الفصل السادس

دراسة النصوص الإعلامية وتلقِّيها في بيئة الإعلام الجديدة

ناقشنا في الفصلين الرابع والخامس تاريخ الطريقة التي مُثلت بها أشكال عدم المساواة المختلفة في الإعلام، وقدَّمنا الأدوات النظرية التي استخدمها متخصصو الدراسات الإعلامية لتحليل هذه القضايا، وتناولنا أيضًا الأثر الاجتماعي المحتمل لهذه التمثيلات حينما درسنا الأبحاث التي أُجريَت حول تلقِّيها. قدَّمنا هذين الفصلين بعد الفصول الثلاثة الأولى من الكتاب، التي تناولت قضية بيئة الإعلام الجديدة من منظورٍ عام، وتأثيرها على الحياة الحديثة (الفصل الأول)، والاقتصاد السياسي وأنماط الملكية والسيطرة على مر التاريخ وفي بيئة الإعلام الجديدة (الفصل الثاني)، ودراسة آثار وسائل الإعلام الجديدة على العملية الديمقراطية (الفصل الثالث). ونُركز في هذا الفصل على تلقِّي وسائل الإعلام الجديدة وآثارها على الديمقراطية وعدم المساواة. لقد انتقلنا من عصرٍ كانت السينما والتليفزيون يمثلان فيه وسيلتَي الإعلام السائدتين إلى عصرٍ شهد تقديم هاتين الوسيلتين الإعلاميتين وتلقِّيَهما من خلال شبكة الإنترنت، وبأشكالٍ رقميةٍ مختلفةٍ جديدةٍ تكنولوجيًّا. ما الآثار التي تفرضها هذه التغيرات على قضايا الديمقراطية وعدم المساواة التي كنا ندرسها حتى الآن؟ نُقدِّم هنا إجابةً أوليةً على هذا السؤال، لا تزال تخضع للبحث في الدراسات الإعلامية الحالية.

لنفترض أنك قررتَ الذهاب إلى السينما بعد ظهر يوم أحد، وربما قررتَ مشاهدة الفيلم الجديد الناجح «الحُبلى»؛ وهو المثال المستمر معنا عبر فصول الكتاب. ولاتخاذ هذا القرار، قمتَ بتشغيل جهاز الكمبيوتر الخاص بك لمعرفة أماكن عرض الفيلم الحالية وأوقات عرضه. وعندما وجدت أنه يُعرض في مكانٍ قريبٍ في وقتٍ مناسب، قررتَ اقتطاع دقيقةٍ من وقتك للبحث عن معلوماتٍ عنه باستخدام محرك بحث جوجل. في غضون ثوانٍ ظهرت أمامك شاشة مليئة بالروابط المرجعية. بدايةً، تجد رابطًا ينقلك إلى قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت IMDB، والتي توفر جميع المعلومات التالية:
  • معلومات سريعة عن فِرق التمثيل وخلاصة القصة.

  • نبذة إعلانية عن الفيلم.

  • ملخصًا للأحداث (مع تحذيرٍ من أن هذا الملخص قد يحتوي على كشفٍ للأحداث «يفسد» متعة المشاهدة).

  • عدد الجوائز التي رُشح لها الفيلم والتي حصل عليها.

  • مقياس الشعبية MOVIEmeter، والذي يخبرك بمدى شعبية الفيلم هذا الأسبوع (هل ارتفعت شعبية الفيلم أم انخفضت، ونسب الارتفاع أو الانخفاض).
  • مجموعة من الروابط الإضافية لمعلوماتٍ حول كلِّ عضوٍ من أعضاء طاقم الفيلم وكلِّ نجومه.

  • معلومات حول ما إذا كان الفيلم سيُعرض على شاشة التليفزيون أم لا وتوقيت ذلك؛ وهي المعلومات التي قد تشجعك على إلغاء ذهابك إلى السينما تمامًا.

ثَمَّةَ مواقع أخرى تُقدِّم ملخصاتٍ أكثر تفصيلًا للقصة (ويكيبيديا)، ومراجعات نقدية مفصلة، وتعليقات للمشاهدين على الإنترنت، وسلسلة من مقاطع الفيديو، ومقالة نقدية بعنوان «عندما حملت نجمات أفلام النساء» بقلم أليسا كوارت (٢٠٠٨) في مجلة ماذر جونز، والتي تناقش الطبيعة «الخبيثة» للعدد الكبير من الأفلام الكوميدية المزعومة الجديدة عن الخصوبة، وتتأمل شعبية تلك الأفلام وتوجُّهاتها الخاصة.

ربما ستشاهد الفيلم مع واحدٍ أو اثنين من أصدقائك وتناقشه فيما بعدُ. ربما شاهد أحدهم مراجعةً للفيلم في البرنامج التليفزيوني «إيبرت آند روبر»، وربما قرأ شخص آخر منهم مراجعاتٍ للفيلم في الصحيفة المحلية، بينما لا يزال حاضرًا في ذهنك مراجعة مجلة ماذر جونز والتعليقات على منتداها الإلكتروني. سوف تؤثر جميع هذه التعرُّضات لوسائل الإعلام المختلفة على مناقشة الفيلم التالية بينك وبين أصدقائك، وتمهد (أو «تهيئ» بلغة العلوم الاجتماعية) الطريق أمام طريقة تفكيرك في الفيلم داخل عقلك أيضًا.

في بيئة الإعلام الجديدة، اكتسب الذهاب إلى السينما لمشاهدة أحد الأفلام — الذي لم يكن قطُّ نشاطًا معزولًا تمامًا عن بقية حياتك — سمات حدث متعدد الوسائط الإعلامية. وهذا يجعل أيَّ تقييمٍ لكيفية تأثير الإعلام عليك مشكلةً معقدةً في أحسن الأحوال. على سبيل المثال، على الرغم من الانتشار النسبي للنصوص الأيديولوجية المناهضة للإجهاض مثل فيلم «الحبلى»، الذي حللناه في الفصل الرابع، ظلت الآراء حول الإجهاض في الولايات المتحدة ثابتةً نسبيًّا على مدى السنوات الخمس والثلاثين الماضية، منذ أن أجازته المحكمة العليا في الولايات المتحدة عبر التأكيد على حق المرأة في الاختيار في قضية «رو ضد ويد» الشهيرة عام ١٩٧٢.1 فهل يعني هذا أن المنتجات الإعلامية مثل فيلم «الحبلى» ليس لها تأثير؟

في الواقع، كانت مشكلة تأثير الإعلام معقدةً دائمًا. كيف تُقيِّم الأهمية النسبية لتفسيرك لنصٍّ سينمائيٍّ إزاء أفكار صديقك، والمراجعة الصحفية التي قرأتها، والطريقة التي تناقش بها معك الأطفال المشاهير في المدرسة، أو الأسرة الثرية في الشارع، أو رئيسك في العمل حول الفيلم قبل أو أثناء أو بعد مشاهدتك له؟ وستصبح المشكلة أكثر صعوبةً مع إضافة بيئة الإعلام الجديدة إلى هذا المزيج، التي تُقدِّم — كما رأينا — أضعافًا مضاعفةً من المراجعات النقدية، ومقاطع الفيديو التي تستعرض الفيلم، ومنتديات المناقشة، والتحليلات النقدية، والأشكال البديلة للمشاهدة، المتوافرة كلها في متناول يدك في غضون دقائقَ أو ثوانٍ.

كما رأينا في الفصلين الرابع والخامس، تغيرت الأفكار حول مدى تأثير الإعلام علينا على مر عقودٍ بين باحثي الدراسات الإعلامية. يرجع هذا إلى الأفكار الاجتماعية المتغيرة حول دور الإعلام في المجتمع، وإلى تطوُّر التقنيات التفاعلية الجديدة التي نعتبرها المكونات الأساسية ﻟ «البيئة الإعلامية الجديدة». إن تطوُّر تكنولوجيات الإعلام الجديدة تجعل تحليل المنتجات الإعلامية وتأثيرها أكثر تعقيدًا، خاصةً بالنظر إلى الطبيعة المتشابكة على نحوٍ متزايدٍ لإنتاج الإعلام وتلقِّيه.

أصبح تحليل الصور الإعلامية نفسها، أيضًا، عملًا أكثر تعقيدًا؛ فمع انحسار عصر الاستوديوهات في سينما هوليوود، وتراجُع عصر الشبكات في التليفزيون، شهدنا تكاثرًا في الصور ووجهات النظر في المنتجات الإعلامية. يوجد في الواقع تنوُّع أكثر؛ نظرًا لوجود استهدافٍ أكبر للجمهور؛ فعصر «الجماهير» في «تحليل وسائل الإعلام الجماهيرية» بلغ نهايته سريعًا، فلم تتزايد الصور الإعلامية فحسب، ولكنها تنوَّعت أيضًا، وتعالى اهتمام صانعي الإعلام بقطاعاتٍ معينةٍ من جمهور وسائل الإعلام المقسم على نحوٍ متزايد، بدلًا من استهداف ما كان يُسمَّى «القاسم المشترك الأدنى» بين الجمهور الضخم (انظر جيتلين [١٩٨٣] للحصول على شرحٍ أوفى لهذا المفهوم). ويرى الباحثون أن المسألة المثيرة والمهمة في الوقت الراهن هي تقييم ما إذا كان تقسيم الجمهور قد زاد بالفعل، على نحوٍ تدريجي، من تنوُّع التمثيلات المتاحة للمشاهد أو مستخدم وسائل الإعلام العادي أم لا. يرى البعض أن تنوُّع التمثيلات ازداد على نحوٍ واضح، والدليل على ذلك هو، ببساطة، الأعداد المتزايدة للأقليات العِرقيَّة والقوميَّة والجنسيَّة على شاشة التليفزيون، وفي سينما هوليوود، وما إلى ذلك. وسنذكر البعض منها بالتفصيل لاحقًا في هذا الفصل.

ويرى آخرون أنه نظرًا لزيادة التركيز في أنماط الملكية والسيطرة — الأمر الذي ناقشناه على نطاقٍ واسعٍ في الفصل الثاني سابقًا — يمكن أن نتوقَّع، ونشهد في الواقع، تزايدًا في نقص تنوُّع التمثيلات الإعلامية، خاصةً فيما يتعلق بوجهات النظر السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومما يزيد الأمور تعقيدًا — كما أشرنا من قبل — حقيقة أن البيئة الإعلامية الآن مختلفة تمامًا، وأكثر تشاركيةً بكثير، كما يتضح من انتشار ظواهر مثل: المدونات، وصفحات الويب، وغرف الدردشة، وتويتر، وما إلى ذلك، التي أصبحت جميعها متاحة لشرائح المجتمع كافةً تقريبًا.

على سبيل المثال، بالعودة إلى مثالنا حول تمثيلات الإجهاض في وسائل الإعلام الجماهيرية، مرَّت الشبكات الرئيسية — في حالة التليفزيون — بعددٍ من التحوُّلات التاريخية الواضحة والمنهجية في منظورها السائد حول هذه القضية، بينما كانت تنتج البرامج الترفيهية (مونتجمري ١٩٨٩، كونديت ١٩٩٠، بِرس وكول ١٩٩٩). في حين قُدِّم الإجهاض في البداية في البرامج التليفزيونية التي تُعرض في وقت الذروة كخيارٍ لا جدل فيه للنساء الحوامل، سرعان ما دفَع المحتجون تمثيلات شبكات التليفزيون للإجهاض نحو تقديم منظورٍ «متوازن» على نحوٍ مُعلَن (مونتجمري ١٩٨٩). حُدد «التوازن» في البداية بتقديم أشخاصٍ من كلتا وجهتَي النظر حول مسألة الاختيار بين الإجهاض أو الاحتفاظ بالجنين، ولكنه تطوَّر ببطءٍ ووضوحٍ إلى عدم قَبول تقديم الإجهاض في أي ضوءٍ متفهمٍ على الإطلاق، وإلى التردد في تصوير الإجهاض على الإطلاق في أيٍّ من شبكات التليفزيون في الآونة الأخيرة (برس وكول ١٩٩٩، بوليت ٢٠٠٨). وفي حين قدَّمت بعض المحطات التليفزيونية الخاصة، على مدى العقدين الماضيين، برامج تنتقد هذا الرأي، فإن تلك البرامج أيضًا تراجعت في الآونة الأخيرة.2

يشير تاريخ تمثيلات الإجهاض التليفزيونية والسينمائية تلك إلى أنه على الرغم من وجود المزيد من القنوات التليفزيونية في العصر الحالي وانتشار الصور، فإنه لا تزال توجد توجُّهات منهجية عامة في العديد من الصور التي نواجهها. ويمكن كشف تلك التوجهات عندما تُحلَّل بعض الخصائص الأساسية للتمثيلات الإعلامية على نحوٍ نقدي. ومهمة باحث الدراسات الإعلامية تحديد مثل هذه التوجُّهات في الإعلام، حتى مع زيادة صعوبة تعميم بعض النتائج حول التمثيلات الإعلامية في عصر الإعلام الأكثر تشظيًا.

سنناقش في هذا الفصل باختصارٍ المناهجَ المبتكرةَ الحديثةَ لدراسة بيئة الإعلام الجديدة، مع التركيز على الطريقة التي تمكَّنت عبرها القضايا والأساليب المحورية في وسائل الإعلام الجديدة ودراستها من تغيير مجال الدراسات الإعلامية. وسنتناول في سياق مناقشاتنا وجهات النظر المنهجية التي استخدمناها في دراستَين جديدتَين من جانبنا، ونُقدِّم بعض الاستنتاجات الأوَّلية من هاتين الدراستين.

(١) الصور المعدَّلة في بيئة الإعلام الجديدة

شكلت دراسة التمثيلات في وسائل الإعلام الجديدة، مثل الإنترنت، بعض الإمكانات والتحديات المثيرة لاهتمام الراغبين في دراسة نوع الجنس وصوره. في حين أن هذا نطاق دراسي ضخم، من المهم أن نذكر عددًا قليلًا فحسب من القضايا التي أُثيرت في الدراسات الجديدة.

ما تجعله شبكة الإنترنت ممكنًا هو مجموعة مرنة لا نهاية لها من أكثر التمثيلات ملاءمة بكثيرٍ ﻟ «الخروج عن أدوار الجنسين» من الصور المعروضة على شاشة التليفزيون (على الرغم من أن صناعة الأفلام الرقمية وفَّرت هذه الإمكانية نفسها لوسائل الإعلام الأخرى مثل السينما والتليفزيون). ويشير عمل هَرَواي المهم إلى أنه في عصر الإعلام الجديد، تحررت أخيرًا تمثيلات المرأة من التجسيد، وقد صاغت مصطلح «سايبورج» (الإنسان الآلي)؛ وهو مصطلح يشير إلى مزيجٍ من الإنسان والآلة؛ ليحل محل ما سمَّته المفهوم الجوهري ﻟ «المرأة» (هَرَواي ١٩٩١: ١٥٥، ١٩٩٧، بيل ٢٠٠٧).

مثَّل عمل ناكامورا باكورة دراسة التمثيلات العرقية على الإنترنت (كولكو وناكامورا ورودمان ٢٠٠٠، ناكامورا ٢٠٠٢)؛ إذ زعمت أن دراسة التمثيلات العرقية على الإنترنت معقدة؛ حيث إن الفئات العرقية ترتبط بقوةٍ بأجساد الأفراد في الحياة اليومية، ولكن على شبكة الإنترنت تنفصل التمثيلات عن الأجساد الفعلية؛ ومن ثَمَّ أصبح فيض من الأساليب الجديدة لمعالجة التمثيلات العرقية ممكنًا. ووجدت الفضاء الإلكتروني «متأثرًا بالعِرق»؛ إذ لا تزال الصور النمطيَّةً عنصرية، أو الصور «الإلكترونية» (٢٠٠٢: ٣) قائمة وتحتاج إلى مزيدٍ من الدراسة حتى في الفضاء الإلكتروني غير المادي.

تدرس ناكامورا طريقة احتلال «الصور الإلكترونية» مكان الصور النمطية المعتادة في التمثيلات على الإنترنت. والجزء الأكثر إثارةً للاهتمام في دراستها يتمثَّل في المناقشة التي تُبيِّن كيفية إعادة تكوين المجازات العنصرية البصرية في أشكال الصور المختلفة على الإنترنت؛ ومن ثَمَّ فإن هذه الصور نفسها، التي لا تمتلك بالضرورة سمة تدمغها ﺑ «العنصرية»، ستستولي على معايير التمثيلات «المتأثرة بالعِرق» الشائعة في معايير التمثيلات الجسدية لدينا، وستحافظ على هذه المعايير حتى في الفضاء الإلكتروني. وتشير ناكامورا تحديدًا إلى الشخصيات الشائعة في العديد من الألعاب الإلكترونية، والتي تتوافق مع الصور النمطية الآسيوية للذكر «الشرقي» الذي يحمل «سيفًا»، وتؤكد الشكل النمطي للذكر الآسيوي القوي والغريب الذي ينتمي إلى زمنٍ قديمٍ خارج هذا العصر (٢٠٠٢: ٤٤٥، مقتبسة في سيلفر وماساناري ٢٠٠٦: ١٣٥).

كتب جنكينز (٢٠٠٦) وتوركل (١٩٩٦، ٢٠٠٥) وغيرهما عن طريقة تقديم «المحتوى» الإعلامي. في الواقع، تجري إعادة تعريف مفهوم «المحتوى» الإعلامي نفسه. على سبيل المثال، يصف كتاب جنكينز «ثقافة التلاقي: أين يتصادم الإعلام القديم والجديد؟» (٢٠٠٦) انتشار النصوص المُستلهَمة من الكتب أو التليفزيون أو السينما، والتي ظهرت في مواقعَ إعلاميةٍ جديدةٍ مثل الإنترنت، وتتناول ظواهرَ شعبيةً تنتمي إلى وسائل الإعلام القديمة؛ مثل: كتب «هاري بوتر»، أو فيلم «المصفوفة» (ذا ماتريكس)، أو برنامج الواقع التليفزيوني الناجح «محبوب الأمريكيين» (أمريكان أيدول). ويوثِّق الكتاب حجم نشاط المعجبين والنصوص الجديدة التي ينتجونها، والتي أصبحت متاحةً حينها للجميع من خلال تقنيات الويب (سنعود إلى عمل جنكينز المهم لاحقًا في هذا الفصل). ووثَّق آخرون حالةً مماثلةً من الإثارة والنشاط حيال المسلسل التليفزيوني «الضائعون» (لوست) (جلومبيا، ٢٠٠٤).

تُركِّز معظم هذه المناقشات على تسهيل التقنيات الجديدة لنوعٍ أكثر تفاعلًا من النص الإعلامي؛ نوع قابل لمشاركة تشكيلةٍ متنوعةٍ من الأشخاص على نحوٍ أسهل، ومتاح بسهولةٍ أكبر لأولئك الذين لم يشاركوا في إنشائه. وهذا يتناقض مثلًا مع مناقشتنا للدراسات السابقة حول معجبي مسلسل «ستار تريك» في الفصل الرابع؛ ففي حين درس جنكينز (١٩٩٢) وبيكون سميث (١٩٩٢) الأنشطة الإبداعية لثقافات معجبي مسلسل «ستار تريك» في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، فإننا نشهد الآن مستوًى أعلى من المشاركة في هذه الأنواع من الأنشطة؛ نظرًا لزيادة سهولة الدخول في عملية الإنتاج بفضل تقنيات الإعلام الجديدة. وبينما كان المعجبون في السابق يُضطرون إلى السفر إلى المؤتمرات للحصول على الكتب التي يؤلفها آخرون من أمثالهم، أو للتواصل بسهولةٍ معهم، فإن ما عليهم فعله الآن ببساطةٍ هو تشغيل الكمبيوتر ومشاهدة هذه المنتجات وقراءتها واستخدامها، والتحدُّث مع المنتجين والمستخدمين الآخرين، وإنتاجها للآخرين في مجتمع المعجبين على الإنترنت.

في حين أن المسائل التي أُثيرت حول الملكية الفكرية بدأت للتوِّ تخضع للنظر في المحاكم (فايدياناثان، ٢٠٠١، ٢٠٠٤)، فإن معظم المنتجين التنفيذيين في قطاع الإعلام يتفقون، في الواقع، على أن المحتوى الإعلامي قد دخل حقبةً جديدة، سرعان ما ستجعل التعرُّف على الأنساق والنصوص وأنماط الملكية الإعلامية التقليدية مستحيلًا. إن قضايا الملكية الفكرية، والقضايا المتعلقة بالأشكال الجديدة للمجتمعات، التي أصبحت ممكنةً عن طريق مجموعات الإنترنت، والقضايا المتعلقة بالأنواع الجديدة من اللغة المستخدمة لتسهيل التواصل عبر الإنترنت، والمسائل الكثيرة الأخرى المتعلقة بالبيئة التفاعلية الجديدة؛ تُشكِّل الآن كلها نطاقًا كبيرًا متزايدًا للدراسة يتغير بسرعةٍ في الدراسات الإعلامية. ولا ينطوي هذا النطاق الجديد على الإنترنت فحسب، ولكن يتضمَّن أيضًا الأشكال المعاصرة لوسائل الإعلام القديمة مثل التليفزيون والسينما؛ فقد تحوَّلت الأشكال القديمة لوسائل الإعلام، مثل السينما والتليفزيون، من خلال ارتباطاتها بوسائل الإعلام الجديدة — عبر توافر الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية على الإنترنت، ووجود مواقعَ ومدوناتٍ ومجموعاتِ نقاشٍ إلكترونية، رسميةٍ وغير رسمية، وأمثال ذلك، تختص بهذه المنتجات الإعلامية — إلى صيغةٍ أكثر تفاعلًا في السنوات الأخيرة.

(١-١) العولمة والشكل الجديد للهُويَّات الإعلامية

على الرغم من أن كتابنا ركَّز على الإعلام في الولايات المتحدة، فإن المعرفة الناتجة عن الدراسات الإعلامية تُبيِّن أنه لم يَعد من الممكن دراسة بعض الدول القومية بمعزلٍ عن بقيتها. إضافةً إلى ذلك، كان للإعلام المنتج في الولايات المتحدة تأثير وعرض أبعد من الحدود الوطنية. والآن يوجد منهج قديم وراسخ في الدراسات الإعلامية يختص بدراسة قطاع الإعلام غير الغربي؛ مثل: قطاع السينما الهندية (بوناتمبيكار ٢٠٠٥، ٢٠٠٦)، وقطاع السينما اليابانية (ديسر ١٩٨٣، ١٩٨٨) إلى جانب موضوعاتٍ أخرى مماثلة.

يعالج الكثير من أكثر الأعمال الجديدة إثارةً للاهتمام في الدراسات الإعلامية هذه القضايا. يُقدِّم كريدي (٢٠٠٥، ٢٠١٠) دراسةً مرجعيةً حول ما يُسمِّيه «المنطق الثقافي للعولمة» لعبت دورًا مؤثرًا في دراسة الإعلام؛ إذ قدَّم نظريةً تستند إلى فكرة هومي باهبها حيال «التهجين»، وتشير إلى أن الهويات المعزولة سابقًا يجب اعتبارها الآن متداخلةً كلٌّ منها مع الأخرى (انظر باهبها ١٩٩٤). ما يعنيه هذا في السياق الإعلامي هو أنه لا يوجد منتج إعلامي «غربي» على نحوٍ صرف، أو منتج إعلامي «غير غربي» على نحوٍ صرف، خاصةً بعد أن يبدأ المرء في تأمُّل السياق الذي تُتلقى فيه المنتجات الغربية وتُفهم في السياقات القومية غير الغربية، والأشخاص غير الغربيين في مواقع متشتتة. على سبيل المثال، في مناقشة كريدي لكيفية تَلقِّي تليفزيون الواقع في العالم العربي (كريدي ٢٠١٠)، يتتبع كيف أصبح شكل تليفزيون الواقع الغربي شعبيًّا في العالم العربي، وكيف أثار تلقِّيه مناقشاتٍ عامةً حول قضايا سياسية صعبة، مثل: وضع المرأة، والدين، والسلطة السياسية، والإنجاز الفردي، مقابل قضايا الانسجام الاجتماعي ومعنى الحداثة نفسها (كريدي ٢٠١٠: ١٩٣، ٢٠٢). تحول الشكل الغربي جذريًّا إلى شكلٍ جديدٍ يجمع بين اهتمامات المجتمعات الغربية والعربية.

حتى المنتجات الإعلامية الأمريكية التي ناقشناها سابقًا في هذا الفصل أصبح لها وجود عالمي خاص بها. على الرغم من أنه لا يوجد شيء جديد فيما يتعلق بعولمة الإعلام كما ناقشنا في الفصل الثاني (انظر مناقشتنا لعمل جيتلمان (٢٠٠٦) حول الموسيقى المسجلة)، فإنه توجد بعض الجوانب الجديدة لشكل العولمة في البيئة الإعلامية الحالية؛ إذ زادت التقنياتُ الإعلامية الجديدة إمكانيةَ استهلاك الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية والمنتجات الإعلامية الأخرى المنتَجة في الولايات المتحدة على مستوًى دولي، وأصبح إحصاء الجمهور الدولي الآن عاملًا قياسيًّا في جميع عمليات الإنتاج الإعلامي؛ ففي حالة الأفلام السينمائية على الأقل، بدأ التدفُّق في التحرُّك في الاتجاه الآخر أيضًا؛ حيث أصبح الإنتاج أقل تمركزًا في المواقع الوطنية واتخذ طابعًا دوليًّا؛ فالعديد من الأفلام الشهيرة — كما هي الحال مع المنتجات الإعلامية عمومًا (كما ذكرنا سابقًا) — تُصاغ في بلدٍ ما، وتُصوَّر في بلدٍ آخر، وتحرَّر وتوزَّع في بلدٍ ثالث. في الواقع، أصبح من الصعب على نحوٍ متزايدٍ تحديد بلدٍ معينٍ كأصلٍ للمنتج الإعلامي؛ فنحن نعيش في عصر تحوُّل عالمي؛ حيث سيقل التمركز الوطني للمنتجات الإعلامية على نحوٍ متزايدٍ مع زيادة ضعف الهُويَّات الوطنية تبعًا لذلك. إن المجتمع الإعلامي الدولي أصبح احتمالًا أكثر واقعية، بما يصحبه من تداعياتٍ على تنوُّع القيم التي تُجسدها منتجاته الإعلامية.

يرى البعض (دورفمان وكونزل ولورانس وماتيلارت ١٩٨٦، جروسبيرج ووارتيلا وويتني وماكجريجور وايز ٢٠٠٦) أن المنتجات الإعلامية كثيرًا ما تحمل قيم المبادئ الدولية، بما في ذلك التقييم الإيجابي للعمل الجاد، والمنافسة، وحرمة الملكية الخاصة، والقومية، والفصل بين سكان الطبقة الوسطى المحترمين في العالم الغربي المتقدِّم وباقي الناس الذين يحظَوْن باحترامٍ أقل عمومًا. يدعم الكثير من الأعمال التحليلية في الدراسات الإعلامية هذه المزاعم حول وجود تحيُّزٍ إمبرياليٍّ غربيٍّ ثقافيٍّ في العديد من المنتجات الإعلامية؛ فتحليل الصور العرقية والقومية في الأفلام السينمائية، على سبيل المثال، يكشف وجودَ أغلبيةٍ ساحقةٍ من الشخصيات الغربية البيضاء في أدوارٍ إيجابية. إضافةً إلى ذلك، يدعم العديد من الأفلام الشهيرة المُنتَجة في الولايات المتحدة حرمة الأمن القومي للدولة، ويدافع عن القيم العسكرية التي تدعمها (كيلنر ٢٠٠٥). والأجواء المبهرة أو على الأقل أجواء الطبقة المتوسطة العليا في العديد من المنتجات الإعلامية — وربما معظمها — المنتَجة في الولايات المتحدة تدعم مجموعةً كبيرةً من قيم الرأسمالية الغربية السائدة أيضًا. وبهذا المعنى، تدعم العولمة الإعلامية التصدير العالمي للقيم الرأسمالية من الغرب إلى المجتمعات غير الغربية.

(٢) أبحاث تلقِّي الإعلام في البيئة الإعلامية الجديدة

إن تلقِّيَ وسائل الإعلام، حتى المتعلق بوسائل الإعلام القديمة مثل التليفزيون أو السينما، يحدث الآن في سياق بيئةٍ إعلاميةٍ تضم مجموعةً متنوعةً من العمليات التفاعلية. فكما ذكرنا سابقًا، البحث السريع باستخدام محرك جوجل حول فيلم «الحبلى» ينتج صفحاتٍ وصفحاتٍ من المراجعات النقدية ومقاطع الفيديو ومواد الدعاية، وحتى موقع بعنوان «حوامل من المشاهير» تثرثر فيه بروك بيرك «عن كون المرأة أمًّا لأربعة أطفال»؛ مما يُقدِّم زخمًا كبيرًا من المعلومات الجديدة لمشاهد الفيلم.

تظهر أيضًا أشكال جديدة من مشاركة المستخدم/المشاهد. عندما تصل إلى الصفحة الرابعة من نتائج البحث، متخطيًا موقع «قائمة المعجبين الرسمية» للفيلم، ستجد مواقعَ تفاعليةً تعرض مناقشاتٍ بين المشاهدين المهتمين. تتضمَّن بعض هذه المناقشات المسألة المثيرة للجدل الخاصة ﺑ «الغياب» الملحوظ لمناقشة خيار الإجهاض بالنسبة إلى شخصية كاثرين هيجل في الفيلم، التي أشرنا إليها سابقًا. كما يمكن بسهولةٍ تحديد المواقع التي ناقش فيها سيث روجن أو كاثرين هيجل فعليًّا رد فعلهما على هذا الجانب من الفيلم. على سبيل المثال، اقتبست كلمات روجن على موقع «بليفنت» يقول فيها إنه شعر أن الفيلم اضطُرَّ إلى تجاوز عملية صنع القرار، والانتقال ببساطةٍ إلى الجزء الذي «يلي» قرار هيجل بالاحتفاظ بالطفل. ونقلت مجلة «فانيتي فير» عن هيجل قولها إنها عرفت أن الفيلم يتسم بالتفرقة الجنسية في معاملته للنساء.

إذًا، هذا البحث الإلكتروني حول مدونات فيلم «الحبلى» ينقلك إلى عالمٍ إعلاميٍّ أكثر تفاعلًا مما كان متوافرًا من خلال الوسائل التقليدية كالتليفزيون أو السينما. على مدار صفحاتٍ وصفحات، يُقدِّم المعجبون والمشاهدون العاديون آراءهم حول الفيلم، وأحيانًا يتحدَّثون مباشرةً في النقاشات النقدية المثارة حوله، وتصبح الإمكانات التفاعلية للبيئة الإعلامية الجديدة في هذه الصفحات واضحة. لم يَعد نموذج «التلقِّي» ممثلًا بدقة عن طريق مشاهد وحيد — أو حتى أسرة أو مجموعة أخرى صغيرة — يحدق بهدوءٍ وسلبيةٍ في شاشة التليفزيون أو السينما المتوهجة في الظلام، بل يتضمن التلقِّي في بيئة الإعلام الجديدة تأمُّل موقفٍ أكثر تعقيدًا بكثيرٍ يأخذ بعين الاعتبار قدرة المشاهدين والمستخدمين على المشاركة بنشاط، بينما يتلقَّوْن المحتوى الإعلامي، في عمليةٍ تنتج أنواعًا جديدةً ومختلفةً من المنتجات الإعلامية يتلقاها الآخرون.

تنوَّعت محاولات دراسة التلقِّي والاستخدام في بيئة الإعلام الجديدة، وظلت عمومًا دراسات تجريبية إلى حدٍّ كبير؛ إذ ما زال الباحثون يسعَوْن للعثور على أفضل المنهجيات المناسبة لهذه المهمة. ونحن بحاجةٍ إلى استخدام مجموعةٍ متنوعةٍ من الأساليب لاستكشاف الأبعاد المتعددة للتلقِّي في السياق الجديد. وقد وجدنا في عملنا على وسائل الإعلام الجديدة أن نظامًا متعدد المناهج يعمل على نحوٍ أفضل؛ النظام الذي يمكنه الاستفادة من الإبداع الذي تُخوِّله بيئة الإعلام الجديدة، إضافةً إلى تَضمُّن القضايا المتعلقة بنفوذه أو تأثيراته (سنناقش هذا بالتفصيل لاحقًا في هذا الفصل).

مهدت الأعمال السابقة الطريق أمام بعض هذه الأساليب والموضوعات؛ إذ درس باحثون أمثال شيري توركل (١٩٩٦، ٢٠٠٥) وهنري جنكينز (٢٠٠٦) عن كثبٍ أنشطةَ مستخدمي شبكة الإنترنت، مع التركيز على الإمكانات الإبداعية للمشاركين في الألعاب الجماعية (في حالة توركل)، أو المشاركين في إنتاج الروايات من مختلِف الأنواع التي يؤلفها المعجبون باستخدام مجموعةٍ متنوعةٍ من التقنيات الإعلامية الجديدة (في حالة جنكينز).

على سبيل المثال، يدرس جنكينز نوع المحتوى الإعلامي الذي يُنتجه المعجبون بفيلم «حرب النجوم» وغيره من الأفلام أو المسلسلات التليفزيونية أو الألعاب ذات الشعبية (٢٠٠٦). في أحد فصول كتابه — الذي صدر عام ٢٠٠٦، وكان عنوانه الفرعي «إبداع العامة يلتقي صناعة الإعلام» — كتب بالتفصيل عن أن «الأفلام الرقمية التي يُنتجها معجبون تُمثِّل للسينما ما تُمثِّله ثقافة «اعتمد على نفسك» التي تبنَّتها فرق موسيقى البانك بالنسبة إلى الموسيقى» (٢٠٠٦: ١٣٢)، مشيرًا إلى بدايات موسيقى البانك في سبعينيات القرن العشرين عندما أصبحت الموسيقى الأقل إنتاجًا هي الأكثر شعبية. يمضي جنكينز في مناقشة المناخ الإبداعي الخصب الذي يشهد ابتكار المخرجين من المعجبين أفكارًا بدأت تشق طريقها في صناعة السينما الرئيسية؛ إذ تُظهر أفكارهم في وسائل الإعلام التجارية، وهو تبادلٌ غنيٌّ يسَّرته بيئة الإعلام الجديدة يضع وسائل الإنتاج في أيدي المستهلكين العاديين للإعلام. أحد الأمثلة التي يستخدمها هنا هو المخرج الرقمي كيفن روبيو، الذي كُتبت عنه مقالة في مجلة إنترتينمنت ويكلي، بعد إنتاجه فيلم «القوات» (تروبس) عام ١٩٩٨. يقدم الفيلم في عشر دقائق محاكاةً ساخرةً لفيلم «حرب النجوم»، وتكلف ١٢٠٠ دولار؛ ومن ثَمَّ لفت روبيو انتباه كاتب ومخرج فيلم «حرب النجوم» جورج لوكاس، الذي وظَّفه لكتابة سلسلة الكتب المصورة «حرب النجوم» (جنكينز ٢٠٠٦: ١٣١-١٣٢).

يقدم جنكينز مثالًا تلو الآخر على مثل هذه الحالات بينما يعرض مسألة ما يُسمِّيه «ثقافة التلاقي» الحالية؛ المكان الذي تتصادم فيه وسائل الإعلام القديمة والجديدة. واكتشف الباحثون على نحوٍ متزايدٍ أن دراسة استخدام وسائل الإعلام الجديدة وتلقِّيها تتضمَّن في الواقع دراسة وسائل الإعلام القديمة أيضًا؛ فبيئة الإعلام الجديدة بيئة يُستخدم فيها جميع أنواع وسائل الإعلام في الوقت نفسه. ويوضح مثالنا حول فيلم «الحبلى» هذا الوضع بدقة، ويبين كذلك بعضًا من آثاره؛ فمُشاهِد فيلم «الحبلى» الذي يتلقَّى الفيلم في سياق بيئة الإعلام الجديدة غالبًا ما يواجه على نحوٍ أكثر مباشرةً الخلافات التي تُثيرها هذه المنتجات. وفي هذه الحالة، أصبح الجدل حول كيفية تمثيل الفيلم للإجهاض — الذي عُلِّق عليه في جميع أشكال تلقِّي النقاد للفيلم — في متناول المشاهدين مباشرة، وخاضعًا لتعليقاتهم ومناقشاتهم المستفيضة، من خلال بيئة الإعلام الجديدة في المراجعات على الإنترنت، والتعليقات المرتبطة بها، وفي مختلِف المدونات التي تدور حول هذا الموضوع.

في الأساس، بيئة الإعلام الجديدة هي بيئة تحتم توسيع «التلقِّي» كنموذج؛ ليضم المشاركات والمنتجات الإبداعية التي تُمكِّن هذه البيئة من إنتاجها. وتُبرز دراسات التلقِّي في هذا النظام المتغير مجموعةً متنوعةً من القضايا كانت لا تزال في بدايتها في «منهج الجمهور النشط»، لكنها اتخذت الآن شكلًا جديدًا. وقد درس الباحثون كل شيءٍ من الدور الذي يلعبه الإنتاج الإعلامي في حياة الشباب (رادواي ٢٠٠٨) إلى أشكال الشبكات الاجتماعية والمساحات الاجتماعية التي جعلتها التقنيات الإعلامية الجديدة متاحة (بويد ٢٠٠٧، ٢٠٠٩)؛ ومن ثَمَّ مكنت من وجود أنواعٍ جديدةٍ ومتطورةٍ من التواصل بين الناس في تركيباتٍ جديدةٍ من الزمان والمكان.

على سبيل المثال، درست توركل الشباب الذين يستغرقون تمامًا في الهُويَّات التي يتخذونها أثناء لعب الألعاب عبر الإنترنت. وإحدى القصص التي ترويها هي قصة فتاة تبلغ من العمر ١٣ عامًا تقول إنها تجد إقامة علاقاتٍ على الإنترنت — وقد مارست بالفعل نشاطًا جنسيًّا عبر الإنترنت — أسهل من إقامتها في الحياة الواقعية (١٩٩٦: ٢٢٧). وتروي أيضًا قصة زوجين: مارتن وبيث. قررت بيث التغاضيَ عن علاقات مارتن «الجنسية» على الإنترنت، معتبرةً أنها ليست علاقات زنًا حقًّا (١٩٩٦: ٢٢٤)، ولكن عندما بدأ مارتن يلعب دور شخصيةٍ نسائيةٍ تمارس علاقاتٍ جنسيةً مع «رجل»، شعرت بيث أن ثقتها قد انتُهكت. وتلك صورة مصغرة توضِّح كيف أصبح من الصعب رسم الخط الفاصل بين الواقع الافتراضي و«الحقيقي» (توركل ١٩٩٦: ٢٢٥)، وكذلك توضح مدى تعقيد عملية تحديد نوع الجنس «الحقيقي» للفرد.

درست بويد وإليسون (٢٠٠٨)، بتفاصيلَ دقيقة، طريقة استخدام الشباب لمواقع الشبكات الاجتماعية مثل فيسبوك وماي سبيس؛ فمن خلال إجراء مقابلاتٍ مع العديد من الشباب الأمريكيين الذين يستخدمون مواقع الشبكات الاجتماعية، وجدتا أن هذه المواقع قد غيرت عمليات تقديم الذات، والاندماج الاجتماعي مع الأقران، والتعامل مع مجتمع البالغين بالنسبة إلى كثيرٍ من الشباب. وتشيران إلى أن مواقع الشبكات الاجتماعية ينبغي أن تُرى كجماهيرَ متصلةٍ وهي في الوقت نفسه مجتمعاتٌ متخيَّلةٌ وفضاءٌ تكنولوجيٌّ فعلي. وصفت بويد وإليسون ببعض التعقيد طريقةَ اختلاف الجماهير المتصلة الجديدة عن الجماهير غير المتصلة في سياق الجماهير: فهم يتسمون بالمثابرة، وقابلية البحث، وقابلية التكرار، والقدرة على خلق صداقات، ومن حيث ديناميتهم: فهم يتكوَّنون من جماهير غير مرئية. وتشيران إلى أنهم تسببوا في تشويش طريقة تفكيرنا التقليدية حول الحدود بين العام والخاص.

ركز آخرون دراساتهم أكثر على القيود التي تفرضها بيئة الإعلام الجديدة على بعض المجموعات. درس نوريس (٢٠٠١) وموسكو (٢٠٠٤) وكومبين (٢٠٠١) بيئة الإعلام الجديدة، وأشاروا إلى ما يواجه الأقليات العرقية والقومية المتنوِّعة، والنساء، والمستخدمين الكبار السن من تفاوتٍ في إمكانية الوصول إلى هذه البيئة، وفي أنواع الكفاءات اللازمة للتعامل معها. كما ذُكر سابقًا، وثَّقت هارجيتاي (٢٠٠٣ب، هارجيتاي وواليجكو ٢٠٠٨، وانظر أيضًا زيليان وهارجيتاي ٢٠٠٩) وديماجيو وهارجيتاي ونيومان وروبنسون (٢٠٠١) بإسهابٍ الاختلافات بين الجنسين والطبقات الاجتماعية والأعراق — من حيث المهارة وإمكانية الوصول — لدى مستخدمي وسائل الإعلام الجديدة. يرى بعض العلماء (وورشاور ٢٠٠٣) أن مفهوم الفجوة الرقمية أصبح باليًا، بمعنى أنه في الدول الصناعية يستطيع من يريد أو يحتاج إلى التكنولوجيا الحاسوبية تحمُّل تكلفتها في الواقع، وأولئك الذين لا يملكونها لا يحتاجون إليها. ومع ذلك، يرى آخرون أنه على الرغم من أن بعض الفجوات قد مُحيت (الفجوات بين المرأة والرجل على سبيل المثال)، فإن بعض الفجوات الأخرى لا تزال قائمة، مثل: الفجوات بين المجموعات العرقية والقومية المختلفة، وبين العائل الأعزب والأُسَر الأخرى، وبين كبار السن والشباب، وبين ذوي الدخل المرتفع مقابل ذوي الدخل المنخفض (سيرفون ٢٠٠٢). وإجمالًا، تُبيِّن الأبحاث أن وسائل الإعلام الجديدة تُعزِّز وتعيد إنتاج عدم المساواة الاجتماعية على نحوٍ كبير، في تناقضٍ مباشرٍ مع فكرة أن بيئة الإعلام الجديدة سوف تُسهِّل التحرُّر من تلك الأشكال من عدم المساواة تلك. ونوضح هذه النقطة ببعض الأمثلة من أبحاثنا فيما يلي.

تدرس ليفنجستون (٢٠٠٨، ليفنجستون وبوبر ٢٠٠٦أ، ٢٠٠٦ب) طريقة اكتساب الأطفال نوعًا مختلفًا من «المعرفة الأساسية» بوسائل الإعلام، بالنظر إلى إمكانات بيئة الإعلام الجديدة وأوجُه قصورها، فتتساءل: كيف تتأثر المهارات اللغوية — على سبيل المثال، آليات الكتابة والقراءة — وتتغير من خلال العدد المتزايد للساعات التي يقضيها الأطفال وغيرهم على أجهزة الكمبيوتر، ومن خلال مشاركتهم في أشكالِ تواصلٍ جديدة، مثل: الرسائل الفورية، والبريد الإلكتروني، وموقع فيسبوك، وغيرها من أنواع البيئات الافتراضية التفاعلية؟

أسفرت تلك الأبحاث عن نتائجَ غير حاسمة؛ حيث تُعزَّز بعض القدرات وتتلاشى قدرات أخرى، عن طريق الاحتمالات والإمكانات المقدمة. على سبيل المثال، ثَمَّةَ بعض الأدلة على أن الأطفال يكتبون الآن أكثر، وبسهولةٍ أكبر، نظرًا للتقنيات الإعلامية الجديدة التي تُشجع وتُسهل التواصُل المكتوب. لكن تُبيِّن الأبحاث أيضًا أن هذه الكتابة تتفق على نحوٍ أقل مع القواعد الرسمية للغة والإملاء وبناء الجملة. هل تنهار قدراتنا؟ أم أننا نُطوِّر لغاتٍ جديدةً للتواصل؟ هذه هي الأسئلة التي يطرحها باحثو الدراسات الإعلامية الآن، ولا تزال الإجابة عنها غائبة.

(٢-١) التلقِّي العالمي في بيئة الإعلام الجديدة

في النهاية، تظل مسألة طبيعة الإعلام العالمية أو العابرة للحدود مسألةً راسخةً في بيئة الإعلام الجديدة، ولها آثار على طريقة دراسة تلقِّي الإعلام؛ إذ تزداد صعوبة تحديد وطن المنتجات الإعلامية المختلفة أكثر وأكثر، وبإعادة صياغة المثال الذي قدَّمناه سابقًا، يمكن تمويل الإنتاج الإعلامي عالميًّا، وكتابته على يد كتَّاب من لوس أنجلوس، وتصويره في فانكوفر أو أستراليا، وتمثيل أدواره عن طريق ممثلين أوروبيين، وتوزيعه في جميع أنحاء العالم. وتُعزز الطبيعة العالمية للعديد من المنتجات الإعلامية بالطبع من خلال الإدراك الجديد للمكان الذي خلقته الشبكة العالمية. فكما أثبت عمل بويد، تخلق المشاركة في مواقع الشبكات الاجتماعية — وبالتبعية، الأنشطة الأخرى التي وفَّرها الدخول على شبكة الإنترنت — إحساسًا بفضاءٍ عالمي، لا يقع في أي مكانٍ مادي، ولكنَّ له وضعًا حقيقيًّا رغم ذلك في عالم الفضاء الإلكتروني.

درست جيليسبي (١٩٩٥) مراهقين من أصولٍ هنديةٍ وأسرَهم في لندن، وكتبت عن كيفية استخدام التليفزيون والفيديو في إعادة إنشاء التقاليد الثقافية وسط هذا المجتمع الذي يعيش بعيدًا عن وطنه. وتزعم أن هؤلاء الشباب يستخدمون الإعلام من أجل خلق شكلٍ ثقافيٍّ هجينٍ جديدٍ من التعبير ليس هنديًّا تمامًا، ولا بريطانيًّا تمامًا، ويتسم بالتعدُّدية. وتُقدِّم كمثالٍ على ذلك شعبية الفيلم الشهير «الغرب المتوحش» (وايلد ويست)، الذي يروي قصة فِرقةٍ متخصصةٍ في الموسيقى الريفية والغربية، ومكونة من ثلاثة أشقاء مسلمين وأصدقائهم من السيخ والهندوس. وفي حين ترغب والدة البطل في العودة إلى ديارها في ولاية البنجاب، فإنه يرغب في السفر إلى الولايات المتحدة؛ للسعي إلى الحصول على عقد تسجيل أسطوانة غنائية (١٩٩٥: ٥). تدمج القصة بين ارتباط الأبطال بأشكال الثقافة الأصلية في ثقافتهم وارتباطهم بالتقاليد الموسيقية الغربية وفرص العمل.

تتناول بعض الدراسات السابقة حول وسائل الإعلام العالمية وتلقِّيها استهلاك هذه المنتجات غير الغربية في بلدانهم الأصلية، مثل دراسة جولوري حول معنى القنوات الموسيقية التليفزيونية بين المشاهدين الشباب في الهند (٢٠٠٣)؛ حيث يشير إلى أن تلقِّيَ القنوات الموسيقية التليفزيونية الغربية ذات الشعبية هو جزء من عملية إعادة تفكيرٍ ضخمةٍ في مفهوم الذوق العام، الذي بدأ في اتخاذ مظهرٍ مختلفٍ في سياق ثقافةٍ عالمية. ويدرس البعض استهلاك المنتجات الغربية في سياقاتٍ غير غربية، مثل دراسة «أبو لغد» لمشاهدة التليفزيون الأمريكي في مصر (١٩٩٨). درس ليبيس وكاتز تلقِّيَ المسلسل التليفزيوني الأمريكي «دالاس» في إسرائيل — كما ناقشنا بمزيدٍ من التفصيل في الفصل الرابع — حيث كان تلقِّيه مختلفًا لدى المشاهدين العرب واليهود، وفي اليابان؛ حيث رفض المواطنون اليابانيون المسلسل. وبينما لاحظت المجموعات كلها العديد من الأفكار الرئيسية في المسلسل — على سبيل المثال، فكرة تعاسة الأغنياء — كانت هناك اختلافات في درجة التركيز على أفكارٍ بعينها عند مقارنة مناقشات المجموعات المختلفة عن المسلسل في المقابلات التي أُجريت معهم؛ إذ ركَّز العرب على أدوار وأعراف القرابة في المقام الأول، وذكر المستوطنون والعربُ المعضلاتِ الأخلاقيةَ المطروحة في المسلسل، ولكن الأمريكيين فحسب هم الذين جعلوا العلاقاتِ التجاريةَ المطروحة في المسلسل موضوعًا رئيسيًّا للمناقشة (ليبيس وكاتز ١٩٩٣: ١٥٤).

تناولت سلسلة من الدراسات الأخرى لوسائل الإعلام الجديدة السياق العالمي لتأثيرها وتلقِّيها. درس ميلر وسلاتر (٢٠٠٠) الإنترنت في جزيرة ترينيداد، مع إيلاء اهتمامٍ خاصٍّ لطريقة تسهيل استخدام الإنترنت لتنمية الهوية الوطنية في سياقٍ عالميٍّ لسكان ترينيداد، الذين تُواجِهُ أسرهم أشكالًا متعددة من التغريب والهجرة. ويدرس فونج (٢٠٠٩) حالة استخدام الإنترنت في هونج كونج، مع التركيز على نحوٍ خاصٍّ على الألعاب وتأثيرها على الأفكار حول «الحياة الحقيقية» مقابل «الحياة على الفضاء الإلكتروني». ودرست جاجالا (٢٠٠٤) طريقة الإنترنت في بناء مجتمعاتٍ بين النساء في جنوب آسيا، ومدى أهميته في تسهيل وخلق هويات الأشخاص الذين لا يعيشون في بلدانهم الأم في مجتمعاتٍ متعددةٍ في جنوب آسيا. وهي تدرس تحديدًا أفكار الحركة النسوية وكيفية استحواذ الأفراد على هذه الأفكار عبر شبكة الإنترنت، ومدى إشكالية الترجمة من الحركة النسوية الغربية بالنسبة إلى هذه المجتمعات. تؤكد كل هذه الدراسات على الدور المحوري لوسائل الإعلام الجديدة في أي دراسةٍ تتناول تغيُّر الهُويَّات الوطنية، وهويات الجنسين، والميول الجنسية، والهويات القومية والعرقية في مجتمعنا العالمي.

(٣) عدم المساواة الطبقية والجنسية والعرقية والجنسانية في تلقِّي وسائل الإعلام الجديدة: دراسة جديدة

تتغير قضية التمثيلات الإعلامية لعدم المساواة وتلقِّي هذه التمثيلات جذريًّا في عصر وسائل الإعلام الجديدة؛ ففي عصرٍ يَعِدُ فيه الإنترنت بزيادة المشاركة والديمقراطية في حياتنا، تتيح أشكال وسائل الإعلام الجديدة إمكانية زيادة المشاركة والتأثير، وتقليل عدم المساواة؛ وهي الإمكانات التي تكتسب أهميةً خاصةً لدى الأقليات التي شعرتْ بالتجاهل — وتعرَّضت له بالفعل — على مدار تاريخ وحكم هذه الأمة.

إن التجربة الأوَّلية مع بيئة الإعلام الجديدة تُبيِّن أن هذه الإمكانات موجودة حقًّا. كانت الانتخابات الرئاسية عام ٢٠٠٤ أول انتخابات تتضمَّن فعليًّا مستوًى جديدًا من المشاركة السياسية الواسعة النطاق من قِبل المتبرعين الصغار، الذين ساهموا بأعدادٍ أكبر بكثيرٍ من أي وقتٍ مضى في الحملة الإلكترونية لمرشح الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي هوارد دين (شيركي ٢٠٠٧. انظر مناقشتنا فيما يلي حول أهمية وسائل الإعلام الجديدة في انتخابات عام ٢٠٠٤). وعزز انتخاب باراك أوباما للرئاسة عام ٢٠٠٨ حقيقة أنه أصبح لوسائل الإعلام الجديدة دور كبير في المشهد السياسي الأمريكي؛ إذ استخدمت حملةُ أوباما الإنترنت لتنظيم عددٍ هائلٍ من صغار المتبرعين والداعمين الذين لم تتمكن الحملات الانتخابية السابقة من الاستفادة منهم، لا سيما من الطبقة المتوسطة الدنيا والأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية والشباب (تريبي ٢٠٠٨). وإضافةً إلى قوائم البريد الإلكتروني الموسعة، حققت الحملة استفادةً كبيرةً من موقع فيسبوك وغيره من مواقع شبكات التواصُل الاجتماعي. ويعزو كثيرون جزءًا كبيرًا من فوز أوباما إلى هذا التنظيم الناجح على الإنترنت، الذي جعله قادرًا على حشد مجموعاتٍ حُرموا على نحوٍ تقليديٍّ من فرض تأثيرهم نتيجة النقص المعتاد في تمثيلهم في مراكز الاقتراع.

في أمثلةٍ أخرى حول أهمية تقنيات الإعلام الجديدة، نرى مزيدًا من الاستجابة والتفاعل أكبر من أي وقتٍ مضى مع تمكُّن المشاهدين من جميع الطبقات الاجتماعية، والأعراق، ونوع الجنس، والميول الجنسية من التواصل فعليًّا مع الشبكات التليفزيونية وشركات إنتاج الأفلام، وبعضهم مع بعض حول المنتجات الإعلامية التي يتلقَّوْنها؛ لذلك فمسلسلٌ مثل «حياة المثليات» (سبقت مناقشته في الفصل الخامس)، الذي يُمثِّل حياة المثليات في الولايات المتحدة، يمكن أن يصبح نقطة مناقشة محورية بين المثليات، وحول المثليات بين أصحاب الميول الجنسية الأخرى، الذين يتمتعون جميعًا بإمكانية الوصول إلى المنتديات الإلكترونية التي تناقش هذا المسلسل بالتفصيل. ظهرت منتديات مماثلة حول مسلسل «التنصت»؛ وهو المسلسل التليفزيوني الذي يصور حياة الأقليات في بالتيمور. وجرى العديد من المناقشات عبر الإنترنت حول مشكلات الفقراء ومجتمعات الأقليات الفقيرة، سهَّلتها المنتديات التي تمحورت حول هذا المسلسل. وتحتوي المواقع الرئيسية للشبكات المنتجة لهذه المسلسلات على الكثير من هذه المنتديات، بحيث يستطيع المنتجون الاطلاع على ردود أفعال المشاهدين وتعليقاتهم مباشرةً على نطاقٍ أكبر بكثيرٍ مما كان ممكنًا قبل بيئة الإعلام الجديدة.

أخيرًا، أصبحت وسائل إنتاج الإعلام متاحةً لكثيرٍ منا أكثر من أي وقتٍ مضى؛ فتقريبًا كل طالبٍ جامعيٍّ لديه الآن القدرة على إنتاج أفلامٍ قصيرة؛ وذلك باستخدام معداتٍ متاحةٍ لكثيرٍ من شرائح السكان أكثر من أي وقتٍ مضى. وفي هذا السياق، يطرح الباحثون السؤال: مَن المستفيد؟ وهل ستُعزَّز قضية الديمقراطية عن طريق إمكانات واستخدامات التقنيات الجديدة التي تُشكِّل بيئتنا الإعلامية الجديدة؟ على المستوى البحثي، يعني هذا أن دراسة الإنتاج الإعلامي أصبحت مدمجةً مع دراسة تلقِّي الإعلام، ومن الصعب على نحوٍ متزايدٍ الفصل بين الاثنين.

ثَمَّةَ مجال آخر يثير الاهتمام هو تأثير تقنيات الإعلام الجديدة على حياة الشباب. دائمًا ما عبَّر العلماء عن قلقهم حيال تأثير الإعلام على الشباب؛ ففي ثلاثينيات القرن العشرين موَّلت مؤسسة «باين فاند» سلسلةً من الدراسات حول تأثير الأفلام على الأطفال والمراهقين (بلامر ١٩٣٢، كارترز ١٩٣٣). وجدت هذه الدراسات أن تأثير العنف والرومانسية في الفيلم كان يعتمد على عمر الطفل، الذي أثَّر على قدرته على فَهْم ما عُرض على الشاشة. وقد درس كثيرون آخرون على نطاقٍ واسعٍ تأثير التليفزيون على الأطفال (هيميلفايت ١٩٥٨، ليفنجستون ١٩٩٠، ٢٠٠٢)، مقدمين مجموعةً كبيرةً من البيانات مع استنتاجاتٍ متضاربةٍ في بعض الأحيان، فيرى البعض أن التليفزيون كان ضارًّا بالأطفال، ويرى آخرون أنه يوسع آفاقهم بطرقٍ معينة. إن الدراسات السابقة حول تأثير التليفزيون على الأطفال كثيرة وتتضمَّن قضايا معقدة.

تقدم بيئة الإعلام الجديدة مجموعةً جديدةً من الأفكار في مسألة استخدام الأطفال والمراهقين لوسائل الإعلام. تتمثَّل إحدى القضايا في طريقة تحوُّل نوع الجنس والعرق والطبقة الاجتماعية والميول الجنسية إلى فئاتٍ مختلفةٍ في بيئة الإعلام الجديدة؛ فالمراهقون ينشرون معلوماتهم الشخصية بحريةٍ على المواقع الإلكترونية، مثل يوتيوب وماي سبيس، ويمكنهم خلق هويات بحرية أكبر بكثيرٍ مما كانوا قادرين عليه قبل ظهور هذه الأدوات والممارسات. يبدو أن الهويات لم تَعد مرتبطةً بالواقع المادي والفعلي للأجساد.

أحد الأمثلة على المخاطر التي يتعرَّض لها المراهقون إثر ذلك يمكن أن نجدها في دراسة الدعوى القضائية بشأن انتحار ميجان ماير. يمثل هذا الحادث المأساوي مثالًا جيدًا على الخروج عن أدوار الجنسين الذي أصبح ممكنًا بفضل وسائل الإعلام الجديدة. في هذه القضية كان سهلًا، في الواقع، لامرأةٍ كبيرةٍ في السن أن تنتحل هوية ذكرٍ مراهقٍ على الإنترنت، وقد فعلت ذلك — للأسف — لغرضٍ واضح؛ وهو مضايقة فتاةٍ شابةٍ انتحرت لاحقًا نتيجةً لهذه المضايقات.

تظاهرت هذه المرأة — التي تُدعى لوري درو؛ وهي أمٌّ لفتاةٍ مراهقةٍ أخرى كانت منافسةً لميجان على المستوى الاجتماعي — أنها مراهق معجب بميجان. وتحت غطاء شخصية الذكر المراهق، أهانت ميجان وانتقدتها ثم نبذتها بقسوة؛ ما أدَّى إلى انتحارها كنتيجةٍ مباشرةٍ لهذا النَّبْذ المختلَق. ارتبكت المحاكم بسبب هذه القضية نظرًا لمشروعية عملية «التظاهر» على الإنترنت تلك، على الرغم من نتيجتها المأساوية في هذه الحالة غير العادية؛ فرغم أن الأم لم ترتكب عملًا غير قانونيٍّ فعليًّا، إلا أنها كانت قادرةً على دفع عدُوَّة ابنتها إلى الانتحار من خلال استخدام وسائل الإعلام الجديدة. ما جعل هذه القضية أكثر تعقيدًا هو أن موظفةً أصغر سنًّا لدى الأم قامت بدور مساعدتها التقنية في القضية؛ إذ سهلت لها انتحال هذه الشخصية على الإنترنت. مَن المسئول إذًا عن وفاة المراهقة، إذا كان ثَمَّةَ شخص مسئول؟ (انظر موسوعة ويكيبيديا للحصول على شرحٍ أوفى لهذا الحادث المأساوي.)

من النتائج المثيرة للقلق فيما يتعلق باستخدام الأطفال والمراهقين لوسائل الإعلام الجديدة أن الاختلافات بين الجنسين والأعراق والطبقات الاجتماعية — كما ذكرنا سابقًا — لا تزال قائمةً فيما يتعلق بالخبرة اللازمة لاستخدام مهاراتٍ إعلاميةٍ معينة. يرى جوينر وآخرون أن طلاب الجامعات من الذكور يستخدمون الإنترنت أكثر من الطالبات، وعلى وجه الخصوص، كانوا أكثر ميلًا لاستخدام مواقع الألعاب، واستخدام المواقع المتخصصة الأخرى، وتحميل مواد من الإنترنت (جوينر وجافن ودفيلد وبروسنان وكروك ودرندل وآخرون ٢٠٠٥)، ولكن كانت هذه الفوارق صغيرةً نسبيًّا. ويبدو أن الاختلافات بين الجنسين في استخدام الإنترنت في تناقُص، على الرغم من استمرار وجود بعض فوارقَ معينةٍ في الاستخدام (بيمبر ٢٠٠٠، هارجيتاي ٢٠٠٣ب، ٢٠٠٨). تطرح ووكرداين مجموعةً مثيرةً للاهتمام من الأسئلة المتعلقة ببداية ظهور الاختلافات بين الجنسين في أول المستويات في الألعاب التي تُصمم على نحوٍ مختلفٍ لتجذب الفتيات أو الفتيان، وتتضمن تطوير مهاراتٍ مختلفةٍ لكل جنس (٢٠٠٧).

بعض أهم الأعمال فيما يخص الجنسين ووسائل الإعلام الجديدة يتضمَّن زيادة المشاركة في إنتاج الإعلام الجديد، لا سيما بواسطة النساء الشابات والفتيات (كيرني ٢٠٠٦، رادواي ٢٠٠٨). تُعد مشاركة الشباب والمراهقين في إنتاج الإعلام الجديد — الموجودة بالفعل والتي تزداد — عاملًا أساسيًّا في تغيير مفهوم تلقِّي الإعلام، والذي يأخذ الآن شكلًا مختلفًا نظرًا للطبيعة التفاعلية المتزايدة للتكنولوجيا. تدرس كيرني (٢٠٠٦) أنشطة ومنتجات الشابات كصناعٍ للإعلام في سياقٍ تاريخيٍّ بدءًا من الدراسات التي سبقت وجود شبكة الإنترنت. وترى — في إشارةٍ إلى نظرية مولفي حول التحيُّز الجنسي في سينما هوليوود الكلاسيكية — أن تلك المنتجات قد «طورت نظرة الفتاة» (٢٠٠٦: ١٨٩). فبينما توثِّق كيرني على نطاقٍ واسعٍ حقيقةَ أن هوليوود لا تزال يديرها الرجال، فإنها تُقدِّم رغم ذلك فيضًا من الأمثلة على إعلامٍ أنتجته النساء يختلف كثيرًا عن منتجات هوليوود التجارية ذات الإنتاج الضخم التي يهيمن عليها الذكور، ويتحدَّى بالفعل وصراحةً قواعد الأنشطة الأنثوية والجمال النسائي المفترضة في المنتجات الإعلامية التقليدية. إن زيادة فرص الوصول إلى وسائل إنتاج الإعلام، التي تحققت بفضل التقنيات الإعلامية الجديدة، تعد عنصرًا أساسيًّا لإضفاء الديمقراطية يساعد النساء الشابات على تطوير صورٍ بديلةٍ تتحدَّى التحيُّز الجنسي في الإعلام السائد. من ناحيةٍ أخرى، لا يختلف الكثير من الإعلام الذي تُنتجه النساء في الواقع على نحوٍ جوهريٍّ عن المنتجات الإعلامية الأخرى؛ فالمنتجات الإعلامية التي تتحكم فيها النساء لا تكون دائمًا أكثر حساسيةً حيال احتياجات وأوضاع النساء.

وأخيرًا، توجد دراسات سابقة كثيرة ومتزايدة حول الفوارق بين الطبقات الاجتماعية والأعراق في مهارات التعامل مع وسائل الإعلام الجديدة واستخدامها، والتي يشار إليها على نحوٍ شائعٍ في الأدبيات العلمية باسم «الفجوة الرقمية». وقد كشف كثير من الباحثين عدم المساواة في إمكانية الوصول إلى شبكة الإنترنت، وعلى وجه الخصوص شبكة الإنترنت الواسعة النطاق والإنترنت العالي السرعة، والمهارات المتعلقة باستخدامهما بين الأقليات العرقية والقومية، والسكان ذوي الدخل المنخفض، وسكان الريف والحاصلين على قدرٍ أقل من التعليم (هارجيتاي ٢٠٠٣ب). ويختلف الباحثون حول ما إذا كانت الفجوات بين المجموعات تتزايد أم تتناقص. وتشير هارجيتاي (٢٠٠٣أ) إلى أن البيانات الإحصائية نفسها يمكن تفسيرها بعدة طرق؛ مما يؤدي إلى ارتباكٍ حول ما إذا كانت الفجوات بين المجموعات ستختفي ببساطةٍ دون تدخُّلٍ بمرور الوقت، أو ما إذا كانت هناك اختلافات ملموسة يجب مواجهتها مباشرةً لموازنة مجال المنافسة الرقمية.

عمومًا، يشير الكثير من الدراسات إلى الفوارق بين إمكانية الوصول والمهارات؛ فإمكانية الوصول وحدها لا تضمن المساواة بين المجموعات، وقياس مهارات استخدام الإنترنت عمل معقد، ولكن يبدو أنه يوضح أن النساء وكبار السن، والأقليات العرقية والقومية، وأعضاءً من الفئات ذات الدخل المنخفض؛ متأخرون إلى حدٍّ ما في اكتساب المهارات الخاصة اللازمة لاستخدام الإنترنت بنجاح (ديماجيو وهارجيتاي ونيومان وروبنسون ٢٠٠١، روبنسون وديماجيو وهارجيتاي ٢٠٠١، هارجيتاي ٢٠٠٨)، وإن كان في معظم الحالات — لا سيما في حالة السن ونوع الجنس — يبدو أن هذه الاختلافات تتقلص (جوينر وجافن ودفيلد وبروسنان وكروك ودرندل وآخرون ٢٠٠٥). كما ذكرنا في خاتمة الفصل الثالث، فإن العلاج الرئيسي لهذه الأشكال من عدم المساواة هو معرفة إعلامية واسعة النطاق تتناسب مع متطلبات بيئة الإعلام الجديدة. هذا أمر أساسي إذا أردنا الحد من هذه الاختلافات في استخدام وسائل الإعلام والقدرة على ذلك، وإذا أردنا تقليل طرق مساهمتها في عدم المساواة الكلية في مجتمعنا.

(٤) دراسات جديدة: الهوية الجنسانية والطبقية في بيئة الإعلام الجديدة

تركز دراسة برس الأخيرة، التي نناقشها هنا ببعض التعمق، على كلٍّ من احتمالات وقيود استخدام وسائل الإعلام وآثارها في بيئة الإعلام الجديدة. في دراسةٍ طوليةٍ لفتياتٍ وفتيانٍ مراهقين يستخدمون الإنترنت — تركز على الأطفال من مختلِف الطبقات الاجتماعية والأعراق الذين يستخدمون الإنترنت لأداء المهمات المدرسية، فضلًا عن الأنشطة الترفيهية — استخدمت برس (٢٠٠٤، ٢٠٠٥أ، ٢٠٠٥ب) أساليب إثنوجرافية للنظر، على نحوٍ سياقي، إلى كيفية اختلاف تأثير أجهزة الكمبيوتر في كلٍّ من مجالَي العمل والترفيه بالنسبة إلى الفتيات من الطبقات الاجتماعية المختلفة. ويرمز العرض الموجز لبعض النتائج التي توصلت إليها إلى المسائل المهمة التي يواجهها الباحثون ويدرسونها ويناقشونها في أعمال الدراسات الإعلامية الحالية.

تناقش برس في الدراسة حالة ريبيكا؛ وهي فتاة من الطبقة العاملة أصبحت «مدمنة» للكمبيوتر؛ نظرًا لغياب والدتها العزباء لفتراتٍ طويلة، والساعات الطويلة نسبيًّا غير الخاضعة للرقابة التي تقضيها في استخدام الكمبيوتر. تمثل ريبيكا حالةً مثيرةً للاهتمام نظرًا إلى أن قضاءها لساعاتٍ طويلةٍ على الكمبيوتر أكسبها بالفعل نوعًا معينًا من القدرات؛ حيث إنها أصبحت تكتب كثيرًا على الكمبيوتر، وتعلمت مهاراتٍ حاسوبيةً أساسية. على الرغم من أن هذا قد يؤدِّي إلى مهاراتٍ بحثيةٍ أفضل تُيسِّر أداء فروضها المنزلية وتقدُّمها المصاحب لذلك في المدرسة، فإن هذا لم يحدث في الواقع. بدلًا من ذلك، استخدمت ريبيكا المراهقةُ وقتَها على الكمبيوتر لتجنُّب أداء فروضها المدرسية ليس إلَّا؛ من خلال التواصُل مع صديقاتها، في كثيرٍ من الأحيان حتى وقتٍ متأخرٍ من الليل، وتجنُّب قراءة الكتب المطلوبة قراءتها؛ من خلال الاعتماد على الملخصات المتاحة بسهولةٍ على الإنترنت.

على الرغم من أن مراهقين من الطبقة الوسطى خضعوا للدراسة خلال استخدامهم للكمبيوتر على نحوٍ مماثل، فإنهم كثيرًا ما كانوا يخضعون لإشرافٍ عن كثبٍ من قِبل الآباء، الذين وجهوا استخدامهم لأجهزة الكمبيوتر نحو اتجاهاتٍ أكثر إيجابيةً على نحوٍ مباشرٍ بالنسبة إلى تقدُّمهم في المدرسة. على سبيل المثال، شُجِّع أحد الفتيان من الطبقة المتوسطة — إيزاك — على أن يكون مبدعًا وبنَّاءً في استخدامه للكمبيوتر عن طريق الإشراف المباشر والمشاركة من والدته، فأصبح قادرًا على تسجيل موسيقاه الخاصة على أقراصٍ مضغوطةٍ وتسويقها وإخضاعها لحقوق الطبع والنشر، وساعده كثيرًا على ذلك قدرته على استخدام شبكة الإنترنت.

ريبيكا وإيزاك من الشباب اليافعين الذين تتبعتْهم برس لعدة سنواتٍ في هذه الدراسة الطولية. وفي هذا الوقت اكتشفت أن هذه الاختلافات في الواقع أثَّرت على التوجُّهات المستقبلية لحياتهما؛ فعلى سبيل المثال، ريبيكا — التي كان عمرها أربعة عشر عامًا في أول مقابلةٍ لها — بوصولها إلى سن الثانية والعشرين تركت كلية التعليم المتوسط من أجل الزواج من جندي، وواصلت العمل في وظائف تُقدِّم الحد الأدنى من الأجور، في محلات السوبر ماركت، والتي كانت قد بدأت العمل بها خلال سنوات المدرسة الثانوية. وفي نمطٍ نموذجيٍّ لفتيات الطبقة العاملة، أعاق الزواج خطط ريبيكا التعليمية، ولم تتمكَّن من استعادة زخمها، فكانت تفكر على نحوٍ مبهمٍ للغاية في مواصلة تعليمها، بينما واصلت اهتمامها بالكمبيوتر. ومع ذلك، تجربتها الجديدة كزوجةٍ لرجلٍ عسكريٍّ أدَّت إلى خطةٍ بديلة؛ وهي التطوُّع في الجيش، واتباع مسارٍ وظيفيٍّ موازٍ لمسار زوجها؛ إذ اعتقدت أن هذا سيمنحها بعض المزايا فيما يتعلق بالدراسة في الكلية، ومزايا أخرى صحية وخاصة بالأمومة، على النقيض من الوظيفة المؤقتة التي تشغلها حاليًّا، فضلًا عن راتبٍ أعلى. لم تتمكن ريبيكا من تحويل اهتمامها بالكمبيوتر إلى مهارةٍ من شأنها أن تُتَرجَم إلى ميزةٍ في سوق العمل. ومع ذلك، منحتْها بيئتها الجديدة بعد زواجها بعض الأفكار الجديدة لتَوجُّهها المستقبلي، ولا يزال يراودها الأمل بالعمل مع أجهزة الكمبيوتر وتلقِّي التدريب على استخدامها في الجيش.

على الجانب الآخر، إيزاك — الذي كان أيضًا في الرابعة عشرة من عمره في وقت أول مقابلةٍ — بوصوله لسن الثانية والعشرين كان قادرًا على تحقيق تلك الآمال بالضبط؛ إذ تواصل اهتمامه بإنتاج الموسيقى طوال سنوات دراسته الجامعية؛ حيث درس بعض الموسيقى واستمرَّ في العزف في فرقةٍ محلية. بعد التخرُّج من الكلية دعمت والدته رغبته في العثور على عملٍ في استوديو تسجيل موسيقى عن طريق اصطحابه في رحلةٍ إلى لوس أنجلوس، والتي تحقق خلالها على نحوٍ مباشرٍ من الفرص المتاحة في استوديوهات هذه المنطقة. وعندما قرر أن برنامجًا تدريبيًّا في شيكاجو سيتيح له الحصول على وظيفةٍ أفضل، انتقل إليها مع وجود الدعم المالي والعاطفي الكامل من والديه، اللذين بقيا على اتصالٍ به أثناء محاولته بدء حياته المهنية في مجال التكنولوجيا الموسيقية، وظلا موجودَين لتقديم النصائح فيما يخص برامج الدراسات العليا وما إلى ذلك.

التناقض بين هاتين الحالتين مثير للاهتمام لعدة أسباب؛ أولًا: تثبت حالة إيزاك صحة النتائج التي توصَّل إليها باحثو التعليم مثل لارو (٢٠٠٣) وآخرين، الذين أوضحوا أن تدخُّل الأهل في حياة الأطفال من الطبقة المتوسطة أكثر انتشارًا بكثيرٍ من تدخُّل الأهل في حياة الأطفال من الطبقة العاملة، ويفتح العديد من الأبواب والفرص أمام حياتهم المستقبلية؛ فأم إيزاك تخطط لرحلاتٍ مستقبليةٍ معه لمساعدته على إيجاد المكان المناسب في حياته المهنية الجديدة، وربما على إيجاد برنامج دراساتٍ عليا جديدٍ يُسهِّل له ذلك. ساعد هذا الاهتمام الشامل من والديه على الحد من بعض تأثير وسائل الإعلام، فساعد في حالته على تغيير اتصاله بوسائل الإعلام بطرقٍ إنتاجيةٍ إبداعيةٍ تَحوَّلت في نهاية المطاف إلى مهنةٍ واعدة.

على الجانب الآخر، نشأت ريبيكا في ظل تدخُّلٍ أبويٍّ قليلٍ للغاية من جهة والدتها العزباء، التي اضطُرَّت إلى العمل على نحوٍ إضافيٍّ مكثف؛ مما قلل من التواصُل معها. وعلى الرغم من القلق الشديد حول اتجاه ابنتها في المستقبل، لم تستطع والدة ريبيكا — التي حصلت هي نفسها على قسطٍ قليلٍ من التعليم — أن تمنحها الكثير من التوجيه حيال تعليمها أو حياتها المهنية المستقبلية؛ ومن ثَمَّ استخدام ريبيكا لوسائل الإعلام لم يتطوَّر في نهاية المطاف بالطرق الواعدة والمثمرة التي اختبرها إيزاك. رغم أن هذه الدراسة أوَّلية، فإنها توضح الأهمية المتزايدة لدراسة استهلاك الإعلام في سياق حياة المستخدم، كما ذكرنا في الفصل الثالث.

ما يثير الاهتمام على نحوٍ خاصٍّ إزاء التناقُض بين ريبيكا وإيزاك في سياق دراسات الفجوة الرقمية هو حقيقة أن هذا التناقُض يوضح أن إمكانية الوصول المبكر والمكثف إلى الإنترنت، والاستخدام المكثف لتقنيات الإنترنت، لم يوسع كثيرًا من آفاق ريبيكا، أو يزيد مما نالته من تعليمٍ أو فرص عمل، خلافًا لافتراضات بعض الباحثين في مجال الفجوة الرقمية. وبينما شاركت ريبيكا في مواقع المواعدة على الإنترنت، فإنها التقت زوجها في نهاية المطاف من خلال أصدقاء مشتركين. وعندما كانت ملتحقةً بكلية التعليم المتوسط، اختارت بالتحديد «عدم» الالتحاق بدوراتٍ تعليميةٍ على الإنترنت؛ حيث إنها كانت تعلم أن دخولها على الإنترنت يُشتتها عن دراستها بدلًا من تعزيزها. وعلى الرغم من اكتساب اهتمامٍ بالعمل على تقنيات الكمبيوتر، فإنها لم تتمكن من متابعة هذا الاهتمام وتحويله إلى أي نوعٍ من المهارات العملية القابلة للتسويق، أو حتى إلى مهارةٍ مفيدةٍ لمساعيها التعليمية.

في المقابل، اتبع إيزاك مسارًا مختلفًا جدًّا؛ ففي حالته تحوَّل الاهتمام المبكر بالكمبيوتر والتقنيات الرقمية مباشرةً إلى القدرة التي تُمكِّنه حاليًّا من الدخول إلى مجالٍ تنافسي للغاية — الإنتاج الفني للتسجيلات الصوتية — على الرغم من أنه لا يزال في بداية الطريق. فالموارد التي أتيحت له في منزلٍ من الطبقة الوسطى — ليس فقط إمكانية الوصول إلى الإنترنت، ولكن أيضًا نصح ومشورة والديه المتعلمَين تعليمًا عاليًا (والدته فنانة ناجحة ومعلمة متخصصة في التربية الخاصة، ووالده مهندس معماري) — مكَّنته من التدرُّب، معتمدًا على نفسه إلى حدٍّ كبير، من أجل هذه المهنة، والعثور على وظيفةٍ في مستوًى مبتدئ. وحاليًّا يساعده والداه بنُصْحه حول الخطوة المقبلة: هل سيسعى إلى الحصول على درجةٍ في الدراسات العليا في مجال اهتمامه، أم سيواصل شق طريقه في الشركة التي يعمل بها حاليًّا بولاية شيكاجو، أم سينتقل إلى لوس أنجلوس أو نيويورك للبحث عن فرص عملٍ قد تُقدِّم مزيدًا من المزايا في هذه البيئات؟ تخطط والدته حاليًّا رحلةً إلى مدينة نيويورك لاستكشاف هذا الخيار الأخير مع إيزاك.

هذه النتائج — والتي تُبيِّن الفوارق بين الطبقات الاجتماعية في طريقة استفادة الأطفال والشباب من أجهزة الكمبيوتر — تُحاكي وتدعم الأبحاث الإحصائية التي تُنشر في الوقت الراهن. تشير هذه الأبحاث إلى أن مستوى المهارات في البيئة الرقمية مسألة معقدة، ويصعب قياسه، وبالتأكيد يختلف بين الجنسين والطبقات الاجتماعية (هارجيتاي ٢٠٠٣أ، ٢٠٠٣ب). وكما رأينا في مناقشتنا للإعصارين في الفصل الأول، من الواضح أن التغيرات في البيئة الإعلامية لدينا لم تَمحُ أهمية وتأثير الانتماء الطبقي والعرقي والجنساني في مجتمعنا، ولم تعززه دائمًا وعلى نحوٍ مباشر، ولكن لا بد أن تُعتبر جزءًا من مجموعةٍ أكبر وأكثر تعقيدًا من المتغيرات التي تؤثر على هذه الفوارق. لا توجد استنتاجات سهلة من دراسة برس (الصغيرة باعترافنا) وغيرها من الدراسات الأكبر. على سبيل المثال، في بعض الحالات (على الرغم من قلة عددها)، وجدت برس أن فتياتٍ من الطبقة العاملة وعائلاتهن استفادوا بالفعل مباشرةً من وجود الإنترنت في منازلهم.

على سبيل المثال، توضِّح حالة بيتي جو أسرةً من الطبقة العاملة قادرة على تسخير استخدام الكمبيوتر لمصلحة تقدُّم ابنتهما في المدرسة. في هذه الحالة، تابعت الأم — ربة منزل — عن كثبٍ استخدام ابنتها للإنترنت، مقللةً بشدةٍ من أكثر استخداماتها اجتماعية، ومشجعة على أهم استخداماتها التعليمية. كانت بيتي جو قارئة أمهر من ريبيكا — ويرجع ذلك جزئيًّا إلى استخدامها المكثف للمكتبة، ومرةً أخرى تحت إشراف والدتها وتشجيعها — وكانت قادرة على استخدام مهاراتها النقدية، بدرجةٍ أكبر، في البحث على الإنترنت من أجل كتابة أوراقٍ بحثيةٍ متقدمة؛ اعتمادًا على المكتبة إلى جانب مصادر من الإنترنت، وكانت قادرةً على الانتقاء بعينٍ ناقدةٍ من بين تلك المصادر التي وجدتها على الإنترنت، والاعتماد على مواد المكتبة لمراجعة المعلومات التي وجدت أنها غير دقيقةٍ في حالة بعض الأوراق البحثية التي أعدَّتها. كان هذا مثالًا على تعزيز الإنترنت على نحوٍ مباشرٍ وملحوظٍ للمهارات التعليمية بدلًا من تقييدها.

يؤكِّد وضع بيتي جو مع بلوغها سن الثانية والعشرين هذه الاختلافات الجوهرية بين تجربتها وتجربة ريبيكا؛ فهي تسعى إلى الحصول على شهادة الزمالة بينما تعمل في مجال تقنيات الكمبيوتر في كلية التعليم المتوسط بمدينتها. وبدعمٍ كاملٍ من والديها، تُواصل تطوير مهارات تكنولوجيا الإنترنت من خلال عملها بينما تدرس أفضل أنواع البرامج المتاحة لمساعدتها على تطوير هذه المهارات إلى مستوًى أعلى. وهي مهتمة بتأليف الموسيقى وبتطوير برامج يمكن استخدامها لتعزيز عملية التأليف الموسيقي، وهي دقيقة وواقعية حيال اهتماماتها، وكانت قادرةً على استخدام معرفتها بشبكة الإنترنت وباستخدام التكنولوجيا لجمع معلوماتٍ لم تكن متوافرة في بيئتها المباشرة حول هذه الاهتمامات. تُمثِّل بيتي جو نموذجًا ممتازًا للشخص الذي كان قادرًا على استخدام الفرص التي وفَّرها الإنترنت لتوسيع آفاقه كثيرًا، على الرغم من أنه من الطبقة العاملة.

أثارت دراسة برس أسئلة حول بعض أكثر الافتراضات بساطةً التي قدَّمها باحثو الفجوة الرقمية، الذين يدرسون تأثير وسائل الإعلام الجديدة على أفراد الطبقات الاجتماعية والجماعات العرقية المختلفة. توضح هاتان الشابتان احتمالَين مختلفَين لأثر إدخال وسائل الإعلام الجديدة في حياة أطفال الطبقة الدنيا. وتزيد حالات أخرى في الدراسة من تعقيد النتائج؛ فعلى سبيل المثال، تستخدم إحدى الأمهات الإنترنت في تعليم ابنتها الصغيرة بالمنزل لأسبابٍ دينية، لكن تعليم الأم المحدود يقيد قدرتها على تعليم ابنتها بفعالية. في هذه الحالة، وجود شبكة الإنترنت، مع ما يَعدُ به من سهولة الوصول إلى المعلومات والأفكار، يُخفي بطرقٍ عديدةٍ حدودَ قدرات الأم.

تتيح شبكة الإنترنت بالتأكيد للأطفال سهولة الوصول إلى وسائلَ مبتكرةٍ لإنتاج منتجاتٍ من جميع الأنواع، ومع ذلك فإن أطفال الطبقة المتوسطة في هذه الدراسة هم مَن يتمتعون بوضعٍ أفضلَ للاستفادة من هذه الموارد؛ فَهُمْ وأولياء أمورهم يمتلكون إمكانية الوصول إلى المساعدة والمعلومات الإضافية التي تتيح الاستخدام الأشمل والخلَّاق لموارد الإنترنت. كان إيزاك — الصبي من الطبقة الوسطى المذكور سابقًا — قادرًا، بنفسه على وضع حقوق التأليف والنشر على أغانيه الخاصة، ثم عرض أقراصه المضغوطة للبيع على الإنترنت. وبينما كان بعض أبناء الطبقة المتوسطة قادرين — مثل بيتي جو من الطبقة العاملة — على استخدام الإنترنت لتعزيز قدراتهم على البحث من أجل أداء الواجبات المدرسية، فإن هذا الاستخدام لم يكن غالبًا مفيدًا على نحوٍ واضح؛ فعلى غرار ريبيكا، استغل العديد من أبناء الطبقة المتوسطة في بعض الأحيان توافُر موارد الإنترنت والتكنولوجيا للتنصُّل من مهامهم المدرسية، من خلال نسخ ملخصاتٍ للكتب التي كان من المفترض أن يقرءوها، أو إرسال رسائل فورية خلال فترة أداء الواجبات المنزلية، أو تجنُّب صعوبات ومتطلبات الواجبات المدرسية بطريقةٍ أخرى.

يتأكد الفرق الطبقي في تأثير الإنترنت في جزء الدراسة الذي يتناول المراهقين الملتحقين بكلية التعليم المتوسط عبر الإنترنت الذين درَستهم برس. لاحظت برس أثناء الجلوس مع أفراد الدراسة الذين دخلوا كلية التعليم المتوسط المحلية، والتي كانت رائدة في مجال التعليم عبر الإنترنت، تجربتهم في مجال التعليم الإلكتروني. كان كثيرون منهم أول من التحق بالكلية في أُسرهم. كانت تجربةُ التعليم عبر الإنترنت في أحسن الأحوال مجزأة؛ نظرًا للفجوة الزمنية والمكانية التي تفصل بين المعلمين والطلاب. وأوضح افتقارُهم إلى المشاركة أن تجربة الالتحاق بالجامعة تغيَّرت وضعُفت جذريًّا؛ نتيجةً لشعبية التعليم الإلكتروني المتزايدة وفاعليته من ناحية التكلفة، خاصةً للطلاب من الطبقة العاملة.

تُشير نتائج هذه الدراسة إلى ضرورة دراسة استخدام وسائل الإعلام الجديدة في سياقٍ ما، وتُسلط الضوء كذلك على أهمية الطرق الإثنوجرافية، وطرق إجراء المقابلات، وطرق الملاحظة التي تساعد الباحثين في وضع سياقٍ لتلقِّي وسائل الإعلام واستخدامها، والتي تكمل الأساليب الإحصائية الأخرى الأوسع نطاقًا. في حين يوجد العديد من الأمثلة المنفصلة في الدراسات الناشئة حول مسألة تعزيز استخدام الإنترنت للإبداع لدى الأطفال، فإنه لا يزال ينبغي لنا تطوير دراساتٍ منهجيةٍ تدرس مسألة أثر استخدام الإنترنت على الأطفال — من الجنسين، ومن الطبقات الاجتماعية والتقسيمات العرقية المختلفة — في مجالات التعلُّم والإنجاز والانتقال بين الطبقات الاجتماعية، رغم أن هذه الدراسات لا تزال في بداياتها (هارجيتاي ٢٠٠٣أ، ٢٠٠٣ب). وسنتناول في الوقت الراهن دراسةً أخرى حاولنا فيها — معًا — استخدام منهجياتٍ متعددةٍ لإعداد دراسةٍ سياقيةٍ حول استخدام البالغين للإنترنت من أجل الحصول على معلوماتٍ سياسيةٍ خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

(٥) السياسة وتأثير وسائل الإعلام واستخدامها وبيئة الإعلام الجديدة

اشترك كلانا مؤخرًا في دراسةٍ كبيرةٍ حول استخدام بيئة الإعلام الجديدة في الولايات المتحدة خلال الانتخابات الرئاسية (برس وويليامز ومور وجونسون-ييل ٢٠٠٥أ، ٢٠٠٥ب، ٢٠٠٦أ، ٢٠٠٦ب). في هذه الدراسة، وجدنا مجددًا أنه لا توجد إجابة بسيطة على مسألة تأثير بيئة الإعلام الجديدة على نوعية وكمية المعلومات التي تم الوصول إليها فعليًّا واستخدامها من قِبل المواطنين الأمريكيين. باستخدام منظور علم الاجتماع الذي سمح لنا بالتركيز على الأفراد والعوالم الإعلامية الخاصة بهم، مكَّنَنَا أسلوبُنا من توسيع تركيز الدراسات الإعلامية التقليدي على مجرد وسيلة إعلامية واحدة؛ من خلال دراسة استخدام وسائل الإعلام في سياق استخدامها؛ ونتيجةً لذلك، نُقدِّم معلوماتٍ حول الاهتمام النسبي الذي يُولِيه المواطنون إلى مجموعةٍ متنوعةٍ من وسائل الإعلام المختلفة في أي وقتٍ من الأوقات. كذلك توصَّلنا إلى فكرةٍ عامةٍ عن الأهمية النسبية التي يمنحها المواطنون إلى مجموعةٍ متنوعةٍ من وسائل الإعلام المختلفة عند البحث عن معلوماتٍ عن العملية السياسية، أو عند السعي للمشاركة المدنية.

تتكون البيانات المستخدَمة في هذا البحث من المقابلات المتعمِّقة ودفاتر اليوميات الإعلامية التي جُمعت من ٣٢ فردًا من مقاطعة شامبين بإلينوي، خلال فترة ثلاثة أشهرٍ من أكتوبر إلى ديسمبر ٢٠٠٤.3 سجَّل الخاضعون للدراسة في دفاتر اليوميات وسائلَ الإعلام التي استخدموها على نحوٍ يومي، وكيف تقاطع هذا الاستخدام لوسائل الإعلام مع الجوانب الأخرى من حياتهم العامة والخاصة، بما في ذلك المحادثات حول الرياضة مع زملاء العمل، والمناقشات حول الدين والسياسة مع الأصدقاء، والوقت الخاص مع الأسرة في المنزل. قبل بدء عملية تدوين اليوميات وبعد أن انتهت، أُجريت مقابلات متعمِّقة مع الخاضعين للدراسة لفَهْم وجهات نظرهم حول مجموعةٍ متنوعةٍ من القضايا، إضافةً إلى استكشاف المواضيع الرئيسية التي ظهرت في دفاتر يومياتهم. باختصار، تُقدِّم دفاتر اليوميات والمقابلات فهمًا مفصَّلًا لطرق استخدام وسائل الإعلام في الحياة اليومية، إضافةً إلى الآثار المترتبة على ذلك؛ من أجل فهم العلاقة بين استخدام وسائل الإعلام والمشاركة المدنية.

نحن لا نزعم أن المشاركين في دراستنا يُشكِّلون عينةً عشوائيةً مُمَثِّلة للمجتمع، ومع ذلك فقد تفاوتت الخصائص الاجتماعية والاقتصادية للمشاركين في الدراسة على نطاقٍ واسع. وقد شملت العينة أُسرًا تملك الكثير من وسائل الإعلام، وأُسرًا تملك القليل منها، وما يتراوح بينهما. كذلك شملت مجموعات الخاضعين للدراسة أفرادًا علمانيين ومتدينين، ومواطنين أمريكيين ومهاجرين، وطلابًا وأفرادًا متقاعدين، وأعضاءً من مجموعةٍ متنوعةٍ من الجماعات العرقية. واستخدم المشاركون في الدراسة مجموعةً متنوعةً من وسائل الإعلام الجديدة؛ بما في ذلك المحطات التليفزيونية الخاصة، وقنوات الأقمار الصناعية، والتليفزيون الرقمي، وأقراص الفيديو الرقمية، والهواتف الخلوية، والإنترنت. تضمَّنت الدراسة أيضًا استخدامهم لوسائل الإعلام القديمة، مثل: الراديو، والبث التليفزيوني، ووسائل الإعلام المطبوعة (مثل: الصحف، والمجلات، والكتب، والنشرات الإخبارية، والبريد المباشر). ونرى أن الانتباه إلى كلٍّ من تنوُّع استخدام وسائل الإعلام وسياق هذا الاستخدام يمثل جانبًا رئيسيًّا من جوانب أي تناوُلٍ للدور الذي تلعبه وسائل الإعلام الجديدة في حياة المواطنين في الوقت الحالي.

في دراستنا، عرَّفنا بيئة الإعلام الجديدة كما فعلنا في هذا الكتاب؛ وهي تعني منظومة الإعلام الناشئة التي تضم وسائل الإعلام الجديدة والقديمة على حدٍّ سواء: القنوات التليفزيونية الخاصة، وقنوات الأقمار الصناعية، والتليفزيون الرقمي، وأقراص الفيديو الرقمية، وأشرطة الفيديو، والهواتف الخلوية، وشبكة الإنترنت. وهذا يعني أيضًا البث الإذاعي والتليفزيوني، ووسائل الإعلام المطبوعة، مثل: الصحف، والمجلات، والكتب، والنشرات الإخبارية، والبريد المباشر، وما إلى ذلك. كان المنهج المُتَّبع في الدراسات الإعلامية هو الدراسات التي تُركِّز على وسيلةٍ إعلاميةٍ واحدةٍ فقط، مثل: التليفزيون، أو الإنترنت، أو الهواتف، أو الهواتف المحمولة، أو أقراص الفيديو الرقمية، أو أجهزة الفيديو. ويوجد دراسات سابقة كثيرة حول كل وسيلةٍ من هذه الوسائل على نحوٍ منفصل. وعلى النقيض، ما فعلناه هنا هو شيء مختلفٌ نوعًا ما نرى أنه أكثر ملاءمة للبيئة الإعلامية الجديدة؛ فبدلًا من التركيز على مجرد واحدةٍ من هذه الوسائل، نستكشف كيف تصبح هذه المجموعة الجديدة والمتنوعة من وسائل الإعلام جزءًا من تجربة المواطنين الفرادى المعيشة في مجتمعنا.

امتدت دراستنا خلال الأشهُر الثلاثة المحيطة بالانتخابات الرئاسية الأمريكية عام ٢٠٠٤. ومن خلال تتبُّع المشاركين في الدراسة قبل وبعد الانتخابات الرئاسية، كنَّا قادرين على دراسة كيفية استخدام المواطنين وسائل الإعلام القديمة والجديدة على حدٍّ سواءٍ خلال وقتٍ محددٍ في الحياة السياسية الأمريكية. نحن نرى أن الأشهُر السابقة واللاحقة على الانتخابات الرئاسية ينظر إليها كثيرون على أنها وقت من المهم فيه، بصفةٍ خاصة، توافر إمكانية الوصول إلى المعلومات السياسية؛ لكي يتمكَّن المواطنون من اتخاذ قرارٍ مستنيرٍ في صناديق الاقتراع. وكنَّا مهتمين بمعرفة ما إذا اختلف استخدام المواطنين لوسائل الإعلام، لا سيما استخدامهم لوسائل الإعلام الجديدة في الأسابيع التي سبقت الانتخابات، عندما كانت الحاجة إلى الوصول إلى المعلومات مُلحَّة، مقارنةً بالأسابيع التي تلت الانتخابات؛ حيث أصبحت أقل إلحاحًا. وبالمثل، امتد تدوين اليوميات الإعلامية خلال هاتين الفترتين الزمنيتين في العملية السياسية الأمريكية؛ فترة الإثارة السياسية المحمومة قبل الانتخابات، والفترة التالية للانتخابات التي تمثل لحظة «عادية» من الحياة الديمقراطية.

وفَّرت دفاتر اليوميات الإعلامية قدرًا هائلًا من البيانات المتعلقة بطريقة مشاركة المواطنين الأمريكيين في العملية السياسية. استخدم المواطنون دفاتر اليوميات لتسجيل أحاديثهم عن السياسة، وحول القضايا التي يقرءون عنها في وسائل الإعلام، وعن أفكارهم الخاصة حول معنى المواطنة والمشاركة المدنية. وتعد دفاتر اليوميات مثالًا لأفكار المواطنين وتأمُّلاتهم الواعية حول النظام الإعلامي، وتجاربهم معه، وطبيعة مشاركتهم العامة في المجتمع الأمريكي. وربما أكثر ما يثير اهتمامنا في هذه اليوميات هو كونها مثالًا على ما يقوله الناس — وكيف يقولونه — عندما يُطلب منهم تحديدًا التفكير في استخدامهم لوسائل الإعلام، ومعتقداتهم عامةً، ومواجهاتهم مع المجال العام. تمثل أفكار المواطنين الخاصة حول هذه القضايا الرئيسية إضافةً مهمةً إلى البيانات التي لدينا حول وسائل الإعلام الجديدة واستخدامها؛ حيث إنها توفر بعض الأمثلة الأوَّلية على أهمية وسائل الإعلام الجديدة في حياتهم السياسية والثقافية. وفي حين دُرست هذه الظواهر في الدراسات السياسية والإعلامية، فإن عددًا قليلًا من الباحثين فحسب هم مَن جمعوا آراء المواطنين الخاصة التي قدَّموها، في استجابةٍ مباشرةٍ لطلب التفكير في هذه القضايا، حول وسائل الإعلام والحياة العامة.

تشير البيانات التي توصَّلنا إليها إلى أن قضايا تأثير وسائل الإعلام الجديدة على مسألتَي الانقسام والاتصال معقدة؛ إذ توضح بياناتنا أن زيادةً في الاندماج وفي الانقسام تحدث جزئيًّا نتيجةً لاستخدام الإنترنت؛ فالمواطنون المهتمون بدعم رؤيةٍ معينةٍ للعالم يمكن أن يستخدموا الإنترنت كوسيلةٍ للتصفية؛ مما يُسهِّل انعزالهم عن الأفراد الذين يحملون وجهات النظر المعارضة، ويعزز رؤيتهم الخاصة. ونظرًا للتنوُّع والتعقيد الجديد والمتزايد للمصادر الإعلامية، يجب أن يكتسب المواطنون المنعزلون المهتمون بمسألةٍ معينةٍ مزيدًا من خبرات تصفية المعلومات بطرقٍ معقدة.

على النقيض من ذلك، المواطنون المدفوعون نحو البحث عن التنوُّع الفعلي للرأي، وعن تحدٍّ لآرائهم السابقة، وتطويرٍ لمعتقداتهم، يمكنهم أيضًا الاستفادة من بيئة الإعلام الجديدة بطرقٍ معقدةٍ تُسهِّل هذه الأهداف؛ فالاستخدام المتمرِّس للإنترنت (وخاصةً الإنترنت العالي السرعة) يتيح للمستخدمين المدفوعين نحو البحث عن تنوُّع وجهات النظر اكتشاف أي فكرة أو وجهة نظر تقريبًا. على سبيل المثال، ربما يُسهِّل موقعُ نقاشٍ على الإنترنت تبادُل الآراء المعارضة، أو يمكن البحث عن أخبار على الإنترنت من مصادر يختلف معها المرء في العادة.

تُشير البيانات المتوافرة لدينا، بوضوحٍ شديد، إلى أن وسائل الإعلام الجديدة يمكن استخدامها بطرقٍ متباينةٍ للغاية. والنتيجة الأوضح لدينا هي فكرة أن البيئة الإعلامية وتأثيرها على المجتمع والتواصُل العام متغيران للغاية. يعتمد ذلك جزئيًّا على التوجُّه السياسي للشخص الخاضع للدراسة؛ إذ نرى أنه من الممكن للمواطنين صُنْع البيئة الإعلامية الخاصة بهم، المؤلَّفة من خليطٍ معقدٍ من وسائل الإعلام القديمة والجديدة، ووجهات النظر السياسية المألوفة أو المعارضة.

(٦) وسائل الإعلام القديمة والجديدة في بيئة الفرد الإعلامية: بيئة الإعلام الجديدة ليست قطُّ «مجرد» وسائل إعلام جديدة

تتمثَّل إحدى الفِكَر الكاشفة الناتجة عن محاولتنا لدراسة وسائل الإعلام في سياقها، في أن وسائل الإعلام القديمة والجديدة تُستخدم في الوقت نفسه — وعلى نحوٍ متبادلٍ في بعض الأحيان — في حياة الأفراد اليومية، وتندمج كلتاهما أيضًا مع سلسلةٍ من التفاعلات والمشاركات بين الأفراد. وكما ناقشنا سابقًا، يتبنَّى جنكينز هذا الرأي فيما يتعلق بالإعلام الترفيهي (٢٠٠٦). نحن نُطوِّر مناقشاته خطوةً إلى الأمام، ونؤكد أن هذه الظروف نفسها ومجموعة الاستخدامات نفسها تُحدِّد طبيعة عملية البحث عن المعلومات السياسية في بيئة الإعلام الجديدة.

ومن ثَمَّ يصبح عزل تأثير إحدى هذه الوسائل في هذه البيئة مهمة مستحيلة تقريبًا؛ فكما ورد في الكتاب المؤثر «التأثير الشخصي»، من تأليف إليهو كاتز وبول لازارزفيلد (١٩٦٤)، المعلومات التي يحصل عليها الفرد من التليفزيون ووسائل الإعلام القديمة الأخرى، ومن الإنترنت ووسائل الإعلام الجديدة الأخرى، ومن الأحاديث الشخصية مع الأقارب والجيران وزملاء العمل والأصدقاء تتفاعل جميعها بسهولةٍ في الحياة اليومية للأفراد المشاركين في دراستنا (النقطة التي ذكرناها بالفعل في الفصل الثالث). وهذا الواقع المعقد المعيش — الذي يتألف من مجموعةٍ من العوامل المتشابكة — هو الساحة الفعلية التي يُطوِّر فيها الأفراد معتقداتهم وآراءهم وتحيُّزاتهم، ويحافظون عليها، ويفكرون في أفكارهم، ويعيشون حياتهم. وقد طُورت المقابلات النوعية والملاحظات ودفاتر اليوميات، التي كانت أسلوبنا في هذه الدراسة على نحوٍ خاص، لتقصِّي هذا الجانب من الحياة الاجتماعية البشرية. وهو أسلوب فوضوي، لكنه مناسب للبيئة الفوضوية التي تُدار بها الحياة البشرية؛ حيث غالبًا ما يستحيل عزل تأثير متغيراتٍ معينة.

وجدنا أن المواطنين انتقلوا بسلاسةٍ كبيرةٍ بين وسائل الإعلام القديمة والجديدة، مُكمِّلين استهلاكهم للصحف والتليفزيون بالمعلومات الحالية «المحدَّثة» من المصادر الرقمية؛ ففي كثيرٍ من الأحيان، عندما عرف المشاركون مسألةً أو حدثًا من التليفزيون أو من قراءة الصحف، دفعهم هذا إلى «تصفح الإنترنت» للتحقق من الوقائع أو الحصول على مزيدٍ من المعلومات، وبدا أن شبكة الإنترنت تحتل مكانةً ذات أهميةٍ خاصةٍ لأولئك الذين يسعَوْن للحصول على أحدث المعلومات في فترة الانتخابات. تأمَّل تعليق أحد المشاركين في الدراسة — مدير في أواخر الأربعينيات من عمره — أراد معرفة المزيد عن الانتخابات: «تصفحت الموقع الإلكتروني لشبكة سي إن إن للحصول على أحدث أخبار فرز أصوات الانتخابات الرئاسية. كان الأمر سهلًا، وخاضعًا لتحكمي، وسيكون بالتأكيد هو الطريقة المتبعة في المستقبل.» وتوجَّه اثنان آخران من المشاركين في الدراسة — وهما مدرس متقاعد وبائع زهور — بعد مشاهدة برنامج في التليفزيون كان يُصوِّر المرشح الرئاسي جون كيري بصورةٍ سلبيةٍ؛ إلى شبكة الإنترنت للبحث عن الانتماء السياسي لشركة سنكلير برودكاستينج كومباني؛ وهي مالكة المحطة التليفزيونية.

(٦-١) التحيُّز في وسائل الإعلام القديمة والجديدة

تحدَّث الأفراد أيضًا على نحوٍ مختلفٍ عن وسائل الإعلام القديمة والجديدة عندما تأملوا درجة الصدق ودرجة التحيُّز النسبية في كلٍّ منهما. وأشارت الكتابات في دفاتر اليوميات إلى أن المشاركين في الدراسة ركزوا كثيرًا على التغطية «العادلة والمتوازنة» من المصادر الإعلامية. وقد بدَوْا مقتنعين بذلك، حسب منظورهم، لا سيما في الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية؛ حيث بدا للكثير منهم أن مسئوليات المواطنة تعتمد اعتمادًا خاصًّا على قدرتهم على تلقِّي الأخبار السياسية الحقيقية، وفي الوقت المناسب.

في أحد دفاتر اليوميات، أكَّد أحد المشاركين هذا التفكير: «اعتدتُ اللجوء إلى وكالة أنباء «أسوشيتدبرس»؛ لأنني أحترمها … أحترمها بوصفها «جهة محايدة» تنقل الأخبار.» وارتبط بالرغبة في الحصول على معلومات غير متحيزة تركيزٌ على الحياد الفردي، وهو ما يتجلَّى في كلمات طالبٍ من أصولٍ عربيةٍ هنديةٍ اسمه سام: «ما زلت أُكوِّن رأيي … ذلك أمر في غاية الأهمية. أريد أن أكون غير متحيز لكي أتمكَّن من تكوين رأيٍ حُر، لا أريد أن أُجبَر على الانحياز لأي جانب.»

كان العديد من المشاركين في الدراسة قلقين إزاء «التحيُّز» في الأخبار التي قرءوها وسمعوها. لم يكن يُنظر إلى الإنترنت على أنه يتجنَّب تحيُّز وسائل الإعلام القديمة فحسب، ولكن أشار المشاركون أيضًا إلى شعورٍ بالتمكين منحهم إياه الإنترنت، فشعروا أنه منحهم السيطرة على المعلومات التي سعَوْا إليها. لم تتطابق هذه التعبيرات عن السلطة والسيطرة بأي شكلٍ من الأشكال مع طريقة تفاعل الأفراد وتعليقاتهم حول مصادر الأخبار التقليدية. بدت صفات وسائل الإعلام الجديدة تلك مهمةً على نحوٍ خاصٍّ للأفراد عندما تعلَّق الأمر بمناقشة الانتخابات. قدَّر المشاركون في الدراسة القدرة على جمع أحدث الأخبار «المحايدة» المرتبطة بالتصويت القادم، كما تشير هذه التعليقات:

الأخبار التليفزيونية لا تُقدِّم لي بالضرورة المعلوماتِ التي أريدها … فهي محدودة رغمًا عنها، بينما أستطيع أن أنقر على العنوان الذي أريده على شبكة الإنترنت، وأستعرض تلك المعلومات، وأتجاوز المعلومات التي قد لا أكون مهتمًّا بها، وأركز على ما أهتم به. (تروي؛ باحث جامعي، ٣٦ سنة)

على شبكة الإنترنت، في كثيرٍ من الأحيان تتوافر إمكانية الاطِّلاع على مواقع وكالات الأنباء والمصادر الإخبارية المختلفة … وهكذا تُعَدُّ شبكة الإنترنت مفيدةً حتى لو لجأت إلى مصدرٍ يُقدِّم معلوماتٍ محدودةً أو متحيزة؛ فعلى الأقل عندما تستقي الأخبار من الإنترنت، ستجد مصادر أخرى متاحة لك. (أندريه؛ مُعلِّم، ٣٥ سنة)

بالنسبة إلى كثيرٍ من المواطنين في دراستنا، احتل الإنترنت دورًا خاصًّا في حياتهم اليومية، ونعتقد أن السبب هو اعتباره مصدرًا للأخبار الحديثة «غير المنحازة». وفقًا لمارك، وهو طالب حقوق شاب، يقول: «أعتقد أن الإنترنت هو أول شيءٍ أتوجه إليه وآخر شيءٍ أتصفَّحه قبل أن آويَ إلى الفراش، سواءٌ أكان ذلك بريدي الإلكتروني أو الأخبار، وأستخدمه باستمرارٍ طوال اليوم.» ويتضح من خلال تحليل البيانات أن العديد من المشاركين اعتبروا الإنترنت أداةً أساسيةً لبقاء المرء مطلعًا على نحوٍ جيدٍ على القضايا السياسية والاجتماعية؛ وهو دور رئيسي تلعبه وسائل الإعلام في العلاقة بين حرية الوصول إلى المعلومات والمشاركة المدنية.

(٦-٢) المشاركة المدنية في بيئة الإعلام الجديدة

إضافةً إلى تعليقات المشاركين السياسية، وعلى الرغم من اختفاء هذا الاهتمام في أعقاب الانتخابات، كان الكثير منهم منخرطين للغاية في الأنشطة المدنية العامة خلال وقت إجراء الدراسة. ارتدى بعضهم قمصانًا تحمل شعاراتٍ مثيرةً للخلاف السياسي في الأماكن العامة، وشارك آخرون في المجموعات الشعبية المحلية، وترشح آخرون في المجالس الطلابية، وعمل البعض كمتطوعين في الحملات الانتخابية لممثلي الولاية، وتبرعوا بالمال للحملات الانتخابية، وعملوا كقضاةٍ في الانتخابات، وشاركوا في التصويت، ودخلوا في مناقشاتٍ سياسيةٍ حماسيةٍ مع العائلة والأصدقاء وزملاء العمل وأعضاء الكنيسة والغرباء والزملاء، سواءٌ على الإنترنت أو «خارج الإنترنت».

وقد لاحظنا ارتفاع معدل التصويت بين المشاركين أصحاب دفاتر اليوميات؛ فعمومًا، سجَّل ٢٢ من أصل ٣٠ مشاركًا (ما يقرب من ٧٥ بالمائة) مؤهلًا للتصويت في دفاتر يومياتهم الشخصية أنهم صوَّتوا بالفعل.4 بطبيعة الحال، فإن حقيقة أن هذه النسب تتجاوز بكثيرٍ المعدل الوطني للتصويت البالغ ٦٤ بالمائة تُشكِّك على نحوٍ محتملٍ في مدى تمثيل عينة دراستنا أو في دقتها. ومع ذلك، قد نتجاوز هذه الشكوك إذا نظرنا إلى حقيقة أن نسبة مشاركة الناخبين الأعلى من المتوسط تلك تدعمها بيانات مكتب الإحصاء الأمريكي، التي تشير إلى أن الأفراد في الغرب الأوسط الأمريكي — حيث أُجريت الدراسة — أكثر ميلًا إلى التصويت من الأمريكيين في الأماكن الأخرى من البلاد.5 وعلى وجه التحديد في الانتخابات الأخيرة، في منطقة الغرب الأوسط حيث أُجريت دراستنا، كانت نسبة مشاركة الناخبين عاليةً تبلغ ٧٦ بالمائة. يقترب هذا الرقم كثيرًا من أرقامنا. وتشير نتائجنا إلى أنه عندما تدعو الظروف إلى ذلك، كما في حالة الانتخابات المثيرة للجدل، فإن الأمريكيين يمكن أن يكونوا ناشطين للغاية سياسيًّا ومشاركين في المجال العام.

(٧) الأمريكيون ومناقشة السياسية: كيف تغير بيئة الإعلام الجديدة المشهد المدني؟

لاحظ باحثون، مثل إلياسوف (١٩٩٨)، تجنُّب الأمريكيين للنقاش والجدل السياسي العام. وفي ضوء ذلك، تعد النتائج التي توصَّلنا إليها حول ارتفاع معدل المشاركة المدنية والنقاش السياسي مثيرةً للاهتمام، وتُعارض بعض الدراسات السابقة عن هذه المسائل. إضافةً إلى ذلك، غالبية المحادثات التي دوَّنها المشاركون في دراستنا لا تتفق تمامًا مع نموذج المواطنين الأمريكيين الذين يتهربون من النقاش السياسي الجماعي، خاصةً في المحادثات العامة مع الغرباء. في عينتنا، أفاد ٢٣ من أصل ٣٢ مشاركًا (تقريبًا ٧٢ بالمائة) بإجراء مناقشاتٍ حول السياسة مع أناسٍ غير أفراد أسرهم المباشرين. وفي كثيرٍ من الأحيان، وقعت هذه المحادثات في أماكنَ تُشبه الأماكن العامة، بدلًا من المساحات الخاصة المعتادة في المنزل ومع الأسرة. عدد قليل جدًّا فحسب من المشاركين في دراستنا تجنبوا عن عمدٍ النقاشات السياسية، ووقع ضمن هذه الفئة ثلاثة فحسب من أصحاب دفاتر اليوميات. بدلًا من ذلك، وُجد مع المشاركين النقاش العام مريحًا، بل وممتعًا، حتى عندما تجعل هذه المناقشات بعض الأشخاص الآخرين المشاركين فيها منزعجين بوضوح:

دائمًا ما تشعر أمي وباتريك [زوجي] بالسعادة عندما لا نُجري محادثاتٍ سياسيةً على العشاء! فكلاهما … لديه وجهات نظره بشأن السياسة، ولكنهما يحتفظان بها لنفسيهما … في جوٍّ أسري، بينما لا أحتفظ أنا بآرائي لنفسي. (تيري؛ وكيلة عقارات، ٢٥ سنة)

كنت أنا وصديقي نتحدث عن الانتخابات وكيف أن السياسة موضوع حساس للغاية لدى بعض الناس. في الحقيقة أنا لا أحب أن يأتيَني الناس ويسألوني مباشرةً: «مَن الذي ستصوتين لصالحه؟» (كاثرين؛ مندوبة مبيعات مستحضرات تجميل، ٣٨ سنة)

بالطبع، تثير هذه النتائج إمكانية أن تكون طبيعة الدراسة قد حددت طبيعة العينة؛ أي إن دراستنا جذبت الأفراد «المنفتحين» سياسيًّا الذين يشعرون براحةٍ في التعبير عن وجهات نظرهم بشأن السياسة في بيئةٍ تشهد انتخاباتٍ مثيرةً للجدل.

في دراستنا، كان أكثر المشاركين تعبيرًا عن انتقاداتهم للتحيُّز في وسائل الإعلام بعضًا من أكثر الأشخاص مشاركةً على المستوى المدني أيضًا. على سبيل المثال، شاركت نادين، أحد أفراد العينة، في المجموعات السياسية، وشاركت في الحملات السياسية التي تَزُورُ الناخبين في منازلهم، وأدلتْ بصوتها. مع ذلك، امتلأ دفتر يومياتها ومقابلاتها بالعديد من الانتقادات للتحيز في وسائل الإعلام التي استخدمتها. وكان مارك يشارك بالفعل كثيرًا في الأنشطة والنقاشات العامة قبل الانتخابات، رغم حديثه عن «انعدام ثقته الشديد في وسائل الإعلام.» وعلق بعد الانتخابات قائلًا: «أعتقد أن النتيجة النهائية لهذه الانتخابات حفَّزتني للمشاركة أكثر بطريقةٍ ما، إذا كان ذلك بوسعي؛ فلن أجلس مكتوف اليدين وأسمح للمتخلفين … ذوي الوازع الأخلاقي برسم سياسة هذا البلد.» وفي حالته، لم تدفعه انتقاداته لوسائل الإعلام إلى الاستنتاج بأن عدم المشاركة المدنية هو أفضل ردِّ فعلٍ بالنسبة إليه. تدحض هذه النتيجة نتائج الدراسة البريطانية الموازية التي تُرجمت فيها الانتقادات الموضوعية لوسائل الإعلام إلى انخفاض المشاركة المدنية والمشاركة السياسية بالنسبة إلى العديد من المشاركين فيها (كولدري وليفنجستون وماركام ٢٠٠٧).6
في الواقع، كان المشاركون في دراستنا أكثر انتقادًا لوسائل الإعلام القديمة منهم لوسائل الإعلام الجديدة، في حين بدا العديد منهم متمتعًا بالوعي الذاتي وناقدًا لمصادر المعلومات السياسية التي حددها العصر الذهبي للنشرات الإخبارية، وكانوا عمومًا أقل وعيًا بالذات، بكثير، فيما يخص وسائل الإعلام الجديدة. لتقييم هذا، قِسْنا المساحة التي استخدمها الأفراد في دفاتر اليوميات الإعلامية الخاصة بهم (تُقاس بعدد الكلمات)؛ لتدوين ما سمَّيناه التعليقات السلبية والإيجابية على وسائل الإعلام القديمة مقابل وسائل الإعلام الجديدة. لقد وجدنا أن وسائل الإعلام القديمة ذُكرت أكثر وبصورةٍ أكثر سلبيةً بكثيرٍ من وسائل الإعلام الجديدة، كما تشير الإحصاءات الناتجة إلى أن:
  • التعليقات السلبية على وسائل الإعلام القديمة = ١١٤٣٥.

  • التعليقات الإيجابية على وسائل الإعلام القديمة = ٤٩٢٢.

  • التعليقات السلبية على وسائل الإعلام الجديدة = ١٤٧٠.

  • التعليقات الإيجابية على وسائل الإعلام الجديدة = ١٦٣٠.

وقادنا التحليل الإضافي للتعليقات الفعلية إلى استنتاج أن المشاركين في دراستنا كانوا مدركين لأوجه قصور الأشكال القديمة من وسائل الإعلام، وعدَّلوا فهمهم للمعلومات التي قدمتها لهم وفقًا لذلك، ولكن عندما تعلق الأمر بوسائل الإعلام الجديدة، كانوا أقل انتقادًا ودقةً بكثيرٍ عندما تعلق الأمر بتقييم المعلومات التي تلقَّوْها.

كما ناقشنا باختصارٍ سابقًا، الدراسات الحديثة التي بدأت تظهر للتوِّ حول الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠٠٨، تشير إلى أن الإنترنت يحتل الآن مكان المؤسسات الإخبارية التقليدية كمصدرٍ للأخبار بالنسبة إلى معظم الناس (مركز بيو للدراسات ٢٠٠٨). في الواقع، تشكلت عملية الانتخابات نفسها من خلال الاتصالات عبر الإنترنت، كما ذكر العديد من الباحثين والمؤسسات الإخبارية (تود وجاويزر وأرومي وإيفانز ويت ٢٠٠٩، جويرجويفا ٢٠٠٨، دوبي ٢٠٠٩، جرينجارد ٢٠٠٩). حُشد الشباب للمشاركة في هذه الانتخابات بأعدادٍ أكبر بكثيرٍ مما رأيناه سابقًا، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن فريق أوباما الانتخابي كان ماهرًا للغاية في استخدام مصادرَ جديدةٍ للمعلومات، ويعتقد كثير من المحللين السياسيين أن هذه المشاركة أثرت جذريًّا على نتائج هذه المنافسة. ربما امتلك أوباما جاذبيةً معينةً لن تظهر في الانتخابات المقبلة، أو ربما دخلنا عصرًا تغيرت فيه مصادر وشكل المعلومات من جميع الأنواع — بما في ذلك المعلومات السياسية — جذريًّا. تثير هذه التغيرات تساؤلاتٍ بشأن الشكل المستقبلي للمجتمع والسياسة والعمل الجماعي في الولايات المتحدة وأرجاء العالم.

(٨) خاتمة

دراسة تلقِّي وسائل الإعلام في بيئة الإعلام الجديدة عملية معقدة بدأ باحثو الدراسات الإعلامية للتوِّ الخوضَ فيها. تناولنا في هذا الفصل سلسلةً من القضايا التي تحتل موقعًا مركزيًّا في مناقشات الدراسات الإعلامية الحالية حول طريقة تغيير بيئة الإعلام الجديدة للمشهد الإعلامي، فناقشنا طريقة تغيُّر تحليل النصوص وتلقِّيها، والآثار المترتبة على هذا فيما يتعلق بتصوير الإعلام للعِرق والطبقة الاجتماعية، ونوع الجنس، والميول الجنسية، والأثر الاجتماعي الذي يفرضه الإعلام على هذه الهويات الاجتماعية، والأهمية المتزايدة للعولمة من أجل فهم الإنتاج الإعلامي الجديد وتلقِّيه، وطريقة تسهيل البيئة الإعلامية الحالية لكلٍّ من المشاركة السياسية والثقافية بطرقٍ جديدةٍ ومتطورةٍ عن ذي قبل. ودرسنا التقارب الإعلامي؛ التقارب بين أنواع الإعلام، وبين وسائل الإعلام القديمة ووسائل الإعلام الجديدة، وبين البيئات الإعلامية القديمة والجديدة.

درسنا طريقة تشجيع هذا الوضع المعقد لاستخدام الأساليب الإثنوجرافية الملائمة لدراسة استخدام وسائل الإعلام في سياقها. وقد شارك مؤلِّفا هذا الكتاب في دراستَين حديثتَين تستخدمان هذه الأساليب: تركز إحداهما على استخدام وسائل الإعلام الجديدة بين المراهقين في البيئة الأسرية الخاصة، وتركز الأخرى على استخدام وسائل الإعلام الجديدة بين المواطنين في البيئة العامة خلال الانتخابات الرئاسية، وهو وقت مسيَّس على نحوٍ خاصٍّ في الحياة الأمريكية. تعزز كلتا الدراستَين فكرة أن وسائل الإعلام بأشكالها المعقدة المتكاملة أصبحت جزءًا لا يتجزَّأ من ثقافتنا، وأن تأثيرها يلعب دورًا محوريًّا في تجربة الحياة العصرية. سيتناول الفصل الختامي هذه الفكرة بتوسُّعٍ بينما نُفكر فيما ينبغي أن تخبرنا به الدراسات الإعلامية عن هذه التجربة العصرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤