فذلكة ختامية

في الرابع من أبريل ١٩٦٤ كان جميع المعتقلين قد أُفرج عنهم. ولم يتبقَّ في الواحات سوى مائة واثنَين من المسجونين الشيوعيين تعرَّضوا لمدة شهر وعدة أيام لحالة من الشد والجذب بين الإفراج والبقاء وراء الأسوار. وأخيرًا تم ترحيلهم إلى سجن أسيوط ثم توزيعهم على سجون المحافظات. ووجدتُ نفسي في سجن بني سويف ثم تجمَّعنا مرةً أخرى في سجن مصر ثم أُفرج عنا.١ وكانت آخر دفعة أُفرج عنها في العاشر من شهر مايو ١٩٦٤ بعد بدء زيارة خروشوف بيوم. ويبدو أنه كان هناك أمرٌ بألا يتبقَّى مسجونٌ واحد داخل الحبس بعد منتصف ليلة ذلك اليوم.
ولا أذكر اليوم المحدَّد الذي تم الإفراج فيه عني، ولعلها كانت الدفعة الأخيرة بسبب الطريقة التي تم بها. إذ عكسَت الصراع الذي كان دائرًا في قمة السلطة بشأن الموقف من الشيوعيين.٢ ولعلها أيضًا كانت حلقة في لعبة الشطرنج الدائرة بين الطرفين؛ فقد أنزلتنا سيارات «الترحيلات» في الطرقات في ساعة متأخرة من الليل بعد التنبيه علينا بتسليم أنفسنا إلى مراكز الشرطة في الصباح لإتمام إجراءات الإفراج وتسجيل العناوين التي ستجرى بها المراقبة القضائية.
قضيتُ الليلة مع آخرين من زملائي في منزلٍ لا أذكر صاحبه بحي القلعة. وفي الصباح توجهتُ إلى قسم شرطة شبرا الذي يقيم أحمد القصير في دائرته. وكنتُ قد اتفقتُ معه على أن تجري مراقبتي القضائية في منزله.
رافقني أحد الجنود من مركز الشرطة إلى منزل القصير. استقبلتنا أخته معتذرة عن عدم قبولي بسبب حضور والدَيها من الريف. فعدتُ إلى مركز الشرطة، وفي المساء ظهر محمد الخياط، الذي قضى اليوم في الطواف على مراكز الشرطة، لإخراج المحتجزين من زملائنا، مستغلًّا أمرَين؛ الارتباك السائد في دوائر الشرطة بسبب الإفراج المفاجئ عن أعدادٍ كبيرة من المعتقلين والمسجونين. والثاني بشرته البيضاء وقامته الطويلة وملابسه الكاجوال وحذاؤه الرياضي وكلها توحي بأنه من رجال المخابرات. وبالفعل نجح في الإفراج عني، ولا أدري أين قضيتُ الليلة، وفي الصباح أسلمتُ نفسي إلى مركز شرطة مصر الجديدة وسجَّلتُ نفسي في بيت إحدى قريباتي. وبعد شهرين — في أول يوليو ١٩٦٤ — استأجرتُ غرفةً مفروشة في أحد منازل مصر الجديدة ظل رجال الشرطة يزورونني فيها كل يوم بعد غروب الشمس حتى صدور العفو الشامل في ديسمبر من نفس العام.

•••

خلال ذلك توالت أحداث الفصل الأخير من الدراما التي بدأَت قبل أكثر من خمس سنوات وانتهت بتصفية الحركة الشيوعية المنظَّمة.

كانت هناك اتصالاتٌ مستمرة بين القيادات السياسية داخل المعتقل وبين عبد الناصر وأعوانه في الخارج. وكان يقوم بدور الوساطة مع حدتو عناصرُ يسارية لم تتعرض للاعتقال بسبب ارتباطاتها السابقة بتنظيم الضباط الأحرار (مثل خالد محيي الدين وأحمد فؤاد ويوسف صديق وأحمد حمروش) أو لأنها ابتعدَت في الخمسينيات عن الارتباط التنظيمي بالشيوعيين. أما بالنسبة لمجموعة «الحزب» فقد تردَّد الحديث عن مكاتباتٍ سرية بين محمد حسنين هيكل وإسماعيل صبري عبد الله. وفي كل هذه الاتصالات كان النظام يطلب شيئًا واحدًا هو حل التنظيمات الشيوعية تمامًا، على أن يُتاح لأعضائها العمل السياسي من خلال الاتحاد الاشتراكي، كما ذكر عبد الناصر في حديثه لإريك رولو في صيف عام ١٩٦٣.
ظلَّت هذه المراسلات تدور في تكتُّمٍ شديد أكثر من عام مع التنظيمَين اللذَين تقاربَت مواقفهما. وعندما انتهت مدة سجن شريف حتاتة وصلاح حافظ لم يتم اعتقالهما كالمألوف (بل سُمح للأول بالسفر إلى الجزائر في زيارة شخصية) ثم أُلحقا بتنظيم «طليعة الاشتراكيين» الذي بدأ عبد الناصر في منتصف عام ١٩٦٣ تكوينه داخل «الاتحاد الاشتراكي» كجزء من لعبة شطرنج معقدة ربما شملَت الاستعداد لمواجهة مع عبد الحكيم عامر، وتدعيم دور الزعيم المصري أمام كلٍّ من الاتحاد السوفييتي والعالم الغربي، والقضاء التام على المنافس المحتمل الذي يجيد العمل في الشارع. لكن الشيوعيين تمسكوا بأنهم لا يمكن أن يتخذوا قرارًا بشأن مصير تنظيماتهم وهم وراء القضبان، أسرى للعزلة والتهديد.
وعندما خرج الشيوعيون إلى الحرية ألفَوا أنفسهم معزولين عن جماهيرهم؛ فقد حقَّقَت الثورة للفئات الشعبية كثيرًا من المكاسب وخلقت كثيرًا من فرص العمل، إلى جانب موقفها الصلب من الاستعمار، وكسبت بذلك الغالبية الساحقة من الجماهير. لقد حقَّقَت كل ما دعا إليه الشيوعيون وأكثر، وتم ذلك في ظل شعاراتٍ يسارية وخطابٍ يعبِّر عن الفهم العلمي للاشتراكية.٣ فماذا يريدون الآن؟
انعكس هذا على التنظيم فأُصيب بحالة تميُّع. والتقطَت السلطة بعض قياداته وألحقتها بالتنظيم الطليعي، ثم مارسَت مجموعة من الضغوط — بمساندة بعض اليساريين — وتوعَّدَت بأنها لا تقبل التعامل مع من يعملون تحت الأرض، فإما حل الحزب أو الصدام الفوري والمباشر.٤

كانت هذه هي الأرضية التي دفعَت الكوادر إلى الاقتناع بإنهاء الشكل المستقل لوجودهم والانضمام إلى التنظيم الرسمي «طليعة الاشتراكيين».

•••

ذكر عيد صالح أحد قيادات حدتو في شهادته لرفعت السعيد:٥ «حضر الرفيق خليل (كمال عبد الحليم)٦ اجتماع لجنة منطقة الإسكندرية، وعندما أحَسَّ أنني وصابر زايد وسيد حسن ومحمد يونس ضد فكرة الحل قال إننا لن نحل الحزب في واقع الأمر وإنما سنتظاهر بالحل لنتخلص من الضغوط ومن العناصر المريبة، وإننا سنُعلِن تفويضه كي يتصل هو بالسلطة ليتفاوض معها ثم نقوم نحن بتجميع أنفسنا في سريةٍ تامة ونبني حزبًا جديدًا.» لكن ما حدث كان شيئًا آخر.
انعقد على عَجلٍ كونفرنس لتنظيم حدتو في ١٤ مارس ١٩٦٥ في بيت يوسف صديق بالهرم لمناقشة إنهاء الوجود المستقل، لم يحضُره كثيرٌ من القادة مثل محمد شطا وزكي مراد وأحمد الرفاعي وشريف حتاتة؛ لأنهم كانوا قد صاروا أعضاء في التنظيم الطليعي.
كان المتفق عليه وجوب استمرار الحزب وعدم إنهاء وجوده إلا في حزبٍ واحد مع المجموعة الاشتراكية على أساس الماركسية اللينينية. لكن النقاش جرى حول أن إنهاء الوجود المستقل يمكن أن يساعد على تحقيق تكوين الحزب الواحد. وفي أغرب حادث من نوعه في تاريخ الأحزاب الشيوعية، اتخذ المجتمعون قرارًا بأن يقتصر وجودهم التنظيمي على المسئول السياسي — كمال عبد الحليم — الذي «سيُجسِّد فكرة حدتو بشأن حزبٍ واحد يضم أعضاءها جنبًا إلى جنب أعضاء التنظيم الطليعي.»
وما إن أقر المجتمعون القرار بالإجماع حتى أعلن كمال عبد الحليم — وقد تجسَّدَت فيه إرادة حدتو — إلغاء الوجود التنظيمي المستقل. وهُرع إلى مكتب تلغراف ليرسل إلى عبد الناصر برقية تقول: «إن أجمل ما نُقدِّمه لك في هذه المناسبة التاريخية (إعادة انتخابه رئيسًا) أن مندوبي الحزب الشيوعي المصري حدتو في اجتماعهم الذي عقدوه اليوم قد قرَّروا فيه إنهاء وجودهم المستقل إيمانًا منهم بما تدعون إليه من وحدة القوى الاشتراكية في تنظيمٍ سياسي واحد للثورة. وبأن هذا الحزب الواحد للثورة وبقيادتكم هو البديل للتنظيم المستقل.» التوقيع: كمال عبد الحليم.
وعقد التنظيم الآخر اجتماعًا مماثلًا في الشهر التالي، قرَّر «إنهاء الشكل المستقل للحزب، وتكليف كافة أعضائه بالتقدُّم كأفراد لطلب عضوية الاتحاد الاشتراكي والنضال من أجل تكوين حزبٍ اشتراكيٍّ واحد يضُم كل القوى الثورية.»٧

•••

توقَّع الجميع أن يتم تنفيذ الوعود. وجرى الاتفاق بين قادة حدتو وكلٍّ من أحمد حمروش وأحمد فؤاد على أن يدخل جميع أعضائها التنظيم الطليعي. وأُعدَّت كشوفات للدمج التنظيمي بين الطرفَين ثم كانت المفاجأة بعد أسبوع؛ فقد تم إبلاغ ممثلي حدتو أنه حدث لبس، ولن يكون هناك دمج أو غيره، وأن التنظيم الطليعي سيُحدِّد العناصر التي سيضُمها إليه.
وكان التنظيم الطليعي نفسه هيكلًا هشًّا يضم بعض الدكاكين الخاصة؛ واحدة لحمروش وأخرى لهيكل وثالثة لشيخ الأزهر وهكذا. وبينما أُعطيَت عضوية الاتحاد الاشتراكي لعددٍ من المثقَّفين الشيوعيين — استُبعد منهم الشقيقان كمال وإبراهيم عبد الحليم — إلا أنها حُجبَت بشكلٍ مطلق عن العمال.
واستمر معتقل القلعة وسجن طرة يستقبلان الشيوعيين تحت دعاوى كثيرةٍ منها «التلسين على النظام»! واعتُقل أيضًا كل من عارض منهم الحل، بل اعتُقل عددٌ من قيادات منظمة الشباب الاشتراكي وأساتذة المعهد العالي للدراسات الاشتراكية سنة ١٩٦٦ بدعوى الترويج للمذهب الماركسي. وفي نفس السنة اعتُقل أيضًا كمال عبد الحليم بسبب اشتراكه في مناقشات حول نتائج قرار إنهاء الوجود المستقل تردَّدَت فيها دعوة إلى استعادته.٨ وساد البلاد جوٌّ بوليسي تسبَّب في نشر السلبية واللامبالاة والعزوف عن النشاط السياسي بين عامة الشعب.

•••

فقد الشيوعيون الرؤية المستقلة ففقدوا البرنامج المستقل، وفقدوا مُبرِّر وجودهم المستقل.

لقد تخيَّلوا أن عبد الناصر يحتاج إلى التعاون معهم للاستفادة من خبرتهم في العمل وسط الجماهير ومن تفانيهم، وأنه سيقتنع بإخلاصهم فيتيح لهم الاشتراك في تطوير البلاد وتحويلها إلى الاشتراكية. كان أقصى ما يطمحون إليه أن يكونوا جنودًا باسلين، لكن عبد الناصر لم يرغب في جنود يمكن أن يتحوَّلوا إلى جنرالات.
وكما قال رفعت السعيد، فإنهم كشفوا عن سذاجة تامة؛ إذ اعتادوا الفصل الغريب بين الحكم وأجهزته، بين عبد الناصر ووزارة الداخلية.
كانوا مجموعةً من المثاليين استمدُّوا تقديرهم لذواتهم من سُمو الأفكار التي آمنوا بها ومن قدرتهم على التضحية في سبيلها. لم يكونوا انقلابيين، وآمنوا بالجماهير وبقدرتها على صنع الأحداث، وسَعَوا دائمًا إلى الالتحام بها وتبنِّي مطالبها.٩ ولم يجعلوا الوصول إلى السلطة هدفًا لهم ففاجأتهم تحولاتها. وكانت لهم أخطاء لأنهم كانوا بشرًا؛ فقد عانت غالبيتهم من عواقب الجمود النظري والتطرف اليساري. لكنهم ضربوا أمثولة في الإصرار والارتفاع فوق الآلام والمصالح الذاتية لدرجة التخلي عن تنظيماتهم وقبول أدوارٍ ثانوية لمصلحة البلاد.١٠ والمضحك أنهم لم يكونوا على هذا المستوى فيما بينهم؛ فلم يتمكَّنوا من الاتحاد؛ إذ عانت قياداتُهم من الانفرادية وتورُّم الذات ووهم امتلاك الحقيقة المطلقة. وهي على أية حال عيوبٌ عانت منها بقية القوى الوطنية العربية.
على أن أهم ما قاموا به هو أنهم جلبوا المنهج العلمي للخطاب الشوفيني الغوغائي الذي ساد الحركة السياسية قبل أن يطلق عبد الناصر ثورته الاجتماعية. فاستحقُّوا مكانًا إلى جوار الزعيم العظيم الذي حدَّد سقفًا للأهداف الوطنية والاجتماعية لم يعُد من الممكن التنازل عنه؛ ولهذا ستظل الظاهرتان، الناصرية والشيوعية، بالرغم من كل المثالب، من الظواهر المضيئة في تاريخنا الحديث.

•••

لم يعُد أحد إلى عمله إلا بعد جهد، فيما عدا الصحفيين المعتقلين الذين استردوا وظائفهم بعد أقل من شهر من الإفراج. ولم يُسمح للمدرسين وأستاذة الجامعات بالعودة إلى أعمالهم السابقة وأُلحقوا بأعمال إدارية. وكان قرار العودة يُشفع عادةً بتوجيهٍ سري يُحذِّر من تولي الشخص أي مسئوليةٍ قيادية. وظلت غالبية العمال بلا عمل لسنوات.١١
وكان «مكتب مصر للترجمة والنشر» قد أغلق أبوابه عقب اعتقالنا. وبعد شهور من الإفراج استُدعيتُ مع آخرين لمكتب في قصر عابدين حيث سُئلتُ عن العمل الذي أودُّ الالتحاق به وعن الراتب الذي أتوقَّعه. وخلال ذلك كنتُ قد قرَّرتُ عدم مواصلة الدراسة والتركيز على الكتابة، ونشرتُ في مجلة «المجلة» عدة عروض كتب وترجمات، ثم وجدتُ عملًا في مكتبة الكتب الأجنبية التي كانت تملكها أرملة شهدي مقابل عشرة جنيهات في الشهر. وفي صيف ١٩٦٥ تركتُ العمل لأذهب إلى منطقة السد العالي مع كمال القلش ورءوف مسعد، حيث قضينا ثلاثة شهور في محاولة لتحقيق حُلم الكتابة عن المشروع العظيم.
وبعد شهورٍ أخرى — في ديسمبر ١٩٦٥ — تلقَّيتُ وثيقة تعيينٍ في مصنع أبو زعبل للشركة الأهلية للصناعات المعدنية بوظيفة «كاتب أ» بشهادة «التوجيهية» (الثانوية العامة) فتجاهلتُها (ولعلي قلتُ لنفسي بعد أن قرأتُ مكان المصنع: تاني!) وبعد فترة استُدعيت مع مجموعة ممن لهم علاقة بالإعلام؛ ابتداءً من عامل الطباعة محمد الزبير إلى إبراهيم عبد الحليم للقاء وزيرها عبد القادر حاتم. في مبنى التليفزيون. وبعد عامَين من الإفراج — في أول يوليو ١٩٦٦ — تسلَّمتُ العمل محررًا بوكالة «أنباء الشرق الأوسط» بمكافأةٍ شهرية مقدارها عشرة جنيهات، رفعها فتحي غانم عندما تولَّى رئاستها إلى عشرين ليتمكَّن أيضًا من زيادة مكافأة محمد يوسف الجندي الذي عُيِّن معي والذي تربطه — أي فتحي غانم — علاقةٌ وثيقة بأُسرته.

•••

انقطعَت صلتي التنظيمية بحدتو منذ لحظة الإفراج دون قرار منها أو مني؛ فلم يسعَ أحدٌ منا إلى الآخر. وفيما بعدُ لم أشترك لا في الاتحاد الاشتراكي أو التنظيم الطليعي، ولا حضرتُ أيًّا من ندوات لجنة الفكر والدعوة التي رأسَها كمال رفعت ونائبه محمد نصير. لم يدعُني أحد لشيءٍ من ذلك؛ فلم أكن بذي شأن. كما كانت لي أجندتي الخاصة.
ففي غرفة مصر الجديدة والغرف التي تلَتها كنت أتدبَّر أكبر مغامرة قمتُ بها في حياتي، وهي أن أكون كاتبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤