الفصل الثالث

العقل كون صغير متى كُشفت أسراره؛ كُشفت أسرار الكون الكبير.

١

شغَّلت النسوة موسيقى عذبة، وأخذت السبع الحوريات يرقصن أمام مروان، ينتظر متى سيطلبنه للفراش، لا يستطيع أن يختار أيَّهن سيلتقي معها أولًا، بل ترك لهن الاختيار، إلى أن دعته «ناريس» أكبرهن سنًّا للجلوس أمامها، وقد كان يفكر أن الصُّغرى «سناء» الفاتنة ستدعوه أولًا. أصبح ينظر إلى القُبح والجمال نظرة واحدة.

جلسا بجانب بعضهما معًا، ثم أعطته «ناريس» السماعة ليضعها في أذنيه، فسمع موسيقى عذبة أخذته ليحلق في فضاء ساحر. كانت ذكورته منتصبة وهي تضع كفها الأيمن على عانته، وكفَّها الآخر فوق قلبه، وكذلك فعل هو معها. شعر بأنه يتماهى في الكون، يُحلِّق في سماء اللذة. استمر في حالة نشوة نصف ساعة، يحدث نفسه: «إنها الجنة، كما وُصِف لنا، التمتع بحور العين لا يضاهيه متعة في الأرض.» فتح مروان عينيه وأزال السماعات عن أذنيه، لم يستطع وصف تلك اللذة التي شعر بها دون استمناء. أشادت ناريس بمروان كثيرًا، وقالت له: «أنت كما توقعنا، اللقاء معك مذهل، لم أشعر بهذا يومًا في حياتي.» وكان مروان يحدث نفسه بغبطة بأن العالم الذي هو فيه جعل جنته في الأرض، ولن يحتاج إلى جنة أخرى. ثم اقتربت منه «ريحانة» تبدو أقل عمرًا من «ناريس». وهكذا كنَّ يتقدمن لمروان الأكبر سنًّا فالأصغر، إلى أن انتهى لقاؤه مع «سناء» التي هي أجمل منهن جميعًا.

في الجانب الآخر من عالم مروان الجحيمي، حضر الطبيب مسرعًا في منتصف الليل، هو والممرضة التي دعته ليشاهد تلك الحالة الغريبة، أخبرته بأن يطرد زوجة مروان من مرافقة زوجها .. لم يفهم الطبيب ماذا تريده الممرضة! وصل إلى غرفة مروان وهو مغطًّى ببطانية. وأخبرته بأن يرفع البطانية عن مروان، وهي تلتفت إلى الخلف. رفع الطبيب البطانية فشاهد ذكورة مروان منتصبة بشدة. أعاد البطانية ونظر بسخرية إلى حميدة التي أبدت حياءً. قالت: إيش تفكر يا دكتور؟! له أربع ساعات على هذه الحالة.

– أربع ساعات؟ لماذا لا تنادينني؟!

– ماذا أقول لك؟! .. أنا نفسي مندهشة، حتى وهو في صحته لم أرَه في مثل هذه الحالة. أنا أشك أن جنية تزوجته!

ضحك الطبيب وقال: «أمر غريب، مرض غريب، امرأة عجيبة. أنا لم أعد أفهم ماذا يجري لهذا المريض! لحية تسقط دون سبب، بسمته على الدوام، ملامح الغضب على وجهه، وأحيانًا تبدو عليه علامات التعجب، وهو في حالة غيبوبة.»

فجأة توقف تدفق الأكسجين إلى رئة مروان، فأسرعت الممرضة لتخبرهم بتبديل الأسطوانة؛ ظنًّا منها أن الأكسجين قد نفد من الأسطوانة! وضع الطبيب السماعة على صدره، لم يشعر بضربات القلب، ولا تزال البسمة مرسومة على شفتيه. ثم أحضر الطبيب جهاز انعاش القلب، وضعه على جانبي صدر مروان وشغَّل الجهاز، إلى أن عاد القلب إلى العمل.

فرحت حميدة، وقالت للطبيب: «أقول لك زوجي مزَّوَّج جنيَّة، شوف كيف أتعبته. كان شِيموت وشتأخذه عليَّ.»

خرج الطبيب من الغرفة وهو يضحك، أيسخر منها أم يشتم تلك الانفجارات في المدينة التي تضيء الغرفة؟

قالت الممرضة لحميدة: «هذه معجزة، جلد زوجك يتسلَّخ، وما زال على قيد الحياة.» وأسرَّت إلى حميدة على انفراد، بأن زوجها لا فائدة من بقائه في المستشفى، وأن ذلك خسارة على الأسرة. ونصحتها بإخراجه إلى البيت، وأن يشتروا له أسطوانتين أكسجين؛ ليسلموا من تكاليف المستشفى.

صباحًا استشارت حميدة أولادها في الأمر، فوافقت الأسرة على نقله إلى البيت، إلا أمه لم توافق. قال لها معاوية: «يا جدة سنهتم به في البيت، تكاليف المستشفى كثيرة.» وراحت هي تخبرهن بأن العناية في المستشفى أفضل، وبأنهم يريدون أن يرِثوه وهو على قيد الحياة، وشتمتهم.

كان ذلك اليوم هو الخامس من شهر إبريل، عادت فاطمة قبل الظهيرة إلى منزلهما مشيًا إلى المنزل، لم تجد مكانًا في الباصات المزدحمة، يكتظ فيها المواطنون حتى على أسطح المركبات. كانت تود أن تشتري طعام الغداء، لكنها لم تجد مطاعم مفتوحة. وصلت المنزل وصعدت سطح المنزل لتطبخ بما تبقى من الحطب وقِطع الكراتين، وهي تلعن الدخان والحر.

عند العصر هطل المطر، فحولت مجرى مياه السطح هي وإخوتها عُمر، سليم، سالم، نبيل، إلى خزان المنزل الأرضي.

في المساء جلسوا يسمعون الأخبار لمعرفة إلى أي هاوية تذهب البلاد، فسمعت تصريحًا للرئيس بتعيين قائد للجيش .. عرفت أن الحرب ستطول، ومضت تذم تلك الاشتباكات التي تحدث بين اليمنيين في مناطق عدة في البلاد.

تحدثت فاطمة مع أسرتها عن منير بأنه خاطبها منذ ثلاث سنوات، وأنه الآن جاهز للعرس، لكنه يخجل أن يتحدث في هذا الأمر في ظل مرض والدهم. انقسم رأي الإخوة، منهم من رفض الزواج حتى يُشفى والدهم، ويعقد قرانها بنفسه، وأيدت ذلك الرأي الجدة غصون. قال علي: إذا لم يُشفَ أبونا خلال ثلاثة أشهر فليتزوجا. حرام أن نؤجل زفاف أختنا، منير سالم رجل محترم، وأبونا وافق عليه سابقًا. لكن معاوية كان هو الوحيد الذي وقف ضد رأي علي.

اتصلت فاطمة بمنير تبشره بالخبر، وأن يحجز صالة بعد ثلاثة أشهر، وراحا يتبادلان القُبل عبر التليفون، حتى سمعا ضحكة غريبة في الخط، لم يعرفا أن هناك جهة تتنصت على المكالمات أثناء الحرب، لا سيما والمكالمة صادرة من بيت رجل قيادي في الحزب المغضوب عليه.

٢

كان مروان في آخر لقائه مع سناء يرى نفسه أنه في الجنة، ثلاث ساعات ونصف وهو في قمة النشوة، التي لا تحدث لبشر إلا في الجنة. اقتربت مريانا منه وهي تبتسم، وطبعت قُبلة على خده، سألته عن شعوره باللقاء الروحي معهن، كيف وجده؟! رد مروان وهو يتعجب: يا مريانا كأنك تعيشين داخلي. إن لقاء اليوم يضاهي لقائي مع زوجتي حميدة منذ أن تزوجتها قبل ثلاثين عامًا حتى فارقتها. كان لقاؤنا لا شيء مقارنةً بهذا اللقاء الذي دون كل لقاء.

نهض مروان في الصباح متأخرًا ولم يجد النسوة. فتح النافذة فرأى برجًا قد بُني في مكان البرج الذي شاهده سابقًا. لطم جبينه دهشةً يسأل نفسه: «أي عالم أنا فيه، كيف يُبنى برج خلال ليلة واحدة؟! ومتعة جنسية كمتعة العمر كله. هل أنا في الجنة أو أعيش حلمًا غريبًا؟» وعاد يسأل نفسه: «أين أنا يا إلهي؟!» وجد مَن يَظُنها مدبرة المنزل تعمل في المطبخ، وهي ترقص وتغني بصوت جميل. تحدث معها، فأخبرته أنها تعد له طعام الإفطار: خبز أخضر، وشراب التفاح ممزوجًا بحليب الصويا وعصير العنب .. تناول إفطاره، وشعر أنه ثمل لكن عقله لم يذهب. ثم نادى بروسي لتجلس بجواره. قال لها: «يا بروسي، ما رأيك أن تكوني مِلْك يميني أيضًا؟ فهذا العالم يفتقر إلى الرجال، وليغفر لي الله إن أنا ما زلت على هذه الدنيا.» ثم قبَّلها خدها أولًا ثم في فمها، وجد شفتيها رطبة لكنها باردة. وضع يده فوق كتفيها، وأخبرها عن عادات وتقاليد حياته السابقة، وأنه كان يعيش في أطراف جهنم. صمت وتحدث بحزن قائلًا: «آه، كم كنتُ غبيًّا حين صدقتهم .. وأزهقت أنفسًا كثيرة من أجلهم، وكنت أظن أنني أقتل من أجل الرب، كم أنا نادم على أفعالي في حياتي السابقة يا بروسي!»

كان بروسي يسمعه وهو يُقبله. قال له: «أنت تعلم يا كريم، أنني لستُ بشرًا، لماذا تُقبِّلني؟!» ذهل مروان، وقام من مكانه مفزوعًا: «ماذا؟ لست بشرًا! كيف تقولين إنك هيوموروبوت؟ لم يبدُ عليك ذلك. تؤدين عملك أفضل من زوجتي حميدة، طبخك ممتاز .. صحيح لم أرَ لك ثديين، لكن هذا لم ينقص من جمالك. لا، أنتِ تكذبين عليَّ!» وضع بروسي سبَّابته اليمنى جانب رأسه، كأنه يتذكر شيئًا، وقال: «تكذبين .. لم أجد في قاموسي هذه الكلمة. ما معناها؟!» جلس بروسي في الصالة، وأخذ ما يشبه القلم ليرسم مربعًا، فتكونت شاشة تليفزيونية، وظل يبحث في القنوات الفضائية، حتى وجد قناة اسمها «مشفى الهيوموروبوت». جلس مروان بجانبه، يشاهد كيف يتم إصلاح أي خلل في الهيوموروبوت .. عندئذ صدَّق مروان أن الذي بجانبه آلة وليس إنسانًا. سأل: «يا للغرابة! هل تصلحون أنفسكم بأنفسكم؟!»

٣

بقي مروان يبحث عن القنوات التليفزيونية بنفسه، بمساعدة بروسي. فشاهد مُدنًا رائعة، فيها ناطحات السحاب كأن تلك المدن من وحي رسام مبدع، والمركبات تطوف في الجو كالنحل. شاهد قناة اسمها «الخرطوم» وهي تظهر المدينة وأسواقها، بدت كأنها نسخة من صنعاء، والناس في الشوارع من مختلف الأعراق والجنسيات، ثم بقِيَ يشاهد مدن «إقليم الشرق الأوسط» فرأى تلك البلدان كلها بنفس الروعة. شاهد انسجامًا كونيًّا في التقدم الحضاري للعالم. سار يبحث عن بعض المدن السواحلية مثل: الإسكندرية، دبي، سنغافورا، عدن، الحديدة، جَدَّة، مومباي، كراتشي .. فلم يجدها. سأل بروسي عنها. رد بروسي قائلًا بأن تلك المدن ليست في قاموسه، ولا يدري عنها شيئًا. ظل مروان يبحث ليجد قناة اليمن فسأل بروسي عنها، فأفاده بأنه لا يوجد قناة بهذا الاسم، بل يوجد هناك قنوات: صنعاء، تعز، سيئون، ذمار، الرُّبع الخالي. فقال مروان: أظن أن برمجتك خاطئة!

– أنت أيضًا كنت مبرمجًا برمجة خاطئة في حياتك السابقة. كنت تقتل الآخرين لأجل أشخاص، وتظن أنك تقتل باسم الرب!

ذهل مروان من كلام بروسي! يحدث نفسه: «فعلًا كنا كذلك. سامحنا يا رب!» استمر في البحث إلى أن وجد قناة صنعاء مكتوبة بلغة غريبة، وتحت تلك الكلمات باللغة العربية «قناة صنعاء». شاهد امرأة تميل إلى السمرة تبدو في منتصف العمر، تلبس ملابس رجالية، شعرها يتدلى حتى الكتفين، حولها عدد من النسوة ورجلان، وهي تخطب في قاعة كبيرة ملأى بالنساء والقليل من الرجال. سأل بروسي عنها فقال له: هي مدير «مقاطعة صنعاء» منذ ثلاث سنوات.

– غير معقول! امرأة تحكم صنعاء، أين الرجال؟ كيف ولَّوا امرأة عليهم، أين العُرف؟ أين الدين؟ أين شيوخ القبيلة؟ أين الأئمة؟!

ذهب يذرع الصالة ذهابًا وإيابًا، يتحدث بهدوء دون غضب. سأل عن اسمها فقال له بروسي: اسمها «نبيلة فاتن الزبيدي»، لماذا تستغرب؟! النسوة منذ زمن بعيد هن اللاتي يُدِرن أقاليم العالم.

ضحك مروان وقال بهدوء: متى أصبحت النساء قوَّامات على الرجال؟! لماذا لا يحتج الرجال؟ ألم تعد فيهم رجولة؟ أين العسكر؟

– لا أعرف معنى عسكر.

– والجيش أين هم؟

– لا أعرف معنى هذه الكلمة أيضًا.

– لا تعرف كلمة عسكر ولا جيش؟! أنت ستصيبني بالجنون، لماذا تخلَّى الرجال عن مكانهم في المجتمع؟ أليسوا هم الأقوياء، وما النساء إلا لخدمتهم؟

– لا، ليس الرجل أقوى من المرأة.

– ماذا تقول يا أهبل؟ ومن يحمل الأحمال الثقيلة، ويقوم بالأعمال الشاقة؟

– نحن من يقوم بهذا. نحمل الأثقال عن البشر عند الحاجة. أنا الآن عمري مائة سنة، وقد عملت مع أسر كثيرة. حين وُلدت كان عمري عشر سنوات، وتدربت على خدمة البشر خمس سنين، ثم صرت صالحًا للعمل.

– ماذا تقول؟ ولدتُ؟ كيف ولدت من فرج أمك؟! يا ألله، ما هذا الهراء؟ ماذا يقول هذا الأهبل؟ يسخر مني؟ يريد أن يصيبني بالجنون؟!

قال بروسي: ماذا جرى لك يا كريم؟! هل أصبت بلوثة إليكترونية، ماذا تعني كلمة «أهبل»؟!

– طُز.

نهض بروسي من مكانه، وقال لمروان وهو يبتسم: أتريد أن أحضر لك «طُز»؟

ضحك مروان عاليًا، وقال: نعم، أحضِرْ طبقًا منه.

ذهب بروسي وعاد يحمل طبقًا يشبه الجلي مصنوعًا من الفاكهة، ثم عاد يعد وجبة طعام العشاء. جلس مروان يستمتع بطبق الطُّز الشهي، يسأل في نفسه: لماذا بروسي هو الوحيد الذي لم يصدق أنه مروان؟!

٤

قبل الغروب أقبلت النسوة مرهقات من العمل. أخذن حمامًا في عجلة من أمرهن، وقدَّم بروسي وجبة العشاء. تحدث معهن عما دار من حديث بينه وبين بروسي، أخبرهن أنه لم يصدق كلام بروسي أو أنه يكذب. اقتربت منه فرضانا تلاطفه بقولها: لا يوجد من يكذب في هذا العصر، يا عزيزي.

– لكنه يقول إن مدن الإسكندرية، دبي، سنغافورا، عدن، الحديدة، جدة، مومباي، كراتشي ومدنًا سواحلية أخرى اختفت من الوجود! كيف أصدِّق هذا؟!

– فعلًا كلامه صحيح، وكذلك اختفت دُول من خارطة العالم، مثل: هولندا، فيتنام، بنجلادش؟

حدَّث مروان نفسه: «يا للهول! ماذا جرى؟! كيف اختفت مدن سواحل العالم التي أعرفها؟! هذا شيء لا أستطيع أن أصدقه.» وعاد يسأل: هل الرجُل لم يعُد أقوى من المرأة؟ هذا غير معقول!

– لم نعد نحن بحاجة لقوة الرجل، لدينا من هو أقوى منه. انظر إلى بروسي يستطيع أن يحمل مائتي كيلوجرام، وهناك غيره يحمل طنًّا. ويمكن للبعض أن ينام مع عشرات النساء مرة واحدة.

– لماذا ترى أن النسوة سَلبن حقوق الرجال؟ ولا ترى أنهن استرجعن حقوقهن المسلوبة. نحن نحافظ على الرجل ونهتم بشئونه، ونرعاه أحسن رعاية، وهو يستمتع باللقاء الروحي أكثر منَّا. ويمكن أن يعمل مثلنا في كل مكان إذا أراد. ولكن نفضِّل أن يبقى في المنزل لرعاية الأطفال؛ فسبع نساء قادرات على أن ينفقن على المنزل. لماذا نراك مندهشًا لمصير الرجل؟ ثم إن الديموقراطية والعدالة مذهب هذا العصر. ونحن النسوة الأكثر عددًا من الرجال. كان العالم عالمًا ذكوريًّا، شرَّع فيه الرجل كل شيء لصالحه وسفَك الدماء منذ الأزل. لكن في عهد إدارة المرأة للعالم استطاعت أن تروِّض الرجل المتباهي بقوته وتَسُوسه.

كانت مريانا تنصت بصمت لما يفكر فيه مروان، وهو في صراع مع ذاته القديمة. اقتربت إلى جواره وأخذت تسرد له نبذة عن النظام العالمي في زمن الإنسان الجديد، قالت: العالم الحالي يا مروان دولة واحدة، وأمة واحدة، مقسم إلى سبعة أقاليم: المشرق الأقصى، الشرق الأوسط، إفريقيا، أوروبا، كندا الأمريكية، المُدن اللاتينية، وأستراليا. وعاصمة العالم هي مدينة «سرجونشي». وكل إقليم مقسَّم إلى مقاطعات، يرأسها مدير محلي منتخب يدير المقاطعة لمدة أربع سنوات فقط، وكل مقاطعة تتكون من عدة مدن، ترشح شخصًا عبر الكمبيوتر إلى المجلس الأعلى للأقاليم. وهذ المجلس بدوره يقوم بترشيح رئيس المجلس، وكل إقليم يدير العالم سبع سنوات، وهذا المنصب هو منصب فخري، فكل فرد يعرف واجبه تمامًا. وهناك علَم واحد للدولة العالمية، رُفع هذا العلم على سطح القمر أيضًا. أظنك شاهدته.

تذكر مروان المنطقة الخضراء التي شاهدها على سطح القمر أول يوم له في هذا العالم. سأل ببهجة: «أجدك يا مريانا تفهمين مشاعري أفضل من الغير، أخبريني كيف أصبح العالم شعبًا واحدًا، ما لم تستطع تحقيقه جميع الأديان؟!» ردت قائلة له، وهو ينصت كطفل صغير: بدأ الفلاسفة أولًا في هذا الأمر أثناء عملية التأمل «المانترا»، عن طريق الممارسة المستمرة والتفكير الانتمائي بالوعي الكوني، ونجحوا تدريجيًّا في التخلي عن النظرية الانتمائية غير السليمة التي تمجد الذات، حتى تحرر فيه الإنسان من كل قيود الأنانية. وهذا التأمل كان أساسًا لعلماء الجنس البشري في هذا العصر، واكتشف علماء البيولوجية «الجين الأناني» وقاموا بكبحه. كانت الأنا تفرِّق بين أجناس البشر، وتستعبدهم وتشعل الحروب. تلك الأنا كانت ستضعُف ذات يوم، وتكون تحت سيطرة العقل بعد آلاف السنين، لكن هذا العصر اختزل تلك المسافات والسنين من عمر البشرية؛ ليعيش عالم الإنسانية الحقيقية.

قارن مروان نسفه بما جرى له بالنبي دانيال في «سفر الرؤيا»، كان يرى المستقبل بطريقة رمزية ويفسر بعد ذلك، وبالنبي يوسف وهو يفسر رؤيا السنين العِجاف، والسنين السِّمان، في رؤية الملك الفرعوني «أمنحوتب»، رأى مستقبل البلاد من خلال تلك الرؤيا. قامت مريانا من جواره، وهو يتساءل: «تُرى ما مصير أولادي؟ هل هُم أحياء بعد ذلك الانفجار؟ كيف اختفت المُدن السواحلية في العالم؟!»

٥

خرج مروان من المستشفى يوم الخامس عشر من شهر مايو، على سيارة الإسعاف تنقله إلى البيت الذي استأجروه في منطقة «السُّنينة» وكان منير حاضرًا. أثناء مرورهم بجوار معسكر الدفاع الجوي، سقط الصاروخ الأول على المعسكر؛ فأسرع السائق بالمركبة، وعبر على حُفر كثيرة فتدحرجت أسطوانة الأكسجين داخل السيارة.

سقط الصاروخ الثاني، وكانت هناك سيارة في الاتجاه المقابل، فاصطدمت بالسيارة التي تُقل مروان، وقذفت به والأسطوانة معًا إلى خارج السيارة. تحلَّق العابرون الخائفون حول مروان، أحدهم سأل أسرة مروان: أين سيدفنونه؟ يود مشاركتهم في الدفن. كانت القذائف ما زالت تهطل على المعسكر، ولم تعد السيارات تمر في جواره، ما عدا سيارة قُمامة عبرت فارغة. أوقفها معاوية، وطلب من السائق أن يحمل أباه إلى البيت.

أوصلوا مروان إلى سكنهم الجديد، لم يبعد كثيرًا عن المعسكر. قبَّلته أمه على الرأس وهي تذرف الحزن، وغضبت على حلق لحية ابنها، فأخبرتها حميدة أنها سقطت من تلقاء نفسها، وذهبت لتعد الطعام لمروان. بينما كان علي وإخوته يسمعون الأخبار .. فجأة نقلت إحدى القنوات مشهد قصف منزل الرئيس الأسبق، وهذا أغضب معاوية.

قالت فاطمة: أنت يا معاوية غاضب على قصف بيت الزعيم الذي بناه من مال الشعب. نحن قمنا بثورة لنزيحه، وأنت تريده أن يعود إلى عرشه. حدث شجار بين الإخوة، لم يُظهر منير موقفه في هذا النقاش، بل كان سعيدًا لكلام فاطمة، يؤيدها بنظراته .. فهي ما زالت على موقفها منذ اندلاع ثورة الشباب، لم يتغير رأيها كما حدث للكثيرين الذي غيَّروا رأيهم حسب مصالحهم الشخصية، وليس حسب مصلحة الوطن.

قدمت حميدة الطعام لمروان الذي أوصى به الدكتور وخلطته بالخلاط. وكانت أمه غصون تراقب حميدة، وهي تحقن الغذاء عن طريق أنبوبة التغذية الأنفية. قالت: «الآن ابني سيُشفى. كان شيموت (سيموت) من الجوع في المستشفى.» وراحت تدعو له بالشفاء، وهي تشم رائحة نتنة تفوح من مروان، رأت أنها من الحفاضات التي لم تُبدَّل. سمعت شجار الأخوين علي ومعاوية في صالة البيت، فخرجت بعصاها لتضربهما، وهي تقول: أبوكم على فراش الموت وأنتم تتشاجرون داخل البيت. وقفت أمام منير ورفعت عصاها، وقالت: وأنت تشتي تتزوج وعمك مريض.

– يا جدة حتى البلاد مريضة وأمة الإسلام مريضة والعرب تائهون، لكن الحياة لا بد أن تستمر. نريد جيلًا يصلح ما أفسده الحكام يا جدة.

بينما الجدل العقيم يدور بين أولاد مروان، كان هو في الوقت نفسه في عالمه الفردوسي، يتنسم رائحة زكية تفوح من حوله، وتمنى ألا يعود إلى عالمه الذي أتى منه، إن كان هو في حالة رؤية للمستقبل، وإن كان في حلم تمنى ألا يصحو منه.

لبست حورياته ثياب النوم، ورحن يرقصن أمامه بلياقة بدنية عالية، وموسيقى «السعادة» تطرب مروان، وأخرجته من حزنه بسبب ذكرياته الماضية. أخذن يتناوبن على تقبيله، ويُشِدن باللقاء الروحي معه الذي لم يجدنه مع شريكهن السابق «كريم». نادته هذه المرة سناء أصغرهن سنًّا للجلوس معها للقاء الروحي. كُنَّ يتناوبن معه الصغرى فالكبرى، عكس الليلة الماضية. أخبرهن بروسي أن كريم قبَّله وأعجب بمؤخرته. ضحكت النسوة، سألته ناريس: «كيف تقبِّل بروسي؟!» شعر مروان بالخزي مما قام به من عمل مشين، وراح يخبرهن بأنه لم يكن يعرف أنه آلة، وظن أنه خادمتهن، وأنه كان يريده أن يكون مِلك يمينه بالحلال، ما دام هذا العالم يعاني من نقص الرجال. وسألهن لماذا بروسي ما زال يناديه بكريم؟! أفادته ناريس بأنهن تحدثن معه كثيرًا عن اسم مروان، لكنه لم يتقبله.

وما أدهش مروان أنهن رفضن مضاجعته، أخبرته فرضانا ضاحكةً بأن المضاجعة العادية ليس فيها لذة ونشوة كاللقاء الروحي، ثم إنها مُتعِبة ومهينة للمرأة، وفيها هدر لطاقة الرجل، وهذه الطريقة لم تعُد تُستخدم إلا في حالة التلقيح لحياة جديدة، أو عند الشواذ جنسيًّا، وحين يرغبن في التلقيح لحياة أخرى سيعالجن ذلك الأمر.

٦

علَّمهن مروان كيف يطهين الفطر، فكان يطبخ منه «المَضْبى» و«المندي» و«المسلوق» وأعجب ذلك النسوة. أما بروسي فلم يستطع أن يتعلم هذه الطريقة، فكان مروان كثيرًا ما يساعده في الطبخ.

ذات ليلة جلس مروان أمام البث التليفزيوني يشاهد مزارع أشجار الفطر، يصل طولها لأكثر من مترين، تزن الواحدة منها مائة كيلوجرام. جلست النسوة إلى جواره، وراح يحدثهن عن الصلاة .. وأنكر عدم معرفتهن بها، كذلك معنى كلمتي إسلام ومسلمين، والرسول محمد بن عبد الله. وضع مروان كفه على ناصيته كمن أصيب بالصداع، وحدث نفسه: «متى كفرت اليمن بدين محمد؟ الله أكبر. هل كفرت أمة الإسلام؟!» ثم تساءل في نفسه: لماذا لم يغضب لدينه الذي قاتل من أجله؟ ثم لعن الشيطان. صمت قليلًا وقال لنفسه: «ماذا أقول أنا؟ أين الشيطان هذا؟ لم أعد أحس به أو يوسوس لي! أظنه كان داخلي، وكنت ألعن نفسي صباح مساء. هل هذا اللقاح الذي أخذته قتله في داخلي؟!» قاطعت مريانا أفكاره، قائلة: يا عزيزي لا تتحيَّر في الأمر، نحن أيضًا مؤمنون بالله ولنا ديننا. ديننا هو المحبة في جيناتنا أخذناه لقاحًا، أفضل من كل الأديان القديمة التي كانت تُلقن شفهيًّا. أليس هذا هو مطلب الإله أن يعيش العالم في محبة وسلام؟

كان مروان يُنصت وهو في حيرة. كيف أن مريانا دائمًا تجيب على تساؤلاته دون أن يسألها؟! ثم أخذ يتعرف على أعمارهن. قالت مريانا: عمري ٥٥ سنة، وقالت سريانا: وأنا ٦٢ سنة، وريحانة: ٧٠، وفرح: ٦٦، وناريس: ٨٥، وفرضانا: ٥٠، وسناء: ٢٥ سنة. كان مندهشًا وهن يخبرنه بأعمارهن. قالت له فرح: نراك مُندهشًا من أعمارنا، ولم نستغرب نحن من عمرك!

رد مروان بأن عمره خمسة وأربعون عامًا. مما أضحك النسوة جميعًا. قالت سريانا: لقد نسيت كم كُتب في شهادة خروجك من المشفى، ٥٦٠ عامًا.

٧

جلسوا يشاهدون فيلمًا حيًّا عن ذكريات مروان، يعرض في شاشة مُعلَّقة في جو الصالة. شعر مروان كأنه يقرأ كتابه بيمينه يوم القيامة، وهو يشاهد حميدة تنظف الصحون في المطبخ .. حدَّث نفسه: «الحمد لله أنها ظهرت في المطبخ، وليس في غرفة النوم.» ثم أخذ يشير ويقول: هذه زوجتي حميدة. ثم ظهرت أمه، وهي تصلي، فهتف: «تلك أمي، يا للروعة!» ثم شاهد ابنه معاوية وهو يدخل غاضبًا ويشتم أخاه عليًّا. قال مروان: «وذاك ابني الأكبر معاوية، تخرَّج في كلية الآداب لكنه بلا أدب، ارتمى في حضن الحزب الحاكم، دائمًا هو في شجار مع أخيه علي.» ظهر منير، فضحك مروان وقال: ذاك خطيب ابنتي منير سالم، وافقتُ على خطبته من ابنتي فاطمة رغم أنه من حزب تقدمي، كنا نراهم خارجين عن دين الله وأعداءنا، لكننا تحالفنا معهم للمصلحة الشخصية، وليس لمَا يقتضي مصلحة الدين.

ضحكت النساء وهن يشاهدن حميدة في المطبخ البدائي، واللباس والأثاث .. ثم شاهدوا الأسرة كلها وهم يتناولون وجبة الغداء: سلته، لحم، أرز، رغيف .. وأخذ مروان يشير إلى كل واحد منهم: ذاك عمر، نبيل، والتوءمان سالم وسليم، وتلك ابنتي فاطمة، مات زوجها في جوار الإذاعة وهو يدافع عن ثورة التغيير في مسيرة الشباب ٢٠١١م، ثم شاهدوا سوبر ماركت كبيرًا، وضحكت النسوة من عملية دفع ثمن الأشياء والعُملة الورقية. قال مروان وهو يضحك: «ذلك متجري، افتتحته من غنائم حرب الانفصال التي شاركت فيها.» ثم عرضت الشاشة غرفة نومه، وهو يخلع ثيابه، وأمامه زوجته حميدة تخلع ثيابها أيضًا، فلطم ناصيته دهشة وهو يقول: «الله الله الله!» ثم شاهد نفسه في لقاء حميمي مع زوجته حميدة على الفراش .. أخذ يغطي عينيه، والنسوة تتفرج على طريقة اللقاء الغريبة، تظهر فيها حميدة تحت ثقل مروان .. انتقلن سريعًا حسب طلب مروان لمشاهدة مشهد آخر، ظهر فيه معسكر «الفِرقة» يقصف بالمدافع من فوق جبال عطان القريب من سكنه. أناس وهي تخبره عن سقوط الفرقة بيد الحوثين، هروب قائد الفرقة .. سمعت النساء صوت مروان، وهو يقول بأسًى: «انتهى حزب الإصلاح، لقد تآمروا علينا، أدخلوا الحوثيين لضربنا.» سألته فرح: لماذا تتقاتلون؟!

– للسيطرة على الحكم.

– لماذا لا تكون الديمقراطية هي خياركم؟!

– الشورى هي مبدأ الإسلام في الحكم، لكن لا نعمل بها، فهي غير مناسبة لمن يمتلك القوة، بل يتخذها شعارًا زائفًا.

– ماذا ستعمل لو كنت أنت رئيسًا في زمانك؟

– كنت سأقتل كل من يعارضني .. سأتخذ جواريَّ من الحسان سرًّا. سآخذ ما أشاء من ثروات البلاد، وأشتري القصور في خارج البلاد، وسأعمل ديموقراطية صورية لأظل على كرسي الحكم مدى الحياة، ثم أورِّث الحكم لأحد أولادي، مَن هو أشد فتكًا بالخصوم، سأتحالف مع أي قوة تبقيني على عرشي.

اندهشت النسوة مما يقوله مروان، كما اندهش هو لقول الحقيقة كاملة، وراحت مريانا تصفِّق لنجاح لقاح الأديان فيه.

٨

بقيت النساء تشاهد مشاهد أخرى من فيلم ذاكرة مروان. إحدى مسيرات ثورة ٢٠١١م، ثورة الشباب السلمية في شارع الستين .. قال مروان: «يا حورياتي لم أكن أدري أنني كنت ثورًا يُحرَث به إلَّا الآن.» حتى ابنتي فاطمة كنت آمرها أن تشارك في المسيرات النسائية، التي تخرج تهتف لإسقاط النظام.

شاهدت النسوة قتلى بأكفانهم في طابور طويل. قال بحزن: «هؤلاء هم ضحايا الصراع على كرسي الحكم، كنت أرى أن قتلانا في الجنة، وقتلى النظام في النار.» ظهرت صورة الرئيس الأسبق، فهتف مروان: «هذا رئيس بلادنا، انقلبنا عليه باسم ثورة التغيير، بعد أن أقصَى حلفاءه من الشراكة معه في الحكم. تزوج اليمن ثلاثة وثلاثين عامًا ولم يكتفِ، وأراد أن يزوجها لابنه، نصحناه: «ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم»، فلم يسمع للنصح.»

طلب مروان أوراق الشاي لمضغها، وطلبت النساء شايًا أخضر. قال وهو يضحك: «هيَّا خزنين١ معي سيجعلكن القات سلاطين زمانكن.» فطلبت النساء من بروسي أن يُحضر لهن أوراق القات، وكان ينظر بدهشة إلى مسيرة جماهيرية مليونية. تساءل: هل تلك الحشود آليُّون مثلنا؟ فضحك مروان عاليًا، وقال له: والله إنك «زنوَّة». لقد وصفتهم أدق وصف، هيا أحضر حقِّي القات، دعني «اكيَّف» بجانب حورياتي، فاليوم عرفت أنني كنت آليًّا بشريًّا.

قالت سناء، وهي تمسح رأس مروان وهو لا يزال يضحك: لا، لم تكن آلة؛ بل كانت النرجسية الجماعية تتقمصكم وتجمعكم.

لم يفهم مروان ماذا تعني بالنرجسية الجماعية، وضَّحت سناء له بأنها هي التباهي بشيء يجمعكم للمصلحة الشخصية، تقولون مثلًا: نحن رائعون، أخيار، ديننا أفضل من كل الأديان الأخرى .. وهي: قومية، سياسية، دينية، وعرقية.

اندهشت النسوة حين شاهدن حشدًا هائلًا من الناس، تساءلت سناء عن تجمع ذلك العدد من البشر في مكان واحد، ولماذا يدورون حول ذلك المنزل المكسوِّ بالثياب السوداء وفي وسطه حزام مذهَّب؟ اتسعت عينا مروان دهشة، وقال: ماذا تقولين يا حوريتي الصغيرة؟ ألم تسمعوا عن الحج إلى مكة؟!

– لا! وما ذلك الحج؟!

صمت مروان مذهولًا. أعقب مشهدَ الحج مشهدٌ آخر، وهو حشد كبير في ميدان السبعين للرئيس الأسبق، وهو يخطب أمام الجماهير. سألت سناء: وهل ذلك يعتبر حجًّا مثل الحج إلى ذلك البيت أيضًا؟!

لطم جبينه وهو يحدث نفسه: «لماذا لم أغضب لعقيدتي؟! هل هذا اللقاح أبعدني عن عقيدتي؟!» سألته مريانا عما تعني كلمة عقيدة، فقام مروان من مكانه، وقبَّل شفتيها بقوة، وقال: «أمَّا أنتِ لا أدري كيف تقرئين أفكاري؟!»

٩

توقفت النسوة عن مشاهدة فيلم ذكريات مروان، وذهبن للاغتسال معًا بصحبته، ومن ثمَّ ذهبوا للتحليق في سماء المتعة، ثم خلدوا إلى النوم. قام الساعة العاشرة صباحًا، وهو يشعر بالجوع، دعا بروسي ليحضر له الطعام إلى فراشه، فقال بروسي: «حاضر يا أهبل.» حكَّ مروان رأسه وصمت عن الشتيمة.

أحضر الطعام إلى الصالة، ووضعه على الطاولة، ونادى على مروان: لقد أحضرت لك الطعام.

– لماذا لا تحضره إلى غرفة النوم؟

– لست معتادًا على مخالفة النظام يا «زنوَّة».

– لماذا ناديتني يا «زنوة»؟

– لأسعدك بها؛ وجدتك تضحك، وأنت تنطق هذه الكلمة. أليس كذلك؟

صمت مروان وراح يتناول طعامه. ثم جلس أمام النافذة يشاهد المدينة الساحرة. رأى أسراب الصحون الطائرة تحلِّق في الجو، وشاشات عملاقة في الجو، وعدة أقواس قُزح على سماء المدينة، دون أن يكون هناك مطر. ثم فكر في أسرته، فقطرت دمعة على خده. رآها بروسي فقال له: «هل تبكي يا كريم؟ هل عدت طفلًا؟!»

بينما كان مروان في عالمه الفردوسي في حالة دهشة مما يشاهده، كان حينها في عالمه الجحيمي مستلقيًا على فراش الموت السريري. لم تفده التغذية الجيدة في البيت وبشرته تزداد جفافًا، وتغيَّر لونها إلى وردي فاتح. ولم تجد حميدة إجابة عند الطبيب لحيرتها، وبلغ منها اليأس من شفائه، لكن واجبها يحتم عليها الوقوف مع زوجها حتى النهاية. ومما يزيد من كُربتها، هو الشجار بين علي ومعاوية، على إدارة السوبر ماركت الذي يواجه خسارة كبيرة. وهما لم يلتفتا إلى ذلك بقدر تنافسهما فيما بينهما، كأنهما ليس من بطن واحدة. وترى حميدة أنه إن لم يُشفَ مروان لتناحر أولادها على التركة.

كانت أمه هي الوحيدة التي لم تيأس من شفاء مروان. راحت تبحث عن سُبل أخرى لشفاء ابنها. بدأت طريقة العلاج بالقرآن، فأحضرت شيخًا يقرأ القرآن عند رأس مروان، ويعوذه من الجن والشياطين، ورشه بالماء المقروء عليه بالقرآن الكريم. قال الشيخ للأم: «لا أظن أن ابنك يُعاني من مس الجان، أو الحسد، بل إنه مصاب بالسحر الأسود، هذا السحر موضوع بجوار جثة أحد الموتى، قُبر حديثًا. وما أكثر الموتى هذه الأيام! لهذا سيبقى هكذا جثة هامدة حتى يزول السحر عنه.» سمعت شجارًا بين علي معاوية في صالة البيت، فخرجت بعصاها تهزها نحوهما. تقول لهم: «أبوكما ينازع الموت، وأنتما تتنازعان على ثروة أبيكما دون حياء، يا طراطير، تُف عليكم من رجال .. ألا تستحيان؟!» بكت غصون على ولدها الملقى كجثة هامدة على السرير. لكن إحساسها كان كبيرًا، وهي ترى البسمة في شفتيه لم تفارقه.

بينما كانت غصون تبكي على مروان، كان هو في عالمه الفردوسي يتناول القات الذي أحضرته له النساء معهن، بعد عودتهن من العمل. سألهن إذا كان هناك من يبكي في هذا العصر، فردت فرضانا بأن الأطفال الذين لا يجدون وسيلة للتعبير غير البكاء هم الذين يبكون. أخبرهن بأنه سيُريهن مشاهد من فيلم ذاكرته، وسيرى هل سيبكين أم لا؟

جلسن بجواره، ورحن يمضغن القات معه، وهو يبحث بنفسه في فيلم ذاكرته عن مشاهد جهاده في أفغانستان. ظهر في المشهد شاب كان يجلس بجوار مروان وهو يحدثه. ثم رأينه يقف أمام دبابة ويطلق عليها النار، لكنه خرَّ صريعًا. سألت سيرينا وقد انتفخ خدها بالقات: «من هو ذلك الشاب؟» فأخبرها أنه صديقه ناجي عمر المدحجي، كان من ضمن الذين قادوهم معًا كالقطيع إلى أفغانستان. قَتَل اثنين ممن كنا نسميهم كفارًا، ثم عرَّض نفسه للقتل في المعركة؛ ليلقى حور العين. الله لا رحمه. أزهق روحين دون وجه حق! وباشر يدعو الله أن يغفر له؛ فقد كان مخدوعًا.

ضحك مروان وهو يشاهد خدودهن محشوة بالقات، وأثر الحزن على وجوههن، ويبدو عليهن الانتباه. ثم أخذ يبحث عن مشاهد اشتراكه في حرب الانفصال صيف ١٩٩٤م. ظهر وهو في مقدمة الصفوف ضد الحزب الاشتراكي. كانت النساء تُحدِّق إلى آلة الدمار، وهي تنفث حممها نحو الجانب الآخر، وأناس قتلى وجرحى، وتراشق الطرفين بالرصاص، وقذائف هنا وهناك. ومروان يهتف: «إلى الجنة يا أنصار الدين. كرُّوا على الكفار، انصروا الله.»

بكت النسوة ولم يستطعن مشاهدة تلك المشاهد الدامية، ورحن يخرجن نثارة القات من أفواههن. كان بروسي صامتًا طول فترة مضغ القات، ثم نطق وقال لمروان: «يا قاتل، ستفسد هذا المنزل. لماذا كنتم تتقاتلون فيما بينكم يا بشر؟!» تحدث مروان بأسف: كنت أرى أننا نحارب المرتدين والكفار. ولم نكن ندري أننا ننصر أعداءنا، نصرنا الرئيس الأسبق في حرب الانفصال ضد الحزب الاشتراكي، وانقلب ضدنا، نصرنا أمريكا في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي، فساقوا من نجا من الموت إلى سجن «جوانتانامو» .. خُدعنا كثيرًا عبر الأزمان، خدعنا بكلمة «شهيد، وحور العين»، كنا نظن أننا ننصر الله، وما نصرنا إلا الشيطان!

كانت النسوة ينظرن إلى مروان بدهشة، وهو يقول: لأول مرة أشعر بحرية وأنني ملك نفسي، أقول ما لم أستطع قوله في حياتي، لست أدري يا حورياتي، هل كلما أحببنا أنفسنا كثيرًا كرهنا الآخرين، وكلما أحببنا ديننا أكثر كرهنا الأديان الأخرى.

قالت فرضانا: نعم، يا شريكنا! هكذا هو الحب الأعمى يقابله كره أعمى مثله، عشت عالمًا تسوده الكراهية، أما الآن فقد انتهت النرجسية الدينية والجماعية والفردية، وأصبح العالم كله أمة واحدة.

١٠

لم تنم النسوة كالعادة، فجلسن يشربن عصير التفاح، ثم عُدن يشاهدن مشاهد من فيلم ذاكرة مروان. كان هناك أناس يمشون في طابور طويل، بين جبال قاحلة، أمامهم ثلاثة رجال سود يضربون الطبول، تمشي خلفهم امرأتان .. قال مروان: «إنه يوم عرسي، كنت قد نسيت هذا الحدث، انتظرن قليلًا، سترين زوجتي حميدة حين تكشف عن وجهها، سترين كيف كانت جميلة.» ثم قام رجل وامرأة ليرقصا معًا، والبقية يتفرجون وهم يمضغون القات، وأمامهم نرجيلة طويلة وهم ينفثون دخانًا من أنوفهم وأفواههم. استغرب بروسي، وقال: «كيف ينفثون كل هذا الدخان من داخلهم؟ هل يحترقون من الداخل؟!» دخل مروان هو وعروسه غرفة صغيرة ضوءها خافت، أعطاها مالًا، فخلعت ثيابها، وأطفأت القنديل. لم تعد النسوة ترى المشهد، فسألت سناء: لماذا تطفئون النور عند النوم معًا؟

– إنه الحياء عند المرأة في زماننا.

– ماذا فعلت معها يا مروان؟!

– سلقتها على ظهرها، ورفعتُ رجليها إلى الأعلى، وفضضت الخاتم.

– ولماذا هي لا تفعل كما تفعل نساء هذا العصر عند التلقيح لحياة جديدة؟! ما دام لم يكن لديكم وسيلة اللقاء الروحي.

بقيت النسوة تنصت إلى صوت شهيق وزفير حميدة ممزوجًا بالألم .. وصوت مروان وهو يقول لها بصوت متذبذب: اصبري قليلًا .. ثم انتقلن إلى مشهد آخر حين كان مروان يرفع صوته للأذان، ويتلو القرآن في الكُتَّاب وهو في الثانية عشرة من العمر. ثم شاهدنه وهو في السابعة من العمر يرعى قطيعًا من الغنم، فضحكن على تيس وهو يمارس غريزته مع النعاج. استغربت سناء. قالت: إنه يمارس اللقاء كما شاهدناك مع زوجتك!

١١

حزنت النسوة حين شاهدن مروان وهو يمشي حافيًا، يلبس ثوبًا قصيرًا، يلعب في قريته الصغيرة مع بعض أصدقاء الطفولة على ضفة وادٍ، وأبوه الراعي ناجي مدهش وهو يلطمه، وهو في عمر ثلاث سنوات، يدعوه بغضب: «يا زنوة، يا ابن الحرام …» وتشاجر مع أمه حين أتت لتدافع عنه، وأبوه يقول لها بغضب: يا غصون، أنت سمراء، وأنا كما ترين أسمر. كيف هذا الولد جاء أبيض اللون؟!

كانت غصون تقول له: لا أدري، لكنه ابنك!

– إنه يشبه الرجل الغريب، الذي كان ذات يوم في بيتنا.

بكى مروان أمام النسوة، وغطى وجهه بكفيه حين تفاجأ بهذا الخبر، شعر بالخزي والحزن، حينها عرف لماذا كان أبوه ناجي الراعي يضربه دون سبب، ويناديه بابن الحرام.

ساد مروانَ الحزنُ حين عرف أنه ابن ظل، يسرح بفكره إلى أن قالت فرضانا: «أنت الآن يا مروان ابن هذا العالم. إنسان آخر.» بينما النساء كانت تشاهد يوم مولده لحظن حزنه، فرُحْن يعطرنه بعطر السعادة، وعاد يضحك يُقبِّل تلك ويحضن تلك.

كان هذا اليوم هو يوم الجمعة الخامس والعشرين من يونيو. أربعة أشهر مرت على مروان وهو يمرح في عالم السعادة، بينما أمه غصون تعيش في عالم التعاسة، هي الوحيدة التي تمكث بجواره طوال اليوم، رغم تلك الرائحة التي تفوح من تقرُّحات جسده التي تزداد يومًا بعد يوم. عملت بنصيحة الشيخ قارئ القرآن، وأحضرت ساحرًا يفتش في البيت، إلى أن أظهر ورقة طويلة مطوية، وقال لغصون: «ابنك مسحور، ولا بد من فك السحر. عليكم بذبح تيس أسود، وإذا لم ينفك السحر، فلا بد من مُحضِّر أرواح، وطرد الروح الشريرة التي سكنت جسده، ولن تجِدِي مُحضر الأرواح الجيد إلا في الحبشة. وراحت غصون ترجوه بأن يُحضره.»

اجتمعت الجدة بالأولاد، أخبرتهم عن ضرورة حضور «مُحضِّر الأرواح» من الحبشة. لم يوافق الأبناء، فغضبت وأخبرتهم بأنهم لا يريدون أن يدفعوا المال لعلاج أبيهم، ولم يعودوا يرون أن المال ما زال ملكه. قال علي: يا جدة، هذه شعوذة!

– المستشفى ما قدرش يعالج ابني، والذي يقرأ القرآن ما قدرش، والساحر ما قدرش .. ما عاد في إلا مُحضِّر الأرواح. هو شيعرف أيش من روح شيطانية سكنت ابني. كل هذه الفلوس التي معكم هي فلوس ابني.

١٢

كانت غصون تبحث عن وسيلة لشفاء ابنها، وفي الوقت نفسه كانت مريانا في عالم مروان الآخر تخفف عنه حزنًا طرأ عليه. تخبره أنه الآن في الجنة حسب ما يرى والسعادة من حوله، ولا مكان للأحزان في الجنة، ففي هذا العالم لا شيء فيه يحزننا، نحن نعيش في سعادة دائمة، حتى مَن يموت لا نبكي عليه؛ فقد عاش سعيدًا، غير محروم من أي شيء، عاش جنته في حياته محبًّا للغير، الحب هو جزء من الجنة. أما في زمانه فعاش الإنسان عالم المادة، لم يعش عالم الروح، عاش بأقنعة عديدة مصابًا بانفصام الشخصية والأمراض، لم يجد الهدوء والاستقرار الداخلي، كانت تسوده ثقافة الكراهية. في هذا العصر استطاع الإنسان أن يوفِّق بين رغبة الجسد والروح، وجعل كُلًّا منهما يعشق الآخر، ووصل إلى «العالم الفاضل». كان بروسي يشاهد معهن. ابتسم وقال: لقد بدَّلوا عقل كريم، الجسد جسد كريم، لكن العقل ليس عقله!

قال مروان: لماذا لم يصدِّق بروسي مثلكن أنني مروان؟!

– هو مبرمج على معلومات سابقة، وأنت كنت كذلك مثله!

– لكنني الآن تغيَّرتُ.

– وهو كذلك يمكن أن يتغير ببرمجة أخرى تُجرى له.

ذهب الجميع إلى عالم المتعة وقعد مروان أمامهن، ورحن يتناوبن معه للقاء الروحي واحدة تلو الأخرى، فأخذته المتعة الروحية إلى الذوبان في الوجود.

١  امضغن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤