الهروب

١

«نيكول.»

في البداية بدا ذلك الصوت الآلي الهادئ جزءًا من حلمها. لكن عندما سمعت اسمها مرةً أخرى بنبرةٍ أعلى استيقظَت نيكول فجأة.

واجتاحت كيانها موجة من الخوف المتوتر. كان أول ما خطر ببالها: «لقد جاءوا من أجلي. إننا في الصباح. سأموت في غضون ساعاتٍ قليلة.»

أخذت نفسًا بطيئًا عميقًا وحاولت أن تهدِّئ روعها. وبعد ثوانٍ فتحت عينَيها، لتجد الظلام يخيم على زنزانتها تمامًا. فنظرت حولها في حيرةٍ باحثة عن الشخص الذي كان ينادي باسمها.

فقال الصوت بنبرة منخفضة: «نحن هنا، على فراشكِ بجوار أذنكِ اليمنى. أرسلنا ريتشارد لمساعدتكِ على الهرب … لكن يجب أن نتحرَّك بسرعة.»

لوهلةٍ ظنَّت نيكول أنها لا تزال تحلم. ثم سمعت صوتًا آخر يشبه الصوت الأول لكنه مميزٌ يقول: «استديري جهة جانبكِ الأيمن، وسوف نُضيء لنكشف عن أنفسنا.»

فاستدارت نيكول، ورأت كائنتَين بالغتَي الصغر تقفان على الفراش بجوار رأسها، لا يزيد طول كلٍّ منهما عن ثمانية أو عشرة سنتيمترات، وكلتاهما على هيئة امرأة. كانتا تتوهجان لحظيًّا من مصدرٍ داخلي للضوء. كانت إحداهما قصيرة الشعر ترتدي درع فارس أوروبي من القرن الخامس عشر، أما الثانية فكانت ترتدي تاجًا فوق رأسها ورداءً كاملًا ذا ثنيات كأردية ملكات العصور الوسطى.

قالت الأولى: «أنا جان دارك.»

«وأنا إليانور الأكويتينية.»

ضحكت نيكول ضحكةً عصبيةً وحدَّقت بدهشةٍ في المخلوقتَين، وبعد عدة ثوانٍ عندما خبا ضوء الآليتين الداخلي، كانت نيكول قد استعادت رباطة جأشها أخيرًا لتتحدث. فهمست قائلة: «إذن أرسلكما ريتشارد لمساعدتي على الهروب، كيف تقترحان القيام بذلك؟»

أجابَتها جان الصغيرة بفخر: «قمنا بالفعل بتخريب نظام المراقبة. وأعدنا برمجة كائن جارسيا الآلي، سيكون هنا في غضون دقائق قليلة ليخرجك.»

أضافت إليانور: «لدينا خطة هروب مفصلة، بالإضافة إلى بعض الخطط البديلة. ظل ريتشارد يخطط لها لشهور، بعد أن انتهى من صنعنا.»

ضحكت نيكول مرة أخرى. كانت لا تزال مندهشة. ثم قالت: «حقًّا؟ وهل لي أن أسألكما عن مكان زوجي العبقري الآن؟»

أجابتها جان: «ريتشارد في مخبئكِ القديم أسفل نيويورك. وقد طلب منا أن نبلغكِ أن شيئًا لم يتغير هناك. وهو يتابع حركة تقدمنا باستخدام جهازٍ لاستقبال الإشارات اللاسلكية … وهو بالمناسبة يرسل لكِ حبه. ولم ينسَ …»

قاطعَتها إليانور قائلة لنيكول: «اثبتي دقيقةً واحدة من فضلك»؛ وذلك لأن نيكول حكَّت بصورةٍ تلقائية الوخز الذي شعرَت به خلف أذنها اليمنى. أردفت إليانور: «أنا أحاول تشغيل مرسل إشاراتك الآن، وهو ثقيل للغاية.»

بعد عدة دقائق لمست نيكول الأداة الصغيرة المثبتة بالقرب من أذنها وهزَّت رأسها. ثم سألت: «وهل بإمكانه سماعنا أيضًا؟»

فأجابتها إليانور: «رأى ريتشارد أنه لا يمكننا المخاطرة ببث الصوت؛ إذ يستطيع ناكامورا اعتراضه بسهولة … غير أن ريتشارد سيتابع تحركاتنا.»

قالت جان: «يمكنكِ النهوض الآن وارتداء ملابسك. نريد أن نكون على استعدادٍ عندما يصل جارسيا.»

«ألن تتوقف هذه العجائب أبدًا؟» فكرت نيكول وهي تغسل وجهها في الظلام في الحوض البدائي. لثوانٍ شكَّت نيكول أن تكون الكائنتان الآليتان جزءًا من خطة ذكية وضعتها حكومة جنة عدن الجديدة لتقتلها وهي تحاول الهروب. لكنها قالت لنفسها بعد ثوانٍ: «مستحيل. فعلى فرض أن أحد أتباع ناكامورا تمكَّن من اختراع آليتَين كهاتَين، فريتشارد وحده يعرف ما يكفي عني كي يطلق عليهما جان دارك وإليانور الأكويتينية … وعلى أي حال ما الفارق الذي سيصنعه مقتلي وأنا أحاول الهروب؟ فمن المخطط إعدامي بالكهرباء الساعة الثامنة صباح اليوم.»

سمعت نيكول صوتَ آليٍّ يقترب من زنزانتها. شعرَت بالتوتر وكانت لا تزال غير مقتنعةٍ تمامًا أن صديقتَيها الصغيرتَين تُخبرانها بالحقيقة. ثم سمعَت جان تقول لها من الخلف: «عُودي واجلسي على السرير، حتى يمكنني أنا وإليانور أن نتسلقَكِ وندخل جيبك.» شعرت نيكول بالآليتَين تتسلَّقان قميصها من الأمام. فابتسمَت وقالت في نفسها: «أنت رائع يا ريتشارد. وأنا سعيدة للغاية أنك لا تزال على قيد الحياة.»

كان الآلي جارسيا يحمل مشعلًا كهربائيًّا. دخل إلى زنزانة نيكول وهو يتصرف بمسئولية. وقال بصوت عالٍ: «تعالَي معي يا سيدة ويكفيلد. لديَّ أوامر بنقلكِ إلى غرفة الإعداد.»

مرةً أخرى شعرَت نيكول بالخوف؛ فالكائن الآليُّ لم يكن يتصرف بطريقةٍ ودية. ماذا لو … لكن لم يكن لديها متسعٌ من الوقت لتفكر. قادها الآلي جارسيا عبر الممر خارج الزنزانة بخطًى سريعة. وبعد عشرين مترًا مرَّا من أمام المجموعة التقليدية من الحراس الآليين وضابط بشري مسئول، وهو شابٌّ لم تره نيكول من قبل. وما إن كانت نيكول والآلي جارسيا على وَشْك أن يصعدا درجات السلم، حتى صاح الرجل من خلفهما: «انتظرا». فتجمَّدت نيكول في مكانها.

ثم استأنف الضابط كلامه وهو يرفع مستندًا للآلي جارسيا قائلًا: «نسيتَ أن توقِّع أوراق النقل.»

أجاب الآلي: «أنت محق» وهو يكتب رقم تحقيق شخصيته على المستند بخطٍّ منمق. بعد أقل من دقيقةٍ كانَت نيكول خارج المنزل الكبير الذي ظلَّت حبيسةً بداخله لشهور. فأخذَت نفسًا عميقًا من الهواء النقي وبدأَت تتبع جارسيا في طريقهما باتجاه سنترال سيتي.

سمعت نيكول نداء إليانور من داخل جيبها: «كلا. لن نذهب مع الآلي، اتجهي غربًا. باتجاه تلك الطاحونة الهوائية التي يعلوها كشاف. يجب أن تركضي. لا بد أن نصل إلى مزرعة ماكس باكيت قبل الفجر.»

•••

كان سجن نيكول يبعد نحو خمسة كيلومترات عن مزرعة ماكس. فاندفعَت نيكول تركض في الطريق بخطًى ثابتة، تحفزها واحدة من الآليتَين من حينٍ لآخر وهما منتبهتان لمرور الوقت. لم يتبقَّ الكثير من الوقت حتى بزوغ الفجر. فعلى عكس الأرض حيث يكون الانتقال من الليل إلى النهار تدريجيًّا، كان بزوغ الفجر في جنة عدن الجديدة حدثًا منفصلًا مفاجئًا. فيكون الظلام مخيمًا على المدينة في لحظة، ثم في اللحظة التالية تشتعل الشمس الصناعية، وتبدأ حركتها في قوس صغير فوق سقف المستعمرة.

وما إن وصلت نيكول إلى طريق الدراجات المؤدِّي إلى آخر مائتَي مترٍ قبل بيت مزرعة باكيت، حتى قالت جان: «أمامنا اثنتا عشرة دقيقةً أخرى حتى تُشرق الشمس.» كانت نيكول منهكةً تمامًا لكنها استمرت في الركض. وأثناء ركضها عبر المزارع، شعرَت بألم خفيف في صدرها مرتَين منفصلتَين. فقالت وهي توبِّخ نفسها لأنها لم تكن تمارس التمارين الرياضية بانتظامٍ في سجنها: «فقدت لياقتي بلا شك. بالإضافة إلى أنني بلغت ستين عامًا.»

كان بيت المزرعة مظلمًا، فوقفت نيكول عند المدخل تلتقط أنفاسها، ثم فُتح الباب بعد ثوانٍ. وظهر ماكس وهو يقول: «كنت في انتظارك»، وكانت علامات الجدية التي ترتسم على وجهه تؤكِّد على جدِّية الموقف. احتضن نيكول سريعًا. ثم قال لها: «اتبعيني» وهو يتحرَّك بسرعةٍ إلى الخارج باتجاه الحظيرة.

عندما أصبحا داخل الحظيرة، قال ماكس: «لم تظهر سيارات الشرطة على الطريق. على الأرجح لم يكتشفوا بعدُ أنكِ هربت. لكنها أصبحَت مسألة دقائق الآن.»

كان يحتفظ بالدواجن في أقصى الحظيرة. حيث أبقى الدجاجات في مكانٍ مغلقٍ بعيدًا عن الديوك وعن باقي المبنى. عندما دخل ماكس ونيكول عش الدجاجات حدثَت ضجةٌ شديدة. تدافعت الطيور في جميع الاتجاهات، وهي تصرخ وتضرب بأجنحتها. وكادَت رائحة المكان النتنة تخنق نيكول.

فابتسم ماكس وهو يقول: «أعتقد أنني نسيت كيف تزعج رائحةُ مخلفات الدجاج الآخرين؛ نظرًا لأنني اعتدت عليها تمامًا.» ثم ربَّت على ظهر نيكول بخفَّة. وقال: «على أي حالٍ إنه مستوًى آخر من الحماية لك، ولا أعتقد أنكِ ستستنشقين هذه الرائحة وأنتِ في مخبئك.»

اتجه ماكس نحو ركنٍ في عش الدجاج وهو يهشُّ بعضه بعيدًا عن طريقِه، ثم جثا على ركبتَيه. قال وهو يُزيح جانبًا بعض القش وطعام الدجاج: «عندما ظهرَت للمرة الأولى الآليتان الغريبتان اللتان صنعهما ريتشارد، لم أعرف أين ينبغي أن أبنيَ مخبأك. ثم فكَّرت في هذا المكان.» رفع ماكس لوحَين خشبيَّين ليكشفَ عن حفرةٍ مستطيلة الشكل في أرضية الحظيرة. وقال: «أتمنى من كل قلبي أن أكون قد أحسنت الاختيار.»

أشار إلى نيكول أن تتبعه ثم زحف إلى داخل الحفرة. كان كلاهما يزحف على يدَيه وركبتَيه وسط القاذورات. كان الممر الذي يسير بمحاذاة الأرضية بضعة أمتار، ثم ينحدر إلى الأسفل بزاوية حادة ضيقًا جدًّا. فظلَّت نيكول ترتطم بماكس أمامها وبالحوائط القذرة والسقف من حولها. وكان المصدر الوحيد للضوء هو الكشاف الصغير الذي يحمله ماكس في يده اليمنى. وبعد خمسة عشر مترًا أفضى النفق الصغير إلى غرفة مظلمة. فنزل ماكس بحذرٍ على سلم من الحبال، ثم استدار ليُساعد نيكول على النزول. وبعد لحظاتٍ كانا يقفان في وسط الغرفة، حيث مدَّ ماكس ذراعه إلى أعلى وأشعل المصباح الكهربائي الوحيد.

نظرت نيكول إلى المكان حولها وقال ماكس: «إنه ليس قصرًا، لكنني أعتقد أنه أفضل كثيرًا من زنزانتك.»

كانت الغرفة تحتوي على سرير وكرسي ورفَّين يحملان الكثير من الطعام، وآخر عليه أسطوانات كتب إلكترونية، بالإضافة إلى بعض الملابس المعلَّقة في خزانة مفتوحة، وبعض أدوات التجميل الأساسية، وبرميل كبير من الماء الذي لا بد أنه عبر الممر بالكاد، ومرحاض مربع عميق في ركن بعيد من الغرفة.

سألته نيكول: «هل فعلت كل هذا وحدك؟»

فأجابها: «نعم. فعلته ليلًا … على مدار الأسابيع العديدة الماضية. ولم أجرؤ على طلب المساعدة من أحد.»

تأثَّرت نيكول بما فعله. وقالت: «كيف يمكنني أن أشكرك؟»

فابتسم ماكس ابتسامةً عريضة وقال: «لا تدعي الشرطة تمسك بك. فلا أريد أن أموت مثلما لا تريدين ذلك … تذكرت الآن …»، أضاف ماكس وهو يعطي نيكول جهاز قراءة إلكترونيًّا يمكنها أن تضع فيه أسطوانات الكتب: «أتمنى أن تكون الكتب التي اخترتها لك جيدة. أدرك بالطبع أن كتيبات تربية الخنازير والدجاج ليست مثل روايات والدك، لكنني لم أشأ أن ألفت الانتباه إليَّ بالذهاب إلى متجر بيع الكتب.»

عبرت نيكول الغرفة وطبعت قبلةً على وجنته. ثم قالت له برقة: «ماكس، أنت صديق عزيز للغاية. لا يمكنني أن أتخيل كيف …»

لكن صوت جان دارك التي كانت في جيبها قاطعها: «بزغ الفجر بالخارج الآن. ووفقًا لجدولنا الزمني نحن متأخرون. سيد باكيت، يجب أن نفحص طريق خروجنا قبل أن تتركنا.»

قال ماكس: «تبًّا. ها قد عدت أتلقى الأوامر من كائنتَين آليتَين لا يتعدَّى طول إحداهما طول السيجارة.» وأخرج جان وإليانور من جيب نيكول ووضعهما على الرف العلوي خلف علبة بازلاء. ثم قال: «هل تريان ذلك الباب الصغير؟ هناك أنبوب على الجانب الآخر. إنه يؤدِّي إلى خارج معلف الخنازير بالضبط … لماذا لا تتفحصانه؟»

في الدقيقة أو الدقيقتَين اللتَين استغرقتهما الآليتان في الخروج، شرح ماكس الموقف لنيكول قائلًا: «ستبحث الشرطة عنكِ في كل مكان. ولا سيما هنا؛ لأنهم يعلمون أنني صديق العائلة؛ لذا سأغلق مدخل مخبئك. يجب أن يكون لديكِ كل ما تحتاجينه بكميةٍ تكفيكِ عدة أسابيع.

تستطيع الآليتان المجيء والذهاب كما يحلو لهما» ثم أضاف ضاحكًا: «إلا إذا أكلتهما الخنازير. ستكونان صلتك الوحيدة بالعالم الخارجي. وستُبلغانك عندما يحين وقت الانتقال إلى المرحلة الثانية من خطة الهروب.»

فسألته نيكول: «إذن فلن أراك ثانية؟»

أجابها ماكس: «على الأقل بضعة أسابيع. فهذا أمر في غاية الخطورة … هناك أمر آخر، إذا كانت الشرطة في المبنى فسأقطع عنكِ الكهرباء. ستكون هذه إشارةً لكِ حتى تلتزمي الهدوء التام حينها.»

كانت إليانور الأكويتينية قد عادت ووقفت على الرف بجوار علبة البازلاء. قالت: «إن طريق خروجنا ممتاز. ستغيب جان عدة أيام. وهي تعتزم مغادرة المستوطنة والاتصال بريتشارد.»

فقال ماكس لنيكول: «وأنا أيضًا يجب أن أغادر.» وصمت قليلًا. ثم أردف: «لكن ليس قبل أن أخبرك بشيءٍ واحد يا صديقتي … على الأرجح تعلمين أنني كنت شخصًا متشائمًا طوال حياتي. ولم يترك الكثيرون أثرًا في نفسي. لكنكِ أقنعتني أن البعض قد يكون أرفع مكانة من الدجاج والخنازير.» ابتسم ماكس. ثم استدرك قائلًا: «بالطبع ليس الكثير منا، لكن على الأقل بعضنا.»

ردَّت نيكول: «شكرًا لك يا ماكس.»

اتجه ماكس إلى السلم. ثم استدار ولوح لها مودعًا قبل أن يبدأ في الصعود.

•••

جلست نيكول على الكرسي وأخذت نفسًا عميقًا. أدركت بفطنةٍ من الأصوات القادمة من النفق أن ماكس أغلق المدخل المؤدي إلى مخبئها، بوضع حقائب علف الدجاج الكبيرة فوق الحفرة مباشرة.

تساءلت نيكول: «ماذا سيحدث الآن؟» وأدركت أنها لم تفكر طوال الأيام الخمسة التالية لانتهاء محاكمتها إلا في اقتراب أجلها. فأطلقت لخيالها العنان دون أن تجعل الخوف من الإعدام الوشيك يحدُّ تفكيرها.

فكرت في البداية في زوجها وشريكها ريتشارد الذي افترقت عنه منذ ما يقرب من عامَين. واستعادت التفاصيل الحية لآخر أمسية قضياها معًا، كانت ليلة مروعة مليئة بالقتل والدمار، بدأت بخبرٍ واعد هو زواج ابنتها إيلي من الطبيب روبرت تيرنر. قالت في نفسها وهي تسترجع الذكريات: «كان ريتشارد متأكدًا أنه حُكم علينا بالقتل مثل كينجي وبايوتر. وكان محقًّا على الأرجح … ونظرًا لأنه لاذ بالفرار فقد جعلوا منه العدو، وصرفوا انتباههم عني لبعض الوقت.

ظننت أنك مت يا ريتشارد، كان لا بد أن أتحلَّى بإيمانٍ أقوى … لكن كيف انتهى بك الحال في نيويورك مرةً أخرى؟»

وبينما كانت تجلس على الكرسي الوحيد في الغرفة تحت الأرض، كان قلبها يتحرَّق شوقًا لرفقة زوجها. واجتاح سيلٌ من الذكريات ذهنها. فتذكَّرت كيف كانت في المخبأ الطائر في راما «٢» قبل سنواتٍ طويلة، أسيرة لبعض الوقت في أيدي المخلوق الغريب الذي يُشبه الطيور، والذي كانت لغته ثرثرةً وصراخًا. كان ريتشارد هو من عثر عليها هناك، وخاطر بحياته بالعودة إلى نيويورك ليكتشف إن كانت لا تزال على قيد الحياة. لو لم يعُد ريتشارد لظلَّت نيكول منسيةً على جزيرة نيويورك للأبد.

وقع ريتشارد ونيكول في الحب عندما كانا يُناضلان لاكتشاف طريقةٍ لعبور البحر الأسطواني، والعودة إلى زملائهما رواد الفضاء بسفينة نيوتن الفضائية. شعرَت نيكول بالدهشة والسعادة بسبب ما تبثُّه ذكريات أيام حبهما الأولى فيها من مشاعر قوية. «نجونا من هجوم الصواريخ النووية. واستمرَّت علاقتنا بعد محاولتي العنيدة الخاطئة لإحداث تغيراتٍ جينيةٍ في نسلنا بمعاشرة رجل آخر.»

أجفلت نيكول وهي تتذكر سذاجتها قبل سنوات طويلة، وقالت في نفسها: «سامحتني يا ريتشارد، ومن المؤكد أنه لم يكن أمرًا سهلًا. ثم أصبحنا مقرَّبَين أكثر من قبلُ في «نود» أثناء جلسات وضع التصميم مع الرجل النسر.»

ثم اتخذت أفكارها منحًى آخر وهي تفكر: «تُرى ماذا كان الرجل النسر حقًّا؟ ومن أو ما الذي خلقه؟» وارتسمت في ذهنها صورة حية لذلك الكائن الغريب الوحيد الذي تواصل معهما طوال مدة بقائهما في «نود»، أثناء تجديد سفينة راما الفضائية. أخبرهما ذلك الكائن الغريب — الذي كان له وجهُ نسرٍ وجسدُ رجل — أنه مثالٌ على تطور الذكاء الاصطناعي، وهو مصمم خصوصًا ليكون رفيقًا للبشر. «كانت عيناه رائعتَين وغامضتَين. وكانتا قويتَين مثل عينَي أومه.»

كان جدها الأكبر أومه يرتدي الرداء الأخضر الذي يرتديه كاهن قبيلة سينوفو، عندما جاء لزيارتها في روما قبل أسبوعَين من إطلاق سفينة الفضاء نيوتن. وكانت نيكول قد قابلت أومه مرتَين قبل ذلك في قرية والدتها في ساحل العاج؛ الأولى في احتفال «بورو» عندما كانت نيكول في السابعة من عمرها، والثانية في جنازة والدتها بعد ثلاث سنوات. وفي تلك المقابلات القصيرة، كان الكاهن العجوز قد بدأ يعد نيكول لما أكد لها أنه سيكون حياة استثنائية. كان أومه هو مَن أصرَّ على أن نيكول هي المرأة التي تنبَّأ تاريخ سينوفو أنها ستنثر بذور قبيلتهم «حتى النجوم».

قالت نيكول في نفسها: «أومه والكائن النسر وريتشارد. يا لها من مجموعة مميزة!» ثم لاح لها وجه هنري أمير ويلز وضمَّته إلى ذكرى الرجال الثلاثة، وتذكَّرت للحظةٍ العاطفة القوية التي تميَّزت بها علاقتهما القصيرة في الأيام التي تلت فوزها بالميدالية الذهبية في الألعاب الأوليمبية. واستعادت بحدة ألم الصد. لكنها ذكَّرت نفسها: «لولا هنري لما كانت جنيفياف.»

وعندما كانت نيكول تذكر حبها لابنتها على الأرض، ألقت نظرة عبر الغرفة إلى الرف الذي يحتوي على أسطوانات الكتب الإلكترونية. وفجأةً تشتَّت ذهنها وقطعت الغرفة وصولًا إلى الرف، وبدأت تقرأ العناوين. بالطبع كان ماكس قد ترك لها بعض الكتيبات عن تربية الخنازير والدجاج. لكن لم يكن هذا هو كل شيء. بدا الأمر كما لو أن ماكس أعطى نيكول مكتبته الخاصة بالكامل.

ابتسمَت نيكول وهي تسحب كتابًا عن القصص الخيالية وتضعه في القارئ الإلكتروني. ثم تصفَّحت الكتاب ووقفَت عند قصة «الجمال النائم». أعادت عبارة «وعاشا في سعادةٍ دائمةٍ إلى الأبد» إلى ذهنها ذكرى حية أخرى، هذه المرة وهي طفلة صغيرة ربما في السادسة أو السابعة من عمرها، وهي تجلس في حجر أبيها في منزلهما في الضاحية الفرنسية شيلي مازارا.

فكَّرت: «كم تقت وأنا فتاة صغيرة إلى أن أكون أميرةً وأعيش في سعادةٍ دائمةٍ إلى الأبد. لم أعرف حينها أن حياتي ستجعل القصص الخيالية تبدو أمورًا عادية.»

وضعت نيكول أسطوانة الكتاب على الرف ثانية، وعادَت إلى كرسيها. وفكَّرت وهي تتفحص الغرفة بكسل: «والآن بعد أن اعتقدت أن هذه الحياة التي لا تُصدق انتهت، يبدو أن القدر منحني بضعة أيامٍ أخرى على الأقل.»

عادَت نيكول مرة أخرى تفكِّر في ريتشارد وفي شوقها الشديد لرؤيته. «تشاركنا الكثير والكثير يا عزيزي ريتشارد. أتمنى أن أشعر مرة أخرى بلمستك، وأستمع إلى صوت ضحكتك، وأرى وجهك. لكن إذا لم يحدث هذا، فسأحاول ألَّا أتذمَّر. فحياتي نالت نصيبها من المعجزات.»

٢

وصلت إليانور ويكفيلد تيرنر إلى مبنى الاجتماعات العامة الكبير في سنترال سيتي في السابعة والنصف صباحًا. ومع أن موعد الإعدام كان في الساعة الثامنة صباحًا، فكان هناك ما يقرب من ثلاثين شخصًا يجلسون في مقاعد الصفوف الأمامية، بعضهم يتحدَّث بينما جلست الأغلبية في هدوء. وتجوَّل طاقم تصويرٍ تليفزيوني حول الكرسي الكهربائي على المسرح. بالرغم من التخطيط لبثِّ الإعدام على الهواء مباشرة، فكان رجال الشرطة في قاعة الاجتماعات يتوقَّعون أن يملأ الحضور المكان؛ نظرًا لأن الحكومة كانَت قد شجعت مواطني جنة عدن الجديدة أن يذهبوا ليشهدوا موت حاكمتهم السابقة بأعينهم.

كانت إيلي قد تشاجرَت مع زوجها الليلة السابقة. فعندما أخبرَتْه أنها تعتزم حضور الإعدام قال لها: «وفِّري على نفسك العناء يا إيلي. فرؤية أمك مرة أخيرة لا توازي ألم رؤيتها وهي تموت.»

لكن إيلي كانت تعلم شيئًا لم يكن روبرت يعلمه. وعندما جلست على مقعد في قاعة الاجتماعات، حاولت أن تسيطر على المشاعر القوية التي اجتاحتها. وقالت لنفسها: «لا بد ألَّا يفضحني وجهي، أو أن تعكس حركاتي شيئًا. ولا أقل تعبير. يجب ألَّا يشعر أحدٌ أنني أعرف شيئًا عن الهروب.» اتجه إليها العديد من العيون فجأة وحدَّقت إليها. فشعرت إيلي بقلبها يقفز في صدرها قبل أن تدرك أن أحدهم تعرَّف عليها، وأنه من الطبيعي تمامًا أن تتجه إليها الأنظار وتحدق إليها.

كانت إيلي قد قابلت الآليتَين الصغيرتَين جان دارك وإليانور الأكويتينية، اللتَين صنعهما والدها قبل ستة أسابيع فقط، عندما كانت خارج الموطن الرئيسي في قرية الحجر الصحي أفالون، تُساعد زوجها الطبيب روبرت في العناية بالمرضى الذين أصيبوا بالفيروس القهقري «آر في ٤١». كانت إيلي قد أنهت لتوها زيارة ليلية سعيدة ومشجعة لصديقتها ومعلمتها السابقة إيبونين. وكانت قد غادرت غرفة إيبونين، وتسير في زقاق قذر متوقعة ظهور روبرت في أي لحظة. وفجأةً سمعت صوتَين غريبَين يُناديان عليها. وبحثَت إيلي في المنطقة حولها قبل أن تتمكَّن في النهاية من تحديد مكان الكائنتَين الصغيرتَين على سطح أحد المباني القريبة.

وبعد أن عبرت الزقاق حتى تتمكن من رؤية وسماع الآليتَين بصورةٍ أفضل، أخبرتها جان وإليانور أن والدها ريتشارد لا يزال حيًّا. استغرقت بضع دقائق حتى تُفيق من الصدمة. ثم بدأت تطرح عليهما أسئلتها. وسرعان ما اقتنعت أن جان وإليانور تخبرانها بالحقيقة، غير أنها قبل أن تتحقَّق من السبب وراء إرسال والدها للآليتَين رأت زوجها يقترب. فأخبرتها الآليتان الواقفتان على سطح المنزل على عجالةٍ أنهما ستعودان عما قريب. وحذرتاها أيضًا من أن تخبر أحدًا بوجودهما وإن كان روبرت، على الأقل في ذلك الوقت.

شعرت إيلي بسعادةٍ غامرةٍ أن والدها لا يزال حيًّا. وكان من المستحيل تقريبًا أن تُبقي الخبر سرًّا، مع أنها كانت تعي جيدًا الأهمية السياسية لتلك المعلومة. وعندما قابلت إيلي الآليتَين الصغيرتَين مرة أخرى في أفالون بعد أسبوعَين تقريبًا، كانت جاهزةً بسيلٍ من الأسئلة. لكن جان وإليانور كانتا مبرمجتَين تلك المرة لمناقشة موضوعٍ آخر؛ هو محاولة مستقبلية محتملة لمساعدة نيكول على الهروب من السجن. أبلغت الآليتان إيلي في اللقاء الثاني أن ريتشارد كان يدرك جيدًا أن محاولة الهروب محفوفةٌ بالمخاطر. وقالت جان: «لم نكن سننفذ هذه المحاولة قطُّ، ما لم يكن إعدام والدتكِ أمرًا مؤكدًا. لكن إذا لم نكن مستعداتٍ مسبقًا، فلن تنجح فكرة الهروب في اللحظة الأخيرة.»

فسألتهما إيلي: «ماذا يمكنني أن أفعل للمساعدة؟»

فمنحتاها ورقة تضم قائمة بأشياء لازمة مثل طعام وماء وملابس. وارتجفت إيلي عندما تعرَّفت خطَّ والدها.

قالت لها الآلية إليانور وهي تمنحها خريطة: «خبِّئي تلك الأشياء في المكان المشار إليه. في موعدٍ أقصاه عشرة أيامٍ من الآن.» وبعد دقيقةٍ ظهر شخصٌ آخر من سكان المستعمرة، فاختفت الآليتان.

وجدت إيلي رسالةً قصيرةً من والدها مرفقة بالخريطة. يقول فيها: «عزيزتي إيلي، أعتذر عن اقتضاب الرسالة. أنا بخير وأمان، لكنني قلق بشدة على والدتك. أرجوكِ أن تجمعي هذه الأشياء وتأخذيها إلى المكان المشار إليه في السهل الرئيسي. إذا لم تتمكني من تنفيذ المهمة بنفسك، فرجاء لا تستعيني بأكثر من شخصٍ واحد. واحرصي على أن يكون مَن تختارين وفيًّا ومخلصًا لنيكول مثلنا. أحبك.»

قرَّرت إيلي على الفور أنها تحتاج إلى مساعدة، لكن من ستختار ليكون شريكها؟ لم يكن زوجها روبرت خيارًا جيدًا لسببَين. أولًا أظهر أن إخلاصه لمرضاه ولمستشفى جنة عدن الجديدة أكبر أولوية عنده من تبني موقف سياسي. وثانيًا إن أي شخصٍ سيُقبض عليه وهو يساعد نيكول على الهرب سيُعدم بلا شك. ومن ثَم إذا ورطت إيلي روبرت معها في خطة الهروب فقد ينتهي الحال بابنتهما نيكول بلا والدَين.

ماذا عن ناي واتانابي؟ فهي بلا شكٍّ شديدة الإخلاص لهم، لكنها امرأة تربي وحدها ابنَيها التوءمَين البالغَين أربعة أعوام. وليس من العدل طلبُ مثل هذه المخاطرة منها. وهذا يعني أن إيبونين هي الخيار الوحيد المعقول. وسرعان ما تبدَّدت كل المخاوف التي كان يمكن أن تساور إيلي حول صديقتها البائسة. فقد أجابتها على الفور: «بالطبع سأساعدك، فليس لديَّ ما أخسره. طبقًا لما يقوله زوجكِ فإن فيروس «آر في ٤١» سيقتلني في غضون عامٍ أو اثنَين على أي حال.»

جمعت إيبونين وإيلي سرًّا كل الأغراض المطلوبة شيئًا تلو الآخر على مدار أسبوع. وربطتاها جيدًا في ملاءةٍ صغيرةٍ مخبأةٍ في ركنٍ من أركان غرفة إيبونين في أفالون التي يعوزها النظام دائمًا. وفي اليوم المحدد خرجت إيلي من جنة عدن الجديدة واتجهت إلى أفالون، بزعم «مراقبة» البيانات الحيوية لإيبونين بدقةٍ لمدة اثنتَي عشرة ساعة. في الواقع كان تبرير رغبتها في قضاء الليل مع إيبونين لروبرت أصعبَ بكثيرٍ من إقناع الحارس البشري الوحيد والآلي جارسيا، الواقفَين على مخرج الموطن بشرعية احتياجها لجواز مرور تلك الليلة.

بعد منتصف الليل مباشرة، كانت إيلي وإيبونين قد أخذتا الملاءة وتسلَّلتا بحذرٍ إلى شوارع أفالون. وحرصًا منهما على تجنُّب الكائنات الآلية الصغيرة التي تستخدمها شرطة ناكامورا، لتطوف القرية الخارجية الصغيرة في دورياتٍ ليلية، تسلَّلت السيدتان عَبْر ضواحي المدينة إلى السهل الرئيسي. ثم سارتا لعدَّة كيلومتراتٍ وخبأتا الأغراض في المكان المحدَّد. ولدى عودتهما وهما خارج غرفة إيبونين واجههما آلي تياسو، وسألهما عن سبب تجوُّلهما بالخارج في ذاك الوقت.

فأجابَته إيلي بسرعةٍ بعد أن شعرت بالرعب الذي سيطر على صديقتها: «هذه السيدة تعاني من فيروس «آر في ٤١». وهي إحدى مريضات زوجي. كانت تعاني آلامًا شديدة ولم تستطع النوم، ففكرنا أن السير في الصباح الباكر قد يساعدها … والآن هلَّا تعذرنا …»

تركهما آلي تياسو تعبران. وكان الرعب يسيطر عليهما لدرجة أنهما لم تتحدثا لمدَّة عشر دقائق.

لم ترَ إيلي الآليتَين مرة أخرى. ولم يكن لديها أدنى فكرة إن كانت محاولة الهروب قد نُفذت بالفعل أم لا. ومع اقتراب موعد إعدام والدتها وامتلاء المقاعد حولها في مبنى الاجتماعات، أخذ قلبها يخفق بقوة. «ماذا لو أن شيئًا لم يحدث؟ ماذا لو أن أمي ستموت حقًّا بعد عشرين دقيقة؟»

ألقَت إيلي نظرةً على المسرح. ورأت كومةً من إلكترونياتٍ معدنيةٍ رمادية اللون تقف بارتفاع مترَين إلى جانب الكرسي الضخم. باستثناء ذلك لم يوجد على المسرح سوى ساعةٍ رقميةٍ تُشير إلى الساعة ٠٧:٤٢. حدَّقت إيلي في الكرسي، ورأت أعلاه غطاء رأسٍ متدلِّيًا يوضع فوق رأس الضحية. شعرت بقشعريرة تسري في جسدها وقاومت الشعور بالغثيان. «يا له من أمرٍ بربري! كيف يمكن لأي جنسٍ يعتبر نفسه متطورًا أن يسمح بحدوث أمرٍ بهذه البشاعة؟»

كانت إيلي لا تزال تحاول أن تمحو صورة الإعدام من ذهنها، عندما شعرت بنقرةٍ خفيفةٍ على كتفها. استدارَت لترى رجل شرطة ضخم الجثة مقطبًا جبينه يقف في الممر منحنيًا في اتجاهها. سألها: «هل أنت إليانور ويكفيلد تيرنر؟»

شعرت إيلي برعبٍ شديدٍ لدرجة أنها لم تستطع الإجابة. فاكتفَت بالإيماء برأسها. فقال لها: «هلَّا تأتين معي من فضلك؟ أريد أن أطرح عليكِ بضعة أسئلة.»

مرَّت إيلي وساقاها ترتعشان أمام ثلاثة أشخاص يجلسون في نفس الصف، ودخلت الممر. كانت تقول في نفسها: «لا بد أن شيئًا ما لم يَسِر على ما يرام. أخفقَت محاولة الهروب. ووجدوا الأغراض المخبَّأة وأدركوا بوسيلةٍ ما أنني متورطةٌ في الأمر.»

اصطحبها رجل الشرطة إلى غرفة اجتماعات صغيرة في جانب المبنى. وقال لها: «سيدة تيرنر، أنا النقيب فرانتس باور. ومهمتي هي التخلُّص من جسد والدتكِ بعد تنفيذ حكم الإعدام. رتَّبنا بالطبع لعملية الإحراق التقليدية مع الحانوتي، لكن …»، وصمت النقيب باور كمن يتخيَّر كلماته بعناية، ثم استأنف قائلًا: «نظرًا للخدمات السابقة التي قدمتها والدتك للمستعمرة فكرت أنكِ قد تودين أنت أو أي فرد من العائلة أن تباشروا الإجراءات الأخيرة.»

أجابَته إيلي بصوتٍ واهن بعد أن شعرت بارتياح: «بالطبع أيها النقيب باور.» وأضافَت بسرعة: «بالتأكيد، شكرًا جزيلًا لك.»

فقال رجل الشرطة: «هذا كل شيءٍ يا سيدة تيرنر. يمكنكِ الآن العودة إلى مقعدك.»

وقفت إيلي واكتشفت أنها لا تزال ترتجف، فوضعت إحدى يدَيها على المنضدة في منتصف الغرفة. وقالت للنقيب باور: «سيدي!»

فأجابها: «ما الأمر؟»

فسألته: «هل يمكنني أن أرى والدتي بمفردنا للحظةٍ واحدةٍ قبل …؟»

تفحص ضابط الشرطة إيلي بنظرةٍ طويلة. ثم قال: «لا أعتقد هذا، لكنني سأطلب ذلك نيابةً عنك.»

«شكرًا جز …»

قاطع رنين الهاتف عبارة إيلي. فتلكَّأت في الخروج من غرفة الاجتماعات لترى الصدمة المرتسمة على وجه النقيب باور. وسمعَتْه يقول وهي تُغادر الغرفة: «هل أنت واثقٌ من ذلك؟»

•••

بدأ الحشد يضطرب. أشارت الساعة الرقمية على المسرح إلى ٠٨:٣٦. وقال الرجل الجالس خلف إيلي متذمرًا: «هيا. دعونا ننتهِ من الأمر.»

قالت إيلي في نفسها مبتهجة: «لقد هربت أمي. أنا متيقنة من ذلك.» أرغمت نفسها على البقاء هادئة، وألقت نظرةً سريعةً على الجموع المضطربة. «هذا هو سبب الاضطراب الذي يسود الوضع هنا.»

كان النقيب باور قد أخبر الجميع بعد أن تجاوزَت الساعة الثامنة بخمس دقائق أن «الحدث» سيتأجَّل «لدقائق»، لكن لم تصدر أيُّ تصريحاتٍ إضافيةٍ أثناء النصف الساعة التالية. وسرَت شائعةٌ غريبةٌ في الصفوف أمام إيلي مفادها أن الكائنات الفضائيةَ أنقذَت نيكول من زنزانتها.

كان بعض الأشخاص قد بدءوا يغادرون بالفعل، عندما صعد الحاكم ماكميلان على المسرح. كان يبدو منزعجًا وغاضبًا، لكنه سرعان ما رسم على وجهه ابتسامته الرسمية العريضة وهو يخاطب الجموع.

قال: «أيتها السيدات والسادة، تأجَّلت عملية إعدام نيكول دي جاردان ويكفيلد. إذ اكتشفت الحكومة بعض المخالفات البسيطة في أوراق قضيتها — وهو أمرٌ غير مهمٍّ في الواقع — لكننا شعرنا أنه يجب التعامل مع هذه المخالفات أولًا، حتى لا تكون هناك شكوكٌ حول شرعية الأمر. وسيعاد تحديد موعد الإعدام قريبًا. وسيتم إعلام جميع سكان جنة عدن الجديدة بالتفاصيل.»

ظلَّت إيلي جالسةً في مقعدها، حتى أصبحت قاعة الاجتماعات فارغةً تقريبًا، إذ خشيت أن تعتقلها الشرطة إن حاولت أن تغادر، لكن لم يوقفها أحد. وفور أن خرجَت كان من الصعب عليها أن تكتم صرخة سعادة. قالَت في نفسها والدموع تترقرق في عينَيها: «أمي، كم أنا سعيدة لأجلك!».

لكنها اكتشفت فجأةً أن عددًا من الأشخاص ينظر إليها. فقالت في نفسها: «سأكشف نفسي.» ثم بادلتهم النظرات بابتسامة مهذبة. وقالت في نفسها: «الآن ستواجهين أكبر تحدٍّ لكِ يا إيلي، لا يمكنكِ أيًّا كانت الظروف أن تتصرَّفي كما لو أنكِ توقَّعت ذلك.»

•••

كالعادة وقف روبرت وإيلي ونيكول الصغيرة في أفالون؛ لزيارة ناي واتانابي وولدَيها التوءمَين بعد أن انتهَوا من زياراتهم الأسبوعية للمرضى السبعة والسبعين الباقين من المصابين بفيروس «آر في ٤١». كان ذلك قبل وقت العشاء مباشرة. وكان كلٌّ من جاليليو وكيبلر يلعبان في الشارع القذر أمام المنزل المتهالك. وعندما وصلت عائلة تيرنر كان الصبيان يتشاحنان.

قال جاليليو ذو السنوات الأربع بغضب: «حدث.»

فأجابه كيبلر بانفعال أقل بكثير: «لا، لم يحدث.»

فانحنت إيلي بجوار التوءمَين. وقالت بنبرةٍ ودودة: «يا ولدَيَّ. علامَ تتشاجران؟»

فأجاب كيبلر بابتسامةٍ خجولة: «أهلًا يا سيدة تيرنر. لا شيء مهم. كنت أنا وجاليليو …»

فقاطعه جاليليو بحدة: «أنا أقول إن الحاكمة ويكفيلد ماتت. إذ أخبرني بذلك أحد الأولاد في المركز، وهو يعرف الحقيقة بالتأكيد. فوالده ضابط شرطة.»

للحظةٍ ذهلت إيلي. ثم أدركَت أن التوءمَين لم يربطا بينها هي ونيكول. فقالت برفق: «هل تذكران أن الحاكمة ويكفيلد هي والدتي وجدَّة نيكول الصغيرة؟ ألم تقابلها أنت وكيبلر عدة مرات قبل أن تدخل السجن؟»

قطب جاليليو جبينه ثم هز رأسه.

وقال كيبلر بجدية: «أعتقد أنني أتذكرها …» ثم أضاف الطفل البريء بعد لحظات من الصمت: «هل ماتت يا سيدة تيرنر؟»

فأجابَته إيلي: «لا نعرف بالضبط، لكننا نتمنى ألَّا تكون كذلك.» كانت على وَشْك ارتكاب خطأ. إذ كان من السهل إخبارُ هذَين الطفلَين بالحقيقة. لكن الأمر لا يحتمل خطأ واحدًا. فعلى الأرجح كان هناك آليٌّ على مدى السمع.

وحينما رفعت إيلي كيبلر واحتضنَته، تذكَّرَت أنها قابلت ماكس باكيت مصادفةً في متجر الإلكترونيات قبل ثلاثة أيام، وفي منتصف نقاشهما العادي قال ماكس فجأة: «جان وإليانور بخير وطلبتا مني أن أبلغكِ تحياتهما.»

ودون التفكير طرحت إيلي على ماكس سؤالًا آخر يتعلق بالآليتَين الصغيرتَين. لكنه تجاهله تمامًا. وبعد ثوانٍ قليلةٍ لاحظَت إيلي وهي على وَشْك أن تُعيد سؤالها أن الآلي جارسيا المسئول عن المتجر اقترب منهما، وكان على الأرجح ينصت إلى محادثتهما.

صاحَت ناي الواقفة على باب منزلها: «مرحبًا يا إيلي. مرحبًا يا روبرت.» ومدَّت ذراعَيها لتأخذ نيكول من والدها. وقالت لها: «كيف حالكِ يا صغيرتي الجميلة؟ لم أرَكِ منذ حفل عيد ميلادك الأسبوع الماضي.»

دخل الكبار إلى المنزل. وبعد أن تفقَّدت ناي المكان لتتأكَّد أنه لا يوجد أيُّ آليين جواسيس في المنطقة اقتربَت من إيلي وروبرت. وهمست لصديقَيها: «حقَّقَت الشرطة معي مرة أخرى ليلة أمس، بدأت أعتقد أن الإشاعة تحمل شيئًا من الحقيقة.»

قالت إيلي: «أي إشاعة؟ فهناك الكثير من الإشاعات.»

أجابتها ناي: «يعمل شقيق إحدى النساء اللائي يعملْنَ في مصنعنا في مخابرات ناكامورا. وأخبرها ذات ليلة بعد أن أسرف في الشراب أنه حين دخلَت الشرطة زنزانة نيكول صباح يوم تنفيذ حكم الإعدام، كانت الزنزانة خاوية. كان قد أخرجها آلي جارسيا. ويظنُّون أنه نفس الآلي الذي دُمِّر في الانفجار خارج مصنع الذخيرة.»

ابتسمَت إيلي، لكن عينَيها لم تبُح بشيءٍ ردًّا على النظرة المحدقة المتسائلة في عينَي صديقتها. قالت في نفسها: «هي بالأخص لا يمكنني أن أخبرها.»

قالَت بنبرةٍ موضوعية: «حقَّقت الشرطة معي أنا أيضًا عدة مرات يا ناي. وطبقًا لما يقولون فإن الهدف من جميع الأسئلة هو التخلص مما أسمَوْه «مخالفات» في قضية والدتي. وزارَت الشرطة كيتي أيضًا. إذ مرَّت عليَّ بصورةٍ غير متوقعةٍ الأسبوع الماضي، وقالت إن تأجيل إعدام أمي أمرٌ غريب بلا شك.»

قالَت ناي بعد صمتٍ دام لوقتٍ قصير: «شقيق صديقتي يقول إن ناكامورا يشكُّ في وجود مؤامرة.»

فأجابها روبرت بسخرية: «هذا مضحك. لا توجد أي معارضة فعلية للحكومة في أي مكان في المستعمرة.»

اقتربت ناي أكثر من إيلي. وهمست لها: «ماذا يحدث حقًّا في رأيك؟ هل تعتقدين أن والدتك هربت بالفعل؟ أم إن ناكامورا عدل عن رأيه وأعدمها سرًّا كي لا تتحوَّل إلى شهيدةٍ وطنية؟»

نظرت إيلي أولًا إلى زوجها ثم إلى صديقتها. كان صوت يردد داخل رأسها: «أخبريهما، أخبريهما.» لكنها أرغمت نفسها على الإجابة قائلة: «ليس لديَّ أدنى فكرة. فكَّرت بالطبع في كل الاحتمالات التي ذكرتها. بالإضافة إلى بعض الاحتمالات الأخرى. لكن كيف لنا أن نعرف … ومع أنني لست الشخصية المتدينة التقليدية كما تعرفين، فقد ظللت أدعو بطريقتي الخاصة أن تكون أمي على ما يرام.»

٣

انتهت نيكول من تناول علبة المشمش المجفَّف، واجتازت الغرفة كي تلقيَ بالعبوة الفارغة في سلة القمامة. كانت السلة ممتلئةً تقريبًا. فحاولَت أن تضغط عليها بقدمها كي تقلل من حجم القمامة، لكن ارتفاعها لم يختلف كثيرًا.

ففكرت في نفسها: «إن الوقت ينفد مني»، وبصورةٍ تلقائية ألقَت نظرةً على الطعام المتبقِّي على الرف. «يمكنني الصمود ربما لخمسة أيامٍ أخرى. بعدها يجب أن أحصل على مخزون جديد.»

كانت كلٌّ من جان وإليانور قد غادرتا قبل ثمانٍ وأربعين ساعة. في أول أسبوعَين قضتهما نيكول في الغرفة أسفل حظيرة ماكس باكيت، كانت إحداهما تُقيم معها باستمرار. وكان الحديث معهما أشبه بالتحدُّث إلى زوجها ريتشارد، على الأقل في البداية قبل أن تستنفد نيكول جميع الموضوعات التي خُزِّنت في ذاكرتَي الصغيرتَين.

فكَّرت نيكول وهي تجلس على المقعد: «هاتان الآليتان هما أعظم إبداعاته. لا بد أنه قضى شهورًا لابتكارهما.» وتذكَّرت الآليين الآخرين الذين حاكوا شخصياتٍ من مسرحيات شكسبير، والذين صنعهم ريتشارد عندما كانا على متن نيوتن. «جان وإليانور أكثر تطورًا من الأمير هال وفولستاف. لا بد أن ريتشارد تعلَّم الكثير عن هندسة الكائنات الآلية البشرية في جنة عدن الجديدة.»

كانت جان وإليانور تُبقيان نيكول على اطلاع بالأحداث المهمة التي تقع في الموطن. وكانت تلك مهمة سهلة عليهما. إذ كان جزء من تعليمات برمجتهما يقتضي المراقبة وإبلاغ التقارير لريتشارد عبر اللاسلكي، عند خروجهما الدوري من عدن الجديدة؛ ومن ثم كانا يمرِّران المعلومات نفسها لنيكول. علمت، على سبيل المثال، أن قوات الشرطة الخاصة في حكومة ناكامورا فتشت كل مبنًى في المستوطنة في أول أسبوعَين بعد هروبها، بحجة البحث عن أي شخصٍ يجمع موارد مهمة. وبالطبع جاءوا أيضًا إلى مزرعة باكيت، وظلَّت نيكول لمدة أربع ساعات جالسةً في صمت تام في الظلام الدامس في مخبئها. كانت قد سمعَت بعض الضوضاء فوقها، لكن مُجري عملية التفتيش لم يقضِ وقتًا طويلًا في الحظيرة.

بعد ذلك كان من الضروري لكلٍّ من جان وإليانور أن تبقيا خارج المخبأ في الوقت نفسه. وأخبرتاها أنهما منشغلتان بالتنسيق للمرحلة التالية من عملية هروبها. في إحدى المرات سألت نيكول الآليتَين: «كيف تتمكنان بسهولة من عبور نقاط التفتيش في مدخل عدن الجديدة؟» قالت لها جان: «الأمر في غاية البساطة. تمرُّ شاحنات البضائع عبر البوابة عشرات المرات يوميًّا، ومعظمها يحمل مواد من وإلى القوات وموظفي التشييد في الموطن الآخر، وبعضها يخرج إلى أفالون. ومن المستحيل أن يلاحظنا أحدٌ وسط الشحنات الضخمة.»

أخبرت جان وإليانور نيكول بأخبار المستعمرة منذ أن زُج بها في السجن. فأصبحت نيكول تعرف أن البشر غزوا موطن المخلوقات الطائرة واللاسويقية وأبادوا ساكنيهما. لم يهدر ريتشارد مساحة من ذاكرة الآليتين أو وقته بإمداد جان وإليانور بتفاصيل كثيرة حول المخلوقات الطائرة واللاسويقية، لكن نيكول عرفت أن ريتشارد نجح في الهروب إلى نيويورك ببيضتَين من بيض المخلوقات الطائرة، وأربعةٍ من بطيخ المنِّ الذي يحتوي على أجنة من الفصيلة اللاسويقية الغريبة، وشريحة حيوية من أحد المواطنين اللاسويقيين البالغين.

علمت نيكول أيضًا أن الفرخَين الطائرَين خرجا إلى العالم قبل بضعة أشهر، وأن ريتشارد منشغلٌ للغاية بتلبية احتياجاتهما.

كان من الصعب على نيكول أن تتخيل زوجها ريتشارد يقوم بدور الأم والأب لمخلوقَين فضائيَّين. وتذكرت حينما كان أولادهما صغارًا أن ريتشارد لم يُبد اهتمامًا بتربيتهما، وكان معظم الوقت لا يبالي بالاحتياجات العاطفية للأطفال. كان بالطبع رائعًا في تعليمهم الحقائق، خاصة المفاهيم المجردة في مجالَي الرياضيات والعلوم. لكن نيكول ومايكل أوتول اتفقا عدة مرات أثناء رحلتهما على متن راما «٢»، على أن ريتشارد لا يبدو قادرًا على التعامل مع الأطفال بما يناسب مستواهم.

قالت نيكول لنفسها وهي تتذكر حواراتها مع ريتشارد عن والده الذي كان يسيء معاملته: «كانت طفولته مؤلمة للغاية. لا بد أنه نشأ بلا قدرة على حب الآخرين أو الثقة بهم … فجميع أصدقائه كانوا إمَّا أوهامًا وإما آليين صنعهم بنفسه …» وتوقَّفت للحظةٍ ثم عادت تفكر: «لكنه تغيَّر دون شكٍّ في السنوات التي قضيناها في عدن الجديدة … ولم تتح لي الفرصة قطُّ لأخبره كم أنا فخورة به. لهذا أردت أن أترك الخطاب الخاص …»

وفجأةً انطفأ النور الوحيد في غرفة نيكول، وأحاط بها ظلام دامس. فجلسَت بهدوء على مقعدها وأخذت تنصت علَّها تسمع أي صوت. ومع أنها عرفت أن الشرطة في المبنى مرة أخرى، فإنها لم تتمكَّن من سماع شيء. ومع ازدياد خوفها بدأت تدرك أهمية جان وإليانور في حياتها. ففي أول زيارة للشرطة الخاصة لمزرعة باكيت، كانت الآليتان الصغيرتان معها لطمأنتها.

مر الوقت ببطء شديد. كانت نيكول تسمع صوت خفقات قلبها. وبعد أن مضى ما بدا لنيكول دهرًا كاملًا سمعت ضجيجًا فوقها. كأن هناك عددًا كبيرًا من الأشخاص في الحظيرة. فأخذت نفسًا عميقًا وحاولت أن تهدئ روعها. وبعد ثوانٍ قليلةٍ شعرَت بفزعٍ شديدٍ عندما سمعت صوتًا خافتًا يلقي قصيدة شعر بجوارها.

اجتحني الآن يا صديقي القاسي،
واجعلني أرتعد في الظلام.
ذكرني بأنني وحدي تمامًا
واترك آثارك على وجهي.
ليتني أعرف كيف تأسرني،
في حين تقاومك كل أفكاري؟
تُرى أهو الوحش القابع في عقلي
الذي يفسح المجال لإرهابك باستمرار؟

•••

خوف لا أساس له يحطمنا جميعًا
مع أننا ننشد أهدافًا سامية.
نحن فرسان المستقبل لا نموت،
لكن الخوف يشل أرواحنا.
ويخرس ألسنتنا عندما نحب،
بأن يذكرنا بما قد نفقد.
وإذا قابلنا النجاح مصادفة،
يدلنا الخوف على آمَنِ طريقٍ نسلكه مبتعدين.

أدركت نيكول في النهاية أن ذلك الصوت هو صوت الآلية جان، وأنها كانت تلقي مقطعَين شهيرَين من قصيدة الشاعرة بينيتا جارسيا عن الخوف، التي كتبتها بعد أن انغمست في السياسة بسبب الفقر والعوز اللذَين شاعا وقت الفوضى الكبرى. هدَّأ صوت الآلية الودود وأبيات الشعر المألوفة من روع نيكول قليلًا. وظلَّت تستمع بهدوء أكثر لبعض الوقت مع أن الضوضاء بالأعلى كانت تتزايد بشدة.

عندما سمعت نيكول صوت نقل حقائب علف الدجاج الكبيرة الموضوعة فوق مدخل مخبئها، تجدَّد خوفها. وقالت لنفسها: «قُضي الأمر، سيلقون القبض عليَّ.»

وتساءلت نيكول إذا كانت قوات الشرطة الخاصة ستقتلها فور أن تجدها. ثم سمعت صوت دقٍّ معدنيٍّ عالٍ في نهاية الممر المؤدي إلى غرفتها، ولم تحتمل البقاء جالسة. حالما هبَّت من مكانها، شعرَت بوخزتَين حادتَين في صدرها وشعرَت أنها تتنفس بصعوبة. وتساءلت: «ماذا حل بي؟» بينما بدأت جان تحدِّثها من جانبها.

قالت الآلية: «بعد التفتيش الأول، خشي ماكس أن يكون قد أساء تمويه مدخل المخبأ جيدًا. فأضاف وأنت نائمةٌ ذات ليلةٍ نظام صرف كاملًا لبيت الدجاج في أعلى الحفرة، وجعل أنابيب الصرف تمر فوق المخبأ مباشرة. وهذا القرع الذي سمعته يعني أن أحدًا كان يقرع الأنابيب.»

حبست نيكول أنفاسها، بينما كان هناك حديث مكتوم يدور على السطح فوقها. وبعد دقيقةٍ سمعت مرة أخرى حركة نقل حقائب علف الدجاج. وقالت في نفسها بعد أن هدأت إلى حد ما: «ماكس العجوز الرائع.» هدأ الألم في صدرها، وبعد عدة دقائق اختفت الضوضاء بالأعلى تمامًا. تنهدت نيكول وجلست على الكرسي. لكنها لم تستطع النوم إلا بعد أن عاد الضوء.

•••

عندما استيقظت نيكول، كانت الآلية إليانور قد عادت، وشرحت لنيكول أن ماكس سيبدأ في إزالة نظام الصرف في الساعات القليلة التالية، وأن نيكول ستغادر مخبأها أخيرًا. اندهشت نيكول بعد أن زحفت عبر النفق، عندما وجدت إيبونين تقف بجوار ماكس.

تعانقت السيدتان، وقالت إيبونين لنيكول: «كيف حالك؟ لم أرَكِ منذ مدةٍ طويلة جدًّا؟»

«لكن لماذا أنت هنا يا صديقتي؟ اعتقدت …»

فقاطعها ماكس قائلًا: «حسنًا. سيكون لديكما الكثير من الوقت لتتبادلا الأخبار فيما بعد. أما الآن فيجب أن نسرع، فنحن متأخرون بالفعل لأنني استغرقت الكثير من الوقت في فكِّ نظام الصرف اللعين … اصطحبي نيكول إلى الداخل يا إيبونين وساعديها على ارتداء ملابسها. ويمكنك شرح الخطة وهي ترتدي ملابسها … أنا بحاجةٍ لأن أستحمَّ وأحلق ذقني.»

أثناء سير السيدتَين في الظلام من الحظيرة إلى منزل ماكس، أبلغت إيبونين نيكول أن كل شيءٍ معدٌّ لهروبها من الموطن. قالت: «في الأيام الأربعة الماضية، خبأ ماكس كل قطع معدات الغطس في أماكن مختلفة حول شاطئ بحيرة شكسبير. ولديه مجموعة كاملة أخرى في مخزن في بوفوا، تحسبًا لاحتمالية نقل أحدهم القناع أو أسطوانات الهواء من المكان الذي خبأها فيه. وعندما سنكون أنا وأنت في الحفل، سيتأكد ماكس أن كل شيء على ما يرام.»

«أي حفل؟» سألت نيكول وهي متحيرة.

فضحكت إيبونين وهما تدخلان المنزل وقالت: «بالطبع، نسيت أنكِ بقيت معزولة مدة. اليوم هو ثلاثاء المرفع الذي يسبق الصوم. وسيقام حفل كبير في بوفوا وآخر في بوزيتانو. وسيكون الجميع تقريبًا بالخارج اليوم. فقد ظلت الحكومة تشجع الجميع على حضور الحفل، على الأرجح لصرف أذهانهم عن المشكلات الأخرى في المستعمرة.»

نظرت نيكول باستغرابٍ إلى صديقتها، فضحكت إيبونين مرة أخرى. وقالت: «ألا تُدركين معنى ذلك؟ كانت أكبر مشكلة تواجهنا هي إيجاد طريقةٍ لاصطحابكِ من المستعمرة إلى بحيرة شكسبير دون أن يراكِ أحد. فجميع سكان عدن الجديدة يعرفون وجهك. ريتشارد نفسه رأى أن هذه هي الفرصة الوحيدة المواتية. فأنت سترتدين ملابس تنكرية وقناعًا …»

فسألتها نيكول بعد أن بدأت تستوعب على الأقل الإطار العام للخطة: «هل تحدثت إلى ريتشارد؟»

فأجابتها إيبونين: «ليس مباشرة. لكن ماكس تواصل معه عبر الآليتَين الصغيرتين. وكان ريتشارد هو صاحب فكرة تثبيت نظام الصرف الذي ضلَّل الشرطة في زيارتها الأخيرة للمزرعة؛ لأنه كان قلقًا من أن يعثروا عليك …»

بينما كانت إيبونين تتحدث، قالت نيكول في نفسها: «شكرًا لك مجددًا يا ريتشارد. أنا أدين لك بحياتي ثلاث مرات حتى الآن تقريبًا.»

دخلت السيدتان إلى غرفة النوم، حيث وجدتا رداءً أبيض رائعًا على الفراش. قالت إيبونين: «ستحضرين الحفل بزي ملكة إنجلترا. ظللت أعمل على ردائك طوال الأسبوع دون توقف. وبعد ارتداء هذا القناع الكامل والقفازَين الأبيضَين وغطاء الساق، لن يظهر أيُّ جزءٍ من شعرك أو جسدك. ولا داعي لأن تبقي في الحفل أكثر من ساعة، أو أن تتحدثي كثيرًا مع أي شخص، لكن إذا سألكِ أحدٌ عن هُويتك فقولي إنك إيلي. فهي ستبقى الليلة في منزلها مع حفيدتك.»

سألتها نيكول بعد ثوانٍ: «هل تعلم إيلي أنني هربت؟» كان صدرها يجيش شوقًا لرؤية ابنتها ونيكول الصغيرة التي لم ترها قط.

فأجابتها إيبونين: «على الأرجح. على الأقل عرفت أن هناك محاولةً لتهريبك … كانت إيلي هي من أشركتني من البداية في خطة هروبك. إذ قمت أنا وهي بتخبئة مؤنك في السهل الرئيسي.»

«إذن فأنت لم تريها منذ أن هربت من السجن؟»

«بل رأيتها. لكننا لم نقُل شيئًا. لا بد أن تتوخَّى إيلي الحرص شديد حاليًّا. فناكامورا يراقبها كالصقر …»

سألتها نيكول وهي تحمل الرداء لترى كيف سيبدو عليها: «هل اشترك شخصٌ آخر في الأمر؟»

فأجابتها إيبونين: «كلا. لا أحد غيري أنا وماكس وإيلي … وبالطبع ريتشارد والآليتان الصغيرتان.»

•••

وقفت نيكول أمام المرآة لعدة ثوانٍ، وقالَت في نفسها: «ها أنا ذي، سأصبح ملكة إنجلترا أخيرًا. على الأقل لمدة ساعةٍ أو اثنتَين.» كانت واثقة أن ريتشارد أيضًا هو صاحب فكرة ارتداء هذا الزي بالتحديد. «فلا يوجد شخصٌ آخر بإمكانِه أن يحسن الاختيار إلى هذا الحد.» ثبتت نيكول التاج على رأسها، وفكرت: «وبهذا الوجه الأبيض كان هنري نفسه سيجعلني الملكة.»

كانت نيكول غارقة في ذكرى حدثت قبل سنوات طويلة عندما خرج ماكس وإيبونين من غرفة النوم. وما إن رأتهما نيكول حتى بدأت تضحك. كان ماكس يرتدي رداءً قصيرًا أخضر اللون، ويحمل في يده رمحًا ثلاثي الشعب. كان متنكرًا في زي نبتون ملك البحار، وتنكرت إيبونين في زي أميرته الحورية المثيرة.

قالت الملكة نيكول وهي تغمز لإيبونين: «تبدوان أنتما الاثنان رائعين!» وأضافت بعد برهة بنبرة تعمد إلى إثارة غيظ ماكس: «هذا رائع يا ماكس، لم أعلم أن جسمك بديع هكذا.»

تذمر ماكس قائلًا: «هذا غير صحيح. فلديَّ شعر كثيف في كل مكان؛ شعر يغطي صدري بالكامل وأسفل ظهري وداخل أذني و…»

قاطعته إيبونين وهي تربت على رأسه بعد أن خلعت عنه التاج: «غير أنه خفيف هنا.»

قال ماكس: «تبًّا، عرفت الآن لماذا لم أنجح قط مع السيدات … هيا بنا، دعونا نتحرك. علمت أن الطقس غريب الليلة أيضًا. وستحتاجان إلى شال أو سترة أثناء ركوبنا في العربة المكشوفة.»

قالت نيكول وهي تنظر إلى إيبونين: «العربة المكشوفة؟»

فابتسمت صديقتها. وقالت: «سترين بعد دقيقة واحدة.»

•••

عندما صادرت حكومة عدن الجديدة جميع القطارات؛ لتحويل خليط المعادن الفضائية الخفيفة الوزن إلى طائراتٍ حربية وأسلحة أخرى، أصبحت مستعمرة عدن الجديدة تفتقر إلى نظام نقل كامل. لحسن الحظ اشترى معظم السكان دراجات، وأُنشِئت مجموعةٌ كاملةٌ من طرق الدراجات في السنوات الثلاث الأولى، بعد بناء المستوطنة الأساسية. وإلا كان من الصعب للغاية على الناس أن تنتقل من مكان لآخر داخل المستعمرة.

في الوقت الذي هربت فيه نيكول، كانت كل خطوط السكك الحديدية القديمة قد أُزيلت، وشقَّت بدلًا منها الطرق. خدمت هذه الطرق السيارات الكهربائية (المقصور استخدامها على قادة الحكومة وكبار المسئولين العسكريين) وشاحنات النقل (التي تسير أيضًا بالكهرباء المخزنة) ووسائل النقل الأخرى المختلفة والمبتكرة التي يصنعها بعض مواطني عدن الجديدة. كانت عربة ماكس المكشوفة رائعة. كان جانبها الأمامي دراجة وثبت في جانبها الخلفي مقعدان واسعان مريحان، يشبهان الأريكة إلى حدٍّ ما، يستندان إلى عجلتَين ومحور قوي، كانت تشبه كثيرًا العربات التي تجرها الخيول التي استخدمت قبل ثلاثة قرون على كوكب الأرض.

تعارك الملك نبتون مع الدواسات، عندما انطلقت المركبة ثلاثية العجلات في الطريق إلى سنترال سيتي. وقال وهو يحاول جاهدًا زيادة سرعتها: «تبًّا، لماذا وافقت على هذه الخطة السخيفة؟»

فضحكت نيكول وإيبونين في المقعد الخلفي. وقالت إيبونين: «لأنك رجل رائع، وأردتنا أن نكون مرتاحتَين … ثم هل يمكنك أن تتخيل ملكة تركب دراجة لمسافة عشرة كيلومترات تقريبًا؟»

كان الجو يميل فعلًا للبرودة. وقضت إيبونين بضع دقائق تشرح لنيكول كيف أصبح الطقس أقل استقرارًا. قالت: «أذيع مؤخرًا تقرير في التليفزيون يؤكد أن الحكومة تعتزم نقل الكثير من سكان المستعمرة إلى الموطن الثاني. إذ إن بيئته لم تفسد بعد … لا أحد يصدق أننا سنتمكن من علاج المشكلات هنا في عدن الجديدة.» وحالما اقتربا من سنترال سيتي، شعرت نيكول بالقلق على ماكس الذي بدأ يرتعش من البرد. وعرضت عليه الشال الذي اقترضته من إيبونين، فقبله آخر الأمر. وقالت متعمدة إثارة غيظه: «كان يمكنك اختيار زيٍّ يدفئك أكثر.»

فقالت إيبونين: «كان اختيار شخصية الملك نبتون لماكس فكرة ريتشارد أيضًا. وبهذه الطريقة لن يبدو الأمر غريبًا الليلة إذا اضطر أن يحمل أيًّا من معدات غطسك.»

كانت نيكول منفعلةً بصورة مفاجئة عندما سارت العربة ببطء وسط الزحام المتزايد، وانعطفت بين المباني الرئيسية في سنترال سيتي. وتذكرت نيكول ليلةً قضتها قبل سنوات، عندما كانت البشرية الوحيدة المستيقظة في عدن الجديدة. في تلك الليلة اطمأنت على عائلتها للمرة الأخيرة، ثم دخلت فراشها وهي مدركةٌ تمامًا ما تفعل، وأعدَّت نفسها لتنام طوال الرحلة التي تستغرق الكثير من السنوات إلى النظام الشمسي.

داعبَت ذهنها صورة الرجل النسر، ذلك الكائن الذي يجسد بغرابة ذكاء المخلوقات الفضائية، والذي كان مرشدهم في «نود». استرجعت بسرعةٍ ملخص تاريخ المستعمرة بالكامل، منذ اللقاء الأول مع المسافرين من الأرض على متن بينتا، وتساءلت في نفسها: «هل كان بإمكانك توقع كل هذا؟ وما رأيك فينا الآن؟» هزت نيكول رأسها بحدة وهي تشعر بإحراجٍ شديد من سلوكيات بني جنسها من البشر.

قالت إيبونين وهي تجلس على المقعد المجاور لنيكول بعد أن دخلوا الميدان الرئيسي: «لم يستبدلوه قطُّ.»

فأجابتها نيكول: «معذرة، كنت مستغرقةً في أحلام اليقظة.»

«أعني النصب التذكاري الرائع الذي صممه زوجك، والذي كان يشير إلى مسار راما في المجرة … تذكرين كيف دُمر الليلة التي أراد فيها الشعب إعدام مارتينيز … على أي حال لم يستبدلوه قط.»

مرة أخرى غرقت نيكول في ذكرياتها. وفكرت: «ربما كان هذا من علامات كبر السن. مزاحمة الكثير من الذكريات دائمًا لأحداث الحاضر.» وتذكرت الجماهير الثائرة والصبي أحمر الشعر الذي صرخ: «اقتلوا الوغد الزنجي …»

سألت نيكول بصوتٍ خفيضٍ وهي متخوفة من سماع الإجابة: «ماذا حدث لمارتينيز؟»

فجاءت الإجابة: «أُعدِمَ بالكرسي الكهربائي بعد وقتٍ قصيرٍ من استيلاء ناكامورا وماكميلان على الحكومة. وظلَّت أحداث المحاكمة الموضوع الرئيسي في الأخبار لعدة أيام.»

كانت العربة قد مرت عبر سنترال سيتي واستمرت في طريقها جنوبًا نحو بوفوا، وهي القرية التي عاشت فيها نيكول وريتشارد وعائلتهما قبل انقلاب ناكامورا. نظرت نيكول إلى جبل أوليمبوس المطل عليهم إلى يسارها. وفكرت: «كان من الممكن أن تكون الأوضاع مختلفة، كان من الممكن أن نبني جنة هنا. ليتنا بذلنا المزيد من الجهد …»

اجتاح نيكول سيل من الذكريات غرقت فيه مئات المرات منذ تلك الليلة الفظيعة، ليلة رحيل ريتشارد العاجل عن عدن الجديدة. ظل دائمًا ذلك الأسى العميق في قلبها، وتلك الدموع المريرة في عينَيها.

تذكرت نيكول أنها قالت ذات مرة للرجل النسر في «نود»: «نحن البشر قادرون على التصرُّف وفق سلوك ثنائي. في بعض الأوقات عندما نجد الاهتمام والحنان نبدو حقًّا كائناتٍ لا تختلف عن الملائكة. لكن في أكثر الأوقات يغلب طمعنا وأنانيتنا على فضائلنا، ونصبح أشبه بالمخلوقات الدنيئة التي تطورنا منها.»

٤

كانت إيبونين ونيكول قد بدأتا تشعران بالقلق. فقد مرَّت ساعتان تقريبًا على رحيل ماكس من الحفل. وبينما حاولت السيدتان اجتياز قاعة الرقص المزدحمة، أوقفهما رجلان يتنكران في زي روبن هود وفراير تك.

قال روبن هود لإيبونين: «أنت لست جميلتي ماريان، لكن حورية البحر لا تختلف عنها كثيرًا.» وأخذ يضحك بشدة على دعابته، ومد ذراعَيه وبدأ يرقص مع إيبونين.

وقال الرجل الآخر: «هل لراهب بسيط أن يحظى برقصة مع جلالتك؟» فابتسمت نيكول. وفكرت: «ما الضرر الذي قد تسببه رقصة واحدة؟» فاقتربت من الراهب فراير تك وبدآ يرقصان ببطء في القاعة.

كان فراير تك شخصًا ثرثارًا. فبعد كل عدة فواصل موسيقية، كان يبتعد خطواتٍ قليلةً عن نيكول ويطرح عليها سؤالًا. وكما هو مخطط كانت نيكول تُجيب بإشارةٍ أو إيماءةٍ برأسها. ومع قرب انتهاء الأغنية، بدأ الراهب المتنكر يضحك قائلًا: «أعتقد أنني أرقص مع بكماء. إنها رشيقة حقًّا، لكنها مع ذلك بكماء.»

أجابته نيكول بصوت منخفض محاولةً تغيير نبرتها: «أعاني بردًا شديدًا».

لكن بعد أن تحدثت، لاحظت تغيرًا واضحًا في سلوك الراهب. وزاد قلقها عندما ظل الرجل ممسكًا بيدَيها، محملقًا فيها لعدة ثوانٍ بعد أن انتهَت الرقصة.

ثم قال بجدية: «سمعت صوتك من قبل. إنه مميزٌ للغاية … ربما نكون قد تقابلنا قبل ذلك. أنا السيناتور واليس ميكلسون من الجزء الغربي من بوفوا.»

فكرت نيكول في ذعر: «أتذكرك. كنت أحد أول الأمريكيين الداعمين لناكامورا وماكميلان في عدن الجديدة.»

لم تجرؤ نيكول على التفوُّه بكلمةٍ أخرى. ولحسن الحظ عادت إيبونين وروبن هود لينضما إلى نيكول وفراير تك، قبل أن يطول صمتهما بدرجةٍ خطيرة. شعرت إيبونين بحدوث شيءٍ غريب فتصرفت بسرعة، وقالت وهي تأخذ نيكول من يدها: «كنت أنا والملكة في طريقنا إلى الحمام، عندما أوقعتمانا في شراككما أيها الخارجان على قانون غابة شيروود. والآن اسمحا لنا بالذهاب إلى وجهتنا الأصلية، وشكرًا على الرقصة.»

بينما ابتعدت السيدتان، ظل الرجلان بملابسهما الخضراء يراقبانهما باهتمام. وفور أن دخلتا حمام السيدات، فتحت إيبونين جميع أبواب الحجرات الصغيرة الداخلية لتتأكد أنهما وحدهما. ثم قالت هامسة: «حدث خطبٌ ما. على الأرجح اضطر ماكس للعودة إلى المخزن لاستبدال معداتك.»

فقالت نيكول: «فراير تك هو سيناتور من بوفوا. وتعرَّفَ صوتي تقريبًا … أعتقد أنني لست بمأمن هنا.»

فردَّت إيبونين بعصبيةٍ بعد لحظةٍ من التردد: «حسنًا. سننفذ الخطة البديلة … سنخرج مباشرة وننتظر تحت الشجرة الضخمة.»

وفجأةً التقطت أعين السيدتَين في آنٍ واحدٍ الكاميرا الصغيرة المثبتة في السقف؛ إذ أصدرت صوتًا خافتًا وهي تغيِّر اتجاهها لتتبعهما في أرجاء الحمام. فحاولت نيكول أن تتذكَّر كل كلمة تفوهت بها هي وإيبونين. وسألت نفسها: «هل قلنا ما يشير إلى هُويَّتنا؟»

كانت نيكول قلقةً بصورة خاصة على إيبونين؛ لأنها ستظل في المستعمرة سواء هربت أم قُبض عليها.

عندما عادت نيكول وإيبونين إلى قاعة الرقص، أشار إليهما روبن هود وراهبه المفضل كي تنضما إليهما. لكن إيبونين اتجهت نحو الباب الأمامي وهي تُشير بإصبعَيها على شفتَيها لتخبرهما أنها ستخرج لتدخن سيجارة، ثم اجتازت الغرفة هي ونيكول. ألقت إيبونين نظرة خاطفة وراء ظهرها وهي تفتح الباب الخارجي. ثم همست لنيكول: «الرجلان المرتديان الأخضر يتبعاننا.»

على بُعد ما يقرب من عشرين مترًا خارج مدخل قاعة الرقص — التي كانت في حقيقة الأمر قاعة الألعاب الرياضية بمدرسة بوفوا الإعدادية — كانت تقف شجرة دردار كبيرة، هي إحدى الأشجار القليلة التي نُقلت إلى راما من كوكب الأرض. عندما وصلت إيبونين والملكة نيكول إلى الشجرة، وضعت إيبونين يدها داخل حقيبتها وأخرجت سيجارة وأشعلتها بسرعة. نفثت الدخان بعيدًا عن نيكول. وهمست لصديقتها: «أنا آسفة.»

«لا بأس، أنا أتفهَّم الأمر» وفور أن أنهت نيكول عبارتها، حضر روبن هود وفراير تك إليهما.

قال روبن هود: «إذن فأميرتنا الحورية مدخنة. ألَا تعلمين أنكِ بهذا تقتطعين سنواتٍ من عمرك؟»

كانت إيبونين على وَشْك أن تخبرَه بإجابتها المعهودة، وتشرح له أن فيروس «آر في ٤١» سيقتلها قبل أن يفعل التدخين بوقتٍ طويل، لكنها رأت أن أي حوارٍ قد يشجِّع الرجلَين على البقاء. فابتسمَت ابتسامة صفراء وأخذت نفسًا عميقًا من سيجارتها، ونفثت الدخان فوق رأسها باتجاه أغصان الشجرة.

فقال روبن هود متجاهلًا حقيقة أن أيًّا منهما لم تُجب على تعليقه الأول: «كنت أنا والراهب نأمل أن تقبلا الانضمام إلينا لاحتساء شراب.»

وأضاف فراير تك: «هذا صحيح، نودُّ معرفة مَن أنتما …» ثم حدَّق في نيكول وقال: «أنا واثقٌ أننا تقابلنا من قبل، فصوتكِ يبدو مألوفًا للغاية.»

اصطنعت نيكول السعال ونظرت حولها. كان يوجد ثلاثة رجال شرطة في محيط خمسين مترًا. قالَت في نفسها: «ليس هنا. ليس الآن. ليس وأنا قريبة بهذا الشكل.»

قالت إيبونين: «إن الملكة لا تشعر أنها على ما يُرام. وقد نغادر مبكرًا. إذا لم نغادر فسنجدكما عندما نعود إلى الداخل …»

قاطعها روبن هود وهو يقترب من نيكول قائلًا: «أنا طبيب. ربما يمكنني مساعدتك.»

شعرت نيكول بتوتُّرٍ شديد. وبدأت ثانية تلتقط أنفاسها بصعوبة. فسعلت مرة أخرى وأشاحت بوجهها عن الرجلَين.

وفجأة سمعت صوتًا مألوفًا يقول: «إنه سعالٌ شديدٌ يا جلالة الملكة. من الأفضل أن نصطحبكِ إلى المنزل.»

رفعت نيكول عينها لترى رجلًا آخر يرتدي رداءً أخضر. كان الرجل هو ماكس أو الملك نبتون الذي كان ينظر إليها وعلى وجهه ابتسامة كبيرة. وخلفه رأت نيكول العربة المكشوفة على بُعدٍ لا يزيد عن عشرة أمتار. شعرت نيكول بسعادةٍ وارتياح، فاحتضنت ماكس بقوةٍ ونسيت تقريبًا المخاطر التي تُحيط بها، وهتفت: «ماكس» قبل أن يضع إصبعه على شفتَيها.

قال ماكس بثقة: «أعرف أنكما يا سيدتاي مسرورتان أن الملك نبتون أنهى أعماله لهذه الليلة، ويمكنه أن يصطحبكما إلى قلعته بعيدًا عن الخارجين على القانون، والعناصر الأخرى غير المرغوبة.»

نظر ماكس إلى الرجلَين اللذَين كانا يستمتعان بأدائه، مع أنه أفسد عليهما خططهما للأمسية. وقال ماكس وهو يساعد السيدتَين على ركوب العربة المكشوفة: «شكرًا لك يا روبن. وشكرًا لك يا فراير تك. أقدِّر كثيرًا اعتناءكما بصديقتيَّ.»

اقترب فراير تك من العربة المكشوفة، وكان من الواضح أنه يعتزم طرح سؤال آخر، لكن ماكس بادر بقيادة العربة مبتعدًا. وقال وهو يلوح للرجل: «إنها ليلة الملابس التنكرية والألغاز. لكن لا يمكننا البقاء أكثر من ذلك، فالبحر ينادينا.»

•••

قبَّلت إيبونين ماكس وهي تقول له: «إنك مذهل.»

أومأت نيكول برأسها. وقالت: «ربما تكون قد أخطأت في اختيار مهنتك. وجب عليك العمل ممثلًا وليس مزارعًا.»

قال ماكس وهو يعطي نيكول قناع الغطس؛ لإدخال التعديلات النهائية عليه: «لعبت دور ماركوس أنطونيوس في مسرحيةٍ بالمدرسة الثانوية في آركنسو. أحبَّت الخنازير تجارب الأداء التي قمت بها …» ثم سرد عبارة من دوره في المسرحية قائلًا: «أيها الأصدقاء، أيها الرومان، أيها الإخوة المواطنون … أعيروني أسماعكم، جئت الآن كي أدفن قيصر لا لأمدحه.»

ثم ضحك ثلاثتهم. كانوا يقفون في تلك اللحظة في قطعة أرض صغيرةٍ على بُعد خمسة أمتارٍ تقريبًا من شاطئ بحيرة شكسبير. حجبتهم الأشجار والشجيرات العالية عن الطريق ودرب الدراجات القريب منهم. رفع ماكس أسطوانة الهواء وساعد نيكول على تثبيتها على ظهرها.

ثم سألها: «هل كل شيء جاهز الآن؟»

أومأت نيكول برأسها.

قال ماكس: «إن الآليتَين ستقابلانك في المخبأ. وطلبتا مني أن أذكركِ ألَّا تغوصي بسرعة … فإنكِ لم تمارسي الغوص منذ وقت طويل.»

وقفت نيكول صامتةً لعدة ثوانٍ. ثم قالت: «لا أدري كيف أشكركما. ولا أجد الكلمات المناسبة التي تُعبِّر عن امتناني لكما.»

اتجهت إيبونين إليها واحتضنتها. ثم قالت: «صحبتكِ السلامة يا صديقتي. نحبكِ كثيرًا.»

وقال ماكس بصوتٍ متهدج وهو يعانقها: «وأنا أيضًا.» ثم وقف هو وإيبونين يلوحان لنيكول وهي تتجه إلى البحيرة.

كانت الدموع تنهمر من عينَي نيكول وتتجمَّع في أسفل قناعها. ثم لوَّحت لهما مرةً أخيرة، عندما وصلت المياه إلى خصرها.

•••

كانت المياه أكثر برودةً مما توقَّعت نيكول. وكانت تعرف أن التغيرات في درجات الحرارة في عدن الجديدة زادَت، منذ أن تولَّى المستوطنون مهمة التحكم في الطقس، لكنها لم تظنَّ أن التغيرات في الطقس قد تُسبِّب تغيُّر درجة حرارة البحيرة.

عدَّلت نيكول كمية الهواء في سترة الغوص؛ لتقلِّل من سرعة هبوطها في الماء. وبدأت تنصح نفسها: «لا تسرعي. وحافظي على هدوئك. فأمامك رحلة سباحة طويلة.»

كانت إليانور وجان قد دربتا نيكول كثيرًا على الخطوات التي يجب عليها اتباعها؛ لتحديد مكان النفق الطويل الذي يجري أسفل حائط الموطن. فأشعلت مصباحها الكهربائي وفحصت المزرعة المائية التي تقع إلى يسارها. وتذكرت: «ثلاثمائة متر باتجاه وسط البحيرة، ثم في اتجاهٍ عمودي على الحائط الخلفي لمنطقة تغذية أسماك السلمون. أظل على عمق عشرين مترًا حتى أرى الرصيف الأسمنتي بالأسفل.»

لم تجد نيكول صعوبةً في السباحة لكنها شعرت بالتعب سريعًا. تذكرت نقاشًا خاضَته مع ريتشارد منذ بضع سنوات، حينما كانا يفكران في عبور البحر الأسطواني معًا ليهربا من نيويورك. قالت نيكون حينها: «لكني لست بسباحةٍ ماهرة. قد لا أستطيع فعل ذلك.»

حينها طمأنها ريتشارد أنها لن يصعب عليها السباحة لمسافةٍ طويلة؛ لأنها تتمتع بلياقة بدنية عالية. فكرت: «ها أنا ذي أسبح كي أنجو بحياتي، متبعة طريق الهرب الذي سلكه ريتشارد منذ سنتَين. إلا أن عمري يناهز الستين. فضلًا عن أني فقدت لياقتي.»

وجدت نيكول الرصيف الأسمنتي، فهبطت خمسة عشر مترًا أخرى وهي تراقب جميع أجهزة القياس بحرص، وفي النهاية عثرَت على إحدى محطات الضخ الثمانية الكبيرة المنتشرة أسفل البحيرة؛ لكي تجعل الماء يدور باستمرار. من المفترض أن يكون مدخل النفق مخبأ أسفل أحد تلك المحركات الكبيرة. لكن نيكول لم تعثر على المدخل بسهولة. فقد تجاوزَته عدة مرات بسبب النباتات التي نمت حول مجموعة المضخات.

كان النفق أنبوبًا مستديرًا قطره أربعة أمتار مليء تمامًا بالماء. أنشئ ليكون طريق هروب في حالة حدوث طوارئ في الموطن، وظهر في تصاميم الموطن الأصلي بإصرار من ريتشارد، الذي علمته خبرته في مجال الهندسة أن يضع في الاعتبار كل الاحتمالات غير الواردة. كانَت مسافة السباحة من المدخل في بُحيرة شكسبير إلى المخرج — وفي الخارج في السهل الرئيسي خلف أسوار الموطن — أكثر بقليل من كيلومتر. استغرقَت نيكول عشر دقائق إضافية وهي تبحث عن المدخل. وكان التعب قد تملَّك منها بالفعل عندما بدأت سباحة آخر جزءٍ من رحلتها.

طوال العامَين اللذَين قضتهما نيكول في السجن، كانت التمرينات التي تُمارسها هي السير وتمارين البطن والضغط، ولم تمارسها بانتظام. لهذا لم تكن عضلاتها التي بدأت تهرم قادرةً على تحمل الإجهاد الشديد دون أن تتشنج. وبالفعل تشنجت عضلات ساقها ثلاث مرات عندما كانت تسبح في النفق. وفي كل مرةٍ كانت تُناضل وتقف في وَضْع مستقيم، وتجبر نفسها على الاسترخاء حتى يزول التشنُّج تمامًا. لذا كان تقدُّمها بطيئًا للغاية. ومع نهاية رحلتها خشيَت نيكول أن ينفد الهواء منها قبل أن تصل إلى مخرج النفق.

وفي مائة المتر الأخيرة، كان الألم يسري في جسد نيكول بالكامل. فذراعاها كانتا لا تقدران على دفع الماء وساقاها خارت قواهما؛ فلم يعد بإمكانهما التحرك في الماء. وحينها أيضًا بدأ الألم في صدرها. ولازمها ذلك الألم المزعج حتى بعدما أشار مقياس العمق أن النفق ارتفع لأعلى قليلًا.

عندما وصلت نيكول أخيرًا إلى نهاية الممر، ووقفت في حجرة صغيرة أسفل الأرض لا يغطي أرضيتها سوى نصف متر من الماء، كادت تنهار تمامًا. ولعدة دقائق حاولت سدًى أن تستعيد التوازن في تنفسها ومعدل خفقان قلبها. لكن لم يكن لديها قوةٌ تكفي لرفع الغطاء المعدني لباب الخروج فوق رأسها. هكذا بعد أن شعرت أنها حمَّلت جسدها فوق طاقته، قرَّرت أن تبقى في النفق لبعض الوقت وتغفو قليلًا.

استيقظت نيكول بعد ساعتَين، عندما سمعت صوت قرع خفيف غريب فوقها. هبت واقفةً أسفل الغطاء وأصغَت جيدًا. وبالفعل التقطَت أذناها بعض الأصوات، لكنها لم تستطع تبيُّن ما يُقال. فسألت نفسها وخفقات قلبها تتسارَع: «ماذا يحدث؟ إذا كان رجال الشرطة قد كشفوا أمري فلماذا لا يفتحون الغطاء؟»

تحرَّكت نيكول بهدوءٍ في الظلام في اتجاه معدات الغوص، التي كانت موجودةً بجانب الحائط على الجانب الآخر من النفق. سلَّطت كشافها الصغير على أدوات القياس لترى مقدار الهواء المتبقي في الخزان. قالت في نفسها: «يمكنني أن أبقى تحت سطح الماء لبضع دقائق.»

وفجأةً سمعت صوت ضربة حادة على الغطاء. وجاءها صوت الآلية جان تسأل: «هل أنتِ بالأسفل يا نيكول؟ إذا كنت كذلك فأكِّدي ذلك على الفور. لدينا بعض الملابس الجافَّة لكِ لكننا لسنا قويتَين بالقدر الكافي لتحريك الغطاء.»

صاحَت نيكول بارتياح: «نعم، أنا هنا. سأخرج فور أن أستطيع.»

بعد أن صعدت نيكول، كان جسدها يرتجف داخل ملابسها المبللة في هواء راما المنعش؛ إذ كانت الحرارة أعلى من درجة التجمُّد ببضع درجات. فظلَّت أسنانها تصطكُّ وهي تسير ثمانية أمتار في الظلام إلى المكان الذي وُضع فيه الطعام والملابس الجافَّة.

عندما وصلت ثلاثتهنَّ إلى مكان المؤن، طلبَت جان وإليانور من نيكول أن ترتديَ زي الجيش الذي تركته لها إيلي وإيبونين. وحينما سألتهما نيكول عن السبب، شرحتا أنه كي يتمكنَّ من الوصول إلى نيويورك يجب أن يعبرْنَ الموطن الثاني. وقالَت إليانور بعد أن استقرَّت بأمانٍ في جيب قميص نيكول: «إذا اكتشف أحدُهم أمرنا، فسيكون من الأسهل الخروج من المأزق بأن تقنعيه وأنتِ ترتدين الزي العسكري.»

ارتدت نيكول الملابس الداخلية الطويلة والزي العسكري. وبعد أن شعرت بالدفء أدركت أنها جائعةٌ جدًّا. وبينما كانت تتناول الطعام الذي خبأته لها إيبونين، وضعت جميع الأغراض الأخرى المغلفة في الملاءة في حقيبة ظهرها التي كانت تحملها أسفل سترة الغوص.

•••

كان الدخول إلى الموطن الثاني يمثِّل مشكلة. فلم تقابل نيكول والآليتان المختبئتان في جيبها أيَّ بشري في السهل الرئيسي، لكن مدخل ما كان يومًا ما موطن المخلوقات الطائرة واللاسويقية كان يحرسه بشري. ذهبت إليانور وحدها كي تستطلع الأمر، وعادت لتبلغهما بالصعوبة التي سيواجهنها. فتوقَّفت الثلاثة على بُعد ثلاثمائة أو أربعمائة متر من طريق المرور الرئيسي بين الموطنَين.

قالت جان لنيكول: «لا بد أن هذا إجراء أمني جديد طُبق منذ هروبك. فإننا لم نواجه قطُّ أي صعوبات في الذهاب والمجيء.»

فسألت نيكول: «هل توجد طرق أخرى تقود إلى الداخل؟»

أجابت إليانور: «لا. كان موقع التفتيش الأصلي هنا. ومنذ ذلك الحين وُسع بصورةٍ كبيرةٍ وبُني جسر فوق الخندق المائي، حتى تتمكَّن القوات من التحرك بسرعة. لكن لا توجد مداخل أخرى.»

فسألت نيكول: «هل يجب علينا المرور عبر هذا الموطن للوصول إلى ريتشارد ونيويورك؟»

أجابتها جوان: «نعم. فذلك الحاجز الرمادي الضخم إلى الجنوب، الذي يُعدُّ حائط الموطن الثاني، ويمتد عدة كيلومترات يمنع الحركة من وإلى نصف الأسطوانة الشمالي من راما. من الممكن أن نطير فوقه لو أن معنا طائرة تحلق على ارتفاع كيلومترَين وطيارًا ماهرًا للغاية، لكن هذا غير متوفر … بالإضافة إلى أن ريتشارد يتوقع مجيئنا عبر الموطن.»

وهكذا ظللن منتظراتٍ لوقت طويل في البرد والظلام. وكانت إحدى الآليتَين تذهب لتتفقد المدخل بصفة دورية، لكن الحارس كان موجودًا باستمرار. أصيبَت نيكول بالتعب والإحباط. قالت في لحظة من اللحظات: «اسمعاني، لا يمكننا البقاء هنا للأبد. لا بد من وجود خطة بديلة.»

فقالت إليانور مذكرةً نيكول بأنهما مجرد آليتَين: «لا علم لنا بوجود خطة بديلة أو خطة احتياطية للتعامل مع هذا الموقف.»

غفت نيكول منهكة القوى غفوةً قصيرة، حلمت فيها أنها ترقد عارية على مكعب ثلج ضخم مسطح. والمخلوقات الطائرة تهاجمها بعنف من السماء، بينما يحيط بها مئات الآليين الصغار مثل جان وإليانور على سطح المكعب. وكانوا جميعًا ينشدون معًا في انسجام.

عندما استيقظت نيكول شعرت أنها استعادت بعضًا من نشاطها. فتحدَّثت مع الآليتَين ووضعْنَ معًا خطةً جديدة. قررت ثلاثتهن ألَّا يتحرَّكْن إلا عندما تتوقف حركة المرور عبر المدخل إلى الموطن الثاني لوقتٍ قصير. في تلك اللحظة ستخدع الآليتان الحارس حتى تتسلل نيكول إلى الداخل. ونصحتاها أن تسير بحذر إلى الجانب الآخر من الجسر، وأن تنعطف وتسير بامتداد الخندق المائي. ثم قالت لها إليانور: «انتظرينا في الكهف الصغير على بعد ثلاثمائة مترٍ من الجسر.»

بعد عشرين دقيقةً أثارت جان وإليانور جلبةً شديدة عند الحائط البعيد، على مسافة ما يقرب من خمسين مترًا من المدخل. وعندما ترك الحارس موقعه للتحقُّق من الضوضاء، دخلت نيكول الموطن دون أن يعترض أحدٌ طريقها. وفي الداخل كان هناك درج طويل متعرج جيئةً وذهابًا، يهبط عدَّة مئات الأمتار من ارتفاع المدخل إلى مستوى الخندق الواسع الذي يطوق الموطن بأكمله. كانت هناك أضواءٌ تُضيء على فتراتٍ متقطعةٍ على الدرج، ورأت نيكول المزيد من الأضواء على الجسر أمامها، لكن الإضاءة كانت خفيفةً بوجهٍ عام. شعرَت نيكول بالتوتر عندما رأت اثنَين من عمال البناء يصعدان الدرج باتجاهها. لكنهما استمرا في صعود الدرج دون أن يعيراها الكثير من الاهتمام، فسعدت أنها ترتدي الزي العسكري.

بينما كانت نيكول تنتظر بجوار الخندق المائي، حدقت باتجاه وسط موطن الكائنات الفضائية وحاولت أن تتبين المعالم المذهلة التي وصفتها لها الآليتان الصغيرتان؛ مثل البناء الأسطواني البُني الضخم الذي يرتفع مسافة ألف وخمسمائة متر، والذي كان يومًا يضمُّ مستعمرتَي المخلوقات الطائرة واللاسويقية، والكرة المغطاة الضخمة التي تتدلَّى من سقف الموطن وتمده بالضوء، وحلقة المباني البيضاء الغامضة — بطول قناة — تطوق الأسطوانة.

لكن الكرة المغطاة لم تُضِئ منذ شهور، منذ أول غارةٍ بشريةٍ على موطن المخلوقات الطائرة واللاسويقية. لم ترَ نيكول سوى أضواءٍ صغيرةٍ ومتناثرةٍ على أبعادٍ كبيرة، وكان من الواضح أن البشر الغُزاة هم من وضعوها في الموطن. لذا كان كلُّ ما أمكنها تمييزه هو ظلًّا باهتًا غير واضح الحواف للأسطوانة العملاقة. قالت نيكول لنفسها وهي تفكر أنها في مكان كان حتى وقتٍ قريبٍ يُؤوي فصيلة واعية أخرى: «لا بد أن الأمر كان رائعًا عندما دخل ريتشارد هنا للمرة الأولى. وهنا أيضًا نمدُّ نطاق سلطتنا، ونطأ بأقدامنا جميع أشكال الحياة الأخرى التي لا تضاهينا في القوة.»

استغرقَت إليانور وجان وقتًا أطول من المتوقع للانضمام إلى نيكول. بعدها تقدمت ثلاثتهن ببطءٍ بطول الخندق المائي. وكانت إحدى الآليتَين تتقدَّم باستمرارٍ لتستطلع الطريق، وتحرص على تجنب أي احتكاك بالبشر. اضطرَّت نيكول مرتَين وهي تسير في الجزء الذي يشبه غابات الأرض في الموطن، أن تنتظر في هدوءٍ حتى تمرَّ مجموعةٌ من الجنود أو العمال في الطريق إلى يسارهن. وفي المرتَين كانت نيكول تتفحص النباتات الجديدة الشائقة حولها في افتتان. حتى إنها عثرَت على مخلوقٍ بين العلقة ودودة الأرض يحاول أن يدخل حذاءها الأيمن. فالتقطَته بفضول ووضعته في جيبها حتى تتمكن من تفحصه في وقتٍ لاحق.

عندما وصلت نيكول والآليتان أخيرًا إلى النقطة المحددة للقاء، كان قد مر اثنتان وثلاثون ساعةً تقريبًا منذ أن ذهبت إلى بحيرة شكسبير. كانت ثلاثتهن يقفن على الجانب البعيد من الموطن الثاني بعيدًا عن المدخل، حيث كان الوجود البشري في أقل كثافة له. وفي غضون دقائق من وصولهن ظهرت غواصة. ثم فتح جانبها وخرج منه ريتشارد ويكفيلد بابتسامة كبيرة على وجهه الملتحي، واندفع تجاه زوجته الحبيبة. غمرت نيكول سعادةٌ بالغة عندما شعرت بذراعَيه تحيطانها.

٥

بدا كل شيء مألوفًا للغاية. ما عدا الفوضى التي أشاعها ريتشارد في الشهور التي قضاها وحده، وتحويل غرفة الأطفال إلى غرفة نوم لفرخي المخلوقات الطائرة، كان المخبأ أسفل نيويورك، كما كان بالضبط عندما رحل ريتشارد ونيكول ومايكل أوتول وأطفالهم قبل سنواتٍ من راما.

أوقف ريتشارد الغواصة في مرفأ طبيعيٍّ في الجانب الجنوبي من الجزيرة، في مكان أطلق عليه «الميناء».

سألته نيكول عندما كانا يسيران معًا باتجاه المخبأ: «من أين حصلت على الغواصة؟»

فأجابها: «إنها هدية. أو على الأقل هذا ما أظنُّه. فبعد أن أراني القائد الأعلى للمخلوقات الطائرة كيف أشغِّلها، اختفى وتركها هنا.»

كان السير في نيويورك تجربة غريبة على نيكول. ففي الظلام كانت ناطحات السحاب تذكرها بالسنوات التي عاشتها على تلك الجزيرة الغامضة وسط البحر الأسطواني.

سألت نيكول وهما يدلفان إلى مخبئهما: «تُرى كم سنة مرت منذ أن غادرنا نيويورك؟»

أجابها ريتشارد وهو يهز كتفَيه: «لا أستطيع أن أمنحكِ إجابةً دقيقة. فقد خضنا رحلتَين في الفضاء بسرعةٍ تقارب سرعة الضوء. ونحن لا نستطيع حساب الزمن بدقةٍ إلا إذا عرفنا السرعة التي سافرنا بها على وجه الدقة.»

وبينما كانت نيكول لا تزال تفكِّر في عجائب النسبية، قال ريتشارد: «إن التغييرات الوحيدة التي طرأت على مركبة راما الفضائية في كل زيارة للنود؛ هي تلك اللازمة للتجهيز للمهمة التالية. ومن ثَم فإن شيئًا لم يتغير هنا. لا يزال الحاجز الأسود موجودًا في الغرفة البيضاء. بالإضافة إلى لوحة مفاتيحنا القديمة. كما أن خطوات تقديم الطلبات لسكان راما — أو إلى مضيفينا أيًّا كان اسمهم — لا تزال كما هي.»

أثناء نزولهما المنحدر إلى المستوى الذي يعيشون فيه، سألته نيكول: «ماذا عن المخابئ الأخرى، هل زرتها أيضًا؟»

أجابها ريتشارد: «إن مخبأ المخلوقات الطائرة أصبح مقبرة؛ إذ ذهبت إليه عدة مرات. وفي إحدى المرات دخلت مخبأ كائنات الأوكتوسبايدر العنكبية بحذر، لكنني لم أتوغَّل فيه لأبعد من الغرفة الكاتدرائية التي تحتوي على أربعة أنفاقٍ تقود إلى …»

فقاطعته نيكول ضاحكة: «تلك التي أطلقنا عليها إيني وميني ومايني ومو …»

استأنف ريتشارد حديثه: «أجل. إنها هي، لكنني لم أشعر بالراحة هناك على أي حال. راودني شعورٌ بأن المخبأ لا يزال مأهولًا، مع أنني لم أستطع العثور على شيء. وشعرت أن كائنات الأوكتوسبايدر أو أيًّا كان ما يعيش هناك يراقب كل خطوةٍ أخطوها.» وهذه المرة ضحك ريتشارد وهو يقول: «صدقي هذا أو لا تصدقيه. كنت قلقًا أيضًا أن يحدث شيء لتامي وتيمي لو لم أعُد لأي سبب.»

كان لقاء نيكول الأول مع تامي وتيمي — فرخَي المخلوقات الطائرة اللذَين رباهما ريتشارد منذ الصغر — رائعًا للغاية. كان ريتشارد قد وضع نصف بابٍ بغرفة الأطفال، وأحكم إغلاقه عندما غادر لمقابلة نيكول في الموطن الثاني. ونظرًا لأن المخلوقَين الشبيهَين بالطيور لم يكن بمقدورهما الطيران بعد، فقد ظلَّا آمنَين داخل غرفة الأطفال في غياب ريتشارد. لكن حالما سمعا صوته في المخبأ بدآ يصرخان ويزقزقان. ولم يتوقفا عن الصراخ بعدما فتح ريتشارد الباب واحتضنهما.

قال ريتشارد لنيكول بصوت أعلى من صوتهما: «إنهما يقولان إنه لم يجدر بي تركهما وحدهما.»

لم تستطع نيكول أن تمنع نفسها من الضحك. فقد مد الفرخان رقبتَيهما الطويلتَين نحو وجه ريتشارد، وتوقَّفا عن الصراخ والزقزقة قليلًا كي يمسحا الجانب السفلي من منقارَيهما برقَّة في وجنة ريتشارد ذات اللحية. كان الفرخان لا يزالان صغيرَين، يبلغ طولهما ما يقرب من سبعين سنتيمترًا عندما يقفان على أرجلهما، لكنَّ عنقَيهما كانا طويلَين للغاية لدرجة أنهما بدوا أطولَ بكثير.

راقبت نيكول زوجها بإعجاب وهو يعتني بالكائنَين الفضائيين اللذين أصبحا في وصايته. أزال فضلاتهما وتأكد أن لديهما طعامًا طازجًا وماءً نظيفًا، وتفقَّد مدى نعومة فراشَيهما المصنوعَين من مادةٍ تُشبه القش في ركن الغرفة. قالَت نيكول لنفسها وهي تتذكر معارضته قبل سنوات القيام بأيٍّ من واجبات الأبوة: «قطعت شوطًا كبيرًا جدًّا يا ريتشارد ويكفيلد.» تأثرت نيكول بشدةٍ بعاطفته الجلية تجاه الفرخَين الطويلَين النحيلَين. وسألَت نفسها: «هل من الممكن أن يكون بداخل كلٍّ منا هذا النوع من الحب غير الأناني؟ وهل يجب علينا بطريقةٍ ما أن نتعامل مع جميع المشكلات الناشئة عن الوراثة والبيئة قبل أن نجده؟»

كان ريتشارد قد احتفظ ببطيخات المن الأربع وشريحة الكائنات اللاسويقية، في ركنٍ واحدٍ من الغرفة البيضاء. وقال لنيكول إنه لم يلاحظ أي تغيرات في البطيخ أو الكائن اللاسويقي منذ أن وصل إلى نيويورك. وبعد أن استمعت نيكول للشرح الذي قدمه لها ريتشارد عن دورة الحياة المعقدة للكائنات اللاسويقية، قالت: «ربما يستغرق البطيخ وقتًا طويلًا قبل أن تظهر عليه أي تغيرات، مثل البذور.»

فرد عليها ريتشارد قائلًا: «هذا ما خطر لي. بالطبع ليس لديَّ أدنى فكرةٍ عن الظروف التي ينبت فيها البطيخ … وهذا النوع غريبٌ ومعقَّد للغاية، فلن أندهش إذا كانت تلك القطعة الصغيرة من الكائن اللاسويقي هي التي تتحكم في العملية.»

وفي أول ليلة يقضياها معًا، واجه ريتشارد صعوبةً في جعل الفرخَين يذهبان للنوم. وفسَّر ذلك لنيكول عندما عاد إلى الغرفة البيضاء لثالث مرة، بعد أن قاطع صراخ تامي وتيمي الغاضب عشاءه مع نيكول: «إنهما خائفان أن أتركهما مرة أخرى.» وفي النهاية برمج ريتشارد جان وإليانور لتسلية الطائرَين. كانت تلك هي الوسيلة الوحيدة لإبقاء الصغيرَين هادئَين ليستطيع قضاء بعض الوقت على انفرادٍ مع نيكول.

كانت العلاقة الحميمة التي أقامها ريتشارد ونيكول رقيقة. بالرغم من أن ريتشارد باح لنيكول وهو يتخفَّف من ملابسه أنه غير واثقٍ من كفاءته … لكن نيكول طمأنته وأخبرته أن الأمر غير ذي أهمية على الإطلاق. وأكدت له أن الوجود بالقرب منه سيسعدها، وأن أي شيءٍ آخر سيكون إضافةً رائعة. بالطبع شعرا بالتناغم تمامًا كما شعرا في أول ليلة لهما معًا. وبعد أن انتهيا من العلاقة الهادئة احتضن كلٌّ منهما يد الآخر. لم يتكلَّم أيٌّ منهما. تجمعت دمعات في مقلتَي نيكول، وسالت ببطءٍ على وجهها حتى استقرَّت في أذنَيها. ابتسمت في الظلام. كانت في تلك اللحظة غارقة في السعادة.

•••

لأول مرة على الإطلاق لم يكن إيقاع حياتهما سريعًا. فكانا يتحدثان كل ليلة بهدوء، وفي بعض الأحيان تحدَّثا أثناء العلاقة. حدَّث ريتشارد نيكول عن طفولته ومراهقته أكثر من أي وقتٍ مضى. وتضمَّن حديثه أكثر ذكرياته إيلامًا عن سوء معاملة والده له، والتفاصيل المؤلمة لزواجه الكارثي الأول من سارة تايدينجز.

قال ريتشارد ذات ليلة في وقت متأخر: «أدرك الآن أن سارة وأبي بينهما شيء أساسي مشترك. كان كلاهما عاجزًا عن منحي التشجيع الذي كنت أسعى إليه بكل كياني، وبطريقةٍ ما عرف كلاهما أنني سأستمر في السعي للحصول على ذلك التشجيع، حتى إن كان ذلك يعني هجر كل شيء آخر في حياتي.»

ولأول مرة، باحت نيكول لريتشارد بدقائق علاقتها التي استمرت لثمانية وأربعين ساعةً مع أمير ويلز، بعد أن فازت بالميدالية الذهبية الأوليمبية. حتى إنها اعترفت له بأنها تاقَت للزواج من هنري، وأصيبَت بإحباطٍ شديدٍ بعد أن عرفت أنه استبعدها من قائمة المرشحات لتكون ملكة إنجلترا؛ بسبب لون بشرتها في المقام الأول. خلبت القصة التي روتها نيكول لب ريتشارد. لكن لم يبدُ عليه ولو للحظةٍ أنه يشعر بالغيرة أو التهديد.

فكرت نيكول بعد عدة ليالٍ، بينما كان زوجها ينهي مهمته الليلية، بوضع الفرخَين في فراشهما وقالت لنفسها: «أصبح أكثر نضجًا.» وعندما عاد إلى غرفة نومهما في المخبأ، قالت له: «حبيبي، هناك شيء أودُّ أن أخبرك به. كنت أنتظر الوقت المناسب …»

قطَّب ريتشارد جبينه. وقال مفتعلًا الجدية: «يبدو أنه أمر خطير … أتمنى ألَّا يستغرق وقتًا طويلًا؛ لأنني أعددت بعض الخطط لنا هذا المساء.»

واجتاز الغرفة وبدأ يقبِّلها … لكنها قالت وهي تبعده برفق: «ليس الآن من فضلك يا ريتشارد. فهذا الأمر يهمني جدًّا.»

تراجع ريتشارد بضع خطوات. فقالت نيكول ببطء: «عندما ظننت أنني سأُعدَم لا محالة، أدركت أن جميع شئوني الخاصة على ما يرام، ما عدا أمرَين. ما زالت هناك أشياء أودُّ أن أخبرك أنت وكيتي بها. حتى إنني طلبت من ضابط الشرطة الذي كان يشرح لي إجراءات الإعدام، أن يعطيني قلمًا وورقة كي أكتب خطابَين أخيرَين.»

سكتَت نيكول للحظةٍ كما لو أنها تبحث عن الكلمات المناسبة. ثم أكملت: «في تلك الأيام الرهيبة، لم أستطع أن أتذكر يا ريتشارد إذا كنت قد أخبرتك قطُّ بوضوحٍ عن مدى سعادتي أننا زوج وزوجة … لم أشأ أن أموت دون أن …»

ثم سكتَت مرة أخرى، وجالت بعينَيها في الغرفة، ثم عادت لتنظر في عينَي ريتشارد مباشرة. وقالت: «كان هناك أمر آخر أردت أن أفعله بمساعدة الخطاب الثاني. اعتقدت في ذلك الوقت أنه من الضروري أن أجعل حياتي تنتهي على أكمل وجه، حتى أرحل عن هذا العالم دون أن أترك خلفي أمورًا معلقة … ريتشارد، أردت أن أعتذر لك عن عدم اكتراثي عندما كنا أنا وأنت ومايكل معًا … اقترفت خطأً حينها عندما سارعت بإقامة علاقة مع مايكل بعدما خشيت …»

أخذت نيكول نفسًا عميقًا. واستأنفت: «كان لا بد أن أتحلَّى بإيمانٍ أقوى. وهذا لا يعني أنني أتمنى لو أنني لم أنجب باتريك وبينجي، لكنني أدرك الآن أنني استسلمت بسرعةٍ كبيرة لوحدتي. ليتني …»

وضع ريتشارد إصبعه على شفتَيها. وقال برفق: «لا داعيَ إلى الاعتذار يا نيكول. أعرف أنكِ أحببتِني حقًّا.»

•••

سارَت حياة نيكول وريتشارد بوتيرةٍ هادئةٍ وببساطة. في الصباح كانا يتجوَّلان سيرًا على الأقدام حول نيويورك وكلٌّ منهما ممسكٌ بذراع الآخر، ويستكشفان من جديدٍ كلَّ ركن في الجزيرة التي كانوا يطلقون عليها منزلهم. ونظرًا لأن المكان كان مظلمًا دائمًا بدت المدينة مختلفة. فكانت أشعَّة مصابيحهما الكهربية فقط هي ما تلقي الضوء على ناطحات السحاب، التي كانت تفاصيلها محفورةً في ذاكرتَيهما.

وكثيرًا ما كانا يتجولان بطول أسوار المدينة، يتطلَّعان إلى مياه البحر الأسطواني. في صباح أحد الأيام قضيا عدة ساعات يقفان في مكان واحد، في المكان نفسه الذي سلما فيه حياتَيهما إلى المخلوقات الطائرة الثلاثة قبل سنوات طويلة. وتذكرا خوفهما وسعادتهما في اللحظة التي رفعتهما فيها المخلوقات الطائرة الضخمة من فوق الأرض لتعبر بهما البحر.

كل يوم بعد الغداء كانت نيكول — التي دائمًا ما كانت تحتاج لساعات نوم أكثر من زوجها — تغفو قليلًا. وكان ريتشارد يستخدم لوحة المفاتيح كي يطلب المزيد من الطعام أو المؤن من سكان راما، أو يصطحب الفرخَين إلى أعلى لممارسة بعض التمرينات، أو يعمل في أحد مشروعاته العديدة المتناثرة في المخبأ. وفي المساء بعد أن يتناولا العشاء برويةٍ يستلقيان أحدهما بجوار الآخر، ويتسامران لساعات قبل أن يقيما علاقة حميمة أو يخلدا للنوم. كانا يتحدثان عن كل شيء: الرجل النسر وسكان راما، ووجود الله، والحياة السياسية في عدن الجديدة، ومختلف أنواع الكتب، وأطفالهما أكثر من أي شيء آخر.

ومع أنهما كانا يتحدثان بحماسةٍ عن إيلي وباتريك وبينجي وسيمون أيضًا الذي لم يرياه منذ سنوات، فقد كان من الصعب على ريتشارد أن يتحدث عن كيتي. كان يؤنب نفسه دائمًا لأنه لم يكن أكثر صرامةً مع ابنته المفضلة في طفولتها، وأرجع تصرفاتها غير المسئولة وهي بالغةٌ إلى تسامحه معها. حاولت نيكول أن تواسيَه وتعيدَ الطمأنينة إلى نفسه، وذكَّرته أن ظروفهما على متن راما كانت غيرَ تقليدية، وأنه مع كل شيءٍ لم تكن لديه معرفةٌ بما يجب عليه فعله بوصفه الأب.

في ظهيرة أحد الأيام بعدما استيقظَت نيكول من غفوتها، تمكنت من سماع ريتشارد يتمتم لنفسه في الردهة. فدفعها الفضول لأن تنهض بهدوء وتتجه إلى الغرفة، التي كانت في يومٍ من الأيام غرفة نوم مايكل أوتول. وقفَت نيكول على الباب، وشاهدَت ريتشارد يضع اللمسات الأخيرة على نموذجٍ كبيرٍ يشغل الجزء الأكبر من الغرفة.

فاستدار ريتشارد لنيكول ليعلمها أنه سمع صوت خطواتها، وقال: «ها هو ذا.» ثم ابتسم ابتسامةً عريضة وتحرَّك باتجاه النموذج قائلًا: «صحيح أنه لن يفوز بأي جوائز فنية، لكنه نموذج مقبول للجزء الخاص بنا من العالم، وبالطبع أمدَّني بالكثير من الأفكار.»

غطَّت قاعدة مسطحة مستطيلة الشكل الجزء الأكبر من الأرضية. ووُضعت أعواد عمودية ذات أطوالٍ مختلفة في عشرين موقعًا حول القاعدة. وفي أعلى كل عودٍ كرة واحدة ملونة على الأقل تمثل نجمًا.

كان العود العمودي في منتصف النموذج — المثبت أعلاه كرة صفراء — يرتفع مسافة نحو متر ونصف المتر عن القاعدة. قال ريتشارد لنيكول: «هذه، ولا شك، شمسنا … وها نحن ذا — أو ها هي راما — في هذا الربع من الدائرة، نحو رُبع المسافة تقريبًا بين الشمس وأقرب نجم شبيه؛ نجم تاو سيتي … أما نجم الشعرى اليمانية حيث كنا عندما مكثنا لبعض الوقت في نود، فهو هنا في الخلف …»

سارَت نيكول حول النموذج، ونظرت إلى الأجرام المجاورة للشمس. تابع ريتشارد شرحه: «هناك عشرون نظامًا شمسيًّا في نطاق اثنتَي عشرة سنةً ضوئية ونصف السنة من وطننا، وهذا يشمل ستة أنظمة ثنائية ومجموعة ثلاثية واحدة، وهذه هي أقرب جيراننا؛ القنطورس. لاحظي أن نجوم القنطورس هي النجوم الوحيدة داخل نطاقٍ مداه خمس سنواتٍ ضوئية.»

أشار ريتشارد إلى الكرات الثلاث المنفصلة التي تمثِّل نجوم القنطورس. كان لكلٍّ منها حجمٌ ولون مختلفان. ارتبطت ثلاث الكُرات بعضها ببعض بأسلاكٍ دقيقةٍ مثبتة على نفس العود العمودي، داخل كرةٍ سلكيةٍ مفتوحةٍ متمركزةٍ في الشمس كُتب عليها الرقم «٥» بخطٍّ كبير.

استأنف ريتشارد حديثه قائلًا: «أثناء الأيام العديدة التي قضيتها وحيدًا هنا، تساءلت كثيرًا لماذا تسير راما في هذا الاتجاه بالتحديد. هل لنا وجهة محددة؟ فالأمر بالفعل يبدو كذلك؛ لأننا لم نغير مسارنا منذ لحظة انطلاقنا. وإذا كنا في طريقنا إلى تاو سيتي فماذا سنجد هناك؟ مجمع آخر مثل نود؟ أو ربما يكون نود «نفسه» قد تحرك إلى هناك في الوقت بين الزيارتَين؟»

ثم سكت ريتشارد. كانت نيكول قد ذهبت إلى حافة النموذج، وكانت تمدُّ ذراعَيها إلى الأعلى إلى نجمَين حمراوَين في نهاية عودٍ طوله ثلاثة أمتار. وقالت: «أعتقد أنك باينت بين أطوال هذه الأعواد لتظهر العلاقة الكاملة الثلاثية الأبعاد بين هذه النجوم.»

أجابها ريتشارد بصوته البشري الذي يشبه صوت الآليين: «هذا صحيح … إن هذه المجموعة الثنائية التي تلمسينها الآن يُطلق عليها اسم ستروف ٢٣٩٨. وهي تتمتَّع بميل زاوٍ عالٍ للغاية، وتبعد عن الشمس أكثر من عشر سنواتٍ ضوئية.»

عندما رأى ريتشارد التجهُّم على وجه نيكول، ضحك في نفسه واجتاز الغرفة كي يُمسك بيدها. ثم قال: «تعالَي معي، وسأريكِ شيئًا ممتعًا جدًّا.»

ذهبا إلى الجانب الآخر من النموذج، وواجها الشمس في منتصف الطريق بين نجمَي الشعرى اليمانية وتاو سيتي. وقال ريتشارد بسعادة: «ألن يكون من الرائع أن يثبت أن النود يتحرَّك بالفعل، وأننا سنراه مجددًا هنا على الجانب المقابل من نظامنا الشمسي؟»

ضحكت نيكول وقالت: «بالطبع. لكننا لا نملك أي دليلٍ على الإطلاق …»

قاطعها ريتشارد قائلًا: «لكنَّ لدينا عقلًا وخيالًا. والرجل النسر أخبرنا أن النود بالكامل قادرٌ على التحرك. يبدو لي …» لكن ريتشارد توقَّف قبل أن ينهيَ جملته، ثم غيَّر الموضوع. قال: «ألم تسألي نفسكِ قطُّ أين ذهبت سفينة راما بعد أن غادرنا النود طوال تلك السنوات التي قضيناها نائمين؟ افترضي على سبيل المثال أن المخلوقات الطائرة واللاسويقية ركبت من مكانٍ ما ربما هنا قرب نجوم بروسيون الثنائية، أو هنا قرب إبسيلون إيريداني الذي كان في مسارنا بسهولة. نحن نعرف أن هناك كواكب حول إيريداني. ومن الممكن أن تكون راما قد عادَت مرة أخرى إلى الشمس بسهولةٍ بسرعةٍ كبيرةٍ تمثل جزءًا من سرعة الضوء …»

فقالت نيكول: «تمهل قليلًا يا ريتشارد. أنت تسبقني بمراحل. لمَ لا نبدأ من البداية؟» وجلسَت في وَضْع القرفصاء على القاعدة داخل النموذج، بجوار كرة حمراء ترفعها عن الأرض عصًا صغيرة بضعة سنتيمترات. وقالت: «إذا كنت أفهم فرضيتك فإن رحلتنا الحالية ستنتهي عند نجم تاو سيتي.»

أومأ ريتشارد برأسه. وقال: «إن المسار مثاليٌّ بصورةٍ تمنع احتمال أن يكون ذلك مصادفة. سنصل إلى تاو سيتي بعد خمسة عشر عامًا تقريبًا، وأعتقد أن تجربتنا ستصل إلى نهايتها.»

امتعضَت نيكول وهي تقول: «إنني عجوز بالفعل. وإن كنت لا أزال على قيد الحياة حينها فسأكون مليئةً بالتجاعيد كالبرقوق المجفف … بدافع الفضول أود أن أسألك ماذا سيحدث عندما «تصل تجربتنا إلى نهايتها» كما تقول؟»

«نحتاج في هذا الصدد أن نطلق لخيالنا العنان … أعتقد أنهم لن يجعلونا نغادر راما، لكن ما سيحدث لنا بعد ذلك أمر غير معلوم تمامًا … أظن أن مصيرنا سيعتمد بطريقة ما على ما لاحظوه طوال هذا الوقت …»

«إذن فأنت تتفق معي تمامًا أن الرجل النسر ورفاقه في النود كانوا يراقبوننا؟»

«بالطبع. استثمروا استثمارًا ضخمًا في هذا المشروع … وأنا واثق أنهم يراقبون كل شيءٍ يحدث هنا على متن راما … ويجب أن أعترف أنني مندهش أنهم تركونا وشأننا تمامًا، ولم يتدخلوا في شئوننا قط، لكن من المؤكد أن هذا هو أسلوبهم.»

لزمت نيكول الصمت لبضع ثوانٍ. ولعبت وهي شاردة الذهن بالكرة الحمراء إلى جوارها، التي أخبرها ريتشارد أنها تمثل النجم إبسيلون إندي. ثم قالت بحزن: «إن القاضي بداخلي يخشى ما يمكن أن يقرِّره أي مخلوقٍ فضائي عاقل بشأن مصيرنا، بناءً على سلوكنا في عدن الجديدة.»

هزَّ ريتشارد كتفَيه وقال: «لم نتصرَّف في راما بصورةٍ أسوأ مما كنا عليه على الأرض لقرونٍ طويلة … إلى جانب أنني لا أستسيغ فكرة أن مخلوقاتٍ فضائيةً متقدمة ستصدر مثل هذه الأحكام غير الموضوعية. إذا كانت عملية مراقبة الكائنات التي تعيش في الفضاء مستمرة منذ عشرات آلاف السنين، كما قال الرجل النسر، فمن المؤكَّد أن سكان راما وضعوا مقاييس لتقييم مختلف جوانب الحضارات التي يصادفونها … وأنهم على الأرجح مهتمُّون بصورةٍ أكبر بطبيعتنا، وما تعنيه على نطاق أوسع من تحديد ما إذا كنا صالحين أم طالحين.»

قالت نيكول بحزن: «أعتقد أنك محق. لكن من المحبط أن نتصرف — أعني جنسنا — ببربرية، مع علمنا التام أننا نخضع للمراقبة.» وصمتَت قليلًا وفكرت مليًّا، ثم قالت: «إذن أترى أن علاقتنا الطويلة مع سكان راما التي بدأت بظهور مركبة الفضاء الأولى قبل مائة عام؛ شارفت على الانتهاء؟»

أجابها ريتشارد: «هذا ما أظنه. في مرحلة ما في المستقبل، على الأرجح عندما نصل إلى تاو سيتي سينتهي دورنا في هذه التجربة. وتخميني أنه بعد إدخال كل البيانات الخاصة بالكائنات الموجودة حاليًّا داخل راما، في «قاعدة البيانات الضخمة الخاصة بالمجرات» سيتم إفراغ راما تمامًا. ومن يدري ربما تظهر هذه المركبة الفضائية الأسطوانية الضخمة بعدها في نظام كوكبي آخر؛ حيث تعيش كائنات فضائية أخرى، وتبدأ دورة جديدة.»

«وهذا يُعيدنا إلى سؤالي السابق الذي لم تُجِب عليه في الواقع … ماذا سيحدث لنا حينها؟»

«ربما سنُرسل نحن أو ذريتنا في رحلة بطيئة إلى الأرض … أو ربما سيعتبروننا كائناتٍ يمكن الاستغناء عنها بعد جمع كل البيانات.»

«لا أجد أيًّا من الإجابتَين جذابة. ويجب أن أقول إنه مع أنني أوافقك الرأي أننا نتجه نحو تاو سيتي، فإنني أشعر أن باقي فرضيتك تخمين ليس إلا.»

ابتسم ريتشارد وقال: «تعلمت الكثير منكِ يا نيكول … كل جزءٍ آخر من فرضيتي يعتمد على الحدس. وحدسي يخبرني بأنها صحيحةٌ بناءً على كل ما عرفته عن سكان راما.»

«لكن ألَا يبدو لك أنه من المنطقي أكثر أن نتخيَّل أن سكان راما لديهم محطات متناثرة في جميع أنحاء المجرة، وأن أقرب محطتَين لنا هما نجما الشعرى اليماني وتاو سيتي؟»

أجابها ريتشارد: «هذا صحيح، لكن حدسي يُنبئني أن هذا غير وارد. كان النود بناءً هندسيًّا مهيبًا. فإذا كانت هناك أماكن مشابهة كل عشرين سنةً ضوئيةً تقريبًا في المجرة، فمن المؤكد أن هناك المليارات منها … وتذكري أن الرجل النسر قال بثقةٍ إن النود بإمكانه التحرُّك.»

أقرت نيكول في قرارة نفسها أنَّ من غير المحتمل بناءَ مليارات النسخ من بناء مذهل مثل النود في نطاق عملية كونية ضخمة. كانت فرضية ريتشارد تبدو منطقية. وفكرت نيكول في نفسها: «كم من المؤسف أن تكون البيانات الخاصة بنا في قاعدة بيانات المجرة تحتوي على هذا القدر من المعلومات السلبية.»

ثم سألَت نيكول بعد مرور دقيقة: «إذن ما دور المخلوقات الطائرة واللاسويقية وأصدقائنا القدامى كائنات الأوكتوسبايدر في السيناريو الذي وضعته؟ هل هم أيضًا جزء من التجربة نفسها، مثلنا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل تعتقد أيضًا أن هناك مستوطنةً من الأوكتوسبايدر على متن راما، وأننا لم نقابل سكانها بعد؟»

مرة أخرى أومأ ريتشارد برأسه. وقال: «لا مفرَّ من التوصُّل إلى هذا الاستنتاج. إذا كانت المرحلة النهائية من كل تجربةٍ هي مراقبة عينة من المخلوقات الفضائية في ظروفٍ متحكم فيها، فمن المنطقي أن تكون كائنات الأوكتوسبايدر هنا أيضًا …» وضحك بعصبية. ثم استأنف حديثه قائلًا: «بل من المحتمل أن يكون أيضًا بعض أصدقائنا من مركبة راما الثانية هنا معنا، على متن راما في هذه اللحظة.»

قالت نيكول وهي تبتسم: «يا لها من مجموعة أفكار جميلة تشغل ذهن المرء قبل الخلود إلى النوم! إذا كان ما تقوله صحيحًا فأمامنا خمس عشرة سنة أخرى نقضيها على متن مركبة فضائية مأهولة، ليس فقط ببشر يريدون القبض علينا وقتلنا، لكن أيضًا بكائنات عنكبية ضخمة في الأغلب عاقلة لا ندرك طبيعتها.»

فقال ريتشارد وابتسامة عريضة تعلو وجهه: «تذكري أنني ربما أكون مخطئًا.»

نهضت نيكول وسارت نحو الباب.

فسألها ريتشارد: «إلى أين أنت ذاهبة؟»

فقالت وهي تضحك: «إلى فراشي. بدأت أشعر بصداع. يمكنني التفكير في اللانهاية لوقت محدود فقط.»

٦

في الصباح التالي عندما فتحت نيكول عينَيها، كان ريتشارد يقف إلى جوارها يحمل حقيبتَي ظهر ممتلئتَين. وقال لها بسعادة: «سنخرج للاستكشاف والبحث عن كائنات الأوكتوسبايدر خلف الحاجز الأسود … تركت طعامًا وماءً يكفيان تامي وتيمي ليومَين، وبرمجت جان وإليانور أن تجدانا إذا طرأ شيء.»

راقبت نيكول زوجها بتركيز أثناء تناولها إفطارها. كانت عيناه مليئتَين بالحيوية والطاقة. وقالت لنفسها بسعادة: «هذا هو ريتشارد الذي أعرفه. لطالما كانت المغامرات هي الشيء الأهم في حياته.»

قال ريتشارد عندما حنيا رأسَيهما للمرور أسفل الحاجز: «حضرت إلى هنا مرتَين. لكنني لم أصل قطُّ إلى نهاية الممر الأول.»

أُغلق الحاجز خلفهما تاركًا ريتشارد ونيكول غارقَين في الظلام. فسألت نيكول وهما يتفقدان مصباحَيهما الكهربيَّين: «لا توجد مشكلة إذا علقنا في هذا الجانب، أليس كذلك؟»

أجابها ريتشارد: «على الإطلاق؛ فالحاجز لن يرتفع أو ينخفض أكثر من مرة واحدة كل دقيقة تقريبًا. لكن إذا كان هناك أيُّ شخص أو أيُّ شيء في هذه المنطقة العامة على مدار دقيقة من الآن، فسيرتفع الحاجز تلقائيًّا مرة أخرى.»

ثم استأنف بعد بضع ثوانٍ: «والآن يجب أن أحذركِ قبل أن نبدأ السير، إنه ممر طويل للغاية. سرت فيه من قبل مسافة كيلومتر تقريبًا ولم أصل إلى شيء على الإطلاق. ولم أجد طريقًا جانبيًّا. ولا يوجد به ضوء نهائيًّا. لذا فالجزء الأول من الرحلة سيكون مملًّا للغاية، لكن لا بد أن يؤدِّي إلى شيءٍ في نهاية المطاف؛ لأن الكائنات الآلية التي تُحضر لنا المؤن تسلك، ولا ريب، هذا الطريق.»

أمسكت نيكول بيدَيه. وقالت بهدوء: «تذكَّر يا ريتشارد أننا لم نعُد شبابًا كما كنا.»

سلط ريتشارد ضوء مصباحه أولًا على شعر نيكول الذي تحوَّل بأكمله إلى اللون الرمادي، ثم على لحيته الرمادية. وقال بسعادة: «لسنا إلا شخصَين هرمَين مزعجَين، أليس كذلك؟»

أجابته نيكول وهي تضغط على يدَيه: «تحدَّث عن نفسك.»

كان الممر أطول بكثير من كيلومتر، فظل ريتشارد ونيكول يتحدثان وهما يشقان طريقهما عن التجارب المذهلة التي مر بها ريتشارد في الموطن الثاني. فقال ريتشارد: «ارتعدت فرائصي حقًّا عندما فُتح باب المصعد، ورأيت كائنات القطنمل للمرة الأولى.»

كان ريتشارد قد انتهى من إخبار نيكول عن المدة التي مكث فيها مع المخلوقات الطائرة، ووصل إلى النقطة التي هبط فيها إلى أسفل الأسطوانة. كان يحكي لها قائلًا: «كدت أتجمد من الخوف بكل ما تحمله الكلمة من معنًى. كانا على بعد ثلاثة أو أربعة أمتار مني. وكلاهما يحدق فيَّ. وكان السائل الهلامي في عيونهما السفلى الضخمة بيضاويةِ الشكل يتحرَّك من جانبٍ لآخر، بينما انثنَت أزواج العيون الموجودة بالأعلى على سيقانهما هنا وهناك؛ كي تراني من زاوية أخرى.» انتفض جسد ريتشارد وهو يقول: «لن أنسى تلك اللحظة أبدًا.»

بعد بضع دقائق، قالت نيكول وهما يقتربان ممَّا بدا أنه تفرَّع من الممر تحت الأرض: «الآن دعني أتأكد أنني أفهم الأمر جيدًا من الناحية البيولوجية. تنمو كائنات القطنمل في بطيخ المَن وتعيش حياةً قصيرةً نوعًا ما، لكنها مفعمة بالنشاط، ثم تموت داخل أحد الكائنات اللاسويقية؛ حيث — طبقًا لنظريتك — تُضاف بطريقةٍ ما جميع تجارب حياتها إلى قاعدة المعرفة العصبية للشبكة. وتكتمل دورة الحياة عندما ينمو بطيخ المَن الجديد داخل الكائنات اللاسويقية. ثم تجمع مجموعات القطنمل النشطة أفراخ هذه الكائنات في الوقت المناسب.»

أومأ ريتشارد برأسه. وقال: «قد لا يكون هذا ما يحدث بالضبط، لكنه قريب مما يحدث بالفعل.»

«إذن فنحن لا ينقصنا إلا معرفة مجموعة الظروف اللازمة؛ كي يبدأ بطيخ المن عملية النمو؟»

أجابها ريتشارد: «كنت آمل أن تساعدينني في حل هذا اللغز. ففي النهاية أنت الوحيدة يا دكتورة، التي تلقيتِ تعليمًا رسميًّا في مجال علم الأحياء.»

تفرع الممر إلى ممرَّين، كل منهما يكوِّن مع الممر الطويل المستقيم البادئ من مخبئهما؛ زاوية قياسها خمس وأربعون درجة. فسأل ريتشارد مبتسمًا وهو يُوجِّه مصباحه الكهربي في الاتجاهَين: «أي طريقٍ نسلك يا رائدة الفضاء نيكول دي جاردان؟» لم يكن في أيهما سمة تميزه عن الآخر.

قالت نيكول بعد بضع ثوانٍ، فور أن رسم ريتشارد خريطة موجزة على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به: «دعنا نسلك الممر الأيسر أولًا.» وبعد أن سارا في الممر الأيسر بضع مئات الأمتار بدأ يتغير. إذ اتسع الممر ليصبح منحدرًا هابطًا إلى الأسفل يلتف حول عمودٍ سميكٍ للغاية، وينزل على الأقل مائة متر متوغلًا في هيكل راما. وفي طريقهما للأسفل تمكَّن ريتشارد ونيكول من رؤية ضوءٍ تحتهما. وفي الأسفل وجدا قناةً طويلةً واسعةً لها ضفتان فسيحتان منبسطتان. وإلى يسارهما رأيا سلطعونَين آليين يهربان مبتعدَين على الجانب الآخر من القناة، ورأيا جسرًا بعيدًا خلف الكائنَين الآليين. وإلى يمينهما كان هناك مركب يبحر في القناة محملًا تمامًا بأغراضٍ متنوعةٍ غير معروفة رمادية وسوداء وبيضاء، متجهًا إلى وجهةٍ ما في عالم ما تحت السطح.

استطلع ريتشارد ونيكول المشهد حولهما ثم نظر أحدهما إلى الآخر. وقال ريتشارد وهو يضحك ضحكة قصيرة: «عدنا إلى بلاد العجائب يا أليس. لمَ لا نتناول وجبةً خفيفةً بينما أُدخل بيانات هذه المنطقة في جهازي الذي أثق به؟»

أثناء تناولهما الطعام، اقتربت حشرة آلية متعددة الأرجل تقف على نفس الجانب الذي يقفان عليه من القناة، ووقفَت قليلًا كما لو أنها تدرسهما ثم مرَّت بهما. وصعدت المنحدر الذي هبطه ريتشارد ونيكول لتوهما. فسألت نيكول ريتشارد: «هل رأيت أي سلطعونات أو كائنات آلية متعددة الأرجل في الموطن الثاني؟»

فأجابها ريتشارد: «كلا.»

فقالت: «ألم نتعمَّد عدم وضعها في خططنا الخاصة بعدن الجديدة؟»

ضحك ريتشارد. وقال: «هذا ما فعلناه حقًّا. إذ أقنعتني أنا والرجل النسر أن البشر العاديين لن يتمكنوا من التعامل معها بسهولة.»

فسألته نيكول: «إذن هل يشير وجودها هنا إلى وجود موطن ثالث؟»

فأجاب: «هذا احتمال وارد. فبالرغم من كل شيءٍ ليست لدينا أدنى فكرةٍ عما يوجد الآن في نصف الأسطوانة الجنوبي. ولم نرَه منذ أن جرى تطوير راما. لكنَّ هناك تفسيرًا آخر أيضًا. دعينا نفترض أن السلطعونات ومتعددات الأرجل وكائنات راما الآلية الأخرى تعيش في المركبة كلها، إذا كنت تفهمين ما أعني. فربما تعمل في جميع أجزاء راما وعلى جميع رحلاتها، ما لم يرفض أحد الكائنات الفضائية وجودها تحديدًا.»

بعدما انتهى ريتشارد ونيكول من تناول الغداء، ظهر مركب بضائع آخر إلى يسارهما. وكان محملًا كسابقه بأكوامٍ من الأشياء البيضاء والسوداء والرمادية. فقالت نيكول: «هذه الأشياء تختلف عن السابقة. فهذه الأكوام تذكرني بقطع غيار الكائنات الآلية المتعددة الأرجل، التي كانت مخزنة في الحفرة التي سقطت فيها.»

فقال ريتشارد وهو يقف على قدمَيه: «قد تكونين محقَّة. دعينا نَسِر بمحاذاة القناة ونرَ إلى أين تقودنا.» ثم ألقى نظرةً حوله، في البداية على السقف المقوس على ارتفاع عشرة أمتارٍ فوق رأسَيهما، ثم على المنحدر خلفهما. وقال: «إذا لم أكن قد أخطأت في حساباتي أو كان البحر الأسطواني أعمق مما أظن، فإن هذه القناة تجري من الجنوب إلى الشمال تحت البحر نفسه.»

فسألته نيكول: «إذن فتتبُّع المركب سيعيدنا أسفل نصف الأسطوانة الشمالي؟»

أجابها ريتشارد: «أعتقد هذا.»

•••

سار ريتشارد ونيكول بمحاذاة القناة لأكثر من ساعتَين. وطوال رحلتهما لم يريا شيئًا جديدًا ما عدا ثلاث عناكب آلية تتحرك كفريق مسرعة على الضفة الأخرى من القناة. ومر بهما مركبان آخران يحملان نفس الأشياء غير المحددة، وقابلا على أوقاتٍ متقطعةٍ سلطعونات ومتعددات أرجل آلية، لكن دون أن يحدث أيُّ احتكاك. ورأيا في طريقهما جسرًا واحدًا آخر فوق القناة.

ارتاح ريتشارد ونيكول مرتين، شربا خلالهما الماء أو تناولا وجبةً خفيفة وهما يتجاذبان أطراف الحديث. وفي الاستراحة التالية اقترحت نيكول أن يعودا أدراجهما. نظر ريتشارد إلى ساعته وقال: «دعينا نستمر لساعةٍ واحدة أخرى. وإذا كان إحساسي بالمكان صحيحًا، يجب أن نكون أسفل نصف الأسطوانة الشمالي الآن. وسنجد آجلًا أو عاجلًا إلى أين تأخذ المراكب كل هذه الأشياء.»

كان ريتشارد محقًّا. فبعد أن سارا كيلومترًا آخر على ضفة القناة، رأى ريتشارد ونيكول بناءً خماسيًّا كبيرًا على بعد. وعندما اقتربا منه قليلًا رأيا أن القناة تتدفق مباشرة إلى وسط المبنى الخماسي. كان البناء نفسه — الذي تمر القناة عبره — يبلغ ارتفاعه ستة أمتار. وكان له سطحٌ مستوٍ ولا توجد به نوافذ، ولونه من الخارج أبيض. ويمتد كل جزءٍ من أجزائه أو أجنحته الخمسة مسافة عشرين أو ثلاثين مترًا من منتصف البناء.

انتهى الممر المحاذي للقناة بسلمٍ يؤدي صعودًا إلى ممرٍّ ضيقٍ يُحيط بالبناء كلِّه. كان هناك شكلٌ مشابهٌ في الجانب الآخر من القناة، وحينها كانت إحدى الكائنات المتعددة الأرجل تستخدم الممرَّ الضيق المحيط بالبناء كجسرٍ للانتقال من أحد جانبَي القناة إلى الآخر.

سألت نيكول ريتشارد وهما يفسحان المجال للكائن الآلي كي يمر: «إلى أين تظنه ذاهبًا؟»

أجابها ريتشارد: «ربما إلى نيويورك. إذ كنت في بعض الأحيان أرى أحدها في نزهاتي الطويلة سيرًا على الأقدام، قبل أن يُفقَس الفرخَان.»

وقفا معًا خارج الباب الوحيد للبناء الخماسي، الذي كان بجوار البناء على الجانب المواجه للقناة. وقالت نيكول: «أظن أننا سندخل، أليس كذلك؟»

أومأ ريتشارد برأسه ودفع الباب الصغير ليفتحه. وانحنت نيكول ودخلت المبنى. وجد ريتشارد ونيكول نفسَيهما في حجرةٍ ضخمةٍ جيدة الإضاءة، ربما يبلغ إجمالي مساحتها ألف متر مكعب، ويرتفع سقفها عن الأرض خمسة أمتار. كان الممر الذي يسيران فيه يرتفع فوق الأرض بمترَين أو ثلاثة؛ لذا تمكَّن ريتشارد ونيكول من رؤية معظم الأنشطة التي تحدث تحتهما. فكان هناك عمالٌ آليون لم يرياهما من قبل — كلٌّ منهم مصمم للقيام بمهمة محددة — يفرغون المركبَين في الغرفة، ويفصلون الحمولة وفقًا لخطة محددة مسبقًا. كان العديد من الأجزاء يوضع على شاحناتٍ آليةٍ اختفَت بعد أن عبرت أحد الأبواب الخلفية فور تحميلها.

بعد بضع دقائق من المراقبة، استأنف ريتشارد ونيكول سيرَهما في الممر إلى حيث تقاطع مع ممر آخر فوق منتصف الغرفة مباشرة. وقف ريتشارد وأدخل بعض الملاحظات على جهاز الكمبيوتر. ثم قال لنيكول: «أعتقد أن هذا التصميم بسيط كما يبدو. يمكننا إما أن نتجه يمينًا أو يسارًا، وكل طريق سيقودنا إلى جناح مختلف من أجنحة هذا البناء الخماسي.»

اختارت نيكول الممر الأيمن؛ لأن الشاحنات الآلية، التي اعتقدت أنها تحمل أجزاء الكائنات المتعددة الأرجل، ذهبت في ذلك الاتجاه. وكانت ملاحظتها دقيقة بالفعل. فبعد ولوج ريتشارد ونيكول الغرفة الثانية التي كانت تماثل في حجمها الغرفة الأولى بالضبط، أدركا أنه يجري تصنيع سلطعون آلي ومتعددة أرجل آلية على الأرضية في الأسفل. فتوقفا ليراقبا العملية لعدة دقائق.

ثم قال ريتشارد وهو ينهي الرسم البياني لمصنع الكائنات الآلية الذي يدخله على الكمبيوتر: «مذهل حقًّا. هل أنت مستعدة للانطلاق؟»

وفور أن استدار ريتشارد لمواجهة نيكول رأت عينَيه وقد اتسعتا. ثم قال بهدوءٍ بعد ثانية واحدة: «لا تنظري الآن، لكن لدينا رفقة.»

استدارت نيكول ونظرت خلفها. فرأت في الجانب الآخر من الغرفة خلفهما على الممر بأربعين مترًا؛ اثنَين من كائنات الأوكتوسبايدر يقتربان منهما ببطء. لم يكن ريتشارد ونيكول قد سمعا صوتهما المميز الذي يشبه صوت جر فُرش معدنية؛ بسبب الضوضاء الصادرة من مصنع الكائنات الآلية.

وقف كائنا الأوكتوسبايدر عندما أدركا أن البشريَّين لاحظا وجودهما. كان قلب نيكول ينبض بقوة. وتذكرت بوضوح آخر مرة قابلت فيها كائنات الأوكتوسبايدر، عندما أنقذت كيتي من مخبئها في مركبة راما الثانية. وكان الشعور الذي سيطر عليها حينذاك — وفي هذه اللحظة — هو الرغبة في الهرب.

أمسكت بيد ريتشارد وحدق كلاهما في الكائنات الغريبة. وهمست: «هيا بنا.»

فأجابها ريتشارد: «أشعر بالخوف مثلك تمامًا، لكن دعينا لا نغادر بهذه السرعة. فإنها لا تتحرك. وأريد أن أرى ماذا ستفعل.»

ركَّز ريتشارد على الأوكتوسبايدر الذي يقف في المقدمة، ورسم في ذهنه صورةً دقيقةً له. كان الجزء الأساسي من جسده كرويًّا رماديًّا قاتمًا، يبلغ قطره مترًا تقريبًا، وكان عديم الملامح ما عدا شقًّا رأسيًّا عرضه عشرون أو خمسة وعشرون سنتيمترًا من أعلى الجسم إلى أسفله، حيث يتفرع الجسد إلى ثماني لوامس سوداء وذهبية تمتد على الأرض، يبلغ طول كلٍّ منها مترَين. وداخل الشق الرأسي كان هناك الكثير من العقد والتجاعيد — ففكَّر ريتشارد: «من المؤكد أنها مجسات» — أكبرها عدسة كبيرة مستطيلة الشكل تحتوي على سائل.

وبينما حملق كلٌّ من الفريقَين في الآخر، ظهر لون أرجواني فاتح على هيئة شريط عريض حول «رأس» الأوكتوسبايدر الذي في المقدمة. كان الشريط ينبثق من أحد الطرفَين المتوازيَين للشق الرأسي. ويدور حول الرأس دورةً كاملةً ثم يختفي عند الحافة المقابلة للشق. تبع ظهورَ الشريط ببضع ثوانٍ ظهورُ سلسلةٍ معقدةٍ من الشرائط؛ بعضها أحمر وبعضها أخضر وبعضها أبيض، وقطعت هذه السلسلة الرحلة نفسها السابقة حول رأس الأوكتوسبايدر.

قالت نيكول بعصبيةٍ لريتشارد: «هذا بالضبط ما حدث عندما واجهت أنا وكيتي كائنات الأوكتوسبايدر. وقالت حينها إنها كانت تتحدث إلينا.»

فأجاب ريتشارد: «لكن ليس بإمكاننا على الإطلاق معرفةُ ما تقول. وحقيقة أن بإمكانها التحدث لا تعني على الإطلاق أنها لن تؤذينا …» وبينما استمرَّت كائنات الأوكتوسبايدر في التحدُّث بالألوان، تذكر ريتشارد فجأةً حادثةً وقعَت قبل سنوات، أثناء مغامرته في مركبة راما الثانية. حينها كان يرقد على منضدةٍ محاطًا بخمسة أو ستة كائناتٍ من الأوكتوسبايدر، تغطِّي رءوسها جميعًا أنماط ملونة. وتذكَّر ريتشارد بوضوحٍ الرعب الشديد الذي شعر به، وهو يشاهد مجموعةً من الكائنات الصغيرة التي تتحكَّم فيها كائنات الأوكتوسبايدر تزحف إلى داخل أنفه.

بدأ رأس ريتشارد يدور عندما تذكر الألم. وقال لنيكول: «لم تكن لطيفة معي في السابق. عندما …»

وفي تلك اللحظة فُتح باب في أقصى الغرفة، ودخل منه أربعة كائنات أوكتوسبايدر أخرى. فقال ريتشارد وهو يشعر بتوتر نيكول الواقفة إلى جواره: «هذا يكفي، أعتقد أنه حان الوقت لنخرج من هنا.»

سار ريتشارد ونيكول بسرعةٍ إلى منتصف الغرفة؛ حيث كان الممر يلتقي — كما في الغرفة السابقة — بالطريق الذي يقود إلى خارج البناء. واستدارا متجهَين للخارج لكن توقَّفا بعد خطواتٍ قليلة. فقد رأيا أربعة كائنات أوكتوسبايدر أخرى قادمة من ذلك الباب أيضًا.

لم يكن الأمر يحتاج إلى تفكير. على الفور استدار ريتشارد ونيكول وعادا إلى الممر الداخلي الرئيسي، واندفعا في اتجاه الجناح الثالث من البناء الخماسي. لكنهما ركضا هذه المرة دون أن يلتفتا إلى الخارج حتى أصبحا في الجناح الرابع. لكن ذلك الجزء كان يخيم عليه الظلام. فأبطآ الخُطى حتى يُخرج ريتشارد مصباحه الكهربي ويفحص المكان. كان بالمكان معداتٌ تبدو متطورة موضوعة على الأرض أسفلهما، لكن لا وجود لأي نشاطٍ من أي نوع.

سأل ريتشارد نيكول وهو يُعيد مصباحه إلى جيب قميصه مرة أخرى: «هل نجرب الخروج مرة أخرى؟» وعندما رآها تُومئ برأسها أمسك يدها، وركضا في اتجاه تقاطع الطرق، حيث انعطفا يمينًا وخرجا من البناء الخماسي تمامًا.

بعد بضع دقائق، كانا يركضان في ممرٍّ مظلمٍ في منطقةٍ غير معروفة على الإطلاق. وكان التعب قد تملك منهما. وكانت نيكول تواجه صعوبةً في التقاط أنفاسها. فقالت: «ريتشارد، إنني بحاجة إلى بعض الراحة. لا يمكنني مواصلة الركض.»

سار ريتشارد ونيكول في الممر الخاوي لمسافة خمسين مترًا أخرى. ثم رأيا بابًا إلى يسارهما. ففتحه ريتشارد بحذر، وحدَّق بالداخل ثم تفحَّص الغرفة بمصباحه الكهربي. وقال: «لا بد أنها غرفة تخزين من نوع ما. لكنها خاويةٌ في الوقت الحالي.»

دخل ريتشارد الغرفة، وألقى نظرة عبر بابها الخلفي على غرفة أخرى فارغة أيضًا، ثم عاد إلى نيكول. جلس الاثنان يسندان ظهرَيهما إلى الحائط. ثم قالت نيكول بعد بضع ثوانٍ: «عندما نعود إلى المخبأ يا عزيزي، أريدك أن تساعدني في فحص قلبي. إذ تنتابني آلام غريبة مؤخرًا.»

فسألها ريتشارد ونبرة صوته تعكس قلقه: «هل أنت بخير الآن؟»

فأجابته: «نعم.» وابتسمت في الظلام وقبلت زوجها. ثم قالت: «أنا بخيرٍ كأي شخصٍ نجا بأعجوبةٍ من سربٍ من كائنات الأوكتوسبايدر.»

٧

نامت نيكول نومًا متقطعًا وظهرها مستند إلى الحائط ورأسها على كتف ريتشارد. وداهمها كابوس تلو الآخر، فكانت تستيقظ فزعةً ثم تعود إلى نومها مرةً أخرى. في الكابوس الأخير كانت نيكول على جزيرةٍ وسط المحيط ومعها جميع أبنائها. ورأت موجة مدٍّ عاتية تتجه إليهم. اضطربت نيكول بشدة لأن أبناءها كانوا متفرقين في جميع أرجاء الجزيرة. فكيف يمكنها إنقاذهم جميعًا؟ فانتفضت من نومها مستيقظة.

وكزت زوجها في الظلام. وقالت له: «استيقظ يا ريتشارد. ثمة شيء ليس على ما يرام.»

في البداية لم يتحرك ريتشارد. لكن عندما لمسته نيكول مرة ثانية فتح عينَيه ببطء. وقال: «ما الأمر؟»

قالت: «لديَّ إحساس أننا لسنا بأمان هنا. أعتقد أنه يجب علينا الرحيل.»

فأشعل ريتشارد مصباحه الكهربي وأداره في أرجاء الغرفة ببطء. ثم قال بهدوء: «لا أحد هنا. ولا أسمع صوت أي شيءٍ أيضًا … ألا تعتقدين أننا في حاجةٍ إلى المزيد من الراحة؟»

تزايدَت مخاوف نيكول وهما يجلسان في صمت. ثم قالت في النهاية: «لا يزال لديَّ إحساسٌ بأننا في خطرٍ يا ريتشارد. أعلم أنك لا تصدق ما لا يمكنك تحليله، لكنني تعلمت أن أصدِّق مخاوفي.»

قال ريتشارد بفتور: «حسنًا.» ثم وقف واجتاز الغرفة وفتح الباب الخلفي الذي قاده إلى منطقةٍ مجاورةٍ مشابهة. وألقى نظرةً بداخلها. ثم قال بعد عدَّة ثوانٍ: «لا شيء هنا أيضًا.» ثم عاد ريتشارد إلى الغرفة وفتح الباب المؤدي إلى الممر الذي استخدماه في الهروب من البناء الخماسي. وفي اللحظة التي فُتح فيها الباب، سمع هو ونيكول الصوت الذي لم تخطئه آذانهما؛ صوت جر فُرش على الأرض.

هبَّت نيكول واقفةً على قدمَيها. وأغلق ريتشارد الباب دون أن يصدر أي صوت، وهرع إلى جوارها. وهمس: «هيا بنا. لا بد أن نعثر على مخرج آخر.»

سارا معًا إلى الغرفة التالية، ثم التالية والتالية. كانت جميعها مظلمة وخاوية. فقدا الإحساس بالاتجاهات وهما ينطلقان في المنطقة التي لم تكن مألوفة. وفي نهاية المطاف، وصلا إلى باب ضخم ذي مصراعَين في الجانب الأقصى من إحدى الغرف المتشابهة. طلب ريتشارد من نيكول أن تتراجع بينما يفتح باب الغرفة بحرص. لكن فور أن نظر إلى داخل الغرفة قال بذهول: «عجبًا. ما هذا؟»

وقفت نيكول بجوار ريتشارد، وتتبعت عيناها شعاع المصباح الكهربي وهو يسقط على المحتويات الغريبة للغرفة المتاخمة. كانت الغرفة مليئةً بأغراضٍ ضخمة متراكمة بغير نظام. أقربها إلى الباب كان يشبه أميبا ضخمة على لوح تزلج. يليها ما يشبه كرة عملاقة من الجدائل يبرز من منتصفها قرنا استشعار. لم يكن هناك أيُّ صوت أو حركة في الغرفة. فرفع ريتشارد مصباحه الكهربي إلى مستوًى أعلى، ودار به بسرعةٍ في باقي أرجاء الغرفة المزدحمة.

فجأةً قالت نيكول بانفعال عندما وقعت عيناها على شيءٍ مألوف: «عُد إلى هناك. بضعة أمتارٍ إلى يسار الباب الآخر.»

بعد ثوانٍ قليلة، سقط ضوء المصباح على أربعة أشكالٍ تشبه البشر ترتدي خوذاتٍ وحُللًا فضائية، وتجلس مستندة إلى الحائط في الجانب الأقصى. فقالت نيكول بانفعال: «هؤلاء هم البشر الآليُّون الذين رأيناهم على متن مركبة راما الثانية في السهل الرئيسي.»

سرت القشعريرة في جسد ريتشارد. وسألها مذهولًا: «نورتون ورفاقه؟»

أجابَته نيكول: «أراهن أنهم هم.»

دخل ريتشارد ونيكول الغرفة ببطء، وسارا على أصابع أقدامهما حول الأغراض الكثيرة في طريقهما إلى الأجسام المقصودة. جثا ريتشارد ونيكول على ركبتَيهما بجوار ما بدا أنه أربعة بشريين. وقالَت نيكول بعد أن تأكَّدا أن الوجه خلف الخوذة الشفافة يُشبه بالفعل وجه القائد نورتون، الذي قاد بعثة راما الاستكشافية الأولى: «لا بد أن هذا المكان هو مقلب نفايات الكائنات الآلية.»

وقف ريتشارد وهو يهز رأسه في استنكار. وقال: «هذا أمر لا يصدق على الإطلاق. ماذا تفعل هذه الأشياء هنا؟» ودار بمصباحه الكهربي في أرجاء الغرفة.

بعد ثانيةٍ واحدةٍ أطلقت نيكول صرخة فزع. كان هناك كائن أوكتوسبايدر يتحرك على بعد ما لا يزيد عن أربعة أمتار منها، أو على الأقل ذاك ما تخيَّلَته في الإضاءة الغريبة. فهُرع ريتشارد إلى جوارها. وسرعان ما تحقَّقا أن ما يرياه ما هو إلا أوكتوسبايدر آلي، فتملكهما الضحك لعدة دقائق.

وبعد أن تمكنت نيكول من السيطرة على نوبة ضحكها العصبية، قالت: «ريتشارد ويكفيلد، هلا تُعيدني إلى المنزل الآن؟ رأيت ما يكفي.»

فأجابها ريتشارد مبتسمًا: «أعتقد هذا. شريطة أن نجد الطريق.»

•••

كلَّما توغَّلا أكثر وأكثر في متاهة الغرف والأنفاق في المنطقة المحيطة بالبناء الخماسي، ازداد اقتناع نيكول أنهما لن يجدا طريقهما إلى الخارج أبدًا. وآخر الأمر بدأ ريتشارد يبطئ الخطى ويحفظ معلومات على جهاز الكمبيوتر المحمول. وهكذا كان قادرًا على الأقل أن يجنبهما السير في دوائر، لكنه لم يتمكن على الإطلاق من ربط خريطته بأيٍّ من العلامات البارزة التي كانا قد رأياها، قبل أن يهربا من كائنات الأوكتوسبايدر.

عندما بدأ اليأس يتسلَّل إلى نفسَيهما، صادفا في طريقهما شاحنةً آليةً صغيرة تحمل مجموعةً غريبة من الأغراض الصغيرة في ممرٍّ ضيق. فبدأت الطمأنينة تعرف طريقها إلى نفس ريتشارد. وقال لنيكول: «تبدو هذه الأشياء كأنها مصنَّعة خصوصًا طبقًا لمواصفات وضعها شخصٌ ما، مثل الأشياء التي تصلنا في الغرفة البيضاء. إذا سرنا في الاتجاه الذي أتى منه الآلي، فقد نتمكَّن من تحديد مكان تصنيع جميع أغراضنا. ومن هناك سيكون من السهل إيجاد طريقٍ إلى مخبئنا.»

كانت الرحلة طويلة. وكانت قواهما قد خارَت بالفعل عندما اتسع الرواق الذي يسيران فيه بعد عدَّة ساعاتٍ من السير، وتحوَّل إلى ساحة مصنع ضخمة ذات سقف عالٍ. وفي منتصف المصنع كان هناك اثنتا عشرة أسطوانةً ضخمة أشبه بالمراجل القديمة التي كانت تُستخدم على كوكب الأرض. كان ارتفاعُ كلٍّ منها أربعة أو خمسة أمتار، وعرضها مترًا ونصف المتر. وكانت المراجل موزعةً على أربعة صفوف من ثلاثة مراجل.

كانت السيور المتحركة — أو على الأقل ما يناظرها في راما — تدخل إلى كل مرجل وتخرج منه، وكان هناك مرجلان يعملان بالفعل في تلك اللحظة. انبهر ريتشارد بما رآه. قال وهو يشير إلى منطقةٍ واسعةٍ بالمستودع مغطاة بأكوامٍ من الأغراض ذات الأشكال والمواصفات المختلفة: «انظري هناك. لا بد أن هذه هي كل المواد الخام. وما يحدث هو أنه عندما يصل الطلب إلى الكمبيوتر المركزيِّ الذي يوجد على الأرجح في ذلك الكوخ خلف المراجل، تتمُّ معالجة الطلب وإرساله لإحدى هذه الآلات. فتخرج الكائنات الآلية وتجمع المواد المناسبة وتضعها على السيور المتحركة. فتتحول هذه المواد الخام داخل المراجل، ويكون المنتج الذي يخرج هو ما جاء بالضبط في الطلب الذي أرسله الجنس العاقل، الذي استخدم لوحة المفاتيح أو ما يقابلها للتواصل مع سكان راما.»

اقترب ريتشارد من أقرب مرجل يعمل. وقال والانفعال يملؤه بالكامل: «لكن السؤال الحقيقي هو: ما نوع العملية التي تحدث داخل هذه المراجل؟ هل هي عملية كيميائية؟ أو ربما تكون نوويةً تتضمَّن تحويل عناصر إلى أخرى؟ أم إن لدى سكان راما تكنولوجيا أخرى للتصنيع تفوق إدراكنا تمامًا؟»

قرع ريتشارد عدَّة مراتٍ بقوة على الجزء الخارجي من المرجل النشط. ثم قال: «إن الجدران سميكة للغاية.» ثم انحنى حيث تدخل السيور المتحركة إلى المرجل، وبدأ يضع يده بالداخل. فصرخت نيكول وهي تقول: «ريتشارد، ألَا تعتقد أن ما تفعله حماقة؟»

رمق ريتشارد زوجته بنظرةٍ سريعةٍ وهز كتفَيه. وعندما انحنى مرة أخرى لفحص واجهة السير المتحرك، اندفع من آخر الغرفة كائن آلي غريب الشكل يشبه صندوق الكاميرا، وله أرجل تخرج من مؤخرة الصندوق الكبير. ووقف بسرعةٍ بين ريتشارد والسير المتحرك النشط، ثم تمدد في الحجم مُجبرًا ريتشارد على التراجع بعيدًا عن العملية التي تحدث.

فقال ريتشارد مستحسنًا ما حدث: «تصرف جيد.» واستدار إلى نيكول قائلًا: «يتمتع النظام بحماية فائقة من الأخطاء.»

فقالت نيكول: «ريتشارد، إذا لم يكن لديك مانعٌ فهل بإمكاننا الآن العودة إلى مهمتنا الأساسية؟ أم إنك نسيت أننا لا نعرف طريق العودة إلى مخبئنا؟»

فأجابها ريتشارد: «دعينا نمكث لبعض الوقت. فأنا أريد أن أعرف ماذا سيخرج من المرجل النشط القريب منا. ربما إذا رأينا المنتج النهائي بعد أن رأينا المدخلات، يمكنني استنتاج نوع العملية التي تفصل بين الاثنَين.»

فهزَّت نيكول رأسها وقالت: «نسيت كم أنت مدمن على المعرفة. أنت الإنسان الوحيد الذي قابلته في حياتي يتوقف ليدرس نباتًا أو حيوانًا جديدًا وهو تائه تمامًا في الغابة.»

•••

عثرت نيكول على ممرٍّ آخر طويلٍ في الاتجاه المقابل للغرفة الضخمة. وبعد ساعةٍ تمكَّنت أخيرًا من إقناع ريتشارد أن يغادر مصنع الكائنات الفضائية الذي خلب لبَّه. لم يكن لديهما وسيلةٌ ليعرفا إلى أين يقود الممر الجديد، لكنه كان أملهما الوحيد. ومرة أخرى سارا لوقتٍ طويل، وفي كل مرة كانت نيكول تشعر بالتعب أو اليأس، كان ريتشارد يرفع من معنوياتها بالإشادة بعجائب كل شيء رأياه منذ أن تركا مخبأهما.

فقال في إحدى المرات وهو لا يكاد يكبح جماح نفسه: «هذا المكان مدهش، إنه مذهل، أعجز عن تقييم ما يعنيه … لا يعيش بنو البشر وحدهم في هذا الكون، وهم غير قريبين من قمة هرم الكائنات الحية؛ من حيث الكفاءة …»

ساعدتهما حماسة ريتشارد، حتى رأيا أخيرًا وهما على وَشْك الانهيار تفرعًا في الممر. كان ريتشارد واثقًا بسبب قياس الزوايا أنهما عادا إلى الطريق الأصلي الذي تفرَّع إلى فرعَين، وكان على بعد لا يزيد عن كيلومترَين من مخبئهما. فصرخ وهو يسرع الخُطى: «مرحى.» ثم نادى نيكول وهو يشير بضوء مصباحه للأمام: «انظري، اقتربنا من المنزل.»

لكن نيكول سمعت شيئًا في تلك اللحظة جعلها تتجمَّد في مكانها. وصرخت: «ريتشارد، أطفئ المصباح.»

استدار ريتشارد نحوها بسرعة لدرجة أنه كاد يسقط وأطفأ مصباحه. وفي الثواني القليلة اللاحقة، لم يراودهما شكٌّ أن ما يسمعانه هو صوت جر فُرش معدنية على الأرض. وكان الصوت يعلو ويعلو.

فصاحَت نيكول وهي تندفع أمام زوجها وتركض هاربةً بأقصى سرعتها: «أسرع بالهرب.» وصل ريتشارد إلى نقطة تقاطع الطرق، فيما لا يزيد عن خمس عشرة ثانيةً قبل وصول أول أوكتوسبايدر. وكانت الكائنات الغريبة تخرج من القناة. وبينما كان ريتشارد يهرب منها، التفتَ وأضاء مصباحه الكهربي. فرأى في تلك اللحظة أربعة أنماط ملوَّنة تتحرَّك في الظلام.

•••

أحضر ريتشارد ونيكول كل الأثاث الذي عثرا عليه إلى الغرفة البيضاء، وأقاما حاجزًا بعرض الحاجز الأسود. ولعدة ساعات ظل ريتشارد ونيكول يراقبان وينتظران، متوقعَين أن يرتفع الحاجز في أي لحظةٍ وتغزو كائنات الأوكتوسبايدر مخبأهما. لكن لم يحدث شيء. وفي النهاية تركا جان وإليانور في الغرفة البيضاء للحراسة، وقضيا الليلة في غرفة الأطفال مع تامي وتيمي.

في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، سأل ريتشارد نيكول: «لماذا لم تتبعنا كائنات الأوكتوسبايدر؟ إنها تعلم ولا ريب أن الحاجز يرتفع تلقائيًّا. لو أنها وصلت إلى نهاية الممر …»

قاطعته نيكول بهدوء قائلة: «ربما لم ترغب في أن تخيفنا مرة أخرى.» فقطب ريتشارد جبينه ونظر إلى نيكول بحيرة. فاستأنفت حديثها قائلة: «لا نملك دليلًا قاطعًا حتى الآن على أن كائنات الأوكتوسبايدر عدوانية، مع أنك تشعر أنها أساءت معاملتك عندما كنت أسيرها في مغامرتك قبل سنوات … إنها لم تؤذِ كيتي أو تؤذِني عندما كان بإمكانها ذلك بسهولة. كما أنها أعادَتك إلينا في نهاية المطاف.»

قال ريتشارد: «كنت في ذلك الوقت في غيبوبة عميقة. ولم أكن أنفعها في شيء وهي تخضعني للاختبارات … بخلاف ذلك كيف تفسرين ما حدث لتاكاجيشي؟ أو الهجمات على الأمير هال وفولستاف؟»

ردَّت نيكول: «كل حادثٍ من هذه الحوادث له تفسيرٌ غير عدواني معقول. ولهذا فإن الأمر محير. افترض مثلًا أن تاكاجيشي مات جراء الإصابة بأزمة قلبية. وأن كائنات الأوكتوسبايدر احتفظَت بجثمانه وحنطته، لاستخدامه في تعليم كائنات الأوكتوسبايدر الأخرى … أظن أننا قد نفعل الأمر نفسه …»

سكتت نيكول لبرهة ثم تابعت: «وما تسميه اعتداءً على الأمير هال وفالستاف قد يكون مجرد سوء تفاهم … ربما دلف الآلي الصغير إلى مكانٍ شديد الأهمية، عش مثلًا، أو ما يُناظر الكنيسة لدى كائنات الأكتوسبايدر … في تلك الحالة سيكون من الطبيعي أن تدافع الكائنات عن ذلك الموقع المهم.»

قال ريتشارد بعد لحظةٍ من التردد: «أشعر بالحيرة، فها أنتِ اليوم تدافعين عن كائنات الأوكتوسبايدر، بينما ركضتِ بالأمس خوفًا منها أسرع مما ركضت أنا.»

أجابَته نيكول وهي تفكر بعمق: «نعم، أعترف أنني كنت أرتعد خوفًا. وأن غريزتي الحيوانية جعلتني أفترض أنها عدوانية ودفعتني للهرب. لكنني اليوم أشعر بخيبة أمل في نفسي. إذ إننا، نحن البشر، من المفترض أن نستخدم عقولنا للتغلُّب على ردود الفعل الغريزية … وبالأخص أنا وأنت. فبعد كل ما رأيناه على متن راما وفي النود، لا بد أن نكون محصنَين تمامًا من رُهاب الكائنات الغريبة.»

ابتسم ريتشارد وأومأ برأسه. ثم قال: «إذن أنتِ تقولين الآن بأنه من المحتمل أن كائنات الأوكتوسبايدر كانت تحاول فقط إنشاء نوعٍ من الاتصال السلمي؟»

أجابت نيكول: «ربما. لا أعلم بالضبط ما تريد، لكنني أعرف أنني لم أرها تتصرف تصرفًا عدوانيًّا صريحًا.»

حدق ريتشارد في الجدران لثوانٍ وهو شارد الذهن ثم حك جبهته. وقال: «ليتني أتذكر المزيد من التفاصيل عن الوقت الذي قضيته معها. فلا يزال ذلك الصداع الرهيب يصيبني كلما حاولت التركيز على تلك المدة من حياتي؛ وحدها ذكرياتي عن الأوكتوسبايدر، عندما كنت داخل الكائن اللاسويقي، لا تكون مصحوبةً بالشعور بالألم.»

قالت نيكول: «مر وقت طويل على مغامرتك تلك. ربما تكون كائنات الأوكتوسبايدر قادرةً على التعلُّم أيضًا، وربما تبنَّت الآن أسلوبًا مختلفًا في تعاملها معنا.»

وقف ريتشارد. وقال: «حسنًا. نجحت في إقناعي. في المرة القادمة التي نرى فيها أوكتوسبايدر لن نهرب.» ثم ضحك واستأنف: «على الأقل ليس على الفور.»

•••

مر شهر آخر لم يذهب فيه ريتشارد ونيكول خلف الحاجز الأسود، ولم يقابلا كائنات الأوكتوسبايدر ثانية. وكانا يمضيان الأيام يعتنيان بالصغيرَين (اللذَين كانا يتعلَّمان التحليق) ويتآنسان. وفي الكثير من حواراتهما تحدث ريتشارد ونيكول عن أطفالهما واستعادا ذكريات الماضي.

وفي صباح أحد الأيام حين كانت نيكول وريتشارد يسيران في أحد الميادين الثلاثة الرئيسية في نيويورك، قالت له: «أظن أننا تقدمنا في العمر.»

فأجابها ريتشارد بابتسامة عابثة: «كيف تقولين هذا؟ هل لأننا نقضي معظم وقتنا نتحدث عما حدث منذ أمدٍ بعيد، وأن مهامنا اليومية في الحمام تشغل حيزًا من اهتمامنا وطاقة أكبر من ممارسة العلاقة الحميمة؛ يعني أننا تقدمنا في العمر؟»

ضحكت نيكول وقالت: «هل الأمر سيئ إلى هذا الحد؟»

فقال ريتشارد بنبرة مازحة: «ليس إلى هذا الحد. لا تزال عاطفتي تجاهكِ متقدةً مثل عاطفة طالب في المدرسة … لكن من حينٍ لآخر تغطي الآلام التي لم أشعر بها من قبل على هذا الحب … مما يذكرني بأمر ما، ألم يكن من المفترض أن أساعدك في فحص قلبك؟»

أومأت نيكول برأسها وقالت: «نعم. لكن لا يوجد ما يمكنك القيام به. فالأدوات التي أحضرتها معي في صندوق المعدات الطبية عندما هربت، كانت السماعة وجهاز قياس الضغط. واستخدمت كليهما عدة مرات كي أفحص نفسي … لكنني لم أعثر على مؤشر غير عادي ما عدا صمامًا مثقوبًا، أما ضيق التنفس فلم يعاودني ثانية.» وابتسمت وقالت: «كان الأمر على الأرجح بسبب الانفعال الذي مررنا به … وكبر السن.»

قال ريتشارد: «لو كان زوج ابنتنا طبيب أمراض القلب هنا، لكان أجرى لكِ فحصًا شاملًا.»

وسارا معًا لعدة دقائق وهما صامتان. ثم قال ريتشارد: «تشتاقين للأولاد كثيرًا، أليس كذلك؟»

أجابت نيكول وهي تتنهد: «بلى. لكنني أحاول ألَّا أفكر فيهم كثيرًا. فأنا سعيدةٌ أنني لا أزال على قيد الحياة وأنني هنا إلى جوارك، هذا أفضل بكثيرٍ طبعًا من تلك الشهور الأخيرة التي قضيتها في السجن. لديَّ الكثير من الذكريات الجميلة عن الأولاد …»

فقال ريتشارد: «ربِّ امنحني الحكمة كي أتقبَّل ما لا أستطيع تغييره.» ثم استطرد قائلًا: «إنها إحدى أفضل صفاتك يا نيكول … لطالما كنت أحسدكِ على رباطة جأشك.»

أبطأت نيكول وتيرة سيرها. قالت في نفسها متعجبة: «رباطة جأشي؟» وتذكرت الهلع البالغ الذي انتابها بعد موت فاليري بورزوف، بعدما رست سفينة نيوتن الفضائية في راما. «لم أستطع النوم حتى أقنعت نفسي أن موته لم يكن ذنبي.» ولوهلةٍ استرجعت السنوات التي مرَّت منذ ذلك الحدث. وقالت في نفسها: «إن كنت أتمتع برباطة جأش فقد اكتسبتها مؤخرًا … فالأمومة وكبر السن يغيران نظرة المرء لنفسه وللعالم.»

وبعد بضع لحظات، صمت ريتشارد فجأة واستدار ليواجه نيكول. وقال لها وهو يعانقها بقوة: «أنا أحبكِ جدًّا.»

فسألته نيكول المتحيرة بسبب هذا الفيض المفاجئ من المشاعر: «لماذا تقول هذا؟»

شردت عينا ريتشارد. وأجابها بحماسة: «في الأسبوع الماضي اكتملت خطة مجنونة جامحة في عقلي. كنت أعلم من البداية أنها محفوفة بالمخاطر، بل مجنونة على الأرجح، لكن على غرار جميع مشروعاتي، سيطرت عليَّ بالكامل … لدرجة أنني تسلَّلت من الفراش مرتَين في منتصف الليل لوضع التفاصيل … وكنت أريد أن أخبركِ بشأنها من قبل، لكنني أردت أن أقنع نفسي أولًا أن الأمر ممكن …»

فقالت نيكول بنفاد صبر: «ليس لديَّ أدنى فكرة عما تتحدث عنه.»

أجاب ريتشارد بسعادة: «الأمر يتعلق بالأولاد. لديَّ خطة هروب لهم جميعًا، للانضمام إلينا هنا في نيويورك. وبدأت بالفعل في إعادة برمجة جان وإليانور.»

حدَّقت نيكول في زوجها ومشاعرها مختلطة. فبدأ ريتشارد يشرح لها خطة الهروب. لكنها قاطعَته بعد عدة ثوانٍ قائلة: «تمهل لحظة يا ريتشارد. هناك سؤالٌ مهمٌّ يجب أن نُجيب عنه أولًا … ما الذي يجعلك تعتقد أن أولادنا «سيرغبون» في الهروب؟ إنهم لا يواجهون تهمًا في عدن الجديدة وليسوا في السجن. صحيح أن ناكامورا طاغيةٌ وأن الحياة في المستوطنة صعبةٌ تصيب المرء بالاكتئاب، لكن على حد علمي فأولادنا يتمتَّعون بالحرية مثل أي مواطن آخر. وإذا حاولوا الانضمام إلينا وفشلوا، فستتعرَّض حياتهم للخطر … بالإضافة إلى أن الحياة التي نعيشها هنا مع أنها جيدةٌ في نظرنا، فلن تكون في نظرهم جنَّة.»

أجابها ريتشارد: «أعلم هذا … وربما دفعَتْني رغبتي في رؤيتهم إلى التخطيط لذلك … لكن ما الضرر من إرسال جان وإليانور للتحدُّث إليهم؟ إن باتريك وإيلي راشدان ويمكنهما أن يقررا لنفسَيهما.»

فسألته نيكول: «وماذا عن بينجي وكيتي؟»

عقد ريتشارد ما بين حاجبيه. وقال: «بالطبع لا يستطيع بينجي القدوم وحده؛ ومن ثم فإن قدومه يعتمد على استعداد أيٍّ من الآخرين لمساعدته. أما كيتي فهي مزعزعةٌ ولا يمكن توقُّع تصرفاتها … فمن المحتمل أن تخبر ناكامورا … أعتقد أنه ليس أمامنا خيارٌ سوى إسقاطِها من حُسْباننا …»

قالت نيكول بهدوءٍ لريتشارد ولنفسها أيضًا: «إن الأب والأم لا يفقدان الأمل أبدًا.» ثم أضافت: «هل تتضمَّن خطتك أيضًا ماكس وإيبونين؟ إنهما بمثابة أفراد العائلة.»

قال ريتشارد وقد عادت الحماسة إليه مرة أخرى: «إن ماكس في الواقع هو الشخص الأمثل لتنظيم خطَّة الهروب من داخل المستوطنة. إذ قام بعملٍ رائعٍ عندما أخفاكِ ثم أوصلكِ إلى بحيرة شكسبير، دون أن يكتشف أحدٌ أمرك. وسيحتاج باتريك وإيلي إلى شخصٍ ناضجٍ ومتعقلٍ ليساعدهما في التعامل مع تفاصيل الخطة … ووفق خطتي ستذهب جان وإليانور إلى ماكس أولًا. هو يعرف الآليتَين بالفعل ويمكنه أيضًا تقييم الخطة بموضوعية والحكم على جدواها من عدمه. إذا أخبرنا عبر الآليتين أن الخطة مستحيلة، فسنتغاضى عنها.»

حاولت نيكول أن تفكر في مدى السعادة التي ستشعر بها لحظة أن تضم أولادها إلى صدرها. لكن الأمر كان مستحيلًا. فقالت في النهاية وهي تبتسم: «حسنًا يا ريتشارد. أقر أن الأمر أثار حماستي … دعنا نتناقش فيه … لكن يجب أن نَعِد أنفسنا أننا لن نفعل شيئًا إلا بعد التيقُّن أنه لن يعرِّض أبناءنا للخطر.»

٨

استأذن ماكس باكيت وإيلي تيرنر، وتركا إيبونين وروبرت ونيكول الصغيرة بعد تناول العشاء بوقتٍ قصير، ثم سارا في الخارج باتجاه بيت مزرعة ماكس في عدن الجديدة. وفور أن أصبحا بعيدَين عن مسامع الآخرين، بدأ ماكس يُخبر إيلي عن زيارات الآليتَين الصغيرتَين الأخيرة له. ولم تصدق إيلي ما سمعته. قالت له بصوتٍ مرتفع: «لا بد أنك مخطئ. لا يمكن أن يقترحا أن نغادر هكذا بكل بساطة …»

وضع ماكس إصبعه على شفتَيه وهما يقطعان الأمتار القليلة التي تفصلهما عن الحظيرة. وقال هامسًا: «يمكنك التحدث إليهما بنفسك. لكن طبقًا لما تقوله الصغيرتان، هناك متسعٌ لنا جميعًا في المخبأ الذي عشت فيه في السنوات الأولى بعد ميلادك.»

كان الظلام يخيم على الحظيرة. وقبل أن يشعل ماكس الضوء، كانت إيلي قد لمحت بالفعل الآليتَين الصغيرتَين تومضان في الظلام إلى جوارها على إحدى حواف النافذة. وقالت لها جان الصغيرة وهي لا تزال ترتدي درعها: «مرحبًا مرة أخرى يا إيلي. إن والدكِ ووالدتكِ بخير ويرسلان تحياتهما إليك.»

أضافت الآلية إليانور: «جئنا لرؤيتكِ الليلة؛ لأن ماكس رأى أنه من الضروري أن تسمعي بنفسكِ ما جئنا لنقوله. إن ريتشارد ونيكول يدعوانك وأصدقاءك للانضمام إليهما في مخبئكم القديم في نيويورك، حيث يعيش والداكِ حياةً بسيطة وهادئة.»

وأضافت جان: «إن كل شيء في المخبأ لم يتغير منذ أن كنت طفلة صغيرة. فلا يزال سكان راما يوفرون الطعام والملبس والأشياء الأخرى بعد طلبها منهم، باستخدام لوحة المفاتيح في الغرفة البيضاء. وهناك كميةٌ غير محدودةٍ من الماء العَذْب متوفرةٌ في الصهريج بالقرب من أسفل درج الدخول.»

استمعت إيلي بسعادة وجان تذكرها بظروف المعيشة أسفل المدينة الجزيرة في الجانب الجنوبي من الموطن الثاني. وحاولت إيلي أن تستعيد شكل المخبأ في مخيلتها، لكن الصورة التي ارتسمت في ذهنها كانت مبهمةً للغاية. وما تذكرته بوضوح عن تلك المدة من حياتها هي الأيام القليلة الأخيرة التي قضَتها على متن راما، بما في ذلك حلقات الألوان المذهلة التي انبثقت من الجبل الكبير، واتجهت ببطءٍ إلى شمال الأسطوانة العملاقة. لكن ذكرياتها عن المخبأ من الداخل كانت مشوشة. فتساءلت في نفسها: «لماذا لا أتذكر على الأقل غرفة الأطفال بوضوح؟ هل لأن أحداثًا كثيرة وقعت منذ ذلك الوقت وتركت في ذاكرتي انطباعًا أقوى؟»

وتدفقت إلى عقل إيلي مجموعة من الصور من طفولتها المبكرة. وكانت بعض الصور من راما، لكن الكثير منها كان من منزل العائلة في النود. وسيطرت عليها ملامح الرجل النسر التي لا تُنسى الذي بدا لإيلي الصغيرة كإله.

ألقت إليانور الأكويتينية سؤالًا على إيلي التي لم تكن منتبهة. قالت إيلي: «أنا آسفة يا إليانور، هلَّا تُعيدين سؤالك؟ أخشى أنني غرقت لبعض الوقت في ذكريات طفولتي.»

فقالت: «إن والدتكِ تسأل عن بينجي. هل لا يزال في المستشفى في أفالون؟»

أجابتها إيلي: «نعم. وهو بخير كما هو متوقع. وأفضل صديقة له في العالم كلِّه الآن هي ناي واتانابي. عندما انتهَت الحرب تطوَّعت ناي للعمل مع أولئك الذين اختيروا — لسببٍ أو لآخر — ليكونوا نزلاء مستشفى أفالون. لذا فهي تقضي مع بينجي بعض الوقت كل يومٍ تقريبًا وتُساعده كثيرًا. وطفلاها التوءمان كيبلر وجاليليو يُحبَّان اللعب معه — فبينجي ليس إلا طفلًا كبيرًا — مع أن جاليليو يكون فظًّا في بعض الأحيان ويزعج ناي كثيرًا.»

قال ماكس معيدًا دفة الحوار إلى الموضوع الرئيسي: «كما أخبرتك، ترك ريتشارد ونيكول الأمر لنا لنقرِّر من سيشارك إذا كنا سننفذ بالفعل عملية الرحيل الجماعي. هل سيتبع بينجي التعليمات؟»

قالت إيلي: «أعتقد هذا، ما دام يثق بالشخص الذي يعطيه التعليمات. لكن من المستحيل أن نخبره بشأن الهروب قبل وقت تنفيذه. فلا يمكن أن نتوقَّع منه ألَّا يتفوَّه بكلمةٍ في هذا الشأن. السرية والدهاء ليسا من سمات شخصيته. سيطير من السعادة، لكن …»

قاطعتها جان دارك متسائلة: «سيد باكيت، ماذا أقول لريتشارد ونيكول؟»

فأجابها ماكس: «تبًّا يا جان، تحلِّي بقليلٍ من الصبر … من الأفضل أن تعودي مرة أخرى في غضون أسبوع، بعد أن أكون أنا وإيلي وإيبونين قد حظينا بمزيدٍ من الوقت لمناقشة الأمر، وسأعطيكِ إجابة مبدئية … أخبري ريتشارد أنني أجد الأمر برمته مثيرًا للاهتمام، وإن كان جنونيًّا بلا شك.»

وضع ماكس الآليتَين على أرض الحظيرة وانطلقتا مبتعدتَين. وعندما عاد ماكس وإيلي إلى الخارج في الهواء الطلق، أخرج ماكس سيجارة من جيبه. وقال مبتسمًا: «أعتقد أنكِ لن تمانعي «كثيرًا» إذا دخنت سيجارة هنا؟»

ابتسمت إيلي. ثم قالت بعد دقيقة بينما كان ماكس ينفث حلقات الدخان في هواء الليل: «بالطبع لا تريد أن تخبر روبرت عن الأمر، أليس كذلك يا ماكس؟»

هز ماكس رأسه. وأجاب: «ليس الآن. ربما في آخر لحظة.» ثم وضع ذراعه حول إيلي وقال: «يا سيدتي الصغيرة، أنا معجب بزوجك الطبيب، إنها الحقيقة، لكنني أجد في بعض الأحيان مواقفه وأولوياته غريبة بعض الشيء. ولا يمكنني الجزم بأنه لن يخبر أحدًا …»

فسألت إيلي: «ماكس، هل تعتقد أن روبرت ربما أقسم قسمًا خاصًّا ألَّا يقومَ بأي تصرفٍ ضد مصلحة السلطة مرة أخرى؟ وأنه خائف …»

أجابها ماكس: «تبًّا يا إيلي، لست طبيبًا نفسيًّا. ولا أعتقد أن أيًّا منا يمكنه أن يفهم تأثير قتل شخصَين عمدًا عليه. لكن يمكنني القول إن هناك احتمالًا ضئيلًا ألَّا يحتفظ بسرنا؛ قد يكون ذلك لتجنُّب اتخاذ قرارٍ شخصيٍّ مؤلم، إن لم يكن لأيِّ سببٍ آخر.» ثم أخذ نفسًا عميقًا من سيجارته وحدَّق في صديقته الشابَّة.

«أنت لا تظن أنه سيأتي، أليس كذلك؟ حتى إذا طلبتُ منه أن يأتي؟»

مرة أخرى هز ماكس رأسه. وقال: «لا أعلم يا إيلي. سيعتمد الأمر على مدى احتياجِه إليكِ وإلى نيكول الصغيرة. خصَّص روبرت لكما مكانًا في حياته، لكنه لا يزال يخفي مشاعره خلف ستار العمل المتواصل.»

فسألته إيلي: «ماذا عنك أنت يا ماكس؟ ما رأيك بصراحة في الخطة كلها؟»

قال ماكس مبتسمًا: «أنا وإيبونين مستعدان للذهاب، ولخوض مغامرة صغيرة. وعلى أي حال إنها مسألة وقت قبل أن أدخل في مشكلاتٍ حقيقيةٍ مع ناكامورا.»

«وماذا عن باتريك؟»

«ستُعجبه الفكرة. لكن يساورني شكٌّ أنه قد يقول شيئًا لكيتي. فإن علاقتهما علاقةٌ خاصَّةٌ …»

سكت ماكس بمنتصف جملته، عندما رأى روبرت الذي يحمل ابنته المتعبة قادمًا إلى الشرفة الأمامية.

قال روبرت: «ها أنتِ ذي يا إيلي. ظننت أنكِ تهتِ أنت وماكس في الحظيرة … إن نيكول متعبة، ولديَّ عمل في المستشفى غدًا في الصباح الباكر …»

أجابته إيلي: «أنت محق يا عزيزي. كنت أنا وماكس نستعيد بعض الذكريات عن والدي ووالدتي …»

•••

قالت إيلي لنفسها وهي تبرز بطاقة هُويتها لكائن جارسيا الآلي، في مدخل متجر مدينة بوفوا: «لا بد أن يكون اليوم يومًا طبيعيًّا. لا بد أن أفعل كل شيءٍ بالضبط كما لو أنه يوم خميس عادي.»

بعد ثوانٍ قليلة قال جارسيا الآلي وهو يمنحها قائمةً مطبوعةً من الكمبيوتر قبالة الحائط خلفه: «سيدة إيليانور تيرنر، ها هي حصتك من المؤن للأسبوع. نفد من عندنا البروكلي والطماطم مرة أخرى؛ لذا أضفنا كبديل مكيالَين من الأرز … بإمكانك الآن التقدُّم إلى الطابور للحصول على بضاعتك.»

سارَت نيكول الصغيرة إلى جانب والدتها وهي تدخل إلى الجزء الرئيسي من المتجر. وعلى الجانب الآخر من حاجزٍ شبكيٍّ — كان المواطنون في الأيام الأولى لمستوطنة جنة عدن يتسوَّقون خلفه بأنفسهم — كان هناك خمسة أو ستة كائنات تياسو ولينكولن آلية — جميعها من مجموعة الثلاثمائة آلي المُبرمجين بالكامل على يد حكومة ناكامورا — تتحرك جيئة وذهابًا في الممرات لتجهيز الطلبات. كان معظم أرفف المتجر خاويًا. فمع أن الحرب انتهَت منذ مدة، فإن ظروف الطقس غير المستقرة في عدن الجديدة، بالإضافة إلى مقت معظم المزارعين لأساليب ناكامورا الجائرة، نقصت معدلات إنتاج الطعام لأقصى حد. لذا وجدت الحكومة أنه من الضروري أن تشرف على عملية توزيع الطعام. ولم يكن من المتاح الحصول على أكثر من المواد الضرورية إلا لأولئك المفضلين لدى الحكومة.

وقف ستة أفراد في الطابور أمام إيلي وابنتها التي تبلغ من العمر عامَين تقريبًا. كانت إيلي تتسوق مع نفس الأشخاص كل يوم خميس بعد الظهيرة. وعندما وقفت إيلي ونيكول في الطابور التفت معظم المصطفين إليهما.

وقالت سيدة لطيفة غطى الشيب شعرها: «ها قد أتت الفتاة الصغيرة الجميلة. كيف حالكِ اليوم يا نيكول؟»

لكن نيكول لم تُجِب. بل تراجعَت بضع خطواتٍ وتشبَّثت بقوة بإحدى ساقَي والدتها. فقالت إيلي: «إن نيكول لا تزال خجولة. ولا تتحدث إلا إلى الأشخاص الذين تعرفهم.»

أحضر آلي لينكولن صندوقَين صغيرَين من الطعام، وأعطاهما الأب وابنه الشاب الواقفَين في مقدمة طابور المتجر. فقال الوالد للآلي: «لن نحتاج إلى عربة تسوقٍ اليوم. من فضلك دوِّن هذا في سجلك … إذ إن أحدًا لم يدوِّن تلك المعلومة قبل أسبوعَين عندما حملنا بضاعتنا بأيدينا، ثم فوجئنا بآلي جارسيا يوقظنا في منتصف الليل، ويطلب منا إعادة العربة إلى المتجر.»

فقالت إيلي لنفسها: «يجب أن أتجنَّب الوقوع في جميع الأخطاء التافهة. أخطاء مثل عدم إعادة العربة إلى المتجر، أو أي شيء قد يثير شكوك أحدٍ قبل الصباح.» وبينما كانَت تقف في الطابور، راجعَت تفاصيل خطة الهروب التي ناقشتها هي وباتريك مع ماكس وإيبونين في اليوم السابق. اختير يوم الخميس لتنفيذ الخطة؛ لأنه اليوم الذي يقوم فيه روبرت بزيارته المعتادة لمرضى «آر في ٤١» في أفالون. تقدم كلٌّ من ماكس وإيبونين بطلبٍ للحصول على تأشيرة مرور لزيارة ناي واتانابي لتناول العشاء معها، وحصلا عليها بالفعل. وسيقومان برعاية كيبلر وجاليليو، عندما تذهب ناي إلى المستشفى من أجل بينجي. كان كل شيء مخططًا، ولم يكن هناك سوى شيء مقلق واحد فقط.

كانت إيلي قد تمرَّنت على ما ستقوله لروبرت مئات المرات. مع ذلك فكرت في نفسها: «لا بد أن رد فعله المبدئي سيكون الرفض. فسيقول إن الأمر محفوفٌ بالمخاطر وإنني أُعرض أمن نيكول للخطر. وسيغضب لأنني لم أخبره منذ البداية.»

وكانت قد أعدَّت في ذهنها إجاباتٍ لجميع اعتراضاته، وأعدَّت وصفًا دقيقًا مشجعًا للحياة التي سيعيشونها في نيويورك. لكنها كانت لا تزال تشعر بالتوتر الشديد. إذ إنها لم تنجح في إقناع نفسها أن روبرت سيوافق على مصاحبتهما. ولم تكن لديها أدنى فكرة عما سيفعله إذا أخبرته أنها ونيكول الصغيرة مستعدتان للرحيل بدونه.

بينما كانت بضاعة إيلي تُوضَع في عربة التسوُّق الصغيرة التي يجب عليها إعادتها إلى المتجر فور إفراغ محتوياتها في منزلها؛ اعتصرَت يد ابنتها الصغيرة. وفكرت في نفسها: «لقد حان الوقت. يجب أن أتحلَّى بالشجاعة. يجب أن أتحلَّى بالإيمان.»

•••

قال روبرت تيرنر: «ماذا توقعت أن يكون رد فعلي؟ عدت إلى المنزل لتوي بعد يوم عملٍ مرهق جدًّا. وعقلي مشغول بمئات الأشياء التي يجب أن أفعلها غدًا، وأنت تخبرينني على العشاء أنكِ تُريدين أن نغادر عدن الجديدة إلى الأبد؟ وأن ننطلق «الليلة»؟ عزيزتي إيلي، الأمر برمته سخيف. حتى إن نجح، فسأحتاج إلى وقتٍ لترتيب أموري … فلديَّ مشاريع …»

قالت إيلي وقد ازداد خوفها من أن تكون قد استهانت بمدى صعوبة مهمتها: «أعلم أن الأمر مفاجئٌ يا روبرت، لكن لم يكن بإمكاني أن أخبرك قبل ذلك. كان الأمر سيصبح أكثر خطورة. ماذا لو أن لسانك زلَّ، وأخبرت إد ستافورد أو أي شخصٍ من فريقك شيئًا، وسمعك مصادفةً أحدُ الكائنات الآلية؟»

هز روبرت رأسه بقوة. وقال: «لكن لا يمكنني الرحيل دون أن أخبر أيَّ أحد … هل لديكِ فكرةٌ عن عدد سنوات العمل التي سأهدرها؟»

فاقترحت إيلي: «ألَا يمكنك تدوين ما يجب القيام به في كل مشروع؟ وربما تلخيص ما أُنجز بالفعل؟»

فأجابها روبرت بلهجةٍ واثقة: «ليس في ليلة واحدة. كلا يا إيلي، الأمر مستحيل، لا يمكننا الرحيل. ربما تعتمد الحالة الصحية في المستوطنة على المدى الطويل على نتائج أبحاثي … بالإضافة إلى أنني لو سلَّمت أن والدَيكِ يعيشان حياةً مريحةً في ذلك المكان الغريب الذي وصفتِه أينما كان، فإنه، ولا ريب، لا يبدو مكانًا مناسبًا لتربية طفلة … وأنتِ لم تذكري المخاطر المحتملة التي قد نتعرَّض لها جميعًا. فرحيلنا سيُنظر إليه على أنه خيانة. ومن المحتمل أن نُعدم أنا وأنتِ إذا أُلقيَ القبض علينا. ماذا سيكون مصير نيكول حينها؟»

استمعَت إيلي إلى اعتراضات روبرت لدقيقةٍ أخرى، ثم أدركت أن الوقت حان لكي تبلغه بقرارها. فاستجمعت شجاعتها، ودارت حول المائدة وأمسكت يدَي زوجها. وقالت: «ظللت أفكِّر في الأمر لمدَّة ثلاثة أسابيع تقريبًا يا روبرت … ولا بد أن تفهم مدى صعوبة هذا القرار عليَّ … أنا أحبك من كل قلبي، لكن إذا اضطررنا لهذا، فسأرحل أنا ونيكول بدونك … أنا أعلم أن رحيلنا محفوفٌ بالمخاطر، لكن الحياة هنا في عدن الجديدة غير مناسبةٍ لأيٍّ منا …»

رد روبرت على الفور وهو يبعد نفسه عن إيلي ويذرع الغرفة بخطواتٍ واسعةٍ قائلًا: «لا، لا، لا. أنا لا أصدق ما تقولين. هذا الأمر برمته ما هو إلا كابوس …» ثم سكت، ونظر إلى إيلي من الجانب الآخر للغرفة وقال بانفعال: «لا يمكنك اصطحاب نيكول معك. هل تسمعين؟ أنا أمنعكِ من اصطحاب طفلتنا …»

فقاطعته إيلي بصرخة، وبدأت الدموع تنهمر من عينَيها على وجنتَيها وقالت: «روبرت. انظر إليَّ … أنا زوجتك أمُّ طفلتك. إنني أحبك. وأرجوك أن «تنصت» إلى ما أقوله.»

كانت نيكول قد دخلت الغرفة تركض، وظلت تبكي بجوار أمِّها. فاستعادت إيلي رباطة جأشها قبل أن تستأنف حديثها قائلة: «أعتقد أنك لست الشخص الوحيد في هذه الأسرة المسموح له باتخاذ القرارات. فأنا أيضًا لديَّ هذا الحق. يمكنني احترام رغبتك في عدم الذهاب، لكنني أمُّ نيكول. وإذا كنا سننفصل، أعتقد أنه من الأفضل لنيكول أن تأتيَ معي …»

سكتَت إيلي. وارتسم الغضب على وجه روبرت. ثم تقدم خطوةً نحوها، ولأول مرة في حياتها خشيَت إيلي أن يضربَها روبرت.

ثم صاح وهو يرفع قبضته اليمنى: «ومن الأفضل لي أن تنسي هذه الحماقة.»

تراجعت إيلي قليلًا. واستمرَّت نيكول في البكاء، بينما حاول روبرت أن يتمالك نفسه. وقال وصوته يتهدج من الانفعال: «أقسمت ألَّا يؤلمني شخص أو شيء بهذا الشكل مرة أخرى …»

انهمرت الدموع من عينَيه وهو يقول: «تبًّا.» وضرب بقبضته المنضدة المجاورة. ودون أن يتفوَّه بكلمةٍ أخرى جلس على مقعده ودفن وجهه في كفَّيه.

هدَّأت إيلي نيكول ولم تقُل شيئًا لعدة ثوانٍ. وفي النهاية قالت: «أعلم كم كان مؤلمًا أن تفقد عائلتك الأولى، لكن هذا الموقف مختلف تمامًا يا روبرت. فلا أحدَ سيؤذيني أنا ونيكول.»

اتجهت إيلي إليه وأحاطَته بذراعَيها. وقالت: «أنا لا أقول إن هذا قرارٌ سهل. لكنني مقتنعةٌ أنه أفضل وضعٍ لنيكول ولي.»

احتضن روبرت إيلي بدوره لكن بفتور. وقال باستسلام بعد عدة ثوانٍ: «لن أمنعك أنت ونيكول من الرحيل. لكنني لا أعرف ماذا سأفعل. أحتاج للتفكير في الأمر برمته على مدار الساعات القادمة ونحن في أفالون.»

أجابته إيلي: «حسنًا يا عزيزي، لكن رجاءً لا تنسَ أنني ونيكول نحتاج إليك أكثر من مرضاك. فلا أب وزوج لنا غيرك.»

٩

لم تستطع نيكول أن تخفي حماستها. وأخذت تتخيَّل وهي تضع اللمسات النهائية على غرفة الأطفال ما ستبدو عليه الغرفة عندما يتشارك فيها أطفال البشر وطفلا المخلوقات الطائرة. فتيمي الذي أصبح في طول نيكول تقريبًا شب بجوارها ليعاين ما صنعته يداها. ثم أصدر بعض الأصوات في إعجاب.

فقالت نيكول وهي تعلم أن الطائر لا يستطيع فَهْم ما تقول بالضبط، لكن يمكنه تفهُّم نبرة صوتها: «تخيَّل يا تيمي، عندما أعود أنا وريتشارد سنكون قد أحضرنا لك ثلاثةَ رفقاء ليشاركوك الغرفة.»

وفي تلك اللحظة سمعت ريتشارد وهو يصيح: «هل أنت جاهزة يا نيكول؟ حان الوقت كي نغادر.»

فأجابته: «نعم يا عزيزي. أنا هنا في غرفة الأطفال. لمَ لا تأتي وتلقي نظرة؟»

أدخل ريتشارد رأسه من باب الغرفة، وألقى نظرةً لا مبالية على زينة الغرفة. وقال: «رائع، هذا رائع حقًّا. والآن يجب أن نتحرك. فهذه العملية تتطلب دقة في المواعيد.»

بينما كانا يسيران معًا إلى الميناء، أخبر ريتشارد نيكول أنه لم تَرِده أي تقارير من نصف الأسطوانة الشمالي. وغياب الأخبار قد يشير إلى أن جان وإليانور منشغلتان تمامًا بعملية الهروب، أو أنهما قريبتان للغاية من عدو، أو أن هناك متاعب في تنفيذ عملية الهروب. لم تتذكَّر نيكول أنها رأت ريتشارد بهذه العصبية من قبل. فحاولت تهدئته.

سألَته بعد مرور بضع دقائق وهما يقتربان من الغواصة: «ما زلنا لا نعرف إن كان روبرت سيأتي معهم، أليس كذلك؟»

«بلى. ولا أي معلوماتٍ عن رد فعله عندما أخبرته إيلي بالخطة. صحيح أنهما ذهبا إلى أفالون كما هو مخطَّط، لكنهما كانا مشغولَين مع مرضاه. ولم تحظَ جان وإليانور بفرصةٍ للحديث مع إيلي، بعد أن ساعدتا ناي في إخراج بينجي من المستشفى.»

كان ريتشارد قد تفحص الغواصة مرتَين على الأقل في اليوم السابق. ومع ذلك تنهد بارتياح عندما عمل نظام التشغيل جيدًا وشقت المركبة المياه. ساد الصمت بين نيكول وريتشارد عندما غمرتهما مياه البحر الأسطواني. كان كلٌّ منهما يتطلَّع إلى اجتماع الشمل المفعم بالعواطف الذي سيحدث خلال أقلَّ من ساعة.

تساءلت نيكول في نفسها: «هل ثمَّة سعادة تفوق سعادة المرء لحظة اجتماعه بأبنائه الذين كان يتوقَّع ألَّا يراهم قطُّ مرة أخرى؟» وبدأت صور أبنائها الستة تتوارد إلى ذهنها ببطء. رأت صورة جنيفياف طفلتها الأولى التي وضعتها على كوكب الأرض بعد علاقتها بالأمير هنري. يليها ابنتها الهادئة سيمون التي تركتها على نود مع زوجٍ يكبرها بستين عامًا. ثم استحضر عقلها بعد ذلك صور أطفالها الأربعة الذين لا يزالون يعيشون في راما، ابنتها المتمردة كيتي، والغالية إيلي وابنيها اللذين أنجبتهما من مايكل أوتول؛ باتريك، وبينجي المعاق ذهنيًّا. وقالت لنفسها: «كلهم مختلفون اختلافًا كبيرًا، وكلٌّ منهم معجزة فريدة.»

فكرت والغواصة تقترب من النفق الموجود أسفل حائط كان في أحد الأيام موطن المخلوقات الطائرة واللاسويقية: «أنا لا أُومِن بالحقائق الكونية الثابتة، لكن لا يمكن أن يكون هناك الكثير من البشر الذين مرُّوا بتجربة الأبوَّة الفريدة دون أن تكون هذه التجربة غيَّرتهم. نتساءَل جميعًا وأطفالنا ينضجون عما فعلنا، أو لم نفعل، وهل أسهمنا، أو انتقصنا من سعادة هذه الكائنات المميزة التي جئنا بها إلى العالم؟»

كان الانفعال والإثارة اللذان تشعر بهما نيكول يسيطران على كيانها بالكامل. نظر ريتشارد إلى ساعته، ثم بدأ يُناور بالغواصة إلى المكان المحدد للقاء. في أثناء ذلك استرجعَت ذكرياتها الأخيرة مع إيلي وباتريك وبينجي ففرَّت الدموع من عينَيها. مدَّت يدها واعتصرت يد زوجها التي لا يستعملها في القيادة، بينما شقَّت غواصتهما سطح الماء.

من خلال النافذة رأيا ثمانية أشخاصٍ يقفون على الشاطئ في المكان المحدَّد. وعندما انحسرَت المياه عن النافذة ميَّزت نيكول إيلي وزوجها روبرت وإيبونين وناي وهي تُمسك يد بينجي، وثلاثة أطفال صغار من بينهم حفيدتها التي تحمل اسمها والتي لم ترَها من قبل. دقَّت على النافذة مع علمها أن ما تفعل لا معنى له، فهي تدرك أنه ليس بإمكان أي شخصٍ على الشاطئ أن يراها أو يسمعها.

وفور أن فتح ريتشارد ونيكول الباب، سمعا صوت طلقاتٍ نارية. فألقى روبرت تيرنر نظرةً خاطفةً خلفه، ثم رفع نيكول الصغيرة سريعًا من فوق الأرض. وكذلك حملت كلٌّ من إيلي وإيبونين التوءمَين. قاوم جاليليو إيبونين لكن والدته ناي وبَّخته وهي تحاول أن تقود بينجي إلى الغواصة.

وحينما كانت المجموعة تعبر إلى الغواصة دوت طلقاتٌ ناريةٌ مرة أخرى. لكنها كانت أقرب هذه المرة، ولم يكن هناك وقت للعناق. فقالت إيلي بسرعةٍ لوالدَيها: «نصحنا ماكس بأن نغادر فور دخولنا جميعًا. سيعيق هو وباتريك الجنود الذين أُرسِلوا للقبض علينا.»

كان ريتشارد يستعدُّ لإغلاق الباب عندما اندفع شخصان مسلَّحان من بين شجيراتٍ قريبةٍ يمسك أحدهما بجنبه. صاح باتريك وهو يحمل بندقيته ويطلق النيران منها مرتَين: «استعدوا للرحيل. إنهم خلفنا تمامًا.»

تعثَّر ماكس لكن باتريك حمل تقريبًا صديقه المصاب مسافة الخمسين مترًا الأخيرة التي تفصلهما عن الغواصة. وأطلق ثلاثةٌ من جنود المستوطنة النارَ على الغواصة وهي تغوص في مياه الخندق المائي. وللحظةٍ لم ينبس أيٌّ من الأشخاص على متن الغوَّاصة ببنت شفة. وفجأةً امتلأَت المقصورة الصغيرة بأصواتٍ عاليةٍ متداخلة. كان الجميع يصيحون ويبكون. وانحنى كلٌّ من نيكول وروبرت نحو ماكس الذي كان يجلس وهو يسند ظهره إلى الحائط.

سألته نيكول: «هل إصابتك خطيرة؟»

فأجابها ماكس بحماسة: «كلا. هناك رصاصة واحدة في مكانٍ ما في أحشائي. لكن التخلص من شخصٍ قويٍّ مثلي يحتاج لأكثر من هذا بكثير.»

عندما وقفت نيكول واستدارت كان بينجي خلفها تمامًا. قال وهو يمد ذراعيه نحوها وجسده الضخم يرتعد من السعادة: «ماما.» فتعانقت نيكول وبينجي عناقًا طويلًا في وسط المقصورة. وعبَّرت دموع السعادة التي انهمرت من عينَي بينجي عن الإحساس الذي سيطر على جميع مَن على متن الغواصة.

•••

بدا الوافدون الجدد وهم على متن الغواصة كأنهم عالقون بين عالمَين غريبَين، وكان معظم الحوار الذي يدور بينهم شخصيًّا. إذ قضت نيكول دقائق خاصة مع كلٍّ من أولادها واحتضنت حفيدتها لأول مرة. ولم تعرف نيكول الصغيرة ماذا تفعل بشأن تلك السيدة بيضاء الشعر التي أرادت أن تحتضنها وتقبِّلها. فقالَت إيلي محاولةً أن تقنع الطفلة أن تتجاوب مع مشاعر نيكول: «هذه جدتكِ يا نيكول. إنها والدتي يا نيكي، واسمها مثل اسمكِ بالضبط.»

كان لدى نيكول خبرةٌ كافيةٌ في التعامل مع الأطفال؛ كي تفهم أن الطفلة ستستغرق بعض الوقت كي تتقبَّلها. وفي البداية كان هناك بعض الارتباك بسبب الاسم المشترك، فكلما قال شخص: «نيكول» كانت الجدة وحفيدتها كلتاهما تنظران. لكن بعد أن بدأت إيلي وروبرت يستخدمان اسم نيكي للطفلة، سار الجميع على نهجهما.

وقبل أن تصل الغوَّاصة إلى نيويورك، كان بينجي يُري والدته كيف أن قدرته على القراءة تحسنت كثيرًا. كانت ناي أستاذةً رائعة. وكان بينجي قد أحضر معه في حقيبة ظهره كتابَين؛ الأول مجموعة قصصية لهانز كريستيان أندرسن كُتبت قبل ثلاثة قرون. وكانَت قصة بينجي المفضلة هي «البطة القبيحة» التي قرأها كاملةً ووالدته السعيدة ومعلمته تجلسان بجواره. وعندما تحولت البطة المنبوذة إلى بجعةٍ جميلةٍ ظهر في صوته نبرة سعادة صادقة.

عندما انتهى بينجي من القراءة، قالت نيكول: «أنا فخورة جدًّا بك يا عزيزي.» ثم التفتت إلى صديقتها وقالت: «أشكركِ من أعماق قلبي يا ناي.»

فأجابتها السيدة التايلندية: «أمتعني العمل مع بينجي للغاية. كنت قد نسيت شعور الإثارة التي يشعر بها المرء عند تعليم طالبٍ يهتمُّ حقًّا ويقدر معلمه مثل بينجي.»

نظَّف روبرت تيرنر جرح ماكس باكيت، وأخرج الرصاصة من جسده. وكان طفلا آل واتانابي البالغان من العمر خمس سنواتٍ يراقبان العملية عن كثب، وكانا مفتونَين بما شاهداه داخل جسد ماكس. كان جاليليو العدواني بطبعه يدفع شقيقه لكي يقف في المكان الذي يتيح له رؤية أفضل، وكان على ناي أن تفصل بين التوءمَين في نزاعَين حسمَتهما لمصلحة كيبلر.

أكَّد دكتور تيرنر على كلام ماكس، فالجرح لم يكن خطيرًا، ونصحه بالراحة لمدةٍ قصيرة للتماثل للشفاء.

فقال ماكس وهو يغمز بعينه لإيبونين: «أظن أنه عليَّ أن أرتاح قليلًا. وهذا ما كنت أخطط للقيام به على أي حال. لا أظن أنه سيكون هناك الكثير من الخنازير أو الدجاج في مدينة ناطحات السحاب الفضائية هذه. وأنا لا أعرف شيئًا عن الكائنات الآلية.»

دار حوار قصير بين نيكول وإيبونين قبل أن تصل الغواصة إلى الميناء، شكرت فيه نيكول معلمة إيلي السابقة جزيل الشكر على كل شيء فعلته هي وماكس من أجل العائلة. تلقت إيبونين شكرها بسعادة، وأخبرت نيكول أن باتريك كان «أكثر من رائع» في مساعدتهم في جميع أجزاء خطة الهروب. وقالت لها: «أصبح شابًّا رائعًا.»

بعد بضع لحظات سألت نيكول إيبونين بصوت حانٍ: «كيف حال صحتكِ الآن؟»

هزَّت المرأة الفرنسية كتفَيها. وقالت: «الطبيب يقول إن فيروس «آر في ٤١» لا يزال كامنًا ينتظر فرصة للسيطرة على جهاز مناعتي. ومتى يحدث ذلك يكن أمامي ما بين ستة أشهر وعام أعيشها.»

أبلغ باتريك ريتشارد أن جان وإليانور حاولتا خداع قوات ناكامورا بإحداث ضوضاء شديدة كما جرى برمجتهما، ومن المؤكد أن القوات أمسكت بهما ودمرتهما.

قالت نيكول لريتشارد في لحظة حميمية نادرة جمعتهما على متن الغواصة: «أنا آسفة لما حدث لجان وإليانور. أعلم جيدًا كم كانتا تعنيان لك.»

فأجابها ريتشارد: «لقد حققتا الهدف من صنعهما.» ثم أضاف مجبرًا نفسه على الابتسام: «ألم تخبريني ذات مرة أنهما ليستا مثل البشر؟»

فاقتربت نيكول من زوجها وقبلته.

•••

لم يكن أيٌّ من الهاربين الجدد قد زار نيويورك بعد أن كبر. إذ وُلد أطفال نيكول الثلاثة على الجزيرة وعاشوا فيها بداية مرحلة طفولتهم، لكن بالطبع يختلف إدراك الطفل للمكان عن الشخص البالغ اختلافًا كبيرًا. كان الشعور بالرهبة يسيطر على إيلي وباتريك وبينجي عندما وطئت أقدامهم الشاطئ، ورأوا الظلال الطويلة الرفيعة التي تكاد تلامس سماء راما في الظلام.

أما ماكس باكيت فلم يتفوه بكلمة على غير عادته. وقف إلى جوار إيبونين يمسك يدها، ويحدِّق ببلاهةٍ في الأبراج الرفيعة الشاهقة التي ترتفع لأكثر من مائتَي مترٍ فوق الجزيرة. ثم قال في النهاية وهو يهزُّ رأسه: «هذا كثيرٌ للغاية على مُزارع من ولاية آركنسو.» سار ماكس وإيبونين في نهاية الموكب الذي كان يشقُّ طريقه إلى المخبأ الذي حوله ريتشارد ونيكول إلى مسكنٍ يصلح لأن يضمَّ عائلة كبيرة.

سأل روبرت تيرنر ريتشارد عندما توقفت المجموعة قليلًا أمام بناء عملاق متعدد الجوانب: «من شيَّد كل هذا؟» كان قلق روبرت وخوفه يتزايدان باستمرار. إذ كان مترددًا في البداية في الذهاب مع إيلي ونيكي، وكان اقتناعه بأنه ارتكب خطأ جسيمًا يزيد بسرعة بداخله.

أجابه ريتشارد قائلًا: «غالبًا المهندسون في النود. لكننا لا نستطيع الجزم بهذا. أضفنا — نحن البشر — مبانيَ جديدةً في موطننا. ومن الممكن أن يكون الأشخاص — أو الأشياء — الذين عاشوا هنا قبل وقت طويل، هم من شيَّدوا بعض أو كل هذه المباني المذهلة.»

فسأله روبرت، وقد بدأ الخوف يتسلَّل إلى نفسه من احتمال أن يقابل مخلوقات تمتلك الخبرة التكنولوجية التي يتطلبها بناء مثل هذه الصروح الرائعة: «وأين هم الآن؟»

«ليس بوسعنا أن نعرف. فطبقًا لما قاله الرجل النسر ظلت مركبة راما الفضائية تقوم برحلات لآلاف السنين؛ لاكتشاف الأجناس الأخرى التي تعيش في الفضاء. فربما يكون هناك في مكانٍ آخر في الجزء الخاص بنا من المجرة كائناتٌ أخرى تعيش في بيئةٍ كهذه. أما ماهية تلك الكائنات، وسبب رغبتها في أن تعيش في ناطحات السحاب؛ فهو لغز على الأرجح لن نتمكن من حلِّه قط.»

سأله باتريك: «ماذا عن المخلوقات الطائرة وكائنات الأوكتوسبايدر يا عمي ريتشارد. هل لا يزالون يعيشون هنا في نيويورك؟»

«لم أرَ أيَّ مخلوقاتٍ طائرة على الجزيرة منذ وصلت إليها، بالطبع ما عدا الفرخَين اللذَين نربيهما. لكن لا يزال هناك كائنات أوكتوسبايدر. قابلت أنا ووالدتك بعضًا منها عندما كنا نستكشف المكان خلف الحاجز الأسود.»

في تلك اللحظة خرج كائن آلي متعدد الأرجل من زقاق جانبي، واقترب من المجموعة. أضاء ريتشارد مصباحه الكهربي في اتجاهه. وتجمد روبرت تيرنر للحظة من الخوف، لكنه اتبع تعليمات ريتشارد، وتحرك بعيدًا عن طريق الكائن الآلي الذي تحرك بجانبه.

زمجر روبرت وقال: «ناطحات سحاب شيدتها أشباح، وكائنات أوكتوسبايدر، وكائنات آلية متعددة الأرجل. يا له من مكانٍ رائع!»

فقال ريتشارد: «في رأيي إنه أفضل كثيرًا من العيش في ظل حكم طاغية مثل ناكامورا. على الأقل نحن أحرار هنا ويمكننا اتخاذ قراراتنا بأنفسنا.»

صاح ماكس باكيت من آخر الصف: «ويكفيلد. ماذا سيحدث إذا لم نفسح الطريق لأيٍّ من هذه الكائنات الآلية المتعددة الأرجل؟»

أجابه ريتشارد: «لا أعلم بالضبط يا ماكس. لكنها على الأرجح ستتخطاك أو تدور حولك بطريقةٍ ما كما لو كنت جمادًا.»

•••

عندما وصلوا إلى المخبأ، قامت نيكول بدور المرشدة التي تقود المجموعة هذه المرة. اصطحبت بنفسها كل فرد ليرى غرفته. كانت هناك غرفة واحدة لماكس وإيبونين وأخرى لإيلي وروبرت وغرفة يقسمها حاجز إلى جزأين لباتريك وناي، أما غرفة الأطفال فقد قُسمت إلى أجزاء أصغر؛ بحيث تمنح مساحة وخصوصية لكلٍّ من بينجي والأطفال الثلاثة والطائرَين، وقرر ريتشارد ونيكول أيضًا استخدام المساحة الصغيرة المتاخمة لغرفة نومهما؛ لتكون غرفة تناول طعام للمجموعة بأكملها.

وبينما كان الكبار يفرغون أمتعتهم القليلة التي جاءوا بها في حقائب الظهر، قابل الأطفال تامي وتيمي للمرة الأولى. لم يعرف الطائران ماذا يفعلان مع البشر الصغار، ولا سيما جاليليو الذي أصرَّ على جَذْب أو قَرْص أي شيء تصل إليه يداه. وبعد مرور ما يقرب من ساعةٍ وهو يعاملهما بهذه الطريقة، خدش تيمي جاليليو خدشًا بسيطًا بأحد براثنه على سبيل التحذير، لكن الصبي أثار ضجيجًا شديدًا.

فقال ريتشارد لناي معتذرًا: «أنا لا أعلم ما أصابهما. إن الطائرَين لطيفان حقًّا.»

فأجابته ناي: «أما أنا فأعلم. لا بد أن جاليليو كان على وَشْك أن يؤذيَهما.» ثم تنهدت وأردفت: «لكن أتعرف، إنه لأمرٌ مدهش حقًّا أن تربي طفلَين بالطريقة نفسها، ثم يصبحا مختلفَين بهذا الشكل. فكيبلر طيب وكأنه ملاك، ولا أستطيع أن أعلمه الدفاع عن نفسه. أما جاليليو فلا يعير أيَّ شيءٍ أقوله أي اهتمام تقريبًا.»

عندما انتهى الجميع من إفراغ أغراضهم، أكملت نيكول الجولة لتريهم الحمامَين والأروقة والصهاريج المعلقة التي عاشت فيها الأسرة، طوال المدة التي كانت فيها راما تسافر بسرعةٍ قصوى بين الأرض والنود، وأخيرًا الغرفة البيضاء التي تحوي الحاجز الأسود ولوحة المفاتيح، والتي كانت أيضًا غرفة نوم نيكول وريتشارد. وأراهم ريتشارد كيف يعمل الحاجز الأسود، إذ طلب بعض الألعاب الجديدة البسيطة للأطفال واستلمها بعد ساعةٍ تقريبًا. وأعطى روبرت وماكس نسخةً من قاموس للأوامر القصيرة تساعدهما في استخدام لوحة المفاتيح.

وبعد تناول العشاء نام الأطفال كلهم تقريبًا. وتجمع الكبار في الغرفة البيضاء. طرح ماكس أسئلة عن كائنات الأوكتوسبايدر. وبينما كانت نيكول تصف لهم المغامرة التي مرُّوا بها خلف الحاجز الأسود، ذكرت المشكلات التي واجهها قلبها. أبدى روبرت قلقه على حالتها، وفحصها بعدها بقليلٍ في غرفتها.

ساعدت إيلي روبرت في فحص والدتها. وكان روبرت قد أحضر معه ما استطاع من أدوات طبية عملية في حقيبة ظهره، بما في ذلك الأدوات المصغرة والشاشات اللازمة لعمل رسم قلب كامل. لم تكن النتائج جيدة، لكنها ليست سيئة بقدر ما كانت نيكول تخشى. وقبل الذهاب إلى الفراش، أخبر روبرت باقي أفراد العائلة أن السنوات الطوال أثَّرت في قلب نيكول، وأبلغهم أنه لا يعتقد أنها ستحتاج إلى جراحةٍ في المستقبل القريب. ونصح نيكول بألَّا ترهق نفسها، مع أنه كان يعرف أن والدة زوجته ستتجاهل تحذيره على الأرجح.

بعد أن غرق الجميع في سباتٍ عميق، حرَّك ريتشارد ونيكول الأثاث لإفساح مكانٍ لفراشَيهما. واستلقيا جنبًا إلى جنب ويداهما متشابكتان. سألها ريتشارد: «هل أنت سعيدة؟»

فأجابَته: «نعم، سعيدة جدًّا. إنه لرائع حقًّا أن يكون جميع الأطفال هنا.» ثم اقتربَت منه وقبَّلته. وقالت: «أنا مرهقةٌ جدًّا يا زوجي، لكنني لن أخلد للنوم دون أن أشكرَك أولًا لأنك رتبت لكل هذا.»

فقال ريتشارد: «إنهم أولادي أيضًا.»

فقالت نيكول وهي تعود لتستلقي على ظهرها: «نعم يا حبيبي. لكنني أعلم أنك لم تكن ستفعل كل هذا لولاي، كنت سترضى بالبقاء هنا مع الفرخَين وآلاتك والألغاز الفضائية.»

قال ريتشارد: «ربما، لكنني سعيد أيضًا لأن الجميع هنا في مخبئنا … وعلى ذكر الجميع هل واتتك الفرصة للتحدث مع باتريك عن كيتي؟»

فأجابته نيكول وهي تتنهد: «لوقت قصير فقط. ويمكنني القول مما رأيته في عينَيه إنه لا يزال قلقًا عليها.»

فأجابها ريتشارد برفق: «ألسنا جميعًا كذلك؟» صمتا لدقائق قليلة ثم اعتدل ريتشارد واستند إلى مرفقه. وقال: «أريد أن أخبرك أنني أرى أن حفيدتنا رائعة.»

فأجابته نيكول وهي تضحك: «وأنا أيضًا، لكن قد يعتبرنا البعض متحيزَين في هذا الشأن.»

«مهلًا، هل يعني وجود نيكي معنا أنني لا يمكنني أن أناديك نيكي، ولو في لحظاتنا الخاصة؟»

أدارت نيكول رأسها لتنظر إلى ريتشارد. كانت تعلو وجهه ابتسامة عريضة رأتها نيكول على وجهه عدة مرات. قالت وهي تطلق ضحكة قصيرة أخرى: «نم يا ريتشارد. أنا مرهقة عاطفيًّا للغاية لكي أقوم بأي شيء الليلة.»

•••

في البداية كان الوقت يمر سريعًا للغاية. كان هناك الكثير من الأمور للقيام بها، والكثير من الأماكن الرائعة لاستكشافها. ومع أن الظلام كان يخيم باستمرار على المدينة الغامضة فوقهم، كانت العائلة تقوم برحلات استكشافية منتظمة إلى نيويورك. وكان لكل مكان على الجزيرة قصة خاصة يرويها ريتشارد ونيكول. قالت نيكول بعد ظهر أحد الأيام، وهي توجه مصباحها الكهربي إلى الشِّبَاك العملاقة المعلقة بين ناطحتَي سحاب وكأنها شباك عنكبوت: «أنقذت المخلوق الطائر الذي وقع في الشباك هنا، والذي دعاني بعد ذلك إلى مخبئه.»

وقالت في مناسبة أخرى عندما كانوا في الحظيرة الكبيرة، بحفرها المميزة وأجسامها الكروية: «علقت هنا لعدة أيام وظننت أني سألقى حتفي.»

وضعت العائلة الكبيرة مجموعة من القواعد لمنع الأطفال من الوقوع في المشكلات. لكنها لم تكن ضرورية لنيكي الصغيرة التي نادرًا ما كانت تبتعد عن والدتها وجدها الشغوف بها. لكن كان من الصعب السيطرة على الصبيَّين كيبلر وجاليليو. كانت طاقة التوءمَين لا تنضب، وفي إحدى المرات وجدوهما يقفزان على الأرجوحات الشبكية في الصهاريج المعلقة، كما لو أنها ترامبولين. ومرةً أخرى «اقترض» جاليليو وكيبلر المصابيح الكهربية التي تستخدمها العائلة، وصعدا لأعلى دون أن يرافقهما أحدٌ لاستكشاف نيويورك. ولم تعثر عليهما العائلة إلا بعد مرور عشر ساعاتٍ من التوتر والقلق، عندما وجداهما في متاهة الأزقة والشوارع على الجانب الآخر من الجزيرة.

كان الطائران يتدرَّبان على الطيران كل يومٍ تقريبًا. وكان الأطفال يسعدون وهم يصطحبون صديقَيهما الشبيهَين بالطيور إلى الساحات العامة؛ حيث كانت المساحة كبيرةً أمام تامي وتيمي كي يُظهرا مهاراتهما المتنامية. وكان ريتشارد يحرص على اصطحاب نيكي لتشاهد الطائرين وهما يحلقان. في الواقع كان يصطحب حفيدته معه في كل مكان يذهب إليه. ومن وقت لآخر كانت نيكي تسير، لكن في معظم الأوقات كان ريتشارد يحملها في أداة تشبه حقيبة حمل الأطفال ثبتها على ظهره. أصبح الاثنان لا يفترقان. وأصبح ريتشارد المعلم الأساسي لنيكي كذلك. وأعلن ريتشارد للجميع في وقت مبكر أن حفيدته عبقرية في الرياضيات.

وفي المساء كان يمتع نيكول بسرد أحدث إنجازات نيكي. فيقول بعد أن يصبح هو ونيكول وحدهما في الفراش: «هل تعلمين ماذا فعلت اليوم؟»

وتكون إجابة نيكول المعتادة هي: «كلا يا عزيزي» وهي تعلم أنها لن تنام هي أو ريتشارد حتى يخبرها.

فيقول: «سألتها كم سيصبح عدد الكرات السوداء التي ستكون معها إذا أعطيتها اثنتَين وهي معها ثلاث.» ويتوقف عن الحديث قليلًا بأسلوب تشويقي. ثم يقول: «هل تعلمين ماذا كانت إجابتها؟» ثم يتوقَّف مرة أخرى لإثارة فضولها. ثم يقول: «خمسًا! قالت خمسًا. تخيلي أن هذه الفتاة الصغيرة أتمت عامها الثاني الأسبوع الماضي.»

كانت نيكول سعيدة باهتمام ريتشارد بنيكي، فكانت علاقة الفتاة الصغيرة والرجل الكهل مناسبة تمامًا. فريتشارد الأب لم يستطع قط التغلب على مشكلاته العاطفية المكبوتة وإحساسه الشديد بالمسئولية، وكانت تلك هي المرة الأولى في حياته التي يتذوق فيها متعة الحب البريء. ومن ناحية أخرى فإن روبرت والد نيكي طبيب عظيم، لكنه ليس شخصًا دافئ المشاعر، ولم يستطع أن يدرك قيمة أوقات الفراغ التي يجب أن يقضيها الآباء مع أطفالهم.

دار بين باتريك ونيكول العديد من الأحاديث الطويلة عن كيتي، وكانت جميعها تبعث في نيكول شعورًا بالإحباط الشديد. فباتريك لم يُخفِ عن والدته أن كيتي متورطةٌ للغاية في جميع مؤامرات ناكامورا، وأنها تفرط في احتساء الخمر، وأنها تواعد الكثير من الرجال. لكنه لم يخبرها أنها تتولَّى إدارة أعمال الدعارة التابعة لناكامورا، أو أنه يشكُّ في أن شقيقته أصبحت مدمنة مخدرات.

١٠

استمرت العائلة في حياتها الهادئة الجميلة في نيويورك حتى صباح أحد الأيام، عندما كان ريتشارد ونيكي بالأعلى معًا بمحاذاة السور الشمالي للجزيرة. في الواقع كانت الفتاة الصغيرة هي من رأت ظلال السفن في ضوء راما الباهت. فأشارت إلى المياه المظلمة. وقالت: «انظر بوبا، نيكي ترى شيئًا.»

لم تستطع عينا ريتشارد الضعيفتان رؤية أي شيء في الظلام، ولم يكن شعاع مصباحه يصل إلى هذه المسافة البعيدة، ليلقي الضوء على الشيء الذي رأته نيكي. فأخذ ريتشارد المنظار المعظم الذي يحمله معه دائمًا، وتأكَّد بالفعل من وجود باخرتَين في وسط البحر الأسطواني. فوضع نيكي في الحامل على ظهره وأسرع بها إلى المخبأ.

كان باقي أفراد العائلة قد استيقظوا من النوم لتوهم، ووجدوا صعوبة في البداية في استيعاب سبب قلق ريتشارد. قال لهم: «لكن مَن غيرهم قد يأتي في مركب؟ خاصة في الجزء الشمالي. لا بد أنها فرقة استطلاعية أرسلها ناكامورا.»

عقدت العائلة مجلسًا على الإفطار. واتفق الجميع على أنهم يواجهون أزمة خطيرة. وعندما اعترف باتريك أنه رأى كيتي يوم الهروب؛ لأنه أراد في المقام الأول أن يودعها، وأنه قال بعض التعليقات غير المعتادة التي دفعَت كيتي إلى أن تبدأ في طرح الأسئلة، خيَّم الصمت على نيكول والآخرين.

فقال باتريك معتذرًا: «لم أقل شيئًا محددًا، لكن لا يزال من الغباء أن أفعل شيئًا كهذا … كيتي ذكية للغاية. ومن المؤكد أنها بعد اختفائنا جميعًا تمكنت من ربط الخيوط ببعضها.»

سأل روبرت تيرنر سؤالًا يعبِّر عما يجيش بصدورهم جميعًا من قلق وخوف فقال: «لكن ماذا سنفعل الآن؟ إن كيتي تعرف نيويورك جيدًا. كانت في عمر المراهقة تقريبًا عندما رحلت من هنا، ويمكنها أن تقود رجال ناكامورا إلى المخبأ مباشرة. سنكون أهدافًا سهلةً لهم هنا.»

فسأل ماكس: «هل هناك مكانٌ آخر يمكن أن نذهبَ إليه؟»

أجابه ريتشارد: «في الواقع لا يوجد. إن مخبأ الطيور القديم خاوٍ، لكنني لا أعلم كيف سنتمكَّن من إطعام أنفسنا هناك. وكان مخبأ كائنات الأوكتوسبايدر خاليًا عندما زرته قبل عدَّة شهور، لكنني لم أدخل إلى منطقتهم منذ وصلت نيكول إلى نيويورك. يجب أن نفترض بالطبع، بناءً على ما حدث عندما ذهبت أنا ونيكول في الرحلة الاستكشافية، أن أصدقاءنا ذوي اللوامس السوداء والذهبية لا يزالون موجودين. حتى إن كانوا لا يعيشون في مخبئهم القديم، فستواجهنا المشكلة نفسها؛ وهي الحصول على الطعام إذا انتقلنا إلى هناك.»

فسأله باتريك: «ماذا عن المنطقة خلف الحاجز يا عمي ريتشارد؟ قلت إن طعامنا يصنَّع هناك. ربما نجد بعض الغرف هناك …»

قال ريتشارد بعد صمت قصير: «إنني غير متفائل، لكن اقتراحك على الأرجح هو الخيار المعقول الوحيد أمامنا في الوقت الراهن.»

قررت العائلة أن يذهب ريتشارد وماكس وباتريك لاستطلاع المنطقة خلف الحاجز الأسود، كي يكتشفوا مكان صنع طعام البشر بالضبط، ويقرِّروا إذا كانت هناك منطقةٌ أخرى تصلح للسكن. وسيظل روبرت وبينجي والنساء والأطفال في المخبأ. كانت مهمتهم هي البدء في الإعداد للإخلاء السريع للمكان، في حالة اضطروا لذلك.

وقبل الخروج انتهى ريتشارد من اختبار نظام جهاز اتصال لا سلكي جديد، كان قد صمَّمه في وقت فراغه. وكان قويًّا بما يكفي لأن يتمكَّن فريق الاستكشاف، وباقي أفراد العائلة من التواصل عَبْر جهاز الاتصال طوال المدة التي سينفصلون فيها. وسهل وجود الاتصال اللاسلكي مهمة ريتشارد ونيكول في إقناع ماكس باكيت بأن يترك بندقيته في المخبأ.

•••

لم يواجه الرجال الثلاثة أي صعوبة في تتبع الخريطة المحفوظة على كمبيوتر ريتشارد، والوصول إلى غرفة المراجل التي زارها ريتشارد ونيكول في رحلتهما الاستكشافية السابقة. حدَّق ماكس وباتريك بدهشةٍ في الاثني عشر مرجلًا الضخم، والمساحة الشاسعة التي تضمُّ المواد الخام المنظمة بإتقان، والكائنات الآلية المختلفة التي تعدو هنا وهناك. كان كل شيء في المصنع يعمل بنشاط. وكان كل مرجلٍ من المراجل يشترك في عملية تصنيع من نوع ما.

قال ريتشارد لنيكول الماكثة في المخبأ عبر جهاز اللاسلكي: «حسنًا. نحن هنا ومستعدون. أعطِي أمرًا بتجهيز العشاء وسنرى ما سيحدث.»

وبعد أقل من دقيقة أنهى أقرب المراجل للرجال الثلاثة ما كان يفعله. وفي غضون ذلك تحركت ثلاثة كائناتٍ آلية، تُشبه سيارات صندوقية لها أذرع من نقطةٍ ليست ببعيدة عن الكوخ الموجود وراء المراجل متجهة نحو مجموعات المواد الخام المنظمة، والتقطت بسرعةٍ كميات قليلة من العديد من المواد المختلفة. بعد ذلك اجتمعت الكائنات الآلية الثلاثة عند المرجل غير النشط بالقرب من ريتشارد وماكس وباتريك، وأفرغت حاوياتها على السير المتحرِّك الذي يدخل إلى المرجل. وعلى الفور سمع الرجال الثلاثة المرجل وهو يبدأ في العمل بنشاط. وعندما كانَت عملية التصنيع القصيرة على وَشْك أن تنتهي، زحف صاعدًا على السير المتحرك كائنٌ آلي طويل نحيف يشبه ثلاثة جداجد مربوطة معًا في صف، لدى كلٍّ منها درع على شكل إناء. وبعد لحظاتٍ توقَّف المرجل مرة أخرى، وخرجت المواد المصنعة على السير المتحرك. أخرج الجدجد الآلي المجزأ مغرفةً من طرفه، ووضع الطعام المعد للبشر على ظهره وانطلق مبتعدًا.

قال ماكس وهو يرى الجدجد الآلي يسير مبتعدًا في الرواق خلف الكوخ: «هذا مذهل.» وقبل أن يتفوَّه أيٌّ من الرجال بكلمة واحدة، حمَّلت مجموعةٌ أخرى من الكائنات الآلية الشبيهة بالسيارة الصندوقية ذات الأذرع؛ السيورَ المتحركة بأعوادٍ طويلة سميكة، وفي أقل من دقيقة كان المرجل الذي صنع لهم الطعام يصنع شيئًا آخر.

هتف ريتشارد بحماسة: «يا له من نظام رائع! لا بد أنه يعمل وفق نظامٍ معقد للتعامل مع عمليات التوقف المفاجئة، وعلى رأسها طلبات الطعام. لا أصدق …»

وهنا قاطعه ماكس قائلًا: «انتظر لحظة، وأعِد ما قلته بلغةٍ مفهومة.»

قال ريتشارد بانفعال: «لدينا في المخبأ نظم فرعية للترجمة الأوتوماتيكية، صممتها عندما كنا هنا قبل سنوات. وعندما أدخلت نيكول طلب الدجاج والبطاطس والسبانخ في الكمبيوتر، ظهرت قائمةٌ من أوامر لوحة المفاتيح تمثِّل المواد الكيميائية المعقدة في هذه الأنواع المحددة من الطعام على جهاز إخراج المعلومات لديها. وبعد أن أرسلتُ إليها إشارةً أننا جاهزون، كتبت تلك السلسلة من الأوامر على لوحة المفاتيح. ووصلت الأوامر على الفور، وما رأيناه هنا كان الاستجابة على الأوامر. وفي ذلك الوقت كانت أنظمة المعالجة جميعها نشطة، غير أن الجهاز المقابل للكمبيوتر عندنا، الذي يستخدمه سكان راما في هذا المصنع، تعرَّف أن الطلب القادم كان من أجل الطعام، فجعله على رأس قائمة أولوياته.»

فقال باتريك: «هل تعني يا عمي ريتشارد أن كمبيوتر التحكم هنا أوقف المرجل العامل حتى يقوم بتصنيع غذائنا؟»

قال ريتشارد: «نعم، هذا ما حدث بالفعل.»

كان ماكس قد ابتعد قليلًا، وكان يُحملق في المراجل الأخرى في المصنع الضخم. فسار ريتشارد وباتريك إليه.

قال ماكس: «عندما كنت صبيًّا صغيرًا في الثامنة أو التاسعة من عمري، ذهبت أنا ووالدي في أول رحلة تخييم ليلية في أعلى منطقة أوزاركس الجبلية التي تبعد عدة ساعات من مزرعتنا. كانت ليلة رائعة والسماء مليئة بالنجوم. أذكر أنني كنت نائمًا على ظهري على حقيبة التخييم، محدقًا في تلك الأضواء المتلألئة الصغيرة في السماء … وفي تلك الليلة داعبت ذهني فكرة أعمق من أن تجول بذهن طفل من آركنسو يعيش في مزرعة. تساءلت عن عدد الأطفال في الفضاء الخارجي الذين يتطلعون إلى نجوم الكون في تلك اللحظة بالذات، ويدركون لأول مرة أن عالمهم صغير جدًّا مقارنة بالنظام الكوني بأكمله.»

التفت ماكس وابتسم لصديقَيه. وقال وهو يضحك: «كان ذلك هو أحد الأسباب التي دفعتني أن أبقى مزارعًا. فأنا مهم جدًّا للدجاج والخنازير التي أربيها. فأنا أحضر لها طعامها، ويكون وصول العجوز ماكس إلى حظيرتها حدثًا كبيرًا …»

وتوقف للحظة. لم يتفوَّه أيٌّ من ريتشارد أو باتريك بكلمة. فاستأنف هو قائلًا: «أظن أنني في أعماقي دائمًا ما أردت أن أكون عالم فلك؛ لأرى إذا كان بإمكاني فهم ألغاز الكون. لكن في كل مرة فكرت فيها في مليارات السنين ومليارات الكيلومترات أصابني الإحباط. لم أحتمل الشعور بالضآلة وعدم الأهمية الذي اجتاحني. كان الأمر كما لو أن هناك صوتًا بداخلي يظل يقول: «باكيت، إنك لا شيء على الإطلاق. لست إلا نكرة».»

فقال ريتشارد بهدوء: «لكن «إدراك» هذه الضآلة، خاصة مع قدرتنا على قياسها يجعلنا — نحن البشر — مميزين.»

أجابه ماكس: «نحن نتفلسف الآن. وأنا لا أشعر بالارتياح في الحديث بهذا الأسلوب. أرتاح مع حيوانات المزرعة والتيكيلا والعواصف الرعدية غرب الأوسطية.» ثم لوَّح بذراعَيه في اتجاه المراجل والمصنع قائلًا: «كل هذه الأشياء ترعبني. ولو كنت أعرف عندما وافقت على القدوم للعيش في هذه المستوطنة المريخية، أنني سأقابل آلاتٍ أذكى من البشر …»

في تلك اللحظة جاءهم صوت نيكول القلق عبر جهاز اللاسلكي وهي تقول: «ريتشارد. لدينا حالة طوارئ. عادت إيلي لتوها من الشاطئ الشمالي. هناك أربعة مراكب ضخمة على وَشْك أن ترسو … وتقول إيلي إنها واثقة من أنها رأت أحدهم يرتدي زي شرطة رسميًّا … وقالت أيضًا إنها رأت ما يشبه قوس قزح ضخمًا جهة الجنوب … هل يمكنكم العودة إلى هنا في غضون دقائق؟»

أجابها ريتشارد: «كلا، لا يمكننا ذلك. إننا لا نزال في الأسفل في غرفة المراجل. نحن نبعد على الأقل ثلاثة كيلومترات ونصف كيلومتر … هل قالت إيلي عدد الأشخاص الذين من المحتمل وجودهم على كل مركب؟»

أجابته إيلي: «أظن أنهم عشرة أو اثنا عشر شخصًا تقريبًا يا أبي. أنا لم أبقَ كي أُحصيَهم … لكن لم تكن المراكب هي الأمر الوحيد الغريب الذي رأيته عندما صعدت إلى أعلى. فعندما كنت أركض عائدة إلى المخبأ، أضاءت السماء في المنطقة الجنوبية بومضاتٍ قوية من الألوان التي أصبحَت في النهاية قوس قزح ضخمًا … إنه بالقرب من المكان الذي أخبرتنا أنه يجب أن يكون الجبل الكبير فيه.»

وبعد عشر ثوانٍ صاح ريتشارد في جهاز اللاسلكي: «نيكول، إيلي، اسمعوني جميعًا جيدًا. اتركوا المخبأ على الفور. اصطحبوا الأطفال والفرخَين والبطيخ، والكائنات اللاسويقية والبندقيتَين وكل الطعام، وقَدْر ما يمكنكم حمله من الأغراض الشخصية. واتركوا أغراضنا فلدينا هنا في حقائب الظهر ما يكفينا في حالة الطوارئ. اذهبوا مباشرة إلى مخبأ كائنات الأوكتوسبايدر وانتظرونا في الغرفة الكبيرة التي كانت معرضًا للصور قبل سنوات … فقوات ناكامورا ستأتي إلى مخبئنا أولًا. وإذا لم تجدنا وكانت كيتي معهم، فمن المحتمل أن يذهبوا إلى مخبأ الأوكتوسبايدر أيضًا، لكنني لا أعتقد أنهم سيذهبون إلى الأنفاق هناك …»

فسألته نيكول: «ماذا عنك أنت وماكس وباتريك؟»

«سنعود بأقصى سرعتنا. وإذا لم نجد أحدًا … بالمناسبة يا نيكول، اتركي جهاز إرسال وارفعي درجة صوته إلى درجة عالية في الغرفة البيضاء وفي غرفة الأطفال. بهذه الطريقة سنعلم إذا كان هناك شخص في مخبئنا … وعلى أي حال، كنت أقول لك إنه إذا لم يغزُ أحد منزلنا، فسننضم إليكم على الفور. وإذا كان رجال ناكامورا يحتلون منزلنا، فسنحاول العثور على مدخل آخر لمخبأ كائنات الأوكتوسبايدر من هنا. لا بد أن هناك مدخلًا …»

قاطعته نيكول: «حسنًا. لا بد أن نبدأ في حزم أغراضنا … وسأترك جهاز الاستقبال مفتوحًا في حالة احتجت إلينا.»

سأل ماكس بعد أن أغلق ريتشارد جهاز الإرسال: «هل تظن إذن أننا سنكون بأمان أكثر في مخبأ كائنات الأوكتوسبايدر؟»

أجابه ريتشارد بابتسامة باهتة: «إنه خيار ليس إلا. هناك الكثير من الأشياء التي لا نعرفها هنا خلف الحاجز. ونحن واثقون أننا لن نكون بمأمن إذا عثرت شرطة وقوات ناكامورا علينا … من المحتمل ألَّا تكون كائنات الأوكتوسبايدر تعيش في المخبأ. إلى جانب أننا، وكما قالت نيكول عدة مراتٍ لا نملك دليلًا قاطعًا على أنها كائنات عدائية.»

•••

تحرك الرجال بأسرع ما يمكنهم. واضطروا للتوقف للحظة حتى ينقل باتريك بعض الأغراض التي تثقل كاهل ريتشارد إلى حقيبته. كان ريتشارد وماكس يتصببان عرقًا، عندما وصلوا إلى التشعب في الرواق الذي يشبه حرف Y.

قال ماكس لباتريك الذي كان يسبق رفيقَيه الكهلَين: «يجب أن نتوقف لدقيقة. فعمك ريتشارد يجب أن يرتاح قليلًا.»

أخرج باتريك زجاجة ماء من حقيبته وناولها لهما. فشرب ريتشارد بنهم من الزجاجة، ومسح جبينه بمنديل، وبعد أن ارتاحوا لدقيقة بدءوا السير مرة أخرى باتجاه المخبأ.

وعلى بعد ما يقرب من خمسمائة متر من الرصيف الصغير خلف الحاجز الأسود، بدأ جهاز الاستقبال الذي يحمله ريتشارد يلتقط أصواتًا غير واضحة من داخل المخبأ. فقال ريتشارد وهو يبطئ من سرعته لينصت: «ربما نسي أحد أعضاء العائلة شيئًا مهمًّا وعاد لاستعادته.»

وبعد وقت قصير، سمع ثلاثتهم صوتًا لم يتعرَّفوا على صاحبه. فتوقفوا وانتظروا. قال الصوت: «يبدو أن نوعًا من الحيوانات كان يعيش هنا. لمَ لا تأتي لتلقي نظرة؟»

قال صوت ثانٍ: «تبًّا. كانوا قطعًا هنا منذ وقتٍ قريب … تُرى منذ متى رحلوا؟»

سمعوا صياح شخصٍ ما. كان يسأل: «ماذا تريدني أن أفعل بهذه المعدات الإلكترونية أيها النقيب باور؟»

أجابه الصوت الثاني: «اتركها الآن. ستنزل باقي القوات في غضون دقائق قليلة. سنقرر وقتها ماذا سنفعل.»

جلس ريتشارد وماكس وباتريك بهدوء في النفق المظلم. ولدقيقة تقريبًا لم يسمعوا شيئًا عبر جهاز الاستقبال. يبدو أنه لم يكن هناك أحد من فرقة التفتيش في الغرفة البيضاء، أو في غرفة الأطفال في ذلك الوقت. ثم سمع ثلاثتهم صوت فرانتس باور مرة أخرى.

كان باور يقول: «ماذا قلت يا مورجان؟ بالكاد أسمعك … هناك جلبة … ماذا؟ ألعاب نارية؟ ألوان؟ … ما الذي تتحدث عنه؟ حسنًا. حسنًا. سنصعد على الفور.»

ولخمس عشرة ثانية أخرى لم تصل أي أصوات عبر جهاز الاستقبال. ثم عاد صوت النقيب باور يقول بوضوح: «ها أنت ذا يا فايفر. اجمع الرجال الآخرين ودعنا نصعد مرة أخرى. مورجان يقول إن هناك عرض ألعاب نارية مذهلًا في السماء جهة الجنوب. معظم القوات مفزوعة بالفعل بسبب ناطحات السحاب والظلام. سأصعد كي أهدِّئ روعَ الجميع.»

وهنا همس ريتشارد وهو يقف على قدميه: «هذه فرصتنا. سيخرجون من المخبأ لبضع دقائق.» وبدأ يركض ثم توقف فجأة. وقال: «قد نحتاج إلى أن نفترق … هل تتذكران كيف يمكنكما الوصول إلى مخبأ الأوكتوسبايدر؟»

هزَّ ماكس رأسه. وقال: «لم أكن يومًا …»

فقال ريتشارد وهو يعطي ماكس الكمبيوتر المحمول الخاص به: «خذ هذا. أدخل حرف M وحرف P لعرض صورة شاملة لنيويورك. وستجد مخبأ كائنات الأوكتوسبايدر مميزًا بدائرة حمراء … وإذا ضغطت على حرف L مرتَين فسيعرض لك الجهاز خريطة للمخبأ من الداخل … والآن دعونا ننطلق، فلا يزال لدينا بعض الوقت.»

لم يقابل ريتشارد وماكس وباتريك أيًّا من القوات داخل المخبأ. لكن كان هناك حارسان يقفان على بُعد أمتارٍ قليلة من باب الخروج الذي يقود إلى نيويورك. ولحسن الحظ كان الحارسان يتابعان بكل كيانهما الأعمال النارية في سماء راما فوق رأسيهما، لدرجة أنهما لم يسمعا صوت الرجال الثلاثة وهم يصعدون السلم وراءهما خلسة. وزيادة في الحرص تفرق الرجال الثلاثة، وسلك كلٌّ منهم طريقًا مختلفًا إلى مخبأ كائنات الأوكتوسبايدر.

وصل ريتشارد وباتريك إلى وجهتهما تفصلهما دقائق قليلة، لكن ماكس تأخر. فمن سوء حظه أن الطريق الذي اختاره كان يمر بأحد الميادين التي اجتمع فيها خمس أو ست من قوات المستوطنة؛ لمشاهدة الأعمال النارية من مكان أفضل. فأسرع ماكس في أحد الأزقة، واختبأ بجوار أحد المباني. ثم أخرج الكمبيوتر وأخذ يفحص الخريطة على الشاشة، محاولًا العثور على طريق آخر يقود إلى مخبأ كائنات الأوكتوسبايدر.

في هذه الأثناء كان عرض الأعمال النارية المذهل لا يزال مستمرًّا في السماء. ألقى ماكس نظرة إلى أعلى، وانبهر عندما رأى كرة زرقاء كبيرة تنفجر ملقية مئات من أشعة الضوء الأزرق في جميع الاتجاهات. ولدقيقة ظل ماكس يراقب العرض الذي يخلب اللب. كان أروع من أي شيء رآه على الأرض.

عندما وصل ماكس أخيرًا إلى مخبأ كائنات الأوكتوسبايدر، هبط المنحدر بسرعةٍ ودخل إلى الغرفة الرئيسية التي تحتوي على الأنفاق الأربعة، التي يقود كلٌّ منها إلى الأجزاء الأخرى من المخبأ. كتب ماكس حرف L مرتين على جهاز الكمبيوتر، فظهرت له خريطة لمخبأ كائنات الأوكتوسبايدر على الشاشة الصغيرة. كان ماكس يركز بشدة على الخريطة حتى إنه لم يسمع في البداية صوت جر الفرش الميكانيكية المصحوب بأنين رقيق عالي النغمة.

لم يرفع ماكس رأسه إلا بعد أن أصبح الصوت عاليًا جدًّا. وعندما فعل كان الأوكتوسبايدر الضخم يقف على بعد ما لا يزيد عن خمسة أمتار منه. وما إن رآه ماكس حتى سرت في جسده قشعريرة قوية. تجمد في مكانه مقاومًا رغبته في الهروب. تحرك السائل الهلامي في عدسة عين الأوكتوسبايدر الوحيدة من جانب لآخر، لكن دون أن يتقدم الكائن الفضائي تجاهه خطوة أخرى.

اندفع من إحدى الفجوات المتوازية على جانبَي العدسة شريط أرجواني، أخذ يطوف رأس الأوكتوسبايدر الكروية، يتبعه شرائط من ألوان أخرى، واختفت جميعها في الشق الثاني من الشقَّين المتوازيَين. وعندما تكرَّر شريط الألوان نفسه هزَّ ماكس رأسه، وقلبه يخفق بقوة حتى إنه كان يشعر بخفقانه في حلقه. وقال: «لا أفهم.» تردَّد الأوكتوسبايدر لدقيقةٍ ثم رفع اثنتَين من لوامسه من على الأرض، وأشار بوضوحٍ في اتجاه أحد الأنفاق الأربعة. ثم تحرَّك الكائن في ذلك الاتجاه وأعاد الإشارة.

وقف ماكس وسار ببطء في اتجاه النفق المشار إليه، وهو يحرص على ألَّا يقترب كثيرًا من الأكتوسبايدر. وعندما وصل إلى مدخله، خرجت سلسلة أخرى من الشرائط الملونة، ودارت حول رأس الكائن الفضائي. فقال ماكس بأسلوبٍ مهذبٍ وهو يدخل إلى الممر ويسير فيه: «شكرًا جزيلًا.»

لم يتوقف ماكس لينظر إلى خريطته إلا بعد أن قطع ثلاثمائة أو أربعمائة متر في النفق. وكلما كان ماكس يتقدم كانت الأضواء تظهر أمامه أوتوماتيكيًّا وتنطفئ في الأجزاء التي اجتازها بالفعل. وعندما فحص خريطته آخر الأمر اكتشف أنه ليس بعيدًا عن الغرفة المحددة.

وبعد دقائق قليلة دخل ماكس الغرفة، حيث وجد باقي أفراد العائلة مجتمعين. ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ كبيرة. وقال قبل أن تعانقه إيبونين: «لن تتخيَّلوا أبدًا من قابلت لتوِّي.»

•••

بعد انتهاء ماكس من قصِّ حكايته مع الأوكتوسبايدر للجميع، عاد ريتشارد وباتريك في المسار نفسه إلى الغرفة الرئيسية، وكانا يتوقفان كل مائة متر تقريبًا وينصتان بحرص بحثًا عن صوت الكائن الفضائي. لكنهما لم يسمعا شيئًا. وكذلك لم يسمعا أو يريا شيئًا يدلُّ على أن القواتِ التي أُرسِلَت من عدن الجديدة قريبةٌ منهم. وبعد مرور ساعة تقريبًا عاد ريتشارد وباتريك إلى باقي المجموعة، واشتركا في مناقشةٍ حول ما يجب أن يفعلوه بعد ذلك.

كان لدى العائلة الكبيرة طعام يكفيها لخمسة أيام، أو ربما ستة إذا رشدوا استهلاكهم. وكان الماء متاحًا في الحوض بالقرب من الغرفة الرئيسية. اتفق الجميع سريعًا أن فريق البحث القادم من عدن الجديدة — على الأقل الفريق الأول — لن يمكث في نيويورك طويلًا على الأرجح. ودار بينهم حوار قصير حول احتمالية أن تكون كيتي قد أخبرت النقيب باور ورجاله عن موقع مخبأ كائنات الأوكتوسبايدر. وفي مرحلة حاسمة من النقاش لم يكن هناك ما يدعو للاستمرار؛ فاليوم أو اليومان التاليان سيحددان إذا كان إخوانهم من البشر سيعثرون عليهم. ونتيجة لذلك لم يغادر أيٌّ من أفراد العائلة الغرفة الكبيرة التي كانوا يمكثون فيها، إلا في حالة الضرورات الجسدية، على مدار الساعات الست والثلاثين التالية.

وفي آخر ذلك الوقت كانت المجموعة بأكملها، لا سيما الطائرَين والتوءمَين، يعانون حالةً سيئةً من حمى الأماكن المغلقة. فاصطحب ريتشارد وناي تامي وتيمي وبينجي والأطفال الصغار إلى الممر محاولين بلا فائدة أن يبقوهم هادئين، وقادوهم بعيدًا عن الغرفة الرئيسية باتجاه الممر الرأسي ذي النتوءات الذي يهبط في مخبأ كائنات الأوكتوسبايدر. حذر ريتشارد — الذي كان يحمل نيكي على ظهره معظم الوقت — ناي والتوءمَين من مدى خطورة المنطقة التي يقتربون منها. ومع ذلك ما إن بدأ النفق يتسع ووصلوا إلى الممر الرأسي، حتى صعد جاليليو المتهور إلى الحفرة التي على شكل برميل، قبل أن تتمكَّن والدته من إيقافه. وسرعان ما تجمَّد في مكانه من الخوف. وكان على ريتشارد أن ينقذ الطفل من المكان الخطر الذي يقف فيه على بروزَين، أسفل مستوى الممر الذي يحيط بحافة الهاوية الضخمة. كان المخلوقان الطائران الصغيران مسرورَين لأنه عاد بإمكانهما التحليق مرة أخرى، وظلَّا يحومان في المنطقة بحُرية، وهبطا مرتَين لعدة أمتار في الهوة المظلمة، لكنهما لم يهبطا لمسافة كافية لإشعال المجموعة التالية من الأضواء.

وقبل العودة إلى باقي أفراد العائلة، اصطحب ريتشارد بينجي معه لإلقاء نظرة سريعة فاحصة على ما كان يسميه هو ونيكول متحف كائنات الأوكتوسبايدر. كانت تلك الغرفة الضخمة، التي تقع على بُعد عدَّة مئات الأمتار من الممر الرأسي، لا تزال خاوية تمامًا. وبعد عدَّة ساعات، دخل نصف أفراد العائلة الكبيرة بناءً على اقتراح ريتشارد إلى المتحف لمنح الجميع مساحة أكبر.

في اليوم الثالث لبقائهم في مخبأ كائنات الأوكتوسبايدر، قرَّر ريتشارد وماكس أنه يجب أن يُحاول أحدهم اكتشاف ما إذا كانت قوات المستوطنة لا تزال في نيويورك. وكان باتريك هو الخيار المنطقي ليكون مستكشف الأسرة. كانت تعليمات ريتشارد وماكس له واضحة ومباشرة؛ ألا وهي التقدم بحرص إلى الغرفة الرئيسية ثم صعود المنحدر إلى نيويورك. ومن هناك يعبر إلى الشاطئ الشمالي للجزيرة، مع استخدام المصباح الكهربي والكمبيوتر المحمول في أضيق الحدود، ليرى إذا كانت القوارب لا تزال موجودة. وأيًّا كان ما سيتوصل إليه يجب أن يعود إلى المخبأ مباشرة ويقدم لهم تقريرًا كاملًا.

ثم قال له ريتشارد: «هناك شيء واحد آخر في غاية الأهمية عليك أن تتذكره. في أي وقت تسمع فيه صوت كائن أوكتوسبايدر أو جندي، عليك أن تعود أدراجك على الفور. لكن مع وَضْع الشرط الآتي في اعتبارك: يجب ألَّا يراك أيُّ إنسان وأنت تنزل إلى المخبأ. لا يمكنك أن تفعل أي شيء يعرِّض حياة باقي أفراد مجموعتنا للخطر.»

أصر ماكس على أن يأخذ باتريك إحدى البندقيتَين. ولم يناقشه ريتشارد ونيكول في هذا الأمر. وبعد أن تمنى له الجميع حظًّا طيبًا، بدأ باتريك مهمته الاستكشافية. لم يكن قد سار سوى خمسمائة متر في النفق عندما سمع ضوضاء أمامه. فتوقف لينصت جيدًا، لكنه لم يستطع تمييز صوت ما يسمعه. وبعد حوالي مائة متر أخرى بدأت بعض الأصوات تتضح. وتيقن باتريك من أن ما يسمعه هو صوت جر فرش معدنية عدة مرات. كما كان هناك صوت صليل كما لو أن أشياء معدنية يرتطم بعضها ببعض أو بجدار. أرهف باتريك السمع لعدة دقائق أخرى ثم تذكر التعليمات التي تلقاها، فعاد إلى عائلته وأصدقائه.

وبعد مناقشة طويلة أُرسل باتريك إلى الخارج مرة أخرى. وقيل له هذه المرة أن يقترب من كائنات الأوكتوسبايدر إلى أقرب مسافة ممكنة، وأن يراقبها بهدوء لأطول وقت. ومرة أخرى سمع باتريك صوت جر فرش وهو يقترب من الغرفة الرئيسية. لكن عندما وصل باتريك إلى الغرفة الكبيرة الموجودة أسفل المنحدر بالفعل، لم يجد أيًّا من كائنات الأوكتوسبايدر. فتساءل: «أين ذهبت؟» وأول فكرة خطرت على باله في تلك اللحظة هي أن يعود من حيث جاء. لكنه قرَّر أنه ما دام لم يقابل أيًّا من كائنات الأوكتوسبايدر، فبإمكانه صعود المنحدر والخروج إلى نيويورك وتنفيذ باقي المهمة التي أُسنِدَت إليه في البداية.

أُصِيب باتريك بصدمة، عندما اكتشف بعد دقيقةٍ واحدة تقريبًا أن باب الخروج من مخبأ الأوكتوسبايدر قد أُغلِقَ بإحكام، باستخدام مزيج سميك من القضبان المعدنية ومادة تشبه الأسمنت. استطاع بالكاد أن يرى ما وراء الغطاء، وكان ثقيلًا جدًّا لدرجة أن جميع أفراد العائلة لن يتمكَّنُوا من إزاحته. فقال باتريك في نفسه: «إن كائنات الأوكتوسبايدر هي من فعلت هذا، لكن لماذا تحبسنا هنا؟»

وقبل أن يعود باتريك ويقدم تقريره، فحص الغرفة الرئيسية ووجد أن أحد أنفاق الخروج الأربعة أغلق أيضًا، بما بدا أنه باب سميك أو بوابة. ففكر: «من المؤكد أن هذا هو النفق الذي يقود إلى القناة.» ظل باتريك في المنطقة لعشر دقائق أخرى يرهف السمع بحثًا عن أصوات كائنات الأوكتوسبايدر، لكنه لم يسمع أي صوت.

١١

«وكنتم تقولون إن كائنات الأوكتوسبايدر لم تقم بأي تصرف عدواني قط؟ فماذا تطلقون إذن على ما حدث؟ نحن محبوسون.» قال ماكس هذه الجملة وهو يشتعل غضبًا. ثم هز رأسه بقوة وهو يقول: «أرى أن المجيء إلى هنا كان فكرة غبية في المقام الأول.»

قالت إيبونين: «رجاء يا ماكس. دعنا لا نختلف. فلن يفيدنا أن نتشاجر.»

قطع جميع أفراد العائلة الكبار، ما عدا ناي وبينجي، مسافة الكيلومتر في الممر الذي يفصلهم عن الغرفة الرئيسية؛ ليروا ماذا فعلت كائنات الأوكتوسبايدر. كان البشر بالفعل محتجزين داخل المخبأ. وكان نفقان من الأنفاق الثلاثة المفتوحة التي تقود إلى خارج الغرفة يفضيان إلى الرواق الرأسي، وسريعًا ما اكتشفوا أن الثالث يؤدي إلى مخزن كبير خاوٍ ليس له مخرج.

فقال ماكس: «من الأفضل أن نفكر في شيء سريعًا. فالطعام الباقي لدينا يكفينا لأربعة أيام فقط، وليس لدينا أدنى فكرة أين يمكننا أن نحصل على المزيد.»

فقالت نيكول: «أنا آسفة يا ماكس، لكنني لا أزال أرى أن قرار ريتشارد المبدئي كان صحيحًا. لو كنا بقينا في مخبئنا، لأُلقيَ القبض علينا وأخذونا إلى عدن الجديدة وجرى إعدامنا جميعًا بلا شك …»

قاطعها ماكس: «ربما. وربما لا … على الأقل في هذه الحالة كانوا سيُبقون على حياة الأطفال. ولا أعتقد أن بينجي والدكتور كانا سيُقتلان أيضًا …»

فقال ريتشارد: «كل هذا الحديث غير عملي، ولا يتناول مشكلتنا الرئيسية؛ ألا وهي ماذا سنفعل الآن؟»

فقال ماكس بنبرة سخرية لاذعة في صوته: «حسنًا أيها العبقري. كنت أنت القائد الذي يدير دفة الأمور حتى الآن. فماذا تقترح؟»

تدخلت إيبونين مرة أخرى لتلطيف الأمور بينهما قائلة: «أنت متحامل عليه يا ماكس. إن وقوعنا في هذه الورطة ليس خطأ ريتشارد. وكما قلت من قبل هذا لا يساعدنا في شيء …»

فقال ماكس وهو يتجه إلى الممر الذي يقود إلى المخزن: «حسنًا. سأدخل إلى هذا النفق لأهدأ وأدخن سيجارة.» ثم التفت وألقى نظرة على إيبونين. وقال: «هل تريدين أن تشاركيني فيها؟ وسيتبقَّى لدينا بالضبط تسع وعشرون سيجارة بعد أن ندخن هذه.»

ابتسمت إيبونين ابتسامة باهتة لنيكول وإيلي. وقالت بهدوء: «إنه لا يزال مستاءً مني لأنني لم أحضر كل سجائرنا عندما أخلينا المخبأ. لا تقلقوا … إن ماكس سيئ المزاج لكنه سرعان ما ينسى الأمر … سنعود بعد دقائق قليلة.»

قالت نيكول لريتشارد بعد أن غادر ماكس وإيبونين بثوانٍ قليلة: «ما هي خطتك يا عزيزي؟»

قال ريتشارد بإحباط: «ليس أمامنا الكثير من الخيارات. فليجلس أقل عددٍ ممكن من الكبار مع بينجي والأطفال والطائرَين، بينما يستكشف الباقون هذا المخبأ بأقصى سرعةٍ ممكنة. لا أصدق أن كائنات الأوكتوسبايدر تعتزم حقًّا أن تحبسنا هنا حتى نموت جوعًا.»

قال روبرت تيرنر الذي أراد التحدث لأول مرة، منذ أن أبلغهم باتريك أن باب الخروج الذي يقود إلى نيويورك أغلق: «معذرة يا ريتشارد، لكن ألست تفترض مرة أخرى أن كائنات الأوكتوسبايدر ودودة؟ ماذا إذا لم تكن كذلك؟ أو ماذا إذا كان — وهذا هو الأرجح في رأيي — بقاؤنا لا يعنيها بتاتًا، وأنها أغلقت مخبأها لحماية نفسها من البشر الذين ظهروا مؤخرًا …»

توقف روبرت عن الحديث فجأة وكأن تيار الأفكار المتدفق في ذهنه انقطع. ثم استأنف بعد ثوانٍ قليلة: «ما أحاول قوله هو أن الأطفال ومن بينهم حفيدتك في خطر شديد — خطر نفسي وجسدي في نظري — في موقفنا الراهن، وسأعارض أي خطة تتركهم عرضة للخطر ودون حماية …»

قاطعه ريتشارد قائلًا: «معك حق يا روبرت. يجب أن يبقى أكثر من شخص من الكبار، من بينهم رجل واحد على الأقل مع بينجي والأطفال. وفي الحقيقة المهمة التي تتولاها ناي الآن ثقيلة عليها … فلمَ لا تعود أنت وباتريك وإيلي إلى الأطفال الآن؟ وسننتظر أنا ونيكول ماكس وإيبونين وننضمُّ إليكم خلال وقتٍ قصير.»

ظل ريتشارد ونيكول وحدهما بعد أن غادر الجميع. قالت نيكول: «تقول إيلي إن روبرت ثائر معظم الوقت الآن، لكنه لا يعرف كيف يعبِّر عن غضبه بصورة بناءة … إذ أخبرها أنه يرى أن الأمر برمته كان خطأً منذ البداية، ويظل ساعات يفكر في الأمر بعمق … حتى إن إيلي تقول إنها قلقةٌ على سلامته.»

هزَّ ريتشارد رأسه. وقال: «ربما كان خطأ بالفعل. ربما كان من الأفضل أن نعيش حياتنا أنا وأنت هنا وحدنا، لكنى اعتقدت أن …»

في تلك اللحظة عاد ماكس وإيبونين إلى الغرفة. وقال ماكس وهو يمد يده للمصافحة: «أريد أن أعتذر منكما. أظن أنني جعلت خوفي ويأسي يسيطران عليَّ.»

فأجابته نيكول: «شكرًا لك يا ماكس. لكن لا داعي للاعتذار. فمن الغباء افتراض أن العديد من الأشخاص يمكنهم المرور بتجربة مثل التي نمر بها دون حدوث اختلاف.»

•••

تجمعت العائلة في المتحف. وقال ريتشارد: «دعونا نراجع الخطة مرة أخرى. سنهبط نحن الخمسة النتوءات ونستكشف المنطقة حول رصيف القطار النفقي. وسنفحص جيدًا كل نفق نعثر عليه. وإذا لم نجد طريقًا للهروب وكان القطار الكبير لا يزال موجودًا، فسنستقله أنا وماكس وإيبونين ونيكول. عندئذٍ سيصعد باتريك وينضم إليكم في المتحف.»

فسأله روبرت: «ألا تظن أن وجودكم أنتم الأربعة على متن القطار يعد تهورًا؟ لماذا لا يذهب اثنان منكم في البداية؟ ماذا إذا غادر القطار ولم يعد قطُّ؟»

فأجابه ريتشارد: «الوقت عدونا يا روبرت. فلو لم يكن الطعام ينفد منا، لكان من الممكن أن نتبع خطةً أكثر حذرًا. وفي هذه الحالة كان من الممكن أن يدخل اثنان منا فقط القطار. لكن ماذا إذا كان القطار يؤدي إلى أكثر من مكان؟ ولأننا قرَّرنا أن تكون كل مجموعة بحث تتكون من فردَين، فمن الممكن أن يستغرق العثور على طريق الهروب وقتًا طويلًا، بالاعتماد فقط على مجموعةٍ واحدةٍ لتقوم بعملية البحث.»

خيم صمت طويل على الغرفة حتى بدأ تيمي يصرخ في شقيقته. فاتجهت نيكي إليه وبدأت تربت على الجانب السفلي الناعم من الطائر. فقال ريتشارد: «لا أدعي أن لديَّ جميع الحلول. ولا أقلل من خطورة موقفنا. لكن إذا كان هناك مخرج من هنا، وأنا ونيكول نعتقد أنه لا بد أن هناك واحدًا، فكلما وجدناه مبكرًا كان هذا أفضل.»

وهنا سأله باتريك: «على فرض أنكم أنتم الأربعة ركبتم القطار، فكم من الوقت ننتظركم هنا في المتحف؟»

أجابه ريتشارد: «هذا سؤال صعب. فلديكم طعام يكفي لأربعة أيام أخرى، والمياه الوفيرة في الحوض ستبقيكم أحياء لفترة أطول بعد ذلك … لا أدري يا باتريك. أظن أن عليكم البقاء هنا ليومين أو ثلاثة أيام على الأقل … وبعد ذلك عليكم أن تتخذوا قراركم … وإذا أمكن فسيعود واحد أو أكثر منا.»

كان بينجي يتابع الحوار باهتمام. ومن الواضح أنه يفهم ما يحدث بطريقة ما إذ إنه بدأ يبكي بهدوء. فاتجهت نيكول إليه لتهدئته. قالت له: «لا تقلق يا بني. كل شيء سيكون على ما يرام.»

نظر الطفل الكبير إلى والدته. وقال لها: «أتمنى ذلك يا ماما، لكنني خائف.»

وفجأة قفز جاليليو واتانابي واجتاز الغرفة ركضًا، واتجه إلى حيث توجد البندقيتان إلى جانب الحائط. وقال بعد أن لمس البندقية الأقرب إليه قبل أن يرفعها ماكس بعيدًا عن متناوله: «إذا ظهر أيٌّ من كائنات الأوكتوسبايدر، فسأطلق النار عليها. طاخ! طاخ!»

فدفع صراخه المخلوقَين الطائرَين إلى الصياح، ونيكي الصغيرة إلى البكاء. وبعد أن مسحت إيلي دموع ابنتها، وضع ماكس وباتريك البندقيتَين على كتفَيهما وودع المستكشفون الخمسة رفاقهم. سارت إيلي معهم إلى النفق. وقالت: «لم أشأ أن أطرح هذا السؤال أمام الأطفال، لكن ماذا «يجب» علينا أن نفعل إذا رأينا أوكتوسبايدر في غيابكم؟»

أجابها ريتشارد: «حاولي ألَّا تهلعي.»

وأضافت نيكول: «ولا تقومي بأي تصرُّفٍ عدواني.»

فقال ماكس وهو يغمز لها بعينه: «أمسكي بنيكي وأطلقي ساقيكِ للريح.»

•••

لم يحدث أي شيءٍ غير عادي وهم يهبطون النتوءات. وكما حدث قبل سنوات، كانت الأضواء في المستوى التالي تُضاء فور أن يقترب أحدهم من منطقة غير مضاءة. وفي أقل من ساعةٍ وصل المستكشفون الخمسة إلى رصيف القطار. قال لهم ريتشارد: «الآن سنعرف إذا كانت هذه المركبات الغامضة لا تزال تعمل.»

وفي منتصف الرصيف الدائري، كانت هناك حفرةٌ دائريةُ الشكل أصغر حجمًا تبرز من جوانبها نتوءاتٌ معدنية وتهبط أكثر في الظلام. وفي طرفَي الرصيف بزاوية تسعين درجةً إلى يمين ويسار النقطة التي كانوا يقفون فيها، بدا نفقان مظلمان شقَّا في الصخور والمعادن. كان أحد النفقَين كبيرًا يصل ارتفاعه إلى خمسة أو ستة أمتار، في حين كان النفق المقابل له أصغر منه بعشر مراتٍ بالضبط. وعندما اقترب ريتشارد من النفق الكبير أضيء النفق فجأة، وأصبح من الممكن رؤية ما بداخله بوضوح. كان النفق يشبه أنبوب صرف صحي كبيرًا كالمستخدم على كوكب الأرض.

وفور أن سمعوا صوت أول صفير قادم من النفق، هُرع فريق الاستكشاف ليقفَ إلى جانب ريتشارد. وبعد أقلَّ من دقيقةٍ ظهر قطار نفقي مندفعًا في زاويةٍ بعيدة ثم اتجه نحوهم بسرعة، ووقف ومقدمته على بعد متر تقريبًا من النقطة التي يستمر فيها الممر ذو النتوءات في الهبوط لأسفل.

بدا القطار النفقي أيضًا مضاءً من الداخل. ولم يكن به مقاعد بل قضبان عمودية من السقف إلى الأرض متناثرة في العربة بنمط يبدو عشوائيًّا. فتح الباب بعد ما يقرب من خمس عشرة ثانية من وصول القطار. وعلى الجانب المقابل من الرصيف، وصلَت عربة مطابقة للأولى لكن عُشرها في الحجم، وتوقفت بعد ما لا يزيد عن خمس ثوانٍ.

ومع أن ماكس وباتريك وإيبونين سمعوا جميعًا قصصًا عن القطارَين اللذَين تسكنهما أرواح عدَّة مرات، فإن رؤية العربتَين بأعينهم جعلت ثلاثتهم يشعرون بالخوف. فحص ماكس وريتشارد الجزء الخارجي من القطار الكبير بسرعة. ثم قال ماكس لريتشارد: «هل أنت جاد فيما تقول يا صديقي؟ هل تعتزم حقًّا أن «تستقل» هذا الشيء إذا لم نجد طريقًا آخر؟»

أومأ ريتشارد برأسه.

قال ماكس: «لكنه قد يكون ذاهبًا إلى «أي مكان». وليس لدينا أدنى فكرة عن ماهيته أو هُويَّة صانعه أو سبب وجوده هنا. وفور أن نصعد على متنه لن يكون بمقدورنا فعلُ أي شيء.»

ابتسم ريتشارد ابتسامةً شاحبة. وقال: «هذا صحيح. إنك تفهم موقفنا بدقة يا ماكس.»

فهز ماكس رأسه. وقال: «حسنًا، من الأفضل أن نجد شيئًا أسفل تلك الحفرة؛ لأنني لا أدري إن كنت أنا وإيبونين …»

فقال باتريك وهو يقترب من الرجلين: «حسنًا. أظن أن الوقت قد حان للمرحلة التالية من هذه العملية … هيا يا ماكس، هل أنت مستعد للهبوط على المزيد من هذه النتوءات؟»

•••

لم يكن لدى ريتشارد أي إنسان آلي ذكي من اختراعه ليضعه في القطار النفقي الصغير. لكن كان لديه كاميرا صغيرة ذات نظام حركة بدائي، تمنى أن تكون ثقيلة بصورة كافية لتنشيط القطار النفقي الصغير. قال للآخرين: «إن النفق الصغير ليس به مخرج يمكننا استخدامه على أي حال من الأحوال. لكنني أريد أن أعرف إذا كان شيء قد تغير خلال تلك السنوات. بالإضافة إلى هذا، لا أجد أي سبب — على الأقل حتى الآن — يستدعي أن يهبط أكثر من اثنَين منا لمسافة أبعد.»

وبينما كان ماكس وباتريك يهبطان ببطء على النتوءات الإضافية، وريتشارد منهمك في فحص كاميرته المتحركة للمرة الأخيرة، أخذت نيكول وإيبونين تتجولان على الرصيف. سألت إيبونين ماكس عبر جهاز الاتصال اللاسلكي: «كيف يسير الأمر أيها المزارع؟»

فأجاب: «على ما يرام حتى الآن. لكننا على بعد عشرة أمتار فقط أسفلكم. هذه النتوءات ليست متقاربة مثل التي بالأعلى؛ لذا فإننا أشدُّ حرصًا هنا.»

وبعد لحظاتٍ قليلةٍ قالت نيكول لإيبونين: «لا بد أن علاقتك بماكس تطوَّرَت كثيرًا وأنا في السجن.»

فأجابتها إيبونين بعفوية: «أجل، هذا حقيقي. في الواقع فاجأني الأمر. فأنا لم أظن أنه يمكن لرجل أن يدخل في علاقةٍ جادة مع امرأة … أنتِ تعلمين … لكنني بخست ماكس حقه. إنه شخص غير عادي. فوراء ذلك القناع الفظ العدواني …»

سكتَت إيبونين. وابتسمت نيكول ابتسامة واسعة. وقالت: «لا أظن أن ماكس يخدع أحدًا بهذا القناع، أو على الأقل أولئك الذين يعرفونه. فذلك الشخص القاسي البذيء اللسان ليس إلا دورًا يلعبه لسبب ما، على الأرجح حمايةً لنفسه وهو في المزرعة في آركنسو.»

صمتَت السيدتان لعدة ثوانٍ. ثم أضافت نيكول: «لكنني أعتقد أنني لم أقدره حق قدره أنا الأخرى. إنه لشيءٌ يدعو لاحترامه أنه يحبكِ هذا الحب الجم، مع أنكما لم تتمكنا من …»

فقالت إيبونين بفيض مفاجئ من المشاعر: «آه يا نيكول. لا تظني أنني لم أرغب في هذا، ولم أحلم به أيضًا. وأخبرنا دكتور تيرنر عدة مرات أن احتمال أن يلتقط ماكس عدوى فيروس «آر في ٤١» ضئيل للغاية إذا استخدمنا وسيلة حماية … لكن مجرد وجود احتمال ولو «ضئيل للغاية» لا يكفيني. فماذا لو حدث بطريقةٍ ما أن نقلت هذا البلاء اللعين الذي يقتلني لماكس؟ كيف يمكن أن أسامح نفسي إذا حكمت على الرجل الذي أحب بالموت؟»

وامتلأت عينا إيبونين بالدموع. أردفت: «بالطبع بيننا علاقة حميمة. لكن بطريقتنا الخاصة الآمنة … وماكس لم يشتكِ من ذلك قطُّ. لكنني أرى في عينَيه أنه مشتاق إلى …»

وفي تلك اللحظة جاءهم صوت ماكس عبر جهاز اللاسلكي. كان يقول: «حسنًا، إننا نرى القاع الآن. يبعد عنا خمسة أمتار بالأسفل، ويشبه أرضية عادية. وهناك نفقان يقودان للخارج؛ أحدهما في حجم النفق الصغير بالأعلى عندكم، والآخر صغير جدًّا. سنهبط لنفحصه عن كثب.»

•••

حان الوقت كي يدخل المستكشفون القطار النفقي. لم تعثر كاميرا ريتشارد على أي شيء جديد، ولم يكن هناك أي مخرج يمكن أن يستخدمه البشر في المستوى الوحيد أسفلهم في المخبأ. انتهى ريتشارد وباتريك من حوار خاص راجعا فيه بالتفصيل ما سيفعله الشاب عندما يعود إلى الآخرين. ثم انضما إلى ماكس ونيكول وإيبونين، وسار خمستهم ببطء على الرصيف باتجاه القطار الذي يقف منتظرًا.

كانت إيبونين متوترة للغاية. وتذكرت أن شعورًا مماثلًا راودها من قبل عندما كانت في الرابعة عشرة من عمرها، قبل افتتاح أول معرض فني لها تقيمه سيدة في دار الأيتام التي تربت بها في مدينة ليموج. فأخذت نفسًا عميقًا.

وقالت: «لن أجد حرجًا في قولها. أنا مرعوبة.»

فقال ماكس: «تبًّا، هذا أقل مما يستحق الموقف … أخبرنا يا ريتشارد، كيف نعلم أن هذا الشيء لن يندفع بقوة عبر المنحنى الذي أخبرتنا عنه من قبل ونحن بداخله؟»

ابتسم ريتشارد لكنه لم يُجب. وعندما وصلوا إلى جانب القطار قال: «حسنًا. نظرًا لأننا لا نعلم بالضبط كيف يعمل هذا الشيء، فيجب أن نتوخَّى الحذر. سندخل جميعًا في وقت واحد. حتى نتجنب احتمال أن تغلق الأبواب ويرحل القطار ولسنا جميعًا على متنه.»

لم يتفوَّه أيٌّ منهم بكلمة لمدة دقيقة تقريبًا. واصطفُّوا جنبًا إلى جنب وماكس وإيبونين يقفان في الجهة الأقرب إلى النفق. فقال ريتشارد: «الآن سأبدأ العد. عندما أقول ثلاثة سندخل جميعًا معًا.»

فسأله ماكس مبتسمًا: «هل لي أن أغلق عيني؟ كان ذلك يهون عليَّ رهبة ركوب القطار السريع في الملاهي وأنا صبيٌّ صغير.»

فأجابته نيكول: «لك مطلق الحرية.»

دخلوا إلى القطار وأمسك كلٌّ منهم بقضيبٍ من القضبان العمودية. لكن لم يحدث شيء. فوقف باتريك يحدق إليهم من الجانب الآخر للباب المفتوح. فقال ريتشارد بهدوء: «ربما ينتظر باتريك.»

فتمتم ماكس: «لا أعلم، لكن إذا لم يتحرك القطار في غضون ثوانٍ قليلة فسأقفز خارجًا.»

وبعد لحظات قليلة من تعليق ماكس أغلق الباب ببطء. ولم تمر ثوانٍ قليلة حتى بدأ القطار رحلته واندفع بسرعة متزايدة داخل النفق المضاء.

لوَّح باتريك لهم وتابع بعينَيه القطار حتى اختفى بعد أول زاوية. ثم وضع بندقيته على كتفه وبدأ يتسلق النتوءات. وفكر في نفسه: «أرجوكم عودوا بسرعة. قبل أن يصبح المصير المجهول أكثر مما نتحمل جميعًا.»

عاد روبرت إلى المستوى الذي يعيشون فيه في أقل من خمس عشرة دقيقة. وبعد أن احتسى جرعة ماء من زجاجته، أسرع مجتازًا النفق إلى المتحف. وفي طريقه كان يفكر فيما سيقول للجميع.

لم يلاحظ باتريك عندما عبر عتبة الغرفة أن الغرفة مظلمة. وعندما دخل وأضيئت الأنوار شعر بالارتباك للحظة. وللوهلة الأولى فكر: «لست في المكان الصحيح. لقد سلكت النفق الخطأ.» لكن عقله المشوش وهو ينظر حوله في الغرفة قال له: «لكن لا، لا بد أن هذه هي الغرفة. فهناك ريشتان في ذلك الركن، وإحدى حفَّاظات نيكي الغريبة …»

ومع كل ثانية مرت تسارعت دقات قلبه. وسأل نفسه وعيناه تدوران في الغرفة بعصبية مرة ثانية: «أين ذهبوا؟ ماذا حدث لهم؟» وكلما حدق في الجدران الخاوية واستعاد الحوار الذي دار بينهم قبل أن يرحل، تيقن أكثر أن شقيقته وأصدقاءه لم يرحلوا بمحض إرادتهم. إلا إذا كانوا قد تركوا رسالة! فقضى دقيقتَين يبحث في كل ركن من أركان الغرفة عن رسالة. لكن لم تكن هناك أي رسائل. ففكر في نفسه: «إذن لا بد أن شخصًا أو شيئًا أجبرهم على الرحيل.»

حاول باتريك أن يكون عقلانيًّا في تفكيره لكن كان ذلك مستحيلًا. فظل عقله مشتتًا بين ما يجب أن يفعله والصور الفظيعة لما يمكن أن يكون قد حدث للآخرين. وفي النهاية استنتج أنه من المحتمل أنهم عادوا إلى الغرفة الأصلية، تلك التي أطلق عليها ريتشارد ووالدته معرض الصور، ربما بسبب خلل الأضواء في غرفة المتحف أو لأي سبب تافه آخر. بثت تلك الفكرة بعض الأمل في عروقه فاندفع يجري إلى النفق.

وصل باتريك إلى معرض الصور بعد ثلاث دقائق. كانت خاوية هي الأخرى. جلس مستندًا إلى الحائط. وفكر في أن هناك اتجاهَين فقط يمكن أن يسلكهما رفاقه. ولأنه لم يرَ أيًّا منهم أثناء صعوده، فلا بد أن الآخرين ذهبوا إلى الغرفة الرئيسية وباب الخروج المغلق. وبينما سار في الممر الطويل وهو قابض على بندقيته بيدَيه بإحكام، أقنع نفسه أن قوات ناكامورا لم تغادر الجزيرة، وأنها تمكنت بطريقةٍ ما من دخول المخبأ وإلقاء القبض على الجميع.

لكن قبل أن يدخل إلى الغرفة الرئيسية سمع صوت بكاء نيكي. كانت تصيح: «ماما، ماما» ثم أتبعت ذلك بعويل. فاندفع باتريك إلى الغرفة الكبيرة، وعندما لم يرَ أحدًا صعد المنحنى في الاتجاه الذي سمع منه صوت صراخ ابنة شقيقته.

رأى باتريك على المنطقة أسفل باب الخروج الذي لا يزال مغلقًا، مشهدًا فوضويًّا. فبالإضافة إلى صراخ نيكي المتواصل، كان روبرت تيرنر يذرع المكان جيئةً وذهابًا وهو زائغ العينَين باسطٌ يدَيه متجهًا بعينَيه إلى الأعلى، ويقول مرارًا وتكرارًا: «لا، يا إلهي، لا.» وكان بينجي جالسًا في زاويةٍ يبكي بهدوء، في حين حاولت ناي سُدًى أن تهدئ ابنَيها التوءمَين.

وعندما رأت ناي باتريك قفزت من مكانها واتجهت إليه. وقالت والدموع تنهمر من عينَيها: «باتريك! اختطفت كائنات الأوكتوسبايدر إيلي.»

١٢

استغرق الأمر عدة ساعات، قبل أن يتمكن باتريك من جمع أجزاء القصة الكاملة لما حدث، بعد أن رحل فريق الاستكشاف من غرفة المتحف. إذ كانت ناي لا تزال في حالة صدمة، وروبرت لا يستطيع الحديث لأكثر من دقيقةٍ دون أن يجهش بالبكاء، والأطفال وبينجي يقاطعونهم باستمرار دون أن يضيفوا أيَّ شيءٍ مفهوم. في البداية تأكد باتريك أن كائنات الأوكتوسبايدر جاءت ولم تختطف إيلي فحسب، بل أيضًا المخلوقَين الطائرَين وبطيخ المَن والكائنات اللاسويقية. وآخر الأمر بعد أن أعاد عليهم الأسئلة أكثر من مرة ألمَّ بمعظم تفاصيل ما حدث.

فبعد ساعة تقريبًا من رحيل المستكشفين الخمسة، أي تقريبًا في الوقت الذي كان فيه ريتشارد وباتريك والآخرون بالأسفل على رصيف القطار، سمع الباقون الذين ظلوا في المتحف صوت جر فرش معدنية على الأرض خارج الغرفة. وعندما خرجَت إيلي لتتحقَّق من الأمر، رأت كائنات أوكتوسبايدر تقترب من كلا الاتجاهَين. فعادت إلى الغرفة وأخبرتهم بما رأته، وحاولت أن تهدئ من روع بينجي والأطفال.

وعندما ظهر أول أوكتوسبايدر على باب الغرفة، تراجع الجميع إلى الوراء، مفسحين المجال لكائنات الأوكتوسبايدر التسعة أو العشرة التي دخلت الغرفة. في البداية وقفت الكائنات معًا، في مجموعة تضيء رءوسها بالرسائل الملونة المتحركة التي استخدمتها في التواصل. وبعد بضع لحظاتٍ تقدَّم أحد كائنات الأوكتوسبايدر، وأشار مباشرةً إلى إيلي برفع إحدى لوامسه السوداء والذهبية من على الأرض، وبدأت سلسلة طويلة من الألوان التي سرعان ما أعادها مرة أخرى. فخمنت إيلي (طبقًا لما تقوله ناي، في حين أصر روبرت من ناحية أخرى أن إيلي «عرفت» مغزى رسالة الأوكتوسبايدر) أن الكائنات الفضائية تطلب بطيخ المَن، والكائنات اللاسويقية. فأحضرتها من ركن الغرفة وسلمتها للأوكتوسبايدر القائد. فالتقطها بثلاثٍ من لوامسه (قال روبرت معلقًا: «وهو مشهد يستحق المشاهدة؛ رؤيتهم وهم يستخدمون تلك الأشياء التي تشبه الخراطيم والشعيرات أسفلها») وأعطاها لأتباعه.

ظنت إيلي والآخرون أن كائنات الأوكتوسبايدر سترحل بعد ذلك، لكنهم كانوا مخطئين للأسف. فقد ظل الأوكتوسبايدر القائد يواجه إيلي ويحدثها برسائله الملونة. فبدأ اثنان من كائنات الأوكتوسبايدر يتحركان ببطء باتجاه تامي وتيمي. لكن إيلي قالت: «لا، لا. لا يمكنك.»

لكن كان الأوان قد فات. إذ قام الكائنان بلف الطائرَين بعددٍ من أذرعهما متجاهلَين تمامًا صراخهما، وحملاهما بعيدًا. فاندفع جاليليو واتانابي وهاجم الأوكتوسبايدر الذي يلفُّ تيمي بثلاثٍ من لوامسه. لكن ما كان من الأوكتوسبايدر إلا أن رفع الصبي من على الأرض بذراعه الرابعة، وأعطاه لأحد زملائه. ثم تناقله زملاؤه فيما بينهم إلى أن وُضع أخيرًا دون أن يمسه أذًى في الركن الأقصى من الغرفة. وسمح الدخلاء لناي بأن تهرع إلى ابنها لتُهدِّئه.

في ذلك الوقت كان ثلاثة أو أربعة من كائنات الأوكتوسبايدر والمخلوقان الطائران والبطيخ والكائن اللاسويقي، قد اختفَوا في الرواق بالخارج. وظل ستة من الكائنات الفضائية في الغرفة. ولعشر دقائق تقريبًا تحادثوا فيما بينهم. وفي أثناء ذلك طبقًا لرواية روبرت كانت إيلي تراقب الرسائل الملونة التي تبادلتها كائنات الأوكتوسبايدر (أما ناي فقالت: «لم أكن منتبهةً لهم؛ فقد كنت خائفةً بشدة وقلقةً على أطفالي.») وفي لحظةٍ أعطَت إيلي نيكي لروبرت ووضعتها بين ذراعَيه. ثم شحب وجهها بشدة. وقالت (حسب رواية زوجها): «أعتقد أنني أفهم بعض ما يقولون. إنهم يعتزمون اصطحابي أنا أيضًا.»

ومرة أخرى تحرك الأوكتوسبايدر القائد في اتجاههم، وبدأ يتحدث بالألوان وتركيزه منصبٌّ على إيلي. أما ما حدث في الدقائق العشر التالية فكان موضع خلاف كبير بين ناي وروبرت، وكان بينجي يساند ناي في أجزاء كثيرة من قصتها. فتقول ناي إن إيلي حاولت حماية جميع مَن في الغرفة، وعقد صفقة مع كائنات الأوكتوسبايدر. فأخبرتهم بإشارات اليد وعبارات مكررة أنها ستذهب معهم، على أن تضمن كائنات الأوكتوسبايدر أن يغادر جميع البشر الآخرين الموجودين في الغرفة المخبأ بسلام.

وأصرَّت ناي على قصتها قائلة: «كانت إيلي واضحةً في كلامها. إذ شرحت لهم أننا محبوسون وليس لدينا ما يكفي من الطعام. لكن لسوء الحظ أخذوها قبل أن تتأكَّد من أنهم فهموا الصفقة.»

فقال روبرت وعيناه تبثان ما تموج به نفسه من ارتباك وألم: «إنك ساذجة يا ناي. أنت لا تدركين مدى شر هذه الكائنات. لقد نوموا إيلي تنويمًا مغناطيسيًّا. نعم، هذا ما فعلوه. في بداية زيارتهم عندما كانت تراقب الألوان بدقة. أؤكد لكم أنها لم تكن على طبيعتها. وكل هذا الهراء عن ضمان خروج الجميع بأمان كان حيلة. لقد «أرادت» أن تذهب معهم. غيروا شخصيتها في الحال بتلك الأشكال الملونة المجنونة. أنا وحدي رأيت هذا.»

استبعد باتريك رواية روبرت الذي كان في حالةٍ من التشوُّش. لكن ناي وافقَت روبرت على نقطتَين أخيرتَين؛ هما أن أيلي لم تقاوم أو تعترض بعد أن طوقها أول أوكتوسبايدر بأذرعه، وقبل أن تخرج من الغرفة أخبرتهم بهدوءٍ بقائمة طويلة من التفاصيل الدقيقة الخاصة بالاعتناء بنيكي.

فقال روبرت: «كيف يمكن لأي شخص في حالته الطبيعية بعد أن تختطفه كائنات فضائية؛ أن يخبرنا بهدوءٍ عن الأغطية التي تحب ابنته أن تحتضنها وهي نائمة، ومتى تغوطت نيكي آخر مرة، وأشياء أخرى من هذا القبيل؟ كانت منومة تنويمًا مغناطيسيًّا بلا شكٍّ أو مخدرة أو ما شابه.»

أما القصة المتعلقة بكيفية انتقال الجميع إلى أسفل المنحدر تحت باب الخروج المحكم الإغلاق، فاتفقَت عليها الروايات. بعد أن غادرت كائنات الأوكتوسبايدر مع إيلي، خرج بينجي يركض في الممر يبكي ويصرخ ويهاجم عبثًا الحارس الأخير لكائنات الأوكتوسبايدر. وانضم إليه روبرت، وتبع الاثنان إيلي والكائنات الفضائية طوال الطريق إلى الغرفة الرئيسية. وكانت البوابة التي تقود إلى النفق الرابع مفتوحة. أبعد أحد كائنات الأوكتوسبايدر بينجي وروبرت وأعاقهما باستخدام أربعٍ من لوامسه الطويلة حتى غادرت الكائنات الأخرى. ثم أغلق الأوكتوسبايدر الأخير البوابة وراءه.

•••

كانت الرحلة في القطار النفقي مبهجة لماكس. فقد ذكَّرته برحلةٍ قام بها إلى مدينة مَلاهٍ كبيرةٍ خارج مدينة ليتل روك، عندما كان صبيًّا في العاشرة من عمره. وكان القطار معلقًا فوق ما بدا أنه شريطٌ معدنيٌّ ولم يتصل بأي شيءٍ وهو يُسرع في النفق. فاستنتج ريتشارد أنه يعمل بالطاقة المغناطيسية بطريقةٍ ما.

توقف القطار بعد ما يقرب من دقيقتَين ثم انفتح الباب سريعًا. نظر المستكشفون الأربعة إلى الخارج ليجدوا رصيفًا منبسطًا أبيض اللون، خلفه مدخل ذو قبة مقوسة ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار. قال ماكس: «أعتقد أنه طبقًا للخطة «أ» يجب أن أنزل أنا وإيبونين هنا.»

فقال ريتشارد: «نعم، وبالطبع إذا لم يتحرَّك القطار مرة أخرى، فسننضم إليكما أنا ونيكول بعد وقتٍ قصير.»

أمسك ماكس بيد إيبونين ونزلا بحذر شديد إلى الرصيف. وفور خروجهما بأمان من القطار أغلق الباب. وبعد عدة ثوانٍ انطلق القطار مرة أخرى.

قال ماكس بعد أن لوح هو وإيبونين لريتشارد ونيكول مودعين: «أليس هذا الأمر رومانسيًّا؟ إننا هنا، نحن الاثنان فقط. وحدنا أخيرًا.» ثم أحاط إيبونين بذراعَيه وقبَّلها. وقال: «أريدك أن تعرفي أيتها الفرنسية أنني أحبك. وليس لديَّ أدنى فكرةٍ عن مكاننا، لكن أينما كنا، فأنا سعيدٌ لأنني هنا معك.»

فضحكت إيبونين. وقالت: «كان لديَّ صديقةٌ في دار الأيتام كل حلمها أن تكون على جزيرةٍ قاحلةٍ مع ممثلٍ فرنسيٍّ شهير اسمه مارسيل دوبوا، كان هائل الصدر وله ذراعان ضخمان مثل جذعَي شجرة. أنا أتساءل الآن بماذا كانت ستشعر في مكان كهذا؟» ثم ألقت نظرة حولها. وقالت: «أظن أن علينا عبور ذلك المدخل.»

فهز ماكس كتفَيه. وقال: «إلا إذا جاء أرنب أبيض يركض هنا حتى نتبعه إلى حفرة ما …»

وعلى الجانب الآخر من المدخل ذي القبة كانت هناك حجرة كبيرة مستطيلة الشكل لها جدران زرقاء. وكانت الغرفة خالية تمامًا، ولها مخرج واحد عبر باب مفتوح إلى رواق ضيق مضاء يسير بمحاذاة نفق القطار. وكانت جدران الرواق جميعها — التي امتدت في الاتجاهَين إلى منتهى نظر ماكس وإيبونين — زرقاء اللون كما في الغرفة خلف المدخل.

فسأل ماكس إيبونين: «أي طريق نسلك؟»

فأجابته إيبونين مشيرة إلى اليمين: «أرى في هذا الاتجاه ما يشبه بابَين يقودان بعيدًا عن القطار.»

فقال ماكس وهو ينظر إلى اليسار: «وهناك أيضًا بابان في ذلك الاتجاه. لمَ لا ندخل إلى أول بابٍ ونلقي نظرة بداخله ثم نضع خطة؟»

فسارا وهي تتأبط ذراعه مسافة خمسين مترًا في الرواق الأزرق. لكن ما رأياه عندما وصلا إلى الباب التالي أصابهما بالخوف. إذ رأيا ممرًّا أزرق مطابقًا للممر الأول يمتد أمامهما عدة أمتار وفي نهايته أبواب أيضًا.

فقال ماكس: «تبًّا. إننا على وشك الدخول في متاهة … وليس من المحبذ بالتأكيد أن نضل طريقنا.»

فسألته إيبونين: «ماذا تظن علينا أن نفعل؟»

فقال ماكس مترددًا: «أظن … أظن أن علينا أن نشعل سيجارة ونتناقش في الأمر.»

ضحكت إيبونين. وقالت: «ما كنت لأوافقك على أمر أكثر من هذا.»

•••

تقدم الاثنان في طريقهما بحرص شديد. وفي كل مرة ينعطفان في ممر أزرق يضع ماكس علامات على الحائط باستخدام أحمر شفاه إيبونين، موضحًا بالكامل الطريق إلى الغرفة خلف المدخل المقوس. وأصر أيضًا على أن تحتفظ إيبونين — التي كانت أبرع منه في استخدام الكمبيوتر — بنسختَين من السجلات على جهاز الكمبيوتر المحمول. قال لها: «لاستخدامهما في حالة حدوث شيء يحذف العلامات التي وضعتها.»

في البداية كانت مغامرتهما ممتعة، وعادا أول مرتين إلى المدخل المقوس فقط ليتأكدا من أن ذلك بإمكانهما، فشعرا أنهما حققا إنجازًا مهمًّا. لكن بعد ساعة تقريبًا عندما كان كل انعطاف يقودهما إلى ممر أزرق آخر مطابق للذي سبقه؛ بدأت متعتهما تخبو. وفي النهاية توقف ماكس وإيبونين، وجلسا على الأرض وتشاركا سيجارة أخرى.

قال ماكس وهو ينفث دخان سيجارته في الهواء: «لماذا يبني أي كائن عاقل مكانًا كهذا؟ فإما أننا نخضع لاختبار من نوع ما دون أن ندري …»

فأنهت إيبونين جملته قائلة: «أو أن هناك شيئًا هنا لا يريدون أحدًا أن يعثر عليه بسهولة.» ثم التقطت السيجارة من ماكس وأخذت منها نفسًا عميقًا. ثم أكملت: «وإذا كان هذا هو الوضع، فلا بد أن تكون هناك شفرة بسيطة تحدد مكان ذلك الموقع أو الشيء الخاص، شفرة مثل مجموعة قديمة من الأقفال، مثل اليمين الثاني ثم اليسار الرابع ثم …»

فقاطعها ماكس بابتسامة عريضة قائلًا: «سر في خط مستقيم حتى الصباح.» ثم قبلها ونهض وهو يقول: «إذن ما سنفعله هو «افتراض» أننا نبحث عن شيء خاص، وتنظيم بحثنا تنظيمًا قائمًا على أسس منطقية.»

عندما نهضت إيبونين نظرت إليه وهي مقطبة الجبين. وقالت: «ماذا تعني تلك الجملة الأخيرة بالضبط؟»

فأجابها ماكس وهو يضحك: «لست واثقًا مما تعنيه. لكنَّ لها وقعًا ينم عن الذكاء.»

•••

ظل ماكس وإيبونين يسيران في ممرات زرقاء لمدة أربع ساعات تقريبًا، حين قررا أنه قد حان الوقت لتناول الطعام. وما إن بدآ تناول طعامهما المقدم من سكان راما، حتى رأيا على أقصى يسارهما في تقاطع الممرات شيئًا يمر. هب ماكس واقفًا على قدميه وهرع إلى تقاطع الممرات. ووصل إلى هناك قبل ثوانٍ قليلة من انعطاف عربة صغيرة — لا يزيد ارتفاعها عن عشرة سنتيمترات — إلى اليمين إلى الرواق المجاور. فاندفع ماكس في أثرها وبالكاد رآها وهي تختفي أسفل مدخل مقوس شُقَّ في جدار ممر أزرق آخر على بعد عشرين مترًا.

فصرخ مناديًا على إيبونين: «تعالي إلى هنا. وجدت شيئًا.»

وصلت إليه إيبونين سريعًا. ورأت سقف المدخل المقوس الصغير في الحائط يرتفع خمسة وعشرين سنتيمترًا عن الأرض، لذا كان عليهما أن يجلسا على ركبتَيهما ثم ينحنيا لأسفل ليريا إلى أين ذهبت العربة. وأول ما رأياه هو خمسون أو ستون كائنًا صغيرًا في حجم النملة تقريبًا يخرجون من العربة التي تشبه الحافلة، وينتشرون في جميع الاتجاهات.

فتساءل ماكس: «ما هذا؟»

فقالت إيبونين بحماسة: «انظر يا ماكس. أمعن النظر … إن هذه الكائنات الصغيرة كائنات أوكتوسبايدر … أترى؟ … إنها تشبه ذلك الذي وصفته لي …»

فقال ماكس: «أجل. معك حق … لا بد أنها صغار الأوكتوسبايدر.»

فأجابته إيبونين: «لا أعتقد ذلك. انظر إلى الطريقة التي تدخل بها إلى خليتها أو بيتها أو أيًّا كان ذلك … انظر، هناك قناة من نوع ما وقارب …»

فصرخ فيها ماكس: «الكاميرا. اذهبي وأحضري الكاميرا … يوجد هنا مدينة صغيرة كاملة.»

كان ماكس وإيبونين قد أنزلا حقيبتَي ظهرَيهما ومعداتهما الأخرى بما في ذلك كاميرا إيبونين، عندما جلسا على الأرض ليتناولا طعامهما. فقفزت إيبونين وأسرعت لتحضر الكاميرا. واستمر ماكس في مراقبة العالم المصغر المعقد على الجانب الآخر من المدخل المقوس. بعد دقيقة سمع صرخة مكتومة، فسرت قشعريرة خوف باردة في جسده.

قال في نفسه وهو يُهرع عائدًا إلى حيث كانا يتناولان طعامهما: «أيها الغبي. ما كان يجب أن تترك أبدًا بندقيتك.»

عندما انعطف حول الزاوية الأخيرة وقف فجأة. كان يقف بينه وبين المكان الذي تناول فيه الطعام مع إيبونين خمسة كائنات أوكتوسبايدر. وكان أحدهم يحيط جسد إيبونين بثلاثٍ من لوامسه، بينما كان آخر يمسك ببندقيته. وكان ثالث يحمل حقيبة ظهر إيبونين التي رُتِّبت فيها جميع أغراضها الشخصية بعناية.

ارتسم الرعب بأجلى صوره على وجه إيبونين. قالت باستجداء: «ماكس، ساعدني … أرجوك.»

تقدم ماكس لكن أعاق اثنان من كائنات الأوكتوسبايدر تقدمه. وأرسل أحدهم سلسلة من الشرائط الملونة حول رأسه. لكن ماكس صرخ فيه بيأس: «أنا لا أفهم ما تحاول أن تخبرني به. لكن يجب أن تتركها.»

ثم اندفع ماكس — مثل لاعب خط الوسط في كرة القدم الأمريكية — متخطيًا أول اثنين من كائنات الأوكتوسبايدر، ونجح تقريبًا في الوصول إلى إيبونين عندما شعر بلوامس تلتف حوله وتثبت ذراعيه بصدره. لم يكن هناك فائدة من المقاومة. كان ذلك الكائن قويًّا لدرجة مذهلة.

بدأ ثلاثة من كائنات الأوكتوسبايدر — ومنهم الذي قبض على إيبونين — السير في الممر الأزرق بعيدًا عنه. فصرخت إيبونين التي تملكها الرعب: «ماكس … ماكس.» لكن لم يكن بمقدوره أن يفعل شيئًا. وبعد مرور دقيقة لم يعد ماكس يسمع صوت صراخ إيبونين.

ظل ماكس محاطًا باللوامس عشر دقائق أخرى، قبل أن يشعر أن العضلات القوية التي كانت تقبض عليه ارتخت. فقال بعد أن وجد نفسه مطلق السراح: «إذن ماذا الآن؟ ما الذي تعتزمان فعله أيها الوغدان؟»

أشار أحد كائنَي الأوكتوسبايدر إلى حقيبته التي كانت لا تزال تستند إلى الحائط حيث تركها ماكس. فجلس إلى جوارها وأخرج منها بعض الطعام والماء. دار حوار بالشرائط الملونة بين كائنَي الأوكتوسبايدر، في حين كان ماكس الذي أدرك جيدًا أنهما يقفان لحراسته يتناول بضع قضمات من طعامه.

قال ماكس لنفسه وهو يفكر في الهروب: «هذه الممرات ضيقة للغاية. وهذه الكائنات ضخمة للغاية، خاصة مع وجود تلك اللوامس الطويلة. أعتقد أنه ليس أمامي سوى أن أنتظر لأرى ما سيحدث.»

لم يتحرك الكائنان من مكانهما لساعات. وفي النهاية استسلم ماكس لسبات عميق على الأرض بينهما.

•••

عندما استيقظ ماكس من نومه وجد نفسه وحيدًا. فسار بحذر شديد إلى أول زاوية ونظر في كلا الاتجاهَين في الممر الأزرق. لكنه لم يرَ شيئًا. وبعد أن قضى دقيقة يدرس علامات أحمر الشفاه التي رسمها على الحائط، ويضيف بعض الكتابات السريعة غير المنظمة لوصف موقع مدينة كائنات الأوكتوسبايدر المتناهية الصغر، عاد إلى الغرفة الموجودة خلف رصيف القطار النفقي.

لم تكن لديه فكرةٌ واضحةٌ عما يجب فعله بعد ذلك. قضى عدة دقائق يتجول في الممرات الزرقاء، وينادي باسم إيبونين من حين لآخر دون جدوى. فقرر في النهاية أن يجلس على الرصيف وينتظر القطار النفقي. وبعد أكثر من ساعة كان ماكس مستعدًّا للعودة إلى مدينة كائنات الأوكتوسبايدر المصغرة، عندما سمع هدير القطار النفقي يقترب. كان قادمًا من الاتجاه المقابل للممرات الرأسية ذات النتوءات.

ومع اقتراب القطار النفقي، رأى ماكس ريتشارد ونيكول عبر نوافذه. وفور أن رأياه صاحا معًا في صوت واحد: «ماكس!» حتى قبل أن يفتح الباب.

كان ريتشارد ونيكول سعيدين جدًّا. وثب ريتشارد إلى الرصيف. وهتف قائلًا: «وجدناها! غرفة كبيرة ذات قبة ترتفع أربعين مترًا تقريبًا بألوان قوس قزح … توجد على الجانب الآخر من البحر الأسطواني؛ فالقطار يعبر البحر الأسطواني في نفق شفاف …» ثم سكت قليلًا فيما تلاشى هدير القطار.

أضافت نيكول بسرعة: «إن بها حمامات وأسرَّة ومياهًا متدفقة.»

«وطعامًا طازجًا، صدق أو لا تصدق … هناك أنواع غريبة من الفواكه والخضراوات، لكنها رائعة فعلًا لكل …»

قاطعت نيكول ريتشارد فجأة في منتصف عبارته سائلة: «أين إيبونين؟».

فأجابها ماكس باقتضاب: «فقدتها.»

فقال ريتشارد: «فقدتها؟ كيف … وأين؟»

فقال ماكس بجفاء: «أصدقاؤكما غير العدائيين اختطفوها.»

فقال ريتشارد: «ماذا؟»

قص عليهما ماكس ما حدث ببطء وبالتفاصيل دون أن يحذف أيَّ تفصيلة مهمة. فاستمع ريتشارد ونيكول بانتباهٍ حتى انتهى من قصته. وفي النهاية علق ريتشارد وهو يهز رأسه: «كانوا أكثر ذكاءً منا.»

فقال ماكس بإحباط: «ليس منا. بل مني أنا. تركوني أنا وإيب نعتقد أننا نحل لغزًا ما في متاهة الأروقة الزرقاء … تبًّا.»

فقالت نيكول بهدوء وهي تضع يدها على كتف ماكس: «لا تقسُ على نفسك. فلم تكن لتعلم ما سيحدث …»

فقال ماكس وهو يرفع صوته: «لكنه غباء محكم. أحضرتُ هذه البندقية للحماية، لكن أين كانت البندقية عندما ظهر أصدقاؤنا ذوو الأرجل الثماني؟ كانَت إلى جانب الحائط …»

قال ريتشارد: «كنتُ أنا ونيكول في مكان مماثل، فيما عدا أن جميع الأروقة كانت حمراء لا زرقاء. وقد استكشفتُ المكان أنا ونيكول لمدة ساعة تقريبًا ثم عدنا إلى الرصيف. وفي غضون عشر دقائق اصطحبنا القطار مرة أخرى وعبر بنا البحر الأسطواني.»

سألت نيكول ماكس: «هل بحثت عن إيبونين؟»

فأومأ ماكس برأسه. وقال: «إلى حد ما. جلت بالمكان هنا وهناك وأنا أنادي باسمها عدة مرات.»

فاقترحت نيكول: «ربما يجدر بنا أن نحاول مرة أخرى.»

عاد الأصدقاء الثلاثة إلى عالم الأروقة الزرقاء. وعندما وصلوا إلى التقاطع الأول، شرح ماكس لنيكول وريتشارد العلامات التي وضعها بأحمر الشفاه على الحائط. ثم قال: «أعتقد أننا يجب أن ننفصل. فهذه الطريقة على الأرجح ستكون أكثر فعالية للبحث عنها … ما رأيكما أن نتقابل في الغرفة خلف المدخل المقوس بعد نصف ساعةٍ مثلًا؟»

وفي الزاوية الثانية، لم يعثر ماكس الذي كان يبحث وحده على أي علامات لأحمر الشفاه. فشعر بالحيرة وحاول أن يتذكر، ربما نسي وضع علامات في جميع الانعطافات، أو ربما لم يسلك ذلك الطريق قط … وبينما كان مستغرقًا في أفكاره شعر بيد على كتفه، ففزع بشدة.

فقال ريتشارد عندما رأى وجه صديقه: «لا تفزع. إنه أنا … ألم تسمعني وأنا أناديك؟»

فقال ماكس وهو يهز رأسه: «لا.»

«كنت على بُعد رواقَين فقط … لا بد أن هناك تقنيات رائعة للتخفيف من الصوت في هذا المكان … على كل حال لم أجد أنا أو نيكول أيًّا من خرائطك عندما انعطفنا. لذا لم نكن واثقين …»

فقال ماكس بقوة: «تبًّا. هؤلاء الأوغاد الأذكياء نظفوا الجدران … ألا ترى؟ خططوا للأمر من البداية، ونحن فعلنا بالضبط ما توقعوه.»

فقال ريتشارد: «لكن يا ماكس، من المستحيل أن يكونوا قد توقعوا «كل شيء» سنفعله. نحن أنفسنا لم نكن نعرف بالضبط خطتنا، فكيف يمكنهم هم …؟»

فقال ماكس: «لا يمكنني أن أفسر هذا. لكن هذا ما أشعر به. انتظرت تلك الكائنات حتى بدأتُ أنا ونيكول تناول طعامنا قبل أن يجعلونا نرى تلك العربة. «عرفوا» أننا سنطاردها وستكون لديهم فرصة لأسر إيبونين … كانوا يراقبوننا جميعًا بطريقة ما طوال الوقت …»

•••

رأى ريتشارد ونيكول أن جهود البحث عن إيبونين في متاهة الأروقة الزرقاء ستذهب هباءً، ووافقهما ماكس على ذلك. قال في حزن: «إنها بالتأكيد لم تعُد موجودة هنا.»

وبينما انتظر ثلاثتهم على الرصيف حتى يعود القطار، أخبر ريتشارد ونيكول ماكس المزيد من التفاصيل عن الغرفة الكبيرة ذات القبة على شكل قوس قزح، الموجودة في الجزء الجنوبي من البحر الأسطواني. وبعد أن انتهيا قال ماكس: «حسنًا، هناك علاقة واحدة واضحة للمزارع القادم من آركنساس. وهي أن قوس قزح في القبة مرتبط بوضوح بقوس قزح الذي كان في السماء، والذي شتت انتباه قوات ناكامورا. لذا فإن هؤلاء الأشخاص الذين صنعوا قوس قزح — أيًّا كانوا — لا يريدوننا أن نقع في أيدي القوات. أو نموت جوعًا … وهم على الأرجح مَن صنع ذلك القطار، أو على الأقل هذا ما يبدو لي منطقيًّا. لكن ما العلاقة بين أصحاب قوس قزح وكائنات الأوكتوسبايدر؟»

أجابه ريتشارد: «قبل أن تخبرني عن اختطاف إيبونين كنت واثقًا أن الاثنين واحد. لكن الآن لا أعرف. فمن الصعب تفسير ما مررت به إلا على أنه عملٌ عدائي.»

فضحك ماكس وقال: «ريتشارد، إن لك طريقةً مميزةً في استخدام الكلمات. لماذا تفترض براءة هؤلاء الأوغاد قبيحي الخلقة؟ من الممكن أن أتوقع هذا من نيكول، لكن تلك الكائنات احتجزتك لأشهر، وأدخلت كائنات صغيرة إلى أنفك، ومن المرجح أنها تلاعبت في مخك أيضًا …»

فقال ريتشارد بهدوء فيما بدا أنها المرة المائة التي يكرر فيها العبارة: «لا نعلم ذلك على وجه اليقين.»

فقال ماكس: «حسنًا، لكنني أعتقد أنك تتجاهل أدلة كثيرة …»

سكت ماكس عندما سمع صوت هدير القطار المألوف. وصل القطار متجهًا إلى مخبأ كائنات الأوكتوسبايدر. فقال ماكس بسخرية قبل أن يستقلوا القطار: «لماذا يأتي القطار دائمًا في الاتجاه الصحيح؟»

•••

تمكن باتريك في نهاية المطاف من أن يقنع روبرت وناي بالعودة إلى غرفة المتحف. بالطبع لم يكن هذا بالأمر السهل. فقد تعرض كلاهما والأطفال إلى صدمة كبيرة عندما هاجمتهم كائنات الأوكتوسبايدر. وهناك لم يغمض لروبرت جفن، ورأى التوءمان في نومهما الكثير من الكوابيس التي كانا يستيقظان منها وهما يصرخان. وعندما وصل ريتشارد ونيكول وماكس كان الطعام قد نفد تقريبًا، وكان باتريك قد بدأ بالفعل يفكر في خططٍ بديلة.

لكن كان اجتماع الشمل مليئًا بالشجن. فقد قص كل فريق على الآخر قصة الاختطاف التي تعرض لها بالتفصيل، الأمر الذي ترك جميع الكبار مكتئبين بشدة حتى نيكول. ولم يتأثر أحد بشدة بحقيقة وجود غرفة قبة قوس قزح في الجنوب. لكن لم يكن هناك أي شك فيما يجب فعله. لخص ريتشارد موقفهم باقتضاب. فقال: «على الأقل هناك طعام أسفل القبة.»

جمعت العائلة الكبيرة جميع أغراضها في صمت. وحمل باتريك وماكس الأطفال وهم يهبطون الممر الرأسي ذا النتوءات. وبعد أن استقر الجميع على الرصيف بوقت قصير ظهر القطار. ولم يتوقف في رحلته في المحطتَين في وسط الطريق كما تنبَّأ ماكس متهكمًا، لكن بدلًا من ذلك انطلق في طريقه إلى النفق الشفاف عبر البحر الأسطواني. وكان الأطفال مفتونين بالمخلوقات البحرية الغريبة الرائعة الموجودة على جانبَي جدار النفق، وجميعها بالتأكيد كائنات آلية، ذكَّرت ريتشارد برحلته السابقة إلى نيويورك قبل سنوات عندما حضر بحثًا عن نيكول.

كانت الغرفةُ الكبيرةُ أسفل القبة بعد وصول القطار مذهلةً حقًّا. ومع أن بينجي والأطفال كانوا مهتمين أكثر في البداية، بتنوع الطعام الطازج الجديد الذي كان موضوعًا على مائدةٍ طويلةٍ في أحد جوانب الغرفة، فقد كان الكبار يتجولون في دهشة، ليس فقط محدقين في الألوان الرائعة لقوس قزح فوق رءوسهم، لكن أيضًا متفحصين الغرف الصغيرة الموجودة خارج الرصيف، حيث وجدوا الحمامات وغرف النوم المخصصة لكل فرد.

قاس ماكس أبعاد أرضية الغرفة الرئيسية. ووجد أن عرضها خمسون مترًا تقريبًا، والمسافة بين رصيف القطار والغرف نحو أربعين مترًا. وبعد بضع دقائق جاء باتريك ليتحدث إلى ماكس، الذي وقف في ذلك الوقت إلى جانب الشق المخصص للقطار في الرصيف. وكان الآخرون يناقشون تقسيم غرف النوم.

قال باتريك وهو يضع يده على كتف صديقه: «أنا آسف بشأن ما حدث لإيبونين.»

فهز ماكس كتفَيه وقال: «من المؤسف فقدان إيلي. فأنا لا أعلم إن كان روبرت ونيكي سيتجاوزان الأمر تمامًا.»

وقف الرجلان جنبًا إلى جنب يحدقان في النفق الطويل المظلم الخالي. ثم قال ماكس بحدة: «أتعرف يا باتريك؟ أتمنى أن أقنع المزارع بداخلي أن مشكلاتنا انتهت، وأن أصحاب قوس قزح سيعتنون بنا.»

في تلك اللحظة جاء كيبلر يجري ومعه نوع من الخُضَر يشبه جزرًا أخضر اللون. وقال: «سيد ماكس، يجب أن تجرب هذا الصنف. إنه الأفضل.»

قبل ماكس هدية الطفل الصغير ووضعها في فمه. وقضمها. ثم قال وهو يداعب شعر الصبي: «إنها جيدة يا كيبلر. شكرًا جزيلًا لك.»

فأسرع كيبلر عائدًا للآخرين. مضغ ماكس الثمرة ببطء. ثم قال لباتريك: «لطالما اعتنيت جيدًا بخنازيري ودجاجي. فكنت أوفر لهم طعامًا جيدًا وظروف معيشة مريحة.» قالها وهو يشير بيده اليمنى إلى القبة والمائدة المحملة بالطعام. وأكمل: «لكنني كنت أيضًا أُخرج القليل من الحيوانات في كل مرة أكون مستعدًّا فيها لذبحها أو بيعها في السوق.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤