الفصل الرابع

تحسين مسار عملية الشراء

أهمية واجهة اتخاذ القرار

سننتقل إلى الخطوة التالية في رحلتنا مع نظام الطيار الآلي. إن الاعتقاد الشائع في التسويق هو أنه من أجل تغيير السلوك، من الضروري أولًا تغيير المواقف. يبين هذا الفصل خطأَ هذا الاعتقاد ويوضح التأثير العميق ﻟ «واجهة اتخاذ القرار» على السلوك. سنحدد قواعد اتخاذ القرار الضمنية الأساسية ونستكشف كيف نستفيد منها على النحو الأمثل في التسويق.

تأثير واجهات اتخاذ القرار على قرارات الشراء: نظرة على مقاصف المدارس والشركات

تخيل أنك مدير مدرسة وأنك مهتم بصحة طلابك، وترغب في تحسين عاداتهم الغذائية وتقليل السعرات الحرارية التي يستهلكونها؛ ما أفضل طريقة لتحقيق ذلك؟ قد تفكر في إطلاق حملة «إعلانية» داخلية لإعلام الطلاب بمزايا الأكل الصحي وإخبارهم بالآثار السلبية للحصول على الأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية. أثبتت العديد من الدراسات في مجال علم النفس الصحي أن مثل تلك الحملات قد تغير في واقع الأمر من المواقف تجاه الأطعمة العالية السعرات، وقد تساعد أيضًا في زيادة رغبة الناس في تناول أطعمة صحية أكثر، لكن تلك الدراسات نفسها ذكرت أيضًا أن التأثير الناتج عن تلك الحملات على السلوك الفعلي لا يذكر.

ربما جربنا كلنا هذا بأنفسنا. لو أننا تصرفنا بناءً على نياتنا، فإن أعدادًا أقل بكثير ستدخن، وسيكون مؤشر كتلة الجسم الذي يتجاوز ٢٥ نادرًا. ومن ثمَّ، باعتبارك مديرًا للمدرسة، ستكون خطوتك التالية هي اتخاذ إجراءات مباشرة أكثر وذات مستوى حسم أعلى بشأن مقصف المدرسة، مثل تقديم الأطعمة الصحية فقط أو منع أي أطعمة غير صحية. لكن قد لا يكون لهذا سوى تأثير محدود؛ حيث إننا لن نستطيع منع الطلاب من الخروج من المدرسة والأكل في مكان آخر؛ على سبيل المثال، إلى متجر سندوتشات الهمبورجر غير الصحية الموجود على الجانب الآخر من الطريق؛ إذن، ما الخيارات الأخرى المتاحة أمامك؟

تناول برايان وانسينك، أستاذ السلوك الاستهلاكي في جامعة كورنيل ومؤلف الكتاب الأكثر بيعًا «الأكل دون وعي: لماذا نأكل أكثر مما نفكر؟» (٢٠٠٦) هذا الموضوع بطريقة مختلفة جدًّا. في تجربته، لم يغير أي عناصر في قائمة الطعام، لكنه غيَّر فقط طريقة ترتيب المقصف وعرض المنتجات. بعبارة أخرى، لم يغير الأشياء التي كانت معروضة، وإنما غيَّر الكيفية التي كانت تُعرض بها؛ أيْ غير واجهة اتخاذ القرار. فيما يلي بعض الأمثلة على عمليات إعادة الترتيب التي قام بها وتأثيراتها على اختيار الأطعمة (انظر شكل ٤-١):
fig48
شكل ٤-١: رسم توضيحي يبرز بعضًا من التغييرات التي تم إدخالها في تجربة المقصف الخاصة بوانسينك.
  • تم نقل البروكلي إلى بداية خط العرض؛ مما زاد من معدل تناوله بنسبة تتراوح بين ١٠ إلى ١٥ بالمائة.

  • تم وضع التفاح والبرتقال في حاوية جذابة بدلًا من وعاء من الفولاذ المقاوم للصدأ؛ مما أدى لزيادة مبيعاتهما لأكثر من الضعف.

  • تم تغيير الغطاء الشفاف لثلاجة الآيس كريم إلى غطاء غير شفاف، مما قلل نسبة الطلاب الذين اختاروا الآيس كريم من ٣٠ إلى ١٤ بالمائة.

  • تم تضمين أطعمة صحية للتحلية (الفاكهة) ضمن ثمن الوجبة، مع الإلزام بالدفع على نحو منفصل من أجل الحصول على حلوى غير صحية مثل الكعك، مما أدى إلى زيادة نسبة تناول الفاكهة بمعدل ٧١ بالمائة وتقليل نسبة تناول الكعك بمعدل ٥٥ بالمائة.

  • تم نقل اللبن الممزوج بالكاكاو خلف اللبن السادة، مما جعل من الصعب على الطلاب الوصول إليه دون طلب المساعدة؛ وهذا أدى إلى زيادة عدد الطلاب الذين اختاروا اللبن السادة.

  • تم تغيير مكان طاولة السلطات ووضعها بعيدًا عن الحائط أمام ماكينة الدفع، وهذا زاد مبيعاتها بنحو ثلاثة أضعاف.

أدت تلك التغييرات في المجمل إلى انخفاض كبير في كمية السعرات الحرارية التي يستهلكها الطلاب، إلى جانب وجود مكونات أكثر صحية في المجمل في الغداء الذي كانوا يحصلون عليه، هذا كله بالرغم من حقيقة أن الطلاب لم يكونوا مدركين بحدوث أي تغيير في المقصف. لكن بمجرد عكس تلك التغييرات، عادت السلوكيات القديمة في تناول الطعام مرة أخرى.

كيف يمكن لتلك التغييرات التي تبدو بسيطة وتافهة في واجهة اتخاذ القرار — أيْ مكان وضع الأشياء وإمكانية رؤيتها والتكلفة السلوكية للحصول عليها وغير ذلك — أن يكون لها تأثير كبير على قرارات الشراء؟ ولماذا يشتري الطلاب المزيد من البروكلي عندما يكون الاختلاف الوحيد عن الترتيب المعتاد هو تغيير في واجهة اتخاذ القرار؛ أيْ وضعه في بداية العرض؟ ما المبادئ الأساسية التي تقف وراء ذلك؟

بالنسبة إلى البروكلي، كان التغيير يعني أنه تم عرضه في مرحلة مبكرة من عملية الاختيار؛ من ثَمَّ، فالسياق التحفيزي الذي يكون فيه الطلاب عندما يدخلون إلى المقصف مهم. من المعقول الافتراض بأنهم يشعرون بالجوع، وهذا يعد بمنزلة دافع داخلي لنظام الطيار الآلي للبحث عن خيارات تتناسب مع هدفهم الخاص بسد جوعهم؛ من ثَمَّ، أول نوع من الطعام يرونه في هذا السياق تكون له قيمة كبيرة بالنسبة إليهم؛ ومن ثَمَّ، فالقيمة المدركة للبروكلي ستكون أعلى بكثير عندما يكون لديهم طبق فارغ أكثر مما لو كان طبقهم ممتلئًا جدًّا بالفعل بقطع اللحم والبطاطس المقلية، كما كان الوضع في ترتيب المقصف القديم. فمع وجود طبق ممتلئ، سيكون لدى الطلاب بالفعل شعور عقلي بالشبع؛ الأمر الذي سيقلل القيمة المدركة لأي نوع طعام يأتي في مرحلة لاحقة من عملية اتخاذ القرار الخاصة بهم. فعندما نكون جوعى، فالأرجح أننا سنقوم بملء طبقنا بأول نوع طعام يحل تلك المشكلة؛ مما يعطي مساحة أقل لأنواع الطعام التالية التي سنختارها بعد ذلك.

إن وضع البرتقال في وعاء فاكهة جذاب يقوم بتأطير الفاكهة على نحو مختلف؛ ومن ثَمَّ، يزيد من قيمتها المدركة بالطريقة نفسها التي تفعلها العبوة أو الغلاف، فستبدو أطيب مذاقًا وأعلى قيمة. ويعوق تأثير وضع الغطاء غير الشفاف على ثلاجة الآيس كريم الخطوة الأولى في عملية اتخاذ القرار؛ ألا وهي: الإدراك. فهو يمنع إدراك الإشارة الخاصة بالآيس كريم؛ وهذا من ثَمَّ ببساطة لا يحفز فكرة الحصول على آيس كريم (رغم تحقيقها لمتعة عالية). ربما مررنا جميعًا بتجربة مثل هذه عندما نكون مصطفين عند ماكينة الدفع؛ فالرغبة في الحصول على قطعة شوكولاتة أثناء الانتظار تتم إثارتها فقط عن طريق رؤية القطعة. ومن دون تلك الإشارة، فإن رغبتنا لن تُثار؛ وحقًّا تنطبق هنا المقولة: البعيد عن العين، بعيد عن الخاطر.

ينطبق المبدأ نفسه في مثال اللبن وتغيير مكان وضعه. فإن وضع اللبن السادة أمام اللبن الممزوج بالكاكاو يعوق معالجة إشارة الشوكولاتة، وينتج عنه أيضًا الحاجة لطلب المساعدة من العاملين في المقصف كي يعطوه لك، وهو أمر له تكلفة سلوكية إضافية مزعجة، خاصة مع وجود طلاب آخرين خلفك؛ حيث إن هذا الموقف يضعك تحت ضغط في الوقت. تكون النتيجة اختيار الطلاب للَّبن السادة لأنه أسهل في الوصول إليه؛ أيْ إن له تكلفة سلوكية أقل.

بالنسبة إلى الكعك، يكون على الطلاب دفع السعر نفسه مقابل الكعك سواء اشتروه على نحو منفصل أو باعتباره جزءًا من «صفقة الوجبة» ككل. لكن فيما يتعلق بالإدراك، فإن هاتين الطريقتين للدفع مختلفتان تمامًا؛ ففي حالة دفع ثمن الكعك ضمن صفقة الوجبة، فإن سعر الكعك على وجه الخصوص لا يتم إدراكه في لحظة الشراء. يعرف الطلاب أن له سعرًا معينًا، لكن لا توجد إشارة يمكن إدراكها تشير على نحو الدقة للسعر؛ لذا، فإن التكلفة المدركة قليلة. أما دفع ثمن الكعك على نحو منفصل، فيجعل السعر واضحًا؛ وهذا يجعل الألم ملموسًا؛ مما يزيد من التكلفة المدركة. والنتيجة هي ضبط توازن معادلة القيمة والتكلفة بحيث يقل احتمال شراء الكعك.

في أوائل عام ٢٠١٢، تَبنَّت شركة جوجل نهجًا مماثلًا في المقاصف الداخلية الخاصة بها. دعونا نلقِ نظرة على بعض الأمثلة للخطوات التي قامت بها:
  • لم تعد الحلوى موجودة في أوعية معلقة شفافة، وإنما يكون عليك الحصول عليها من أوعية غير شفافة في أماكن أقل وضوحًا؛ مما أدى إلى انخفاض في معدل السعرات الحرارية الذي يستهلكه الموظفون بنسبة ٩ بالمائة في أسبوع واحد فقط.

  • حيث إن الموظفين يميلون لملء أطباقهم بما يرونه أولًا، فإن أول شيء تراه عند دخول الكافيتريا هي طاولة السلطات.

  • تم إعطاء ملصقات ملونة للخيارات؛ فالخضراوات لها ملصقات خضراء، وأغلب الحلويات لها ملصقات حمراء؛ مما جعل هناك إشارات واضحة لأي من الخيارات صحي وأيها غير صحي.

  • في السابق، كان الماء يحصل عليه من الصنبور، في حين كانت علب الصودا موضوعة في الثلاجة. أما الآن، فزجاجات الماء المعبأة موجودة عند مستوى العين في الثلاجة، في حين أن علب الصودا تم وضعها في الجزء السفلي منها. هذا التغيير في المواضع زاد نسبة الحصول على الماء بنحو ٤٧ بالمائة.

نقاط التشابه بين تجربة شركة جوجل وتجربة وانسينك واضحة، وتأثير التغييرات التي تم إدخالها واضح في الحالتين. إن المبدأ القائل بأن السلوك يتأثر بشدة بواجهة اتخاذ القرار ينطبق حتى على خبراء التغذية، وذلك كما توضح دراسة أخرى قام بها برايان وانسينك. كان الخبراء يحضرون حفلًا قائمًا على الآيس كريم للاحتفاء بنجاح أحدهم. تم إعطاؤهم على نحو عشوائي عبوة تقديم صغيرة أو كبيرة ومغرفة آيس كريم صغيرة أو كبيرة. ومع أنهم خبراء في التغذية، عندما تم إعطاؤهم عبوة تقديم كبيرة، قاموا بملئها لأنفسهم بآيس كريم أكثر بنسبة ٣١ بالمائة دون أن يدركوا هذا. زادت الكمية التي حصلوا عليها من الآيس كريم بنسبة ١٤ بالمائة عندما تم إعطاؤهم مغرفة تقديم أكبر.

ما توضحه تلك الأمثلة ليس مقصورًا على تناول الطعام، فهو يشير لنتيجة عامة وأساسية خاصة بعلم اتخاذ القرار، وهي أن القرارات تتأثر بشدة؛ ليس فقط بالشيء الذي يتم تقديمه، ولكن بدرجة كبيرة بالكيفية التي يتم تقديمه بها. لم تكن النظرية الاقتصادية الكلاسيكية قادرة على تفسير تلك التأثيرات لأن القيمة والتكاليف الموضوعية لعناصر وجبة الغداء لم تتغير. فالبروكلي لم يتغير، سواء تم وضعه في بداية العرض أو في وسطه.

***

يتأثر إدراك القيمة وعملية اتخاذ القرار ليس فقط بما يتم تقديمه وإنما أيضًا بطريقة تقديمه.

تغيير الواجهات للسلوك دون تغيير المواقف

إن تغيير المواقف من أجل تغيير السلوك هو من أهم الاعتقادات التي طالما اعتمدنا عليها في عملنا باعتبارنا مسوقين. إننا نعتقد أن من هم ليسوا بعملائنا لا يعرفون الكثير عن منتجاتنا؛ ومن ثَمَّ، نحن نحاول إقناعهم بشراء تلك المنتجات بإخبارهم بما نعتقد أنه المهم، ونحاول إثارة موقف إيجابي بإنتاج إعلانات تليفزيونية ممتعة، آملين أن ينعكس التأثير الإيجابي (من خلال الشعور النفسي الذي يمرون به) الذي ينتج عن مشاهدة الإعلان بالإيجاب على مواقفهم تجاه العلامة التجارية. تقدم الطرق الشائع استخدامها في مرحلة الاختبار السابقة لطرح المنتجات أدلة قوية على سيادة الاعتقاد بأن السلوك يعتمد على المواقف فقط؛ فنحن نقيس في الغالب نيات ومواقف المشاركين المعلنة، ونقيِّم ما يقدمه المنتج أو العبوة أو الإعلان عن صورة العلامة التجارية، ويتم تحديد فاعلية عنصر الاختبار من خلال ما إذا كان المستهلكون يبدون مواقف إيجابية تجاهه أم لا. يكون التركيز بالأساس على الشخص لا السياق الذي يتخذ فيه هذا الشخص القرار. ويكون الافتراض هو أننا بحاجة لتزويد من هم ليسوا بعملائنا بمعلومات وحجج مقنعة حتى يغيروا مواقفهم تجاه منتجنا وعلامتنا التجارية؛ الأمر الذي سيؤدي إلى تغيير مقابل في سلوك الشراء.

هذا النهج بالتأكيد ليس خاطئًا، وسنلقي نظرة على جانب الفرد من المعادلة في الفصل القادم، لكنه ليس كاملًا على الإطلاق. لقد تعرفنا بالفعل على الحقيقة التي تقول إن أي سلوك هو تفاعل بين العوامل الموقفية والخارجية من جهة، والعوامل الشخصية والداخلية من جهة أخرى. يوضح مثال المقصف السابق أن عملية اتخاذ القرار لا تعتمد على المواقف والنيات، وإنما على التجربة المادية الإدراكية في اللحظة والسياق الموقفي اللذين اتُّخذ فيهما القرار. إن حقيقة أن الإشارات المحيطية والملموسة والتبعات السلوكية الدقيقة تؤثر على قرارات الشراء تثير نقطة أخرى جوهرية أكثر؛ وهي أن القرارات لا تقوم فقط على المواقف؛ من ثَمَّ، فإن أي تغيير في السلوك لا يجب أن يسبقه تغيير في المواقف؛ فاختيارات الناس يمكن أن تتأثر بحدوث تغيير في «واجهة اتخاذ القرار»؛ ومن ثَمَّ، السياق الذي يحدد الخصائص القابلة للإدراك للَّحظة التي يتم فيها اتخاذ القرار.

من أهم مبادئ الاقتصاد السلوكي أنه يمكن تغيير السلوك من دون تغيير المواقف. وهذا المبدأ من العمق ما جعل الحكومتين البريطانية والأمريكية تنشئان الآن وحدات للاستفادة من تلك المعرفة في المجالات المختلفة للسياسة العامة، وهما تستخدمانها لفهم قرارات المواطنين والتأثير فيها على نحو أفضل في مجال استهلاك الطاقة والرعاية الصحية والجريمة وسلامة الطرق. باستخدام لافتات الطرق التي تُظهر سرعة السيارة القادمة عند اقترابها منها، أضافت السلطات المحلية إشارة أخرى للسرعة نفسها: جهازًا على هيئة وجه مبتسم. هكذا، عندما يقود شخص سيارته باتجاه الإشارة في حدود السرعة المقررة، سيظهر له وجه مبتسم (انظر شكل ٤-٢)، لكن إذا كان يقود بسرعة كبيرة جدًّا، فسيظهر له وجه عابس. تزيد تلك الإشارات من عدد السائقين الذين يلتزمون بقواعد المرور؛ ومن ثَمَّ تقلل بشدة من عدد الحوادث. إن تلك الإشارة كانت أكثر فاعلية حتى من كاميرات مراقبة السرعة التقليدية، إلى جانب توفير كبير في التكلفة.
fig49
شكل ٤-٢: تؤدي الإشارات لتغيير في السلوك.

يرجع التأثير الذي أحدثه شكل الوجه المبتسم إلى أنه قدَّم معنًى للسرعة المعروضة فيه؛ حيث إن أي عدد معروض من دون مرجعية يكون من الصعب بالنسبة إلى نظام الطيار الآلي فهمه. كما أن تفوقه على الحلول التقليدية يرجع إلى أن الاستجابة الفورية تُحدث تغييرًا في السلوك على نحو أقوى من استقبال إخطار بغرامة بعد أسابيع أو شهور. إن الوجه العابس يخاطب على نحو مباشر نظام الطيار الآلي خاصتنا، ويُعْلمنا بتجاوزنا للسرعة المقررة في اللحظة التي نحتاج فيها لاتخاذ القرار. وعلى عكس أي غرامة سندفعها لاحقًا، فإن إشارة الوجه العابس تكون ملموسة في اللحظة التي يتخذ فيها القرار.

***

تؤثر الواجهة على عملية اتخاذ القرار وعملية الشراء دون حدوث تغيير مسبق في مواقف المستهلكين. وهذا يزوِّد المسوِّقين بنهج إضافي للتأثير على سلوك المستهلكين، يتجاوز النهج السائد الذي يقوم على ضرورة تغيير المواقف أولًا.

***

إن القرب من لحظة اتخاذ القرار عامل مهم بالنسبة إلى الإشارات حتى تؤثر على السلوك. إذا نظرنا لأحد أمثلة التسويق الشهيرة، وهي العروض الترويجية، فسنجد أنها مؤهلة على نحو مثالي لإحداث تلك التأثيرات؛ حيث إن الواجهة تتكون على نحو مباشر عندما يتم اتخاذ القرار. في دراسة، بَحَثَ العلماء تأثير العروض الترويجية المختلفة على مبيعات قطع شوكولاتة سنيكرز. تَمثَّل العرض الأول فقط في دعوة للفعل (مثل: «اشترِ بعض القطع لثلاجتك»)، والذي نتج عنه متوسط مبيعات قدره ١٫٤ قطعة. ثم غيروا العرض الترويجي وأضافوا إليه مرساة سلوكية على النحو التالي: «اشترِ ١٨ قطعة لثلاجتك.» قد يبدو هذا سخيفًا، لكن التأثير كان عظيمًا. وكان متوسط عدد القطع التي بيعت هذه المرة هو ٢٫٦. لم يتم تخفيض السعر في كلتا الحالتين، لكن بإضافة عدد أعلى باعتباره مرساة ملموسة وقابلة للإدراك، استطاعوا تقريبًا مضاعفة المبيعات؛ دون وجود خطوة سابقة تتضمن تغيير المواقف.

من المجالات التي تكون تلك الرؤى مفيدة فيها على نحو خاص مجال الوسائط التفاعلية، فيكاد يكون من المستحيل كتابة استراتيجية علامة تجارية هذه الأيام دون تضمين وسائط التواصل الاجتماعي والوسائط التفاعلية ومواقع الجيل الثاني للويب. في العديد من وثائق الاستراتيجيات، يمثل العالم التفاعلي امتدادًا للتنفيذ المتكامل لأي حملة إعلانية؛ فعند إطلاق أي إعلان تليفزيوني جديد، يتم إنشاء صفحة على الفيسبوك وقناة على اليوتيوب له. ويمكننا الآن من منظور الاقتصاد السلوكي التمييز بين أدوار نقاط التفاعل بدقة أكبر حتى يمكننا الاستفادة منها بالطريقة المثلى.

تخيل أنك بانتظار قدوم القطار وتنظر إلى أحد الملصقات، كيف يمكن أن نحول نقطة التفاعل السلبية هذه إلى أخرى تفاعلية؟ تستخدم تيسكو في كوريا وبيبود في شيكاجو لوحات إعلانية تفاعلية بمنزلة أرفف افتراضية؛ حيث يمكن للمستهلكين تقديم طلبهم باستخدام الهواتف الذكية أثناء انتظار القطار بحيث يمكنهم لاحقًا الحصول على طلبهم من المتجر.

يوفر الانتشار الواسع للوسائط التفاعلية في الوقت الحالي للمسوقين واجهات اتخاذ قرار أكثر من ذي قبل؛ مما يتيح فرصًا للاقتراب من لحظة اتخاذ القرار. إن تلك القدرة على الاقتراب من لحظة اتخاذ القرار يؤهل الوسائط التفاعلية كي تُوجد قيمة مدركة و/أو تقلل القيمة المدركة في عملية اتخاذ قرار الشراء، أو حتى لإنشاء واجهات اتخاذ قرار جديدة تمامًا. إن التطبيق الذي يسمَّى سولرتشيكر الذي تنتجه شركة إس إم إيه الذي عرضنا له من قبلُ مثالٌ على نقطة تفاعل جديدة في عملية اتخاذ القرار لم يكن بإمكان العلامة التجارية الاستفادة منها قبل ذلك. ومثال آخر على هذا يقدمه بنك ويستباك؛ فبإلهام من إحدى محاضرات «التكنولوجيا والترفيه والتصميم» التي ألقاها روري ساذرلاند، أراد القائمون على البنك تشجيع عملائهم على توفير المزيد من المال، وكانت فكرتهم هي تمكين الناس من إبداء نفس السلوك الاندفاعي عند التوفير الذي يبدونه عند شراء الأشياء؛ فدائمًا ما يكون لدى الناس نية التوفير، لكنهم ببساطة لا يفعلون هذا لأن التكلفة السلوكية تمنعهم من ذلك؛ إذ يبدو أن الذهاب للبنك أو الاتصال به لإجراء المعاملة أو حتى القيام بها عبر الإنترنت مهمة تحتاج لجهد كبير. لذا، ابتكر البنك تطبيقًا على الهاتف المحمول يسمَّى إمبالس سيفار، يمكن للعملاء من خلاله تحويل قدر محدد من المال عبر حسابهم الحالي إلى حسابهم التوفيري فقط عن طريق الضغط على زر افتراضي أحمر كبير في هاتفهم (انظر شكل ٤-٣).
fig50
شكل ٤-٣: ما عليك إلا الضغط لكي تقوم بالتوفير.

إن هذا التطبيق أكثر من مجرد نقطة تفاعل إضافية عبر الهاتف المحمول؛ فهو ينشئ واجهة اتخاذ قرار جديدة. إنه يتيح للعملاء التصرف بالتوافق مع نيتهم على نحو مباشر وفي نفس لحظة اتخاذ القرار بتقليل التكاليف السلوكية. فلا حاجة للذهاب لأحد فروع البنك أو الاتصال به أو الانتظار حتى تقوم بمعاملة بنكية عبر الإنترنت. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمبالغ التي توفِّرها أن تكون صغيرة جدًّا؛ الأمر الذي ينتج عنه أن «الألم» الذي يشعر به العميل في كل معاملة سيكون أقل. فلن يقلق أحد من القيادة للذهاب للبنك ثم يكون عليه استيفاء نموذج فقط ليحول جنيهين استرلينيين من حساب لآخر، أو قضاء ١٠ دقائق على الإنترنت للقيام بنفس الشيء؛ لذا، كان سر نجاح الواجهة هو وجودها في لحظة اتخاذ قرار القيام بعملية التوفير، مما مكننا من التوفير على نحو اندفاعي.

***

توفِّر التطورات الحديثة في مجال الوسائط التفاعلية واجهات فعالة تكون موجودة في لحظة اتخاذ القرارات. ويسمح لنا هذا بإنشاء واجهات اتخاذ قرار جديدة ومبتكرة مع المستهلكين.

***

لقد أوضحت الأمثلة التي عرضناها حتى الآن أن سلوك المستهلكين يمكن أن يتأثر دون تغيير مواقفهم. لكن هناك تحول آخر مهم في هذا المجال الجديد المليء بالفرص؛ فالقرارات لا تتأثر فحسب بالواجهة، لكن الأفعال الناتجة يمكن بدورها أن تغير المواقف. يطلق دان آريلي على هذا «سلوك القطيع الذاتي»؛ عندما نعتقد أن شيئًا ما جيد (أو سيئ) على أساس سلوكنا السابق. وفي كتابه «لاعقلانية متوقعة» الذي نشر في عام ٢٠١٠، قدم آريلي المثال التالي:

تَخيَّلْ أن شيئًا حَدَثَ جعلك تشعر بالسعادة والفخر؛ لنقُل، فاز فريقك المفضل ببطولة دوري البيسبول. في تلك الليلة، دُعيتَ لتناول العشاء في منزل حماتك، وقبل أن تذهب إليها وبينما أنت في تلك الحالة المزاجية الرائعة، قررتَ دون تفكير أن تشتري لها ورودًا. بعد شهر، خَفَتَ الشعور بالانتصار العظيم، وأيضًا قلَّت النقود في محفظتك، وحان وقت زيارتك من جديد لحماتك في منزلها. تُفكِّر في السلوك الأمثل للصهر الطيب، تستشير ذاكرتك وتتذكر تصرفك الرائع الذي قمتَ فيه بشراء طاقة ورد لحماتك في زيارتك السابقة؛ لهذا كررتَ نفس السلوك، ثم أخذت تكرر نفس الشيء أكثر من مرة حتى أصبحت عادة (وبوجه عام، هذه ليست بعادة سيئة عليك التخلص منها). حتى إذا كان السبب الأساسي لتصرفك الأول (الفرح بسبب انتصار فريقك) لم يعد موجودًا، فقد اتخذت الأفعال السابقة باعتبارها مؤشرًا لما يجب أن تفعله بعد ذلك ونوع الصهر الذي يجب أن تكون عليه (الصهر الذي يشتري لحماته ورودًا). بهذه الطريقة، انتهى الأمر بتأثيرات الشعور الأولى أن تؤثر على سلسلة طويلة من القرارات.

إن سلوك القطيع الذاتي هو أننا، بدلًا من تقليد ما يقوم به مجموعة كبيرة من الناس موجودة في مكان عام، نعود لأفعالنا السابقة التي قمنا بها في الماضي لإرشادنا على نحو ضمني في سلوكنا الحالي. تؤثر العوامل الموقفية المحيطية على قراراتنا؛ تأمل المثال الذي عرضناه قبل ذلك عندما زاد تناول الطلاب للبروكلي بسبب وجوده في بداية عرض الأطعمة في المقصف. هذا القرار سيشكل بدوره مواقفهم تجاه البروكلي، وفي المرة التالية الذي يختارونه فيه، سيقدرونه على نحو أكبر فقط لأنهم اختاروه في المرة السابقة. وبإنشاء واجهة اتخاذ قرار جديدة وأكثر سهولة، سيكون هناك معدل تفاعل أكبر مع العلامة التجارية أو المنتَج؛ الأمر الذي يؤدي لتحسن في موقفنا تجاهه؛ لأنه كلما تكرر استخدامنا لشيء، زاد تقديرنا له. فيما يتعلق بالعلامات التجارية الخاصة بالخدمات على وجه الخصوص حيث تكون القيمة المقدمة في الغالب غير ملموسة ويكون معدل تكرار التفاعل معها منخفضًا، توفِّر تلك الأدوات التسويقية فرصة عظيمة.

يمكننا إدراك هذا التأثير في الأبحاث الخاصة بصورة العلامة التجارية أيضًا؛ إذ أَظْهَرَ المستهلكون مواقف إيجابية أكبر تجاه العلامات التجارية القوية التي استخدموها على الأقل بضع مرات في حياتهم. إن تغيير المواقف هو نتيجة قرارات الشراء، والأفعال لا تكشف فقط عن التفضيلات وإنما أيضًا توجدها. ومن منطلق هذا المنظور الذي يرى أن «المواقف تنتج عن الأفعال»، فإن الأفعال يمكن أن توجِد التفضيلات والذكريات المتحيزة، وهي توجدها بالفعل، ثم تعززها؛ ومن ثَمَّ، بمجرد أن يبدأ الطلاب في أكل البروكلي لأنه يوجد في بداية العرض في المقصف المدرسي، فإن موقفهم تجاهه سيتغير في النهاية للأفضل. إن مردود ذلك بالنسبة إلى التسويق هو أن زيادة معدل التجربة مهم لتغيير المواقف؛ فزيادة الاختراق وسيلة للتأثير على الموقف تجاه العلامة التجارية.

***

إن زيادة معدل التجربة (أي الاختراق) وسيلة للتأثير على الموقف تجاه العلامة التجارية؛ لأن السلوك يؤدي إلى تغيير في الموقف. مرة أخرى، يعد هذا بديلًا جديدًا وفعالًا للاعتقاد التقليدي القائل بأن تغيير السلوك يحتاج لتغيير المواقف أولًا.

***

إن واجهات اتخاذ القرار مهمة جدًّا، لكنها عادة لا تحصل على الاهتمام الذي تستحقه. إننا عادةً لا نحدد واجهات وسياقات بعينها لتكون بمنزلة عوامل محركة لعمليات الشراء؛ لذلك فهي لا تحظى باهتمام كبير من قِبل الإدارة. لكن تطبيق المنظور الضمني للقيمة والتكلفة المدرَكتين في كل خطوة في عملية الشراء يمكن أن يكشف عن فرص جديدة لزيادة المبيعات. ويمكن أن تكون تلك الفرص مصدرًا مهمًّا للتقدم إذا تم تحسينها من خلال الرؤى التي يقدمها لنا علم النفس بوجه عام وعلم الاقتصاد السلوكي بوجه خاص. إن هذا النهج للتغيير السلوكي مكمل لذلك الذي يركز على الفرد وأهدافه أو مواقفه، وميزته الأساسية تكمن في تحسين مسار عملية الشراء؛ أيْ زيادة القيمة المدركة و/أو تقليل العوائق المدركة؛ لذا، دعونا نلقِ نظرة على واجهات التسويق التي يمكن أن تستفيد من علم الاقتصاد السلوكي. وخلال هذا التناول، سنتعرف على المواقف الذي يتفاعل فيها المستهلك على نحو مباشر أو يحتاج للاستجابة أو اتخاذ قرار في لحظة معينة.

الابتكارات التراكمية العالية التأثير

في التسويق، نبحث باستمرار عن فرص للحصول على ميزة تنافسية على منافسينا عن طريق تطوير منتجات جديدة وإدخال سمات جديدة في منتجاتنا الحالية وتحسين جودتها. هذا، بالطبع، أمر لا غنى عنه. لكن ما عرضناه للتوِّ يشير إلى أن هناك فرصة كبيرة للحصول على ميزة تنافسية بتحسين واجهة اتخاذ القرار عبر تغيير أمور بسيطة بتكلفة منخفضة. والتأثير يمكن أن يكون غير متناسب على نحو كبير مع الاستثمار المطلوب. في تقرير المعهد البريطاني للحكومة ومكتب مجلس الوزراء عن المنهج المعتمد على مبادئ علم الاقتصاد السلوكي في صنع السياسات، كتب واضعوه يقولون:

يمكن للمناهج المعتمدة على «تغيير السياقات» — البيئة التي نتخذ فيها القرارات ونستجيب فيها للإشارات — أن تُحْدث تغييرات مهمة في السلوك بتكلفة منخفضة نسبيًّا. ويوفر تشكيل السياسات اعتمادًا على نحو أكبر على استجاباتنا الداخلية للعالم طريقةً ربما تكون فعالة في زيادة رفاهية الفرد وسعادة المجتمع.

لا يحتاج الأمر لقدر كبير من التخيل لنرى أن نفس النتيجة تنطبق أيضًا على التسويق. إذا نسجنا أنشطتنا التسويقية اعتمادًا على نحو أكبر على استجابات المستهلكين الفطرية للعالم، فسنحقق نجاحًا أكبر، وتكون لدينا أداة إضافية تُمكِّنُنا من تحقيق مبيعات أكبر؛ لذا، دعونا نلقِ مزيدًا من الضوء على الكيفية التي يمكن أن يفيدنا بها هذا. أجرى العلماء تجربة ميدانية على مغسلة للسيارات وعملائها مستخدمي «بطاقات الولاء» باعتبارها واجهة اتخاذ القرار. يتم لصق طابع بالبطاقة في كل مرة يستخدم فيها العميل المغسلة، ويمكنه تجميع الطوابع للحصول على مرة غسيل مجانية لسيارته. احتاج نصف من كانوا في قاعدة العملاء إلى عشرة طوابع كي يحصلوا على مرة غسيل مجانية. وكهدية بسيطة، كانت البطاقة بها طابعان؛ أيْ كانت هناك حاجة لثماني مرات غسيل أخرى للحصول على مرة غسيل مجانية. أما نصف قاعدة العملاء الأخرى، فحصلوا على بطاقة مماثلة جدًّا، فيما عدا أنه لم تكن هناك أي طوابع «مجانية» في البداية، وكان مطلوبًا فقط ثمانية طوابع بدلًا من عشرة (انظر شكل ٤-٤)؛ لذا، من الناحية الموضوعية، كان على المجموعتين القيام بثماني مرات غسيل للسيارة للحصول على مرة غسيل مجانية.
fig51
شكل ٤-٤: أدت البطاقة التي بها طابعان لمبيعات تمثل ضعفَي مبيعات البطاقة الأخرى.

قد نعتقد أن البطاقتين ستؤديان لنفس النتيجة؛ حيث إن المجموعتين لديهما مكافأة مماثلة معروضة عليهما، وأن كليهما عليه الدفع من أجل الحصول على ثماني مرات غسيل للسيارة حتى يحصل على تلك المكافأة. لكن حدث شيء مختلف تمامًا في الواقع؛ إذ وجد العلماء أن العملاء الذين حصلوا على بطاقات بها طابعان مجانيان زاد احتمال حصولهم على مرات الغسيل الثماني الإضافية بمقدار الضعف في تلك المغسلة بالذات مقارنةً بالمجموعة الأخرى التي لم تكن ببطاقاتها أي طوابع مجانية. ما الذي حدث هنا؟ أدت إشارة «الطابعين» إلى ما يطلق عليه «ملكية العملية»: كان حامل البطاقة بالفعل في طريقه لاستيفاء البطاقة، وهذا نشَّط هدف إكمال العملية. إن تأطير المهمة باعتبارها قد بدأت بالفعل وهي غير مكتملة بدلًا من مهمة لم تبدأ بعدُ قد ولَّد لدى الناس التزامًا أكبر تجاه إكمال المهمة، هذا بالإضافة إلى إكمالها بسرعة أكبر. إن هذا التغيير البسيط وغير المؤثر من ناحية التكلفة في واجهة اتخاذ القرار كان له تأثير كبير على المبيعات. إن ملكية العملية تعد أيضًا من الأسباب وراء زيادة احتمال انتظارنا لاستكمال عملية تنزيل أو تثبيت بينما يظهر شريط التقدم. إننا بالفعل بدأنا العملية؛ ومن ثَمَّ، نرغب في إنهائها.

يوضح المثال التالي أن التغييرات التي تبدو تافهة وبسيطة، والتي يتم إدخالها على واجهة اتخاذ القرار، يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي على الدخل والمبيعات. تَأمَّلْ تأثير تغيير بسيط ولكن ملموس في قائمة الطعام بمطعم يقدم تخفيضًا يوميًّا! فحص الباحثون في جامعة كورنيل كيف تؤثر طريقة عرض الأسعار على مبيعات أي مطعم. تم عرض الأسعار في قائمة الطعام بثلاث طرق مختلفة (انظر شكل ٤-٥):
السعر بالأرقام وبجانبه رمز اليورو: ١٠٫٠٠€.
السعر بالأرقام من دون رمز اليورو: ١٠.
السعر مكتوبًا بالأحرف: عشرة يوروهات.
fig52
شكل ٤-٥: إن للطريقة التي تُعرض بها الأسعار تأثيرًا كبيرًا على الدخل.

بالنسبة إلى المبيعات، توقع العلماء أن نسخة السعر المكتوب بالأحرف ستكون هي الأكثر نجاحًا والأعلى تحقيقًا للمبيعات؛ حيث إن استخدام الكلمات بدلًا من الأعداد يجعل من الصعب أكثر القيام بعمليات حسابية؛ ومن ثَمَّ التحكم في مقدارِ ما يتم طلبه. لكن لم يكن هذا هو الحال. كان عرض السعر بالأرقام من دون رمز اليورو هو النسخة الأكثر نجاحًا. فكل طاولة صرفت ٥ يوروهات كاملة كلما كانت القوائم بها أسعار من دون رمز اليورو، مقارنة بالمجموعتين الأُخْريين. إن الأسعار تُنشط منطقة الألم في الدماغ، وتلك النتيجة توضح أنه تم إدراك الألم على أنه أعلى كلما تم عرض رمز اليورو أو كتابة كلمة يورو. وهكذا من دون وجود إشارة ملموسة، ومن ثَمَّ قابلة للإدراك للتكلفة، تم إدراك السعر على أنه أقل تكلفة. إن هذا التغيير البسيط، الذي كان من السهل تنفيذه ولم يتكلف أي شيء، كان له تأثير كبير على قرارات شراء العملاء وأدَّى إلى زيادة دخل المطعم.

***

يمكن أن يكون للتغييرات البسيطة في واجهات اتخاذ القرار تأثير كبير على القيمة الإجمالية المدركة؛ ومن ثَمَّ على المبيعات.

***

إن نقطة الانطلاق لاستلهام الابتكارات والأفكار هي تحديد نقاط التفاعل التي لدينا مع المستهلك. دعونا نأخذ مثالًا شركةً تعمل في مجال تزويد الطاقة. كما هو الحال مع العديد من الشركات التي تقدِّم الخدمات، تكون نقاط التفاعل نادرة إلى حد كبير. إننا عادةً لا نتواصل مع شركة تزويد الطاقة خاصتنا إذا كان كل شيء يسير على ما يرام. إن نقطة التواصل الأكثر انتظامًا ربما تكون الفاتورة. أثبتت الشركة الأمريكية أوباور كيف يمكن الاستفادة من نقطة التفاعل هذه، التي عادةً ما تكون لها ارتباطات سلبية بالتكلفة، لإضافة قيمة وتغيير سلوك العملاء. طبعت الشركة تخطيطات شريطية على الفواتير توضح استهلاك العميل من الطاقة مقارنةً بمتوسط استهلاك العملاء الآخرين في نفس الشارع، إلى جانب رسائل بسيطة؛ إما للثناء على العميل لاستهلاكه الأقل مقارنةً بجيرانه، وإما لاقتراح طرق أكثر توفيرًا للطاقة يمكن للعميل من خلالها تقليل استهلاكه المستقبلي بحيث يكون استهلاكه متوافقًا مع استهلاك جيرانه (انظر شكل ٤-٦).
fig53
شكل ٤-٦: يؤثر عرض استهلاك العميل من الطاقة مقارنةً باستهلاك جيرانه على سلوكه المستقبلي إلى حدٍّ كبير.

إن هذا الإجراء البسيط غير المكلف كان تأثيره على تقليل استهلاك الطاقة هو نفس تأثير زيادة الأسعار بنسبة ٢٠ بالمائة. كما أن هذا التغيير في السلوك لم يتضاءل مع الوقت، وذلك كما أوضحت الدراسات الطويلة الأجل. مرة أخرى، النهج المتبع هنا ليس مفاده إقناع الناس عبر الحملات والمعلومات، وإنما ما تم استخدامه في تلك الحالة هو إدراك أن الناس عادةً ما يتبعون الأعراف الاجتماعية؛ فإننا نميل لفعلِ ما يفعله الناس حقًّا من حولنا. كلنا يعرف هذه السطوة التي للتأثير الاجتماعي من خلال حياتنا اليومية. فأي مطعم من المحتمل أن تدخله أكثر: ذلك الذي به عميلان فقط أم ٢٠ عميلًا؟ أي تقييم على موقع أمازون تثق فيه أكثر: ذلك المعتمِد على استجابة من شخصين فقط أم من ٢٠٠ شخص؟ تشير العديد من الأبحاث العلمية إلى أن توصيلَ ما يقوم به الآخرون في المواقف المماثلة طريقةٌ قوية لتغيير السلوك. عندما احتوت الغرف بأحد الفنادق على لافتة تطلب من النزلاء السماح بإعادة تدوير مناشفهم للمساعدة في حماية البيئة، فعل ذلك ٣٥ بالمائة منهم. لكن عندما أشارت اللافتة أيضًا إلى أن معظم النزلاء في الفندق أعادوا تدوير مناشفهم على الأقل مرة أثناء فترة إقامتهم بالفندق، أذعن ٤٤ بالمائة من النزلاء لمسألة إعادة التدوير. وعندما أشارت اللافتة إلى أن معظم الشاغلين السابقين لتلك الغرفة على وجه الخصوص أعادوا تدوير مناشفهم في وقتٍ ما أثناء إقامتهم، وافق ٤٩ بالمائة من النزلاء في تلك الغرفة على عملية إعادة التدوير. تزيد سطوة الأعراف الاجتماعية إذا ربطناها بالجمهور المستهدف على نحو مباشر قدر الإمكان، كما هو الحال عند مقارنة استهلاك العميل للطاقة مع استهلاك جيرانه. وفي حالة شركة أوباور، فإن هذا التأثير الاجتماعي نشَّط المقارنة مع سلوك الآخرين الذين هم في مثل حالتك؛ أيْ جيرانك. وحيث إن كل القيم نسبية، فإن تلك المقارنة تؤدي لإعادة تقييم الفرد لسلوكه؛ ومن ثَمَّ لإحداث تغيير في سلوكه.

أحد المبادئ التي يمكن استخلاصها من معظم الأمثلة التي عرضنا لها حتى الآن هو أننا نكره الخسارة أكثر مما نفضل الربح الذي بنفس القدر؛ أيْ إننا نميل لتجنب الخسارة. إن تجنُّب الخسارة من الجوانب الجوهرية في عملية اتخاذ القرار البشري؛ لذا، دعونا نلقِ نظرة أكثر قربًا على مدى صلتها بمجال التسويق. كي نشجِّع الناس على شراء أحد المنتجات، عادةً ما نوصل لهم دعوة للتحرك؛ حيث يكون من الشائع التركيز على تعريف المستهلكين بما يمكن توفيره من مال. وينجح هذا الأسلوب لأنه يقلل من الألم المدرك. لكن الكيفية التي يتم بها هذا التوفير تحدث فارقًا. وَجَدَت شركة أمريكية تعمل في مجال الطاقة أنها عندما توصل لعملائها رسالة مفادها أن التحول لوضع توفير الطاقة سيوفر لعملائها ٢٠٠ دولار في العام (ومن ثَمَّ، فإنهم قد يربحون هذا المبلغ)، كان المردود ضعيفًا جدًّا. لكن عندما غيرت رسالتها لتشير إلى أن عدم القيام بهذا التحول سيجعل العملاء يخسرون ٢٠٠ دولار، كانت الاستجابة إيجابية للغاية. إن الآلية التي كانت وراء هذا النجاح هي تجنب الخسارة؛ فتجنُّب الخسارة يولى قيمة أعلى بكثير من ربح شيء له نفس القيمة المالية؛ فالناس عندما يكون عليهم تحديدُ إن كانوا سيدخلون في مقامرة تتساوى فيها نسبة الربح والخسارة، عادةً ما يقبلون فقط على الرهانات التي يكون فيها المبلغ الذي يمكن أن يربحوه على الأقل ضعف المبلغ الذي يمكن أن يخسروه (على سبيل المثال، أن يكون هناك احتمال متساوٍ أن يتم ربح ١٠٠ دولار أو خسارة ٥٠ دولارًا). إن معظم عمليات قياس تجنب الخسارة وجدت أن التكلفة التي نستعد لتحملها في سبيل تجنب الخسارة تبلغ ضعف التكلفة التي نستعد لتحملها في سبيل تحقيق الربح. وكما هو الحال في الحكمة التي تقول: «عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة»، فإن معادلة القيمة والتكلفة في نظام الطيار الآلي ستختل؛ مما يشير إلى أن التركيز على المبالغ المالية التي سيخسرها الناس بعدم القيام بفعل معين سيحفزهم أكثر من إخبارهم بما يمكن أن يوفروه.

إن تجنب الخسارة عائق مهم بالنسبة إلى الناس عندما يتعلق الأمر بالتحول لعلامات تجارية جديدة غير تلك التي يفضلونها أو تبنِّي ابتكارات جديدة؛ فخطر خسارة شيء نقدِّره يمكن تجاوزه فقط من خلال تقديم شيء مقابل له ضعف قيمته. إننا نصادف هذا أحيانًا في مجموعات التركيز؛ إذ يتحدث المستهلكون بإيجابية عن منتج أو خدمة جديدة، لكن عندما يتم سؤالهم عما إذا كانوا يرغبون في استبدال المنتج الجديد بالمنتج الذي يستخدمونه حاليًّا، يبدءون على الفور في رفض المنتج الجديد لصالح المنتج الحالي. كثيرًا لا يتمثل الأمر في الحصول على أفضل قيمة ممكنة، وإنما في تجنب خطر تكبد خسارة أو الإصابة بخيبة أمل.

***

تُنشِّط الواجهات، حتى البسيطة منها مثل فاتورة استهلاك الطاقة أو بطاقة الولاء التي بها طابعان، قواعد قرار ضمنية تؤدي إلى تغيير في السلوك.

أهم المبادئ التي تزيد القدرة الإقناعية لواجهات اتخاذ القرار

يمكن لتغييرات بسيطة في واجهة اتخاذ القرار أن يكون لها تأثير كبير على قرارات الشراء والمبيعات. إن الآليات المتضمنة في الأمثلة السابقة، مثل ملكية العملية أو التأثير الاجتماعي أو تجنب الخسارة، عبارةٌ عن قواعد قرار آلية — أيْ طرق استدلالية تعتمد على الخبرة — يمكن عن قصد إثارتها من خلال الواجهة، التي بدورها تؤثر على إدراكنا للقيمة والتكلفة. والطرق الاستدلالية هذه عبارة عن أحكام خبرة يستخدمها العقل في الاستجابة للمواقف والبيئات. وهي آلية بالكامل؛ ومن ثَمَّ، فهي تسمح باتخاذ القرار السريع من جانب نظام الطيار الآلي مع بذل قليل من الجهد. إن أهمية تلك القواعد تكمن في أنها تتيح لنا اتخاذ القرار بسرعة جدًّا وعلى نحو حدسي دون الحاجة للتفكير التأملي الذي يحتاج لجهد.

يسمح لنا الاستخدام المنهجي للطرق الاستدلالية بإدارة كل واجهة من واجهات اتخاذ القرار عبر مسار الشراء حتى تؤثر على عملية الاختيار؛ ومن ثَمَّ تساعد على إيجاد فرص للنمو في المبيعات. إن واجهة اتخاذ القرار الأساسية مع العميل في حالة السلع الاستهلاكية المعبأة هي نقطة البيع في السوبر ماركت. واعتمادًا على فئة السلعة، فإن ما بين ٤٠ إلى ٧٠ بالمائة من كل قرارات الشراء تُتخذ في نقطة البيع، دون وجود تخطيط مسبق على نحو كبير؛ مما يشير إلى أن القرار يتأثر كثيرًا بالإشارات الموجودة. من ثَمَّ، حتى في نقطة البيع حيث من المفترض في الغالب أن يكون المستهلكون محددين بشأن ما يرغبون في شرائه، فإن الإشارات الملموسة تُحْدث فارقًا. هذا ما أشار إليه روري ساذرلاند في الاقتباس التالي:

عند اتخاذ القرارات، الواعية أو غير الواعية، المهمة أو غير المهمة، بخصوص حياتنا وما نشتريه ونفعله؛ قد يكون للسياق والإطار وواجهة اتخاذ القرار والوسط والمسارات التي نصل من خلالها للقرارات تأثيرٌ أكبر على القرارات التي نتخذها من التبعات الطويلة الأجل للقرار.

لكن يبقى أمامنا تحدٍّ مهم؛ فهناك فعليًّا عشرات من قواعد القرارات الضمنية التي كشف العلم النقاب عنها، وقد تكون دراسة تلك القواعد كلها بالنسبة إلى الممارسين مهمة صعبة في بعض الأوقات؛ لذا، من أجل جعل هذا المجال المثير والمهم أكثر سهولة في التعامل معه، دعنا نلقِ الضوء على أهم المبادئ التي تساعد في زيادة القدرة الإقناعية لواجهات اتخاذ القرار التي بيننا وبين عملائنا على نحو منهجي.

تساعد المبادئ العامة الثلاثة التالية على فهم سبب عدم قيام العملاء بالسلوك الذي نريدهم أن يقوموا به؛ مما يساعدنا من ثَمَّ على تطوير واجهات اتخاذ القرار خاصتنا على أفضل نحو:
  • (١)
    المحسوسية: لتنشيط الطرق الاستدلالية، يجب أن تكون هناك إشارات ملموسة وقابلة للإدراك.
  • (٢)
    الفورية: يفضِّل نظام الطيار الآلي المكافآت الفورية مقارنةً بالمكافآت المستقبلية.
  • (٣)
    اليقين: يفضِّل نظام الطيار الآلي الاختيار الآمن والأكيد.

كما سنرى في باقي هذا الفصل، فإن فهم تلك المبادئ مفيد على نحو كبير في تحسين مسار عملية الشراء وواجهات اتخاذ القرار ذات الصلة.

المحسوسية: لا إشارة، إذن لا فعل

لتوضيح المقصود بالمحسوسية، دعْنا نلقِ نظرة على تقنيةٍ ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى التسويق؛ ألا وهي الواقع المُعزَّز. ابتكرت شركة ليجو نظامَ واقعٍ معززٍ يسمح بعرض علبة لعب ليجو على شاشة في المتجر، ثم عرض شكل اللعبة النهائي بعد تجميعها بأعلى هذه العلبة (انظر شكل ٤-٧). يتمثل الهدف من هذا في تمكين الآباء وأبنائهم من رؤية الشكل النهائي الذي ستكون عليه اللعبة التي يفكرون في شرائها، وذلك قبل شرائها. أثبتت الأبحاث أنه كلما زاد الوقت الذي يلمس فيه الشخص أحد المنتجات، زاد احتمال شرائه له؛ لذا، يُعَدُّ عرض شكل المنتج النهائي على أحد الشاشات ميزة في حد ذاتها. وبعرض الشركة لمنتج افتراضي على المستهلكين، فإن هذا يمكن أن يزيد المبيعات لأن الميزة؛ ألا وهي قيمة المنتج، أصبحت ملموسة أكثر.
fig54
شكل ٤-٧: يجعل الواقع الافتراضي المنتج أكثر محسوسية ويزيد من قيمته المدركة حسيًا.

استفادت شركة تصنيع الساعات السويسرية تيسو أيضًا من هذا المبدأ؛ وذلك بتمكين الأشخاص الذين ينظرون في واجهات متاجرها أن يجربوا ساعاتها الفخمة وهم على الرصيف، فتحولت واجهات المتاجر إلى تجربة تسوُّق تفاعلية؛ حيث تُحوِّل تقنيةٌ ثلاثية الأبعاد، باستخدام كاميرا ونظام شاشة لمس، سِوَارًا ورقيًّا إلى إحدى ساعات تيسو؛ فالعملاء لا يرون فقط كيف ستبدو الساعات على رسغهم، وإنما يجربون أيضًا سمات شاشة اللمس المقابلة، على سبيل المثال، البوصلة ومقياس الارتفاع والترمومتر، الخاصة بتلك الساعات. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لهؤلاء الذين يجربون الساعات أن يلتقطوا صورة لأنفسهم وهم يرتدون تلك الساعات ويرسلونها إلى تويتر أو إنستجرام للحصول على فرصة الفوز بتلك الساعات في كل أسبوع في الحملة. كانت تلك الحملة أكثر نجاحًا من أي حملة من حملات الشركة السابقة في بريطانيا، وارتفعت المبيعات في منفذ شركة تيسو بمتجر سيلف ريدجز المتعدد الأقسام بنسبة ٨٣ بالمائة.

كما سمح موقع متجر المجوهرات الفرنسي الشهير بوشرون للمستهلكين بتجربة مجوهراته الفخمة «على نحو افتراضي» من المنزل أو الهاتف الذكي؛ الأمر الذي أدى لزيادة الحركة على الموقع بنسبة ٥٠ بالمائة.

إن الواقع المعزز أيضًا مهم وربما يكون مفيدًا لكل متاجر البيع بالتجزئة. تقول أنجيلا ماورر، رئيسة قسم الابتكار في تيسكو: «في تيسكو، يُسمح للعملاء بتجربة المنتج قبل شرائه. وهذا أمر مهم؛ لأنه يُطَمْئن العملاء لأن بإمكانهم تصور المنتجات التي يريدون شراءها.» لكنها تحذر قائلة إنه يجب على متاجر البيع بالتجزئة أن يجعلوا تلك التجربة بسيطة بالنسبة إلى العملاء. بعبارة أخرى، يجب أن تكون التجربة متوافقة مع نظام الطيار الآلي خاصتنا؛ فحينها فقط سيضيف قيمة حقيقية؛ فنحن لا يجب أن نستخدم التكنولوجيا فقط لأنها شائعة، بل يجب أن نفعل ذلك لإضافة قيمة لتجربة العميل، خاصة حيث إنها تتضمن تكاليف سلوكية إضافية (على سبيل المثال، تنزيل أحد التطبيقات وقضاء بعض الوقت في استخدام التكنولوجيا).

***

حتى نؤثر على القيمة الإجمالية المدركة لشيءٍ ما، نحتاج لإشارات ملموسة. فمن دون وجود أي إشارة، لا يمكن أن تنشط الطرق الاستدلالية.

***

يمكن أن تؤثر الإشارات الملموسة في نقطة البيع على طريقة تسوُّق الناس. تخيل ركنًا خاصًّا بمنتجات العناية بالفم. الناس يعرفون، عادةً، ما يحتاجونه من هذا الركن؛ معجون أسنان أو فرشاة أسنان. لكن أثبتت الأبحاث أنه إذا كان أحد الأركان بالمتجر يرسل إشارات تنشط مفهومًا أوسع مثل «صحة الأسنان»، فإن العملاء يشترون ليس فقط ما يريدونه من منتجات، وإنما أيضًا منتجات مكملة إضافية. فإذا اقترب المستهلكون من الركن ولديهم توجُّه عقلي محدد جدًّا (على سبيل المثال، «أريد معجون أسنان»)، فإنهم يميلون لشراء هذا المنتج فقط. أما لو كان لديهم توجه عقلي أوسع نطاقًا وأكثر عمومية (على سبيل المثال، «أريد تحسين صحة أسناني»)، فإنه يزيد احتمال قيامهم بشراء منتجات مكملة أيضًا. يمكن تنشيط تلك العقلية الأوسع نطاقًا من خلال إشارات ملموسة في البيئة؛ على سبيل المثال، بوضع إشارات متعلقة ﺑ «الأسنان الصحية» في بداية ركن منتجات العناية بالفم، أو صياغة عرض ترويجي متعدد المنتجات اعتمادًا على تلك العقلية الأوسع نطاقًا.

إن المحسوسية، باعتبارها مبدأً، مهمةٌ كي نفهم على نحو أفضل التكلفةَ المدركة؛ فنحن نحتاج لعدم إرسال إشارات تزيد من التكاليف المدركة، كما أوضحنا في المثال السابق الذي يوضح تأثير حذف رمز اليورو من قائمة أسعار الوجبات. مثال آخر يتمثل في برنامج «احتفِظْ بالفكة» الذي يديره بنك أوف أمريكا. من خلال تلك الخدمة المجانية، يتم تقريب قيمة كل المشتريات لأقرب مبلغ صحيح، وتتم إضافة الفارق لحساب توفير. وبالقيام بهذا، يمكن القيام بالتوفير ليس فقط من دون تكلفة سلوكية إضافية، وإنما أيضًا بجعل ألم التوفير أقل محسوسية. وكما هو الحال مع مثال الكعك في مقصف الغداء، فإن كون المبلغ المالي الذي ننفقه (أو نوفره) محسوسًا أم لا يُحْدث فارقًا. ومنذ إطلاق هذا البرنامج في عام ٢٠٠٥، أدى لجذب أكثر من ١٢ مليون عميل جديد وأكثر من ٣٫١ مليارات دولار كمدخرات لهم.

إن محسوسية التكاليف تكون جديرة بالاهتمام عند التفكير بشأن طرق دفع الرسوم. تَخيَّلْ أن عليك اتخاذ قرار بشأن آلية الدفع للاشتراك في إحدى صالات الألعاب الرياضية. للوهلة الأولى، من غير المحتمل افتراض أن الطريقة التي يدفع بها الناس مقابل الاشتراك يمكن أن يكون لها تأثير على عملنا. فحتى لو افترضنا أن لها تأثيرًا، فإننا على الأرجح سنعتقد أن دفع رسم اشتراك سنوي مقدمًا سيجعل الألم غير محسوس لباقي السنة، وسيجعلنا هذا نعتقد أن تلك الطريقة قد تكون هي الأفضل. السؤال الآن: ما نوع طريقة الدفع التي من المحتمل أن تؤدي إلى زيادة عدد الأشخاص الذين يشتركون في صالة الألعاب الرياضية؛ هل هي تلك التي تتطلب الدفع المقدم لرسم اشتراك سنوي قدره ٦٠٠ جنيه استرليني، أم تلك التي تتطلب دفع رسم اشتراك شهري قدره ٥٠ جنيه استرليني؟ تشير الأبحاث إلى أن الأشخاص الذين يدفعون اشتراكًا شهريًّا يُذكَّرون أكثر بتكلفة الاشتراك المادية في الصالة — هذا يجعل التكاليف محسوسة أكثر — وهذا يجعلهم يزورون الصالة على نحو متكرر أكثر. وبعد كل مرة دفع، تزيد عدد الزيارات، فقط ليعود معدل الزيارة تدريجيًّا للمستوى الأساسي. إنَّ جعل التكلفة محسوسة أكثر في تلك الحالة له تأثير مفيد؛ فزيادة عدد الزيارات تعني لياقة أكبر؛ ومن ثَمَّ قيمة مدركة أكبر، ويزيد الولاء من خلال الزيارات الأكثر تكرارًا التي ينشطها الاشتراك الشهري.

***

للاستفادة من مبدأ المحسوسية في تحسين واجهات اتخاذ القرار، يمكن أن تفيد الأسئلة التالية. ما هي الإشارات المحسوسة عبر عملية اتخاذ قرار الشراء؟ وأي الإشارات تجعل عاملَي المكافأة والألم محسوسين؟ وأيها يجب تغييره من أجل تحسين العلاقة المدركة بين القيمة والتكلفة؟

***

يعتمد هذا التأثير على الطريقة الاستدلالية «التكلفة الغارقة» التي تتوافق مع محسوسية التكلفة: إننا نرغب في تجنُّب دفع مبلغ مالي دون أن نحصل على أي مقابل؛ فإذا دفعنا مالًا مقابل شيء، نرغب في استخدام هذا الشيء. لهذا السبب، ربما يكون من المفيد توضيح التكاليف، بدلًا من إخفائها، في بعض الحالات. يعتمد هذا على السلوك الذي نريد أن تنشطه واجهة اتخاذ القرار؛ أيْ أفضل سلوك يتوافق مع أهدافنا التسويقية.

الفورية: تفضيل المكافآت المباشرة

تُعَد الفورية من المبادئ الأساسية الأخرى لزيادة التأثير الإقناعي لواجهات اتخاذ القرار. يتحيز نظام الطيار الآلي بقوة للحاضر، لما يدركه في اللحظة الحالية؛ لذا، فإن التبعات المستقبلية التي ليست قابلة للإدراك الآن يكون لها تأثير أقل على قراراتنا؛ فالتكاليف والقيمة يقلان بزيادة المسافة. على سبيل المثال، رؤية نمر يوجد على مسافة بعيدة تنشط استجابات مختلفة مقارنةً بالوقت الذي يوجد فيه بالقرب منا. في تجربة أجريت في عام ٢٠١٠، أثبت عالم الاقتصاد العصبي أنطونيو رانجل من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا أن الناس يدفعون أكثر حتى ٦٠ بالمائة للحصول على أحد أصناف الطعام السريع إذا كان موجودًا فعليًّا وبشكل محسوس أمامهم، مقارنةً بوجود تمثيل مرئي أو نصي له. ووجدت الدراسة أيضًا أن الصنف إذا عرض خلف فاصل من زجاج البلكسيجلاس بدلًا من أن يكون متاحًا أمام العميل الحصول عليه مباشرةً، فإن استعداد العميل للدفع لشرائه تقل؛ فكلما قلَّت المسافة، زادت القيمة المدركة وقلَّت العوائق المدركة للحصول على هذا الصنف.

هذا صحيح أيضًا فيما يتعلق بالبعد في الزمن؛ فإن الإصابة بالمرض في غضون عشرين عامًا ليس مقلقًا مثل الإصابة بصداع في الغد. إننا عادة نفضل المكافآت الأصغر الأكثر فورية على تلك الأكبر والأبعد في الزمن. قد يتم تفضيل العرض الذي بقيمة ١٠٠ جنيه استرليني الذي يقدَّم اليوم على الوعد بالحصول على آخر قيمته ١٢٠ جنيهًا استرلينيًّا في العام القادم. يشير علماء الاقتصاد السلوكي إلى هذا باسم «الخصم المغالَى فيه»؛ لدينا سعر خصم كبير جدًّا للمستقبل مقارنة بالحاضر. وهذا ما يجعلنا نقلل من القيمة الحالية للمستقبل على نحو كبير عندما يكون مطلوبًا منا تضحيات في الحاضر؛ مثل التوقف عن التدخين أو زيادة معدل النشاط البدني. إننا نعرف هذا من خلال خبرتنا: كلنا نعرف أننا يجب أن نتبع نمط حياة صحيًّا أكثر حتى لا نمرض في المستقبل، لكن تلك النتيجة ليست قابلة للإدراك بالنسبة إلينا حاليًّا؛ وهذا ما يجعلنا نختار تدخين السجائر وتناول الجعة لأن قيمتهما متاحة لنا الآن. إن هذا الخصم المستقبلي هو السبب وراء ميلنا للإنفاق على نحو أكبر عند استخدام بطاقات الائتمان؛ فألم الدفع يتم تأجيله لِلَحظةٍ ما في المستقبل.

***

فيما يتعلق بإدراكنا، كلما كانت المكافأة فورية، كان ذلك أفضل؛ وكلما تأجلت التكلفة، كان ذلك أفضل.

***

كيف يمكننا الاستفادة من هذا في مجال التسويق؟ إن فئة السيارات مثال جيد؛ حيث إن مصنِّعي السيارات يقدمون بانتظام عروضًا خاصة؛ أغلبها يعتمد على آليات الخصم؛ على سبيل المثال، تعاملت شركة فيات في عام ٢٠١٢ مع الخصم المستقبلي لنظام الطيار الآلي على نحو واضح جدًّا؛ فقد كان عرضهم يتمثل في أن يقوم العميل بدفع نصف ثمن الشراء الآن ثم يدفع النصف الآخر على عامين. وفي إعلاناتهم التليفزيونية، ركزوا على الدفعة الأولى (والتي كانت ٥٩٠٠ يورو)؛ مما جعل التكلفة المحسوسة منخفضة. أما التكلفة الثانية، فتم التقليل من قيمتها على نحو عقلي من جانب العملاء نظرًا لبعد المسافة الزمنية.

هناك ابتكار مماثل يسمى «ميثاق صالة الألعاب الرياضية» وَضَعَه علماء الاقتصاد السلوكي في جامعة هارفرد. كانوا يتناولون عائقًا معروفًا جدًّا؛ ألا وهو: الذهاب بانتظام لصالة الألعاب الرياضية. هنا، ثانيةً، العائدُ مستقبليٌّ، لكننا نواجه تكاليف سلوكية ومالية في الحاضر. يغير هذا الميثاق قواعد اللعبة؛ حيث يلتزم الأعضاء بالقيام بعدد معين من التدريبات كل أسبوع. إذا أوفوا بهذا الالتزام، فإن عليهم دفع مبلغ معين، لكن يمكنهم أيضًا استعادته إذا الْتزموا بتعهداتهم، وسيكون عليهم أن يدفعوا أكثر إذا لم يلتزموا بها؛ لذا، إذا لم يلتزم الأعضاء بما هو مطلوب منهم، فسيزيدون من تكاليفهم اليوم، وبقيامهم بهذا يجعلون النتائج السلبية، التي كانت في السابق مرتبطة بالمستقبل، محسوسة اليوم. وهكذا نجح بفاعلية تطبيق المبدأ الأساسي الخاص بإضافة القيمة وتقليل التكلفة عن طريق تفعيل مبدأ «الفورية» بهذه الطريقة فيما يتعلق بآلية العضوية في صالات الألعاب الرياضية.

إذا فكرت في عروض ترويجية مثل سحوبات الجوائز المجانية، فإن تطبيق هذا المبدأ يمكن أن يفسر الاختلافات في الاستجابات. إذا تأجلت الجائزة المحتملة لوقتٍ ما في المستقبل، فإن القيمة يتم التقليل من شأنها بسبب هذا التأخر الزمني. وهذا الأسلوب مفيد عند محاولة التوصل لوسائل ترويجية مبتكرة.

***

للاستفادة من مبدأ الفورية في تحسين واجهات اتخاذ القرار، يمكن أن تفيد الإجابة عن الأسئلة التالية: ما مدى البعد المكاني والزماني فيما يتعلق بالإدراك الملموس للقيمة والتكلفة؟ وكيف يمكن تقليل هذا البعد (من أجل جعل القيمة فورية أكثر) أو زيادته (من أجل إبعاد إدراك التكلفة لفترة أطول في المستقبل)؟

***

أحد الأمثلة الناجحة على الاستفادة من الفرص التي يتيحها هذا المبدأ هو تطبيق الهاتف الذكي الألماني «فيشين». إن هذا تطبيق خاص بنقطة البيع بالنسبة إلى المتسوقين وأصحاب متاجر البيع بالتجزئة في مراكز التسويق الكبرى. يلتقط المتسوقون صورة للمنتج الذي يريدونه من متجر مشترك في التطبيق ويرسله للتطبيق. توضح أداة إنتاج عشوائية في التطبيق على الفور ما «كسبه» المتسوق. ربما يكون هذا خصمًا فيما يتعلق بهذا المنتج على الخصوص أو آخر مرتبط به، أو حتى قسيمة خاصة بقهوة مجانية في مقهى ستاربكس القريب. هناك أيضًا سحوبات على جوائز أكبر. يقلل هذا التطبيق من تأخُّر استجابة أي سحب على الجوائز إلى الصفر تقريبًا؛ إذ يتم الحصول على المكافأة على نحو فوري بدلًا من وقتٍ ما في المستقبل البعيد؛ لذا، فإن هذا التطبيق يزيد القيمة المدركة في مقابل تكلفة سلوكية صغيرة جدًّا، وقد نجح في زيادة كلٍّ من المبيعات ووقت البقاء في المتاجر. في المجمل، أوضحت هذه الأمثلة أن التكلفة والقيمة المدركتين يمكن أن يتأثرا على نحو كبير بالوقت الفعلي الذي يتم فيه إدراك القيمة والتكلفة.

اليقين: العصفور الذي في اليد

إن اليقين هو المبدأ الثالث بعد المحسوسية والفورية. بوجه عام، يتعلق اليقين بالاحتمال المتوقع للحصول على المكافأة وتحمل الألم، والخطر المدرك المتعلق بهما. اليقين هو الاحتمال المدرك الخاص بالحصول على القيمة و/أو تجنب التكلفة. وهذا هو السبب وراء كون العروض الترويجية التي تكون فرصة الفوز فيها كبيرة هي الأكثر فاعلية؛ فالعرض الذي تكون فيه فرصة الفوز واحدًا في كل مائة عميل يكون أقل فاعلية من ذلك الذي تكون فيه فرصة الفوز واحدًا في كل عشرة عملاء.

دعونا نلقِ نظرة على بعض الأمثلة التي توضح مبدأ اليقين. تَخيَّلْ قيامك بالتسوق في دولة أجنبية وأنت لست معتادًا على أيٍّ من العلامات التجارية. أيَّ علامة تجارية ستختار؟ ربما تذهب للعلامة التجارية التي تستحوذ على أكبر مساحة على الأرفف؛ حيث إن هذا يشير إلى أنها تُستخدم من قِبل العديد من العملاء الآخرين، وهذا على الأرجح سيؤدي الغرض. إن هذا يقلل على نحو كبير الخطر المدرك لقرار الشراء؛ ومن ثَمَّ يزيد اليقين المتعلق بالحصول على القيمة. مثال آخر على مبدأ اليقين؛ وهو أننا نعطي تقديرًا كبيرًا على نحو خاص للأشياء التي نمتلكها بالفعل. لا يوجد شيء أكثر يقينًا من الإمساك بشيء في أيدينا؛ فالمستهلكون الذين أُعطوا كوبًا لتناول القهوة فيه طلبوا من أجل التخلي عنه ضعف المبلغ الذي كان مستهلكون آخرون مستعدين لدفعه للحصول عليه. يطلق علماء الاقتصاد السلوكي على هذا الميل «تأثير الهبة».

إن الشيء الذي نظل محتفظين به لآلاف السنين هو ما يطلق عليه «قيمة الندرة». إننا نقدر الأشياء التي يبدو أنها من مصدر نادر لأننا لا نعرف متى ستكون متاحة ثانيةً؛ ومن ثَمَّ نرغب في ضمان حصولنا عليها. على الرغم من أن الندرة كانت حقيقة حياتية بالنسبة إلى أجدادنا، لكنها شيء لا يكاد يؤثر على حياتنا اليوم، فإن تلك الطريقة الاستدلالية ما زالت نشطة حتى الآن؛ لذا، فإن إشارات الندرة تزيد القيمة المدركة لأي شيء؛ ففي دراسة، استُخدمت تلك الطريقة الاستدلالية، لكن هذه المرة مع عرض ترويجي خاص بحساء كامبلز المعلَّب. كانت الطريقة الأولى للعرض مباشرة: تخفيض السعر «بنسبة ١٢ بالمائة»؛ أدى هذا إلى متوسط شراء قدره ٣٫٣ عُلَب. أما الشكل الثاني، فأضاف إشارة خاصة بالندرة: «تخفيض بنسبة ١٢ بالمائة. ٤ علب بحد أقصى لكل شخص»؛ أشار هذا إلى أن الكميات محدودة وأدى إلى زيادة محدودة في المبيعات لمتوسط شراء قدره ٣٫٥ عُلَب. لكن الشكل الثالث من العرض كان كما يلي: «تخفيض بنسبة ١٢ بالمائة. ١٢ علبة بحد أقصى لكل شخص». كان لهذا تأثير ملحوظ على متوسط المبيعات، والذي ارتفع إلى ٧ عُلَب! إن رقم ١٢ على الأرجح كان بمنزلة مرساة، لكن بالإضافة إلى ذلك فإن الطريقة الاستدلالية الخاصة بالندرة جعلت الناس تحاول استغلال العرض الترويجي. إن الإشارة جعلت هذا النوع من الحساء يبدو نادرًا؛ مما زاد من قيمته وقيمة اقتنائه.

لذا، إذا كان أحد المنتجات فيه نقص و/أو لا نعرف متى سيكون متاحًا مرة ثانية، فإن غريزتنا تخبرنا بأن ندخره (كما فعلنا منذ آلاف السنين بالطعام في أشهُر الشتاء). في ربيع عام ٢٠١٢، نصحت الحكومة البريطانية سائقي السيارات ﺑ «ملء خزانات الوقود بالكامل»؛ بسبب الاحتمال الوشيك بقيام سائقي شاحنات نقل الوقود بإضراب. ازدحمت على الفور محطات الوقود بطوابير من السيارات التي أراد أصحابها تخزين الوقود قبل حدوث الأزمة، وسرعان ما نفد الوقود من تلك المحطات. ربما يكون من المفارقة أن حكومة تشجع على اتباع مبادئ الاقتصاد السلوكي لم تدرك أن الإشارة التي أرسلتها نشطت تأثير الندرة، وأن هذا أصبح نبوءة متحققة بمجرد رؤية السائقين للآخرين وهم يتزاحمون من أجل الحصول على الوقود.

حالة أخرى تقوم على مبدأ اليقين هي تحيز السعر الثابت؛ فسواء كان الأمر متعلقًا بالاتصالات أو الإنترنت أو الأكل خارج المنزل، فنحن لدينا تفضيل للأسعار الثابتة. عادةً ما يفضل الناس الأسعار الثابتة حتى إن لم تكن بالضرورة الخيار الأمثل؛ على سبيل المثال، من الجانب المالي، أكثر من نصف العملاء الذين يفضلون الأسعار الثابتة في سوق الاتصالات سيكون من الأفضل لهم لو اتبعوا أسلوب الدفع حسب الاستخدام؛ لماذا إذن يفضلون الأسعار الثابتة؟ لا يعرف المستهلكون كم ستكون التكلفة المستقبلية؛ لذا، هناك خطرُ تكبُّدِ تكلفة أعلى لا يمكن التنبؤ بها. تؤكد الأبحاث أنه إذا زادت فاتورة الاتصالات عن المبلغ الذي يتوقعه أي عميل، فإن الفارق بين التكلفتين المتوقعة والفعلية سيبالغ العميل في تقديره على نحو كبير؛ لذا، فإن الفجوة ستنتج عنها تكلفة مدركة أعلى بكثير؛ لذا، فإن هذا سيدفع العملاء إلى منع حدوث هذا الموقف؛ من ثَمَّ، هم يفضلون الرسوم الثابتة حتى يكونوا متأكدين بشأن التكاليف.

***

كلما زاد اليقين بشأن المكافأة المدركة، كان هذا أفضل؛ وكلما زاد اليقين بشأن التكاليف، كان هذا أفضل.

***

إن الطريقة الاستدلالية الخاصة باتباع ما يقوم به الآخرون — أو ما يسمى بالتأثير الاجتماعي — تعتمد إلى حد كبير هي الأخرى على هذا المبدأ. إننا نقلد سلوك الآخرين لتجنب الخطر ولزيادة اليقين فيما يتعلق بالحصول على قيمة في مقابل المال الذي ندفعه؛ سواء كان ذلك على موقع أمازون عند شراء كتاب، أو في موقع سفريات عند تقييم أحد الفنادق للإقامة فيه في الإجازة القادمة. تتأكد حقيقة أننا نقدر الاختيار الآمن أيضًا في تفضيلنا للأمور الافتراضية التي يُقْبل عليها الجميع؛ فمعظم الناس لا يغيرون مطلقًا الإعدادات الافتراضية في برامج تصفح الويب التي يستخدمونها أو هواتفهم المحمولة. ونحن في الأغلب نتوافق مع أي شيء افتراضي؛ لأنَّ في معظم الأحيان ومعظم الوقت الشيءَ الافتراضيَّ يعمل على نحو جيد، وهو الاختيار الآمن. وعلاوة على ذلك، فإنه يسمح للمخ بأن يعمل بنظام الطيار الآلي، ﻓ «السهولة» المعرفية تستهلك جهدًا أقل.

يتضح مدى تأثير تلك الطريقة الاستدلالية الخاصة بالأمور الافتراضية على قراراتنا من خلال المثال التالي. كل عام يموت آلاف الأشخاص بسبب عدم إمكانية إيجاد عضو يتم التبرع به لهم في الوقت المناسب. يقوم السياسيون والهيئات الطبية في العديد من الدول بجهود كبيرة لتحسين معدلات التبرع بالأعضاء البشرية. ألقِ نظرة على الرسم البياني الموجود في شكل ٤-٨ الذي يوضح معدلات الموافقة على التبرع بالأعضاء البشرية في دول مختلفة. بعضها تكون فيها تلك المعدلات عالية جدًّا (على سبيل المثال، النمسا وفرنسا)، في حين أن أخرى تكون فيها المعدلات منخفضة جدًّا (على سبيل المثال، المملكة المتحدة وألمانيا).
fig55
شكل ٤-٨: معدلات الموافقة على التبرع بالأعضاء تختلف على نحو كبير بين الدول.
الفارق بين الدول ليس في مستوى الأخلاق لدى مواطنيها أو توجهاتهم الاجتماعية أو الدينية؛ إنه يتمثل ببساطة في طريقة تصميم النماذج الخاصة بالموافقة على التبرع بالأعضاء؛ ومن ثَمَّ ما يحصل عليه نظام الطيار الآلي باعتباره مدخلات؛ ففي المملكة المتحدة، عليك القيام بتسجيل نفسك باعتبارك متبرعًا (أي: «الموافقة الصريحة على المشاركة»). في النمسا، الناس يكونون متبرعين على نحو افتراضي، ما لم يقرروا غير ذلك (أي: «عدم المشاركة») (انظر شكل ٤-٩).

إن الأمر الافتراضي هو الاختلاف الوحيد، وله تأثير كبير على عملية اتخاذ القرار؛ ففي هولندا، لا ترسلُ فقط وزارة الصحة رسالة لكل مواطن، لكنها أيضًا تقوم بحملة تذهب فيها لمنازل المواطنين لتطلب منهم القيام بالتبرع بأعضائهم. أدى هذا إلى زيادة ٢٨ بالمائة في معدل الموافقة على التبرع. من الواضح أن تغييرًا بسيطًا وغير مكلف في النموذج لجعل الأمر الافتراضي هو التبرع، كان أكثر فاعلية بكثير.

fig56
شكل ٤-٩: يُحدث وضعُ خيار الموافقة على المشاركة في مقابل خيار عدم المشاركة في نموذج التبرع بالأعضاء فارقًا كبيرًا.

أظهرت دراسات أخرى أن المستهلكين الذين كانوا مجبرين على الانضمام لقائمة بريد إلكتروني يزيد احتمال بقائهم بمقدار الضعف في القائمة، مقارنةً بالعملاء الذين يمكنهم الاختيار على نحو صريح بين تلقِّي رسائل البريد الإلكتروني وعدم تلقيها. إننا نربط تلقائيًّا بين وضع علامة في مربع والموافقة على شيء؛ بغض النظر عما إذا كان هذا صحيحًا أم خطأً من الناحية الموضوعية. علاوة على ذلك، واعتمادًا على الخبرة، نحن نفترض أن الخيار الافتراضي هو الاختيار الآمن.

***

للاستفادة من مبدأ اليقين في تحسين واجهات اتخاذ القرار، نحتاج للإجابة عن الأسئلة التالية: ما مدى اليقين المدرك للقيمة والتكلفة؟ وكيف يمكن زيادة القيمة المدركة وتقليل التكلفة المدركة؟

***

إن التصميم الذكي للأمور الافتراضية يمكن أن يكون له تأثير حقيقي على المبيعات؛ ففي عام ٢٠٠٧، أجبرت نيويورك سائقي سيارات الأجرة على بدء قبول استخدام بطاقات الائتمان؛ الأمر الذي كان يتضمن تركيب نظام به شاشة لمس للقيام بعملية الدفع. في أثناء الدفع، يظهر أمام المستخدم ثلاثة أزرار أو خيارات افتراضية خاصة بدفع البقشيش: ٢٠ بالمائة و٢٥ بالمائة و٣٠ بالمائة (انظر شكل ٤-١٠). عندما يتم الدفع لسائقي سيارات الأجرة بطريقة الدفع النقدي فقط، فإن متوسط البقشيش كان تقريبًا يبلغ ١٠ بالمائة. وبعد إدخال هذا النظام، ارتفعت نسبة البقشيش إلى ٢٢ بالمائة. فنظام الأزرار الثلاثة أدى إلى زيادة في البقشيش قدرها ١٤٤ مليون دولار في العام!

كيفية الاستفادة من كل هذا معًا

كيف يمكن الاستفادة من المعرفة التي يقدمها لنا الاقتصاد السلوكي في تحسين واجهات اتخاذ القرار التي توجد بيننا وبين عملائنا؟ يعرض شكل ٤-١١ ملخصًا للمبادئ التي عرضنا لها حتى الآن.
يوضح المثال التالي أنه من خلال واجهة اتخاذ قرار واحدة يمكن استخدام عدة مبادئ وطرق استدلالية لتحسين مسار عملية الشراء. جروبون دوت كوم موقع ويب جَذَبَ إليه قدرًا كبيرًا من الاهتمام عندما عرض موقع جوجل ٦ مليارات دولار لشرائه (وهو عرضٌ تم رفضه من قِبل الشركة المالكة للموقع). إن المشكلات التي تواجهها الشركة المالكة لهذا الموقع مؤخرًا ربما تكون لها عدة أسباب، لكن ليس من بينها تصميم الموقع (انظر شكل ٤-١٢). فإذا كنت تسعى لبيع كوبونات دعائية على الويب، فإن هذا الموقع سيقوم لك بهذه المهمة على أكمل وجه. دعونا نطبق المبادئ التي عرضنا لها حتى نفهم السبب في ذلك على الوجه الأكمل.
fig57
شكل ٤-١٠: الخيارات الافتراضية غيرت سلوك دفع البقشيش في سيارات الأجرة في نيويورك (المصدر: موقع http://goodexperience.com/2011/02/how-a-taxi-button-cha.php).
fig58
شكل ٤-١١: ملخص للمبادئ العامة المستخلصة من الاقتصاد السلوكي العوامل المحركة لاتخاذ القرار/المبادئ المستخلصة من الاقتصاد السلوكي.

يتمثل المبدأ الأول في محسوسية القيمة؛ فالمستهلكون يرون ما يحصلون عليه؛ فالقيمة بارزة جدًّا لأن الناس يكونون على وشك شراء الطعام من المطعم. إن هذا لا يكون مذكورًا فقط في النسخة، وإنما موضحًا أيضًا على نحو مرئي؛ فالقيمة مشار إليها أيضًا من خلال السعر العادي، وذلك بإعادة تأطير السعر المعتاد على هيئة «قيمة» وليس «السعر المعتاد»؛ فالكلمات «الكمية المتاحة محدودة» تنشط الطريقة الاستدلالية الخاصة بالندرة، وهذا — إلى جانب عامل الوقت المحدود — يزيد القيمة المدركة. ماذا عن جانب التكلفة؟ إلى جانب تقليل التكلفة الموضوعية، فإن المبلغ الذي تم توفيره يَظهر على نحو بارز وبشكلين: الخصم بالنسبة المئوية، والمبلغ المدخر بالدولار. إن السعر العادي يعد بمنزلة مرساة يبدو من خلالها المبلغ الذي تم توفيره كبيرًا. تم تحقيق عامل الفورية من خلال زر الشراء البارز؛ فالمكافأة يمكن اقتناصها بنقرة على هذا الزر الجذاب. ومن خلال عامل الوقت المحدود، تم إثارة الإحساس بوجود حاجة ملحة؛ مما يجعل زر الدفع أكثر بروزًا. كما أن الإشارة إلى عدد الأشخاص الذي اشتروا بالفعل هذا المنتج يشير إلى التأثير الاجتماعي الذي يقلل من عدم اليقين والخطر المدرك المتعلق بالشراء من بائع ربما يكون غير معروف للشخص. يقلل هذا من التكاليف المدركة ويتناقض مع رغبتنا في تجنب الخسارة، بالإضافة إلى ذلك، عامل الندرة يحفزنا على الفعل لأن وجود يقين لدينا بشأن القيمة يمكن تعظيمه فقط بالقيام بفعل الآن.

fig59
شكل ٤-١٢: توظف واجهة اتخاذ القرار الخاصة بموقع جروبون دوت كوم عدة طرق استدلالية.

هناك مجال تم فيه الاستعانة بمبادئ الاقتصاد السلوكي بنجاح كبير؛ وهو الادخار من أجل معاش التقاعد؛ فالجميع يعرف أننا نحتاج لادخار أموال الآن حتى نعيش على نحو جيد في المستقبل؛ لذا، لماذا لا تؤدي معرفتنا بهذا إلى قيامنا بعملية الادخار؟ حتى نتعامل مع هذا الأمر، دعونا نطبق بعضًا من المبادئ التي عرضنا لها حتى الآن. حيث إن الأمر كله متعلق بالإشارات القابلة للإدراك، فعلينا النظر إلى القيمة والتكلفة القابلتين للإدراك عندما ندخر من أجل معاشات التقاعد خاصتنا. إن الإشارة الملموسة الوحيدة هي المبلغ (التكلفة) الذي يكون علينا ادخاره شهرًا بعد الآخر. في اللحظة المحددة التي يكون علينا تحديد المبلغ الذي سيكون علينا ادخاره سنشعر بالألم لأننا سنفقد أموالًا. وحتى نقبل هذا الأمر، علينا رؤية قيمة في فعل هذا. غير أن جانب القيمة في نفس تلك اللحظة غير قابل للإدراك؛ نحن نعرف أن الادخار أمر جيد، وأنه الأمر الصحيح، لكننا لا نرى أي قيمة؛ فالقيمة بعيدة في المستقبل، وهذا يقلل من أهمية القيمة بالنسبة إلى نظام الطيار الآلي في الحاضر؛ لذا، فإن هذا يتركنا في مواجهة جانب التكلفة. التكلفة تكون فعلية؛ لذا، كيف يمكننا منعها من أن تصبح محسوسة بالنسبة إلى العميل؟ ألهم هذا السؤال عالِمَ الاقتصاد السلوكي ريتشارد ثالر وجعله يبتكر آلية رائعة وناجحة لموظفي الشركات للادخار لمعاشات تقاعدهم تسمى برنامج «وفِّر أكثر للمستقبل». لا يدفع المشترك في النظام أي شيء إلا مع الزيادة التالية في راتبه. ويتم تحويل مبلغ محدد من الزيادة تلقائيًّا إلى صندوق التقاعد. موضوعيًّا، الناتج لا يختلف بالنسبة إلى الموظف لكن التجربة مختلفة جدًّا؛ فأولًا: لا توجد أي إشارة مباشرة للتكلفة، وإنما الإشارة المدركة هي «توفير المزيد»؛ أيْ قيمة. ثانيًا: ليس على الموظف التخلي عن شيء هو بحوزته بالفعل (أيْ ملكه)، وهذا يقلل على نحو كبير الألم المدرك. بالإضافة إلى ذلك، بتأخير المبالغ المدفوعة الإضافية المستقبلية (لأنها مرتبطة فقط بمناسبة الزيادة التالية في المرتب)، حدث تقليل من أهمية التكاليف بسبب بعدها المؤقت؛ لذا، إجمالًا، وباستخدام مبادئ المحسوسية والفورية واليقين، تم تقليل العوائق؛ ومن ثَمَّ زيادة القيمة الإجمالية لاتخاذ القرار.

تدريب

استخدِم المبادئ الثلاثة (المحسوسية والفورية واليقين) لتحسين واجهات اتخاذ القرار خاصتك.

الطرق الاستدلالية وتطبيقها على المستوى الدولي

هناك جانب آخر يجعل قواعد اتخاذ القرار الضمنية جذابة جدًّا للمسوقين؛ وهو أن تطبيقها ينجح على المستوى الدولي؛ فنحن المسوقين كثيرًا ما نواجه التحدي المتمثل في الحاجة لإدارة علامات تجارية دولية مع محاولة إيجاد التوازن الصحيح بين كفاءة الحجم والتركيز الإقليمي. فهل واجهات اتخاذ القرار والطرق الاستدلالية التي نطبقها تنجح على المستوى الدولي؟ عند تأمُّل هذا السؤال، حاول الباحثون في إحدى الدراسات فَهْم الكيفية التي يمكن أن تتأثر بها المبيعات ببنية أي عرض، وذلك على نحو أفضل. وقد استخدموا مثال طلب البيتزا في الولايات المتحدة وإيطاليا. طُلب من المشاركين إما إضافة المزيد من المكونات على منتج أساسي (حيث إن المفترض هو عدم وجود أي مكونات) أو تقليل مكونات منتج كامل (حيث من المفترض أن هناك العديد من المكونات). انظر شكل ٤-١٣. في كلتا الدولتين، انتهى الأمر بالمستهلكين بإضافة مكونات أكثر بمقدار الضعف عندما طُلب منهم حذف مكونات من العرض بدلًا من إضافتها؛ وهذا بالطبع يعني دخلًا وربحًا أكبر بالنسبة إلى البائع.
fig60
شكل ٤-١٣: تعمل قواعد اتخاذ القرار بفاعلية على المستوى الدولي.

في دراسة ذات صلة، عُرض على المستهلكين سيارة بِسِمات كاملة، وأعطوا فرصةَ حَذْف سمات اختيارية لتوفير بعض المال، لكن الأمر انتهى بهم باختيار مجموعة سمات أعلى قيمة من جانب المستهلكين الذين قُدمت لهم سيارة بها السمات الأساسية فقط وأعطيت لهم فرصة إضافة سمات إليها. إن إضافة أو حذف سمات أو مكونات عمليةٌ قابلةٌ للإدراك على نحو كبير لكن بتأثيرات مختلفة جدًّا؛ فالإضافة تركز الانتباه على زيادة السعر، في حين أن الحذف يتعلق بتقليل التكاليف. إن تأثيرات ذلك على التسويق واضحة؛ فالبدء بعدد كبير من المكونات أو السمات والسماح للمستهلكين بتقليلها يؤدي إلى قبولهم للمنتج الأعلى سعرًا أكثر من البدء من منتج أساسي والسماح للمستهلكين بالإضافة إليه.

تكشف الدراسة الخاصة بالبيتزا عن نتيجة مثيرة أخرى تنطبق تقريبًا على كل الطرق الاستدلالية؛ وهي أنها تنجح في كل الدول وكل الثقافات؛ فقواعد اتخاذ القرار الآلية التي نعرض لها في هذا الفصل تعتمد على الطريقة التي يعمل بها الإدراك الحسي لدى البشر؛ ومن ثَمَّ، يجب أن تكون متشابهة، إن لم تكن متطابقة، بالنسبة إلى معظم البشر. يمكن القول إن كل البشر لديهم رغبة في تجنب الخسارة، وهذا مفهوم إذا نظرنا للأمر من منظور تطوري. كما أن تأثيرات التأطير موجودة في جميع أنحاء العالم. ويحدث التأثير الحقيقي للتعلم الثقافي على عملية فك الشفرة على مستوًى آخر أكثر دلالية من المعالجة. يحدث هذا عندما يسأل نظام الطيار الآلي عن ماهية الشيء ويكون للثقافة دور أكبر بكثير وتوجد اختلافات كبيرة بين الثقافات. إن تطوير حملات تسويقية دولية عمليةٌ صعبة لأن الإشارات التي تُستخدم، مثل شهادات تزكية العملاء أو الرموز أو الألوان، يمكن أن تكون لها معانٍ مختلفة في الثقافات المختلفة. وفي حين أنه قد ينجح استخدام بقرة أرجوانية باعتبارها رمزًا لمنتج شوكولاتة في ألمانيا أو فرنسا أو المملكة المتحدة، فقد لا يكون استخدامها فكرة جيدة في الهند؛ حيث تكون البقرة رمزًا مقدسًا. لكن لأن الطرق الاستدلالية آلية على نحو كبير وتعتمد على نحو عميق على طريقة عمل عملية الإدراك الحسي، فهي توفِّر فرصًا عظيمة يمكن استغلالها عبر مختلف الدول والثقافات.

إن هذا يكمل استعراضنا السريع لعالم الطرق الاستدلالية وقواعد اتخاذ القرار الضمنية واستخدام أبرز معالمه في تحسين نقاط التفاعل التسويقية. لكن يبقى سؤال مهم لم تتم الإجابة عنه؛ وهو: ما الذي يدفع الناس لأنْ تزور، على سبيل المثال، موقع جروبون دوت كوم في المقام الأول؟ ما الدافع الرئيسي وراء ذلك؟ من الواضح أن هناك الكثير الذي يقف وراء قراراتنا الشرائية غير المحسوسية والفورية ويقين المكافآت. صحيح أن تلك المبادئ تزيد على نحو كبير من احتمال إتمام عملية الشراء بمجرد زيارة الناس لإحدى الواجهات، لكن ما الذي يجعلهم يُقْبلون على زيارة تلك الواجهة في المقام الأول؟ يمكن أن تزيد شركة فيات من عدد المستهلكين الذين يشترون سياراتها من خلال عرضها الترويجي الذي ينص على «دفع ٥٠ بالمائة بعد عامين»، لكن ما الذي يجعل الناس يفكرون في العلامة التجارية لفيات؟ ولماذا يريد الناس سيارة على أي حال؟ للإجابة عن ذلك، نحتاج للنظر في عامل أساسي آخر يقف وراء قراراتنا الشرائية؛ ألا وهو: الأهداف التي يسعى وراءها المستهلكون عند شراء المنتجات والخدمات.

أهم النقاط الواردة في هذا الفصل

  • تُغيِّر واجهاتُ اتخاذ القرار السلوكَ دون تغيير المواقف، وهذا التغيير السلوكي يغير بدوره المواقف.

  • نظرًا لتأثر نظام الطيار الآلي بقوة بالإدراك الحسي، فإن القيمة الإجمالية المدركة تتأثر بالإشارات التي يدركها المستهلكون من خلال حواسهم. وكل الأشياء الأخرى أمور مزعومة ولن تؤثر على نظام الطيار الآلي.

  • يمكننا التأثير على عملية اتخاذ القرار من خلال واجهات اتخاذ القرار بالاستعانة بالمبادئ العامة الثلاثة التالية: المحسوسية والفورية واليقين.

ما يعنيه لنا هذا باعتبارنا مسوقين

  • عبْر الإشارات التي نستخدمها في واجهة اتخاذ القرار، يمكننا على نحو مباشر التأثير على السلوك، ومن ثَمَّ، عمليات الشراء دون وجود أي خطوة وسيطة متعلقة بتغيير مواقف المستهلكين، وهذا يتكامل مع النهج الأساسي الخاص بنقاط التفاعل غير التفاعلية (على سبيل المثال، وسائل الإعلام المرئية والمسموعة) حيث يكون التركيز، بوجه عام، على تغيير المواقف.

  • لتعظيم القدرة الإقناعية للتسويق، هناك سؤال أساسي يجب الإجابة عنه؛ وهو: كيف يمكننا تحويل نقاط التفاعل إلى واجهات اتخاذ قرار؟ بعبارة أخرى، كيف يمكننا تحويل المستهلك من مجرد ملاحظ سلبي لنقطة تفاعل (على سبيل المثال، إعلان تليفزيوني) إلى متخذ قرار نشط؟

  • الإدراك الحسي والتجربة هما أهم شيئين؛ لذا، فإن عروض القيمة خاصتنا المقدمة لعملائنا يجب أن تكون قابلة للإدراك والتجربة عبر الحواس، وإلا فسيكون تأثيرها على نظام الطيار الآلي منقوصًا على نحو كبير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤