الفصل الخامس

المعرفة الذاتية إلهام من الله.

١

ذات مساء يوم العطلة العاشورية، خرج مروان مع حورياته في نزهة إلى المدينة، والرائحة العطرية تملأ الجو. مروا على مُجمَّع كبير فيه مكاتب لوزارات عدة منها: وزارة النانو بات، وزارة الهيوموروبوت، وزارة المحبة، وزارة اللقاء الروحي، وزارة الطاقة الكونية، وزارة مراقبة السلوك، وزارة الطفل، وزارة لقاح الأديان، وزارة التغذية، وزارة العلاقات الكونية، وزارة إعادة الحياة.

لعن مروان وشتم في سره. يُحدث نفسه: «إعادة الحياة أي بعث الموتى، هذا حرام!»، وفي الوقت نفسه كانت مريانا تحدث نفسها كيف تستحوذ على مروان لنفسها! مروا على مطعم يقدم وجبات سريعة. تعجب مروان وهو يشاهد هيوموروبوت يعد الوجبات الخفيفة بخفة ومهارة عالية، يصعب على البشر القيام بها. شاهد المشتري يأخذ حاجته من الطعام، ويدفع القيمة عبر الشبكة الإليكترونية لهاتفه، التي يرسمها في الهواء بقلمه الخاص، وقد ابتعد عن المطعم. لم يشاهد مروان أحدًا ينفث دخان سيجارة أو يمضغ قاتًا، وعرف أيضًا أنه لم تعد هناك خمور أو مخدرات. وقف أمام شعار ظهر في الجو «السعادة للجميع».

دخلوا لمشاهدة لعبة كرة القدم بين الهيوموروبوتات، انبهر مروان بأسلوب اللعب والحركات البهلوانية التي يقومون بها، ما لم يستطع البشر القيام بها. خلال فترة استراحة اللاعبين شاهد إعلانات كثيرة، تبث في سماء الملعب هيوموروبوتات حديثة، أو نانو متحول يتشكَّل عدة أشياء: بشر، غسالات، معدات منزلية، محرقة قمامة وأغراض منزلية كثيرة، زلاجات هوائية .. كان يشعر بالخوف من سقوطها على رءوس المشاهدين؛ لأنها تبدو أشكالًا حقيقية، تقف فوق رءوسهم بأبعادها الرباعية. حينها تذكَّر عندما دخل منزلًا في بداية عهده في هذا العالم، ولاحظ أنه بدون أثاث، عدا كومة كبيرة مغطاة بقماش شفاف كأنه الزجاج، وظن أن أهل المنزل فقراء، لم يكن يدري أن ذلك أثاث متحوِّل يتشكل كما يريده المرء عند استخدامه.

تذكر مروان حين كان يشاهد المباريات في عالمه القديم، وهو يأكل الفول السوداني، فتمنى الحصول على الفول. فجأة رأى أمامه كيسًا به مطلبه! لم يُصدِّق ذلك، فراح يأكل منه ليتأكد أنه لا يحلم. كانت مريانا تضحك وهي تراقبه. أعطى منها النسوة وقال: «لا أدري من أحضر الفول السوداني لي، في المرة السابقة سأتمنى جواهر.» ثم ضحك بهدوء وهو يُقشِّر الفول ويرميه على المشاهدين، لكن سرعان ما انتبهت النسوة لذلك. في آخر المباراة، أُعلن عن الفائز هو الفريق الخاسر.

٢

عادوا إلى المنزل، سألهن عن الناس الذين يطيرون في الجو، أخبرنه أنه سيطير يومًا مثلهم وسيكون ذلك مكافأة له؛ فالحصول على تلك البدلات يكون بموافقة السلطة. فرح مروان وقام يرقص رقصة «البرَع» وهو يرفع سكين المطبخ الإليكترونية عاليًا، وما أدهشه هو أن بروسي أخذ يقلِّده، ولم تستطع النساء فعل ذلك. ضحك مروان، وقال له: «والله، إنك صُنع ذماري، يا ابن أيري.» جلسوا يشربون شاي القات، وأخذ الحديث يدور حول الأعمار. تحدث مروان بأنه يمكن للبعض أن يمتد به العمر إلى ١٢٠ سنة، لكنها حياة متعبة، يتمنى فيها الإنسان الموت. تساءلت مريانا قائلة: ١٢٠ عامًا فقط؟! هذا هو منتصف العمر في هذا العصر.

– يا خسارة ستترملن باكرًا، فلن أعيش طويلًا معكن!

– لا، ستعيش مثلنا.

– كيف؟!

– في المشفى قاموا بتنقية دمك من أمراض وفيروسات عصرك، وتطعيمك بلقاح الأديان التي تعطي الإنسان صفاءً روحيًّا، بالإضافة إلى الغذاء الصحي الذي تتناوله، والرياضة والنوم الكافي، والسعادة والأمان الذي يحيط بك. كنتم تموتون باكرًا يا عزيزي؛ فقد كان الهواء والغذاء ملوثَيْن، وكذلك وجود الحيوان والطير في عالمكم، كانت أحد مصادر الأمراض التي تنقل إليكم، إضافة إلى الكراهية والغضب والخوف والحسد الذي كان يسود عالمكم. أيضًا يقوم العلماء بعزل الجينات المسببة للشيخوخة، وحين يتلف عضو من أجسادنا نستبدله بعضو جديد. نقوم بزراعته من الخلايا الجذعية للشخص نفسه، المودعة في حبله السُّري المحفوظ منذ الولادة حتى آخر يوم من حياته، ولو توفيت أنت يمكن أن نستنسخك، وتعيش مرة أخرى.

كان مروان ينصت جيدًا واستنكر قولها عن الاستنساخ، وهي تخبره بأن هناك أقمارًا بيئية تُرسل موجات صحية، يتم بها تطهير الجو. وهناك أقمار مناخية تبث حرارة معينة في مناطق محددة؛ لهذا توجد فاكهة الشتاء والصيف في بستان واحد؛ حتى إن هناك ثلوجًا للتزحلق في أماكن دافئة.

كان مروان يرى نفسه أحيانًا يعيش في نسخة مصغرة من الجنة، وأحيانًا يفكر أن عقله هو الذي يعيش هذا العالم فقط، وما يراه إلا حلمًا سيصحو منه. كيف يطلب شيئًا في نفسه ويتحقق سريعًا؟ فجأة سألته ناريس: بماذا تفكر يا شريكنا؟

– أفكر أنني في الجنة.

– هكذا حين يصل الإنسان إلى الإنسانية الكاملة، يجعل حياته جنة.

ثم راح يسألهن: لماذا ينسب المولود إلى اسم أمه؟! ومنذ فجر التاريخ كان ينسب إلى أبيه؟! جاوبته ناريس بما لم تُرضِ أناه التي تحاول أن تظهر كما كانت قبل اللقاح الديني، حيث أخبرته أنه بعد تهذيب الأنا لم يعد الرجل يسعى إلى الزهو من خلال السلطة أو السيادة على المرأة، وتولت المرأة زمام قيادة البشرية، وساد السلام والعدل بين البشر في العالم أجمع. واستطاعت المرأة ببراعةٍ السيطرةَ على سيف العلم بالحكمة، وسخرته لمصلحة ورفاهية البشر. لم تتخلص المرأة من سيطرة الرجل إلا بعد قرون عديدة، وفي هذا العصر استردت حقها في انتساب المولود لها.

٣

ذهبوا يتناولون شراب التفاح الممزوج بالعنب حتى ثملوا. قالت مريانا: أظنك يا مروان ترى أن المرأة لا تستطيع أن تسوس مجتمعها كالرجل. وأنت تعرف بأن هناك نساء في عصوركم حكمت بلدانها، فكانت عصورهن أزهى العصور. ثم فكروا بمشاهدة متحف التراث الروحي لإقليم أوروبا، قبل عبادة الرب الواحد. وقفت فرضانا وهي تشعر بنشوة الشراب، وقالت: دعنا نصير هذا اليوم آلهة. أنا «أبولو» إله الفنون.

وقفت سيرينا وهي ترفع كأسها عاليًا، وقالت: وأنا «أرتميس» إلهة الصيد، حامية صغار الحيوانات والبشر، والقمر.

وقفت ريحانة ورفعت يدها للأعلى، وهي تترنح، وقالت: وأنا الإله «آريس» إله الحرب والانتقام، أخو أثينا البطل.

هتفت فرح واحتضنت مروان، وقالت: أنا «أفروديت» إلهة الحب والجمال.

ووقفت ناريس ورفعت يديها، وقالت: أنا «بوسيدون» إله البحار، أخو هيدز وزيوس.

جرعت مريانا من كأسها، وقالت: وأنا «ديونيسيوس» إله الخمر. وراحت تملأ كئوسهم بالشراب، حتى وصلت إلى مروان، قالت له: وأنت «أيروس Eros» إله الحب والرغبة والجنس. ما رأيك بهذا الاختيار يا شريكنا؟ ثم نادت بروسي، وقالت له: وأنت يا بروسي ستكون الإله «هيدز». تساءل: ما معنى «هيدز»؟

– كان إله العالم السفلي عند الإغريق.

– لا أريد أن أكون إله الموت.

– إذن فلتكُن «هيرميس» إله اللصوص والتجارة والسفر، تنازل عن منصبه للإله «ديونيسيوس». بقيت معنا «هيرا» إلهة الزواج، وهي زوجة «زيوس». من سيقوم بدورها؟ آه، سنستدعي قاضي المدينة، فهو إله الزواج فعلًا.

ضحك مروان وهو يترنح، ثم سأل: «لماذا عملوا إلهًا واحدًا خاصًّا باللصوص والتجار. هل هناك قرابة بينهم؟ وكيف تتنازل الآلهة عن عرشها، وأنا جئت من عالم لا يتنازل فيه حتى المدير عن منصبه! ثم كيف كانت تلك الآلهة لا تتصارع فيما بينها على السيادة. كبعض الشيوخ في بلادنا؟» قالت مريانا: هناك آلهة أخرى أيضًا كانت عند الإغريق، كل زمن له آلهته. كانت هناك رياح عقائدية تنتقل من مكان إلى مكان، وتأخذ طابعًا آخر. هندو— أوروبية، هندو— عربية، حتى وصلوا إلى توحيد الآلهة إلى إله واحد.

تناول مروان آخر كأسٍ من الشراب، وقال: «لو وجد مثل هذا الشراب في حياتي السابقة، يُثمل ولا يذهب بالعقل؛ لكنت جعلته شرابي المُفضَّل قبل الصلاة؛ حتى أكون خاشعًا عند أدائها.» ثم ضحك، وقال: «ما أكثر عدد الآلهة التي كانت عند الإغريق!» اقتربت فرح من مروان وقبَّلته، ثم قالت: هناك أيضًا آلهة أخرى بدائية مثل الإلهة «كاوس». كانت الربة الأولية التي أتت منها بقية الأرباب الأولية. وكانت «جايا» العظيمة هي الأم الكبرى، والربَّة التي تجسد الأرض هي أم الكون. هكذا كان البشر يرون آلهتها حسب ثقافتهم.

كانت هناك عاصفة ماطرة، ذهب مروان إلى النافذة ليشاهد المطر. عاد يقول إن أحد المسعفين الطيارة اصطدم بأحد الأبراج، فالتقطه مسعف آخر وأسعفه. في هذا اليوم كذب مروان أول مرة.

٤

ذات يوم ذهبوا إلى السوق، واشترت له النسوة بدلة تحمل تقنية «النانو» الخفية، حين لبسها اختفى عن الأنظار. في البدء بلغت به الفرحة والدهشة مبلغًا كبيرًا! فدخل متجرًا ليتأكد من تخفيه، ثم عاد يُقبِّل حورياته دون أن يرينه، وهن يضحكن من تصرفه الطفولي. لكن تلك الفرحة الغامرة عنده تلاشت، فهي لن تفيد في شيء، كما لو أنها وجدت في زمانه! في هذه الليلة جلست النسوة يشاهدن فيلمًا من ذاكرة مروان. يظهر فيه مروان وهو يشاهده عبر القنوات الفضائية من حرب مرعبة في العراق، ثم شاهدن حرب أكتوبر مع إسرائيل.

بكت النسوة من تلك المجازر بحق الإنسانية. أما بروسي فقال: «قد تكون حربًا بين آليين، من غير المعقول أن تكون بين البشر.» ضحك مروان حين سمع حديث بروسي، وهو يصف البشر بأنهم آليون! أوقفوا عرض فيلم ذكرياته، وباشرت فرضانا تسأله عن إسرائيل وأين تقع؟ وجد مروان نفسه لم يعد يكره اليهود. قال: «هُم بنو عمومتنا، يؤمنون بدين النبي موسى، ورفضوا تصديق نبينا محمد. حاربناهم في فجر الإسلام، وطردناهم من الحجاز، واضطهدناهم نحن والمسيحيون والفراعنة، ومع مرور الزمن علَوْا علينا، واحتلوا فلسطين، وشردوا الكثير من أهلها.» تلك المناظر الهمجية التي شاهدتها النسوة قضت على الرغبة في اللقاء الروحي، فذهب الجميع إلى النوم، وناموا معًا ومروان في وسطهن. أمَّا بروسي فذهب إلى المطبخ، وأخذ ما يشبه البندقية وقلَّد جنديًّا، وهو يُطلق الرصاص بعنف!

قام مروان في العاشرة صباحًا، وقد ذهبت النسوة إلى العمل دون نومٍ كافٍ. جلس في الكنبة وهو يشعر أنه بحاجة إلى استمناء، وزوجاته يرفضن معه اللقاء بالطريقة التي كان يمارسها مع زوجته حميدة. أغمض عينية وفكر في حميدة، وحين فتحهما رآها بثوب ليلة عرسها، كما شاهدها في فيلم ذاكرته مع النسوة. ظن أنه يحلم، قام من مكانه فزعًا، وسأل بروسي: من هذه الفتاة؟

– زوجتك حميدة.

– مش معقول! ماذا تقول؟

سألها: مَن أنتِ؟!

– أنا زوجتك حميدة، انتقلت إلى عالمك.

– إذن أنت انتقلت إلى رحمة الله! هل قصفوا بيتنا؟! هل أولادي بخير؟! كيف عُدتِ إلى شبابك.

مشى في الغرفة يحدث نفسه بصوت عالٍ: «أظنني في الجنة. ما أفكر فيه يتحقق في لحظة، حميدة عادت شابة. يُحيون الموتى! مستحيل أن أكون على الأرض!»

سأله بروسي: ما معنى جنة؟

– جني يشلك من قُدَّامي .. أنا ما عا دريتوش، أنا في الجنة، والا في الدنيا، أو في حلم!

اقتربت منه المرأة التي رآها حميدة، وحضنته وقبَّلته وهو يقبِّلها، ثم قادته إلى الغرفة وخلعت ثيابها، وقالت: «هيت لك!» أحس مروان أن هناك شيئًا مختلفًا معها، كانت تتفاعل معه بطريقة شبقة لم يجدها في حميدة، مما أدهشه ذلك. أكمل غرضه، ولم يشعر كمتعة اللقاء الروحي معها، المهم أنه استمنى. قامت الفتاة من تحته تمشي عريانة إلى الحمام. كان يريد أن يسألها .. لكنها اختفت من المنزل. عادت النسوة من العمل، وهو في لهفة ليخبرهن ماذا جرى أثناء غيابهن. كانت مريانا تبتسم؛ فهي تعرف كل شيء، وهي مَن كانت تحقق له أمنياته، حين تقرأ أفكاره عن بُعد.

٥

ذات يوم خرج مروان صباحًا إلى السوق، شاهد كلبًا صغيرًا بصحبة طفل. اقترب الكلب منه يشمُّه، فقال الكلب لمروان: «هه، أنت لست من هذا العالم! هل أتيت من كوكب أورانوس؟ إنك تشبههم في شعر جسمك، إنهم مجرمون.» لم يُصدق مروان أذنيه، كيف يستطيع كلب أن يتحدث معه؟! ثم إنهم قالوا له: إنه لا يوجد حيوانات في هذا العصر! صمت مروان ولم يتحدث، فهتف الكلب: «هه. أنت ألا تفهم؟ ماذا تفعل هنا؟ سأبلغ عنك مكتب السلوك، ليأخذوك إلى جزيرة الشواذ.» عاد إلى المنزل، وهو يرى أنه فقد عقله، كيف يسمع حيوانًا يتحدث ويهدده أيضًا؟ أخبر النسوة عن دهشته، فقالت له سيرينا ضاحكة: «إنه «أنيموروبوت»، وهم كثيرون يُستخدمون للكشف على بعض الأشياء التي لا يستطيع الرجل البحث فيها، وكذلك لكشف المتسللين من كوكب أورانوس، الذي نشر فيروسًا في الماضي للقضاء على خصوبة الذكور؛ ليحلُّوا محلَّنا.»

ذات يوم في عطلة العاشور كان يقف في شرفة المنزل، شاهد سربًا من المركبات تطير ببطء، والمطر ينهمر فتزداد تلك المركبات سطوعًا. سأل حورياته عن ذلك السرب، فقيل له إنهم ذاهبون لدفن متوفى وتلك جنازته. طلب مروان المشاركة في الجنازة لكسب الثواب. لحقت النسوة بالسرب بمركبتهن، وهو يتجه إلى خارج المدينة، إلى أن وصلوا إلى بستان للفواكه مترامي الأطراف. هبطت المركبات في مدرج خاص، ثم تشكلت قبَّة زجاجية كبيرة تحميهم من المطر. تنسم مروان رائحة عطرية، أفضل من أي مكان في المدينة. نظر حوله فلم يشاهد قبرًا واحدًا أمامه! فجأة فُتحت فوهة سداسية بقُطر عشرة أمتار. نظر فيها فرآها هوة سحيقة، وراح يحوقل .. أُعطِي لتابوت المتوفى رقم «٩-٢٠٠٩» ثم أنزل المتوفى في مصعد خاص إلى عمق كبير في الحفرة. كان مروان ينظر بدهشة إلى تلك الفوهة متعجبًا! قيل له إن لكل جثة قبرها الخاص في جدران الحفرة، تتسع لعشرة آلاف متوفى، وبعد أن يُدفن الميت تغلق الحفرة. عرف مروان أن تحت البستان المترامي الأطراف مقبرة المدينة، ويمكن لمن أراد استنساخ أي إنسان عليه أن يحدد رقم الجثة .. عادوا إلى المنزل، فبادره بروسي بالسؤال: كيف وجدت مقبرة البشر يا كريم؟ كما وجدتها سابقًا؟

رد مروان ضجرًا من مناداته بكريم، وقال له: كلهم ينادونني بمروان، إلا أنت. عقلك بحاجة إلى برمجة مرة أخرى!

همست له مريانا: لا تظهر غضبك. لا تنسى أنك كنت مثله لا تتنازل عن مبادئك العقائدية.

كان هذا اليومُ الرابعَ والعشرين من شهر أغسطس، بدأ فيه جسد مروان يرفض لقاح الأديان وهو في عالمه الفردوسي. كان في الوقت نفسه كجثة هامدة في عالمه الجحيمي وجسده يزداد تقرحًا. ولم تعد أسرته قادرة على تحمل الرائحة التي تنبعث منه. كانت حميدة تدخل تحقنه بالغذاء عن طريق أنبوبة التغذية، وتخرج تجرى إلى الحمام. لم يبقَ بجانبه غير أمه التي تمكث ليلًا ونهارًا. لم يستغرب الذين يزورون مروان من غيبوبته، بل من جسده الذي مُلئ بالقروح!

أحضروا طبيبًا إليه، لم يحس نبض قلبه، ولا تنفسه. ومما جعله يُصرِّح في دفنه تلك الرائحةُ التي تنبعث من مروان. وافقت الأسرة على ذلك، إلا والدته، رفضت وطردت الطبيب من البيت. في اليوم الثاني تودد إليها معاوية، قال لها: «سنأخذ أبانا إلى المستشفى ليحظى بعناية جيدة، عسى يُشفى هناك.» وافقت والدته وقالت لمعاوية: «كما شتصدقوا الدكتور، ابني عائش.» حمل الأولاد والدهم خارج البيت، وكان هناك في انتظارهم مجموعة من المُشيعين. وهناك سيارتان ترافقانهم تمشي كُلٌّ منهما بعيدة عن الأخرى.

وصلوا إلى المقبرة ونزل المُلحِّد ليضعه في القبر. أحس بنبض قلبه بطيئًا، فصاح: «حرام عليكم يا ناس تقبروا رجلًا وهو على قيد الحياة!» ثم فتح الكفن الملطخ بالعطر، فرأى البسمة على شفتي مروان، أحدهم قال: «يا قبَّار، إنه ميِّت، أما تراه يبتسم لحور العين، أنا أجزم إنه الآن يرى نفسه في الجنة.»

خرج القبَّار من القبر وهو غاضب: «أظن أن أهله لم يأخذوه إلى المستشفى ليتأكدوا من موته، أو أنهم يريدون أن يتخلصوا منه. أستغفر الله العظيم خذوا هذا المريض إلى المستشفى لا يزال حيًّا.» حمل المشيعون مروان إلى إحدى المستشفيات فلم يستقبلوه، ثم ذهبوا إلى ثلاثة مستشفيات أخرى. أعادوه إلى منزله ففرحت أمه. قال عليٌّ لجدته: لقد رفض المستشفى استقبال أبينا. حينها كانت حميدة تقف في طابور طويل للنساء، أمام سيارة نقل كبيرة لتوزيع الغاز. ذهب علي إلى حيث توزيع الغاز، رأى أمه تقف في الطابور، ولم يعد أمامها سوى خمس أسطوانات فارغة حتى تستلم حصتها، ونفد الغاز قبل أن تصل.

عرف منير بأن إخوة زوجته كانوا سيقبرون أباهم، وهو في حالة موت سريري. غضبت فاطمة كثيرًا وذهبت إلى بيت والدها. أخبرتها أمها بأنهم ظنوا أنه مات، ثم أخبرتها أن تكتم الخبر على جدتها غصون، لكنَّ نادر أخبر الجدة غصون التي أخذت تبكي بجانب ابنها وتقول: «كانوا شيقبروك يا ولدي، وأنت لم تمت بعدُ. مستعجلين على تقاسم ثروتك يا ولدي. يفكرون بثروتك أكثر منك يا ولدي.» ثم راحت تلعن الثروة والحكام، المتصارعين على كرسي الثروة.

٦

بينما كانت أسرة مروان يتحدثون عن الحرب، كان هو في عالمه الفردوسي يتحدث مع بروسي في أمور شتى، لم يعد يراه رجلًا آليًّا بل صديقًا عزيزًا، وكذلك بروسي صار يُناديه بالصديق، فقد أثَّر فيه مروان كثيرًا. وهما في السوق للتنزه مرَّا على سوق بلقيس، ولم يخطر بباله أنها الملكة بلقيس التي حكمت اليمن يومًا. كان بروسي قد تعلَّم من مروان كلمات كثيرة، حرب، جهاد، شهيد، جنِّي .. سأل مروانَ: ما معنى شهيد؟!

– ماذا أقول لك يا صديقي؟ خُدع المسلمون الأبرياء كثيرًا وكذلك المسيحيون، وضحَّوا بأنفسهم من أجل الحُكام، وهم يظنون أنهم يجاهدون في سبيل الرب، والحصول على الحور العين، وكنت أنا أحدهم. نتقاتل فيما بيننا نحن ذوي الدين الواحد، والمقتول منا يرونه شهيدًا.

– ما معنى حور عين؟!

– نساء جميلات جدًّا.

– وإذا استُشهدت النساء، فماذا سيفعلن بحور العين؟!

– أفتى بعضهم بأنهن سيحصلن على ولْدَان مخلَّدين، هم أيضًا فتيان وَسِيمون جدًّا.

ذات يوم عطلة، خرج مروان مع حورياته إلى مكان لم يشاهده من قبل. جلسوا في حديقة تحت شجرة أزهارها تضيء، تتدلى كالأجراس تفوح عطرًا. قطف إحداها وأخفاها. كانت النساء تحدثه عن عالمهن، تحدثت سيرينا عن الطاقة الكونية، المناخ، تسخير طاقة البحار، وعن المُدن فوق مياه البحار .. مروا على السوق لشراء متطلبات المنزل، وأكثروا من شراء عشبة الشاي التي يحبها مروان. سألته فرضانا: «أظنك قطفت زهرة؟!» أنكر مروان في البداية ثم ادعى أنه نسي، كانت مريانا تتساهل عن السلوك غير المرغوب فيه، ولم تشعر أنها قد تأثرت بسلوك مروان الأناني. تناولوا وجبة العشاء وأسرع هو لمضغ القات، حتى انتفخ خده. ذهب لينام وقد سبقته حورياته إلى النوم، أخذ مكانه بينهن لكنه لم ينم، ثم قام يجلس في الصالة. قال له بروسي: عشبة الشاهي التي تأكلها كثيرًا لا تدعك تنام جيدًا، ستفقدك عقلك. لماذا تأكلها؟!

– هذه العشبة في عصرنا كانت لها مكانة رفيعة، نفضِّل زراعتها أكثر من طعامنا، ونستورد الطعام من الخارج. لولاها لقمنا بثورات عدة ضد الحكام، فتركونا نزرعها لنتخدر بها وننساهم.

ذات يوم وهم في نزهة إلى مطار مقاطعة صنعاء، حلقن بمركبتهن في الجو وهبطن في الدور السابع في صالة الانتظار ضمن مئات المركبات. شاهد المسافرين من مختلف أقاليم العالم، وصحنًا طائرًا بحجم ملعب كرة قدم، يهبط من دون أن يسمع صوتًا يصدُر عنه. خرج منه حشد كثير من المسافرين مقبلين من «سرجونشي» عاصمة العالم. كان مروان يظن أن المسافرين سيمرون على نقط التفتيش والجمارك، لكنهم خرجوا من المطار، وكأنهم في رحلة داخلية. حدَّثنه عن رئيسة العالم الحالية «سارة ياران» من إقليم الشرق الأوسط، مقاطعة «مقديشو». حدث نفسه: «ها هو العالم يعيش كما عاش في العصور الأولى من حياته حرًّا طليقًا كالعصافير، يذهب حيث يشاء، لكنهم يا خسارة كُفَّار! تلك النظرة بدأت تتنامى فيه.»

ذات يوم ذهب مع نسائه إلى منتزه فوق جبال «جدة»، اندهش وهو يشاهد كتلة كبيرة من الماء مُعلقة في الجو، والرجال والنسوة يسبحون فيها عرايا إلا ما يستر العانة. في البدء وضع كفه على عينيه، وأخذ يشاهد من بين أصابعه. لعن النسوة في سره، وعاد مندهشًا يسأل سيرينا عن تعري النسوة أمام الرجال، يكتم غضبه. فأخبرته بما ازداد به غضبًا.

غادر مروان المسبح وسار يشاهد منطقة بيضاء في الجبل المقابل، والناس تتزلج هناك على الثلوج في الهواء الطلق، رغم أن حرارة الجو مرتفعة. مشى في المتنزه ثم توقف يشاهد امرأة عجوزًا تمارس اللقاء الروحي مع شاب صغير وراح يلعنهما. عاد إلى جوار المسبح ورأى حورياته يسبحن مع الرجال. وضع كفه على رأسه، كاد يهتف: «ماذا تفعلن يا فاجرات؟ أعوذ بالله، كنت لا أرى حميدة عريانة إلا في غرفة نومي.» أغمض عينيه وجلس يفكر ماذا يفعل، ونساؤه يتمتعن بالسباحة. نادته فرح قائلة: «ستشعر أنك تطير وأنت خارج سيطرة الجاذبية الأرضية. تعالَ معنا، صديقاتنا هنا أيضًا.» ابتعد عن المسبح وهو يحدث نفسه: «هذا فسق، يُرِدنني أيضًا أن أمارس اللقاء الروحي مع صديقاتهن، لم يعد هناك حياء أو دين يردعهن .. الله أكبر!»

٧

ابتعد عن المسبح وهو يكبح غضبه، ولم يعد يرى أنه يعيش في عالم الجنة كما كان يراه. بقي بجنب أناس وهم ينظرون إلى نجوم السماء والمجرات عبر تلسكوب، فذهب ليشاركهم. رأى أناسًا يمشون على القمر. مسح عينيه عدة مرات، ثم سأل فتاة صغيرة، تقف بجواره: «هل هناك فعلًا أناس يمشون على سطح القمر؟!»، قالت: «نعم، هل عيناك مزروعتان لا ترى جيدًا؟! إذا رغبت أن تمشي على سطح القمر يمكنك ذلك.» ثم قلب التلسكوب في الفضاء، فشاهد مباني في كوكب المريخ، وكذا شاهد مركبات تطوف حول كوكب المشتري، وشاهد نجمًا يقذف حممه مئات الأميال، وكتلًا من الضوء العملاقة تتلاشى في الفضاء. سأل نفسه: «ذلك النجم الذي كنت أشاهده يلمع في حياتي السابقة.» ثم شاهد كوكبًا أخضر يشبه الأرض، وعندما سأل عنه قيل له: «ذاك الكوكب اسمه الأرض الثانية»، لكنه على مسافة بعيدة، والعلماء يعدُّون مركبة للوصول إلى هناك؛ لينتقل البشر للعيش هناك. جلس مروان بجانب الفتاة يحدثها لينسى مشهد عُري نسائه. سألته الفتاة وهي تحدِّق إلى صدره: لماذا يوجد في جسمك شعر. هل زرعته؟!

رد قائلًا: «نعم.»

أخرجت الفتاة الصغيرة قلمًا ورسمت في الجو تليفونًا، لتتصل حتى أنهت مكالمتها: سألها ممكن أن أتصل بقلمك؟

– نعم، يا أبي ممكن.

– ولماذا تنادينني يا أبي، ولا تقولين يا عم؟

استغربت الفتاة! وقالت: أظنك نسيت أننا نحن الأطفال ننادي الرجل بالأب.

٨

خرجت نساء مروان من المسبح، كان يود أن يصفعهن، أو يشتمهن على عملهن المشين. أثناء طريق العودة وهم على المركبة تسبح في الجو، كسر صمته، وأخبرهن أن هناك طفلة دعته: «يا أبي»، وأنه لم يفهم لماذا الأطفال يدعون أي رجل بالأب؟ أجابته سيرينا بما أغضبه أكثر من مشهد عُريهن في المسبح، بأن الأولاد ينتسبون للأم؛ لذلك يُنادى الرجل بأبٍ للجميع. عض مروان على أسنانه وصمت. وصلوا المنزل، أسرع هو إلى الحمام، وأخذ يلعن في نفسه، ويشتم العادات القبيحة التي وجدها في عالمه الجديد، لكنه قرر أن يلتزم بقوانين هذا العالم؛ حتى لا يُنبذ إلى أماكن خاصة بالشواذ. ساده الحزن والصمت. لم يعد اللقاء الروحي بينهم كسابق عهده. حاولت النسوة الترفيه عليه وتعطيره بعطر السعادة. أخبرت مريانا البروفيسور ماري بأمره، فأفادت أنه آتٍ من عالم آخر، وبدأ انبهاره يقل مما حوله، والحزن كان سائدًا في عالمهم لتفشي فساد الحكام، لكن لحظة الفرح في ذلك العالم كانت تطغى على حزن لأيامٍ عدة، ولولا الأمل لكانت حياتهم تعسة جدًّا.

في الجانب الآخر من عالم مروان الجحيمي الذي تسوده الكراهية، بعد أن أعيد من المقبرة إلى منزله في حي السُّنينة. كانت أنبوبة التغذية عبر الأنف قد أُبعدت، ففتح له الطبيب فتحة عبر السُّرة إلى المعدة. وأصبحت والدته غصون هي التي تقوم بحقن ولدها بالطعام، وتكثر من البخور في الغرفة. تبقى بجانبه ليلًا ونهارًا تقرأ القرآن؛ لطرد الأرواح الشريرة عن جسده.

تصاعد الاختلاف بين علي ومعاوية على إدارة السوبر ماركت، ولم تعد الأم قادرة على رأب الصدع بينهما. قسَما السوبر ماركت نصفين، كُلٌّ يدير نصفًا، ولم يعد الاثنان يفكران في الحرب الدائرة في البلاد بقدر الحرب الدائرة بينهما؛ حتى إنهما نقلا اختلافاتهما إلى البيت، وكل يهدد الآخر ويتوعد .. لم يقف مع علي من إخوته إلا أخته فاطمة وولداها نادر وسامي، ووقف بقية الإخوة مع معاوية.

كان ذلك اليوم هو يوم عيد الأضحى، ملطخًا بدماء الأبرياء تسيل إلى جانب دماء أضاحي العيد، فقد فجر انتحاريٌّ نفسه، وقتل خمسة وعشرين مُصليًا أثناء تأدية صلاة العيد في مسجد البُليلي وسط صنعاء وجرح المئات. وفي اليوم نفسه توفي سبعمائة وسبعة عشر حاجًّا وجُرح ثمانمائة وثلاثون، نتيجة للتدافع أثناء مناسك الحج في مكة عند رمي الجمرات. وفي مدينة تعز قُبض على قناص وسُحل في الشارع؛ كان قد قتل ثمانية وثمانين من المدنيين، واشتباكات متفرقة في البلاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤