليس إلا، مع جذب التجار الأغنياء وأصحاب السفن إلى هذا المشروع … إذن لأمكن جمع مبلغ كبير، ولكانت الحصيلة ضخمة، ولعمل الممثلون بنظام المحاصة … وربما كان هذا كله بالفعل شيئًا جيدًا، إلا أنه يخيل إلي أن مثل هذه الأفكار لا تنبع إلا من رأس رجل.

ومهما كان هناك فقد مر عام ونصف أو عامان والأمور فيما يبدو تسير على ما يرام؛ فقد كانت كاتيا تحب، وتؤمن بقضيتها، وكانت سعيدة. ولكني أخذت ألاحظ في الرسائل التالية دلائل واضحة على الانهيار. بدأ ذلك بشكوى كاتيا لي من رفاقها … وهذا أول وأشأم الأعراض. فإذا ما بدأ العالم الشاب أو الأديب نشاطه بالشكوى المُرة من العلماء أو الأدباء، فهذا يعني أن التعب أصابه وأنه غير صالح للعمل. كتبت كاتيا تقول إن زملاءها يتغيبون عن التدريبات ولا يحفظون الأدوار أبدًا. وفي إخراج المسرحيات السخيفة وفي طريقة السلوك على خشبة المسرح يتجلى تمامًا لدى كل منهم عدم الاحترام التام للجمهور. ومن أجل الحصيلة التي لا يتحدثون إلا عنها، تمتهن الممثلات الدراميات كرامتهن إلى حد أداء الأغاني المرحة، أما الممثلون التراجيديون فيغنون المنولوجات التي يسخرون فيها من الأزواج المغفلين ومن جيل الزوجات الخائنات … إلخ. وعمومًا فليس أمام المرء إلا أن يدهش: كيف لم يصب المسرح الريفي بالانهيار حتى الآن، وكيف يمكن أن يتعلق بهذا الخيط الواهي!

ورددتُ على كاتيا برسالة طويلة، والحق أنها كانت مملة جدًّا. وكتبت لها فيما كتبت: «كثيرًا ما تحدثت مع ممثلين عجائز، من أنبل الناس، وهبوني ودهم. واستطعت أن أستخلص من كلامهم أن ما يوجه نشاطهم ليس عقلهم وحريتهم الذاتية بقدر ما هي الموضة ومزاج المجتمع. واضطُر أحسنهم إلى التمثيل في التراجيديات وفي الأوبريتات، وفي المهازل الفرنسية والعروض السحرية، وكان يخيل إليهم دائمًا وبنفس الدرجة أنهم يسيرون في الطريق القويم ويعودون على الناس بالفائدة. وهكذا ترين أن سبب الداء لا ينبغي البحث عنه في الممثلين. بل فيما هو أعمق، أي في الفن نفسه وفي نظرة المجتمع إليه.» ولكن رسالتي هذه لم تفعل إلا أن أثارت كاتيا. فردت علي: «كلٌّ منا يغنِّي في وادٍ. أنا لم أكتب لك عن الناس النبلاء الذين وهبوك ودهم، بل عن عصابة من الأفاقين الذين ليس لهم أي علاقة بالنبل. إنهم قطيع من المتوحشين الذين لم يرقوا خشبة المسرح إلا لأنهم ما كانوا ليُقبَلوا في أي مكانٍ آخر، والذين يعتبرون أنفسهم ممثلين فقط لأنهم وقحون. ليس من بينهم موهبة واحدة، بل هناك الكثير من عاطلي المواهب والسكارى والدساسين والنمامين. لا أستطيع أن أعبر لك عن مدى ما أحس به من مرارة لأن الفن، الذي أحبه كل هذا الحب، قد وقع في قبضة أناس أمقتهم. أشعر بالمرارة لأن أفضل الناس لا يرون الشر إلا من بعيد ولا يريدون الاقتراب أكثر، وبدلًا من أن يتدخلوا يكتبون بعبارة ركيكة كلامًا عامًّا ومواعظ لا حاجة لأحد بها …»، وهلم جرًا، وعلى هذا المنوال.

ثم مر بعض الوقت وتسلمت الرسالة التالية: «خُدعتُ بلا رحمة. لا أستطيع أن أعيش بعد الآن. تصرف في مالي كما ترى. إنني أحبك كأبي وكصديقي الوحيد. سامحني.»

واتضح أن صاحبها ينتمي أيضًا إلى «قطيع المتوحشين». وفيما بعد استطعت أن أخمن من بعض التلميحات أنها حاولت أن تنتحر. يبدو أن كاتيا تناولت السم. ومن المرجح أن حالتها بعد ذلك كانت خطيرة، لأني تلقيت الرسالة التالية من يالطا١٣ إلى حيث أرسلها الأطباء في أغلب الظن. وفي آخر رسالة بعثت بها إلي طلبت أن أرسل إليها في يالطا ألف روبل بأسرع ما يمكن. وقالت في ختام الرسالة: «اعذرني على هذه الرسالة الكئيبة. فبالأمس دفنت طفلي.» وبعد أن أمضت في القرم قرابة عام، عادت إلى البيت.

لقد استمر تجوالها حوالي أربعة أعوام، وطوال هذه الأعوام الأربعة، وينبغي أن أعترف، كان موقفي من كاتيا موقفًا غريبًا لا أحسد عليه. فعندما صرحت لي سابقًا بأنها ستعمل ممثلة، ثم كتبت لي فيما بعد عن حبها، وعندما كانت روح التبذير تتملكها بين الحين والحين فأضطر من وقت لآخر، حسب طلبها، أن أرسل إليها تارة ألف روبل وتارة ألفين، وعندما كتبت لي عن عزمها على الموت، ثم عن موت طفلها، كنت في كل مرة أحتار، وكانت كل مشاركتي في مصيرها تتجلى فقط في أنني كنت أفكر كثيرًا وأكتب لها رسائل طويلة، مملة، كان من الممكن ألا أكتبها على الإطلاق. هذا بينما كنت بالنسبة لها بمثابة والدها وكنت أحبها كابنتي!

والآن تعيش كاتيا على بُعد نصف كيلو متر مني. استأجرت شقة من خمس غرف وأثثتها بصورة مريحة إلى حد كبير وبذوقها المعهود. ولو حاول أحد أن يرسم صورة لجو شقتها لكان الكسل هو المزاج السائد في الصورة. فللجسد الكسول هناك الأرائك اللينة، والمقاعد اللينة، وللأرجل الكسولة هناك السجاجيد، وللعيون الكسولة هناك الألوان الباهتة الكابية أو المطفأة، وللروح الكسولة — على الجدران — وفرة من المراوح الرخيصة والصور الصغيرة التي تطغى فيها الصنعة المبتكرة على المحتوى، وحشد من الطاولات الصغيرة والأرفف المحملة بأشياء لا ضرورة لها ألبتة ولا قيمة لها، وخرق لا شكل لها بدلًا من الستائر … وكل ذلك، بالإضافة إلى الخوف من الألوان الزاهية ومن التناظر والرحابة، يدل — بخلاف الكسل الروحي — على تشوه الذوق الطبيعي. وتستلقي كاتيا أيامًا بكاملها على الأريكة وتقرأ الكتب ومعظمها من القصص والروايات. ولا تخرج من البيت إلا مرة واحدة في اليوم، بعد منتصف النهار، لكي تزورني.

أنا أعمل، وكاتيا جالسة على الكنبة غير بعيد عني صامتة تتدثر بالشال كأنها مقرورة. ولا يعوقني حضورها عن التركيز، ربما لأنها محببة إلى نفسي أو ربما لأنني تعودت على زياراتها الكثيرة وهي بعدُ صغيرة. وأحيانًا أوجه إليها سؤالًا بطريقة آلية، فتجيب إجابة موجزة جدًّا. أو، لكي أرتاح قليلًا، ألتفت نحوها وأنظر إليها وهي مستغرقة في التفكير، تقلب صفحات مجلة طبية ما أو جريدة. وعندئذ ألاحظ أن وجهها لم يعد يحمل تعبير البراءة السابق. أصبح الآن باردًا، لا مباليًا، شاردًا مثل وجوه الركَّاب الذين يضطرون إلى انتظار القطار طويلًا. وكما في السابق ترتدي ثيابًا جميلة وبسيطة، لكن بإهمال، ويبدو واضحًا أن فستانها وتسريحة شعرها يعانيان الكثير من الوسائد والمقاعد الهزازة التي تستلقي عليها أيامًا بكاملها. ولم يعد فيها حب الاستطلاع السابق، ولا توجه إلي أسئلة، كأنما جرَّبَت كل شيء في الحياة ولا تنتظر سماع أي جديد.

وفي نهاية الساعة الرابعة تدب الحركة في الصالون وغرفة الجلوس. إنها ليزا قد عادت من الكونسرفتوار وجاءت معها بصديقاتها. وأسمعهن يعزفن على البيانو ويجربن أصواتهن، ويقهقهن. ويعد يجور المائدة في غرفة الطعام فيتردد رنين الآنية.

وتقول كاتيا: وداعًا. لن أزور اليوم أسرتك. فليسامحوني. ليس لدي وقت. تعال عندي.

وعندما أودع كاتيا حتى المدخل تتفحصني من رأسي إلى قدمي بصرامة وتقول بأسًى: كم هزلت! لماذا لا تتعالج؟ سأذهب إلى سرجي فيودوروفتش وأدعوه. فليكشف عليك.

– لا داعي يا كاتيا.

– لا أفهم ماذا تنتظر أسرتك! حقًّا ما أحلاهم!

وترتدي معطفها دفعة واحدة. وفي تلك اللحظة لا بد أن يسقط على الأرض من شعرها المصفَّف بإهمال مشبكان أو ثلاثة. ويمنعها الكسل وضيق الوقت من تسوية تسريحتها، فتدس خصلاتها تحت قبعتها كيفما كان وتنصرف.

وعندما أدخل غرفة المائدة تسألني زوجتي: كاتيا التي كانت عندك الآن؟ لماذا لم تأتِ إلينا؟ ما أغرب هذا!

فتقول لها ليزا مؤنبة: ماما! إذا لم تكن تريد فلا داعي. هل نتوسل إليها راكعين!

– كما تشائين، ولكن هذا احتقار. تجلس ثلاث ساعات في غرفة مكتبه ولا تتذكرنا. وعمومًا، كما يحلو لها.

فاريا وليزا تكرهان كاتيا. وهذه الكراهية غير مفهومة وربما ينبغي أن تكون امرأة لكي تفهمها. إنني مستعد أن أراهن برأسي على أنه من بين المائة والخمسين شابًّا الذين أراهم كل يوم تقريبًا في قاعتي، ومن المائة كهل الذين أقابلهم كل أسبوع، لا يكاد يوجد شخص واحد يستطيع أن يفهم الكراهية والاشمئزاز من ماضي كاتيا، أي من حملها دون زواج وطفلها غير الشرعي. وفي الوقت نفسه لا أستطيع أن أتذكر امرأة واحدة أو فتاة من معارفي لا تكن هذه المشاعر في نفسها سواء عن وعي أم بالغريزة. وليس هذا راجعًا إلى أن المرأة أكثر فضيلة وطهرًا من الرجل؛ فالفضيلة والطهر لا يختلفان كثيرًا عن الرذيلة إذا لم يكونا منزهين عن المشاعر الشريرة. إنما أرجع ذلك فقط إلى تخلف المرأة. فالشعور الكئيب بالشفقة ووخز الضمير اللذان يكابدهما الرجل المعاصر عندما يرى المأساة، يشهدان لي بتهذيبه وسموه الأخلاقي، أكثر بكثير مما تشهد به الكراهية والاشمئزاز. والمرأة المعاصرة ما زالت فياضة الدموع وفظة القلب كما كانت في العصور الوسطى. وفي اعتقادي أن عين الحكمة هي ما يفعله أولئك الذين ينصحون المرأة بأن تتربى كالرجل.

وزوجتي لا تحب كاتيا أيضًا لأنها كانت ممثلة، ولجحودها، وتكبرها وشذوذها، وللعيوب العديدة التي تجيد كل امرأة دائمًا اكتشافها في الأخرى.

وبالإضافة إلي وإلى أفراد أسرتي يتغدى عندنا صديقتان أو ثلاث من صديقات ابنتي، وألكسندر أدولفوفتش جنيكر؛ المغرم بليزا والمرشح لطلب يدها. وهو شاب أشقر، لا يتجاوز الثلاثين، متوسط القامة، بدين جدًّا، عريض المنكبين، بسالفين أحمرين قرب أذنيه، وشوارب مخضبة تضفي على وجهه البدين الناعم تعبيرًا يجعله أقرب إلى الدمية. وهو يرتدي سترة قصيرة جدًّا، وصديريًّا ملونًا، وسروالًا بكاروهات عريضة، واسعًا جدًّا من أعلى وضيقًا جدًّا من أسفل، وحذاء أصفر بلا كعب. وعيناه جاحظتان كعيني سرطان البحر، وربطة عنقه تشبه رقبة السرطان، بل يخيل إلي أنه تفوح من هيئة هذا الشاب كلها رائحة حساء سرطان البحر. وهو يتردد علينا يوميًّا، ولكن لا يعرف أحد من أفراد أسرتي ما هو أصله، ولا أين يدرس وبأي موارد يعيش. وهو لا يعزف ولا يغني، إلا أنه على صلة ما بالموسيقى والغناء، ويبيع في مكان ما معازف أشخاص ما، ويتردد كثيرًا على الكونسرفتوار، ومتعرف على جميع المشاهير، ويشرف على الحفلات. ويتحدث عن الموسيقى بثقة كبيرة، وكما لاحظت، يوافقه الجميع عن طيب خاطر.

والأغنياء دائمًا تجد بقربهم المتعيشين. والعلم والفن كذلك. ويبدو أنه لا يوجد في الدنيا علم أو فن يخلو من وجود «أجسام غريبة» مثل جنيكر هذا. وأنا لست موسيقيًّا، وربما أكون مخطئًا بخصوص جنيكر الذي فضلًا عن ذلك لا أعرفه إلا قليلًا. غير أنه تبدو لي مريبةً جدًّا ثقته وذلك الاعتزاز الذي يقف به بجوار المعزف ويستمع إلى من يغني أو يعزف.

وحتى لو كنت مائة مرة شخصًا مهذبًا ومستشارًا سريًّا، فإذا كانت لك ابنة، فلن يحميك شيء من ذلك الابتذال الذي كثيرًا ما تجلبه المغازلة والخطبة والزفاف إلى بيتك وتقحمه على مزاجك. فأنا مثلًا لا أستطيع أبدًا أن أتقبل ذلك التعبير المهيب الذي يظهر على وجه زوجتي في كل مرة يجلس فيها جنيكر عندنا، ولا أستطيع أيضًا أن أسكت على زجاجات نبيذ الشاتو لافيت والبورت والشيري التي تُقدَّم فقط من أجله، لكي يرى بعينيه كيف نعيش في بحبوحة ورفاهية. وكذلك لا أطيق ضحك ليزا المبتور الذي تعلمته في الكونسرفتوار، وطريقتها في زر عينيها عندما يكون في بيتنا رجال. والشيء المهم أنني لا أستطيع أبدًا أن أفهم لماذا يأتي إلي كل يوم ويتغدى معي مخلوق غريب تمامًا عن عاداتي وعلمي، عن كل طراز حياتي، ومختلف تمامًا عن أولئك الناس الذين أحبهم. وتهمس زوجتي والخدم بغموض «بأنه العريس»، ومع ذلك لا أفهم سبب وجوده. وهو يثير فيَّ الاستغراب مثلما لو أجلسوا واحدًا من قبيلة الزولو ليتغدى على مائدتي. ويبدو لي غريبًا أيضًا أن ابنتي، التي تعودتُ أن أعتبرها طفلة، تحب رباط العنق هذا، وهاتين العينين، وهذين الخدين الناعمين …

فيما مضى كنت أحب الغداء أو كنت لا أبالي به، أما الآن فهو لا يثير فيَّ إلا الملل والنرفزة. فمنذ أن أصبحت صاحب المعالي وتوليت عمادة الكلية، اعتبرَت أسرتي لسبب ما أنه لا بد من تغيير قائمة طعامنا ونظام غدائنا تغييرًا تامًّا. وبدلًا من تلك الأطباق البسيطة التي ألِفتها عندما كنت طالبًا ثم طبيبًا، أصبحوا يطعمونني الآن حساء بوريه تعوم فيه أشياء كالفتل البيضاء، وكلاوي بنبيذ الماديرا. وحرمتني رتبة الجنرال١٤ والشهرة نهائيًّا من حساء الكرنب، والشطائر اللذيذة، والأوز بالتفاح، وسمك الأبرميس بالعصيدة. كما حرمتاني من الخادمة أجاشا، تلك العجوز الثرثارة المضحاكة، والتي حل محلها الآن يجور، هذا البليد المتعجرف، بفردة قفازه البيضاء على يده اليمنى. وفترات الاستراحة قصيرة، ولكنها تبدو طويلة للغاية لأنه ليس لدينا ما نشغلها به. لم يعد هناك المرح السابق والأحاديث التلقائية غير المتكلفة والنكات والضحكات، والملاطفات المتبادلة، ولا تلك الفرحة التي كانت تضطرم في نفوس الأطفال وزوجتي ونفسي عندما كنا نجتمع في غرفة الطعام. كان الغداء بالنسبة لي، كرجل مشغول، وقتًا للراحة، ولرؤية الأسرة، وكان بالنسبة لزوجتي وللأولاد عيدًا، صحيح أنه عيد قصير، ولكنه مشرق وبهيج؛ إذ يعرفون أنني، ولمدة نصف ساعة، لم أعد مِلكًا للعلم أو للطلبة، بل ملكًا لهم وحدهم لا يشاركهم فيه أحد. لم تعد هناك تلك القدرة على السكر من كأس واحدة، لم تعد هناك أجاشا، ولا الأبرميس بالعصيدة، ولا ذلك الصخب الذي تقابل به حوادث الغداء الصغيرة مثل الشجار بين القطة والكلب تحت الطاولة، أو سقوط الرباط من على خد كاتيا في طبق الحساء.

إن وصف الغداء الآن كتناوله ليس لذيذًا. فعلى وجه زوجتي ترتسم ملامح مهابة وعظمة متكلفة وتعبير همٍّ مألوف. وتتفحص أطباقنا بقلق وتقول: «أرى أن اللحم المشوي لم يعجبكم … لا يعجبكم، أليس كذلك؟»، وينبغي أن أقول: «لا داعي للقلق يا عزيزتي، اللحم المشوي لذيذ جدًّا.» فتقول هي: «أنت دائمًا تناصرني يا نيقولاي ستيبانوفيتش، ولن تقول الحق أبدًا. فلماذا لم يأكل ألكسندر أدولفوفتش إلا قليلًا جدًّا؟»، وهلم جرًّا طوال فترة الغداء كلها. وليزا تضحك ضحكات مبتورة وتزر عينها. وأنظر إليهما ويتضح لي تمامًا الآن فقط، أثناء الغداء، أن العالم الداخلي لكلتيهما قد أفلت من انتباهي منذ زمن بعيد. ويراودني شعور بأنني كنت أحيا في وقت ما في منزلي مع أسرة حقيقية، أما الآن فأتغدى في ضيافة زوجة غير حقيقية، وأرى ليزا غير حقيقية. لقد حدث لهما تحول حاد، وغابت عني تلك العملية الطويلة التي جرى خلالها هذا التحول، فليس من الغريب أنني لا أفهم شيئًا. ما سبب هذا التحول؟ أنا لا أعرف. ربما تكمن المصيبة كلها في أن الله لم يهب زوجتي وابنتي تلك القوة التي وهبني إياها. فمنذ الطفولة اعتدتُ أن أجابه المؤثرات الخارجية وتمرست بما فيه الكفاية. فالكوارث المعيشية، مثل الشهرة ورتبة الجنرال والتحول من حياة اليسر إلى حياة الإنفاق الأكثر من الدخل والتعرف بالمشاهير … إلخ، لم تكَد تؤثر فيَّ وبقيت سليمًا معافًى، أما زوجتي وليزا الضعيفتان، غير المتمرستين، فقد انهال ذلك كله عليهما مثل كتلة ثلج هائلة فسحقتهما.

تتحدث الآنسات وجنيكر عن الفوجات والطباق الموسيقى وعن المطربين وعازفي البيانو، وعن باخ وبرامز، أما زوجتي، فخشية أن يرتاب أحد في جهلها بالموسيقى، تبتسم بتعاطف معهم وتدمدم: «هذا رائع … حقًّا؟ يا سلام …»، أما جنيكر فيأكل برصانة، ويمزح برصانة ويصغي بتعالٍ متسامح إلى ملاحظات الآنسات. وأحيانًا تراوده الرغبة في التحدث بلغة فرنسية ركيكة، وعندئذ يجد من الضروري لسبب ما أن يلقبني ﺑ Votre excellence.١٥

أما أنا فأعبس. فيبدو أنني أسبب لهم جميعًا الحرج. وهم أيضًا يحرجونني. لم تكن تراودني من قبلُ أبدًا مشاعر العداء الطبقي، ولكن شيئًا من هذا القبيل هو ما يعذبني الآن. وأحاول أن أفتش في جنيكر عن الملامح السيئة فقط، وسرعان ما أجدها فيمزقني الإحساس بأن شخصًا ليس من مقامي يجلس في محل خطيب ابنتي. كما يؤثر وجوده فيَّ تأثيرًا سيئًا من ناحية أخرى. ففي العادة عندما أخلو إلى نفسي أو أتواجد في صحبة أناس أحبهم، لا أفكر أبدًا في مآثري، وحتى إذا ما بدأت أفكر فيها، فإنها تبدو لي ضئيلة، كأنما لم أصبح عالمًا إلا بالأمس. أما في صحبة أناس مثل جنيكر فتبدو لي مآثري جبلًا عاليًا قمته في السحاب، وعند سفحه يدب أمثال جنيكر ولا تكاد العين تلحظهم.

بعد الغداء أذهب إلى غرفة مكتبي وأشعل هناك غليوني للمرة الوحيدة طوال اليوم، المرة التي بقيت لي من عادتي السابقة القديمة السيئة في التدخين من الصباح إلى الليل. وبينما أدخن تدخل زوجتي وتجلس لكي تتحدث إلي. وكما في الصباح فإنني أعرف سلفًا عما سيدور الحديث.

وتبدأ تقول: ينبغي أن نتحدث بجدية يا نيقولاي ستيبانوفيتش. أقصد بخصوص ليزا … لماذا لا توليها اهتمامك؟

– يعني؟

– أنت تتظاهر بأنك لا تلاحظ شيئًا، وهذا عيب. لا يصح أن تكون غير مبالٍ … جنيكر عنده نية بخصوص ليزا … فماذا تقول؟

– لا أستطيع أن أقول إنه شخص سيئ لأنني لا أعرفه. أما أنه لا يعجبني فقد قلت لكِ هذا ألف مرة.

– ولكن هذا لا يصح … لا يصح!

وتنهض وتذرع الغرفة بانفعال ثم تقول: لا يصح أن تنظر هكذا إلى خطوة جادة!

عندما يجري الحديث عن سعادة ابنتنا ينبغي أن نطرح جانبًا الأشياء الشخصية … أنا أعرف أنه لا يعجبك … حسنًا … إذا رفضناه الآن، وأفسدنا الأمر فهل تضمن أن ليزا لن تشكو منَّا طوال العمر؟ ليس العرسان الآن كثيرين، وقد يحدث ألا تسنح لها فرصة أخرى … إنه يحب ليزا جدًّا ويبدو أنه يعجبها … بالطبع ليس لديه مركز واضح، ولكن ما العمل؟ ربما استطاع بمشيئة الله أن يجد وظيفة ما. إنه من عائلة طيبة وغني.

– ومن أين عرفت هذا؟

– هو الذي قال. لدى والده في خاركوف دار كبيرة وعزبة قرب خاركوف. باختصار يا نيقولاي ستيبانوفيتش ينبغي عليك حتمًا أن تسافر إلى خاركوف.

– لماذا؟

لتتحرى الأمر هناك … لديك هناك أساتذة معارف، سيساعدونك. كان بودي لو سافرت أنا، ولكني امرأة. لا أستطيع!

فأقول عابسًا: لن أذهب إلى خاركوف.

تفزع زوجتي، ويظهر على وجهها تعبير ألم مضنٍ. وتتوسل إليَّ باكية: أرجوك يا نيقولاي ستيبانوفيتش! أرجوك خفف عني هذا الحمل! إنني أتعذب!

وأشعر بالألم وأنا أتطلع إليها فأقول بلطف: حسنًا، يا فاريا، إذا شئتِ فسأسافر إلى خاركوف وسأفعل كل ما تريدين.

وتجفف دموعها بالمنديل وتنصرف إلى غرفتها لتبكي. وأبقى وحدي.

وبعد فترة يشعلون الضوء. ومن الفوتيلات وغطاء المصباح ترتمي على الجدران والأرض الظلال التي مللتها منذ زمن بعيد، وعندما أنظر إليها يخيل إليَّ أن الليل قد حل وأن أرَقي الملعون قد بدأ. أتمدد على السرير، ثم أنهض، وأذرع الغرفة، ثم أتمدد مرة أخرى … وعادة يبلغ توتري العصبي قمته بعد الغداء وقبيل المساء. وبلا سبب آخذ في البكاء، وأخفي رأسي تحت الوسادة. وأخشى في هذا الوقت أن يدخل علي أحد فجأة، أخشى أن أموت بغتة، وأخجل من دموعي، وعمومًا تجيش روحي بصورة لا تطاق. وأشعر أنني لم أعد أطيق رؤية المصباح أو الكتب أو الظلال على الأرض، أو سماع الأصوات المتناهية من غرفة الجلوس. وتدفعني قوة مجهولة غريبة بعنف إلى خارج شقتي. فأقفز ناهضًا، وأرتدي معطفي على عجل، وأخرج بحذر حتى لا يلاحظ أحد من أهل البيت. إلى أين أذهب؟

الإجابة عن هذا السؤال تقبع في رأسي منذ وقت طويل: إلى كاتيا.

٣

تستلقي كالعادة على كنبة تركية أو على أريكة وتقرأ كتابًا ما. وعندما تراني ترفع رأسها بكسل وتجلس وتمد لي يدها.

– وأنتِ دائمًا مستلقية — أقول بعد صمت قصير واستراحة — هذا مضر بصحتك. هلا وجدتِ لكِ عملًا!

– هه؟

– أقول هلا وجدتِ لكِ عملًا.

– أي عمل؟ المرأة لا يمكن أن تكون سوى عاملة بسيطة أو ممثلة.

– فليكن! إذا لم يكن من الممكن أن تصبحي عاملة فلتعملي ممثلة.

تصمت.

فأقول بشيء من المزاح: تزوجي إذن.

– ليس هناك من أتزوجه. ولا داعي.

– لا يمكن أن تعيشي هكذا.

– بلا زوج؟ يا للتفاهات! الرجال ما أكثرهم، المهم أن تتوفر الرغبة.

– هذا عيب يا كاتيا.

– ما هو العيب؟

– هو ما قلتِه الآن.

وعندما تلاحظ كاتيا استيائي، ورغبة منها في محو الانطباع السيئ، تقول: هيا بنا. تعالَ هنا. انظر.

وتقودني إلى غرفة صغيرة، مريحة للغاية، وتقول مشيرة إلى مكتب: انظر … أعددته لك. تعمل هنا. تعالَ كل يوم وأحضر معك كتبك وأوراقك. في المنزل يعوقونك عن العمل. هل ستعمل هنا؟ هل تريد؟

ولكني لا أحزنها برفضي، أقول لها إنني سوف أعمل عندها، وأن الغرفة أعجبتني جدًّا. ثم نجلس معًا في الغرفة المريحة ونشرع في الحديث.

الجو الدافئ المريح، ووجود شخص لطيف لا يثيران فيَّ الآن الإحساس بالرضى كما كان في الماضي، بل رغبة قوية في الشكوى والتذمر. ولسبب ما يبدو لي أني إذا ما تأففت واشتكيت فسوف أشعر بالراحة.

فأبدأ القول متنهدًا: الحال سيئة يا عزيزتي! في غاية السوء!

– ماذا حدث؟

– أتدرين ما هي المسألة يا صديقتي؟ إن أعظم وأسمى حقوق الملوك هو حق العفو. وكنت أنا دائمًا أتمتع بهذا الحق دون حدود. لم أصدر حكمًا على أحد أبدًا، وكنت متسامحًا، أغفر ذات اليمين وذات الشمال للجميع عن طيب خاطر. وعندما كان الآخرون يحتجون ويسخطون كنت أنا فقط أنصح وأقنع. وكان كل سعيي طوال حياتي أن تكون صحبتي محتملة لأسرتي ولطلبتي ولرفاقي ولخدمي. وأنا أعلم أن موقفي هذا من الناس قد ربى كل من جمعتهم الصدف بي. ولكن الآن لست ملكًا. إن ما يحدث لي ليس جديرًا إلا بالعبيد. ففي رأسي تدور ليل نهار أفكار شريرة. أما في روحي فقد عششت مشاعر لم أكن أعرفها من قبل. فأنا أكره، وأحتقر، وأسخط وأغضب وأخاف. أصبحت مسرفًا في الصرامة والتشدد والعصبية والجفاء والريبة. وحتى ما كان قبلًا يدفعني إلى أن أقول قفشة أو أضحك ببشاشة، أصبح يثير فيَّ الآن شعورًا ممضًّا. وتغير فيَّ أيضًا منطق تفكيري؛ من قبل كنت أحتقر النقود فقط، أما الآن فأكن مشاعر البغض لا للنقود، بل للأغنياء، كأنما الذنب ذنبهم. ومن قبل كنت أمقت القهر والاستبداد، أما الآن فأمقت الأشخاص الذين يزاولون القهر، وكأنما هم المذنبون وحدهم ولسنا نحن جميعًا الذين لا نعرف كيف نربي بعضنا بعضًا. فما معنى هذا؟ إذا كانت الأفكار والمشاعر الجديدة ناتجة عن تغير المعتقدات، فمن أين جاء هذا التغير؟ هل أصبح العالم أسوأ وأنا أفضل، أم أنني كنت سابقًا أعمى وغير مبالٍ؟ وإذا كان هذا التحول قد حدث نتيجة تدهور عامٍّ للقوى البدنية والذهنية فأنا مريض، وكل يوم ينقص وزني — فإن حالتي إذن تعيسة — فمعنى ذلك أن أفكاري الجديدة غير طبيعية، مريضة، وينبغي علي أن أخجل منها وأعتبرها تافهة …

فتقاطعني كاتيا قائلة: ليس للمرض دخل هنا؛ كل ما هنالك أنك ببساطة فتحت عينيك. لقد رأيت ما لم تكن تريد أن تلاحظه سابقًا لسبب ما. في رأيي أنه ينبغي عليك قبل كل شيء أن تقطع صلتك بأسرتك وتهجرها.

– دعكِ من هذا الهراء.

– ولكنك لا تحبهم، فلم المراءاة؟ وهل هذه أسرة؟ مخلوقات تافهة! لو ماتوا اليوم فلن يلحظ غيابهم أحد غدًا.

كاتيا تحتقر زوجتي وابنتي بنفس الدرجة التي تكرهانها بها. ومن الصعب أن نتحدث في زماننا هذا عن حق الناس في احتقار بعضهم البعض. ولكن إذا ما تبنينا وجهة نظر كاتيا واعتبرنا هذا الحق قائمًا، فسنرى أن لها فعلًا الحق في احتقار زوجتي وليزا، كما لهاتين نفس الحق في كراهيتها.

وتردد كاتيا: مخلوقات تافهة! هل تغديت اليوم؟ كيف لم ينسوا دعوتك إلى الطعام؟ وكيف لا يزالون يذكرون حتى الآن أنك موجود؟

فأقول بصرامة: كاتيا، أرجوكِ أن تسكتي.

– وهل تظن أنه يسرني الكلام عنهما؟ ما كان أسعدني لو كنت لا أعرفهما على الإطلاق. فلتسمع كلامي يا عزيزي: اترك كل شيء وارحل. سافر إلى الخارج. وكلما أسرعت بذلك كان أفضل.

– ما هذا الكلام الفارغ! والجامعة؟

– والجامعة أيضًا اتركها. ما جدواها؟ أنت تحاضر منذ ثلاثين سنة فأين هم تلامذتك؟ وهل لديك منهم علماء مشهورون كثيرون؟ هيا عدَّهم! أما تفريخ هؤلاء الدكاترة الذين يستغلون الجهل ويربحون مئات الآلاف، فلا يحتاج إلى أن تكون شخصًا موهوبًا وطيبًا. أنت زائد عن الحاجة.

فأقول مرتاعًا: يا إلهي كم أنتِ حادة! كم أنتِ حادة! اسكتي وإلا ذهبت! أنا لا أستطيع أن أرد على حدتك!

وتدخل الخادم لتدعونا لتناول الشاي. وبجوار السماور يتبدل مجرى الحديث والحمد لله. وبعد أن نفست عن شكواي تراودني الرغبة في إطلاق العنان لهوى آخر من أهواء الشيخوخة؛ للذكريات. فأحكي لكاتيا عن ماضيَّ، ولدهشتي الشديدة، أروي لها تفاصيل لم أكن حتى أظن أنها باقية في ذاكرتي. وتصغي هي إلي بتأثر، وباعتزاز وبأنفاس مبهورة. وأحب بصفة خاصة أن أحكي لها عن فترة دراستي في المدرسة الدينية وكيف كنت أحلم بالالتحاق بالجامعة.

وأحكي لها: كنت أحيانًا أتجول في حديقة مدرستنا الدينية. وتحمل الريح من حانة بعيدة صرير أكورديون وأغنية، أو تمرق بجوار سور المدرسة عربة ترويكا بأجراس، فيكفي هذا تمامًا لكي يغمر القلب فجأة إحساس بالسعادة، وليس القلب فقط، بل والبطن والساقين واليدين … وأسمع الأكورديون أو رنين الأجراس المتلاشي فأتصور نفسي طبيبًا وأرسم الصور … كل صورة أبهى من سابقتها. وها هي ذي أحلامي كما ترين، تحققت. وحصلت على أكثر مما كنت أحلم به. كنت طوال ثلاثين عامًا أستاذًا محبوبًا، وكان لي رفاق ممتازون، وحظيت بشهرة محترمة. أحببت، وتزوجت عن حب جارف، وأنجبت أولادًا. وباختصار، إذا ما نظرت إلى الماضي، تبدو لي حياتي كلها تشكيلًا جميلًا صيغ بموهبة. لم يبقَ لي الآن سوى ألا أفسد النهاية. ومن أجل ذلك ينبغي أن أموت ميتة إنسانية. فإذا كان الموت خطرًا بالفعل، فينبغي إذن أن أواجهه كما يليق بمعلم وعالم ومواطن دولة مسيحية؛ بروح عالية ونفس مطمئنة. لكني أفسد النهاية. إنني أغرق. وأهرع إليك، طالبًا العون، فتقولين لي: اغرق، فهذا ما ينبغي أن يكون!

وهنا يدق جرس الباب. ونعرف أنا وكاتيا من القادم. فنقول: لا بد أنه ميخائيل فيودوروفتش.

وبالفعل يدخل بعد دقيقة زميلي أستاذ الآداب ميخائيل فيودوروفتش، وهو رجل طويل، متناسق البنية، في حوالي الخمسين، بشعر أبيض كثيف وحاجبين أسودين، ووجهٍ حليق. إنه رجل طيب وزميل رائع. ويرجع نسبه إلى عائلة نبلاء عريقة، كانت محظوظة جدًّا وموهوبة، ولعبت دورًا ملحوظًا في تاريخ أدبنا وثقافتنا. أما هو فذكي، موهوب، ومثقف جدًّا، ولكنه لا يخلو من بعض الشذوذ. ونحن جميعًا إلى حد ما شاذون وغريبو الأطوار، ولكن شذوذه شيء خارق ويشكل خطورة على معارفه. ومن بين هؤلاء أعرف الكثيرين الذين لا يرون، بسبب شذوذه، مزاياه العديدة.

وعندما يدخل إلينا يُمضي فترة طويلة في نزع قفازه، ويقول بصوت مخملي: مرحبًا. تشربون الشاي؟ هذا مناسب تمامًا، فالبرد جهنمي.

ثم يجلس إلى المائدة، ويتناول كوبًا ويشرع في الكلام على الفور. وأهم ما يميز طريقته في الكلام نبرته المازحة دومًا، والتي هي خليط ما من الفلسفة والهذر. مثل حديث حفَّاري القبور عند شكسبير.١٦ وهو دائمًا يتحدث عن أشياء جدية، ولكنه لا يتحدث أبدًا بجدية. وأحكامه دائمًا حادة، سبابية، ولكن بفضل نبرته الناعمة الهادئة فإن حدته وسبابه بشكل ما لا يجرحان السمع، وسرعان ما يألفهما المرء. وكل مساء يأتي معه بخمس أو ست نكات من حياة الجامعة، وعادة ما يبدأ بها عندما يجلس إلى المائدة.

– آه يا إلهي! — يقول متنهدًا وهو يلعب حاجبيه الأسودين بسخرية — لم أكن أظن أن في الدنيا مثل هؤلاء المهرجين.

فتسأله كاتيا: ماذا هناك؟

– كنت خارجًا اليوم من المحاضرة، فقابلت على الدرج هذا الأبله العجوز، زميلنا (فلان الفلاني) … كان يسير كالعادة مادًّا ذقنه الحصاني إلى الأمام ويبحث عمن يمكن أن يشكو له من صداعه وزوجته وطلبته الذين لا يحضرون محاضراته. وقلت لنفسي: يا للمصيبة، لقد رآني، إذن هلكت وضاع كل شيء!

وهلم جرًّا، وعلى هذا المنوال. وأحيانًا يبدأ هكذا: حضرت بالأمس المحاضرة العامة التي ألقاها زميلنا (فلان الفلاني). إنني مندهش كيف أن alma mater،١٧ والطف يا رب من كلام الليل، تجرؤ على تقديم هؤلاء الحمقى والبلداء المسجلي الماركة أمثال فلان الفلاني هذا للجمهور. إنه غبي أوروبي! عفوًا، ولكنك لن تجد له مثيلًا لو بحثت في أوربا كلها بمصباح في وضح النهار! تصوروا، إنه يحاضر وكأنما يمصمص لدائن: صو … صو … صو … يتملكه الارتباك، ولا يميز خطه، وأفكاره كسيحة تتحرك بسرعة الأرشيمندريت١٨ الراكب دراجة، وأهم شيء أنك لا تستطيع أن تعرف ماذا يريد أن يقول. ملل فظيع يتساقط منه الذباب. هذا الملل يمكن أن يقارن فقط بذلك الملل الذي يتولانا في صالة الاحتفالات أثناء الحفل السنوي، عند إلقاء الكلمة التقليدية، عليها اللعنة.

وعلى الفور يتحول حديثه بغتة: منذ حوالي ثلاث سنوات، ونيقولاي ستيبانوفيتش يذكر، اضطررت إلى إلقاء هذه الكلمة. الجو حار، خانق والسترة الرسمية تضغط تحت الإبطين، عذاب رهيب! قرأت نصف ساعة، وساعة، وساعة ونصفًا، وساعتين … ثم قلت لنفسي: «حسنًا، الحمد لله، لم تبقَ إلا عشر صفحات.» وكان في نهاية الكلمة أربع صفحات يمكن تخطيها تمامًا، فقررت ألا أقرأها. وقلت في نفسي: إذن لم يبقَ إلا ست صفحات فقط. ولكن تصوروا، نظرت بطرف عيني فرأيت أمامي في الصف الأول جنرالًا بشريط وكاهنًا ما، جالسين متجاورين. تصلب المسكينان من الملل، وهما يحملقان بشدة حتى لا يناما، ومع ذلك يحاولان أن يرسما على وجهيهما الانتباه، ويتظاهران بأن كلمتي مفهومة لهما وتعجبهما. فقلت في نفسي: حسنًا، إذا كانت تعجبكما فهاكما! كيدًا فيكما! وقرأت الصفحات الأربع.

عندما يتكلم لا تبتسم إلا عيناه وحاجباه، مثلما لدى الأشخاص الساخرين عمومًا. ولا يبدو في عينيه آنذاك كراهية أو غل، بل الكثير من الفكاهة اللاذعة وذلك المكر الثعلبي الخاص الذي قد تلمسه فقط لدى الأشخاص الدقيقي الملاحظة. وإذا ما استطردت في الحديث عن عينيه فسأذكر ميزة أخرى لاحظتها فيهما. فعندما يتناول من كاتيا الكوب أو يصغى إلى ملاحظة تقولها، أو يشيعها بنظره عندما تخرج لغرض ما من الغرفة لفترة قصيرة، فإنني ألحظ في نظرته شيئًا وديعًا، متوسلًا، طاهرًا!

وتحمل الخادم السماور، وتضع على الطاولة قطعة جبن كبيرة وفواكه وزجاجة من شمبانيا القرم، وهو نوع سيئ من النبيذ أحبته كاتيا عندما أقامت في القرم. ويأخذ ميخائيل فيودوروفتش من الرف شدتين من ورق اللعب ويشرع في لعب السوليتير. وحسبما يؤكد فإن بعض أنواع السوليتير يتطلب فطنة وانتباهًا كبيرين، ومع ذلك فلا يكف وهو يرص الورق عن تسلية نفسه بالحديث. وتتابع كاتيا أوراقه بانتباه وتساعده بحركات وجهها أكثر مما بالكلمات. وهي لا تشرب طوال المساء أكثر من كأسَي نبيذ، وأشرب أنا ربع كوب، أما بقية الزجاجة فتكون من نصيب ميخائيل فيودوروفتش، الذي يستطيع أن يشرب كثيرًا ولا يسكر أبدًا.

وأثناء لعب السوليتير نقرر مختلف الأمور، وفي الأساس ما يتعلق منها بالقضايا السامية. وأكثر شيء يصيبه كلامنا هو أكثر شيء نحبه؛ أي العلم.

يقول ميخائيل فيودوروفتش بأناة: العلم، ولله الحمد، فات زمانه. انتهى أجله. نعم. وقد بدأت البشرية تشعر بالحاجة إلى أن تستبدل به شيئًا آخر. لقد نبت في تربة التحيز أو شب على التحيز، وأصبح يشكل الآن خلاصة التحيز، مثل جداته الباليات: الخيمياء القديمة والميتافيزيقا والفلسفة. وبالفعل، ما الذي قدمه للبشر؟ ليس هناك إلا فرق ضئيل، ظاهري فقط، بين العلماء الأوروبيين والعلماء الصينيين الذين ليس لديهم أي علوم. لم يعرف الصينيون العلم، فما الذي خسروه بذلك؟

فأقول أنا: والذباب أيضًا لا يعرف العلم، فماذا إذن؟

– لا داعي للغضب يا نيقولاي ستيبانوفيتش. إنني أتكلم هنا فقط، فيما بيننا … أنا أكثر حذرًا مما تظن، ولن أقول ذلك علانية، أعوذ بالله! هناك لدى العامة حكم متحيز، ففي اعتقادهم أن العلم والفن أسمى من الزراعة والتجارة، أسمى من الحرف. وطائفتنا تعيش من هذا التحيز ولن أكون أنا، ولا أنت، من يهدمه. أعوذ بالله!

وخلال السوليتير ينال الشباب أيضًا حظه.

– صغرت نفوس جمهورنا حاليًّا — يقول ميخائيل فيودوروفتش متنهدًا — أنا لا أعني فقط المثل العليا وخلافه، ولكن لو أنهم على الأقل كانوا قادرين على العمل والتفكير كما يجب! بالضبط كما قال الشاعر: «أتطلع محزونًا إلى هذا الجيل.»١٩

فتوافقه كاتيا: نعم، صغرت نفوسهم جدًّا. خبرني، هل كان لديك في السنوات الخمس أو العشر الأخيرة طالب واحد بارز؟

– لا أدري كيف الحال عند الأساتذة الآخرين ولكنني لا أذكر أحدًا لدي.

– أنا رأيت في حياتي الكثير من الطلبة ومن علمائكم الشبان، وكثيرًا من الممثلين … فماذا؟ لم يتسنَّ لي أن ألتقي ليس ببطل أو صاحب موهبة فحسب، بل حتى بمجرد شخص طريف. كلهم رماديون، بلا مواهب، ومحشوون ادعاءً!

في كل مرة تترك فيَّ هذه الأحاديث عن صغر النفوس انطباعًا، وكأنما سمعت عفوًا حديثًا سيئًا عن ابنتي. ويحنقني أن الاتهامات لا أساس لها، وتقوم على أحكام عامة مستهلكة منذ زمن بعيد وعلى عفاريت مرعبة مثل صغر النفوس وغياب المثل العليا، أو الاستشهاد بالماضي الجميل. إن أي اتهام، حتى لو قيل في صحبة نسائية، ينبغي أن يكون مصاغًا بشكل محدد ما أمكن، وإلا فلن يكون اتهامًا بل اغتيابًا ولغوًا لا يليق بأناس فاضلين.

أنا رجل عجوز، أعمل منذ ثلاثين سنة، ولكني لا ألاحظ صغرًا في النفوس أو ضياعًا للمثل العليا، ولا أعتبر أن الحال أسوأ من قبل. وحاجبي نيقولاي، الذي تعتبر خبرته في هذا المجال ذات قيمة، يقول إن طلاب اليوم ليسوا أحسن أو أسوأ من السابقين.

ولو سُئلت عما لا يعجبني في تلاميذي الحاليين لما أجبت إلا بعد رويَّة، وبكلمات قليلة، ولكنها محددة بدرجة كافية. إنني أعرف عيوبهم ولذلك فلا حاجة بي إلى الاستعانة بضبابية الأحكام العامة. لا يعجبني أنهم يدخنون، ويتناولون المشروبات الكحولية، ويتزوجون متأخرًا؛ لا يعجبني أنهم مهملون، وفي حالات كثيرة لا مبالون إلى درجة أنهم يسكتون على وجود زملاء جوعى بينهم ولا يسددون ديونهم لجمعية مساعدة الطلبة، وهم لا يعرفون لغات جديدة ويخطئون في التعبير باللغة الروسية. وأقرب مثال كان بالأمس، عندما اشتكى لي أحد زملائي، أستاذ الوقاية، من أنه يضطر إلى مضاعفة وقت المحاضرات لأن معرفتهم بالفيزياء ضعيفة ولا يعرفون إطلاقًا علم الأرصاد الجوية. وهم يتأثرون عن طيب خاطر بالأدباء الجدد، ليس حتى بأفضلهم ولكنهم لا يبالون أبدًا بالكلاسيكيين أمثال شكسبير ومرقص أوريليوس، وأبكتيتس أو باسكال،٢٠ وفي عدم القدرة هذا على التمييز بين الكبير والصغير يتجلى بأوضح صورةٍ نقص الخبرة الحياتية لديهم. وكل القضايا الصعبة ذات الطابع الاجتماعي إلى هذا الحد أو ذاك (مثل قضية الهجرة) يحلونها بجمع التبرعات وليس عن طريق البحث العلمي والتجربة، رغم أن هذا الطريق في متناول أيديهم كلية ويتفق تمامًا ومهامهم وأهدافهم. وهم يقبلون عن طيب خاطر على تولي مناصب الأطباء المقيمين والمعاونين وأمناء المعامل والأطباء غير المقيمين، ومستعدون لشغل هذه الوظائف حتى سن الأربعين، على الرغم من أن الاستقلالية، والإحساس بالحرية والمبادرة الذاتية لا تقل غنًى في العلم عنها، مثلًا، في الفن أو التجارة. أنا لدي طلاب ودارسون، ولكن ليس لدي معاونون وورثة، ولذلك فأنا أحبهم وأفرح بهم، ولكني لا أفخر بهم … إلخ … إلخ.

إن مثل هذه النواقص، أيًّا كان مقدارها، لا يمكن أن تولد مزاج التشاؤم أو السخط إلا في نفس إنسان جبان هيَّاب. فكلها ذات طابع عارض، مرحلي، وترتبط ارتباطًا تامًّا بالظروف الحياتية. وتكفي مجرد عشر سنوات لكي تختفي، أو لتُخلي مكانها لنواقص جديدة أخرى، لا محيد عنها، ستخيف بدورها الجبناء. إن نقائص الطلبة كثيرًا ما تثير استيائي، ولكن هذا الاستياء لا يقارن بتلك الفرحة التي أشعر بها طوال ثلاثين عامًا عندما أتحدث مع تلاميذي وأحاضرهم، وأراقب علاقاتهم وأقارنهم بأشخاص من خارج بيئتهم.

يمضي ميخائيل فيودوروفتش في اغتيابه، وكاتيا تصغي إليه، ولا يلاحظان إلى أي هوة سحيقة تشدهما شيئًا فشيئًا مثل هذه التسلية التي تبدو بريئة، هذا الطعن في الأقربين. لا يلاحظان أن حديثهما العادي يتحول تدريجيًّا إلى امتهان وازدراء، وأنهما ينجرَّان إلى استخدام حتى أساليب الافتراء. يقول ميخائيل فيودوروفتش: يا لها من نماذج مضحكة قد يصادفها المرء. بالأمس ذهبت إلى زميلنا يجور بروفتش فوجدت عنده «تلموذًا» من تلاميذك، أظن من الصف الثالث. وجهه يبدو يعني … من طراز دوبرولوبوف،٢١ وعلى جبينه أثر الفكر العميق. وتحدثنا. قلت له: «هكذا إذن أيها الشاب. لقد قرأت أن أحد الألمان — نسيت اسمه — استخرج من المخ البشري عقارًا جديدًا هو الكالويد إيديوتين.»٢٢ فماذا تظنان؟

لقد صدق، بل رسم على وجهه دلائل الاحترام، كأنما يريد أن يقول: أرأيت من نحن الأطباء! ومنذ فترة قريبة ذهبت إلى المسرح. جلست. وإذا أمامي، في الصف التالي يجلس اثنان: أحدهما «من عندنا»، يبدو من طلبة الحقوق، والآخر أشعث الشعر؛ من طلبة الطب. وكان طالب الطب ثملًا كإسكافي. لا يولي خشبة المسرح أدنى اهتمام. بل يغط في النوم ورأسه يسقط. ولكن ما إن يشرع أحد الممثلين في إلقاء منولوج بصوت عالٍ، أو بمجرد أن يرفع صوته، حتى ينتفض صاحبنا الدكتور ويلكز جاره في جنبه ويسأله: «ماذا قال؟ شيء ﻧﺒﻴ…يل؟»، فيرد عليه الذي من عندنا: «نبيل». فيصرخ الدكتور: «بر…رافو! ﻧﺒﻴ…يل! برافو!» لقد جاء هذا المأفون الثمل إلى المسرح لا من أجل الفن، بل من أجل النبل. حضرته يريد نبلاء.

بينما كانت كاتيا تصغي وتضحك وضحكها غريب؛ إذ تتعاقب الشهقات والزفرات بسرعة وبإيقاع منتظم، ويبدو كأنما تعزف على الأكورديون، ولكن لا يضحك في وجهها أثناء ذلك سوى خياشيمها. أما أنا فأشعر بالخور والقنوط ولا أدري ماذا أقول. وتفلت أعصابي فأنفجر وأقفز من مكاني صائحًا: كفى! اسكتا! ما لكما تجلسان هنا كضفدعين وتسممان الجو بأنفاسكما؟ كفى!

ولا أنتظر حتى ينتهيا من اغتيابهما فأستعد للانصراف إلى البيت. وبالفعل حان الوقت، فالساعة تدور في الحادية عشرة.

– أما أنا فسأبقى قليلًا — يقول ميخائيل فيودوروفتش — هل تسمحين يا يكاترينا فلاديميروفنا؟٢٣

فترد كاتيا: أسمح.

Bene،٢٤ في هذه الحالة أرجو أن تأمري بتقديم زجاجة أخرى.

ويرافقانني بالشموع إلى المدخل، وبينما أرتدي معطفي يقول ميخائيل فيودوروفتش: في الأيام الأخيرة هزلتَ جدًّا وهرمت يا نيقولاي ستيبانوفيتش. ماذا بك؟ هل أنت مريض؟

– نعم، مريض قليلًا.

فتضيف كاتيا عابسة: ولا يتعالج!

– لماذا لا تتعالج؟ كيف ذلك؟ من يَصُن نفسه، يا عزيزي، يصُنه الله. بلِّغ تحياتي لآلك وأسفي لعدم زيارتي لهم. قريبًا، قبيل سفري إلى الخارج، سآتي للتوديع. من كلٍّ بد! سأسافر في الأسبوع القادم.

أخرج من عند كاتيا منزعجًا، مفزوعًا من الحديث عن مرضي، وغير راضٍ عن نفسي. وأسأل نفسي: ألا يجب حقًّا أن أتعالج لدى أحد زملائي؟ وعلى الفور أتصور زميلي هذا وهو يتجه إلى النافذة في صمت بعد أن يكشف علي، ويفكر، ثم يلتفت نحوي، ويقول بنبرة لا مبالية، وهو يحرص ألا أقرأ الحقيقة على وجهه: «حتى الآن لا أرى شيئًا ذا بالٍ. ومع ذلك يا زميلي، أنصحك أن تتوقف عن التدريس …» وستسلبني هذه الكلمات آخر أملٍ لدي.

وهل هناك من يعيش بلا أمل؟ والآن، وعندما أقوم أنا بتشخيص مرضي وعلاج نفسي بنفسي يراودني الأمل أحيانًا بأن يكون جهلي قد خدعني، وبأني مخطئ بخصوص السكر والزلال اللذين أجدهما في جسمي، وبخصوص القلب، وتلك الانتفاخات التي لاحظتها عندي مرتين في الصباح. وعندما أعيد قراءة كتب الطب الباطني باجتهاد الموسوسين وأغير أنواع الأدوية كل يوم يخيل إلي دائمًا أنني سأتوصل إلى شيء ما مطمئن. ما أتفه هذا كله!

وسواء كانت السماء ملبدة بالغيوم أم يتلألأ القمر والنجوم على صفحتها فإنني، إذ أتطلع إليها في كل مرة وأنا عائد إلى البيت، أفكر في أن الموت قريبًا سيدركني. ومن المفروض إذن أن تكون أفكاري في هذه اللحظة عميقة كالسماء وساطعة ومذهلة … ولكن لا! إنني أفكر في نفسي، وفي زوجتي، وفي ليزا، وفي جنيكر، وفي الطلبة، وعمومًا في الناس … أفكر بنيةٍ سيئة، بضحالة، بمكر بيني وبين نفسي، وفي هذه الحالة يمكن التعبير عن وجهة نظري بكلمات ذكرها أراكتشييف٢٥ الشهير في إحدى رسائله الشخصية: «الطيب في الدنيا لا يمكن أن يوجد بدون السيئ، والسيئ دائمًا أكثر من الطيب.» أي أن كل شيء مقيت، ولا معنى للحياة، أما السنوات الاثنتان والستون التي عشتها فينبغي اعتبارها ضائعة. وأنتبه إلى نفسي فأحاول أن أقنعها بأن هذه الأفكار عارضة، ومؤقتة، وليست عميقة الجذور، فإذا بي أفكر على الفور: «إذا كان الأمر كذلك فلماذا أجد لدي ميلًا للذهاب كل مساء إلى هذين الضفدعين؟»

وأقطع على نفسي عهدًا بألا أذهب بعد الآن إلى كاتيا أبدًا، رغم علمي بأنني حتمًا سأذهب إليها غدًا من جديد.

وبينما أقرع جرس بيتي، ثم أثناء صعودي الدرج أشعر بأنه ليس لدي أسرة بالفعل، وليس هناك رغبة في استعادتها. من الواضح أن الأفكار الأراكتشييفية الجديدة ليست عارضة ولا مؤقتة، بل تتملك كياني كله. وأستلقي في السرير معذب الضمير، مكتئب الفؤاد، كسولًا، لا أكاد أحرك أطرافي، وكأنما ازداد وزني ألف بود٢٦ وسرعان ما أنام.

ثم يأتي الأرق.

٤

يحل الصيف، فتتغير الحياة.

تدخل عليَّ ليزا ذات صباح وتقول بلهجة مازحة: هيا يا صاحب المعالي. كل شيء جاهز.

ويسحبون معاليَّ إلى الخارج، ويجلسونه في عربة، ويرحلون به. ليس لدي ما أفعله أثناء الطريق فأقرأ اللافتات بالعكس؛ من اليمين إلى الشمال. تتحول كلمة «تراكتير»٢٧ إلى «ريتكارت». هذه الكلمة يمكن أن تصلح اسم عائلة لإحدى البارونات: البارونة ريتكارت. ثم أمر عبر حقل، بجوار مقبرة لا تترك في نفسي أي أثر بالرغم من أنني سوف أستقر فيها قريبًا. ثم أعبر غابة ثم حقلًا مرة أخرى. ليس هناك شيء شيق. وبعد سفر ساعتين يسحبون معاليَّ إلى الطابق الأرضي في دار ريفية، ويسكنونه في غرفة غير كبيرة، بهيجة جدًّا، بورق جدران أزرق فاتح.

في الليل أكابد الأرق كما في السابق، ولكني في الصباح لا أنهض ولا أسمع حديث زوجتي، بل أرقد في السرير. لا أنام ولكني أشعر بحالة نعاس وشبه غيبوبة، عندما تعرف أنك لست نائمًا ولكنك ترى أحلامًا. وفي منتصف النهار أنهض، وأجلس بحكم العادة إلى المكتب، ولكني لا أعمل بل أسلي نفسي بكتب فرنسية في أغلفة صفراء ترسلها إليَّ كاتيا. من الناحية الوطنية كان من المفروض بالطبع أن أقرأ لمؤلفين روس، إلا أنني، في الحقيقة، لا أجد ميلًا إلى قراءة أعمالهم. فالأدب الراهن كله، باستثناء أديبين عجوزين أو ثلاثة، لا يبدو لي أدبًا، بل ضربًا من الحرف اليدوية، يوجد فقط لكي يلقى التشجيع دونما إقبال على استخدام منتجاته. فأفضل منتجات الحرف اليدوية لا يمكن اعتبارها رائعة ولا يمكن إبداء الإعجاب الصادق بها دون «لكن». وهذا ما ينطبق على كل الأعمال الأدبية الجديدة التي قرأتها في السنوات العشر أو الخمس عشرة الأخيرة: فليس فيها عمل واحد رائع ولا تستطيع أن تذكرها دون «لكن»؛ فهي إما ذكية وسامية ولكن غير موهوبة، وإما موهوبة وسامية ولكن غير ذكية، وإما موهوبة وذكية ولكن غير سامية.

ولا أستطيع أن أقول إن الكتب الفرنسية موهوبة وذكية وسامية. فهي أيضًا لا تنال رضاي. ولكنها ليست مملة كالكتب الروسية. ولا يندر أن تجد فيها عنصر الإبداع الرئيسي، والذي يفتقده الكتاب الروس، ألا وهو الإحساس بالحرية الذاتية. ولا أذكر كتابًا روسيًّا حديثًا واحدًا لم يسعَ مؤلفه، من الصفحات الأولى، إلى تكبيل نفسه بشتى الاصطلاحات والقيود والصفقات التي يعقدها مع ضميره. فأحدهم يخشى أن يتحدث عن الجسد العاري، والآخر قد أوثق يديه وقدميه بالتحليل النفسي، والثالث بحاجة إلى نظرة حانية إلى الإنسان، والرابع يسود صفحات كاملة عن عَمد بوصف الطبيعة حتى لا يتهم بالتحيز … أحدهم يريد أن يكون حتمًا في مؤلفاته برجوازيًّا صغيرًا، والآخر حتمًا من النبلاء … إلخ، التعمد، والحذر، والدهاء، ولكن ليس هناك حرية وشجاعة أن تكتب عما تريد وإذن فليس هناك إبداع.

كل ذلك ينطبق على ما يسمى بالآداب الجميلة.

أما فيما يخص المقالات الروسية الجدية، مثلًا في مجال السوسيولوجيا أو الفنون أو غيرهما، فإنني لا أقرؤها فقط لشعوري بالهيبة. ففي طفولتي وصباي كنت أشعر لسبب ما بالخوف من السعادة وحجاب المسارح، وظل هذا الخوف يلازمني حتى الآن. ما زلت أخاف منهم إلى هذه اللحظة. يقال إن ما يبدو مخيفًا هو فقط ما ليس مفهومًا. وبالفعل فمن الصعب جدًّا أن تفهم لماذا يبدو السُّعاة والحُجاب بهذه الأهمية والعجرفة وقلة الأدب المهيبة. وعندما أقرأ هذه المقالات الجدية أشعر بالضبط بمثل هذا الخوف الغامض. فالأهمية الفائقة واللهجة الجنرالية المداعبة، والتعامل بلا كلفة مع المؤلفين الأجانب، والقدرة على اللت والعجن بوقار … كل ذلك بالنسبة لي غير مفهوم ومخيف، ولا يشبه ذلك التواضع واللهجة الهادئة المهذبة التي تعودت عليها في قراءاتي لأطبائنا الكتاب والباحثين في العلوم الطبيعية. وليس صعبًا عليَّ أن أقرأ المقالات فحسب، بل والتراجم التي يقوم بها أو يحررها أشخاص روس جادون. فاللهجة المتغطرسة المتفضلة للمقدمات، وفيض ملاحظات المترجم التي تعوقني عن التركيز، وعلامات الاستفهام وsic٢٨ الموضوعة بين أقواس، والمبعثرة من قبل المترجم السخي على امتداد المقالة أو الكتاب، تبدو لي اعتداء على شخصية المؤلف وعلى استقلاليتي كقارئ.
ذات مرة استُدعيت كخبير إلى إحدى المحاكم الإقليمية. وفي فترة الاستراحة لفت أحد زملائي الخبراء انتباهي إلى خشونة معاملة وكيل النيابة للمتهمين الذين كانت بينهم امرأتان مثقفتان. وأعتقد أنني لم أبالغ أبدًا عندما أجبت زميلي بأن هذه المعاملة ليست أكثر خشونة من معاملة كاتبي المقالات الجديدة بعضهم بعضًا. وبالفعل فإن هذه المعاملة من الخشونة بحيث لا أستطيع التحدث عنها دون أن أشعر بالانقباض. فهم يعاملون بعضهم بعضًا أو أولئك الكتاب الذين ينتقدونهم إما باحترام مبالغ فيه، دون مراعاة لكرامتهم الشخصية، أو بالعكس، يحتقرونهم بأجرأ مما أحتقر أنا في هذه المذكرات والأفكار صهري المقبل جنيكر. فالاتهامات باللامسئولية وبسوء النية، بل حتى بمختلف الجرائم الجنائية تشكل الزينة الرئيسية للمقالات الجادة. وهذه هي اﻟultima ratio ٢٩ كما يهوى الأطباء الشبان أن يكتبوا في مقالاتهم. إن مثل هذه المعاملة لا بد حتمًا أن تنعكس على أخلاق الجيل الجديد من الكتاب، ولذلك فأنا لا أدهش أبدًا من أن أبطال الكتب الجديدة لآدابنا الجميلة والتي ظهرت في السنوات العشر أو الخمس عشرة الأخيرة يشربون الفودكا بكميات كبيرة، أما البطلات فلسن عفيفات بدرجةٍ كافية.
أقرأ الكتب الفرنسية وأتطلع من حين لآخر إلى النافذة المفتوحة. وأرى عوارض سور الحديقة المسننة، وشجرتين هزيلتين أو ثلاثًا، ومن وراء الحديقة أرى الطريق والحقل، ثم شريطًا عريضًا من غابة صنوبر. وكثيرًا ما أتأمل بإعجاب كيف يتسلق سور الحديقة صبي وصبية، وكلاهما أشقر الشعر، ممزق الثياب، ويضحكان من صلعتي. وأقرأ في عيونهما البراقة «اصعد يا أجلح».٣٠ وربما كان هذان الطفلان الشخصين الوحيدين في العالم اللذين لا تهمهما في شيء شهرتي أو رتبتي.

الآن لا يتردد علي الزوار كل يوم. ولن أشير هنا إلا إلى زيارات نيقولاي وبيوتر أجناتيفتش. يحضر نيقولاي إلي في الأعياد عادة، كأنما لأمر ما، ولكن أساسًا لكي يراني. يأتي بادي السكر، الأمر الذي لا يحدث له أبدًا في الشتاء.

وأخرج لملاقاته في المدخل وأسأله: ماذا وراءك؟

فيقول واضعًا يده على قلبه وهو ينظر إلي بإعجاب العشاق: يا صاحب المعالي! يا صاحب المعالي! فليعاقبني الله! فلتنزل علي صاعقة حالًا! جاودياموس أيجيتور يوفينستوس!٣١

ويقبِّل بنهَمٍ كتفي وكمي وأزراري.

فأسأله: هل كل شيء على ما يرام عندنا هناك؟

– يا صاحب المعالي! الله شاهد على ما أقول.

ولا يكف عن ترديد الأقسام دون داعٍ، وسرعان ما يضجرني فأرسله إلى المطبخ، حيث يقدمون له الغداء. أما بيوتر أجناتيفتش فيحضر إلي في الأعياد أيضًا، خصيصًا لكي يراني ويتبادل معي الآراء. وعادة ما يجلس بجوار مكتبي، متواضعًا، نظيفًا، عاقلًا، لا يجرؤ على وضع ساق على ساق أو الاعتماد على المكتب. ويحكي لي طوال الوقت بصوت خافت هادئ، وبأسلوب ناعم، كتبي، أخبارًا متنوعة، طريفة جدًّا ومثيرة في رأيه، استقاها من الكتب والمجلات. وكل هذه الأخبار متشابهة وعلى الطراز التالي: توصل عالم فرنسي إلى اكتشاف، ولكن عالمًا آخر — ألمانيًّا — كشف غِشه وأثبت أن هذا الاكتشاف قد توصل إليه أحد الأمريكيين منذ عام ١٨٧٠م، أما العالم الثالث — وهو أيضًا ألماني — فقد فاق الاثنين في المكر فأثبت لهما أنهما معًا قد وقعا ضحية غفلتهما؛ إذ ظنا كريات الهواء تحت المجهر صبغة داكنة. وحتى عندما يريد بيوتر أجناتيفتش أن يضحكني فإنه يتحدث طويلًا وبرصانة كأنما يناقش رسالة دكتوراه، مع ذكرٍ مفصل للمصادر التي استعان بها، ويحاول ألا يخطئ في تواريخ أو أرقام أعداد المجلات أو في الأسماء، ولا يقول مثلًا: «بتي» ببساطة بل لا بد أن يقول: جان جاك بتي.٣٢ ويبقى أحيانًا للغداء، وعندئذٍ يروي طوال الغداء نفس الحكايات المثيرة التي تجلب الكآبة لكل الجالسين إلى المائدة. فإذا تطرقت ليزا وجنيكر إلى الحديث في حضرته عن الفوجات والطباق الموسيقي أو عن برامز وباخ فإنه يرخي طرفه بتواضع ويشعر بالحرج، فهو يخجل من أنهم يتحدثون في حضرة أناس جادين، مثلي ومثله، عن مثل هذه السخافات.

وفي حالتي المزاجية الراهنة تكفي خمس دقائق لكي يضجرني إلى درجة يخيل إلي فيها أنني أراه وأسمعه منذ دهر طويل. إنني أمقت هذا المسكين. أشعر بالمرض من نبرة صوته الخافتة الهادئة ولغته الكتبية، وتصيبني حكاياته بالتبلد … إنه يكن لي أطيب المشاعر، ويتحدث معي فقط لكي يدخل على نفسي المتعة، بينما أجازيه أنا بأن أحدق فيه مباشرة، وكأنما أريد أن أنومه مغناطيسيًّا، وأقول في نفسي: «اذهب، اذهب، اذهب …»، لكنه لا يستجيب للإيحاء ويظل جالسًا، جالسًا، جالسًا …

وطوال بقائه عندي لا أستطيع أن أتخلص من هذه الفكرة: «من الجائز جدًّا، بعد أن أموت، أن يعينوه في مكاني»، فتتبدى لي قاعة محاضراتي المسكينة مثل واحة جف نبعها، فأصبح في معاملتي له جافًّا، صموتًا، عابسًا، كأنما هو، ولست أنا، المذنب في هذه الأفكار. وعندما يبدأ في تمجيد العلماء الألمان لا أعود أسخر منه ببشاشة كما في الماضي، بل أدمدم بعبوس: ألمانك هؤلاء حمير!

ويبدو هذا شبيهًا بما حدث مع المرحوم الأستاذ نيكيتا كريلوف٣٣ عندما كان يستحم ذات مرة في ريفيل مع بيروجوف، وأغضبه أن المياه كانت شديدة البرودة فسب قائلًا: «يا للألمان الأوغاد!» ومسلكي مع بيوتر أجناتيفتش سيئ، وعندما ينصرف وأرى من خلال النافذة قبعته الرمادية تلوح وراء الحديقة، عندها فقط أود أن أناديه لأقول له: «سامحني يا عزيزي!»

والغداء الآن أكثر مللًا منه في الشتاء، نفس جنيكر، الذي أمقته الآن وأحتقره، يتغدى عندي كل يوم تقريبًا. في السابق كنت أصبر على وجوده في صمت، أما الآن فأوجه إليه تعليقات لاذعة تجعل زوجتي وليزا تحمران خجلًا. وأنساق مع المشاعر الشريرة فأتفوه كثيرًا بمجرد حماقات ولا أدري لماذا أقولها. وهكذا فقد حدث ذات مرة أن ظللت مدة طويلة أنظر باحتقار إلى جنيكر، وبلا أي مبرر اندفعت قائلًا:

قد تهبط الصقور مهبطًا أدنى من الدجاج.

ومستحيل أن يحلق الدجاج فوق عالي السحاب.

ولكن المحنق في كل هذا أن جنيكر الدجاجة يظهر أذكى كثيرًا من الأستاذ الصقر. ولما كان يعلم أن زوجتي وابنتي تقفان في صفه فإنه يتبع الأسلوب التالي: يرد على تعليقاتي اللاذعة بصمت متسامح (كأنما يريد أن يقول: «لقد خرف العجوز فما جدوى الحديث معه؟») أو يسخر مني ببشاشة. ومن المثير للدهشة أن ترى إلى أي درك يمكن للإنسان أن ينحط! ففي استطاعتي طوال فترة الغداء كلها أن أحلم بأن يفتضح جنيكر كشخصٍ أفاق، وبأن تدرك ليزا وزوجتي خطأهما وعندئذ أغيظهما … تراودني هذه الأحلام الحمقاء في الوقت الذي أقف فيه بإحدى قدمَي في القبر!

وتقع الآن حوادث سوء تفاهم، لم تكن لدي عنها فكرة من قبل سوى بالسماع. ومهما كان خجلي فسأصف هنا واحدة منها وقعت منذ أيام بعد الغداء.

كنت جالسًا في غرفتي أدخن الغليون. وإذا بزوجتي تدخل كالعادة وتجلس، وتشرع في الحديث قائلة إنه حبذا لو سافرت إلى خاركوف الآن، طالما الجو دافئ ولدي وقت فراغ، لكي أعرف هناك حقيقة جنيكر.

فأوافقها: حسنًا، سأسافر.

وتنهض زوجتي، راضية عني، وتمضي إلى الباب، ولكنها تعود على الفور وتقول: وبالمناسبة لي رجاء آخر. أنا أعرف أنك ستغضب، ولكن من واجبي أن أحذرك … لا تؤاخذني يا نيقولاي ستيبانوفيتش، ولكن جميع معارفنا وجيراننا بدءوا يثرثرون بأنك تتردد كثيرًا جدًّا على كاتيا. إنها ذكية، مثقفة، لا شك في هذا، ومن الممتع قضاء الوقت معها، ولكن من الغريب، يعني، بالنسبة لرجل في سنك وفي مثل مركزك أن يجد متعة في صحبتها … وعلاوة على ذلك فسمعتها يعني …

فجأة يغيض الدم كله في دماغي، ويتطاير الشرر من عيني، فأقفز واقفًا، وأمسك رأسي بيدي، وأدق بقدمي، وأصيح بصوت غير طبيعي: دعوني! دعوني! دعوني!

ويبدو أن وجهي فظيع وصوتي غريب إذ إن زوجتي تشحب فجأة، وتصرخ عاليًا بصوت يائس، غير طبيعي أيضًا. ويندفع إلى الغرفة، على صراخنا، ليزا وجنيكر، ثم يجور.

وأصيح أنا: دعوني! اخرجوا من هنا! دعوني!

تتخدر ساقاي فكأنما لا وجود لهما، وأشعر بنفسي وأنا أسقط على ذراعَي شخصٍ ما، ثم أسمع لفترة قصيرة بكاءً، وأغيب في إغماءة تستمر ساعتين أو ثلاثًا.

والآن فلأتحدث عن كاتيا. إنها تزورني يوميًّا قبيل المساء، ولا يمكن ألا يلاحظ ذلك بالطبع جيراننا ومعارفنا. تأتي للحظة، وتأخذني معها للتريض. فلديها فرسها الخاصة وعجلة جديدة اشترتها هذا الصيف. وعمومًا فهي تعيش عن سعة: فقد استأجرت دارًا ريفية كالقصر، بحديقة كبيرة، ونقلت إليها كل أثاث شقتها في المدينة، ولديها خادمان وحوذي … وكثيرًا ما أسألها: كاتيا، من أين ستنفقين بعد أن تبددي كل نقود أبيك؟

فتجيب: عندها سنرى.

– هذه النقود يا صاحبتي تستحق منك معاملة أكثر جدية. لقد كسبها إنسان طيب من عمل شريف.

– سبق أن قلت لي ذلك. إنني أعرف.

في البداية تمضي بنا العجلة عبر الحقل، ثم عبر غابة الصنوبر التي تلوح من نافذتي. وكما في السابق تبدو لي الطبيعة رائعة، رغم أن الشيطان يهمس في أذني أن كل هذه الصنوبرات والشوح والطيور والسحب البيضاء في السماء بعد ثلاثة أو أربعة شهور، عندما أموت، لن تلاحظ غيابي. ويروق لكاتيا أن تسوق الفرس، ويسرها أن الجو جميل وأنني أجلس بجوارها. معنوياتها مرتفعة فلا تتفوه بأشياء حادة.

وتقول لي: أنت إنسان طيب جدًّا يا نيقولاي ستيبانوفيتش.

أنت نموذج نادر، ولا يوجد ممثل يستطيع أن يقدمك على المسرح. أنا، أو ميخائيل فيودوروفتش مثلًا، يستطيع أن يقدمنا حتى الممثل السيئ، أما أنت فلا أحد. أنا أحسدك، أحسدك إلى درجة رهيبة! فماذا أكون أنا؟ ماذا؟

وتفكر دقيقة ثم تسألني: نيقولاي ستيبانوفيتش، هل أنا ظاهرة سلبية؟ نعم؟

فأجيبها: نعم.

– هم … وما العمل إذن؟

بمَ أجيبها؟ من السهل أن تقول: «اعملي»، أو «وزعي ممتلكاتك على الفقراء»، أو «اعرفي نفسك»، ولأنه من السهل قول ذلك فلا أعرف بمَ أجيبها.

إن زملائي، الأطباء الباطنيين، عندما يعلِّمون الطلبة العلاج، ينصحونهم بأن «يتناولوا كل حالة على حدة». وينبغي أن تتبع هذه النصيحة لكي تقتنع بأن الوسائل التي تقترحها الكتب الدراسية باعتبارها أفضل الوسائل وأنسبها للحالات العامة، تصبح غير مناسبة تمامًا في الحالات المنفردة. وينطبق هذا أيضًا على الأمراض المعنوية.

بيد أنه لا بد أن أجيب بشيء ما فأقول: إن لديكِ يا صاحبتي وقت فراغ كثيرًا. ومن الضروري أن تشغلي نفسك بشيء. وبالفعل لماذا لا تعودين ثانيةً إلى التمثيل طالما لديكِ الدافع؟

– لا أستطيع.

– إن لهجتك وطريقتك توحيان وكأنما أنت ضحية. هذا لا يعجبني يا صاحبتي. أنتِ المذنبة. فلتتذكري … لقد بدأتِ بأن غضبت من الناس والأوضاع، ولكنك لم تفعلي شيئًا لكي يصبح هؤلاء وأولئك أفضل. أنتِ لم تقاومي الشر بينما أدركك التعب، فأنتِ لست ضحية الكفاح، بل ضحية عجزك. بالطبع كنت آنذاك صبية، قليلة التجربة، أما الآن فكل شيء يمكن أن يجري بصورة أخرى. حقًّا، عودي إلى التمثيل! وإذن ستكدين، وسوف تخدمين الفن المقدس.

فتقاطعني كاتيا: دعك من المكر يا نيقولاي ستيبانوفيتش. هيا نتفق اتفاقًا لا رجعة فيه: فلنتحدث عن الممثلين، والممثلات، والكتاب، ولكن فلندع الفن وشأنه. أنت إنسان رائع، نادر، ولكنك لا تفهم الفن بالدرجة التي تجعلك تعتبره بإخلاص شيئًا مقدسًا. فليس لديك حس فني أو تذوق. لقد كنت طوال حياتك مشغولًا ولم يكن لديك وقت لاكتساب هذا الحس. وعمومًا … أنا لا أحب هذه الأحاديث عن الفن! — وتستطرد بعصبية — لا أحبها! كلا، أشكركم، فقد ابتذلتموه بما يكفي!

– من الذي ابتذله؟

– أولئك، ابتذلوه بالسكر، والجرائد، بالمعاملة دون كلفة، والأشخاص الأذكياء، بالفلسفة.

– لا دخل للفلسفة هنا.

– بل لها دخل. فإذا ما تفلسف أحد ما فمعنى ذلك أنه لا يفهم.

وحتى لا تصل الأمور إلى العبارات الحادة أسارع بتغيير مجرى الحديث، ثم أصمت بعد ذلك طويلًا. وفقط عندما نغادر الغابة ونتجه إلى دار كاتيا أخرج عن صمتي وأعود إلى الحديث السابق فأسألها: ومع ذلك لم تردي على سؤالي: لماذا لا تعودين إلى التمثيل؟

فتهتف، ويتضرج وجهها كله فجأة: هذه، في النهاية، قسوة منك يا نيقولاي ستيبانوفيتش! أتريد أن أقول لك الحقيقة علانية؟ تفضل، إذا كان هذا … إذا كان هذا يعجبك. أنا لست موهوبة. لست موهوبة و… وعندي الكثير من الغرور. نعم.

وإذ تُدلي بهذا الاعتراف تحول وجهها عني، وتجذب اللجام بقوة لكي تخفي رعشة يديها.

عندما نقترب من دارها نرى من بعيد ميخائيل فيودوروفتش وهو يتمشى قرب البوابة وينتظرنا بنفاد صبر.

فتقول كاتيا بضيق: مرة أخرى هذا الميخائيل فيودوروفتش! أبعده عني أرجوك! مللته … لقد استهلك … ليغرب عني!

منذ مدة طويلة وميخائيل فيودوروفتش ينوي السفر إلى الخارج، ولكنه كل أسبوع يؤجل سفره. وفي الآونة الأخيرة طرأت عليه بعض التحولات: فقد هزل نوعًا ما، وأصبح يثمل من الخمر، الأمر الذي لم يكن يحدث له أبدًا من قبل، وبدأ حاجباه الأسودان يشيبان. وعندما تتوقف عجلتنا أمام البوابة لا يخفي فرحته ونفاد صبره. ويساعد كاتيا ويساعدني على النزول من العجلة في اضطراب، ويتعجل في توجيه الأسئلة، ويضحك، ويفرك راحتيه، أما ذلك التعبير الوديع، الضارع، الطاهر، الذي كنت ألاحظه من قبل في نظرته فقط، فقد أصبح الآن يغمر وجهه كله. وهو يفرح، وفي الوقت نفسه يخجل من فرحه، يخجل من عادته هذه في التردد على كاتيا كل مساء، ويجد من الضروري أن يبرر مجيئه بحجة ما بادية التهافت مثل: «كنت مارًّا من هنا في أمر ما فقلت لنفسي لأعرج عليك لدقيقة.»

نتوجه ثلاثتنا إلى الداخل. وفي البداية نشرب الشاي، ثم تظهر على الطاولة شدتا ورق اللعب المعروفتان لي منذ زمن بعيد، وقطعة الجبن الكبيرة، والفواكه. وزجاجة شمبانيا القرم. ومواضيع أحاديثنا ليست جديدة، بل هي نفسها التي كانت في الشتاء. وتنهال الضربات على الجامعة والطلبة والأدب والمسرح. ويصبح الهواء من الاغتياب أشد كثافة واختناقًا، ولم تعد تسممه أنفاس ضفدعين فقط كما كان في الشتاء، بل ثلاثة ضفادع. وبخلاف الضحك المخملي الجهير والقهقهات التي تشبه الأكورديون، تسمع الخادم التي تقوم على رعايتنا ضحكًا آخر، كريهًا، مرتعشًا كضحك الجنرالات في مسرحيات الفودفيل: هئ … هئ … هئ …

٥

ثمة ليالٍ رهيبة، برعد وبرق ومطر ورياح، يطلق عليها الناس: ليالي العصافير. وقد مرت بي أنا أيضًا ليلة عصافير مثل هذه تمامًا.

أستيقظ بعد منتصف الليل، وعلى الفور أقفز من فراشي، ويخيل إليَّ لسبب ما أنني سأموت الآن بغتة. لماذا يخيل إليَّ؟ ليس في جسمي أي بادرة تشير إلى النهاية القريبة، إلا أن رعبًا فظيعًا يعصر قلبي، وكأنما رأيت فجأة حريقًا هائلًا شريرًا.

أشعل الضوء بسرعة، وأجرع ماء من الدورق مباشرة، ثم أسرع إلى النافذة المفتوحة. الجو في الخارج رائع. تفوح رائحة الدريس وشيء ما آخر لطيف جدًّا. وتلوح عوارض سور الحديقة المسننة، والشجيرات الهزيلة الناعسة قرب النافذة، والطريق، وشريط الغابة المظلم. وفي السماء قمر هادئ ساطع للغاية، وليس هناك سحابة واحدة. والسكون شامل، فلا تهتز ورقة شجرة واحدة. ويخيل إليَّ أن كل شيء ينظر إليَّ ويصيح مترقبًا كيف سأموت!

أشعر برعب رهيب … أغلق النافذة وأهرع إلى الفراش. أتحسس نبضي ولا أعثر عليه في يدي، فأبحث عنه في صدغي، ثم في ذقني، ومرة أخرى في يدي، وكل هذه الأماكن باردة، لزجة من العرق. تتلاحق أنفاسي أسرع فأسرع، ويرتعش جسدي، وكل ما في جوفي يتحرك، وأشعر كأن خيوط عنكبوت تسقط على وجهي وصلعتي.

ما العمل؟ هل أنادي أسرتي؟ كلا، لا داعي. لا أفهم ماذا ستفعل زوجتي وليزا عندما تدخلان عليَّ.

أخفي رأسي تحت الوسادة، وأغمض عيني، وأنتظر، أنتظر … ظهري تسري فيه البرودة، وكأنما يغوص إلى الداخل، ويداهمني إحساس وكأن الموت لا بد سيأتي من الخلف، خلسة!

– كيوي … كيوي!

يتردد زعيق في سكون الليل فجأة، ولا أعرف أين مصدره: أهو في صدري، أم في الخارج؟

– كيوي … كيوي!

يا إلهي، كم أنا خائف! بودي لو أشرب مزيدًا من الماء، ولكني أخشى أن أفتح عيني وأخاف أن أرفع رأسي. خوفي لا تفسير له، خوفٌ حيواني، ولا أستطيع أبدًا أن أفهم لماذا أشعر بالخوف: هل لأني أريد أن أعيش، أم لأن في انتظاري ألمًا جديدًا مجهولًا؟

في الأعلى، خلف السقف هناك شخص ما لست أدري يتأوه أم يضحك … أصيخ السمع. بعد قليل يتردد على الدرَج وقع خطوات. أحد ما يهبط على عجل، ثم يصعد ثانية. بعد دقيقة يتردد وقع الخطوات الهابطة مرة أخرى. أحد ما يتوقف بجوار بابي وينصت.

فأصيح: من هناك؟

يفتح الباب، فأفتح عيني بشجاعة وأرى زوجتي. وجهها شاحب وعيناها باكيتان.

تسألني: أنت لست نائمًا يا نيقولاي ستيبانوفيتش؟

– ماذا تريدين؟

– أرجوك اصعد إلى ليزا وانظر ماذا بها. حدث لها شيء ما!

– حسنًا … بكل سرور — أدمدم وأنا في غاية الفرح لأني لم أعد وحدي — حسنًا … حالًا حالًا.

أسير خلف زوجتي وأسمع ما تقوله لي ولكني لا أفهم شيئًا بسبب انفعالي. على درجات السلم تقفز بقع ضوء من شموعها، ويرتعش ظلَّانا الطويلان، وتتعثر ساقاي في أطراف الرداء. وأختنق، ويخيل إليَّ أن شيئًا ما يطاردني ويريد أن يمسك بظهري. وأقول لنفسي: «سأموت الآن هنا، على هذا الدرج، الآن!» ولكن ها نحن أولاء نعبر الدرج والطرق المظلمة ذات النافذة الإيطالية وندخل غرفة ليزا. إنها جالسة في الفراش، في قميص النوم فقط، وقد دلت قدميها الحافيتين، وتتأوه.

– آه، يا إلهي … آه يا إلهي! — تدمدم وهي تزر عينيها من ضوء شموعنا — لا أستطيع، لا أستطيع!

فأقول لها: ليزا، يا بنيتي، ماذا بك؟

وعندما تراني تصرخ وترتمي على عنقي.

وتقول من خلال النحيب: بابا، يا حبيبي الطيب … بابا يا عزيزي!

أيها الغالي الحبيب … أنا لا أعرف ماذا بي … إنني أتعذب!

تعانقني وتقبلني وتتمتم بكلمات رقيقة كتلك التي كنت أسمعها منها وهي طفلة.

وأقول لها: اطمئني يا بنيتي، لا بأس. لا داعي للبكاء. أنا أيضًا أتعذب.

أحاول أن أدثرها، وزوجتي تناولها ماء، وكلانا نتخبط في اضطراب بجوار سريرها، وأدفعها بكفي في كتفها، وفي تلك اللحظة أتذكر كيف كنا نحمم أطفالنا معًا.

وتتوسل إلي زوجتي: هيا ساعدها، ساعدها. افعل أي شيء!

وماذا أستطيع أن أفعل؟ لا شيء. ثمة ما يعذب روح الفتاة، ولكني لا أفهم شيئًا ولا أعرف، وليس في وسعي إلا أن أدمدم: لا بأس، لا بأس … هذا سيزول … نامي، نامي.

وكأنما عن عمد يدوي في فنائنا فجأةً عواء كلب، خافتًا مترددًا في البداية، ثم عاليًا، بنبرتين. لم أكن أبدًا أعبأ بعلامات التطير مثل عواء الكلاب أو نعيق البوم، أما الآن فينقبض قلبي بألم، فأسرع بتفسير سبب هذا العواء لنفسي: «هراء … إنه تأثير جسم على جسم آخر. لقد انتقل توتري العصبي الشديد إلى زوجتي وإلى ليزا، وإلى الكلب، وهذا كل ما هنالك … وهذا الانتقال هو ما يفسر الحدس والتنبؤ.»

عندما أعود إلى غرفتي بعد فترة قصيرة لكي أكتب وصفة العلاج لليزا، لا أعود أفكر في أنني سأموت قريبًا، ولكني فقط أحس بعذاب وضيق في صدري إلى درجة أشعر معها بالأسف على أني لم أمُت بغتة. أقف طويلًا في وسط الغرفة بلا حراك وأنا أفكر فيما يمكن أن أحدده من دواءٍ لليزا، ولكن الأنين وراء السقف يتوقف فأقرر ألا أحدد لها أي دواء، ومع ذلك أظل واقفًا!

السكون مطبق كالموت، سكون إلى درجة الطنين في الآذان، كما قال أحد الكتاب. والوقت يمضي ببطء، وخطوط ضوء القمر على قاعدة النافذة لا تغير أوضاعها وكأنما تجمدت … والفجر ما زال بعيدًا.

ولكن ها هو ذا باب سور الحديقة يصر، ويتسلل شخص ما، ويكسر غصنًا من إحدى الشجيرات الهزيلة، ويدق به بحذر على النافذة.

وأسمع همسًا: نيقولاي ستيبانوفيتش! نيقولاي ستيبانوفيتش!

أفتح النافذة ويخيل إليَّ أنني أرى حلمًا … فتحت النافذة تقف امرأة ملتصقة بالحائط، في ثوب أسود، تحت ضوء القمر الساطع، وتتطلع إليَّ بعينين واسعتين. وجهها شاحب صارم وخرافي بسبب ضوء القمر. وكأنما قدَّ من مرمر. وذقنها يرتعش.

وتقول: هذه أنا … أنا … كاتيا!

في ضوء القمر تبدو عيون النساء جميعًا واسعة وسوداء، ويبدو الناس أطول وأكثر شحوبًا، وربما لهذا لم أتعرف عليها للوهلة الأولى.

– ماذا تريدين؟

فتقول: عفوًا. لست أدري لماذا أحسست فجأة بعذاب لا يحتمل … لم أتمالك نفسي وجئت إلى هنا … رأيت نافذتك مضاءة ﻓ… فقررت أن أطرقها … عفوًا … آه لو تدري بأي عذاب شعرت! ماذا تفعل الآن؟

– لا شيء … عندي أرق.

– كان لدي هاجس ما. وعمومًا فهذه أشياء تافهة.

ويرتفع حاجباها، وتلمع عيناها بالدموع، وكأنما بالنور يشرق وجهها كله بتعبير البراءة الطفولية المعروف، الغائب منذ زمن بعيد.

وتقول بصوت ضارع وهي تمد إليَّ كلتا يديها: يا نيقولاي ستيبانوفيتش! يا عزيزي، أرجوك … أتوسل إليك … إذا كنت لا تأنف من صداقتي واحترامي لك فلتجبني إلى طلبي!

– ماذا هناك؟

– خذ مني نقودي!

– ما هذا الذي تقولين! وما حاجتي إلى نقودك؟

– اذهب إلى أي مكان وتعالَج … أنت بحاجة إلى العلاج. هل ستأخذها؟ نعم؟ يا عزيزي، نعم؟

تحدق في وجهي بنهم وتكرر: نعم؟ ستأخذها؟

فأقول لها: كلا يا صاحبتي، لن آخذها … شكرًا.

توليني ظهرها وتطأطئ رأسها. يبدو أن رفضي كان بلهجة لا تدع فرصة لأي حديث تالٍ عن النقود.

فأقول لها: عودي إلى البيت ونامي. غدًا سنرى.

فتسألني باكتئاب: إذن فأنت لا تعتبرني صديقًا؟

– أنا لم أقل هذا. لكن نقودك لا نفع منها لي الآن.

– عفوًا … — تقول خافضة صوتها درجة كاملة — إنني أفهمك … فأن تكون مدينًا لشخص مثلي … لممثلة سابقة … وعمومًا وداعًا!

وتمضي بسرعة لا تمكنني حتى من أن أقول لها وداعًا.

٦

أنا في خاركوف.

إذ لما كانت مقاومة مزاجي الحالي غير مجدية، كما أني غير قادر عليها، فقد قررت أن تكون أيامي الأخيرة لا غبار عليها ولو من الناحية الشكلية. وإذا كنت مخطئًا في حق أسرتي، الأمر الذي أدركه جيدًا، فلأحاول أن أفعل مثلما تريد. وطالما شاءت أن أسافر إلى خاركوف فلأسافر. وفوق ذلك فقدت اهتمامي في الأيام الأخيرة بكل شيء، بحيث أصبح لدي سيان تمامًا إلى أين أسافر: إلى خاركوف، أم إلى باريس، أم إلى بيرديتشيف.

وصلت إلى هنا في حوالي الساعة الثانية عشرة ظهرًا، ونزلت في فندق غير بعيد عن الكاتدرائية. وكنت في عربة القطار قد أُصبت بدوار ولفحتني تيارات الهواء، والآن أجلس على السرير، ممسكًا برأسي ومنتظرًا مجيء مرض العرَّة. كان من المفروض أن أذهب اليوم مباشرة إلى معارفي الأساتذة، ولكن ليس لدي رغبة أو قدرة.

يدخل خادم الفندق العجوز ويسألني هل لدي فرش للسرير فأستوقفه لخمس دقائق وأوجه إليه بعض الأسئلة بخصوص جنيكر الذي من أجله جئت إلى هنا. ويتضح أن الخادم من مواليد خاركوف ويعرف هذه المدينة كأصابعه الخمس ولكنه لا يذكر أي عائلة بهذا الاسم. وأسأله عن الضيعة؛ نفس الجواب.

تدق الساعة في الممر معلنة الواحدة، ثم الثانية، ثم الثالثة … الشهور الأخيرة من حياتي، التي تمضي في انتظار الموت، تبدو لي أطول بكثير من حياتي كلها. لم يكن في مقدوري من قبل أن أستسلم لبطء الزمن مثلما أنا الآن. ففي السابق، عندما كان يحدث أحيانًا أن أنتظر القطار في المحطة أو أجلس لامتحان الطلبة، كان ربع الساعة يبدو لي دهرًا، أما الآن فبوسعي أن أجلس الليلة كلها في السرير دون حراك، وأفكر بلا مبالاة تامة في أنني سأقضي غدًا ليلة مثل هذه، طويلة باهتة، وبعد غد أيضًا.

الساعة في الممر تدق الخامسة، السادسة، السابعة … ويحل الظلام.

في خدي خدر مؤلم؛ إنها بداية العرَّة. ولكي أشغل نفسي بالتفكير أعود إلى وجهة نظري السابقة عندما لم أكن لامباليًا وأتساءل: لماذا أجلس أنا الرجل الشهير، المستشار السري، في هذه الغرفة الصغيرة، على هذا السرير ذي البطانية الرمادية الغريبة؟ ولماذا أنظر إلى حوض الغسيل الصفيح الرخيض هذا وأصغي إلى حشرجة ساعة بالية في الطرقة؟ أهذا كله جدير بصيتي ومركزي الرفيع بين الناس؟ وأجيب نفسي عن هذه الأسئلة بضحكة سخرية. إذ تبدو لي مضحكة سذاجتي التي كانت تجعلني، في وقت ما في شبابي، أبالغ في أهمية الشهرة والوضع الفريد الذي بدا لي أن المشاهير يتمتعون به. فأنا شهير، واسمي تلفظه الشفاه بتبجيل، وصورتي نُشرت في «نيفا» وفي المصور العالمي، وتاريخ حياتي قرأته منشورًا حتى في مجلةٍ ألمانية … ثم ماذا؟ ها أنا ذا أجلس وحيدًا تمامًا في مدينة غريبة، على سرير غريب، وأحُك براحتي خدي المتقلص … والخلافات العائلية، وقسوة الدائنين، وفظاظة موظفي الخدمة في السكك الحديدية، ومتاعب نظام الهويات والإقامة، والأكل الغالي الضار بالصحة في البوفيهات، والجهل الشامل والقسوة في المعاملة … كل ذلك وكثير غيره مما يطول تعداده، يمسني بدرجة لا تقل عما يمس به أي برجوازي صغير غير معروف إلا في حارته فقط. ففيم إذن تفرد وضعي؟ فلنفرض أنني أكثر شهرة ألف مرة، وأنني بطل يفخر به وطني، وتنشر جميع الصحف النشرات الطبية عن مرضي، ويحمل لي البريد رسائل المواساة من زملائي وتلاميذي والجمهور، ولكن كل هذا لن يحول بيني وبين الموت على فراش غريب، في وحشة ووحدة مطلقة … بالطبع ليس هناك أحد مذنب في ذلك، ولكني، وليغفر الله لي، لا أحب اسمي الذائع الصيت. يخيل إليَّ وكأنما قد خدعني.

في حوالي العاشرة أنعس، ورغم العرَّة أغيب في نوم عميق، وكان من الممكن أن أنام طويلًا لولا أنهم أيقظوني. ففي بداية الساعة الثانية يطرق الباب فجأة.

– من هناك؟

– برقية.

وأقول بحنق وأنا أتسلم البرقية من خادم الفندق: كان بوسعك أن تنتظر حتى الصباح. الآن لن أستطيع أن أنام ثانية.

– آسف … ولكني رأيت غرفتكم مضاءة فظننت أنكم مستيقظون.

أفض البرقية وأتطلع قبل كل شيء إلى التوقيع: زوجتي. ماذا تريد بعد؟

«بالأمس تزوج جنيكر سرًّا بليزا. ارجع.»

أقرأ هذه البرقية، ولفترة قصيرة أشعر بفزع. لا يفزعني تصرف ليزا وجنيكر، بل تلك اللامبالاة التي أتلقى بها نبأ زواجهما. يقال إن الفلاسفة والحكماء الحقيقين غير مبالين. ليس صحيحًا. فالمبالاة هي شلل الروح، وهي الموت المبكر.

أستلقي مرة أخرى في الفراش وأبدأ في البحث عن أفكار أشغل بها نفسي. فيم يمكن أن أفكر؟ يبدو أن كل شيء قد قُتل بحثًا، ولم يعد هناك الآن ما يمكن أن يثير تفكيري.

يشرق الفجر وأنا جالس في الفراش، مطوقًا ركبتيَّ بذراعيَّ، وبدافع الفراغ أحاول أن أعرف نفسي. «اعرف نفسك» … يا لها من نصيحة رائعة مفيدة، لكن المؤسف أن القدماء لم يفطنوا إلى إرشادنا إلى كيفية استخدام هذه النصيحة.

في الماضي، عندما كانت تراودني الرغبة في فهم شخص ما أو فهم نفسي، كنت لا أهتم بالتصرفات، التي تحكمها شتى الاعتبارات، بل بالرغبات. قل لي ماذا تريد، أقل لك من أنت.

والآن أمتحن نفسي: ماذا أريد إذن؟

أريد من زوجاتنا وأولادنا وأصدقائنا وتلاميذنا أن يحبوا فينا لا الاسم، لا اللافتة والماركة، بل أشخاصنا العادية. وماذا أيضًا؟ بودي أن يكون لي معاونون وورثة. وماذا أيضًا؟ بودي لو بعثت بعد مائة عام فنظرت ولو بطرف عيني إلى مصير العلم. بودي لو عشر سنوات أخرى … وماذا بعد؟

بعد لا شيء. أفكر، وأفكر طويلًا، ولا أستطيع أن أتوصل إلى شيء. ومهما فكرت، ومهما تشعبت أفكاري فإن من الواضح لي أن رغباتي تفتقر إلى شيء رئيسي، إلى شيء مهم للغاية. ففي شغفي بالعلم، وفي رغبتي في الحياة، وفي هذا الجلوس على فراش غريب، وفي سعيي إلى معرفة نفسي، في كل أفكاري، ومشاعري، ومفاهيمي التي أكونها عن الأشياء، لا يوجد شيء عام يربط جميع ذلك في كلٍّ موحَّد. كل فكرة وكل شعور يحيا في داخلي منعزلًا، وحتى أكثر المحللين مهارة لن يجد في كل أحكامي عن العلم، والمسرح، والأدب والتلاميذ، وفي كل الصور التي يرسمها خيالي، ذلك الشيء الذي يسمونه الفكرة العامة أو إله الإنسان الحي.

فإذا لم يكن هذا موجودًا، فلا وجود إذن لأي شيء.

ومع مثل هذا الفقر كان يكفي مرض خطير أو رهبة الموت، أو تأثير ظروف وأشخاص لكي ينقلب كل ما كنت أعتبره من قبلُ وجهة نظري وأرى فيه مغزى حياتي وبهجتها، رأسًا على عقب ويتناثر مزقًا. ولهذا فليس من الغريب في شيء أنني سودت آخر شهور عمري بأفكار ومشاعر لا تليق إلا بعبد أو همجي، وإنني الآن لا مبالٍ ولا ألاحظ شروق الفجر. فإذا لم يكن في الإنسان ذلك الشيء الأسمى والأقوى من كل المؤثرات الخارجية فإنه يكفي، في الحقيقة، مجرد زكام قوي لكي يفقده توازنه ويجعله يرى في كل طائرٍ بومة ويسمع في كل صوتٍ عواء الكلاب. ولا يصبح لتشاؤمه أو تفاؤله، ولكل أفكاره الكبيرة والصغيرة من أهمية في تلك اللحظة سوى أهميتها كأعراض، ولا شيء أكثر.

لقد هُزمت. وما دام الأمر كذلك فلا معنى إذن لمواصلة التفكير، ولا معنى للكلام. سأبقى جالسًا أنتظر في صمتٍ ما سيحدث.

في الصباح يحمل إليَّ خادم الفندق الشاي ونسخة من الجريدة المحلية. أقرأ آليًّا الإعلانات المنشورة في الصفحة الأولى والافتتاحية، ومقتطفات الصحف والمجلات، والأخبار … بالمناسبة، أجد بين الأخبار الخبر التالي: «وصل إلى خاركوف بالقطار السريع عالمنا الشهير، الأستاذ القدير نيقولاي ستيبانوفيتش (الفلاني) حيث نزل في الفندق (الفلاني).»

يبدو أن الأسماء الطنانة يصنعونها لكي تعيش مستقلة، بعيدًا عمن يحملونها. وها هو ذا اسمي الآن يتجول في خاركوف خالي البال. وبعد حوالي ثلاثة أشهر سوف يلمع كالشمس ذاتها، وقد نقش بأحرف مذهبة على تمثال قبري … هذا في الوقت الذي يكون فيه الطحلب قد غطاني.

طَرق خفيف على الباب. أحدهم إذن يحتاج إليَّ.

– من هناك؟ ادخل.

يفتح الباب، فأخطو خطوة إلى الوراء مدهوشًا، وأسارع بجمع أطراف ردائي. أمامي تقف كاتيا.

وتقول بأنفاس مبهورة من صعود السلم: مرحبًا. لم تتوقع؟ أنا أيضًا … أيضًا سافرت إلى هنا.

تجلس، وتستطرد متلعثمة دون أن تنظر إليَّ: لماذا لا ترد عليَّ التحية؟ أنا أيضًا وصلت … اليوم … علمت أنك في هذا الفندق فجئت إليك.

فأقول هازًّا كتفي: مسرور جدًّا برؤيتك. ولكني مندهش … كأنك هبطت من السماء. لماذا أنت هنا؟

– أنا؟ هكذا … أبدًا … قررت أن آتي فجئت.

صمت. فجأة تنهض بحدة وتسير نحوي.

– نيقولاي ستيبانوفيتش! — تقول شاحبة وهي تعصر راحتيها فوق صدرها — نيقولاي ستيبانوفيتش! أنا لا أستطيع أن أحيا هكذا أكثر من ذلك! لا أستطيع! بحق الإله قل لي بسرعة، الآن حالًا: ماذا أفعل؟ قل لي ماذا أفعل؟

فأقول مستغربًا: ماذا أستطيع أن أقول؟ لا أستطيع شيئًا.

فتمضي قائلة وهي تختنق وبدنها كله يرتعش: قل لي أتوسل إليك! أقسم لك إنني لا أستطيع أن أحيا هكذا أكثر من ذلك! لا أقوى!

ترتمي على الكرسي وتشرع في النحيب. رأسها ملقى إلى الخلف، وتعصر يديها وتدق بقدميها. قبعتها سقطت عن رأسها وتدلت من الخيط المطاطي وهي تتأرجح، وتسريحتها تبعثرت.

وتتوسل إليَّ: ساعدني أرجوك! ساعدني! لا أستطيع أكثر!

تُخرج من حقيبة سفرها اليدوية منديلًا ومعه عدة رسائل تسقط من حجرها على الأرض. أجمعها من على الأرض وأتعرف في واحدة منها على خط ميخائيل فيودوروفتش، وتقع عيني عفوًا على جزء من كلمة «عاطف …»

وأقول لها: لا أستطيع أن أقول لك شيئًا يا كاتيا.

فتنتحب وتمسك بيدي وتقبلها: ساعدني! أنت أبي، صديقي الوحيد! أنت ذكي، مثقف، عشت حياة طويلة! لقد كنت معلمًا! فلتقل إذن: ماذا أفعل؟

– صدقيني يا كاتيا … لا أعرف!

أنا مرتبك، محرج، متأثر بدموعها، لا أكاد أقف على قدمي.

وأقول بابتسامة متكلفة: هيا نفطر يا كاتيا. كفاكِ بكاء!

وعلى الفور أضيف بصوت خائر: أيامي في الدنيا معدودة … يا كاتيا.

فتبكي وتمد لي يديها: قل ولو كلمة، كلمة واحدة! ماذا أفعل؟

فأدمدم: يا لكِ من غريبة حقًّا … لا أفهمك! واحدة عاقلة مثلك، وفجأة يحدث هذا! تبكين هكذا!

يحل الصمت. كاتيا تسوي شعرها وترتدي قبعتها، ثم تهصر الرسائل وتحشرها في الحقيبة … وكل ذلك في صمت وعلى مهل. وجهها وصدرها وقفازها مبتلة بالدموع، ولكن تعبير وجهها أصبح جافًّا، صارمًا … أتطلع إليها وأشعر بالخجل من أنني أسعد منها. إذ لم ألاحظ في نفسي غياب ما يسميه الرفاق الفلاسفة بالفكرة العامة إلا قبيل الموت بقليل، في مغيب آخر أيامي، أما روح هذه الفتاة المسكينة فلم تجد مستقرًّا ولن تجده طوال الحياة، طوال الحياة!

وأقول لها: هيا نفطر يا كاتيا.

فتجيبني ببرود: كلا، أشكرك.

وتمر دقيقة أخرى في صمت.

– لا تعجبني خاركوف — أقول لها — رمادية جدًّا. مدينة رمادية.

– نعم، يبدو كذلك … ليست جميلة … لقد جئت لفترة قصيرة … مجرد مرور … اليوم سأرحل.

– إلى أين؟

– إلى القرم … أقصد إلى القوقاز.

– مفهوم. لمدة طويلة؟

– لا أعرف.

وتنهض كاتيا، وتبتسم ببرود، ودون أن تتطلع إليَّ تمد لي يدها.

وأود أن أسألها: «إذن فلن تحضري جنازتي؟»، ولكنها لا تتطلع إليَّ، ويدها باردة كأنها غريبة. أمضي معها إلى الباب في صمت … ها هي ذي قد خرجت من غرفتي، وتسير في الممر الطويل ولا تلتفت. وهي تعرف أنني أنظر في أثرها، وربما تلتفت عند المنعطف.

كلا، لم تلتفت. ويلوح الفستان الأسود لآخر مرة، ثم يتلاشى وقع الخطوات … وداعًا يا كنزي!

١  رتبة مدنية في روسيا القيصرية تعادل رتبة الجنرال. (المعرب)
٢  وهو حاجز مزدان بالأيقونات يفصل الجزء الأساسي من الكنيسة الشرقية عن المذبح. (المعرب)
٣  نيقولاي بيروجوف (١٨١٠–١٨٨١م) جراح شهير وعالم كبير وضع أسس الجراحة الميدانية الحربية. وقسطنطين كافيلين (١٨١٨–١٨٨٥م) مؤرخ وقانوني وكاتب برجوازي، ونيقولاي نيكراسوف (١٨٢١–١٨٧٨م) شاعر ثوري كبير صور بؤس الفلاحين ونادى بالثورة على الحكم المطلق. (المعرب)
٤  العرَّة (tic): صداع تقلصي في الوجه يتمثل في تقلص متكرر ولا إرادي لعضلات الوجه نتيجة صدمة نفسية أو مرض في الجهاز العصبي. (المعرب)
٥  تاريخ المرض (باللاتينية).
٦  فنتسيسلاف جروبر (١٨١٤–١٨٩٠م) كان أستاذ تشريح في أكاديمية بطرسبرج الطبية الجراحية، وألكسندر بابوخين (١٨٣٥–١٨٩١م) عالم فسيولوجيا روسي، له أعمال مهمة في مجال فسيولوجيا الجهاز العصبي-العضلي. (المعرب)
٧  ميخائيل سكوبليف (١٨٤٣–١٨٨٢م) جنرال روسي أصبح ذائع الصيت بعد الحرب الروسية-التركية (١٨٧٧–١٨٧٨م). (المعرب)
٨  فاسيلي بيروف (١٨٣٣–١٨٨٢م) رسام روسي شهير، كان أستاذًا بمدرسة التصوير والنحت والعمارة بموسكو. (المعرب)
٩  باتي أديلينا (١٨٤٣–١٩١٩م) مطربة إيطالية زارت روسيا عدة مرات حيث أحيت حفلات غنائية. (المعرب)
١٠  يا زميل!
١١  درجة رسوب تعادل تقدير «ضعيف جدًّا» في جامعاتنا. (المعرب)
١٢  تشاتسكي هو بطل مسرحية «وذو العقل يشقى» الشعرية للأديب الروسي ألكسندر جريبويدوف (١٧٩٥–١٨٢٩م). وهي كوميديا هجائية حادة تهاجم الحياة الإقطاعية ومجتمع النبلاء. وكان الشاعر مقربًا من أوساط النبلاء الأحرار (الديسمبريين) ونُفي سفيرًا في إيران حيث قُتل هناك. (المعرب)
١٣  يالطا مدينة ساحلية في شبه جزيرة القرم. وهي مركز للعلاج والاستجمام على شاطئ البحر الأسود. (المعرب)
١٤  كان بطل الرواية يحمل لقب «المستشار السري» الذي كان يعادل في روسيا القيصرية رتبة الجنرال. (المعرب)
١٥  يا صاحب المعالي (بالفرنسية في الأصل).
١٦  حفارو القبور في مسرحية شكسبير «هملت». (المعرب)
١٧  عن اللاتينية، ومعناها: الأم المرضعة، وهي تسمية قديمة يطلقها الخريجون على المدرسة العليا (الجامعة). (المعرب)
١٨  الأرشيمندريت: كاهن يلي الأسقف في المرتبة. (المعرب)
١٩  الشطر الأول من قصيدة «تأمل» للشاعر الروسي الشهير ميخائيل ليرمنتوف (١٨١٤–١٨٤١م). (المعرب)
٢٠  مرقص أوريليوس (١٢١–١٨٠م) إمبراطور روماني وفيلسوف رواقي له كتاب «أفكار» باليونانية يعرض فيه آراءه الرواقية الأخلاقية. وأبكتيتس (القرن الأول الميلادي) فيلسوف يوناني رواقي دعا إلى الصبر على الشدة. وباسكال بليز (١٦٢٣–١٦٦٢م) فيلسوف ورياضي وفيزيائي وأديب فرنسي. (المعرب)
٢١  نيقولاي دوبرولوبوف (١٨٣٦–١٨٦١م) أديب وناقد ومفكر من أقطاب الديمقراطيين الثوريين الروس. لعب دورًا بارزًا في فضح النظام الإقطاعي القيصري عبر مقالاته النقدية الشهيرة. (المعرب)
٢٢  الكالويد مركب كيميائي شبه قلوي، أما الإيديوتين فشيء لا وجود له، وإنما كلمة ركبها الراوي من كلمة idiot وتعني «الأبله» ومن النهاية التقليدية لأسماء العقاقير الطبية، وذلك للسخرية من الطالب. (المعرب)
٢٣  كاتيا هو التدليل من يكاترينا. والأستاذ هنا يخاطبها باسمها الكامل واسم أبيها للاحترام، كما تقتضي تقاليد المخاطبة الروسية. (المعرب)
٢٤  حسنًا (باللاتينية في الأصل).
٢٥  أليكسي أراكتشييف (١٧٦٩–١٨٣٤م) جنرال وشخصية كبيرة في بلاط القيصر ألكسندر الأول. يرتبط اسمه بالإرهاب البوليسي والقوة الغاشمة. تولى وزارة الحربية ثم رئاسة إدارة الشئون الحربية في مجلس الدولة. (المعرب)
٢٦  البود: وحدة وزن روسية تساوي ١٦٫٣٨ كيلوجرام. (المعرب)
٢٧  تعني بالروسية: مطعم. (المعرب)
٢٨  «كذا»: علامة لاتينية تشير إلى أن الكلمة أو الجملة التي تسبقها منقولة كما وردت دون تعديل. (المعرب)
٢٩  الحجة الأخيرة (باللاتينية في الأصل).
٣٠  «اصعد يا أجلح»: عبارة هزأ بها أطفال بني إسرائيل من النبي إليشاع، كما ورد في التوراة (سفر الملوك الرابع، الفصل الثاني، السورة ٢٣). (المعرب)
٣١  تحريف لمطلع نشيد الطلاب باللاتينية Gaudeamus igitur, juvenes dum sumus (سوف نمرح ما دمنا شبابًا).
٣٢  لا توجد شخصية تاريخية معروفة بهذا الاسم. ويبدو أن تشيخوف قصد جان مارتر بيتي (١٧٧٢–١٨٥٦م)، وهو جنرال وشخصية سياسية في فرنسا، أو جاك لويس بيتي (١٦٧٤–١٧٥٠م)، وهو جراح فرنسي. (المعرب)
٣٣  نيكيتا كريلوف (١٨٠٧–١٨٧٩م) كان أستاذًا للقانون الروماني بجامعة موسكو. (المعرب)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤