مُقدمة الطبعة الروسية

أليس أمرًا غريبًا ألَّا تصدر باللغة الروسية منذ أمدٍ بعيدٍ أيَّة مؤلفاتٍ حول تاريخ القرصنة البحرية؟! صحيحٌ أن تاريخ القرصنة البحرية — هذا ما قد يبدو لنا من الوهلة الأولى — معروفٌ لنا جميعًا من خلال عددٍ كبيرٍ من الكتب الواسعة الانتشار، الذائعة الصيت، على أنَّ كل هذه الكتب تقريبًا ليست سوى روايات وقصص وأشعار بايرون، وفولتير، وسكوت، وفينيمور كوبر، وماين ريد، وستيفنسون، والكابتن مارييت، أمَّا المؤلفات العلمية المتخصصة أو العلمية المبسَّطة؛ فلم يكنْ لدينا منها شيء، لا من تأليفنا، ولا من ترجمتنا، على الرغم من أن تاريخ القرصنة — بلا أدنى شكٍّ — أمرٌ مشوق، لا في حد ذاته فحسب؛ بل لأنَّه يساعدنا، فضلًا عن هذا، في فهْمِ نشأة العديد من الدول — التي ترك النهب البحري بصماتٍ واضحةً على ماضيها — فهمًا أفضل.

ربَّما لم تكن القرصنة فوق هذا مجرد تاريخٍ أُغلقت صفحاته، بل هي كما يبدو واقعٌ حيٌّ تمامًا، على الرغم مما ورد ذكره في موسوعة «بروكهاوس وإفرون» الصادرة في القرن الماضي في المقال المعنْون له ﺑ «النهب البحري أو القرصنة»، والذي تَرِد في سطوره الأولى الكلمات التالية: «وهي ليست موجودة تقريبًا في الوقت الحالي.»

إنَّ تكرار حوادث خطف الطائرات والسفن بصورةٍ حادةٍ في أيامنا هذه، يُعَد من جانب كثيرٍ من الناس بمثابة بعثٍ للقرصنة؛ مما دفع بالحكومات والمنظَّمات الدولية للنظر من جديدٍ في مسألة مكافحة القرصنة، واتخاذ الإجراءات بشأنها.

في هذا الكتاب يحاول «ياتسيك ماخوفسكي» الكاتب الصحفي البولندي الشهير أن يطرح تصورًا لكل المراحل الرئيسية للقرصنة. هنا يمتد زمن الأحداث من العالم القديم وحتى عصرنا الحديث، أمَّا مسرح هذه الأحداث فهو كوكبنا بأَسْره، كل البحار حيث كان أسطول القراصنة، على حد قول كيبلنج: «هنا وهناك يرسل بالتحية إلى السفن التي يلتقي بها.»

إنَّ الإحاطة الكاملة بأحداث هذا الموضوع أمرٌ يبدو مستحيلًا، لقد كانت للقرصنة بطبيعة الحال سماتها المميزة في شتى العصور وفي شتى البلاد، وهيهات أن يتسنَّى لنا فهْم هذه الظاهرة ذاتها فهمًا تامًّا ما لم نقم بدراسةٍ مفصلةٍ لهذه العصور وهذه البلاد، ناهيك عن أنَّ المرء ما إن يقرر أن يأخذ على عاتقه أمر دراسة تاريخ القرصنة، حتى يصطدم على الفور بمشكلة النقص الحاد في الوثائق، وعلى رأسها التي يُستند فيها إلى القراصنة أنفسهم؛ فكتابة السير الذاتية والمذكرات لم تكن من أشكال النشاط المحبَّبة لديهم، كما أنَّ رسم مظهر هؤلاء الناس وتخيل حياة مجتمع القراصنة أمر كثيرًا ما تكتنفه الصعوبات؛ ولهذا فإنَّ البحوث الجادة — وحتى بخصوص فترات محددة في القرصنة في إطار علم تاريخ العلم — شحيحة، أما كتابة التاريخ العلمي الحقيقي للقرصنة عبر كل العصور؛ فهو عملٌ معقَّدٌ للغاية، ويصعب على فردٍ واحدٍ القيام به، مهما كان مسلَّحًا بمعارفَ موسوعيةٍ.

على أيَّة حالٍ، فمن البديهي أن ماخوفسكي لم يضع نصب عينيه هذه المهمة، لقد قام على نحوٍ مُفعمٍ بالحرية بحكايةِ أوضح حكايات هذا التاريخ، بل ووضع بعض صفحاته في قالبٍ روائي.

ستمرُّ أمام القارئ أسماء: هنري مورجان، ملك قراصنة وست إنديا، وهو النموذج الأصلي للكابتن بلاد في رواية رفاييل ساباتيني الشهيرة، وجون إفري الذي كرَّس له دانيال ديفو — مؤلف رواية «روبنسون كروزو» — اثنين من كُتبه؛ الأول في الأدب الاجتماعي، واتخذ له عنوان «ملك القراصنة، أو تقرير عن المآثر المجيدة للكابتن إفري، الذي ادَّعى لنفسه لقب إمبراطور مدغشقر في خطابَيه اللذين كتبهما بنفسه»، والثاني روايته «حياة الكابتن سينجلتون العظيم ومغامراته»، إلى جانب الشخصيات الرائعة الأخرى لعالَم القراصنة، الذي جرى تأسيسه في جزيرة مدغشقر، وعلى رأسه جيمس بلانتين «ملك» رانتر-باي (هكذا كانوا يسمونه على اسم الخليج الذي كان يفرض عليه سلطانه)، وعروج، وخير الدين، وقد اشتهر باسم بارباروسا الأول، وبارباروسا الثاني حكَّام ما كان يسمى بدولة القراصنة البربر، التي قامت في الجزائر على مدى عدة قرون، وحتى الثُّلث الأول من القرن التاسع عشر، أي حتى سقوط سيطرة الباب العالي العثماني.

حوى عالَم القرصنة أُناسًا من شتَّى الأجناس؛ أوروبيين، عربًا، صينيين، ومن الملايو، وإندونيسيا … هؤلاء الناس وتلك الأحداث، التي ستتعرف عليها أيها القارئ بفضل كتاب ماخوفسكي، ستساعدك في رؤية جوانبَ مختلفةٍ تمامًا للقرصنة، وكذلك في اكتشاف جذورها الاجتماعية والنفسية إلى حدٍّ ما، وهو للأسف أقل الجوانب دراسةً، وإن كان من أكثرها أهميةً. إنَّ معاصري الأحداث ومَن تلاهم من مؤرخين لم يُولوا دور القرصنة كشكلٍ من أشكال الاحتجاج الاجتماعي، سوى أقل القليل من اهتمامهم.

وعلى الرغم من أنَّه لا يمكن إطلاقًا تبرير مهنة القرصنة أو تصورها في قالبٍ مثالي ككل، فإنه لا يمكن في الوقت ذاته أن ننكر أنَّها كانت في بعض الأحيان شكلًا من أشكال الاحتجاج خروجًا على مجتمعٍ قائمٍ على الظلم، مجتمع تنظمه علاقات تعسُّفية، وتتحكم فيه بشكلٍ صارم مؤسساتٌ جائرةٌ.

وقد كانت القرصنة، في أحيانٍ أخرى، مرتبطةً أيضًا لا بمجرد كونها احتجاجًا اجتماعيًّا، وإنَّما بالسعي لتحقيق نظام اجتماعي جديد، وفقًا لأفضل مُثُل ذلك الزمن.

لعلَّ أوضح مثال على هذا هي جمهورية ليبرتاريا، دولة البحرية التي أقامها القراصنة في نهاية القرن السابع عشر في شمال مدغشقر، هناك حيث تقع الآن مدينة ديبجو سواريز، أَسَّس هذه الدولة النبيل البروفنسالي ميسون، والدومينيكاني الإيطالي كاراتشيولي، وقد التَقَيا وتوطدت بينهما أواصر الصداقة في وطن تومازو كامبانيلا الذي كان هو الآخر من مُواطني الدومينيكان، واشتهر بأفكاره الاشتراكية، فضلًا عن إسهامه في حركة التحرير الشعبية في جنوب إيطاليا. رأى كارتشيولي — شأنه في هذا شأن ديكارت وعدد آخر من فلاسفة المذهب العقلاني آنذاك — أنَّ الله سبحانه وتعالى بعد أن خلق البشر توقَّف عن التدخل في شئونهم اليومية، وعلى هذا فإنَّ القوانين التي وضعوها هي التي تسود المجتمع البشري، وليست قوانين الله العلي القدير، أي إنَّ من الممكن، بل ومن الواجب، التمرد على هذه القوانين. وهكذا أعلن ميسون وكارتشيولي الحرب على الأوضاع التي هي من صُنع البشر؛ مثل النظام الملكي، وعدم المساواة بين الناس، وغيرها من الأمور الأكثر خصوصية؛ مثل قوانين الإعدام على سبيل المثال، على أنَّ أوروبا لم تكن بها آنذاك قوة تستطيع الوقوف ضد أعمدة نظام الدولة، عندئذٍ لم يكن أمام الفلاسفة الشُّبَّان الذين قرروا تغيير النُّظم القائمة، سوى التوجُّه لتلقِّي العون من القراصنة.

تُرى ما الذي دفع هؤلاء الناس إلى الاستعانة بالقراصنة بالذات؟ لقد كانت هناك أسبابٌ عديدةٌ ومهمةٌ للغاية بمقياس هذا الزمان.

لقد تسنَّى للقراصنة أن يرفضوا مبادئ العصر وتقاليده التي بدت آنذاك راكدةً بعيدة عن كل تغيير، كما تسنَّى لهم أن يُسقطوا تلك الغمامة التي أصبح أُفق الناس بسببها ضيقًا محدودًا. استطاع القراصنة المطاريد النازحون من مختلف شرائح طبقات المجتمع أن يروا الحواجز التي فرضتها الأعراف الاجتماعية، فقد كان من بينهم أناسٌ متعلِّمون وآخرون من حُثالة المجتمع، ضباط ملكيون وبحارة وموظفون عملوا فيما مضى في إدارة الأسطول البحري، ولصوصٌ نكرة تواءموا جميعًا علىى ظهر سفينةٍ واحدة، بذلك تحقَّق الالتحام الوثيق بين هؤلاء الفرسان الذين انحصرت مهمتهم في أخذ كل سفينة غصبًا، ولعله لم توجد في تلك العصور جماعة تقاربت فيما بينها بمثل هذه القوة مثل طاقم سفينة القراصنة. إنَّ النجاح المشترك هنا، بل والحياة ذاتها، كانا وفقًا على شجاعةٍ وانضباط كل فرد من أفراد هذه الجماعة؛ ولهذا فقد كان على كل مَن يدخل في عِداد أي عصابةٍ كبيرة مثل هذه أن يوقِّع على ميثاقها، ولو بمجرد رسم صليب، وفي الوقت نفسه يقوم بتقبيل الكتاب المقدس. أمَّا المساواة وحرية التعبير عن الآراء فكانت تمثِّل المبادئ الأساسية لهذا التنظيم، فالقبطان لا يملك اختيار الطريق الذي ستسلكه السفينة، أو يحدد هدف الإغارة إلَّا بالموافقة الجماعية، أمَّا الأسلاب والغنائم فقد كان يتم تقسيمها وفقًا لنظامٍ صارم تم إقراره.

ليس من قبيل المصادفة إذن أن نال القراصنة إعجاب العديد من أفضل أبناء القرنين السابع عشر والثامن عشر.

كتب فولتير، أكبر فلاسفة القرن الثامن عشر، مقالًا للموسوعة الفرنسية في مادة «القراصنة» جاء فيها: «لم يكَد الجيل السابق يقصُّ علينا العجائب التي تمت على أيدي هؤلاء القراصنة، حتى أخذنا في الحديث عنهم دون انقطاع، لقد مسُّوا لدينا وَتَرًا حساسًا … ولو أنَّهم استطاعوا أن تكون لديهم سياسة تقف على قدم المساواة وجسارتهم الجبارة، إذن لأقاموا إمبراطورية عُظمى في أمريكا … لا الرومان، لأن غيرهم من الشعوب التي قامت بأعمال النهب، استطاعوا أن يحققوا مثل هذه الفتوحات المدهشة.»١

يحدثنا ماخوفسكي بالتفصيل عن أفكار ميسون وكارتشيولي، وعن جمهورية ليبرتاريا التي أسسوها معًا، ويورد نص الخطاب الرائع بالنسبة لتلك العصور، والذي توجَّه فيه لرجاله عندما استولوا على سفينةٍ تحمل عبيدًا عنه عند الشواطئ الأفريقية بقوله: «هاكم مثالًا عن القوانين والأعراف المخزية التي نحاربها، إنَّ هؤلاء اللصوص الذين يتعيشون على تجارة الرقيق لا يملكون روحًا ولا قلبًا، إنَّهم يستحقون العذاب المقيم في نار جهنم! إنَّنا ننادي بالعدالة للبشر دون استثناء؛ ولهذا فإنَّني أُعلن وفقًا لأفكارنا أنَّ هؤلاء الأفارقة أحرار، وأدعوكم جميعًا يا إخوتي أن تعلِّموهم لغتنا وديننا وعاداتنا وفنوننا البحرية، حتى يستطيعوا أن يكسبوا قُوتَهم من عملٍ شريف، ويدافعوا عن حقوقهم الإنسانية.»

انتشرت الأخبار عن ليبرتاريا بفضل مذكرات ميسون الذي شارك في إقامتها والتي أفصحت، بلغةٍ معاصرة، عن رئيسها؛ فقد تم نشر مخطوطة ميسون بعد ربع قرن من وفاته، وتم طبعها في واحدٍ من أوائل الكتب التي تناولت تاريخ القرصنة تحت اسم «التاريخ العام للنهب والقتل الذي قام به أشهر القراصنة، وكذلك طباعهم ونظامهم وقيادتهم، منذ بداية القرصنة وظهورهم في جزيرة العناية الإلهية وحتى الآن». ظهر هذا الكتاب بهذا العنوان في لندن في العشرينيات من القرن الثامن عشر، ووقَّع عليه مؤلفه تشارلز جونسون، تحوي المخطوطات الصغيرة التي تركها ميسون الكثير من الأمور الغامضة، وحتى اسم مؤلفها ليس سوى اسم من وحي الخيال؛ فقد أخفى صاحب المخطوطة اسمه الحقيقي. على أنَّ مضمون اليوميات ذو أهمية كبيرة إلى حد أنَّ الاهتمام بها لم ينقطع حتى في عصرنا الحالي. لقد اهتم أهالي مدغشقر بدولة الحرية التي قامت يومًا ما على أرضهم، ففي مايو ١٩٧٠م نشرت «لو كرييه دي مدغشقر» أكبر صحف مدغشقر موادَّ تحت عنوان «ليبرتاريا … عندما تأسست في دييجو سواريز جمهورية اشتراكية وشيوعية»،٢ كما كتب أندريه شيك العالِم المَجَري الكبير، والشخصية الاجتماعية المعروفة، والحاصل على جائزة لينين العالمية، كَتب كثيرًا عن ليبرتاريا في كتابه «تاريخ أفريقيا السوداء»، كما لاقت دولة الحرية هذه أكبر اهتمام في كُتب العالِم الفرنسي الشهير أوبير دوشان «قراصنة مدغشقر» و«القراصنة واللصوص»، كَتب دوشان يقول: «لقد نجح القرصان المنبوذ من العالَم أن يقيم لبعض الوقت على هذا الشاطئ المفقود لتلك البلدة المتوحشة جمهورية أممية، هذه العشيرة التي تجمع بين مختلف الأجناس والشعوب، هذا الخليط من مختلف القوميات، هذه الإرهاصة٣ لمجتمع المستقبل …» إنَّ المناقشات التي دارت في ليبرتاريا يعتبرها دوشان جديرة ﺑ «عمالقة عام ١٧٩٣م».٤
خرجت مذكرات ميسون إلى النور للمرة الأولى، على صفحات كتاب تشارلز جونسون، وتُرجمت بعد ظهورها بمائتين وخمسين عامًا إلى البولندية،٥ وقد اطَّلع ماخوفسكي على مذكرات ميسون، واعتمد عليها في مقالاته (وإن كان قد تحدَّث لسببٍ ما في بعضها بلهجةٍ لا تخلو من سخريةٍ عن أفكار الدومينيكاني كاراتشيولي دونما مبرر يُذكر).
لا يمكن بالطبع اعتبار مجتمع مثل الذي في ليبرتاريا نموذجًا لتاريخ القرصنة، على أنَّ ميسون وأتباعه لم يكونوا الوحيدين آنذاك الذين اعتنقوا أفكارًا تُعد تقدُّمية تمامًا بالنسبة لعصرهم. انظر كيف عبَّر القرصان الشهير الكابتن بيلامي عن أفكار رِفاقه بقوله: «إنَّنا لا نخضع للقوانين، لقد وُضعت للأغنياء لكي يسرقوا تحت حمايتها الفقراءَ، إنَّنا نسرق الأغنياءَ، تحمينا شجاعتنا فقط.»٦

لقد تقرَّر إقامة أول حكومةٍ على الأرض في دولة الحرية، حيث لم تكن هناك أيَّة فوارق طبقية أو عرقية، فضلًا عن عدم وجود أية فوارق بسبب القومية.

لقد أعلن ميسون لرفاقه بعد أن استولى على سفينة تجارة الرقيق الهولندية، وتحرير الزنوج الأسرى على ظهرها أنَّ «هؤلاء الناس يختلفون بالطبع عن الأوروبيين بلون بشرتهم وعاداتهم وطقوسهم الدينية، ولكنَّهم لا يقلُّون عنَّا أهمية كمخلوقاتٍ قادرة؛ لأنَّهم وُهبوا العقلَ مثلما وُهبنا»،٧ من الصعب أن نجزم ما إذا كانت وجهة النظر هذه قد قِيلت على هذا النحو من الدقة والوضوح، وهل تم التعبير عنها في مجتمعات قرصنة أخرى، لكن الزمن احتفظ لنا بشهاداتٍ دامغة تقطع بوجود علاقاتٍ طيبة نشأت بين قراصنة حوض الكاريبي والهنود الأمريكيين في القرن السابع عشر، كان هؤلاء الهنود يعتبرون أنَّ القراصنة هم مُخلِّصون من ظلم المحتلِّين الإسبان. يذكر شاهد عيان «أنَّ القراصنة كانت تربطهم بهنود ذلك الزمان علاقات صداقة حميمة، إلى حد أنَّه كان بإمكانهم الحياة بينهم دون أدنى اكتراث،٨ وكثيرًا ما كان الهنود يذهبون مع القراصنة في رحلاتٍ بحرية، ويبقون معهم من عامٍ إلى ثلاثة أعوام وأربعة أعوام، دون أن يتحدَّثوا الفرنسية والإنجليزية، وكذلك كان الحال بين عددٍ من البحَّارة الذين كانوا يتحدثون لغة الهنود بطلاقة.»٩
لقد ألهمت أفضل صفات القراصنة على وجه التحديد العديد من الأدباء فيما بعدُ، وتم وضع هذه الصفات في قوالبَ شعرية، كانت رومانسية صعاليك بحار الدنيا قد نفدت من زمنٍ بعيد إلى بلادنا، بالرغم من أنَّ روسيا لم تكن لها إطلاقًا أية جُزر تحدها الصخور، كما لم يكن لها أوكار للقراصنة في الخلجان الاستوائية السرية، وقد تمت في القرن الماضي ترجمة «اللصوص» التي كتبها بايرون إلى الروسية، وكتب الشاعر تيموفييف، صاحب أغنية «لم يجرِ تعميدنا في الكنيسة»، في عام ١٨٣٥م قصيدته «القراصنة». وظهر في الشِّعر الروسي أيضًا «القراصنة الذين أخفوا الذهب في ميناءٍ سري»، ثم ذاعت بعد ذلك أغنية «روجر المرح»، وتبعتها أغنيات تتحدث عن سفن القراصنة ذات الصواري١٠ المتعددة الأشرعة في البحار البعيدة، كأعمالٍ أدبية خالصة تجسد حب الحرية والشجاعة والطرق المجهولة والبلاد النائية والخروج من ملل الحياة اليومية، حتى أصبحت هذه الأغنيات قاسمًا مشتركًا مع الأغاني التي اعتاد الرحَّالة أن ينشدوها حول النار، إنَّ الكتب ذات الطابع الرومانسي المقروءة في الطفولة، والتي تبدو كما لو كانت غير مرتبطة بحياتنا، اتضح أنَّها من الأمور الحيوية لدى الشباب، ولا نضيف جديدًا بالطبع إذا قلنا بأنَّ هذا شيءٌ لا اعتراض عليه، بالرغم من أنَّ أصحاب الوجوه الصارمة والذين يفتقدون روح الدعابة يسعون إلى اجتثاث أعمال، مثل «قراصنة البحر الأزرق البعيد». ذكر الموسيقار نيكيتا بوجوسلوفسكي، والشاعر ميخائيل لفوفسكي، صديق الشاعر بافل كوجان، مؤلف أغنية «الكرة الأرضية تدور وتدور» أنَّهما تعرَّضا للتعنيف الشديد بسبب حكاية «القبطان ذو الوجه الخشن كالصخور». طبعًا، لقد اعتُبرت أعمالهما ابتعادًا عن الواقع المألوف إلى الطرائف المشكوك فيها إلى عوالم ستيفنسون، وجوميلوف وجرينوفشن، إلى الرائحة الكريهة ﻟ «جون الأسمر» و«أغاني إيزا كرامر».١١

لم يسئْ ماخوفسكي استخدام التداعيات مع الأدب الروائي والأفلام السينمائية والمسرحيات معتبرًا — وهو على حقٍّ في هذا — أنَّ القرصنة موضوعٌ قائم بذاته، إنَّه يحدثنا هنا عن وقائع تاريخ القرصنة ذاتها.

إنَّه لأمرٌ طبيعي أن نجد ما نلوم عليه مؤلف الكتاب؛ إذ لم يتوخَّ الدقة دائمًا في عرض الحقائق، والأمر الذي لا مراء فيه أنَّ تجنُّب الخطأ في مجال مثل هذا لا حدود له تاريخيًّا وجغرافيًّا أمرٌ مستحيل تمامًا، خاصةً وأنَّ كتابة مقالات عن القرصنة في آسيا وأفريقيا كان أمرًا شاقًّا بالنسبة للمؤلف، وليس من قبيل الصدفة أنَّ «التاريخ العام للقرصنة» منذ كتاب تشارلز جونسون لم يكن يُعنى إلَّا بالقراصنة الأوروبيين.

إنَّ المعلومات المتوافرة عن قراصنة الشرق وأفريقيا معلومات شحيحة بصفةٍ خاصة، أمَّا تلك الأعمال القليلة التي ظهرَت على أية حال حتى في عصرنا الحالي، والتي كان من الممكن لماخوفسكي أن يستقيَ منها؛ فقد كانت تُكتب بشكلٍ أساسي في أوروبا، وهي أعمال تحوي أسماء أشخاص وأماكن وَهْمية، وكذلك اصطلاحات خاصة باللغات الأفروآسيوية.

إنَّ الاستفادة من مُنجزات المؤرِّخين المختصين في كل العصور والأماكن المذكورة في الكتاب هو أمرٌ فوق طاقة شخص واحد بالطبع. ها هو خوفسكي ينسُب ظهور النورمانديين في إنجلترا إلى عام ٧٨٩م، بالرغم من أنَّ المؤرخين الآن يحددون ظهورهم بعام ٧٩٣م، كما يُحدد عام ١٣٣٣م كنهايةٍ لأسرة يوان الصينية (بدلًا من عام ١٣٦٨م). من الصعب أيضًا الموافقة على تفسيره لمعنى كلمة «فايكنج»١٢ وكذلك مع توصيفه للفروق والسمات المشتركة بين قراصنة القرنين السابع عشر والثامن عشر، الذين استغلُّوا إنجلترا وفرنسا في حربهما ضد إسبانيا على المستعمرات (flibustiers) وبين قراصنة القرن السابع عشر في جزر وست إنديا، الذين كانوا يهاجمون المستعمرات الإسبانية في أمريكا، وكذلك السفن التجارية الإسبانية وغيرها (Boucaniers)، إلى جانب بعض تقديراته الأخرى، كذلك التعميم في بعض الحوادث الفردية التي يمكن مقابلتها على صفحات الكتاب.
إنَّ انتقاء المادة التي قام عليها هذا الكتاب يمكن أيضًا أن تكون موضع جدلٍ، فمن جانب هناك أحداث ووقائع وأناس من المستبعد أن تكون لهم علاقةٌ بالقراصنة، هل من الممكن مثلًا اعتبار أخيل وغيره من أبطال طروادة قراصنة؟ لقد كانت أعمالهم بالأحرى شكلًا من أشكال الحروب الداخلية، بل إنَّ التجارة البحرية في عمومها كانت آنذاك مرتبطة أشد الارتباط بالسلب والنهب، الأمر الذي يجعل أمر فصل القرصنة عن القراصنة، على نحوٍ ما، من الأمور الصعبة. من جانبٍ آخر فإنَّ الكتاب لم يتعرض لكثيرٍ من الأمور التي كان طَرْحها أمرًا بديهيًّا، فلم تنَلْ أعمال أشهر القراصنة «فرانسيس دريك»،١٣ وجورج كليفورد، والأخير حصل على «وسام الرباط»، وهو أعلى مكافأة ملكية في بلاده، لم يحدثنا ماخوفسكي أيضًا عن أسلاف١٤ هؤلاء القراصنة المسمَّيْن «سادة كورنول».١٥ يمكن تفسير ذلك بداهةً بحجم الكتاب المحدَّد، بالرغم من أنَّ المؤلف لم يألُ جهدًا في إفساح صفحات كثيرة لأمورٍ ذات طابع تفصيلي.
لم يعتمد المؤلف — فيما اعتمد — على المعلومات التسجيلية التي وردت في الكتاب المهم عن قراصنة حوض الكاريبي الذي تُرجم، حسب اعتقادي، إلى كل اللغات الأوروبية، وأُعيد طبعه مرارًا وتكرارًا عبر ثلاثمائة عام منذ صدوره للمرة الأولى، تحت هذا العنوان المميِّز لتلك الأزمنة «قراصنة أمريكا، القصص التفصيلية الصحيحة لكل عمليات النهب والشَّراسة الوَحْشية التي ارتكبها اللصوص الإنجليز والفرنسيون ضد سكان أمريكا من الإسبان» في ثلاثة فصول؛ يحكي الفصل الأول قصة وصول الفرنسيين إلى جزيرة إسبانيولا١٦ وعن طبيعة هذه الجزيرة وسُكَّانها ونمط معيشتهم، ويحكي الفصل الثاني عن ظهور القراصنة، وعن نُظمهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض، وعن مختلف الحملات التي قادوها ضد الإسبان. ويحكي الفصل الثالث قصة إحراق مدينة بنما على يد القراصنة الإنجليز والفرنسيين، وكذلك عن الحملات التي لم يشترك فيها المؤلف. وللكتاب ملحقٌ عبارة عن وصفٍ موجز للممتلكات الأمريكية للملك الإسباني كارل الثاني، وما تدرُّه من عوائد وكذلك نُظم إدارتها، بالإضافة إلى ذلك يقدِّم الكتاب وصفًا موجزًا لأهم الأماكن التي كانت تحت سلطة المسيحيين. كل هذا كتبه أ. أكسكفيميلن، الذي شاءت الأقدار أن يشترك في كل حملات القرصنة هذه، والكتاب مزوَّدٌ بالرسوم التوضيحية الرائعة والخرائط وصور الأشخاص، صدر في أمستردام، وطُبع بمطبعة يان تين هورن عام ١٦٧٨م.
على أنَّ الاعتماد على هذا المرجع الفريد قد سقط من كتاب ماخوفسكي، إذ إنَّ ما حواه قد ورد في العديد من البحوث التاريخية، أضِف إلى هذا أنَّ قرَّاءنا يعرفونه، ففي عام ١٩٦٨م تم نشره باللغة الروسية (ونجد بعض فقراته واردة في هذه الطبعة التي بين أيدينا). كما تمت ترجمة الرواية التي اعتمدت أيضًا عليه وهي «قراصنة خليج المكسيك» لمؤلفها فينسنتي ريفا بلاسيو، المشهور باسم «والتر سكوت المكسيكي».١٧

إنَّ الموضوع الذي وقع عليه اختيار ياتسيك ماخوفسكي موضوع مترامي الأطراف، إلى الحد الذي يجعل من تسقُّط أي عيب به أمرًا ميسورًا، في الأمور الأساسية (لم يلقَ عرض الجذور الاجتماعية التاريخية للقرصنة الاهتمام الكافي)، وفي التفاصيل (في استخدامه لبعض الاصطلاحات وفي دقة التواريخ). على أنَّه من الممكن أن نغفر له الكثير؛ بفضل هذا الموضوع الشيق والجهد الفائق الذي بذله؛ ولأنَّه سعى لأن يقدِّم تاريخ القرصنة بأكمله مضمِّنًا هذا التاريخ صفحاتٍ من الماضي تكاد تكون مجهولةً، إلى جانب استكماله بأحداثٍ من واقع حياتنا المعاصرة.

أ. ب. دافيدسون.
١  Collection complete des oeures de Volaire, t–23 (111) Geneve, 1775. Question sur l’encycoloedie par des amateurs, p. 248–249.
٢  Le Courrier de Madagascar (Tananarive), 20. V. 1970.
٣  الإرهاصة: البداية.
٤  H. Deschamps, Les Pirates a Madgascar, p. 80.
٥  C. John son, Kapitan, Historia najslnniejszych Pirateow m ich Zbord-nicze Wyczyny i rabunki, ira bunki, Warszawa, 1968.
٦  H. Deschamps, Pirates et filbustiers, p. 21.
٧  H. Deschamps, Les Pirates a Madagascar, p. 80.
٨  اكتراث: اهتمام.
٩  أ. اسكيفيميلن، قراصنة أمريكا، موسكو، ١٩٨٦م، ص٢٠٧–٢٠٨ (بالروسية).
١٠  الصواري: مفردها صارٍ، وهو عمود يُوضع في وسط السفينة، ويُعلق عليه الشراع.
١١  ن. بوجوسلوفسكي، م. لفوفسكي: كلمةٌ عن الأغنية. (صحيفة «كومسولسكايا برافدا» ٢ / ١٠ /١٩٦٢م).
١٢  انظر: أ. جوريفيتش، حملات الفايكنج، موسكو، ١٩٦٦م. (بالروسية).
١٣  فرانسيس دريك (١٥٤٠–١٥٩٦م): بحارٌ إنجليزي، قائد حملات القرصنة إلى روست إنديا، قام في الأعوام من ١٥٧٧م إلى ١٥٨٠م برحلةٍ بحرية حول العالم، تُعَد الثانية بعد رحلة ماجلان، في عام ١٥٨٨م كان تقريبًا هو القائد الفعلي للأسطول الإنجليزي، الذي ألحق بالأسطول الإسباني الشهير «أرمادا الذي لا يُقهر» هزيمةً ساحقةً (المترجم)
١٤  أسلاف: مفرد «سلف»، وهو السابق.
١٥  كورنول Cornall: شبه جزيرة تقع في جنوب غرب إنجلترا. (المترجم)
١٦  إسبانيولا Espnola: أحد أسماء جزيرة هايتي إبان الاحتلال (١٤٩٢–١٨٠٤م)، الاسم الآخر سانتو دومينجو. (المترجم)
١٧  ف. ريفا بالاسيو، قراصنة الخليج المكسيكي (مترجم من الإسبانية إلى الروسية) موسكو، ١٩٦٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤