الفصل العاشر

القراصنة والقانون

تحظى القرصنة — شأنها شأن العديد من الظواهر الاجتماعية الأخرى — باهتمامٍ حيوي من جانب رجال القانون، كما أنها تدخل بشكلٍ أساسي ضمن تخصصات علوم القانون، مثل القانون الجنائي، والقانون الدولي العام، وعلى مدى عدة قرون تعرَّضت علاقة القانون بالقرصنة لعددٍ من التغييرات.

في العصور القديمة والوسيطة، عندما كانت القرصنة جزءًا لا يتجزأ من حركة التجارة، كان رجال القانون يولُون النهب البحري قدرًا قليلًا جدًّا من الاهتمام. آنذاك لم تكن هناك قوانين محددة تحظر القراصنة، كما أنه لم يُتخذ أية إجراءات تفرض عقوبات على ممارسة هذه المهنة. زدْ على ذلك أن القانون الروماني القديم كان يحوي مبدأ قانونيًّا، اعتبره المشرِّعون فيما بعد نقطة الانطلاق عند إعدادهم للقوانين الموجهة ضد القرصنة، وقد وسم هذا القانون القراصنة بأنهم «أعداء البشرية» Pirata hostis generis humani. حدث ذلك في تلك الفترة التي أصبح حجم النهب البحري فيها يمثل تهديدًا لسيادة روما على حوض البحر المتوسط، جديرٌ بالذكر أن روما في القرن الأول الميلادي اضطرت للتورُّط بصورةٍ غير مباشرة في أعمال القرصنة، وهو ما اعتُبر آنذاك ظاهرةً استثنائية.

على أية حال فالدولة وجَّهت العقاب الموجود تحت تصرُّفها بما في ذلك القواعد القانونية، ولم تتدخل لمكافحة القرصنة إلا في فترة الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، عندئذٍ فقط تم اعتبار القراصنة أفرادًا خارجين على القانون. وقد تمت صياغة مبادئ عامة، وقواعد قانونية، تدين القرصنة، وتقضي بممارسة الضغط على الأشخاص الذين يمارسون السرقة في البحر، كما تكفَّل القانون بحماية مبدأين أساسيين ينظمان مسائل التجارة والملاحة في عصر الرأسمالية، وهما بالتحديد: مبدأ حرية التجارة، ومبدأ حرية التجار، وقد اعتبر القراصنة الذين كانوا يمثِّلون تهديدًا حقيقيًّا لهذين المبدأين من المجرمين، بِناءً على الصياغة التي وضعتها روما القديمة.

وانطلاقًا من قواعد هذا القانون جرى بعد ذلك حِرمان القراصنة من حق المواطنة، واعتبار القرصان «عدوًّا شرعيًّا»، وقد أدَّى ذلك بالتبعية إلى عدم تطبيق القوانين العسكرية، التي تحدد الوسائل المشروعة للحرب، بالنسبة للقراصنة وتنظيمها.

وفي القرن التاسع عشر ازداد عدد الدول التي أضافت إلى قوانينها الجنائية موادَّ جديدة تقضي بإنزال عقوبات صارمة على مَن يمارس النهب البحري، وفي عصرنا هذا تشتمل القوانين الجنائية لجميع الدول تقريبًا على مواد تَعدُّ القرصنة من الجرائم الخطيرة وتصنفها بينها، وعلى مر الأيام أخذ المشرعون يضعون تفاصيل المواد التي تُجرم النهب البحري، وينظرون في الوسائل القانونية لمحاربته على الصعيد الدولي. وكانت إحدى المهام الأولى التي أُلقيت على عاتق القانون الدولي هي قيامه بوضع تعريف للقرصنة، وقد أثارت مشكلة التعريف القانوني المحكم للقرصنة جدلًا شديدًا متصلًا.

في عام ١٩٢٢م قامت عصبة الأمم بعدة محاولات لوضع التشريعات القانونية الخاصة بالقرصنة، ولكن هذه المسألة رُفعت من جدول الأعمال بعد مرور ثلاث سنوات، دون أن ينتهي البتُّ فيها، كما جرى الاعتراف بأن عقد معاهدة شاملة بشأن هذا الموضوع أمر قد تكتنفه المصاعب، وقد قامت لجنة القانون الدولي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة بدورها بالمحاولة نفسها، وذلك في إطار الأعمال التمهيدية لوضع تشريعات القانون البحري، وعلى أساسه وضعت اللجنة مشروعًا كانت جامعة هارفارد الأمريكية قد أعدته قبل ذلك في عام ١٩٣٢م.

أُدرجت قضية القرصنة ضمن مادةٍ واحدة من أربع معاهدات خاصة بالقانون البحري، قامت بوضعها منظمة الأمم المتحدة، وهي بالتحديد اتفاقية أعالي البحار، التي اعتُمدت في التاسع والعشرين من أبريل عام ١٩٥٧م في جنيف، وتشير المادة الخامسة عشرة من هذه المعاهدة إلى أن أيًّا من الأعمال التالية يُعد عملًا من أعمال القرصنة:
  • (١)

    العنف غير الشرعي، الاحتجاز أو السرقة — لغرضٍ خاص — والذي يتم بواسطة طاقم أو ركاب أية سفينة خاصة أو طائرة خاصة مستهدفًا:

    • أي سفينة في أعالي البحار أو طائرة، أو أشخاص، أو ممتلكات تكون على متنها.

    • أي سفينة، أو طائرة، أو أشخاص، أو ممتلكات تكون بعيدة عن حدود اختصاص أي دولةٍ من الدول.

  • (٢)

    الاشتراك طواعية في العمل على أي سفينة، أو طائرة، إذا كان الشخص المشترك في العمل يعلَم أن هذه السفينة أو الطائرة هي سفينة أو طائرة قراصنة.

  • (٣)
    أي عمل يمثل تحريضًا أو تعاونًا واعيًا على ارتكاب الأعمال التي ورد ذكرها في البندين الأول والثاني من المادة الحالية.١

إن أوضح دليل على الصعوبات التي واجهت المشرِّعين عن وضع المادة المذكورة عاليه، هو سياق المناقشات التي احتدمت قبيل التوصُّل للصياغة النهائية الملائمة للمعاهدة. ولقد أشارت لجنة القانون الدولي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة في ملاحظتها، التي أبدتها على مشروع المعاهدة، أن تعريف القرصنة الذي ورد في المشروع، لم يشتمل على أعمال الاغتصاب التي تتم في المياه الإقليمية، أو الهجمات التي تأتي من البحر ضد الشواطئ، والتي تطبق عليها الأحكام القانونية الخاصة بالسرقة على البر، وذلك خلافًا لوجهات النظر التقليدية لبعض أعضائها، أولئك الذين أرادوا إدراج هذه الأعمال تحت طائلته. أما فيما يتعلق بمسألة الأسلحة التي يستخدمها القراصنة، فقد تخلت اللجنة أيضًا عن الصياغات التقليدية، فلم تكتفِ بذكر السفن الحربية، وإنما أضافت الطائرات كذلك، وجديرٌ بالذِّكْر هنا أن اللجنة رفضت اقتراحًا بشأن اعتبار أي عملٍ يقوم به أي من أعضاء الطاقم أو الركاب، بهدف الاستيلاء على السفينة أو الطائرة، عملًا من أعمال القراصنة.

وقد برزت إبان المؤتمر مشكلةٌ أخرى على قدرٍ كبير من الأهمية العملية، أثارت جدلًا كبيرًا، وهي ما إذا كان المقصود بمعنى القرصنة تلك الأعمال التي تُرتكب بغرض تحقيق منفعة شخصية فقط، أم يمكن اعتبار الأعمال الأخرى ذات الأهداف السياسية من بينها أيضًا. وقد اتضح للجنة القانون الدولي في سياق عملها وجود خلافاتٍ حادة في وجهات النظر الخاصة بهذه المشكلة. جديرٌ بالذكر هنا أيضًا أن نشير إلى أنه قد دارت قبل ذلك، وخاصةً إبان وجود الدول التي مارست القرصنة، مناقضات تساءلت عما إذا كان القراصنة، يعدون أعداء بالمعنى المتعارف عليه في القانون العسكري؟ وفي القرن التاسع عشر كان تجار الرقيق واللصوص — وأحيانًا — المتمردون الذين يستولون على السفن يُعاملون معاملة القراصنة، وذلك حين يقومون بارتكاب أعمال تخالف قواعد القانون الدولي.

وتولت العديد من المعاهدات الدولية — مثل: إعلان واشنطن في عام ١٩٢٢م بشأن استخدام الغواصات، والمعاهدة التي وقعت في عام ١٩٣٧ في نيون بسويسرا — مسألة تصنيف أعمال الاغتصاب في البحار، التي تقوم بها سفنٌ حكومية بين أعمال القرصنة، ويمكننا أن نجد وجهة النظر هذه في قرارات القانون الدولي ومبادئه التي تنظر إلى الأعمال نظرتها إلى القرصنة، حتى ولو كانت السفن التي قامت بها تابعةً لإحدى الدول.

ويرى رجل القانون الإنجليزي «لاوترياخت» أنه من الممكن اعتبار المتمردين الذين يقومون بالتحرُّش بسفن الدول الأخرى قراصنةً، على الرغم من أنه في الحالات المشابهة الأخرى التي تظهر فيها الدوافع السياسية وتختفي الأغراض الشخصية، تكون هذه الأمور مبررًا لاتخاذ إجراءات عقابية مخففة.

وترتبط مشكلة الوضع القانوني للمتمردين والسفن التي يقومون بخطفها بمشكلةٍ أخرى، ألا وهي مشكلة الدفاع عن ملاحة الدول المحايدة إبان الحروب الأهلية. وفي هذه الظروف فإن السفن الحربية الموجودة تحت أيدي المتمردين، أو الحكومة غير المعترَف بشرعيتها بعدُ لا تُعد من سفن القرصنة، ما دامت لم ترتكب أية أعمال إجرامية ضد مواطني وممتلكات الدول الأخرى، حتى ولو أعلنت الحكومات السابقة غير ذلك. فعلى سبيل المثال: أصدرت كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا أوامرها — إبان التمرد الذي وقع في إسبانيا عام ١٨٧٣م — إلى سفنها الحربية في البحر الأبيض المتوسط، بعدم اتخاذ أي أعمالٍ عسكرية ضد سفن المتمردين.

وقد حدث في عام ١٨٨٧م أن وقع تمردٌ في بيرو، وقام المتمردون بعد استيلائهم على السفينة الحربية البيروانية المدرعة «أوسكار»، باحتجاز سفينتين بريطانيتين في أعالي البحار (استولوا على حمولة الأولى من الفحم دون أن يسددوا ثمنها، بينما أنزلوا اثنين من ركاب السفينة الأخرى، وكانا موظفين من بيرو). كان من نتيجة هذا الاعتداء أن اعتبرت السفينة البيروانية من سفن القراصنة، وقامت إحدى السفن البريطانية بالهجوم عليها وإصابتها، وبعدما تمَّ تسليم «أوسكار» إلى السلطات البيروانية. طالبت حكومة بيرو بريطانيا بدفع تعويضاتٍ مقابل الأضرار التي ألحقتها بالسفينة، غير أن طلبها قُوبل بالرفض.

نتيجة انتشار ما يُسمَّى بقرصنة الدولة، فقد رأى كثيرٌ من المشرِّعين أن الهدف الشخصي Lurci Causa، لا ينبغي أن يكون هو الدافع الحتمي وراء الأعمال الإجرامية التي تُرتكب في البحر.
وكما أشرنا من قبل فإن لجنة القانون الدولي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، قد أيدت تعريف القرصنة بالمعنى الضيِّق لهذه الكلمة، وإذا كان هذا التعريف قد تجاوز قليلًا إطار مفهوم السرقة Furandi–causa، إلا أنه استثنى الجريمة لدوافعَ سياسية. وكما جاء في تعليق اللجنة: «إن الكراهية أو الانتقام، وليس فقط الحصول على مكاسب، يمكن اعتبارهما من دوافع القرصنة.»٢
تنص المادة الخامسة عشرة أيضًا على: أن مشرعي معاهدة جنيف بشأن أعالي البحار، قد سعوا لاستثناء أعمال العنف التي تقوم بها السفن والطائرات التابعة للدول من صفة القرصنة. وتفسر المادة السادسة عشرة من المعاهدة: «أن أعمال القرصنة، التي تم تحديدها في المادة الخامسة عشرة، والتي ترتكبها سفينة حربية أو سفينة تابعة لدولة، أو طائرة تابعة لدولة يقوم طاقمها بالتمرد، وفرض سلطانه على هذه السفينة أو الطائرة، فإن هذه الأعمال تتساوى مع تلك الأعمال التي تُرتكب على السفن الخاصة،٣ وعلى هذا فإن قطْع الطاقم لاتصالاته مع السلطات الشرعية، يتساوى وفقدان هذه الثقة، أو الطائرة لانتمائها القومي».

تتعامل تشريعات بعض الدول مع بعض الأعمال باعتبارها من أعمال القرصنة، حتى ولو لم تتسم بطابع العنف، وترى ضرورة تطبيق القانون بشأنها من هذا المنطلق؛ فالقوانين الفرنسية — على سبيل المثال — تعتبر أن طاقم أي سفينةٍ فرنسية مسلحة، تبحر دون امتلاكٍ للوثائق الرسمية اللازمة من القراصنة، بينما تساوي القوانين بين تجار الرقيق والقراصنة (أحكام القانون الصادر عام ١٨٢٤م المعروف باسم «القرصنة بالقياس»).

إن قضية تعريف القرصنة بصفةٍ عامة وثيقة الصلة بقضية تحديد سفينة أو طائرة القرصنة، فطبقًا لما جاء في المادة السابعة عشرة من معاهدة ١٩٥٨م فإن: «أي سفينةٍ أو طائرة تعتبر سفينة قرصنة أو طائرة قرصنة، إذا ما استخدمها أشخاصٌ، لهم كامل السيطرة عليها لارتكاب الأعمال المنصوص عليها في المادة الخامسة عشرة، وينطبق الأمر نفسه على السفينة أو الطائرة التي تستخدم لارتكاب هذه الأعمال، طالما ظلت تحت سيطرة أشخاصٍ متهمين بارتكاب تلك الأعمال،٤ أما الإبحار دون علمٍ فهو أمرٌ لا يكفي — من وجهة نظر لجنة القانون الدولي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة — ليكون مبررًا لاعتبار السفينة من سفن القرصنة.»

القراصنة أعداء البشرية Pirata hostis generis humani

طبقًا للاقتراح المبدئي للجنة القانون الدولي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، فإن من حق السفينة والطائرات الحربية فقط الاستيلاء على سفن القراصنة، وقد جاء مؤتمر جنيف، ليوسِّع من هذا الحق — بناءً على اقتراح وفدِ تايلاند — ليشمل السفن والطائرات الأخرى التي تعمل في خدمة الدولة، مثل السفن والطائرات التابعة للشرطة، وعلى هذا النحو حُرمت السفن التجارية من حق مطاردة القراصنة «أعداء البشرية» دون تفويض بذلك من حكوماتهم.

وينبغي هنا تناول الأمر بمزيدٍ من الحرص، لتجنب حدوث نزاعات، وهو ما عالجته المادة (٢٠) من اتفاقية جنيف، حيث ألقت بالمسئولية المادية على الدولة التي تقوم بمصادرة سفينةٍ، أو احتجازها للاشتباه في كونها سفينة للقراصنة، دون أن يكون لديها مبررات كافية لذلك.

كما أن الجهات التي تقوم باحتجاز القراصنة، ليس لديهم الحق في القيام بمحاكمتهم من تلقاء نفسها، وعليها تسليم المجرمين المقبوض عليهم إلى السلطات القضائية في الدول صاحبة السفينة المحتجَزة، ودائمًا ما يسترشد المشرع في معظم الدول بمبدأ إعادة الممتلكات التي نهبها القراصنة إلى أصحابها الشرعيين، وفي هذه الحالة تقوم المحكمة بخصم نسبة محددة مقابل المساعدة في إعادة الممتلكات. على سبيل المثال (١ / ٨) قيمة الممتلكات وفقًا للقانون الإنجليزي، أو (١ / ٦) القيمة وفقًا للقانون الأمريكي.

وفي حالة ما يُسمى بقرصنة الدولة، فإن الذين يقومون بارتكاب الجريمة، هم في النهاية بعض الأشخاص، وهؤلاء عليهم أن يتحملوا المسئولية الجنائية، بغض النظر عن المسئولية القانونية التي تقع على كاهل الدولة. ويرى بعض المشرعين أن السفينة التي تمارس أعمال القرصنة تفقد جنسيتها، وتصبح وفقًا لتعريف المشرعين الألمان Vogel Frei أي: «طائرًا طليقًا».
غير أن لجنة القانون الدولي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة رفضت مثل هذا الاقتراح، فالمادة الثامنة عشرة من معاهدة جنيف تنصُّ صراحةً على أن: «السفينة أو الطائرة يمكنها أن تحتفظ بجنسيتها، على الرغم من أنها أصبحت سفينة أو طائرة قرصنة»، وفي هذه الحالة فإن: «الاحتفاظ بالجنسية أو فقدانها يتوقف على قانون تلك الدولة التي منحتها هذه الجنسية»،٥ وعلى ذلك فإن سفينة القراصنة يمكن اعتبارها سفينة فاقدة الجنسية فقط، في حالة ما إذا اعترفت بذلك قوانين الدولة التي تبحر تحت علَمها تلك السفينة، ولا تكتفي معاهدة جنيف بتحديد حقوق الدول التي أضيرت من القراصنة، وإنما تحدد لها أيضًا واجباتها، إن المادة الرابعة عشرة من المعاهدة تفرض على هذه الدول واجب التعاون الدولي على نطاقٍ واسع، عند مطاردة القراصنة في أعالي البحار أو في أية مناطقَ أخرى، تقع خارج أية دولة مهما كانت، حتى ولو كانت في القطب الجنوبي مثلًا.
وتطرح منظمة الأمم المتحدة رأيها في هذا الصدد من خلال تعليق لجنة القانون الدولي، الذي يتحدث بشأن «الدولة التي يمكنها أن تتخذ تدابير ضد القرصنة، ثم لا تفعل ذلك وتتقاعس عن القيام بالواجبات المنوطة بها، وفقًا للقانون الدولي»، وكيف أن «من الضروري إعطاء هذه الدولة بعض الحرية في اختيار التدابير، التي من الضروري اتخاذها ضد القرصنة في كل حالةٍ بالتحديد».٦
لا ينسحب مبدأ التفويض المطلق للدولة صاحبة العلَم الذي تبحر تحته السفينة التي ترتكب عملًا من أعمال القرصنة على هذه السفينة، فطبقًا للمادة التاسعة عشرة من معاهدة جنيف: «يمكن لأي دولةٍ الاستيلاء، في أعالي البحار، أو في أي مكانٍ آخر يقع خارج حدود صلاحيات هذه الدولة أيًّا كانت، على سفينة القرصنة أو طائرة القرصنة، أو على السفينة التي جرى الاستيلاء عليها بواسطة أعمال القرصنة، والتي تقع تحت سيطرة القراصنة، وكذلك اعتقال الأشخاص الموجودين على هذه السفينة أو الطائرة ومصادرة الممتلكات الموجودة عليها. ويمكن للمؤسسات القضائية لتلك الدولة التي قامت بالاستيلاء، إصدار قراراتٍ بشأن توقيع العقوبات وتحديد الإجراءات التي يجب اتخاذها بشأن هذه السفن والطائرات أو الممتلكات دون مساسٍ بحقوق الأشخاص الأبرياء.»٧
لم يحدد القانون الدولي إجراءات عقوبات القراصنة، كما لم يقرر أيضًا كيفية التعامل مع سفينة القراصنة التي تم الاستيلاء عليها، ولا على البضائع الموجودة عليها، وإنما أعطى الحق في حل هذه القضايا لقوانين الدول التي قامت بالقبض على القراصنة. وتحتوي القوانين الجنائية لكل دولةٍ على المواد الملائمة المحددة. هناك — على سبيل المثال — المادة التاسعة في القانون الجنائي البولندي لسنة ١٩٣٢م، وهو ينصُّ على: «تطبيق مواد القانون الجنائي البولندي على المواطنين البولنديين، وكذلك على الأجانب الذين تقرر عدم تسليمهم، وذلك إذا ما قاموا بارتكاب الجرائم التالية خارج البلاد، وذلك بغضِّ النظر عن التعليمات المعمول بها في المكان الذي وقعت فيه الجريمة:
  • (أ)

    أعمال السرقة في البحر.

  • (ب)

    تجارة الرقيق.

  • (جـ)

    تجارة النساء والأطفال …»

تُعنى المادة «٢٦٠» من القانون الجنائي البولندي على وجه الخصوص بتفسير السرقة في البحر، فتنصُّ على أن: «كل مَن يسلِّح أو يجهِّز مركبًا بحريًّا، لإعداده لارتكاب جرائم في البحر، وهي الجرائم المنصوص عليها في المادة ٢٥٩، أو يذهب للخدمة على هذا المركب، يستحق السجن لمدةٍ تصل إلى عشرة أعوام.»

ولم يشر القانون الجنائي البولندي الجديد الصادر في ١٩ أبريل عام ١٩٦٩م إلى القرصنة، باعتبارها شكلًا خاصًّا من أشكال الجريمة، وإنما أشير فيه إلى مادةٍ ذات طابع عام تسمح بإمكانية إنزال العقاب ليس فقط على ممارسة السرقة في البحر، وإنما أيضًا على القرصنة الجوية. وقد ورد في الفقرة الأولى من المادة ١٤٥ من هذا القانون أن: «مخالفة قواعد الأمن الخاصة بالمواصلات البرية والمائية والجوية — ولو عن غير عمدٍ — والتي يتسبب عنها إصاباتٍ جسدية، أو مرض شخص آخر، أو إنزال أضرار جسيمة بالممتلكات، يعاقب عليها بالحبس لمدةٍ تصل إلى ثلاث سنوات.»

ألوانٌ من القرصنة

ينبغي تمييز بعض أشكال اللصوصية في البحر عن القرصنة بمعناها الشائع، فإذا كان القراصنة يمارسون النهب في البحر في أوقات السِّلْم والحرب على السواء؛ فإن هناك نوعًا آخر من اللصوص دأبوا على القيام بأعمال القرصنة في أوقات الحرب فقط، باعتبارها عملًا من أعمال «الفدائية» الاستثنائية. إن القرصنة من هذا النوع هي ظاهرةٌ تاريخية صِرْفة؛ إذ إن الدول التي وقَّعت معاهدة باريس السلمية في عام ١٨٥٦م رفضت هذا الشكل من أشكال الحرب تمامًا، وفي الماضي كانت القرصنة من هذا النوع واسعة الانتشار، بل واعتُبرت وسيلةً شرعية من وسائل الحرب في البحر.

القرصنة من النوع الثاني: هي اشتراك عدد من السفن الخاصة في الأعمال الحربية، على أساس تفويضٍ تتلقاه من الدول المتحاربة (على غرار ممارسة القرصنة بعد الحصول على شهادات بذلك Kaper )، في هذه الحالة يقوم القراصنة الفدائيون بممارسة أعمالهم على مسئوليتهم الخاصة.

وطبقًا لشروط الاتفاق المعقود مع هذه الدول يحصل القرصان على الممتلكات، التي يستولي عليها من الدولة المعادية كلها، أو على جزءٍ منها باعتبارها مكافأة له على ما قام به.

كانت المرة الأولى التي طُرح فيها الاقتراح بإلغاء هذا النوع من القرصنة في عام ١٧٩٢م في الجمعية العمومية لفرنسا، ثم جرى حظرها نهائيًّا في معاهدة باريس المعقودة عام ١٨٥٦م، كما سبق وأشرنا (لم تعترف الولايات المتحدة الأمريكية بهذا الحظر سوى عام ١٩٠٩م).

وجاء الخلط في الاستخدام الشائع للمعنَيين؛ لأن القرصنة الفدائية كانت كثيرًا ما تتحول إلى القرصنة في شكلها التقليدي. وفي الوقت نفسه جرى استخدام القرصنة لتبرير النهب البحري، وعلى سبيل المثال: فقد حصل أحد القراصنة الكبار، وكان يعمل في منطقة البحر الكاريبي، وعلى إحدى القلاع الكبرى للقرصنة في الماضي، على شهادة القرصنة من محافظ وست إنديا، وكان دنماركيًّا مقابل مبلغ ضخم من المال (جديرٌ بالذكر هنا أن هذا المحافظ كان قرصانًا سابقًا)، ولم يفهم القرصان نص الوثيقة التي أُعطيت له والمكتوبة باللغة الدنماركية، وقد اتضح فيما بعدُ أن هذه الوثيقة لم تكن تسمح إلا … «باصطياد الخنازير في جزر الأرخبيل الدنماركي!»

كانت أطقم سفن القراصنة الفدائيين عادةً ما تذهب لحال سبيلها بعد نهاية الحرب، على أنه في حالاتٍ كثيرة كان هؤلاء اللصوص الذين استمرءُوا الكسب السهل والحياة الرغدة، يرفضون التخلي عن هذا الأسلوب في المعيشة، ومن ثَم يتحولون إلى قراصنةٍ دائمين.

كانت هناك أيضًا مصادر أخرى للقرصنة، وما القرصنة إلَّا النتاج الحتمي لكل التكوينات الاجتماعية الاقتصادية في المجتمع الاستغلالي. ولقد وجدت أكثر العناصر الشجاعة والمغامرة الفرصة دائمًا لتجنيد أطقم السفن، والاستيلاء على الأساطيل، وأحيانًا تكوين مجتمعات كاملة للقرصنة. ولقد جرى تجنيد القراصنة من بين العبيد الهاربين، أو من الفلاحين الأقنان،٨ أو البحارين العاطلين، والعسكريين الفارِّين من الخدمة. ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء الأشخاص المطارَدين بسبب قناعاتهم الدينية والسياسية، أو لتصوراتٍ أخرى. ومن هنا يمكن أن ندرك أسباب تنوع أنماط القراصنة الذين عرفناهم جيدًا بفضل الكتب والأفلام السينمائة والتليفزيونية.

وقد امتدت جذور القرصنة إلى الأعماق مع وجود النظام الاستعماري، لما في هذا النظام من طابعٍ استغلالي قاسٍ للشعوب المستعبَدة؛ فإن بعض الشعوب التي وقعت تحت نير المستعمرين الأوروبيين، رأت في القرصنة واحدة من أفضل أشكال حركات الكفاح في سبيل التحرُّر الوطني. ولعلنا لهذا السبب نكتشف أحيانًا بين هذا الحشد الهائل من المذابح الدموية القاسية تارة هنا وتارة هناك، وجهًا مضيئًا للمُصلح الرومانسي الذي يقاتل ضد قوى العالم بأسره من أجل العدالة الاجتماعية.

وإن بإمكاننا أن نكتشف أيضًا في سياق تطوُّر القرصنة بعض القوانين التي تتكرر بغض النظر عن أماكن ظهورها؛ ففي مرحلة ما قبل ظهور بؤر للقرصنة، اقتصر الأمر على بعض السفن التي قام باختطافها، أو سرقتها طاقم متمرد يعمل مخاطرًا بنفسه، وبمرور الوقت اتحدت هذه السفن في شكلٍ أشد قوة وأدق تنظيمًا، ثم نشأت الأساطيل ذات القيادة الموحدة، ونظرًا لنمو القوى في المرحلة التالية من تطورها، تحوَّل هذا الشكل من التنظيم إلى قرصنة الدول التي تمتلك أرضًا خاصة عليها سكان دائمون، يخضعون لسلطان القراصنة.

وتعرضت القرصنة على مدى تاريخها الطويل لفتراتٍ من الصعود والانهيار، وكان لغياب التعاون الدولي الضروري في النضال ضد هذه الظاهرة (ناهيك عن الاعتراض الشكلي بأن القراصنة هم «أعداء البشرية») قد ساعد على الوجود المستمر الطويل للنهب البحري على نطاقٍ كبير. إن القرصنة لم تنتهِ من عالمنا كليةً حتى الآن، لتصبح ماضيًا، إنها ما تزال تزدهر أمام أعيننا متخذةً لنفسها أشكالًا جديدة، مستخدمة إنجازات التكنولوجيا، مستمرةً في تهديد النظام الاجتماعي والأمن، وفي هذه الظروف؛ فإن من الأسباب ما يبرر الخوف من أن تخرج القرصنة من الإنسان إلى الفضاء الخارجي، لتمد أذرعها فيه بشكلٍ جديدٍ من الأشكال.

١  «القانون الدولي المعاصر-مجموعة وثائق»، ص١٧٠، موسكو، ١٩٦٤م.
٢  «الأمم المتحدة، تقرير لجنة القانون الدولي حول أعمال دورتها السابقة، ٢ مايو–٨ يوليو ١٩٥٥م»، نيويورك، ١٩٥٥م، ص٧.
٣  «القانون الدولي المعاصر-مجموعة وثائق»، ص١٧١.
٤  المرجع السابق.
٥  «القانون الدولي المعاصر-مجموعة وثائق»، ص١٧١.
٦  الأمم المتحدة، تقرير لجنة القانون الدولي حول أعمال دورتها السابعة، ٢ مايو–٨ يوليو ١٩٥٥م، نيويورك، ١٩٥٥م، ص٧.
٧  «القانون الدولي المعاصر-مجموعة وثائق»، ص١٧١.
٨  الأقنان: العبيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤