١٩٦٤

(١) يناير

ليلة رأس السنة

(ليه تيجي هنا في جهنم/
وخدتلك بُرش ونمرة/
دي الحبسة دي ماهيش خالصة.)١
يونسكو،٢ في مجلة «الكاتب». مُهم:

– «يُقال: إنه يتعيَّن على المرء أن ينحاز إلى جانبٍ حتى يكون منتميًا لعصره، هذا الموقف يحُد من الأفق ويُشوِّه الحقيقة الجوهرية …»

– «لكي يكون المرء منتميًا لعصره، لا بد من تواجُده ولا بد من إخلاصٍ أعمى يجعل الرؤية واضحة …»

– «تاريخ الفن والفكر عبارة عن أزمات، انفصال وتيري ومعارضة ومحاولات للعودة إلى المراكز المهجورة. ولولا هذه «الأزمات» لما بقي لنا سوى الركود والتحُّجر والموت؛ فكل فكرٍ وفنٍّ عدواني، وهو ينفي حتى يؤكِّد، ولكن القديم يكمُن في الجديد … هذا القديم هو الدائم، هو الجوهر الدائم في الفكر الإنساني …»

– «لقد تمتَّعَت الموسيقى بنعمة الإفلات من الطغيان والتوجيه.»

– الحقيقة عنده ليست حقيقةً اجتماعية إنما هي حقيقةٌ ذاتية، تكمن «في أحلامنا وفي الخيال» وقوامها الحب، والموت، والدهشة — مشغوليات الفرد الأساسية. أما الحقيقة الاجتماعية فهي أشدُّ الحقائق سطحية.

(٢) فبراير

جزءٌ من مذكِّرات يوفتوشنكو لم يأتِ في الحلقات الأولى ويتناول شعره الأول الرسمي. عن مجلة «الكاتب» عدد فبراير.

– قال الشاب لموظَّف المكتبة: ليس هذا شعرًا … إنه مُجرَّد دقٍّ على الطبول … وهذا لن يحفظ لأحدٍ ثقته في الحياة.

– قال لي: إن هذه النغمات الكئيبة تُفزِعني … إنك تبدو كرجلٍ عجوز. لكني لم أُصبِح عجوزًا؛ فقد بدأ طور النمو. وهذا الشاعر المسئول لم تكن له خبرةٌ شخصية في أطوار النمو؛ ولذلك حينما رآها في الآخرين حَسِبَها شيخوخةً مبكرة … هل من الممكن أصلًا التأمُّل في شيء دون حزن! إن الذين يرونَ الخطر في الحزن هم أنفسهم خطرٌ عظيم على البشرية. والتفاؤل المصطنع لا يُساعِد الناس على التقدُّم؛ لأنه يجعلهم يتحرَّكون في أماكنهم دون خطوة إلى الأمام. إن شعورًا نظيفًا أمينًا بالحزن بعيدًا عن المؤثِّرات العاطفية بكل ما فيه من جوٍّ مشحون بالعجز يدفعنا حتمًا إلى الأمام، ويخلُق بيدَيه الهشَّة أعظم الثروات الروحية التي تعرفها البشرية.

الحديث عن السد العالي لا بد وأن يتمثَّل التجربة من قبلُ في الاتحاد السوفييتي. فإذا لم أَرَ فيه الروعة التي عبَّر عنها من قبلُ هناك فما ذلك إلا لأن هناك إدراكًا أعمق للمستقبل.٣
نجيب محفوظ في مجلة «الكاتب»:

– الرواية لم تنتهِ لا هنا أو هناك.

– … في هذه الرواية (أولاد حارتنا) ظن العلم أنه في غنًى عن الجبلاوي فقتلَه، وهذه النهاية تُوصله إلى الخواء، وإلى الإحساس بمرارة الحياة، وهي النتيجة التي توصَّل إليها كامي حين اعتقد أن الحياة لا معنى لها، وأن العبث هو المعنى الوحيد.

– حين كان الإنسان يؤمن بالمجتمع ظهرَت الرواية الواقعية والرواية الطبيعية، فلما بدأ الشك في المجتمع عاد السؤال الميتافيزيقي.

– عندما كانت الرواية تهتم بالحياة في حد ذاتها كان الأسلوب التقليدي أنسب شيء لها، وكانت الشخصية الإنسانية تظهر بكل تفاصيلها. أما حين تتحوَّل الحياة إلى مشكلة لا يصبح الإنسان شخصًا معينًا، بل مجرَّد إنسان … تختفي التفاصيل ويختفي السرد وتتصدَّر المناقشة كل العناصر الأخرى … عندما يكون الإنسان أمام مصيره وجهًا لوجه تفقد التفاصيل قيمتها.

– ينبغي أن تأتي الأحداث والأشخاص والجو العام للعمل الفني بصورةٍ طبيعية بعيدة عن افتعال الصنعة والتدبير المُسبَق. وهو ما يُبعِد هذا المنهج في التعبير عن الأدب الفكري (كافكا).

– الالتزام الأساسي الوحيد في الفن هو الصدق.

انحراف الكروموزومات (يكون عددها ٣ بدلًا من ٢)؛ أي حاملات الوراثة الخاصة بالصفات الجنسية في خلايا الجسم، مسئول عن الإصابة بالشيزوفرينيا وضعف القوى العقلية.
يجب أن نثير الأسى الناجم عن إدراك الحقيقة، ضد الكلمات المثيرة والصور المبهمة.
للمخ منطقٌ خاص في حركته وللكلام على الورق منطقه الخاص؛ بخصوص المنولوج المباشر.
«المنطقة المحرمة» رواية أناتولي كالينين. في أوائل الخمسينيات على شاطئ نهر الدون في داخل أحد معسكرات العمل، المسئول السياسي للمعسكر شيوعيٌّ مخلص اسمه جريكوف، وهو يتأثَّر بألوان الإهانات التي يتعرَّض لها المسجونون التابعون ﻟ «المنطقة المحرمة»؛ أي الذين حُوكموا بمقتضى قوانين أمن الدولة، فيناضل ضد ما يعتبره خطأ، لكنه لا يُحرز نجاحًا يُعتد به فكيف كان مسلك الآخرين؟ هناك من يئسوا من المقاومة، ووجَّه غيرهم همَّهم إلى الاستفادة من الوضع. ومن هؤلاء كاتبٌ اعتبر وجود موضوعاتٍ محرَّمة عليه مزيةً في صفه. وتقول مجلة «الأدب السوفييتي» عن هذه الرواية: «… في تلك الفترة كان هناك جدار لا يمكن لوعي جريكوف الحزبي أن يتخطَّاه؛ فقد كانت هناك «مناطق محرمة» في كافَّة مجالات الحياة.»
روايةٌ أخرى «خِضَم الحياة» لأناتولي نيكولكوف نشرتها مجلة «سبيريسكي أوجني» الروسية أخيرًا تتعرض للفترة بين ١٩٢٠ و١٩٣٧ وبطلها واسمه إيفان عضو في الحزب «… يربطه بزوجته إخلاصُهما المشترك للحزب. وإيمانهما الجازم بسلامة القضية وضرورتها … لكن إيفان سريع الاحتداد، يؤمن إيمانًا لا حد له بستالين ويُعجب ﺑ «إرادته الحديدية»، و«قبضته الحازمة» … ومن شعارات إيفان التي يُردِّدها لزوجته عندما لا يُعجبها شيء: «لا يمكنكِ أن تصنعي عجَّة دون أن تكسري البيضة.» وفي نهاية الرواية يصبح إيفان نفسه ضحيةً لما كان يُدافِع عنه، فيُقبَض عليه. ويُحاوِل أن يفهم ما حدث … ويؤمن بأنه «كان من الضروري أن يكون والده عدوًّا للشعب»!» قصة طفولة المؤلف الحقيقية.
«الجنس والأخلاق في الولايات المتحدة»، مجلة تايم:
– عبارة هيمنجواي تحوَّلَت إلى قانونٍ أخلاقي: «ما هو أخلاقي هو ما تشعر بعده بشعورٍ طيب، واللاأخلاقي هو ما تشعُر بعده بشعورٍ سيئ.»
– بينما كان الحديث عن الحرية الجنسية في العشرينيات مفزعًا أصبح أمرًا طبيعيًّا اليوم. الجنس والرجل الأعزب، دكتور ألبرت إليس.
– روايات جون أوبدايك، ويليام باروز (الغذاء العاري).

– الخمر مقبولة؛ فهي تكسر الثلج، والرقص بهذه الطريقة لطيف. لكن لماذا يؤجَّل ما هو الأكثر مودَّة بينما يمكن أن يمارسه اثنان؟ أحلى، ولنواجه الأمر، أكثر الأشياء اكتمالًا ومَودَّة بين كل ما يمكن أن يفعله اثنان!

– إنها جزء من، وأحد أعراض عصرٍ تُعتبَر فيه الأخلاق أمرًا خاصًّا ونسبيًّا، والمتعة أقرب إلى أن تكون حقًّا دستوريًا من أن تكون امتيازًا، وحيث يُنظَر بشكلٍ متزايد إلى إنكار الذات على أنه غباءٌ أكثر مما هو فضيلة.

– «لم يعُد تحديد النسل مساهمةً في تخطيط سليم للأسرة وإنما أصبح بوابة لعمق وبهجة جديدَين في العلاقات الشخصية بين الزوج والزوجة»، الأساقفة الأنجليكيون في مؤتمر لامبث الثامن والخمسين.

– بعد أن سكتَت الشيوعية منذ زمنٍ بعيد عن كل حديثٍ جريء عن الحُب الحُر، أصبحَت اليوم أكبر قوةٍ تطهُّرية في العالم.

– ٣ قواعدُ عن السماح مع المودَّة، للعالم الاجتماعي إيرا ريز: «الأخلاق شأنٌ خاص. الحب يُبرِّر الجنس قبل الزواج، وربما أيضًا بعده. ليس هناك في الحقيقة خطأ طالما أن أحدًا آخر لا يُضار.»

– القواعد السالفة تمثِّل في جوهرها قانونًا أنانيًّا. ويعارضها كانط بقوله: «أحكُم على كل فعلٍ كأنه سيُصبح مبدأ عامًّا ينطبق على الجميع.»
– محاولة لستر كيركندال في كتابه «الجماع قبل الزواج والعلاقات الشخصية بين الناس»: القرار الأخلاقي سيكون هو الذي يؤدي إلى بناء الثقة في النفس وفي الآخرين، والكمال في العلاقات.

– فكرةٌ أخرى في تقويم الجنس: إنه ليس مسألةً أخلاقية. إنما المسألة هي: «هل هو ممكن اجتماعيًّا، هل هو صحيٌّ ومجزٍ من الناحية الشخصية، هل سيؤدي إلى إثراء الحياة الإنسانية.»

– تعتقد فتيات رادكليف أن التقبيل والعناق شيءٌ قذر؛ لأنه يعذِّب بإثارة الرغبة دون إشباعها، فالجماع أفضل.

– كلمة «عذراء» تتخذ الآن معنًى جديدًا بعض الشيء.

– حبة منع الحمل الفَميَّة: «هل تتعاطَين الحبوب؟»

– قال القديس بول إنه من الأفضل أن يتزوَّج المرء بدلًا من أن يُحرق. ويعتقد الأمريكيون أن الطلاق أفضل من الاحتراق.

– أصدرَت الكنيسة كتابًا عن الزواج ينصح الزوجَين باستكشاف وابتكار أوضاع وأفعالٍ متنوِّعة في الجماع.

– الحرية الجنسية الجديدة في الولايات المتحدة لا تجعل الناس أحرارًا بالضرورة … إن الخطيئة العظمى الجديدة اليوم لم تعُد الاستسلام للرغبة وإنما عدم الاستسلام لها بشكلٍ كامل وناجح. وبينما ازداد الاستمتاع بالجنس بالنسبة للكثيرين، فإن الهوس التنافسي لإثبات الذات كآلةٍ جنسية مقبولة يخلُق لدى كثيرين آخرين إحساسًا بالذنب بشكلٍ عُصابي فيُصابون بالعنَّة أو البرود الجنسي.

– الأورجازم الجيد يفتح إمكانياته والسيئ يسجنه.

– «أغلب أدبنا وفلسفتنا الاجتماعية بعد ١٨٥٠ كان صوتًا للحرية ضد السلطة، للطفل ضد الأبوَين، للتلميذ ضد المدرس … إنها وظيفة الشباب أن يدافع عن الحرية والابتكار، وكبار السن أن يدافعوا عن النظام والتقليد، ومتوسطو العمر أن يجدوا سبيلًا وسطًا … لنقُل بتواضُع إننا لا نقبل الفساد في السياسة، والخداع في النشاط المالي، وعدم الإخلاص في الزواج، والبورنو في الأدب، والفجاجة في اللغة، والفوضى في الموسيقى، واللامعنى في الفن»، ول ديورانت.٤
– «تنمو أسرار الحب في الروح، لكن الجسد هو كتابه»، جون دون.٥
مجموعة روايات كونراد أيكن — «السيرة الذاتية التخييلية»، أوشانت.
«الشعب ليس بالذكاء الذي يُصوِّره المنافقون والانتهازيون والسطحيون في دعاياتهم نفاقًا ورياء، لكنه ليس أيضًا بالغباء الذي يعتقدونه داخل نفوسهم»، فلاديسلاف جومولكا، زعيم الحزب الشيوعي البولندي.
مقال «سارتر» عن الفيلم السوفييتي «طفولة إنسان» في «ليتر فرانسيز»، الجريدة الأدبية للحزب الشيوعي الفرنسي:
– اتهم البعض المخرج تاركوفسكي٦ بأن رمزيته سيرياليةٌ أو تعبيرية وأنه استوعب أساليبَ تخطَّاها الغرب ومنها الأحلام.
– «إني أرى الخسارة حين يُحاول أن يلجأ إلى الأساليب البرجوازية كعلاجٍ لا ينبُع من الفيلم نفسه ومن المادة التي يعالجها.» فربط المخرج بين الحقيقة والخيال، اليقظة والحلم، الواقع والهلوسة هو من صميم عملية الحرب نفسها. في قصة شولوخوف وجد الطفل أباه في شخص أحد الضباط … لكن إيفان لم يعُد في حاجة إلى والدَين؛ فأعمق من الحرمان منهما بشاعة المذبحة التي رآها … وهي تُلجئه إلى العزلة، وينتهي الأمر بالضباط إلى أن ينظروا إلى الطفل بمزيجٍ من الحنان والدهشة والارتياب الأليم، يرون في هذا المسخ الكامل جميلًا يكاد يكون كريهًا، والذي لا تتأكَّد شخصيَّته إلا في الاندفاعات القاتلة (الخنجر مثلًا) … والذي يحتاج الآن إلى هذا الكون الشنيع ليحيا، والذي تحرَّر من الخوف في قلب المعركة وقد يجرفه القلق في المؤخرة.
«ليس هناك إذن تعبيرية، ولا رمزية، إنما أسلوبٌ في السرد يقتضيه الموضوع ذاته.» ويُطلِق عليه الشاعر الشاب فوزنسينسكي »السريالية الاشتراكية.»

… الحرب تقتُل من يمارسها ولو عاش بعدها؛ أي إن التاريخ في الحركة الواحدة نفسها يتطلَّب أبطاله ويخلُقُهم ويهدمُهم ويجعلُهم غير قادرين على الحياة بلا ألمٍ في المجتمع الذي ساهموا في صنعه.

– «إن خيرة الأعمال الواقعية الاشتراكية قد قدَّمَت لنا دائمًا وعلى الرغم من كل شيء أبطالًا معقَّدين منوَّعين ومجَّدَت فضائلَهم وعُنيَت بإبراز بعض نواحي ضعفهم، ولكن المشكلة ليست في أن (…) رذائل الأبطال وفضائلهم ولكن أن نضع البطولة نفسها موضع المناقشة، لا لنرفضها بل لنفهمها.»

(٣) مارس

«لا تستسلم للأشياء العادية»، بريخت.
مقال رشدي صالح في «أخبار اليوم» مفتاح لشخصية بريخت؛ المراوغ. جاليليو؛ «ولكنها تدور»! «الاستثناء والقاعدة» قمة مرحلته الأولى التعليمية. كتاب «أورجانون المسرح الصغير» ٤٨. هل انتقد هذه المرحلة؟ «دائرة الطباشير» مفتاح أيضًا لشخصيته. جروشا الخادمة تتحدَّث عن الحرب:
إذا كنت ذاهبًا لملاقاة العدو،
فلا تندفع في الحرب،
ولا تجرِ وراء الحرب؛
ففي المقدمة نارٌ حمراء،
وفي المؤخرة دخانٌ أحمر،
تمسك بوسط الحرب،
وتمسك بحامل العلم،
إن الأولين يموتون دائمًا،
والأخيرين أيضًا يصيبهم القتال.
أما الذين في الوسط فيعودون إلى بيوتهم.
يا ميخائيل! يجب أن نكون ماكرين!

لو تصاغرنا وحدنا مثل الخنافس، فإن زوجة الأخ ستنسى أننا في بيتها.

نظرةٌ إنسانية ماكرة – شخصية أزدك؛ عدالة من نوع خاص. موقفه من الدوق – شاعرية جميلة – مقال سعد أردش وصبحي شفيق في مجلة «المسرح» عدد ٢.
(٢) قالت لي: لا أُحبك.
كانت تنظُر في دلال.
جمعت ما في عينَيها من معنًى،
وقلتُ لقلبي الذي خفَق في خوف:
لا زال هناك أمل.
تمدَّدَت أمامي … ساقاها أمامي،
انتظرتُ ولكنها لم تتحرك.
لم ألمسها، انتظرتُ،
بحثتُ عن عينَيها في الضوء الضعيف،
عندما وجدتُهما فقدتُهما.
تكوَّرتُ على نفسي. دفنتُ وجهي في الحائط.
ومن أسفل صعدَت موسيقى رائعة،
وارتجف قلبي في بهجة …
٥ مارس ٦٤٧
٧ مارس: أحاول من يومَين أن أبدأ الكتابة من جديد. يُخيَّل إليَّ أني قد تكشَّفتُ لأول مرة جوهرَ موضوعي وكيف سأكتبُه. ولكن عندما أبدأ الكتابة أفزع. أول أمسِ بكيتُ لأني لم أستطع أن أستمر في أكثر من صفحتَين، ثم أحسستُ أني فقدتُ شيئًا. الليلة لم أكن أنوي لكني أحسستُ برغبةٍ شديدة وبوضوحٍ كامل ولكن نفس النتيجة. أنوي التفرُّغ تمامًا للرواية بعد الانتهاء من موضوع المسرح.٨
٩ مارس: سأحاول أن أُحقِّق النثر ذا الأبعاد المختلفة. إن طريقي يبدأ من هيمنجواي وكامي. «عن الأغاني والشكولاتة» ثم «منزل النوافذ الزرقاء» – الرجل في الفراش بالليل يزفُر ويتقلَّب ويبحث بساعدَيه وصورته على الحائط. سعيدٌ مبتسم والكائنات تحيا في كل مكان. العنكبوت – سؤال: الطفولة تكمن في البراءة المفتقَدة في الإنسان أم عكس هذا لأن النضج يتيح إدراك الحقيقة الواقعة … النضج النابع من الإدراك والأيام والليالي.٩
«… قرأتها وشعرت بضيق كبير لأني عرفت تاريخ حياة بابا مع ماما وأنا وأنت، وعرفت قد إيه بابا تعب حتى استطاع أن يأخذني من والدتي، وقد إيه إحنا كنا سبب عدم راحة بابا، وكان يمكن أن يعيش في لوكاندة إذا كنا احنا مش موجودين في هذه الدنيا. ولكن حمدت الله أن بابا أخذ يسعى حتى أخذني من عائلة أمي؛ لأني لو كنت معها كنت أكون أتعس إنسانة، وعرفت أيضًا ماما عيشة كانت بتعمل فينا إيه، وعرفت حاجات كثيرة لم أعرفها من قبل كده؛ فأنت الذي تعرف كل شيء. وقد أعجبتني القصة لأنك أخذتها من واقع الحياة؛ يعني مش خيالية زيادة عن اللزوم، ونفس أسلوبك ونفس تعبيرك؛ فهو غير المعتاد؛ فيه الغرابة شوية، وده كان أحسن حاجة في القصة طريقة تعبيرك. لكن ازاي فاكر كل حاجة بالدقة دي.
ولكن أرجو أن تنسى الأَسوة، وخصوصًا من ماما عيشة؛ فقد تغيَّرَت كثيرًا، يجوز لكي تكفر عن ذنوبها اللي فاتت؛ فهي التي أصرت على أن تزورك في القناطر مرة واتنين، وهي دائمة السؤال عنك، فأرجو أن تنسى كل شيء. أما بقية …» من خطاب لأختي.١٠
م. ع. ف: «حاتجنن … حاتجنن …» كيف تحول إلى خرقة. قصة مشمش. كيف استُغلَّت رغبته في أن يكون إنسانًا طيبًا شريفًا مخلصًا غير ذاتي.١١
كتاب عن العمليات الدقيقة تحت الميكروسكوب، للدكتور حامد البدري، رئيس قسم هندسة التعدين والبترول بهندسة القاهرة.
١١ مارس: من مأساة «جميلة» لعبد الرحمن الشرقاوي: «جاسر: إننا جيل يسير بلا توقُّف، كي يقهر الفوضى والاستبداد والحرب الكريهة والتعسُّف.»

… ونحن جيل يقف ليفكِّر …

عالمٌ غريب:١٢ «شهود يهوه». عندما يصرخون: «يا رب ارحمني. لقد أخطأت.» النقد الذاتي عندما يأخذ هذا الشكل. تعذيب للنفس وإذلال، وما يُحدِثه هذا من أثَر؛ سرور لدى الآخرين ومتعة وانتماءٌ كامل عند صاحبه يقضي على كل ازدهار للصفات الفردية التي تحدَّث عنها يوفتوشنكو. كم كانت آني راند مصيبة في رواية «النبع» عندما تحدَّثَت عن فرِّق تسُد واحشد واحكُم.
«… أنا اشتركت في كذا وكذا … فلان واحد من العتاولة اللي بنوا البيت ده. عندما وصلتني التشويهات الأخيرة لاصقة بعزيز ولعلاقتي به وقفتُ ضدها، وحزبنا ساعدني في نهاية الأمر على تغيير فكرتي وتصوراتي السياسية. انتابني إحساس نادرًا ما أشعر به، إحساس بالخطر شعرت به وأنا أقف أمام المحكمة، شعرت به مرة أخرى عندما مات فريد حداد … إحساس بالجدية في أعنف درجاتها، ومن قلب هذا الشعور بالخطر اندفعت أناقش وأقرأ التقارير باهتمام شديد، واستمعت على الأقل لنصف الموجودين هنا في مناقشات فردية معهم … أنا أتكلم هكذا لأني أثق بكم جميعًا لدرجة تجعلني أُعرِّي نفسي أمامكم تمامًا؛ فالإنسان يحتاج إلى الشجاعة عندما يناقش عدوًّا، ويحتاج لكي يتصارح مع زملائه أن يكون على ثقة بهم؛ لهذا السبب وحده أتكلم. وأحب أن أقول ما أروعَ الصدقَ وما أصعبه! ما أروعَ أن يجد الإنسان أرضًا كان قد فقدها وعاد إليها! ما أروع (…) هذا كله! ولهذا أناشد كل من مر بظروف مماثلة أن يتحدث إلينا بقلب مفتوح لأني حريص ألا تفوتهم روعة هذا المذاق العذب، وشكرًا.»

(…) – «عشت فترة التشكيك، ما يزرعه فينا المكان من عادات وإثبات الذات … عدم الثقة. هنا يجب أن نُعد أنفسنا ونرفع من مستوانا الفكري والثقافي.»

– مذكرات أحمد عرابي في المنفى، الانتماء بأقصى صوره.
١٢ مارس: عندما كنتُ أكتب «العنكبوت» كنتُ خاضعًا للرغبة في تسجيل ما حدث فعلًا. وكانت هناك ضرورة لتقييم ما حدث، وهذا ما فعلتُه طوال العام الذي توقَّفتُ فيه عن الكتابة.
مسرحية بريخت عن الثوريين الأربعة. الثوري الفعال الحقيقي يجب أن يتحرَّر من عواطفه وذاتيته … الدفاع عن الغاية تُبرِّر الوسيلة والألم العظيم (ستالين) … ضد ذلك نكتب. يجب أن يكون الثوري إنسانًا حقيقيًّا لأن الخطأ والصواب ليس حقيقةً آنية.
«ليس عصب الشخصية هو سمتها الأساسية وإنما هو وجه التناقضات فيها؛ فكل شخصية هي مزيج من الخير والشر معًا»، ستانسلافسكي.
موقفان للقادة الصينيين. في ٢٤ سبتمبر ٥٨ قال ليو شاو شي: «إن المصنع هو مدرسة متوسطة للراشدين … يجب أن يعمل الطالب في المصنع ٦ ساعات ودراسة سياسية ٣ ساعات ومذاكرة ٤ ساعات.» كانت النتيجة أن أمضى الطلبة معظم وقتهم في الكميونات، وانخفض مستوى التعليم في بلدٍ كان في أشد الحاجة إلى الكادر، فعاد شن يي يقول في سبتمبر ٦١: «يجب في المرحلة الحالية أن نركِّز على الدراسات المهنية. وليس سليمًا أن يُنفق في المدارس وقتٌ طويل في الأعمال السياسية أو البدنية على حساب الدراسة. إذا لم نبذل الاهتمام الكافي للدراسة فإن العلوم والثقافة في بلدنا ستتخلف باستمرار. إن التعلُّم مهنة تتطلب اهتمامًا مركزًا يبلغ أحيانًا درجة تنسيك طعامك. كان كونفوشيوس أثناء دراسته يركِّز اهتمامه لدرجة ينسى فيها طعامه. وظل تونج شونج سو ثلاث سنين في منزله لا يبارحه. ووقف بودبرهارا البوذي الذي حضر إلينا عام ١٥٢٦ أمام حائط مفكرًا مدة ٩ سنوات! لنتعلم مثلهم كيف ندرس»، مجلة «نوفيل كريتيك» الفرنسية ٦٤.
حسن فؤاد في ذكرياته عن مسرحية «الخبر» لصلاح حافظ، يونيو ١٩٦١: «إن فهيم العابد شخصية من أمتع الشخصيات المسرحية التي صادفتها في حياتي على المسرح أو في الكتب … إنها بمثابة الصرخة التي يطلقها «صلاح» في وجه العادي والمبتذَل والهدوء المستسلم!»١٣
الوثبة إلى المستقبل التي طبَّقها رءوف مهمة جدًّا. هي عنصر من عناصر رؤيتنا الجديدة للواقع. مثال من بورسعيد: أ. ر. يقاتل بجرأة وفي نفس الوقت نقطع لنراه بعد عشر سنواتٍ في ظروفٍ أخرى متغيرة. مثال آخر: متصل بتقييم الإنسان في السجن: يصل التعذيب إلى درجة معينة ثم يقف، وبعد خمس سنوات في قعدةٍ عادية يتكلم بثباتٍ وهدوء وثقة من مركز سيطرة على الآخرين، في حين أنه لو كان التعذيب قد استمر درجةً أخرى لكان مصيره قد تغير نهائيًّا – في مأساة جميلة بوحريد دخولها السجن بعد التحرير – إدراك ذلك منذ البداية يعطي قوة.١٤
لا بد من دراسة العلاقة بين الناس أنفسهم وأدوارهم على المسرح. مثلًا صلاح في دور «وحيد» (الشخصية القلقة المتعجلة الطموحة)، «فكري في دور الطبيب النفساني، حمزة في دور «همام» … رءوف في دور إحسان وعيشة».١٥
عودة إلى الوثبة إلى المستقبل: مثال مجموعة الشبان والفتيات حول عربة باندونج ثم ما حدث لهم بعد ذلك – «منزل النوافذ الزرقاء»، «الأيام والليالي» و«العودة» هي التطوُّر المستقبل الذي يُلقي أضواءً على واقع الزيارة ويعطي معنًى لكل لحظة من لحظاتها؛ أي يعطي معنًى للواقع الحاضر.١٦
من «نوفيل كريتيك» عدد ديسمبر ١٩٦٢، كلود بريفوست. معركة موسكو بعد ١٦ سنة، عن روايتَي ألكسندر بك: «طريق «فولكولامسك»» الصادرة في عام ١٩٤٤ و«بضعة أيام» الصادرة في ١٩٦٠.١٧
إنه نفس الموضوع. وقد توقَّف بك عن الكتابة عن الحرب بين التاريخَين. انتهت الرواية الأولى في ٢٦ أكتوبر وتبدأ الثانية من هذا التاريخ لمدة ثلاثة أيام.
حتى عام ١٩٥٦ كان موضوع التراجع مهملًا لم يعالجه سوى «نيكراسوف» في رواية عن ستالينجراد.
إن رواية بك الأولى دعائية، أغنيات للمحاربين. أما روايته الثانية فدراسة وإجابة على أسئلة وتحديد مفهومٍ للمعركة أثناء حدوثها. إنها تتناول الجانب الفكري للحرب والأحكام القاسية لمقتضيات الاستراتيجية والتكتيك ومشاكل التراجُع. وسؤال كيف نواجه الموت والرعب الذي واجهه بك نفسه في تلك الرواية كان قد تلقى الإجابة أثناء الحرب وتحوَّل إلى: كيف تغلَّب الرجال على الموت والرعب.

النظرة الإنسانية

أكثر ما يلفت النظر في الحرب السوفييتية هو إنسانية القيادة. لاحظ نكراسوف هذا؛ فبطَلُه أُدين لأنه تسبَّب في موت عددٍ ضخم من الرجال في هجومٍ جماعي. أما عند بك في روايته الأولى فإن بانفيلوف يقول: إن الجندي لا يحارب من أجل أن يموت بل من أجل أن يعيش … ويرفض التشدُّق اللفظي بالكلام عن أسمى أنواع التضحية. ويسخر بانفيلوف من الرجل الذي يريد أن يموت مع فصيلته من أجل الشرف: «يجب عليك أن تشن ٣٠ معركة بفصيلتك وتحافظ عليها.» المحافظة على الجندي والاعتناء بطعامه.

التفاؤل المطلق

قال ستالين عن مقابلته الأولى للينين: إنه رجلٌ عادي جدًّا ذو قامة أقل من المتوسط لا يختلف على الإطلاق عن أي إنسانٍ فانٍ.»
إن أمثال بانفيلوف هم الذين استطاعوا أن يُحدِثوا تحوُّل ٥٦.١٨ عرفوا كيف يقولون الحقيقة؛ فهو كان يرفض أن يكذب على الجنود وكان يُحذِّرهم من التفاؤل المطلق في القيادة: «إن هذا التفاؤل يكون أكذوبة.» لا أحد سعيد في الحرب. لا أحد على ما يُرام، فعلى كل جندي أن يصارع البرد والتعب والحرمان، وهو لا يستطيع أن يصارعهم إذا كان جاهلًا بهم. فكان بانفيلوف يوصي رجاله بألا يعاملوا الجنود بالشفقة الكذوبة التي تُخفي عدم الثقة فيهم. إن القوة المعنوية تأتي من معرفة الحقيقة.

مع تولستوي

درس تولستوي هو: الحرب تُكسب بكل جندي؛ فالأمير أندريه١٩ قال: إنني لم أعتمد أبدًا ولن أعتمد أبدًا على الموقع أو السلاح أو العدد … سأعتمد على الروح التي في داخلي وفي داخله وداخل كل جندي.
وكان كوتوزوف٢٠ يؤمن بشيئَين اثنَين: الجماهير والصبر. «كل شيء سيسير على ما يُرام للذي يعرف كيف ينتظر.» و«الشعب عميق كالبحر فيجب على القائد أن يثبت استراتيجيته على حركة هذا المحيط، وأن يعرف كيف ينتظر لحظة المد.»
الوقت عند كوتوزوف قدَري: انتظاره بشكلٍ غير عقلي. يجب على العقل أن ينضوي تحت لوائه. الله معنا ممثلًا في الزمن.
أما بك فيتخطى الفكرة التولستوية عن الزمن. إنه يحافظ على نواتها الصلبة الشعبية «الثقة التي لا تنضب بالناس.» لكنه يرفض السلبية وترك النفس للقدَر.
فبانفيلوف لا يؤمن بالفضائل اللامحدودة للزمان والمكان. حقًّا يجب وضعهم في الاعتبار. لكنه يرى أن الاستيلاء على كل شبر من الأرض شيءٌ ثمين (القتال على طريق فولكو دفاعًا عن موسكو) ومن الضروري النضال ضد الزمن؛ انتصار العقل المناضل.
كان ماميش أوغلي يتدرب على تشغيل عقله والتغلُّب على الخوف، وبهذا صوَّر الإنسان السوفييتي على أنه ليس مصنوعًا من نسيجٍ خاص. ليس بطلًا تلقائيًّا. إنه يعلم أن جنوده ليسوا رجالًا خارقين … وإنما أناسٌ عاديون يجب تعليمهم ضد الرعب وضد الغرائز الأكثر بدائية بتغليب العقل؛ الانضباط.

الانضباط

قدَّم تولستوي الجنود «كجزء من كلٍّ لم يفكِّروا لحظةً في هذا الكل.» إن الانضباط في الرأسمالية هو إبقاء الجماهير جاهلة وخاضعة، وضد ذلك ظهر أدب ريمارك٢١ وميرل ميلر وباربوس.
أما عند ماميش أوغلي فهو الذي كان يجعله يركل الجنود من أجل أن ينطقوا به. ويطالبهم بأن يفسروا الانضباط، والتفسير البروليتاري الذي أعطاه لينين في «الشيوعية اليسارية»:٢٢ «الانضباط الثوري يعتمد على وعي الطليعة الثورية وعلى ضبط النفس وعلى روح التنظيم والبطولة. ولكن يعتمد أيضًا على القدرة على الذوبان في جماهير العاملين بما في ذلك جماهير أولئك الذين ليسوا من البروليتاريا.» يقول ماميش أوغلي للجندي: الوطن هو زوجتك. هو أنت. وعند وليم ستاروين في «المسيرة الكبرى»: «التدريب هو تدريبٌ جسماني مع تحطيم صفاتهم الذاتية ليصبحوا كالشمع يسهل إذابته.»٢٣
أما بك فالتدريب عنده تقويةٌ جسمانية وتدريبٌ علمي على التفكير المستند إلى التجربة؛ فالتطبيق يؤكِّد نظرية الانضباط الضروري.
ولا يخفي أن الانضباط عنصرٌ سلبي بالضرورة؛ فهو يتضمن سلبية الجندي وعدم مبادرته. وهذه هي الصعوبة التي واجهها بك وكل الكتاب السوفييت الذين أرادوا الكلام بصدق في ظل نظام ستالين. ويبدو هذا التناقض في خطاب أوغلي الأول لرجاله: «إنني سأُملي عليكم إرادتي. لا مساواة في الجيش. لا ديمقراطية.» «هذا هو الانضباط، الطاعة السلبية التي تصنع الجيوش.»
إنه يحافظ على علاقاتٍ وثيقة برجاله ويتحدَّث معهم من القلب إلى القلب. إنه ليس إنسانًا آليًّا وهو يفكر دائمًا في الراحة المادية لقواته. ولكن في الديالكتيك المرن بين سلطة الرئيس والمبادرة الخلَّاقة للرجال اقتضى الأمر تحطيم التوازن لحساب السلطة. «إن إظهار الشفقة على الرجال ضعف.» ومن هذه النقطة يبدأ أوغلي في التعسُّف. إن من الضروري المحافظة على كل شبرٍ من الأرض. لكن برودني تقهقر ليَكسِر الحصار فخسر ستة رجال وقتل ١٠٠ ألماني، ثم يحاسبه أوغلي كما لو كان قد تخلى عن موسكو. ويُوجِّه السباب للذين حُوصروا والذين خرجوا من الحصار وهم يحاربون فيقول له واحد: «أنت على خطأ؛ فهم مواطنون سوفييت.» فيصرخ فيه أوغلي: «لا … إنني أرفض أن أستمع إلى التوسُّلات … إن موسكو لا تؤمن بالدموع».٢٤

عن التراجع

إن المسألة معقَّدة. ولبك الفضل في أنه لم يبسطها. إن أوغلي قاسٍ وعنيد ضد الذين حُوصروا لكنه يشعر بالذنب في نفس الوقت. إنه يتحمل أخطاء رجاله. وكان يقدِّر أن الخروج على المبادئ التي تبدو شكلية يحمِّل القوات خسائر. يقول: «التراجع عن قريةٍ معرضة للحصار يبدو منطقيًّا. لكن الأمر أعقد من ذلك؛ فربما كنتُ بتراجعي أصنع إسفينًا.» وفي بعض الأحيان يتردَّد في لوم المتراجعين وفي نهاية الرواية يبدو من الضروري التضحية بمجموعتَين من الرجال من أجل كسر الحصار. لقد وجد أوغلي بعد صراعٍ شديد داخله أنه مُضطَر لذلك، ويشعر براحةٍ بعد أن تُكلَّل العملية بالنجاح، غير أنه بصفةٍ عامة يرفض الانسحاب لتلافي الحصار حتى لو أدى هذا الانسحاب إلى الانضمام إلى الصفوف المحاربة وهي فكرةٌ ملحمية.
كانت معالجة موضوع التراجُع والانسحاب محظورًا على الكُتاب، وكذلك مشكلةُ أسرى الحرب. «الجندي السوفييتي لا يتراجع ولا يؤسر.» وبعد ٥٣ ظهرت رواية شولوخوف «مصير إنسان»، وسميرنوف عن المحاصَرين في «بريست ليتوفسك» الذين ظلوا يُعطِّلون فرقًا من الجيش الألماني كان يحتاجها في أماكنَ أخرى. ويُصوِّر سولجينتسين في روايته الأخيرة المحاصرين العائدين على أنهم ٣٠ عربة من «الرءوس المحترقة»، وفقًا للتعبير الشعبي (جرت تربية الشعب على أنه لا يُوجد تراجع وعندما يرى عائدين يعتبرهم موتى) وصوَّر كيف لم يرغب أحدٌ في تقديم الطعام إليهم.
ويبدو هذا التناقض عند بك (الرجال ذوو قيمة فيجب أن يخرجوا من الحصار أو الرجال لا قيمة لهم فيجب ألا يخرجوا إلا موتى). ويتحدث بانفيلوف عن أهمية الدور الذي تلعبه الوحدات المحاصرة التي ترفع الحصار. الخروج من الحصار بطولة كما فعل أوغلي وكان يعتبره جبنًا إلى أن وقع هو نفسه في الحصار.
إن متناقضات أوغلي عميقة جدًّا في الحقيقة. إنه يعكس على الأقل جزءًا من التناقضات الموجودة عند بك. والذي أدَّى إلى التكنيك الذي استخدمه في الرواية وهو الحديث مع أوغلي ثم العودة إلى الخلف؛ أي الإفلات من الحظة الحالية. وأبرز التناقض حادثة الإعدام. إنها علامة ذلك الزمن.

حادثة بارامبايف٢٥

في عام ٤٩ كتب لوكاتش ٢٩ صفحة عن هذا الموضوع. إن تأمُّل بك أليم؛ إذ يزن قراره طويلًا. والمؤلف يعطي تعبيرًا جماليًّا إدانيًّا لهذه المناقشة الداخلية للقرار عند أوغلي. إن الحقيقة المحدَّدة التي يخلقها الروائي لا تُوجد فقط في ذاتها وإنما في وصف كل جوانبها في الحياة، وتقتضي من الكاتب السوفييتي موقفًا ملتزمًا أخلاقيًّا، وبهذا فموقف أوغلي هو موقفٌ نموذجي أخلاقي، ولكن بك لا يوافق على هذا النمط فيقوم ببعض التصحيحات؛ تدخُّل بانفيلوف؛ مما يعكس محاولات بك للتعبير عن نفسه في مرحلةٍ مضطربة باللجوء إلى أساليبَ غير مباشرة؛ فهو لا يصوِّر أوغلي قاطعًا في قراره وإنما شاكًّا مستريبًا. وفي التطبيق تؤدي بعض المواقف التي لا يخرج منها إلى حلولٍ يائسة. لكن مثل هذه الحلول اليائسة استثناءاتٌ محزنة. ولكنْ فرقٌ بين أن نعتبر هذا الحل اليائس محزنًا أو نعتبره قاعدةً نُقنِّنها في شكل قانونٍ عام.
إن الشر كان واسع الانتشار. ودليلنا على ذلك مسرحية بريخت «القرار»: وهكذا قرَّرنا … يجب علينا. أن نقطع من لحمنا وأن نبتر من قدمنا؛ فقد أفسد زميلهم كل شيء لأنه كان شفوقًا فلم يستوعب درس المسئول؛ إنكم لستم أنتم. أنت لم تعُد كارل شميت من برلين … إنكم بلا أسماء. بلا أمهات. أوراقٌ بيضاء تكتُب عليها الثورة أوامرها. هنا نرى المآزق الجديدة بين الشفقة والعمل، بين الأُخوة والتاريخ، بين الوجود والفعل.
ولقد قال أحد المتفقهين في الدين عند صدور مسرحية «القرار»: «منذ سنوات عديدة لم نسمع الحقيقة المسيحية بهذا الوضوح والبساطة والشكل المباشر مثلما سمعناها هنا؛ هذه المقطوعة المدهشة. إن تقديم الالتزام والاستعداد للتضحية بالحياة لا كعملٍ استثنائي من أعمال البطولة وإنما كعملٍ عادي من أعمال الحياة اليومية لم يكن من الممكن أن يفعله أحدٌ غير بريخت٢٦
وقال عالم دينٍ سياسي إن رواية «الأمل» لمارلو٢٧ تتضمَّن مشهدًا يشبه مشهد بارامبايف؛ أمر بإعدام هاربَين بالرغم من توسلاتهما وشعوره بأنهما ضحيتا موقفه. إن مارلو يشعر بضرورة الاختيار بين الضرورة والشفقة. ويقول مانويل: كلما كنتَ شيوعيًّا كنتَ أقل إنسانية. وهناك شيوعيٌّ آخر هو المسئول العسكري: «إننا في طريق تغيير مصير الحرب. هل يمكن تغيير الأشياء دون تغيير أنفسنا؟ منذ اللحظة التي قبلتَ فيها قيادة جيش البروليتاريا لم تعُد تملِكُ روحك.» كانت كلمات مانويل أقرب إلى كلمات إكسمينس (مناضل كاثوليكي)؛ أي إن الحزب والدين عند الشيوعي شيءٌ واحد. فردَّ عليه المسئول: ليس بوسعكَ أن تقول أشياءَ يتعذَّر عليكَ فهمها. أنت تريد أن تتصرَّف دون أن تفقد أُخوَّتَك. أعتقد أن الإنسان أصغر من أن يصنع ذلك. إما مناضل أو أخ. ثم يقول مارلو: إن المسئول العسكري كان يظن أن الأُخوَّة لا تتحقق إلا عَبْر المسيح.
ومن هنا لم تكن مصادفة أن ماميش أوغلي من أجل تبرير تصرُّفه لا يجد أمامه إلا أن يُردِّد كلمات من رواية «القرار» لبريخت.

النصر أو الموت؟

كانت القضية هي الشك في جميع المقاتلين الذين تم حصارهم بوصفهم خونةً ومنبوذين. إلصاق تُهمٍ شنيعة وغيرِ مفهومة بالمحصورين والأسرى. إما النصر أو الموت. إنها فكرة التكفير، فعلى الشيوعيين في المقام الأول ألا يتركوا أنفسهم ضحيةً لأعمال أقلية من المخربين. هذا حق. لكن أن تصوغ ميكانيكيًّا من هذا عقيدةً تشريعية تعود بنا إلى القاعدة القديمة المفيدة في شئون الصحة لا السياسة: الوقاية خير من العلاج. فإننا بذلك نحرم الاشتراكية من مناضلين ثبتَت صلابتهم (…) (فيشنسكي: «لا أدلة عندي ضد هذا المتهم. وهذا دليلٌ على أنه داهيةٌ ثم إنه اعترف بأنه خائن»).٢٨

تأثير عبادة الفرد على الأدب

تحدَّثوا كثيرًا عن أهمية الاقتصاد في وسائل التعبير. قال لوكاتش عن رواية بك: «إنها مقتصدة في أسلوبها أكثر مما هو مُتصوَّر. إنها لا تُعطي لكل موقفٍ كل ارتباط إلا بالقدر الضروري جدًّا من التعبير الذي يكفي لكي يفهم القارئ أسباب هذا التصرف أو ذاك.» غير أن لوكاتش لم يَرَ ما في الرواية من قدْرٍ عميق من الواقعية، فهناك أمثلةٌ عديدة على عدم الاقتصاد؛ الخصم يُرسم في صورةٍ كاريكاتيرية. لقد تصور أوغلي غريمه الألماني بعينَين نفاذتَين وقاسيتَين عجوزتَين. وصف الأسير الألماني الوحيد بأنه ذو رقبةٍ نحيفة بتفاحة آدمَ بارزة (كان الألمان يطلبون النجدة ونحن لا نفعل. ولاحظ أوغلي: من السهل أن نكتب في كتب «قراءات للجميع» أن جنودنا كانوا يصيحون «هورا» ثم يُلقون بأنفسهم وقد أشهروا رماحهم في بنادقهم، أما الألمان فكانوا مذعورين يجرون كالأرانب. لكن في الحرب الحقيقية لا تسير الأمور بهذا الشكل دائمًا).
في الحرب الحقيقية هناك جرحى كثيرون وموتى كثيرون وليس فقط من الأعداء. عند بك نرى قليلين جدًّا من القتلى والجرحى بين السوفييت. ملايين السوفييت سقطوا قتلى في الحرب العالمية الثانية، ولم يُذكر هذا في الروايات، فكيف حدث هذا؟ الجندي السوفييتي لا يُقتل أثناء المعركة وقد يُجرح لكنه لا يفقد روح المرح والفكاهة. أراجون لا يهمل الجانب الفكري. وتولستوي أيضًا. أما عند بك فالشخصيات التي نعرفها جيدًا لا تموت أبدًا، فكيف إذن يمكن أن نكره الحرب إذا كان القارئ لم يفقد خلالها أقرب الناس إلى قلبه؟ انفصام بين الكُتاب السوفييت في الحربَين. وتمثِّل رواية «الربيع على نهر الأودر» شاهدًا مُؤسِّيًا على هذا الانفصام؛ فهي تُقدِّم لنا الحرب عالمًا مضمونًا سعيدًا. ولا يصل بك إلى هذا المستوى، لكنه يقول لنا إن الحرب ليست سيئةً جدًّا.

الجذور

إذا كانت نظرية عدم وجود الصراع للناقد (…) قد أضرت بالمسرح فهي أيضًا أضرت بالرواية ودفعَتْها إلى أن ترفض معالجة التفاصيل التي ظن النقاد أنها تؤدي إلى الطبيعية. سجَّل بيير ديكس في خطاب إلى موريس نادو، الناقد السريالي، عدد ما اعتبره الكُتاب السوفييت اتجاهاتٍ طبيعية في رواية «القلعة الأخيرة» (الواقعية هي تنظيم التفاصيل فيجب ألا نتجنَّبها أو نتخطَّاها إنما نوضِّحها في مجموعها، أما إلقاء التفاصيل في الظلال بحجة أنها تفاصيلُ شنيعة فهو ضد الواقعية. وفي الحرب يصبح خيانةً للواقعية؛ لأن الأساس في الحرب هو الشناعات). وقال النقاد عن رواية «البندقية الثالثة» إن مؤلفها فاسيلي بيكوف وضع فيها كل تجربة الحرب الدامية وركَّز اهتمامه على الموت، فردَّ عليهم بقوله: «للأسف فإن الموت يغمر كل شيء في الحرب»).
وعند بك نجد ميلاد فكرة الانسحاب الذي يتم طواعية. وكانت هذه الفكرة حقيقةً رسمية اعترف بها ستالين في ١٩٤٥ قائلًا: «إن حكومتنا قد وقعَت في بعض الأخطاء … لقد كنا في موقفٍ يائس في خريف ٤١ حينما كان الانسحاب هو الإمكانية الاختيارية الوحيدة أمام جيشنا.» وفي فبراير ٤٧ قال ستالين للكولونيل رازين: «إن الانسحاب كان بناءً على خطةٍ موضوعةٍ محددة.» لكن سنتسوف في رواية «الأحياء والأموات» لشولوخوف قال: «ربما كان لديكم أنتم خططكم مثل كوتوزوف لكن يجب أن تفكِّروا في الناس.» الحقيقة أنه لم تكن هناك خطة كما قال أراجون في كتابه «تاريخ الاتحاد السوفييتي». وهذا ما لم تقُله رواية بك ولا كان يمكن أن تفعل.
في رواية نكراسوف الصادقة يقول جندي: «لا بد أن ستالين يفكِّر في كل شيء»، مُكرِّرًا شيئًا معروفًا في ذلك الحين. هي إذن واقعية. وفي رواية «الربيع على نهر الأودر» يدور الحوار التالي بين جنديَّين: عندما قال ستالين إننا سننتصر، هل كان يعرف ذلك؟

– كان يعرف بكل تأكيد … فقد حسب حساب كل شيء.

ستالين يعرف كل شيء. كل صغيرة … طائرات المطاردة. تموين الجنود. التكاليف المختلفة. من كتاب عن ستالين ظهر عام ١٩٦٣م في فرنسا لاستيبيه: «إن ستالين هو الوحيد الذي يتحمل جميع المسئوليات، ولقد كان في وقتٍ واحد الحكومة والقائد العام ووزير الحرب ووزير الخارجية. كان يبُتَّ في مسائل الاستراتيجية واللغة ويُحدِّد القيادة ويتفاوض ويتلقَّى معونة الحلفاء ويدير ١٠٠٠ مصنع في سيبيريا والأورال. يعمل ١٨ ساعة. ينام على مكتبه في السادسة صباحًا ويريد أن يعرف كل شيء ويعالج كل شيء. كان ذا عقليةٍ رياضية. كان يستمع إلى القضايا فيبرهن عليها وأحيانًا يكتشف التناقض فيها ويحله. وبعد أن يُقدِّر البرودة والسخونة والسرعة والدقة يُصدِر حكمه وكان في الغالب الأعم صحيحًا ودقيقًا.»
وفي رواية بك الأُولى عام ٤٤ قال بانفيلوف: «الجندي هو الذي يعرف مصير الحرب.» ويبرُز تساؤل ص٤٩: «لقد كان هناك ٧٠٠ رجل مطلوب منهم أن يوقفوا عجلة زحف العدو على طول ثمانية كيلومترات. ولم يكن وراءهم شيء.» ثم ما يلبث أن يُعيد الفكرة فيقول: «إنها الحرب. ولا تستطيع تجاهها شيئًا آخر.»

بضعة أيام

في هذه الرواية الجديدة، وُضع السؤال بشكلٍ مباشر دون اللف حوله. فيقول أوغلي «لقد كنتُ فريسة لأفكارٍ سوداء … لماذا نتقهقر؟ لماذا كانت الأمور منذ البداية بهذا الشكل؟ لماذا كانت الحرب قاسيةً لهذا الحد؟ لقد كنا نقول في تلك السنة الفاجعة بينما كانت الكماشات (حصار الجيش من ناحيتَين) تُعلن في كل مكان: دعوهم يلمسونا فقط وسنجعل الحرب في أراضيهم. الهجوم دائمًا. التقدُّم إلى الأمام. تلك كانت روح جيشنا وروح مشروعات السنوات الخمس قبل الحرب. روح جيلنا كله. إننا لم ننشغل أبدًا بالتكتيك أو بنظرية الانسحاب. بل إن كلمة الانسحاب مُحيَت من لوائحنا. إذن فلماذا، لماذا ننسحب؟»، ص١٩٠.
وطرح الانسحاب السؤال التالي: لماذا ننسحب منذ وقتٍ طويل؟ يتلقَّى بانفيلوف هذا السؤال فيقول إنه لا يعرف شيئًا، ثم يُعدِّد عدة احتمالات للوصول إلى جوهر القضية: «إنه خطؤنا. لقد أهملنا دراسة الأحداث والوقائع لكنها لم تُهمِلنا.» وهذا استنكارٌ واضح لكل الانحرافات الناتجة عن عبادة الفرد … إن بانفيلوف اللينيني يستنتج أنه من الضروري أن نتحدَّث بصراحة عن الأخطاء التي وقعَت. بالنسبة لنفسه يصل إلى «إنها تلك العقائد العجوزة التي شلَّت النشاط وسبَّبَت التقهقُرات.» ثم يعيب على نفسه أنه لم يجرؤ على انتقاد المقاييس الكلاسيكية لتحديد المراكز الدفاعية: «إن هذه اللوائح مكتوب فيها أن زمانها قد مضى.» وعندما يقول له جنديٌّ عجوز في تردُّد: «إن رجال الحزب هم أيضًا يجعلون الشعب يقاسي كثيرًا»، يردُّ عليه قائلًا: «هذا حقيقي. ليس من السهل معايشة الشيوعيين.» ص٢٢٢.
إن بك في بحثه عن المسئوليات لا يقف عند هذا الحد؛ فاهتمامه لا يتركز فقط على أعمال فصيلة أوغلي أو بضعة ضباط؛ ففيما عدا بانفيلوف الذي ازداد دوره في تطوير الرواية ظهر ضباطٌ جدد مثل الكولونيل خريموف.
ويمدح بانفيلوف المُحاصِر الذي احتل الموقع. ويشعُر أحيانًا بالمرارة لأنه مهدد بأن يتعرض للحصار: «إنهم يريدون أن يجرُّوني أنا البائس أمام محكمةٍ مقدسة ليحاكموني عن لماذا تركت الألمان يحتلُّون فولوكلومسك. وهو على عكس بانفيلوف يُحب النظام وشكلياته الخارجية فيفقد أعصابه حين يرى أوغلي يتجول بسيف ضباط المدفعية ويعامله كمتمرِّد. (أكثر فردية) حلٌّ جديد لمشكلة تشبه مشكلة بارامبايف، فزايف وجنوده يعودون بعد أن خرقوا الحصار ولكن يتضح بعد فترةٍ قصيرة أنهم انسحبوا بأسرعَ مما يجب، أو كما يقولون في اللغة العسكرية، هربوا من الناحية الموضوعية، فيقرِّرون إطلاق الرصاص على زايف. لكن ماميش أوغلي يهمس: «اعفوا عنه.» ويتوسَّل ضباطٌ آخرون إلى أوغلي: «اترك له الحياة.» وفي هذه المرة يُنصِت أوغلي للتوسُّلات ويوافق على تنازلٍ أوَّلي بعد محاكمة «زايف» أمام محكمة الفرقة ويُطلق سراحه ويُعاد إلى منصبه (وهكذا تحقَّق — في نهاية الرواية — حُلم عام ١٩٤٤ الذي دار في رأس أوغلي عن بارامبايف).

إن القضية العظمى — الشيوعية — ليست غولًا أو وحشًا. إن الاشتراكية في حاجة لجميع أبنائها حتى لأولئك الذين كانوا ضحايا لفترة ضعفٍ عابرة.

أدَّت فكرة بك عن المضمون إلى إثراء أسلوبه في التعبير عن الواقع، فلم يفرض اتساقًا إجباريًّا في الأسلوب؛ فحين يصف فوضى الانسحاب تبدو الفوضى في أسلوبه؛ فرجال الفصيلة يائسون أحيانًا. كقطيع أحيانًا. متشرِّدون أحيانًا أخرى.
إن «بضعة أيام» ملحمة للجوع، اعتبار ما حدث حقيقة … دون أن يتخلى بك عن أسلوبه في اقتصاد التعبير يحاول أن يتبيَّن كل شيء. الحرب مأساة: «مأساة تستطيع أن تُزلزِل أكثر الرجال صلابة.»
إن الحركة العامة للأدب السوفييتي الآن هي واقعيةٌ أعمق. إنسانيةٌ أعمق. شعورٌ أكثر رقة وأكثر حساسية بتعقُّد الحياة (جريجوري باكلانوف في رواية «رأس الجسر»).

الآن الحرية من أجل البحث عن الحقيقة. وهي العزيزة على الكُتاب من جميع البلاد.» «ما هو أجمل بعد الحقيقة هو الخيال.»

كان الجندي المحاصر بطلًا ملحميًّا. يموت وهو ماسك سلاحه. وقُضي عليه بالموت. الانتحار في سجون العراق.٢٩
٢٨ مارس ٦٤، «بعض الأفكار عن العقائدية»، لوسيان سيف، مجلة «نوفيل كريتيك» «الفرنسية، ديسمبر ١٩٦٣.

ما هي العقائدية

هناك عادةٌ مكتسبة — بتأثير الكهنوت الكاثوليكي — تتصوَّر العقيدة على أنها المبدأ الثابت الذي لا يتحرك … ولكن العقيدة أو الدوجما هي كل ما يتقرر من طرفٍ واحدٍ بمرسوم، أو يُفرض دون مناقشة … إن الصفة الأساسية للعقيدة ليست صفة اللاحركة وإنما صفة اللاعلمية – وهذه الصفة يمكن أن تغيِّر العقيدة … إن جوهر العقائدية هو: المحافظة على العقائد أو تغييرها على أساس وجهات النظر الخاصة أو على أساس المصالح الذاتية، وليس على أساس تطبيق التعاليم العلمية للواقع الموضوعي «أي التجربة والخبرة» … العقائدية لا مبادئ لها؛ وبالتالي فهي بدون قيم.
إن البحث عن الجديد بأي ثمن لا علاقة له على الإطلاق بمقتضيات الماركسية الحية الإبداعية، ولا علاقة له بمقتضيات الصراع والنضال ضد العقائدية. إذا كانت العقائدية تعني في الغالب الدفاع عن نظريةٍ كلاسيكيةٍ اتباعية لم تتفق مع الواقع، فإن رفض نظريةٍ كلاسيكية لا تزال تتفق مع الواقع هو أيضًا عقائدية.

… إن النضال السليم الفعال ضد العقائدية — وهو نضالٌ ضروري في الوقت الراهن — هو نضال ضد الأسلوب الذاتي الأحادي التعسفي غير العلمي في الفكر والعمل. إنه نضال من أجل ألا يضعُف أبدًا الترابط الحي بين النظرية والتطبيق، إنه نضال ضد الاتجاه نحو التشريعية … ضد عدم الإيمان بالتجربة … وضد تجريبيةٍ ضيقة الأفق تجهل القيمة العظيمة للنظرية العلمية التي هي ثمرة كل التجربة والخبرة التاريخية السابقة.

في ضوء النظرية الماركسية للمعرفة

يُقال … إنه لا يُوجد — وفقًا للديالكتيك — أي شيءٍ ثابت غير متحرك. إن كل شيء يحيا، أي إن كل شيء ينمو ويتغير … وعلى هذا لا يمكن القول بأنه تُوجد في الماركسية مثلًا حقائقُ نهائيةٌ ثابتة غير قابلة للتغيير … وفي هذه الحالة، تصبح كل نظريةٍ قديمة ولو قليلًا غير ذات موضوع، ويصبح الدفاع عنها دفاعًا عقائديًّا. … هنا يوجد التمسك بجانب واحد من جوانب الديالكتيك، وهو جانب لا يسمح — إذا ما أُخذ منفصلًا ومعزولًا عن الجوانب الأخرى — بالتمييز بين الديالكتيك والحركة الشاملة، وبين التطورية والمذهب النسبي فيما يتصل بنظرية المعرفة.
إن الديالكتيك وفقًا للصيغة التي وضعها لينين: «يتضمن عوامل النسبية وعوامل النفي، والشك. لكنه لا يمكن أن ينتسب إلى المذهب النسبي في نظرية المعرفة.» إن جوهر الديالكتيك — باعتباره أعمق نظرية للتطوُّر — ليس تأكيد النظرة المجردة عن «أن كل شيء يتطور»، وإنما جوهره هو تبيان أن المحرِّك الجوهري للتطوُّر هو صراع الأضداد في وحدتها … فمتى كان هناك صراعٌ للأضداد كان هناك تطوُّر، وإذا لم يكن هناك صراع للأضداد فلن يكون هناك تطوُّر، وإنما سكون وثبات وعدم تغيُّر. ومن المؤكد أن الديالكتيك … يؤكد شمولية صراع الأضداد، وبالتالي يؤكد شمولية التطور … ولكن الشمولية (المطلقة) لصراع الأضداد وللتطور يوجد في داخلها أيضًا — وعلى العكس — تماثل (نسبي) للأضداد، وفي هذه الحدود يوجد غياب (نسبي) للتطور؛ أي يوجد عدم تغير … إن المعرفة تتطور إلى الحد الذي لا توجد فيه تناقضات بين الواقع الموضوعي وانعكاسه الواعي؛ أي بين التطبيق والنظرية. لكن لهذا السبب على وجه التحديد، تتطور المعرفة، وهي تقترب من الواقع الموضوعي بأن تعكسه بطريقة دقيقة في حدود معينة؛ وبالتالي فإنه في هذه الحدود يُوجد تناقُض بين هذه المعرفة وبين الجانب المتعلِّق بها من الواقع؛ ومن هنا فإننا نتحدَّث عن معرفةٍ حقيقية بشكلٍ مطلق، معرفة متكاملة ليس لديها حركةٌ تمضي بها إلى ما هو أبعد.

لكن الأمر لا يتعلق بمعرفةٍ حقيقية في حدودٍ معيَّنة فقط؛ ذلك لأن الواقع لا حدود له وهو دائم التغيُّر؛ ولهذا السبب فإن حركة المعرفة لا تقتصر على العملية التي تحدَّثنا عنها. إنها حركةٌ مزدوجة … فمن ناحية يُوجد بين المعرفة التي لا تزال غير دقيقة وبين الواقع الموضوعي تناقُض يمكن التغلُّب عليه بتصحيح الأخطاء، وبالتقدُّم من الجهل إلى المعرفة، ومن المعرفة التي لا تزال غير دقيقة إلى المعرفة الصحيحة على الإطلاق. ومن ناحيةٍ أخرى نجد أنه بينما قد وصلَت المعرفة إلى الحقيقة المطلقة في حدودٍ معيَّنة فإنه يتبقَّى مع هذا تناقُض بين الحقيقة المطلقة ولكن المحدودة، وبين الواقع الموضوعي الذي لا حدود له والمتحرك دائمًا، وهو تناقُض لا يمكن حله إلا بتخطي حدود تلك الحقيقة المطلقة والمتحقِّقة، وذلك عن طريق التوصُّل إلى حقائقَ جديدةٍ مطلقة تحتل الحقيقة المطلقة السابقة في أحضانها مكانًا وتكتسب معنًى جديدًا أكثر ثراء. وبإيجاز نقول إنه تناقضٌ تحلُّه عملية لا نهائية من الناحية الرئيسية للمعرفة في مجملها.

إن المعرفة، في مجملها، لا تكتمل أبدًا. غير أن هذا صحيح فقط بالنسبة للمعرفة في مجملها؛ ذلك لأن مجمل المعرفة يتكوَّن بدقة بواسطة المعروفَات المحدَّدة والتي يُوجد فيها شيء ما مطلقٌ مكتمل غير قابل للتغيير في حدودٍ معينة. إن «الديالكتيك» لا يؤكِّد هذا الأمر بل يستلزمه.

وعلى هذا … يبدأ الانحراف العقائدي من اللحظة التي يحدث فيها الفصل بين الدفاع الدائم عن الحقائق المطلقة المتضمن في الماركسية، وبين الجهد الدائم من أجل تخطي حدود هذه الحقائق المطلقة عن طريق التحليل المحدد للظروف المحددة الجديدة باستمرار … (مثلًا لا عقائدية في الدفاع عن حقيقة أن الإمبريالية عدوانية بطبيعتها. وإنما تبدأ العقائدية من نقطة إهمال تحليل موقفٍ محدَّد تنطبق فيه هذه النظرة المطلقة والنهائية في حد ذاتها، ورفض رؤية أنها لم تعُد تعني اليوم ما كانت تعنيه منذ خمسين سنة، ألا وهو أن الحرب حتميةٌ ولا مفر منها. وعلى العكس هناك عقائدية في النظرية الجديدة التي تزعم على أساسٍ ذاتي أن التناقض الرئيسي هو بين الإمبريالية وحركات التحرر الوطني).

عن ستالين

خرج ستالين عن التحليلات والصياغات التقليدية لدى ماركس وإنجلز ولينين، في سلسلةٍ كاملة من النقط الجوهرية. إن تجديداته التعسُّفية هي جانبٌ رئيسي من عقائديته. ومنها في كتابه عن المادية: عزل القوانين العلمية للديالكتيك عن تاريخها وعن أصل وجودها؛ أي تقديمها على أنها مبادئُ موجودة مسبقًا وبلا حاجة إلى أدلةٍ بشكل من الأشكال. بينما أكَّد ماركس وإنجلز ولينين أنها نتائج.
حذف ستالين أيضًا قانون نفي النفي حذفًا كاملًا. وساوى قانونَي صراع الأضداد والوثبة الكيفية، وهما قانونان أساسيان وديالكتيكيان، بقانوني الترابط والتطور الشامل وهما قانونان أكثر عمومية ولا يخصَّان الديالكتيك.
أهمل ستالين فكرةَ وحدة الأضداد خلال الصراع. ساوى بين تناقُض الإيجابي والسلبي داخل النوعية الواحدة وبين التناقض بين النوعية القديمة والنوعية الجديدة.

في السياسة: حتمية ازدياد احتدام الصراع الطبقي خلال كل مرحلة بناء الاشتراكية.

الدرس المستخلص من أخطاء ستالين، أن الماركسية ليست عقيدة، وأنه ينبغي في نفس الوقت تطويرها بطريقةٍ حية انطلاقًا من التطبيق، ويعني أيضًا أن نواة الماركسية — وهي الحقيقة المطلقة والنظريات التي كوَّنَتها حتى الآن — لا ينبغي مراجعتها بطريقةٍ تعسُّفية من أجل احتياجات القضية السياسية، ولا ينبغي صياغتها واستخدامها بدون الجدية الواجبة عند ربط التطبيق التاريخي الهائل في منظومةٍ علمية.

ولهذا اقترن التجديد الإبداعي عند السوفييت بالعودة إلى المنابع اللينينية.

إن العقائدية هي الفكرة التعسُّفية المنفصلة عن الحياة. إنها تعني الجمود، كما تعني التصفية.

في علم الجمال

هناك عبادةٌ وثنية للمبادئ الماركسية المطروحة بأسلوبٍ ضيق شديد الضيق، وهو جانب العجز والعقم في إثراء النظرية عن طريق فهم واستيعاب الأعمال الجمالية التي لا تتفق مع هذا القانون المسبَق أو ذاك.
ولكن من المفهوم طبعًا أن ما تلزم محاربته في هذا الصدد ليس هو التمسك بعددٍ معيَّن من المبادئ الماركسية؛ أي الحكم على الأعمال الجمالية انطلاقًا من عددٍ معيَّن من المعايير العلمية. وعلى أساس وجهة النظر هذه، فإننا ندرك — إذا أمعنَّا النظر والفكر — أن العقائدية الجمالية التي ينبغي علينا أن نُحاربها تتسم هي أيضًا بإفقار التنظير العلمي الماركسي؛ أي بمعنًى آخر، تتسم — رغم بعض المظاهر المعيَّنة — بعدم وجود مبادئَ إذا ما أردنا أن نعطي الكلمة كل معناها الحقيقي.

وبشكلٍ عام، فإن العقائدية في الفن والنقد الفني لا تبدو فقط في شكل المحافظة والتمسُّك العنادي بالأساليب والأحكام الفجة والالتواءات وقلب كل ما هو مع وما هو ضد في كل ما يُعتبَر جميلًا وخيرًا وسليمًا؛ أي بإيجاز لا تبدو العقائدية فقط في شكل التغيير التعسُّفي للعقيدة … فلا عقائدية أكثر عقائدية من فكرة التلاشي التدريجي، فكرة الحذلقة البرجوازية «الجديدة» باستمرار.

إن العقائدية الجمالية تتضمَّن منع وحظر نقد بعض الأشياء بقَدْر ما تتضمن منع وحظر نقدِ أشياءَ أخرى. وهي تتضمَّن أيضًا توسيع ميدان تطبيق بعض الأفكار إلى الحد الذي يجعلها تفقد كل معنًى بقَدْر ما تتضمَّن تضييق ميدان تطبيق بعض الأفكار إلى الحد الذي يجعلها تفقد كل حياة.

إن التجديد الإبداعي لعلم الجمال الماركسي يبدو لي أنه هو أيضًا — وبصرف النظر عن التشويهات العقائدية — غير منفصلٍ عن عودةٍ حقيقية إلى المنابع.

إن العكس الحقيقي للعقائدية هو الديالكتيك الدائم في التطبيق والنظرية. إنه العلم الماركسي الحي المولود من العمل والمصنوع من أجل العمل، والذي يعني في وقتٍ واحد التفتُّح تجاه الواقع الجديد، والثبات على المبادئ المجرَّبة.
عالم غريب،٣٠ من مقال حسن فؤاد:

«مضيتُ أسير … وعلى البعد كان البعض بثيابهم البيضاء وآخرون بثيابهم الزرقاء يحفرون الأرض … والرمال تُحمل على الأعناق وتُكوَّم فوق هضبةٍ عالية ستُصبِح خشبة المسرح.

زنزانةٌ طولها أربعة أمتار. ١٦ شخصًا. خليط من مختلف المهن والأعمال. حديقة ألبير. وكانت قروانة العدس في هذا الحر كفيلة بأن تقلبني على «البرش» حوالي ٣ ساعات حتى إذا جاءت ساعة التمام، وتصاعد صوت الصفَّارة المُلِحُّ والصيحة المألوفة «التمام … كل واحد على أوضته.» قمتُ من النوم وسط بحر من العرق.

وبدأَت البروفات. جردلان للشرب وجردلان لقضاء الحاجات الآدمية وعشرات القروانات والأطباق والشباشب والأحذية … بروفة المسرحية. تسخين اليمك بخرقةٍ سوداء … دخان … إلى أن جاء الفصل الثالث فقمتُ ودخلتُ.

بعد التمثيل جلس صلاح بجانبي في ركن الزنزانة يُشعل سيجارةً وراء أخرى ويحدِّثني عن كل المواضيع.

خرجتُ من الزنزانة في الصباح ورأسي يكاد ينفجر من الصداع … وكان اليوم شديد الحرارة. وطويتُ أوراق الدَّور … المسرح. على البعد وقف عددٌ من الزملاء المحكوم عليهم بمددٍ طويلة.

دُرتُ حول عنبر «واحد» وعبَرتُ الطريق … على طوله كانت تمشي جماعات من الشباب يُحرِّكون أيديهم في عصبية ويتحدَّثون في نشاط … إنهم يريدون أن يُغيِّروا العالم … والإخوان المسلمون يمشون متثاقلين والمصاحف في أيديهم … وبعض المذنبين العراة يبدو نصفهم من داخل ماسورة المجاري … وعند الكانتين تناثر عددٌ من المعتقلين يشربون الشاي. وحيَّاني البعض وسألَني …

وتركتُهم لأدور حول المطبخ وجلستُ خلف الجدار الخلفي. على البعد كان يجلس مثلي الكثيرون من الإخوان المسلمين لاصقين ظهورهم بالحائط يهتزُّون يمينًا ويسارًا. وكرة «الراكت» تقفز إلى الشارع فيجري وراءها الزملاء في بنطلوناتهم القصيرة. وتحضُر عربة المأمور فتتصاعد الصفافير ونقف جميعًا، وتتوقَّف الحركة في كل مكان وينطلق صوت البروجي وصَفٌّ من الجنود يؤدي «سلام سلاح».

ومضت الأيام سراعًا وأنا أُحاول أن أنفرد بنفسي عبثًا لحفظ الدور … إذا اختبأتُ تحت شجرة في الحديقة يرزقني الله بمن يعطف على حالي وتُفزِعه وحدتي فيجلس معي ولا يتركني أبدًا.

… المسرح كما يبدو من الخشبة بعيونٍ كبيرة سوداء فاغرة الفم لا يظهر منها إلا أشباح في المقدمة ترتدي الألوان الكاكية الفاتحة كأنها صفٌّ من الأسنان.

بعد الكلام … إذا بالفوَّهة تتحرَّك وتخرج منها موجة من الضحك الهادئ. لقد بدأ العملاق يتحرَّك أخيرًا … وأحسسنا بروحٍ ودية مرحة تهُب علينا من الفوَّهة السوداء.

أثناء التمثيل انطفأ النور، وظهر الجمهور شاحبًا في ضوء القمر. ارتفع صوت مأمور: اجري يا حضرة الصول خلي المكنة تأجل النور ساعة كمان.

انتهى التمثيل. لا. لن يكون هناك فهيم العابد ثانية. ستنطفئ الأنوار ويتحول الجمهور والممثلون إلى نزلاء وضباط وجنود. وسيُخرج السجَّانة مفاتيحهم ويدفعون بنا إلى الزنازين. أما هذا المسرح المضيء فستذهب مقاعده وبطاطينه وأخشابه وأنواره في كل ركن من أركان السجن ولن يبقى من ذكراه إلا مسطَّح من الرمال.»

عالم غريب:

تقدم × من المقعد ثم جلس عليه واضعًا قدمه اليسرى فوق سطحه والثانية على الأرض، وأخرج مجموعة من الأوراق من جيبه وأمسكها بأصابعَ مرتعشةٍ وهو يُحاول تركيز نظراته فيها ليتغلَّب على ارتباكه ثم بدأ يتكلم: «أنا بأقول …» وهو ينظر بين الحين والحين إلى الورق الذي يحمله في يده ليتذكَّر نقطةً معينة.

لجمهور الجالسين الذين تبعثَروا في أنحاء الغرفة٣١ يمينًا ويسارًا وأعلى وأسفل٣٢ وفوق الأرض، كان × تجربة سيمر بها كلٌّ منهم وبعضهم مر بها من قبلُ. فكلٌّ منهم سيجلس مكان × إن عاجلًا أو آجلًا وسيتكلم، ولهذا كانت نظراتهم تتابع ارتعاش أصابعه باهتمام وتحاول أن تتبين على وجهه آثار ارتباكه، وتتابع كلامه في لهفة حتى يكشف عن اضطراب عندما يتلعثم في الكلام. وكانوا جميعًا يوشكون على الابتسام في إشفاق من إدراكهم لحتمية اضطراب ×. لكن × خيب ظنهم واستطاع أن يواصل الحديث.

استرخى الجالسون في أماكنهم وقد بدأ كلٌّ منهم يتابع بنصف انتباه ما يقوله × وبالنصف الآخر يستدعي من ذاكرته ما يعرفه عنه أو يتأمله من خلال عاطفة نحوه.

والحقيقة لم يكن بينهم من يكرهه. ولم يكن بينهم أيضًا من يُحبه. وربما السبب في ذلك هو أنه كان مغلقًا على نفسه لا يسمح لأحد أن يقترب منه أبدًا. كان يشك دائمًا في الناس؛ في كلماتهم وما يختفي وراءها. ولا بد أن في طفولته وصباه الباكر تفسير هذا كله. لكن أحدًا لم يكن يعلم شيئًا عن طفولته وظروف نشأته. وقد كان يحدث أن يوجِّه إليه الآخرون أسئلةً عابرة عن أسرته فيجيب ببساطة: أبوه الموظف وأمه وإخوته. كان يفهم ما وراء هذه الأسئلة فيريد أن يقطع على السائل الطريق. وعندما كان يبدي في تصرفاته حساسية معينة ويتأثرُ بسرعة من تصرفات الآخرين فينكمش على نفسه. لكنه كان يُضطر للحديث كثيرًا. وقد كانت تأتي لحظات لا بد وأن يتكلم فيها.

فما إن يفتح أحدٌ أمامه موضوع الصحافة حتى يتوفَّز ويتكلُّم بلهجةٍ فخمة وشعور جارف بأنه يعرف أكثر الناس، وله طريقة في الحديث هنا فيها القطع والثقة (في كلمته إشارة لزميل له في لندن …) لكنه لم يلبث أن اكتشف أن هناك من يعرف أحسن منه. وكان يؤلمه أيضًا أن زملاءه أخذوا الفرصة ومنهم من اشتُهر الآن في الصحف والتليفزيون، فكان يؤكد معارضته للجميع.

ولأنه شاب ومع شباب فقد كان الحديث يتطرق دائمًا إلى النساء. وكل الناس لديها قصص. وحكى هو قصةً معينة. كانت القصة مخرجة إخراجًا دقيقًا. واضطُر أن يعترف لأحد الناس بأنه يعاني من النقص في هذا الميدان. ولهذا كان لا بد أن يقف في جانبٍ مضاد للجميع.

وكان لا بد أن تأتي اللحظة التي يشعر فيها بالحاجة إلى آخر. مزيد من العزلة وتأكيد اختلافه مع الجميع ورغبته في الابتعاد عنهم وهجرانهم وفقد الانتماء و(الابتعاد والإدارة من خلال واحدٍ آخر — النوم طول اليوم).

ومن خلال نسمة أمل ومناقشات حاول أن يخرج من هذه العزلة. ولعله حاول أن يؤكد ذاته. وعندما طلبوا منه أن يتكلم كان قد نسي ما يعلمونه عنه. وأوجد لنفسه قضية (معارضته للعالم) يدافع عنها. إنه سيتكلم ضد هؤلاء أو في صف أقليةٍ منهم على أساس أنا صح وهم كلهم مخطئون. وهو أخيرًا يحقِّق نفسه.

ابتسامة ماك – جمود وجه إبراهيم – ابتسامات. وعندما انتهى من كلمته وقام لم تتغير كلمة الناس عنه ولم يغيِّر هو فكرة الناس. ما زالوا يبتسمون بين أنفسهم في سخرية. ولم يتابعوا كلامه باهتمام – ولم يبحثوا هل كان فيه شيءٌ هام. وعاد إلى مكانه. وقام آخرُ مكانه.٣٣
عالم غريب:
جلس على الأرض، وبسط ساقيه نصف بسطة أمامه، ووضع عدة أوراق على الأرض بين ساقَيه. ثم أخذ يتكلم وهو يحرِّك يدَيه في تأكيد. ودب الاهتمام وسط الجالسين واعتدلوا جميعًا في أماكنهم ومن كان سينام أو سارحًا التفت في انتباه إلى الجالس على الأرض. وهو يتكلم في حميةٍ وثقةٍ دون أن ينظر لواحد منهم بالذات … وانصبَّت كل الأنظار عليه … كان يرتدي بذلةً بيضاء خفيفة … أشرقت أسارير الجميع وصفت نظراتهم … لم يعد من المهم ماذا يقول … وهو مندفع في الكلام في ثقة استوحاها … كان هو الآن في قمة انفعاله … والعيون تتابعه في لهفة ودقة … وتوقَّف فجأة … كأنما يبحث عن كلمةٍ مقنعة … لكنه لم يجدها … فخلع قميصه ضائقًا بالحر وألقاه جانبًا … ثم (…) في أسف عندما انتهى من كلامه.٣٤
عالم غريب:
خرج ج ثم دخل. حاقولكم خبر (كانوا يتكلمون في موضوع. فجأةً لا يفكِّرون إلا في شيءٍ واحد. خبرٌ واحد هو الذي يكون مهمًّا لدرجة تدفع ج إلى قطع الجو وقوله) لكنه يذكُر لهم شيئًا تافهًا جدًّا عن أحدهم هو في نفس الوقت يشغل حيزًا كبيرًا من أفقه الضيق وإثبات الذات (فكرة سجن ومستشفى أسيوط).
عالم غريب:
تمدَّد سعيد فوق أعلى سرير ووجهه إلى أسفل، وتدلى ساعده عن حافته في انهزام. كيف سيسعد هؤلاء في حياتهم الجنسية.٣٥
وصل ع. فهُرع إليه أ. ق. بالأحضان لأنه أكيد (…) في أيام الأزمة.٣٦
الليل …
عالم غريب:
إبراهيم بكرسيه: أنا على رأس هؤلاء. قبل لوموند تفكير وبعده تفكير. كان عندي أزمة عاطفية – البلشفي البلشفي.٣٧
عم سليم يوم العيد وهو يحاول أن يجذب الشبان إلى الحديث معه بعد خلافه معهم.
عالم غريب:

ساويتُ مخدتي بدقة. وكانت عبارة عن مجموعة من الملابس القديمة وفوطتي وضعتها فوق بعضها، وأي خلل في ترتيبها يجعلني لا أنام، ثم تمدَّدتُ فوق الفراش الذي كان عدة بطاطين على الأرض.

جذبَتُ البطانية فوق وجهي. لأحول بين عيني والنور. وظللتُ هكذا برهة. ثم اعتدلتُ على جانبي الأيمن وفتحتُ عيني. كان هناك سريرٌ مرتفع يمتد أمامي مباشرة. وفي الفجوة الصغيرة بين مستوى الرقاد والأرض كانت هناك مجموعةٌ ضخمة من الصناديق والعلب والزجاجات. كانت هذه كلها أشياء «عم سليم» الذي ينام فوق السرير. وبجواري مباشرة كتبي وزجاجة حبر وعلبة سجائر وفرشاة الأسنان والقلم. وكان الغبار يتكوَّم هنا كثيرًا حتى أُنظِّفه بعد أن أُخرج كل هذه الأشياء وأعود أرتِّبها من جديد.

وأطفأ أحدهم النور فتنهَّدتُ في راحة. ومدَدتُ يدي فتناولتُ سيجارة من العلبة وأشعلتُها واعتدلتُ على ظهري. وأخذتُ أدخِّن في الظلام. وأنا أفكِّر في المحنة التي سأواجهها وأدعو الله أن أنام بسرعة وأخيرًا نمتُ (كنتُ أتمنى أن تدخُل أشيائي تحت السرير فيكون المنظر أجمل).

واستيقظتُ فجأةً على صوت خربشة بجواري فرفعتُ البطانية. ألفيتُ الغرفة ما زالت مظلمة. ولكن عم سليم كان منحنيًا بجواري وهو يعبث بيدَيه الضخمتَين في صندوق الكرتون. لم يكن ليرى في الظلام؛ فقد كانت له عينٌ واحدة. لا أدري عمَّ كان يبحث. لكن الصوت كان حادًّا. اضطربَت الزجاجات.

لم أستطع النوم بعدها وظلَلتُ هكذا حتى الصباح. وقمتُ ألعن. في اليوم التالي تكرَّر الأمر.

وفي اليوم الثالث قرَّرتُ أن أُكلِّمه. ذهبتُ إليه وقلتُ له: عم سليم … إنت زي والدي … أنا لي رجاء عندك.

– قول يا بني.

– الصندوق بتاعك … أشيلهولك بالليل بعيد والصبح أرجعه مكانه ….٣٨
«الفلسفة في مفتاح جديد»، لانجر:

– عندما يتم استغلال كافة الأسئلة القابلة للإجابة والتي يمكن صياغتها بمصطلحات فلسفاتٍ معينة، لا يتبقَّى لدينا سوى تلك القضايا التي تُسمَّى أحيانًا «قضايا ميتافيزيقية»، قضايا بغير حل، يتضمَّن طرحها نفسه تناقضًا.

– يتخذ الناس مواقفَ متعارضة من الأسئلة القديمة بدلًا من محاولة الوصول بالأفكار المطروحة إلى دلالاتها التالية فهم يبحثون عن معتقدٍ معقلَن، لا عن أشياءَ جديدةٍ يفكِّرون بها.

– حيوية ونشاط الخيال لا يعملان بالإرادة؛ فهما نافورتان لا آلتان، ز. ج. جيمس، الشك والشعر.

– «العقل اللغز»، ليونارد ترولاند، ١٩٢٦: المخ يُترجِم بنشاط الخبرة إلى رموز، تحقيقًا لاحتياجٍ أساسي. إنه يقوم بعمليةٍ مستمرةٍ من تكوين الأفكار.
عن الأغاني والشكولاتة (غرام وانتقام قبل ٤٨):
أسمهان: دخلتُ مرة جنينة، أشم ريحة الزهور، نويت اداري آلامي (صوت الأم المليء)، أنا أهوي.

ليالي الأنس في فيينا.

الماضي المجهول: مين يشتري الورد مني. وانا بنادي واغني، منايا في قربك أشوفك واشوف نفسي جنبك، أنا قلبي خالي والا انشغل بك، يا ما أرق النسيم!
عبد الوهاب: ياللي نويت تهجرني — ما كانش ع البال — يا وابور رايح على فين — راح اقول في عنيك — طول عمري عايش لوحدي.
صباح: توتة توتة أنا إنسية، لا أنا عفريتة ولا أنا جنية.
فريد الأطرش: آدي الربيع عاد من تاني … والفجر هلت أنواره، بأحلى همسة لأحلى وردة فاكرها لسه زي النهارده.
ثومة: نهج البردة.

اللي حبك يا هنايا — ماهي غلطتك. أشرح لمين.

أحلام: يا عطَّارين دلُّوني، هيا إلى المروج.
شافية أحمد: الورد، البوسطجية اشتكوا.
٣ أبريل، ضرب النار. إصابة لويس إسحاق.٣٩ ثم موته. الطمأنينة؟
٩ أبريل.
– الجنازة الصامتة.٤٠ في العصر عند الباب: الهواء رائع والحديقة أمامنا. وخلف الجبل قرص الشمس. دائرةٌ واسعةٌ كاملة صفراء برتقالية وحولها رمادي (الحمير الذين يهاجمون التجريد).
– أقرأ لفرويد. حديثه عن الرموز الجنسية مهم. الطيران.

– في الأحلام: التكثيف: التحام أجزاء وعناصر لا صلة بين بعضها وبعض في الواقع كما في لوحات بُكلن – الأجراس – الصورة البصرية (بترجمةٍ تراجعية).

نهاية اليوميات

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤