غرفة قوس قزح

١

كانت نيكول ترقد على ظهرها مستيقظة مجددًا في منتصف الليل. وعلى ضوء غرفة نومهما الخافت رأت ريتشارد نائمًا بسلام إلى جوارها. وبعد مرور بعض الوقت نهضت بهدوء واجتازت الغرفة، وخرجت إلى الغرفة الرئيسية الكبيرة في منزلهم المؤقت.

كانت المخلوقات العاقلة التي تتحكم في الإضاءة تجعل من النوم أمرًا سهلًا على البشر؛ إذ كانت تخفت الضوء الواصل إليهم عبر قبة قوس قزح ثماني ساعات تقريبًا، كل أربع وعشرين ساعة. في فترات «الليل» تلك تكون الغرفة الرئيسية أسفل القبة مضاءة بضوء خافت، وكانت غرف النوم الفردية المحفورة في الجدران — التي ليس بها إضاءة مستقلة — مظلمة بصورة كافية لنوم هادئ.

ولعدة ليالٍ متتالية نامت نيكول على نحو متقطع، واستيقظت في الغالب على أحلام مزعجة لا تستطيع تذكرها جيدًا. وفي تلك الليلة بالتحديد، وبينما كانت نيكول تجاهد عبثًا كي تتذكَّر الصور التي أقلقت منامها، سارَت بهدوء حول الغرفة الدائرية الكبيرة التي يقضي فيها أفراد عائلتها وأصدقاؤها معظم وقتهم. وفي الجانب البعيد من الغرفة بالقرب من رصيف القطار الخاوي، توقفت وحدقت في النفق المظلم الذي يعبر البحر الأسطواني.

قالت نيكول في نفسها متسائلة: «ماذا يحدث هنا حقًّا؟ ما القوة أو الكائنات العاقلة التي تتولى رعايتنا الآن؟»

مرَّ على وصول الوفد البشري الصغير إلى ذلك المأوى المذهل المصمم أسفل جزء الأسطوانة الجنوبي من راما؛ أربعةُ أسابيع. ومن الواضح أن مسكنهم الجديد صُمم خصوصًا من أجلهم بمجهودات ضخمة. إذ كانت غرف النوم المجوفة في الجدران والحمامات لا تختلف عن تلك التي في عدن الجديدة. وأول قطار نفقي حضر بعد وصولهم إلى القبة كان يحمل المزيد من الطعام والمياه، بالإضافة إلى أرائك ومقاعد ومناضد كي يُؤثِّثوا المكان الذي يعيشون فيه. كما تلقوا صحونًا وأكوابًا وأدوات مائدة. فمَن أو ما الذي يعرف ما يكفي من المعلومات عن أنشطة الحياة اليومية للبشر، حتى يمدهم بمثل هذه الأدوات الدقيقة؟

فكرت نيكول: «من الواضح أنه شخص راقبنا عن كثب.» واستحضر ذهنها صورة للرجل النسر، لكنها أدركت أن تلك ليست إلا أماني. ثم عادت تقول لنفسها: «لكن مَن قد يكون غيره؟ فسكان راما والكائنات العاقلة في النود فقط لديها معلومات كافية …»

قاطع صوت أتى من خلفها أفكارها. فاستدارت لترى ماكس باكيت يقترب منها من الجانب الآخر للغرفة. قال وهو يقترب أكثر: «ألا تستطيعين النوم أنت الأخرى؟»

فهزت نيكول رأسها وقالت: «راودتني أحلام سيئة في الليالي الأخيرة.»

فقال ماكس: «أنا لا أنفك أقلق على إيبونين. نظرة الرعب التي ملأت عينيها وهم يأخذونها بعيدًا لا تغيب عن ذهني.» ثم استدار في صمت ليواجه نفق القطار.

فتساءلت نيكول في نفسها وهي تشعر بقلق شديد يجتاح كيانها: «ماذا عنكِ يا إيلي؟ هل أنتِ آمنة مع كائنات الأوكتوسبايدر؟ أم إن ماكس محق بشأنها؟ هل نخدع أنا وريتشارد أنفسنا عندما نقول إن كائنات الأوكتوسبايدر لا تعتزم إيذاءنا؟»

قال ماكس بهدوء لنيكول: «لا يمكنني البقاء هنا أكثر من ذلك. لا بد أن أفعل شيئًا لمساعدة إيبونين … أو على الأقل كي أقنع نفسي أنني أحاول.»

فسألته نيكول بعد صمت قصير: «لكن ماذا يمكنك أن تفعل يا ماكس؟»

فقال ماكس: «إن صلتنا الوحيدة بالعالم الخارجي هي ذلك القطار اللعين. في المرة القادمة التي يأتي فيها بالطعام والماء، وسيكون هذا على الأرجح الليلة أو غدًا، أعتزم أن أستقله وأبقى بداخله. وعندما يغادر سأظل على متنه حتى يتوقف. ثم سأحاول العثور على كائن أوكتوسبايدر وأحرص على أن يأسرني.»

رأت نيكول علامات اليأس التي ارتسمت على وجه صديقها. فقالت برفق: «إنك كالغريق الذي يتمسك بقشة يا ماكس. لن تجد أي كائن أوكتوسبايدر إلا إذا أرادت تلك الكائنات ذلك … بالإضافة إلى أننا نحتاج إليك.»

فأجابها ماكس بصوت مرتفع: «تبًّا يا نيكول، لا أحد يحتاج إليَّ هنا. ولا يوجد أيُّ شيءٍ نفعله، سوى تحدُّث بعضنا إلى بعض أو اللعب مع الأطفال. على الأقل في مخبئكما كانت هناك فرصةٌ لأن نتنزَّه في ظلام نيويورك سيرًا على الأقدام … في هذه الأثناء قد تكون إيبونين وإيلي قد ماتتا، أو تتمنيان الموت. حان الوقت كي نفعل شيئًا …»

وبينما كان يتحدث، رأى كلاهما بصيص ضوءٍ يأتي من بُعدٍ في نفق القطار. فقال ماكس: «ها قد أتى مرة أخرى. سأساعدكِ على تفريغ حمولته بعد أن أنتهي من جمع أغراضي.» واندفع في اتجاه غرفة نومه.

وقفت نيكول تراقب القطار يقترب. وكالعادة أضاء الضوء أمام القطار وهو مسرع في النفق. وبعد بضع دقائق توقف القطار في الجزء المخصص له، وهو عبارة عن شق في أرضية الغرفة الدائرية، وتوقف فجأة. وبعد أن فُتحت الأبواب دخلت نيكول لتفحص ما بداخل العربة.

كان بداخل القطار، بالإضافة إلى أربعة أوعية كبيرة من الماء، المجموعةُ المعتادة من المنتجات الطازجة، التي تعلَّم البشر أن يأكلوها ويستمتعوا بها أيضًا، وأنبوب كبير يُخرج عند الضغط عليه مادةً لزجة يشبه طعمها مزيجًا من البرتقال والعسل. فسألت نيكول نفسها للمرة المائة وهي تبدأ في تفريغ الطعام: «لكن أين ينمو كل هذا الطعام؟» وتذكرت النقاشات العائلية الطويلة حول هذا الموضوع. وكانت النتيجة التي توصلوا إليها بالإجماع دائمًا هي أنه لا بد من وجود مزارع شاسعة في مكان ما، في نصف الأسطوانة الجنوبي.

أما فيما يتعلَّق بهُوية «مَن» يطعمهم فلم يكن ثمة خلافٌ كبير. كان ريتشارد متأكدًا أن كائنات الأوكتوسبايدر هي من تتولى هذا الأمر، ويرجع ذلك في المقام الأول لأن المؤن التي تصل إليهم تمر عبر المنطقة التي تعتبر خاضعة لنفوذ الأوكتوسبايدر. وكان من الصعب الرد على المنطق الذي تحدث به، ووافقه ماكس على أن كائنات الأوكتوسبايدر هي من يمدهم بالطعام. إلا أنه كان يعزو سلوكها إلى دوافع شريرة. وشدد على أنه إذا كانت كائنات الأوكتوسبايدر هي مَن يطعمهم فإن ذلك ولا شك ليس لأهداف نبيلة.

وتساءلت نيكول في نفسها: «لماذا تتولى كائنات الأوكتوسبايدر مهمة إمدادنا بالطعام؟ إنني أتفق مع ماكس في أن إمدادنا بالطعام يتضارب مع اختطاف إيبونين وإيلي … أليس من الممكن أن يكون هناك نوع آخر من الكائنات مشارك في العملية؟ جنس اختار أن يتدخَّل لمصلحتنا؟» ومع أن ريتشارد سخر بأسلوب مهذب من الفكرة عندما كانا وحدهما في غرفتهما، فإن جزءًا من نيكول تشبث بعناد بأمل أن يكون هناك بالفعل «أناس قوس قزح» أعلى في سلسلة التطور من كائنات الأوكتوسبايدر، تهتمُّ بطريقةٍ ما بالحفاظ على البشر الضعفاء، وتأمر كائنات الأوكتوسبايدر أن توفر لهم الطعام.

دائمًا ما كان القطار يحمل لهم مفاجأة. وهذه المرة كانت المفاجأة موجودةً في مؤخرة العربة وهي ست كراتٍ مختلفة الحجم، كلٌّ منها له لون زاهٍ.

كان ماكس قد عاد بحقيبته وكان يساعدها على تفريغ حمولة القطار. فقالت له نيكول: «انظر يا ماكس. لقد أرسلوا كرات للأطفال ليلعبوا بها.»

فقال ماكس متهكمًا: «رائع. الآن سيتشاجر الأطفال لتحديد أي الكرات تخص أيهم.»

وعندما انتهيا من إفراغ محتويات القطار، دخل ماكس وجلس على الأرضية. فسألَته نيكول: «كم من الوقت ستنتظر؟»

فأجابها ماكس بحدة: «مهما استغرق الأمر.»

فسألته: «هل ناقشت ما أنت بصدد فعله مع أي شخص آخر؟»

فأجابها ماكس بحدة: «بالطبع لا. ولم أفعل هذا؟ فنحن لا ندير جمهوريةً ديمقراطية هنا.» ثم انحنى إلى الأمام في جلسته، وقال: «أنا آسف يا نيكول، لكنني غاضب جدًّا الآن. مضى شهر منذ أن اختُطفت إيبونين، ونفدت سجائري، ومن السهل إثارة غضبي الآن.» ثم أجبر نفسه على الابتسام وقال: «اعتاد كلايد ووينونا أن يخبراني عندما أتصرف بهذا الشكل أنني سيئ المزاج.»

قالت نيكول: «لا بأس يا ماكس.» ثم عانقته عناقًا سريعًا قبل أن يغادر وهي تقول: «أتمنى فقط أن تكون بأمان في المكان الذي ستذهب إليه.»

•••

لم يرحل القطار. لكن ماكس رفض بعناد أن يغادره، ولو للذهاب إلى الحمام. وكان أصدقاؤه يحضرون له الطعام والماء وما يلزم للحفاظ على نظافة القطار. وبنهاية اليوم الثالث كان مخزون الطعام لديهم ينخفض بسرعة.

فقال روبرت للبالغين الآخرين بعد أن أخلد الأطفال للنوم: «لا بد أن يتحدث أحدنا إلى ماكس قريبًا. من الواضح أن القطار لن يتحرك من مكانه ما دام على متنه.»

فقالت نيكول: «أنا أنوي مناقشة الموقف معه في الصباح.»

فقال روبرت معترضًا: «لكن الطعام ينفد منا الآن. ولا نعلم المدة التي يستغرقها القطار حتى يُحضر لنا المزيد …»

فقاطعه ريتشارد: «يمكننا أن نرشد استهلاك ما تبقى لدينا من طعام، ونجعله يكفينا لمدة يومَين إضافيَّين … اسمعني يا روبرت، إننا جميعًا متوترون ومتعبون … وسيكون من الأفضل أن نتحدَّث إلى ماكس بعد أن نحظى بقسطٍ من الراحة.»

وبعد أن أصبح ريتشارد ونيكول وحدهما، سألها ريتشارد: «ماذا سنفعل إذا رفض ماكس مغادرة القطار؟»

فقالت نيكول: «لا أدري. سألني باتريك السؤال نفسه بعد ظهر اليوم … إنه يخشى ما قد يحدث إذا أجبرنا ماكس على مغادرة القطار … وقال إن ماكس مرهق للغاية وغاضب جدًّا أيضًا.»

كان ريتشارد يغط في النوم، قبل أن تهدأ أفكار نيكول بشأن الطريقة الأفضل لإقناع ماكس. كانت تقول في نفسها: «يجب تجنب الصدام بشتى الطرق. هذا يعني أني يجب أن أتحدث معه على انفراد، دون أن يسمعنا أحد … لكن ماذا أقول له؟ وكيف أتصرف إذا لم يستجب؟»

عندما نامت نيكول أخيرًا كانت منهكة، ومرة أخرى عادت إليها الأحلام المضطربة. في الحلم الأول رأت الفيلَّا في بوفوا تشتعل ولم تستطع العثور على جنيفياف. ثم تغير مكان الحلم فجأة، وعادت نيكول في السابعة من عمرها في ساحل العاج تشارك في احتفال البورو. وكانت تسبح نصف عارية في البركة الصغيرة في وسط الواحة. وعلى ضفاف البركة كانت أنثى الأسد تطوف خلسة؛ بحثًا عن الفتاة الصغيرة التي أزعجت شبلها. فغطست نيكول كي تتجنب أن تراها أنثى الأسد الحادة النظر. وعندما رفعت رأسها لتلتقط أنفاسها، كانت أنثى الأسد قد رحلت، لكن كان هناك ثلاثة من كائنات الأوكتوسبايدر تراقب البركة.

وسمعت نيكول إيلي وهي تناديها: «أمي، أمي.»

جالت نيكول بعينيها في أرجاء البركة وهي تسير في الماء. قال صوت إيلي بوضوح: «نحن بخير يا أمي. لا تقلقي علينا.»

لكن أين كانت إيلي في المشهد؟ رأت نيكول في الحلم خيال إنسان في الغابة خلف كائنات الأوكتوسبايدر الثلاثة، فصاحت: «إيلي، هل هذا أنت يا إيلي؟»

فقال الخيال بصوت إيلي: «نعم»، ثم سار إلى مكان يمكن رؤيته فيه في ضوء القمر. تعرَّفت نيكول على الفور الأسنانَ الناصعةَ البياض.

صاحَت وقد اجتاحت كيانها موجةٌ من الرعب: «أومه، أومه …»

استيقظت نيكول من نومها على وكزٍ مستمر. فوجدت ريتشارد يجلس بجوارها على الفراش. قال لها: «هل أنت بخير يا عزيزتي؟ كنت تصرخين باسم إيلي … ثم اسم أومه.»

فقالت نيكول وهي تنهض وترتدي ملابسها: «رأيت حلمًا آخر من أحلامي الجلية. أخبروني أن إيبونين وإيلي بخير، أيًّا كان مكانهما.»

انتهت نيكول من ارتداء ملابسها. سألها ريتشارد: «إلى أين أنت ذاهبة في هذه الساعة؟»

فأجابته: «سأتحدث إلى ماكس.»

ثم هُرعت خارجةً من غرفة نومهما إلى الغرفة الرئيسية أسفل القبة. ولسببٍ ما وجدت نفسها تلقي نظرةً على السقف فور أن دخلت الغرفة. فرأت شيئًا لم تلاحظه من قبل. بدا أن هناك مكانًا للهبوط أو رصيفًا مشقوقًا عدة أمتار أسفل القبة. فتساءلت نيكول في نفسها: «لماذا لم أرَهُ من قبل؟ هل لأن الظلال مختلفة أثناء النهار؟ أم لأنه بُني حديثًا؟»

كان ماكس ينام متكورًا في زاوية القطار. فدخلت نيكول إلى العربة بهدوء. وقبل أن تمسه بثوانٍ قليلة سمعته يردد اسم إيبونين مرتين. ثم اهتز رأسه وقال بوضوح: «نعم يا عزيزتي.»

همست نيكول في أذنه: «ماكس. استيقظ يا ماكس.»

عندما استيقظ ماكس كان كمن رأى شبحًا. فقالت له نيكول: «رأيت حلمًا مذهلًا يا ماكس. أنا الآن أعلم أن إيلي وإيبونين بخير … وجئت لأطلب منك أن تغادر القطار، ليتمكن من إحضار المزيد من الطعام لنا. أنا أعلم أنك تريد بقوة أن تفعل شيئًا …»

سكتت نيكول. إذ نهض ماكس ووقف على قدميه واستعد لينزل من القطار. كانت نظرة الذهول لا تزال على وجهه. قال: «هيا بنا.»

فقالت نيكول وهي مندهشة أنها لم تواجه الكثير من المقاومة منه: «بهذه السهولة؟»

فقال ماكس وهو ينزل من القطار: «نعم.» وبعد بضع لحظاتٍ من خروج نيكول من القطار هي الأخرى، أُغلِقَت الأبواب وتحرَّكت العربة مسرعةً بعيدًا عنهما.

فقال ماكس وهو يراقب مع نيكول القطار وهو يختفي: «عندما أيقظتني كنت في منتصف حلم. كنت أتحدث إلى إيبونين. وقبل أن أسمع صوتك بلحظة أخبرتني أنك ستبلغينني برسالة مهمة.»

ارتجف جسد ماكس، ثم ضحك وبدأ يسير في اتجاه الغرف: «بالطبع لا أُومِن بالحاسة السادسة وهذه الخرافات، لكنها مصادفة فريدة.»

•••

عاد القطار مرة أخرى قبل أن يحل الظلام. هذه المرة كان يتكوَّن من عربتَين. الأولى كانت مضاءةً ومفتوحةً ومليئةً بالطعام والماء كالعادة. أما الثانية فكانت مظلمةً تمامًا. ولم تفتح أبوابها وكانت نوافذها مغطَّاة.

فقال ماكس وهو يتجه إلى حافة المكان المخصص للقطار، محاولًا سدًى فتح العربة الثانية: «حسنًا، ماذا لدينا هنا؟»

وبعد تفريغ العربة الأمامية من الطعام والماء، لم يرحل القطار كالعادة. فانتظر البشر، لكن العربة الثانية الغامضة رفضت أن تبوح بأسرارها. وفي النهاية قررت نيكول وأصدقاؤها أن يتناولوا عشاءهم. وكان الحوار الذي دار بينهم أثناء العشاء هادئًا ومليئًا بافتراضات حذرة عن المتطفل الجديد.

وعندما اقترح كيبلر الصغير ببراءةٍ احتماليةَ أن تكون إيبونين وإيلي داخل العربة المظلمة، أخبرتهم نيكول مرة أخرى أنها عثرت على ريتشارد في غيبوبةٍ بعد إقامته الطويلة مع كائنات الأوكتوسبايدر. فساد بين المجموعة إحساسٌ بالترقُّب.

وبعد العشاء تقدَّم ماكس باقتراحٍ فقال: «لا بد أن نظل نراقب أثناء الليل، حتى لا تحدث أي خدعة شريرة ونحن نائمون. وأنا سأتولى نوبة المراقبة للساعات الأربع الأولى.»

تطوع باتريك وريتشارد أيضًا للمساعدة في المراقبة. وقبل الذهاب إلى الفراش ذهبت العائلة بالكامل بما فيها بينجي والأطفال إلى حافة الرصيف، وحدقوا في القطار. ثم سأل بينجي والدته: «ماذا قد يكون بداخله يا أمي؟»

فأجابت نيكول وهي تحتضن ابنها: «لا أعلم يا حبيبي. ليس لديَّ أدنى فكرة.»

وقبل ساعةٍ من سطوع أنوار القبة معلنة بَدْء صباح اليوم التالي، أيقظ باتريك وماكس ريتشارد ونيكول. وقال ماكس بانفعال: «تعاليا، يجب أن تريا هذا …»

وفي منتصف الغرفة الرئيسية، كان هناك أربعة كائناتٍ سوداء اللون كبيرة الحجم مقسمة الجسد، تشبه النمل في الشكل والبنية. وفي كل جزءٍ من الأجزاء الثلاثة المكونة لأجسامها، كان هناك زوجانِ من الأرجل وزوجان من الزوائد القادرة على الإمساك بالأشياء، وكما رأى البشر كانَت مشغولةً بتكديس بعض المواد في أكوام. كان مشهدًا مذهلًا. فقد كانت كل «ذراع» من الأذرع الطويلة التي تشبه الثعبان تتمتَّع بحرية حركة خرطوم الفيل، لكنها تتمتع بقدرة أخرى مفيدة. فعندما تكون إحدى أذرعه غير مستخدمةٍ في رفع شيء، أو موازنة ثقل يحمله بالذراع المقابلة، فإنها تنسحب إلى «جراب» في جانب الكائن، حيث تظل مطويَّةً بإحكام داخل جرابها حتى يحتاج الكائن إليها مرة أخرى. ومن ثم عندما تكون الكائنات الغريبة لا تؤدي أي مهام، تكون أذرعها غير مرئية ولا تعوق حركتها.

استمر البشر المذهولون مستغرقين في مشاهدة الكائنات الغريبة، التي يبلغ طولها مترَين وارتفاعها مترًا، وهي تفرغ بسرعة محتويات عربة القطار المظلمة، ثم تفحص الأكوام على عجالة وترحل مع القطار. وفور أن اختفَت الكائنات الفضائية، اتجه ماكس وباتريك وريتشارد ونيكول لفحص الأكوام. كانت هناك أجسامٌ من جميع الأشكال والأحجام، لكن الجزء المنفرد الموجود بأكثر كميات عبارة عن قطعةٍ طويلةٍ مستقيمةٍ تُشبه درجات السلم المعهودة.

وقال ريتشارد وهو يلتقط جسمًا صغيرًا على شكل قلم حبر: «إذا كنت سأخمن، أعتقد أن هذه المواد تقع بين الأسمنت والصُّلب من حيث قوة التحمل.»

فسأله باتريك: «لكن فيمَ تُستخدَم هذه المواد يا عم ريتشارد؟»

«أعتقد أنهم يعتزمون بناء شيء ما.»

فسأله ماكس: «ومَن هم؟»

فهز ريتشارد كتفَيه ورأسه. وقال: «أعتقد أن هذه الكائنات المذهلة التي غادرت لتوها حيوانات منزلية متقدمة، قادرة على القيام بمهام متتابعة معقدة دون تفكير حقيقي.»

فقال باتريك: «إذن هم ليسوا أناس قوس قزح الذين كانت أمي تتحدث عنهم؟»

فأجابته نيكول بابتسامة باهتة: «بالطبع لا.»

•••

أثناء تناول الإفطار، قصَّت المجموعة التي رأت الكائنات الجديدة على باقي أفراد العائلة وحتى الأطفال ما حدث بالكامل. واتفق البالغون أنه إذا عادت الكائنات الفضائية كما هو متوقع، يجب ألَّا يتدخل أحدٌ في العمل الذي جاءت لتنجزه، إلا إذا تقرَّر أن أنشطتها تمثل تهديدًا خطيرًا عليهم.

عندما عاد القطار ليقف في المكان الخاص به على الرصيف بعد ثلاث ساعات، خرج اثنان من الكائنات الجديدة من العربة الأمامية، وأسرعا إلى منتصف الغرفة الرئيسية. وكان كلٌّ منهما يحمل إناءً صغيرًا يضع إحدى أذرعه فيه من حين لآخر، وهو يضع علامات حمراء زاهية على الأرض. وفي النهاية بينت تلك الخطوط الحمراء حدود منطقة تشمل رصيف القطار، وجميع المواد التي وضعت في أكوام ونحو نصف مساحة الغرفة.

وبعد لحظات خرج نحو اثنَي عشر كائنًا من الكائنات الضخمة ذات الزوائد الخرطومية من عربتَي القطار، العديد منها يحمل على ظهورها أشكالًا منحنية الأضلاع ثقيلة وكبيرة. وتبعها اثنان من كائنات الأوكتوسبايدر تتدفَّق حول رأسَيهما الكرويتَين ألوانٌ ساطعة بصورةٍ غير عادية. دخل كائنا الأوكتوسبايدر إلى منتصف الغرفة، حيث فحصا أكوام المواد، ثم أمرا الكائنات الشبيهة بالنمل بأن تبدأ بما بدا كأعمال بناء.

وبينما وقف ماكس وباتريك يراقبان ما يحدث من بعيدٍ قال ماكس لباتريك: «إذن فقد ازدادت المؤامرة تعقيدًا. إن أصدقاءنا كائنات الأوكتوسبايدر هي بالفعل التي تسيطر على الموقف، لكن ما الذي تفعله؟»

أجابه باتريك وهو مذهول بما يراه: «مَن يدري؟»

قال ريتشارد بعد دقائق قليلة: «انظري يا نيكول إلى هناك بجوار تلك الكومة الكبيرة. إن هذه الكائنات التي تشبه النمل تفهم بلا شكٍّ ألوان الأوكتوسبايدر.»

فقالت نيكول بصوت منخفض: «إذن ماذا نفعل الآن؟»

فأجابها ريتشارد: «أعتقد أننا سنكتفي بالمراقبة والانتظار.»

•••

كانت جميع أعمال البناء تحدث داخل الخطوط الحمراء التي رُسمت على الأرض. وبعد عدة ساعات، بعد أن وصل قطارٌ آخر محمَّلٌ بمكونات الإنشاء منحنية الأضلاع وجرى تفريغه، اتضح الشكل العام لما يُبنى. كانوا يشيدون في أحد جوانب الغرفة أسطوانة رأسية يصل قطرها إلى أربعة أمتار. وفي النهاية وُضع الجزء العلوي منها أسفل القبة. ووُضعت داخل الأسطوانة درجات السلم بحيث تدور حول وسط البناء وحتى أعلاه.

استمر العمل لمدة ست وثلاثين ساعة دون توقف. وكان المهندسان من كائنات الأوكتوسبايدر يشرفان على النمل العملاق ذي الأذرع المرنة. ولم تتوقف أنشطة البناء حقًّا إلا عندما قفزت كرة كان كيبلر وجاليليو يلعبان بها، بعد أن سئما من متابعة عملية البناء لساعات، إذ قفزت متجاوزة الطلاء الأحمر إلى أحد الكائنات التي تشبه النمل. وعلى الفور توقف العمل بالكامل، وتحرك أوكتوسبايدر بسرعة كي يستعيد الكرة وكما يبدو كي يطمئن العامل. وألقى الأوكتوسبايدر الكرة إلى الطفلَين مرة أخرى بحركةٍ بارعةٍ من اثنتَين من لوامسه، واستُؤنف العمل.

أخلد الجميع إلى النوم ما عدا ماكس ونيكول، عندما انتهت الكائنات الفضائية من إنشاء السلم، والتقاط المواد الباقية والرحيل في القطار. توجَّه ماكس نحو الأسطوانة وأدخل رأسه فيها. وقال بخجل: «عمل رائع. لكن ما فائدته؟»

فأجابته نيكول: «بربك يا ماكس، كن جادًّا. واضح أنهم يريدوننا أن نصعد السلم.»

فقال: «تبًّا يا نيكول. أنا أعرف هذا. لكن لماذا؟ لماذا تريدنا كائنات الأوكتوسبايدر أن نخرج من الأعلى؟ ظلوا يتحكمون بنا منذ اللحظة التي دخلنا فيها مخبأهم. اختطفوا إيبونين وإيلي وجعلونا ننتقل إلى نصف الأسطوانة الجنوبي، ورفضوا أن يجعلوني أعود إلى نيويورك … فماذا سيحدث إذا قررنا ألَّا نمضي قدمًا في خطتهم؟»

حدَّقت نيكول في صديقها. وقالت: «هل تمانع أن نرجئ هذا الحديث حتى نجتمع كلنا في الصباح؟ إنني متعبة جدًّا.»

قال ماكس: «بالتأكيد. لكن أخبري زوجك أننا يجب أن نفعل شيئًا غير متوقع بالمرة، مثل العودة سيرًا في النفق إلى مخبأ كائنات الأوكتوسبايدر. فأنا يراودني شعور سيئ حيال ما ستَئُول إليه الأمور.»

فأجابته نيكول بضجر: «نحن لا نعرف جميع الإجابات يا ماكس، لكنني لا أرى فعلًا أن أمامنا الكثير من الخيارات سوى تلبية رغبات الأوكتوسبايدر، ما دامت تمدُّنا بالطعام والماء … ربما كل ما نحتاج إليه في هذا الموقف هو أن نتحلَّى ببعض الثقة.»

فقال ماكس: «الثقة؟ ليست إلا كلمة أخرى تعني عدم التفكير.» ثم اتجه ثانية نحو الأسطوانة. وقال: «وهذا السلم المذهل قد يأخذنا جميعًا إلى الجحيم أو إلى الجنة.»

٢

في الصباح عاد القطار محملًا بطعام جديد وماء. وبعد أن رحل وفحص الجميع البناء الأسطواني المطوق، قال ماكس إن الوقت قد حان كي يُظهر البشر أنهم سئموا من أن تحركهم كائنات الأوكتوسبايدر. واقترح أن يأخذ البندقية الوحيدة المتبقية هو ومَن يريد أن يذهب معه، ويشقوا طريقهم عبر النفق أسفل البحر الأسطواني.

فسأله ريتشارد: «لكن ما الذي تحاول الوصول إليه بالضبط؟»

أجابه: «أريدهم أن يأسروني ويأخذوني إلى المكان الذي يحتجزون فيه إيبونين وإيلي. حينئذٍ سأتيقَّن بنفسي أنهما بخير. فأحلام نيكول ليسَت كافيةً في الواقع …»

فاعترض ريتشارد قائلًا: «لكن خطتك غير منطقية يا ماكس. فكر في الأمر جيدًا. إن افترضنا أن القطار لن يدهسك وأنت في النفق، فكيف ستشرح ما تريد لكائنات الأوكتوسبايدر؟»

فقال ماكس: «كنت آمل أن تساعدني في ذلك يا ريتشارد. إنني أتذكر كيف تواصلت أنت ونيكول مع المخلوقات الطائرة. ربما يمكنك استخدام مهارتك في الكمبيوتر لرسم صورة لإيبونين من أجلي. لأريها لكائنات الأوكتوسبايدر على شاشة الكمبيوتر الخاص بي …»

شعرت نيكول بنبرة تضرُّعٍ في صوت ماكس. فلمسَت يد ريتشارد. وقالت: «لمَ لا؟ يمكن لأحدنا أن يستكشف إلى أين يقود الدرج، في حين تحضِّر أنت على الكمبيوتر صورة لإيبونين وإيلي من أجل ماكس.»

وفجأةً قال روبرت تيرنر: «أودُّ أن أذهب مع ماكس. إذا كانت هناك فرصةٌ للعثور على إيلي، أودُّ أن أستغلها … وستكون نيكي بخيرٍ ما دامت هنا مع جدِّها وجدتها.»

ومع أن ما سمعه ريتشارد ونيكول قد أصابهما بالقلق، فقد فضَّلا ألَّا يعبِّرا عن قلقهما أمام الجميع. فطلبوا من باتريك أن يصعد السلم ويستكشف قليلًا أثناء تنفيذ ريتشارد تصميمه السحري على الكمبيوتر. ذهب ماكس وروبرت إلى غرفة نومهما كي يستعدا لرحلتهما. وفي هذه الأثناء كانت نيكول وناي وحدهما مع بينجي والأطفال في الغرفة الرئيسية.

«أنت ترين أنه ليس من الصواب أن يذهب ماكس وروبرت، أليس كذلك يا نيكول؟» طرحت ناي هذا السؤال كالعادة بالنبرة اللطيفة التي تميز شخصيتها.

فأجابتها نيكول: «بلى. لكنني لست متأكدة أن رأيي له وزن في هذا الموقف … فكلاهما يشعر أنه فقد شخصًا عزيزًا عليه ويشعر بالإحباط. ومن المهم لهما أن يقوما بخطوة ما للَمِّ شملهما مع شريك حياتهما … وإن كانت تلك الخطوة غير منطقية.»

فسألتها ناي: «ماذا سيحدث لهما في ظنك؟»

فأجابتها نيكول: «لا أعلم. لكنني لا أظن أن ماكس وروبرت سيعثران على إيبونين وإيلي. وفي رأيي اختُطفت كل واحدة منهما لسبب معين … ومع أنني لا أعلم مطلقًا ما هي الأسباب، فأنا أُومِن أن كائنات الأوكتوسبايدر لا يمكن أن تؤذي إيبونين وإيلي، وسوف تعيدهما إلينا في النهاية.»

فقالت ناي: «إنكِ تثقين بها للغاية.»

فقالت نيكول: «في الواقع لا. لكن تجربتي مع كائنات الأوكتوسبايدر تجعلني أعتقد أننا نتعامل مع نوع من الكائنات يتمتع بحسٍّ أخلاقيٍّ عالٍ للغاية … وأنا أعترف أن عمليات الاختطاف «لا تتفق» مع هذه الصورة، وأنا لا أرى أن ماكس وروبرت مخطئان في النتيجة المختلفة تمامًا التي توصَّلا إليها عن كائنات الأوكتوسبايدر، لكنني أراهن أننا سنفهم — على المدى البعيد — الهدف وراء عمليتَي الاختطاف.»

فقالت ناي: «أمَّا في الوقت الراهن فنحن نواجه موقفًا صعبًا. إذا غادر ماكس وروبرت ولم يعودا قطُّ …»

قالت نيكول: «أعلم، لكن لا يسعنا فعل شيءٍ حيال ذلك. لقد اتخذا قرارهما، وبالذات ماكس، شعرا أنهما يجب أن يتخذا موقفًا الآن. صحيح أنه موقف تقليدي نوعًا ما، أو رجولي، لكنه موقف يمكننا تفهُّمه. ويجب علينا كباقي أفراد العائلة أن نلبِّي احتياجاتهما، حتى إذا كان رأينا في تصرفاتهما مختلفًا.»

عاد باتريك بعد أقلَّ من ساعة. وأخبرهم أن السلم ينتهي إلى رصيفٍ صغيرٍ يضيق حتى ينتهي برواقٍ خلف القبة. ذلك الرواق يؤدي إلى سلمٍ آخر أصغر يصعد لمسافة عشرة أمتار، وينتهي داخل كوخ يشبه المباني الجليدية على شكل قبة، على بُعد خمسين مترًا جنوب المنحدر الذي يطلُّ على البحر الأسطواني.

فسأله ريتشارد: «وكيف بدا الوضع، في الخارج في راما؟»

فأجابه باتريك: «كما في الشمال. بارد، درجة الحرارة نحو خمس درجات مئوية، ومظلم لا يوجد به سوى آثار ضوء ينبعث من الخلفية … أما الكوخ ذو القبة فهو دافئ وجيد الإضاءة. وبه أسرَّة وحمام واحد، من المؤكد أنه مصمَّم لنا، لكن لا توجد به مساحةٌ كبيرة للمعيشة.»

فسأله ماكس: «ألَا توجد أروقةٌ أو ممراتٌ أخرى؟»

فأجابه باتريك وهو يهز رأسه: «نعم.»

حينها قال بينجي لشقيقه: «صنع العم ريتشارد صورًا رائعة لإيلي وإيبونين. يجب أن تراها.»

ضغط ماكس على اثنين من أزرار الكمبيوتر المحمول، فظهرت صورة ممتازة لوجه إيبونين. قال ماكس: «لم يتمكن ريتشارد من رسم عينيها بدقة في المرة الأولى، لكنني ساعدته … أما صورة إيلي فكانت أسهل له.»

فسأل باتريك ماكس: «هل أنتما مستعدان للرحيل؟»

«تقريبًا. لكننا سننتظر حتى الصباح ليضيء النور المنبعث من هذه الغرفة النفق أمامنا.»

«كم تتوقعان أن يستغرق الوصول إلى الجانب الآخر؟»

فقال ماكس: «ساعة تقريبًا لو أسرعنا الخطى. وأتمنى أن يتمكن روبرت من المواكبة.»

فسأل باتريك: «وماذا ستفعلان إذا سمعتما القطار قادمًا؟»

أجابه ماكس وهو يهز كتفَيه: «لا يوجد ما يمكننا فعله. عندما فحصنا النفق وجدنا مساحةً ضئيلةً جدًّا متاحة. لكن عمك ريتشارد يقول إنه يجب أن نعتمد على «نظام الحماية من الأخطاء» المجهز به القطار.»

وأثناء العشاء دار نقاش حول البندقية. فكان كلٌّ من ريتشارد ونيكول يعارضان بشدة أن يأخذ ماكس البندقية معه، ليس لأنهما أرادا أن يبقى السلاح مع باقي أفراد العائلة، لكن لأنهما خشيا وقوع «حادث» يؤثر في النهاية على الجميع. لم يكن ريتشارد لبقًا في الملحوظات التي أبداها فتسبب في إثارة غضب ماكس.

وفي مرحلة من النقاش أجابه ماكس قائلًا: «حسنًا أيها الخبير، هلَّا تخبرني كيف «تعرف» أن بندقيتي ستكون عديمة النفع في العثور على إيبونين؟»

فقال ريتشارد بحدة: «ماكس، إن كائنات الأوكتوسبايدر لا بد …»

فتدخلت نيكول قائلة: «اسمح لي يا عزيزي.» ثم قالت بنبرة هادئة: «ماكس، لا يمكنني تصور وضع يكون فيه للبندقية دور مهم في هذه الرحلة. فإذا احتجت إليها بأي صورة للتعامل مع كائنات الأوكتوسبايدر، فهذا يعني أنها ستكون عدائية، ويعني أن مصير إيبونين وإيلي قد تحدَّد منذ وقتٍ بعيد … نحن لا نريد …»

فقال ماكس بعناد: «ماذا لو قابلنا بعض المخلوقات العدائية الأخرى، بخلاف كائنات الأوكتوسبايدر واحتجنا لأن نحمي أنفسنا؟ أو ماذا لو احتجت للبندقية لأرسل لروبرت إشارة؟ هناك الكثير من المواقف التي يمكن أن أستخدم البندقية فيها …»

لم تستطع المجموعة حسم القرار. ظل ريتشارد محبطًا عندما كان في غرفته مع نيكول يخلعان ملابسهما استعدادًا للنوم. فقال: «ألا يستطيع ماكس أن يفهم أن السبب الحقيقي في رغبته في أن يكون لديه سلاح، هو أن يمنح نفسه إحساسًا بالأمان؟ بل هو إحساس زائف أيضًا؟ ماذا لو فعل شيئًا متهورًا فحرمتنا كائنات الأوكتوسبايدر من الطعام والماء؟»

قالت نيكول: «لا يسعنا أن نقلق بشأن ذلك الآن يا ريتشارد. في هذا الوضع أعتقد أنه ليس بوسعنا سوى أن نطلب من ماكس أن يتخذ حذره، ونذكِّره أنه بمثابة ممثلٍ لنا. لكننا لن نستطيع إثناءه عن رأيه مهما تناقشنا معه.»

قال ريتشارد: «إذن فلنقترح إجراء تصويت حول ضرورة أخذ البندقية من عدمه. ونثبت لماكس أن الجميع يعارضون ما يفعله.»

فأجابته نيكول بسرعة: «إن حدسي يخبرني أن أي تصويت سيكون قطعًا الطريقة الخاطئة للتعامل مع ماكس. لقد استشفَّ بالفعل بما يشعر به الجميع. فأي إجماعٍ متفق عليه سيجعل ماكس يشعر بالغربة بيننا، وسيجعل احتمال وقوع «حادثة» أكبر … كلا يا عزيزي، في هذه الحالة دعنا نأمل فقط ألَّا يحدث شيء غير مرغوب.»

سكت ريتشارد لدقيقة تقريبًا. ثم قال في النهاية: «أظن أنك محقة، كالعادة. تصبحين على خير يا نيكول.»

ردت نيكول: «تصبح على خير يا ريتشارد.»

•••

قال ريتشارد لماكس وروبرت: «سننتظر هنا معًا لمدة ثمانٍ وأربعين ساعة. بعد ذلك قد يبدأ بعضنا في نقل أغراضنا إلى الأعلى، إلى الكوخ ذي القبة.»

فقال ماكس وهو يوثق أحزمة حقيبة ظهره: «حسنًا.» ثم ارتسمَت على وجهه ابتسامةٌ عريضةٌ وأردف: «لا تقلق. لن أطلق النار على أيٍّ من أصدقائك الأوكتوسبايدر، إلا إذا كان ذلك لا مفرَّ منه.» ثم التفت إلى روبرت. وقال: «يا صديقي، هل أنت مستعدٌّ لبَدْء المغامرة؟»

لم يبدُ أن روبرت يشعر بالارتياح وهو يحمل حقيبة ظهره. انحنى بصعوبةٍ وحمل ابنته. قال لها: «سيغيب أبوكِ لوقت قصير يا نيكي. وسيبقى جدك وجدتكِ معكِ هنا.»

وقبل أن يرحل الرجلان، ركض جاليليو عبر الغرفة وهو يحمل حقيبةً صغيرةً على ظهره. وصاح: «سأذهب معكما. أريد محاربة كائنات الأوكتوسبايدر.»

ضحك الجميع، بينما شرحت ناي لجاليليو لماذا لا يستطيع الذهاب مع ماكس وروبرت. وحاول باتريك الترفيه عن الصبي الذي شعر بالاكتئاب، عندما أخبره أنه سيكون أول من يصعد السلم عندما تنتقل العائلة إلى الكوخ بالأعلى.

دخل الرجلان بسرعةٍ إلى النفق. وسارا بضع مئات الأمتار في البداية في صمت، وهما يستمتعان بمشاهدة المخلوقات البحرية الرائعة في الجانب الآخر من الزجاج أو البلاستيك الشفاف. أبطأ ماكس من سرعته مرتَين لينتظر روبرت الذي كان يفتقر إلى اللياقة. لم يقابل الرجلان أي قطارات في طريقهما. وبعد ما يزيد عن الساعة، ألقت مصابيحهما الكهربية نورها على أول محطة في الجانب الآخر من البحر الأسطواني. وعندما كان ماكس وروبرت على بعد خمسين مترًا من رصيف المحطة، أضيئت جميع الأنوار وتمكنا من رؤية المكان الذي يتجهان إليه.

فقال ماكس: «زار ريتشارد ونيكول هذا المكان. يوجد خلف ذلك المدخل المقوس غرفة، ثم متاهة من الأروقة الحمراء.»

فسأله روبرت: «ماذا سنفعل هنا؟» لم يشعر بالارتياح على الإطلاق وكان راضيًا تمامًا باتباع ماكس.

فقال ماكس: «لم أقرر بعد. أعتقد أننا سنستكشف المكان قليلًا، ونتمنى أن نعثر على بعض كائنات أوكتوسبايدر.»

ولدهشة ماكس وجدا خلف رصيف المحطة، في منتصف أرضية الغرفة، دائرة كبيرة مطلية باللون الأزرق، يخرج منها خط أزرق سميك يتجه إلى اليمين نحو بداية متاهة الأروقة الحمراء. فقال لروبرت: «لم يذكر ريتشارد ونيكول قطُّ وجودَ خطٍّ أزرق.»

فقال روبرت: «من الواضح أنها مجموعة توجيهات شديدة الوضوح لاتباعها.» ثم أطلق ضحكة عصبية. وقال: «إن اتباع الخط الأزرق السميك سهل كاتباع الطريق الممهد بالطوب الأصفر، كما في رواية الساحر أوز.»

دخلا الرواق الأول. امتد الخط الأزرق في وسط الغرفة لمائة متر أمامهما، ثم انعطف إلى اليسار في تقاطع بعيد عنهما.

فقال ماكس لروبرت: «أنت ترى أن نتبع الخط، أليس كذلك؟»

فأجابه روبرت وهو يخطو بضع خطوات في الرواق: «لمَ لا؟»

فقال ماكس لرفيقه، ولنفسه كذلك: «إنه واضح بصورة زائدة عن الحد.» ثم تشبث ببندقيته واتبع روبرت. ثم عاد يسأل بعد أن انعطفا إلى أول يسار: «أخبرني، أتعتقد أن هذا الخط وُضع هنا لنا خصوصًا؟»

فأجابه روبرت وهو يتوقف للحظة: «لا أعتقد هذا. فكيف يمكن لأي شخص أن يعرف أننا قادمان؟»

فمتمتم ماكس: «هذا هو بالضبط السؤال الذي طرحته على نفسي.»

سار ماكس وروبرت في صمت، وانعطفا ثلاث مراتٍ أخرى وهما يتبعان الخط الأزرق قبل أن يصلا إلى مدخلٍ مقوسٍ بارتفاع مترٍ ونصف المتر. فانحنيا ودخلا غرفةً كبيرة مظلمة، لونُ سقفها وجدرانها أحمرُ قانٍ. وانتهى الخط الأزرق السميك بدائرةٍ زرقاء كبيرة في منتصف الغرفة.

وخلال أقل من ثانية بعد أن وقفا داخل الدائرة الزرقاء انطفأت الأنوار. وعلى الفور ظهرَ على الحائط المواجه لهما فيلم سينمائيٌّ صامت بسيط، حجم صورته متر مربع تقريبًا. وفي منتصف الصورة كانت إيبونين وإيلي ترتديان ملابس صفراء فضفاضة غريبة الشكل. وكانتا تتحدثان أحدهما مع الأخرى ومع شخص أو شيء غير معروف يقف بعيدًا جهة اليمين، لكن بالطبع لم يكن بوسع ماكس وروبرت سماع شيء مما تقولان. وبعد لحظات تحركت الاثنتان بضعة أمتار إلى اليمين مارَّتَين بأوكتوسبايدر، ثم ظهرتا إلى جانب حيوان سمين غريب يُشبه بقرةً إلى حدٍّ ما، وله بطن أبيض مسطَّح. كانت إيلي تُمسك بقلم ملتوٍ، فضغطَت عليه عدَّة مراتٍ وكتبت على السطح الأبيض الرسالة التالية: «لا تقلقوا. إننا بخير.» وابتسمَت الاثنتان ثم اختفَت الصورة فجأةً بعد ثانيةٍ واحدة.

وقف ماكس وروبرت في الغرفة مذهولَين، وأُعيدَ الفيلم الذي تصل مدته إلى تسعين ثانيةً مرتَين. وعندما أعيد للمرة الثانية، كان الرجلان قد نجحا في السيطرة على نفسَيهما بصورةٍ كافية لملاحظة التفاصيل بدقة. ثم عادت الأضواء تملأ الغرفة الحمراء مرةً أخرى بعد انتهاء الفيلم.

فقال ماكس وهو يهز رأسه: «يا إلهي!»

أما روبرت فكان مبتهجًا. هتف: «إنها على قيد الحياة! إيلي لا تزال على قيد الحياة.»

فقال ماكس: «هذا إن صدقنا ما رأيناه.»

فقال روبرت بعد عدَّة ثوانٍ: «بربك يا ماكس. ماذا قد يدفع كائنات الأوكتوسبايدر لتتكبد عناء تصوير فيلم كهذا لخداعنا؟ ألن يكون أسهل بكثيرٍ ألَّا تفعل شيئًا على الإطلاق؟»

أجابه ماكس: «لا أعلم. لكن أجبني على سؤال واحد. كيف علموا أننا سنأتي معًا إلى هنا في هذا الوقت، وأننا قلقان على إيلي وإيبونين؟ هناك تفسيران فقط. إما أنهم يراقبون كل شيء نقوله أو نفعله منذ أن دخلنا إلى مخبئهم، أو أن أحدًا …»

«… أحدًا من مجموعتنا يمدُّ كائنات الأوكتوسبايدر بالمعلومات. ماكس إنك لا تشكُّ بالتأكيد أن ريتشارد أو نيكول …»

فقاطعه ماكس: «لا، بالطبع لا. لكنني لا أستطيع أن أفهم كيف يراقبوننا عن كثب هكذا. لم نرَ أيَّ أثرٍ يدل على وجود أجهزة تنصُّت … وما لم تكن هناك أجهزة بث متطورة للغاية مثبتة «علينا» أو «داخلنا»، فإن أيًّا من هذه الأشياء لن يكون معقولًا.»

«لكن كيف فعلوا ذلك دون علمنا؟»

أجابه ماكس وهو ينحني ليخرج من المدخل المقوس: «لا أعلم مطلقًا.» ثم وقف في الرواق الأحمر على الجانب الآخر من المدخل. وقال: «والآن إذا لم يخُني التقدير، فسيكون ذلك القطار اللعين بانتظارنا عندما نصل إلى المحطة، وسيُتوقع منا العودة بسلام إلى الآخرين. كل شيء لطيف ومنظم للغاية.»

كان ماكس محقًّا. إذ كان القطار يقف على الرصيف فاتحًا بابه، عندما وصل هو وروبرت إلى الغرفة من متاهة الأروقة الحمراء. توقَّف ماكس. كانت عيناه تومضان ببريقٍ غريب.

ثم قال بصوتٍ منخفض: «لن أستقلَّ ذلك القطار اللعين.»

فسأله روبرت وقد بدأ الخوف يتسلَّل إلى نفسه: «ماذا ستفعل؟»

فقال ماكس: «سأعود إلى المتاهة.»

ثم تشبَّث ببندقيته واستدار وأسرع متجهًا إلى الرواق. ابتعد ماكس عن الخط الأزرق، وركض مسافة خمسين مترًا قبل أن يظهر أمامه أول كائن أوكتوسبايدر. وسرعان ما انضم إليه عددٌ من زملائه، وانتشروا في الممر من جانب إلى الآخر. ثم بدءوا يتحرَّكون باتجاه ماكس.

فتوقف ماكس، ونظر إلى كائنات الأوكتوسبايدر التي تتقدم باتجاهه، ثم نظر خلفه. رأى في نهاية الممر مجموعة أخرى من الأوكتوسبايدر تتقدم باتجاهه أيضًا.

فصرخ ماكس: «انتظروا دقيقة واحدة فقط. فلديَّ شيء أقوله لكم. إنكم تفهمون جزءًا من لغتنا على الأقل، وإلا فما استطعتم معرفة أننا قادمان … أنا غير مقتنع بما رأيت. أريد دليلًا على أن إيبونين على قيد الحياة …»

في تلك اللحظة كانت كائنات الأوكتوسبايدر فوقه تقريبًا وشرائط الألوان تدور حول رءوسها. سرت موجة من الخوف في كيان ماكس، وأطلق رصاصة من بندقيته في الهواء على سبيل التحذير. وبعد ما لا يزيد عن ثانيتين شعر بلدغة حادة في مؤخرة عنقه. سقط على الأرض على الفور مغشيًّا عليه.

أسرع روبرت الذي ظل واقفًا مترددًا على المحطة، واجتاز الرصيف متجهًا إلى المكان الذي صدر منه صوت إطلاق النار. وعندما وصل إلى الرواق الأحمر رأى اثنين من كائنات الأوكتوسبايدر يرفعان ماكس من الأرض. فتنحَّى روبرت جانبًا بينما حمل الكائنان الفضائيان ماكس إلى القطار، ووضعاه برفقٍ في زاوية العربة. ثم أشارا إلى باب القطار المفتوح فدخل روبرت. وفي أقلَّ من عشر دقائق كان الرجلان قد عادا إلى الغرفة أسفل قبة قوس قزح.

٣

ظل ماكس مغشيًّا عليه لمدة عشر ساعات. وفي تلك المدة فحصه روبرت ونيكول جيدًا، ولم يعثرا على أثر جرح أو إصابة. وفي هذه الأثناء سرد روبرت مرارًا وتكرارًا أحداث مغامرتهما، بالطبع ما عدا ما حدث في اللحظة الحرجة التي كان ماكس فيها وحده في الرواق الأحمر.

كانت معظم أسئلة العائلة عما رأياه بالضبط في الفيلم. هل رأيا دلائل على توتر إيلي وإيبونين، تشير إلى احتمالية إجبارهما على تصوير الفيلم؟ وهل كانتا قد فقدتا بعض الوزن؟ هل بدتا مرتاحتَين؟

وفي نهاية مناقشة ثانية طويلة للعائلة حول قصة روبرت، قال ريتشارد: «أعتقد أننا نعلم الآن المزيد عن طبيعة مضيفينا. أولًا، من الواضح أن كائنات الأوكتوسبايدر — أو الكائنات المتحكمة هنا — تراقبنا بانتظام وتفهم حواراتنا. فلا يوجد تفسير آخر لعرض فيلم لماكس وروبرت تظهر فيه إيلي وإيبونين …

ثانيًا، مستوى تقدمهم التكنولوجي — على الأقل فيما يخص صناعة الأفلام — إما يتخلف عنا مئات السنين، أو إذا كان روبرت محقًّا في إصراره على عدم وجود جهاز عرض في الغرفة أو خلف الحائط، فإنهم متقدمون للغاية حتى إن التكنولوجيا التي يستخدمونها تبدو لنا كالسحر. ثالثًا …»

وهنا قاطعه باتريك. فسأله: «لكن يا عم ريتشارد، لماذا لم يكن الفيلم مصحوبًا بالصوت؟ ألم يكن من الأسهل على إيبونين وإيلي أن «تقولا» إنهما بخير؟ أليس احتمال أن تكون كائنات الأوكتوسبايدر صمَّاء أكبر من احتمال أن تكون التكنولوجيا لديهم لم تتعد صناعة الأفلام الصامتة؟»

فأجابه ريتشارد: «يا لها من فكرة مثيرة للاهتمام يا باتريك! لم نفكر في هذا الأمر من قبل. بالطبع هم لا يحتاجون إلى حاسة السمع للتواصل …»

قالت نيكول: «إن الكائنات التي قضت معظم مراحل تطورها في قاع المحيط تكون في الغالب صماء. وتكون احتياجاتها الحسية الأساسية للبقاء متركزة في أمور أخرى، ونظرًا لوجود عدد محدود من الخلايا المتاحة للأجهزة الحسية وعمليات المعالجة التي تقوم بها، فإن القدرة على السمع لا تتطور لديها.»

وأضافت ناي: «عملت مع أشخاص يعانون من إعاقات سمعية في تايلاند، ودهشت لمعرفة أن عدم القدرة على السمع لا تشكل عائقًا كبيرًا في ثقافة متحضرة. فلغة الإشارة التي يستخدمها الصم ذات نطاق واسع ومعقدة نوعًا ما … لم يعد البشر على كوكب الأرض بحاجة إلى حاسة السمع، للصيد أو للهروب من الكائنات المفترسة … ولغة كائنات الأوكتوسبايدر التي تعتمد على الألوان أكثر من مناسبةٍ للتواصل …»

فقال روبرت: «انتظروا دقيقة. ألسنا بهذا نتغاضى عن دليل قوي على أن كائنات الأوكتوسبايدر «تستطيع» أن تسمع؟ فكيف عرفت أنني وماكس سنخرج للعثور على إيلي وإيبونين إذا لم تسمع حوارنا؟»

ساد الصمت لعدة ثوانٍ. ثم اقترح ريتشارد: «ربما جعلت المرأتَين تترجمان ما يُقال.»

فقال باتريك: «لكن هذا يتطلب شيئَين غير واردَين. أولًا إذا كانت كائنات الأوكتوسبايدر صماء، فلماذا سيكون لديها أجهزة دقيقة متطورة لتسجيل الصوت من الأساس؟ ثانيًا إن قيام إيبونين وإيلي بترجمة ما نقول لكائنات الأوكتوسبايدر يعني أن هناك مستوًى من التواصل الذي يصعب أن يتطوَّر خلال شهرٍ واحد … بل في رأيي أن كائنات الأوكتوسبايدر قررت على الأرجح الهدف من رحلة ماكس وروبرت على أساس الدليل المرئي؛ أي صورة المرأتَين على شاشة جهاز الكمبيوتر المحمول.»

صاح ريتشارد: «أحسنت. ذلك تفكير رائع …»

وفجأةً سمعوا صوت ماكس يقول وهو يتجه إلى منتصف المجموعة: «هل ستظلُّون تثرثرون حول هذا الموضوع طوال الليل؟»

هب الجميع من أماكنهم. وسألته نيكول: «هل أنت بخير؟»

فقال ماكس: «بالطبع. حتى إنني أشعر أني قد حظيت بقسطٍ جيد من الراحة …»

فقاطعه روبرت قائلًا: «أخبرنا بما حدث. سمعتُ صوت إطلاق النار من بندقيتك، لكن عندما وصلت إلى الزاوية كان اثنان من كائنات الأوكتوسبايدر يحملانك.»

فقال ماكس: «أنا شخصيًّا لا أعرف. شعرت قبل أن أفقد وعيي بوخز مؤلم في مؤخرة عنقي … هذا هو كل ما أذكره … لا بد أن أحد كائنات الأوكتوسبايدر التي كانت تقف خلفي أصابني بما يشبه السهم المهدئ عندنا.»

حك ماكس مؤخرة عنقه. فذهبت إليه نيكول لتفحصه. ثم قالت: «لا أجد الثقب الصغير الآن. لا بد أنهم يستخدمون أسهمًا رفيعة للغاية.»

نظر ماكس إلى روبرت. وقال: «لا أعتقد أنك أعدت البندقية.»

فأجابه روبرت: «أنا آسف يا ماكس. لم تخطر ببالي قط إلا بعد أن أصبحنا على متن القطار.»

فنظر ماكس إلى أصدقائه. وقال: «حسنًا يا رفاق، أريد أن أخبركم أن ثورتي قد انتهت. أنا مقتنع الآن أنه لا يمكننا محاربة هذه الكائنات. لذا فمن الأفضل أن نجرب السير وفقًا لخطتهم.»

وضعت نيكول يدها على كتف صديقها. وقالت وهي تبتسم: «هذا هو ماكس باكيت الجديد.»

فأجاب ماكس وهو يبتسم بدوره: «قد أكون عنيدًا لكنني لست غبيًّا.»

•••

في صباح اليوم التالي، قال ماكس بعد أن جاء قطار آخر محمل بطعام وماء: «لا أعتقد أنه من المفترض أن ننتقل جميعًا إلى الكوخ المقبب الذي وجده باتريك.»

فسأله ريتشارد: «لماذا تقول هذا؟ انظر إلى الدلائل. صُمم ذلك الكوخ بلا شكٍّ كي يسكنه بشر. وإلا فلماذا أقاموا ذلك السلم؟»

فأجابه ماكس: «إن الأمر غير ملائم. لا سيما للأطفال. فلا توجد مساحة كافية تصلح للعيش لأي مدة من الزمن … أظن أن الكوخ ما هو إلا محطة على الطريق، أو يمكنك أن تطلق عليه منزلًا في الغابة.»

حاولت نيكول أن تتخيل عائلتها المكونة من عشرة أفراد تتكدس في الغرف الصغيرة التي وصفها باتريك. ثم قالت: «أدرك ما تعنيه يا ماكس، لكن ماذا تقترح؟»

قال: «لماذا لا يعود بعضنا إلى الكوخ ويفحصونه بدقة؟ فربما لم ينتبه باتريك لشيء ما في حملته الاستطلاعية السريعة … وعلى أي حال لا بد أن يكون ما يفترض بنا القيام به واضحًا. فكائنات الأوكتوسبايدر أو أيًّا كانت الكائنات التي ترشدنا غير معتادة أن تتركنا في حيرة.»

اختير ريتشارد وماكس وباتريك لتنفيذ المهمة الاستطلاعية. لكن رحيلهم تأخر بعض الوقت حتى يستطيع باتريك الوفاء بوعده لجاليليو. فاتبع باتريك الغلام ذا السنوات الخمس وهو يصعد السلم الطويل المتعرِّج، ثم عبر الرواق إلى أسفل السلم الثاني. لكن الصبي كان منهك القوى تمامًا حتى إنه لم يستطع التسلق أكثر من هذا. في الواقع عندما كانوا يهبطون من القبة انهار الصبي الصغير، فاضطر باتريك لحمله الاثني عشر مترًا المتبقية في طريقهما إلى الأسفل.

عندما هبطوا سأل ريتشارد باتريك: «هل تستطيع الصعود مرة أخرى؟»

فأجابه باتريك وهو يضبط وضع حقيبته: «أعتقد ذلك.»

فقال ماكس بابتسامة عريضة: «على الأقل لن يكون عليه الآن أن يتوقف كثيرًا لينتظر رفيقَيه الكهلَين.»

توقَّف الرجال الثلاثة يتأملون بإعجابٍ المشهد من أعلى السلم الأسطواني. وقال ماكس وهو يطيل النظر في ألوان شرائط قوس قزح الرائعة في القبة على بعد أمتار قليلة فوقه: «في بعض الأحيان أظن أن كل شيء حدث لي منذ أن صعدت على متن بينتا ليس إلا حلمًا … كيف تتناسب الخنازير والدجاج وآركنسو نفسها مع هذه الصورة؟ كل هذا كثير.»

قال باتريك وهم يسيرون عبر الرواق: «لا بد أنه من الصعب عليك التوفيق بين كل هذا وحياتك العادية على كوكب الأرض. لكن انظر إلى وضعي. وُلدت على متن مركبة فضائية غريبة تتجه إلى عالم اصطناعي يقع بالقرب من نجم الشعرى اليمانية. وقضيت أكثر من نصف حياتي نائمًا. ليست لديَّ أدنى فكرة عن الحياة العادية …»

فقال ماكس وهو يحيط الشاب بذراعه: «تبًّا يا باتريك، لو كنت مكانك، لفقدت عقلي.»

وفي وقت لاحق عندما كانوا يصعدون السلم الثاني، توقف ماكس والتفت إلى ريتشارد الصاعد خلفه. وقال بدفء: «ريتشارد ويكفيلد، أتمنى أن تكون قد أدركت أنني وغد عنيد، وأنني لم أقصد أي إساءة شخصية أثناء نقاشاتنا في الأيام القليلة الماضية.»

ابتسم ريتشارد. وقال: «أتفهم ذلك يا ماكس. وأعلم أيضًا أنني مغرور بقدر ما أنت عنيد … وسأقبل اعتذارك غير المباشر إذا قبلت اعتذاري.»

تظاهر ماكس بالامتعاض. وقال وهو يصعد درجة السلم التالية: «إن هذا لم يكن اعتذارًا.»

كان الكوخ المقبب كما وصفه باتريك بالضبط. ارتدى الرجال الثلاثة ستراتهم واستعدوا للخروج. ورأى ريتشارد — الذي كان أول شخص يخرج من الباب — الكوخ الثاني، قبل أن يلتقط ماكس وباتريك أول نفس لهما من هواء راما المنعش.

فقال باتريك مؤكدًا: «لم يكن ذلك الكوخ الآخر موجودًا يا عم ريتشارد. لقد طفت المنطقة بالكامل.»

كان الكوخ الثاني — الذي كان بالضبط عُشر حجم الكوخ الأول — على بُعد ثلاثين مترًا من المنحدر المتاخم للبحر الأسطواني. كان يتوهج في ظلام راما. وعندما بدأ الرجال يسيرون باتجاه الكوخ الصغير فُتح بابه وخرج منه كائنان بشريان صغيران. كان طولهما عشرين سنتيمترًا تقريبًا، وكانا يتوهجان من الداخل.

هتف ماكس متعجبًا: «ما هذا …؟»

فقال باتريك بحماسة: «انظر، إنهما والدتي وعم ريتشارد!»

اتجه الكائنان إلى الجنوب المظلم بعيدًا عن المنحدر والبحر. فاقترب ريتشارد وماكس وباتريك منهما لرؤيتهما بوضوح أكثر. كان الكائنان يرتديان ملابس كالتي ارتداها ريتشارد ونيكول في اليوم السابق بالضبط. وكان الاهتمام بالتفاصيل مذهلًا. الشعر والوجهان ولون الجلد وشكل لحية ريتشارد ولونها، كلها تطابق تمامًا ريتشارد ويكفيلد وزوجته. كما كان الكائنان يحملان حقيبتَي ظهر.

انحنى ماكس ليلتقط الكائن الصغير الذي يشبه نيكول، لكنه تلقَّى صدمة كهربائية عندما لمسه. والتفت الكائن في اتجاه ماكس وهزَّ رأسه بقوة. اتبع الرجال الكائنَين لمسافة مائة مترٍ أخرى ثم توقَّفوا.

فقال ريتشارد: «لا يوجد شكٌّ حول ما يفترض بنا أن نفعله الآن.»

فقال ماكس: «صحيح. يبدو أنهم يستدعونك أنت ونيكول.»

•••

بعد ظهر اليوم التالي، جمع ريتشارد ونيكول طعامًا وماءً يكفيهما لعدة أيام في حقائب ظهرهما، وودَّعا أفراد عائلتهما الكبيرة. وكانت نيكي الصغيرة قد نامت بجوارهما في الليلة السابقة وبكَت بشدةٍ عندما رحلا.

كان السلم شديد الارتفاع. قالت نيكول وهي تلتقط أنفاسها بصعوبةٍ عندما وقفت هي وريتشارد أعلى السلم أسفل القبة، ولوَّحت للجميع للمرة الأخيرة: «كان يجدر بي أن أصعد السلم ببطء.» شعرت نيكول بقلبها يخفق باضطراب في صدرها. فانتظرت بصبرٍ حتى يهدأ الخفقان.

كان ريتشارد أيضًا يجد صعوبة في التقاط أنفاسه. فقال بعد صمت: «إننا لم نعد شبابًا كما كنا قبل سنوات في نيويورك.» ثم ابتسم وأحاط نيكول بذراعيه. ثم سألها: «هل أنت جاهزة للمضي قدمًا في مغامرتنا؟»

أومأت نيكول. فسارا ببطء وقد شابكا يديهما عبر الرواق الطويل. وعندما وصلا إلى السلم الثاني التفتت نيكول إلى ريتشارد وسألته بانفعال مفاجئ: «حبيبي، أليس من الرائع أن نكون وحدنا مرة أخرى، نحن الاثنان فقط، ولو لساعات قليلة؟ إنني أحب الآخرين، لكنه شيء مرهق أن أكون مسئولة طوال الوقت …»

ضحك ريتشارد بعفوية. وقال: «أنت اخترت القيام بهذا الدور يا نيكول، ولم يجبرك أحد عليه.»

ثم انحنى وطبع قبلة على وجنتها. فأدارت وجهها إليه وطبعت على شفتيه قبلة حارة.

فسألها ريتشارد على الفور بابتسامة عريضة: «هل تقترحين بهذه القبلة أن نقضي الليلة في الكوخ، ثم نبدأ رحلتنا غدًا؟»

فأجابته نيكول مبتسمة في دلال: «أنت تقرأ أفكاري يا سيد ريتشارد. في الواقع كنت أفكر كم سيكون ممتعًا أن نتخيل أنفسنا الليلة وقد عدنا عاشقَين شابَّين من جديد …» وضحكت. ثم أردفت: «على الأقل مخيلتنا لا تزال تعمل بكفاءة.»

•••

عندما صارا على بعد ثلاثمائة مترٍ جنوب الكوخَين. لم يكن بإمكان ريتشارد ونيكول رؤيةُ أي شيءٍ ما عدا ما يسقط عليه ضوء مصباحَيهما الكهربيَّين. ومع أن الأرضية أسفلهما كانت ملساء، لا يشوبها سوى تجمعاتٍ من الصخور الصغيرة هنا وهناك، فكان أحدهما أو كلاهما يتعثر عندما لا يكون منتبهًا.

قالت نيكول عندما توقفا لاحتساء بعض الماء: «قد نظل نسير لوقت طويل في الظلام حتى يتملك منا التعب.»

فقال ريتشارد بعد أن شرب: «والبرد أيضًا. هل تشعرين بالدفء؟»

فأجابته نيكول: «ما دمنا نتحرك.» ثم مددت ذراعَيها وعدلت وَضْع حقيبة ظهرها.

مرت ساعةٌ تقريبًا عندما رأيا ضوءًا في السماء جهة الجنوب. وكان الضوء يقترب منهما ويزداد في الحجم.

فسألته نيكول: «ما هذا في رأيك؟»

فأجابها ريتشارد: «ربما الجنية الزرقاء التي تحقق الأمنيات. فهي تظهر عندما يتمنى شخصٌ أمنية أيًّا كانت …»

فضحكت نيكول. وقالت: «إنك شخص كوميدي.»

فقال ريتشارد والضوء مستمرٌّ في التحرك في اتجاههما: «بعد ليلة أمس أشعر أنني عدت صبيًّا مرة أخرى.»

ضحكت نيكول وهزت رأسها. وشبكا يديهما في صمت فيما ظل حجم الكرة المضيئة يزداد. وبعد دقيقة توقفت على بعد عشرين أو ثلاثين مترًا أمامهما، وعلى ارتفاع عشرين مترًا فوقهما. أطفأ كلٌّ من ريتشارد ونيكول مصباحه الكهربي، إذ كان بإمكانهما رؤية المنطقة حولهما لأكثر من مائة متر.

ظلَّل ريتشارد عينَيه بيده محاولًا تحديد مصدر الضوء، لكن الضوء كان مبهرًا للغاية. ولم يستطع النظر إليه مباشرة. وقالت نيكول وهما يستأنفان السير مرةً أخرى: «مهما كان هذا الشيء، فمن الواضح أنه يعرف أين من المفترض أن نذهب.»

بعد ساعتَين وجد ريتشارد ونيكول طريقًا يتجه إلى الجنوب الغربي، على جانبَيه حقول بها نباتات نامية. وبعدما توقفا لتناول الغداء تجولا في الحقول واكتشفا أن أحد الأصناف الغذائية الرئيسية التي تناولاها أسفل القبة، وهو خضار يشبه في مذاقه الفاصوليا الخضراء وفي شكله القرع الأصفر، هو المحصول الرئيسي في الحقول. كانت تلك الخضراوات يتخلَّلها صفوفٌ من نباتٍ قصيرٍ لونه أحمر فاتح لم يرياه من قبل. فاقتلع ريتشارد واحدًا من النباتات الحمراء من الأرض، لكنه ألقاه على الفور عندما بدأ الجسم الأخضر الكروي المرن كالجلد الذي كان أسفل سطح التربة يتلوَّى في نهاية الساق الحمراء. وعندما ارتطم بالأرض زحف الكائن قاطعًا السنتيمترات القليلة عائدًا إلى حفرته الرئيسية، ودفن كرته الخضراء مرة أخرى في المكان نفسه.

فضحك ريتشارد. وقال: «أظن أنني سأعيد التفكير قبل أن أفعل شيئًا كهذا مرة أخرى.»

قالت نيكول بعد دقيقة: «انظر إلى هناك. أليس هذا أحد الحيوانات التي شيدت السلم؟»

سارا معًا في الممر ثم عادا إلى الحقل مرة أخرى ليريا بصورة أوضح. وبالفعل كان يتجه إليهما أحد الكائنات الضخمة ذات الأذرع الست الطويلة، التي تشبه النمل. كان الكائن يحصد الخضراوات بكفاءة مذهلة؛ فيتعامل مع الصفوف الثلاثة على جانبي جسده. كان كل ذراع أو خرطوم يقتلع صفًّا من الخضراوات ويكدِّسها بين الصفوف في أكوامٍ يفصل بينها متران. كان مشهدًا مذهلًا؛ فالأذرع الست تعمل في الوقت نفسه وتقوم بمهام مختلفة، على أبعادٍ مختلفةٍ من جسده.

وعندما وصل الكائن إلى الممر تراجعت أذرعه على الفور. ثم تحرَّك ستة صفوفٍ ودخل إلى الحقل في الاتجاه المقابل. كان الحصاد يتم من الجنوب إلى الشمال؛ لذا فعندما بدأ ريتشارد ونيكول السير مرةً أخرى، مرَّا عبر الجزء من الحقل الذي انتهَت النملة العملاقة من العمل فيه. وهناك رأيا كائناتٍ تشبه القوارض تجمع الأكوام المتناثرة وتُهرَع بها بعيدًا إلى الغرب.

مر ريتشارد ونيكول أثناء سيرهما في الممر بين الحقول بالعديد من تقاطعات الطرق، وفي كلِّ مرةٍ كان الضوء الذي يحوم حولهما يدلهما على الطريق الذي سيسلكانه. كانت الحقول ممتدةً لعدة كيلومترات. ومرا بالعديد من المحاصيل المختلفة، لكن ريتشارد ونيكول اللذَين كانا جائعَين ومرهقَين لم يتوقَّفا لفحص كل خضار جديد يريانه.

وفي النهاية وصلا إلى منطقة مسطحة مفتوحة تكسوها تربة ناعمة. دار الضوء في الأعلى ثلاث مرات ثم تأرجح حول وسط المنطقة. قال ريتشارد: «أعتقد أننا سنقضي الليلة هنا.»

فأجابَته نيكول وهو يساعدها في خلع حقيبة ظهرها: «بكل سرور. ولا أعتقد أنني سأجد صعوبةً في النوم، ولو على هذه الأرض الصلبة.»

تناول ريتشارد ونيكول عشاءهما وعثرا على بقعة مريحة، حيث يمكنهما النوم معًا. وعندما كان الاثنان في المرحلة ما بين اليقظة والنوم، بدأ الضوء فوقهما يخبو قليلًا ثم يهبط من أعلى.

فهمس ريتشارد: «انظري، إنه سيهبط.»

فتحت نيكول عينَيها، ونظرت إلى الضوء الذي كان يخبو تدريجيًّا، وهو يكوِّن قوسًا جميلًا ويهبط على الجانب المقابل للمنطقة المفتوحة. استمر الضوء في التوهج قليلًا بعد أن أصبح على الأرض. ومع أن ريتشارد ونيكول لم يتمكَّنا من رؤية الكائن جيدًا، فقد حددا أنه طويل ونحيف ولديه جناحان أطول من ضعف طول جسده.

فصاح ريتشارد عندما لم يعُد بإمكانهما رؤية جسده: «إنها يراعة عملاقة.»

٤

«علم الأحياء في الإضاءة، وعلم الأحياء في معدات الزراعة والبناء، هل تشعرين أن أصدقاءنا كائنات الأوكتوسبايدر، أو الكائنات الأعلى منها في سلسلة مذهلة تعيش على التكافل، هم أفضل علماء أحياء في المجرة؟»

أجابت نيكول وهي تنتهي من إفطارها: «لا أدري يا ريتشارد. لكن من الواضح أن تطورهم التكنولوجي قد اتبع مسارًا مختلفًا عن المسار الذي اتبعه تطورنا.»

شاهدا اليراعة العملاقة بتعجب وهي تضيء نفسها، وتتخذ وضعية التحليق فوقهم فور أن سمعت أولى حركاتهم بعد أن استيقظوا من النوم. وبعد بضع دقائق اقترب منهما كائن ثانٍ مماثل من جهة الجنوب. واجتمع ضوءاهما ليمداهما بإضاءة، في المكان الذي يسيران فيه، تشبه ضوء النهار في عدن الجديدة.

كان ريتشارد ونيكول قد ناما ملء جفنيهما واستعادا نشاطهما تمامًا. فقادهما المرشدان في طرق عبر حقول تمتد لعدة كيلومترات، بما في ذلك طريق يتميز بوجود أعشاب يبلغ طولها أكثر من ثلاثة أمتار. وعلى بعد مائة متر بعد أن انعطفا إلى اليسار وسط الأعشاب الطويلة، وجد ريتشارد ونيكول نفسيهما على حافة مصفوفة كبيرة من صهاريج المياه تمتد أمامهما على امتداد بصرهما.

فاتجها إلى اليسار وسارا لعدة دقائق حتى وصلا إلى ما أدرك ريتشارد أنه الركن الشمالي الشرقي من المصفوفة. وكان النظام يتكوَّن من سلسلة من الصهاريج المعدنية المستطيلة الضيقة الطويلة رمادية اللون. وكان عرض كل صهريج في المصفوفة عشرين مترًا تقريبًا، وطوله عدة مئاتٍ من الأمتار. ووصل ارتفاع الصهاريج إلى وسط نيكول وكانت تمتلئ حتى ثلاثة أرباعها بسائلٍ يبدو أنه ماء. وفي زاوية كل صهريج توجد أسطوانة سميكة لونها أحمر فاتح يصل ارتفاعها إلى ضعف ارتفاع الصهريج، ويعلوها جسم كروي أبيض اللون.

سار ريتشارد ونيكول إلى جانب الحافة الطويلة للمصفوفة لعدة دقائق، وهما ينظران داخل كل صهريج، ويفحصان الأعمدة الأسطوانية السميكة التي تميز المكان الذي تتشارك فيه الصهاريج المتاخمة في الجوانب. ولم يريا شيئًا داخل الصهاريج سوى الماء. فسألت نيكول: «إذن هل هذه وحدة تنقيةٍ من نوعٍ ما؟»

فأجابها ريتشارد: «أشك في هذا.» ثم توقفا عند الحافة الغربية. وقال ريتشارد: «انظري إلى هذه الكتلة من الأجزاء الصغيرة الدقيقة المثبتة بالجدار الداخلي لهذا الصهريج أمام الأسطوانة بالضبط … تخميني أن هذه مكونات إلكترونية معقدة من نوعٍ ما. لن يكون هناك داعٍ لوجود هذه الأشياء في نظام تنقية مياه بسيط.»

نظرت نيكول بارتياب لزوجها. وقالت: «بربك يا ريتشارد، هذا مجرد تخمين. كيف يمكنك أن تدَّعي معرفة وظيفة مجموعة من الأجزاء الصغيرة ثلاثية الأبعاد، المثبتة على الجدار الداخلي لصهريج مياه فضائي؟»

فأجابها ريتشارد وهو يضحك: «قلت لك إنني أخمن. كنت أحاول فقط أن أشير إلى أنه يبدو أكثر تعقيدًا من أن يكون وحدة تنقية مياه.»

كان الضوء فوقهما يحثهما على الاتجاه جنوبًا. وكان الجانب الآخر من الصهاريج الضيقة لا يحتوي على شيء سوى الماء، لكن عندما وصلا إلى المجموعة الثالثة من الصهاريج المستطيلة والأعمدة الأسطوانية، اكتشف ريتشارد ونيكول أن المياه مليئة بكرات صغيرة غامضة متعددة الألوان. فشمر ريتشارد عن ساعده ووضع يده في الماء، وأخرج عدة مئات من هذه الأجسام.

فقالت نيكول مؤكدة: «إنها بيض. أنا أعرف هذه الحقيقة بالقدر نفسه الذي تعرف به أن تلك الأجزاء الصغيرة المثبتة على الجدران الداخلية للصهاريج مكونات إلكترونية.»

فضحك ريتشارد مرة أخرى. وقال وهو يضع مجموعة الأجسام الصغيرة أمام عينَي نيكول: «انظري، إذا أمعنت النظر إليها، فستجدين أن هناك خمسة أنواع مختلفة فقط.»

فسألته نيكول: «خمسة أنواع من ماذا؟»

كانت تلك الأجسام الشبيهة بالبيض تملأ المجموعة الثالثة من الصهاريج بالكامل. وفي الوقت الذي كان ريتشارد ونيكول يقتربان فيه من الصف الرابع من الأسطوانات، ومجموعة أخرى من الصهاريج التي كانت تمتد عدة مئات أمتار إلى الجنوب، كان كلٌّ منهما قد بدأ يشعر بالتعب. فقالت نيكول: «إذا كنا لا نجد أي شيء جديد هنا، فما رأيك بتناول الغداء؟»

فأجابها: «أوافقكِ على هذا.»

لكنهما استطاعا تمييز شيءٍ جديد بالفعل، عندما كانا على بعد خمسين مترًا من الصف الرابع من الصهاريج. كانت هناك مركبة آلية مربعة يبلغ طولها وعرضها ثلاثين سنتيمترًا تقريبًا، وارتفاعها عشرة سنتيمترات؛ تتحرك بسرعةٍ جيئةً وذهابًا بين الأعمدة الأسطوانية. قالَت نيكول مداعبة ريتشارد: «كنت «أعرف» أن هذه مساراتٌ لنوع من المركبات.»

لكن ريتشارد كان مستغرقًا فيما يحدث حتى إنه لم يُجِب عليها. فبالإضافة إلى المركبة الآلية التي كانت تنطلق مسرعة، وتقطع دورةً كاملة عبر المصفوفة من الشرق إلى الغرب كل ثلاث دقائق تقريبًا، كان هناك العديد من العجائب الأخرى. فكان كلٌّ من الصهاريج في ذلك المكان مقسمًا من الداخل إلى جزأَين طويلَين بسياجٍ شبكي موازٍ للجدران، التي كانت أعلى قليلًا من مستوى الماء. وعلى أحد جانبَي السياج الشبكي كان هناك سربٌ من كائناتٍ صغيرة بخمسة ألوان مختلفة تسبح في الماء. وعلى الجانب الآخر كانت هناك دوائر وامضة تشبه حيوان الدولار الرملي متناثرة على امتداد الصهريج. وكان السياج موضوعًا؛ بحيث يكون ثلاثة أرباع حجم الصهريج متاحًا للدوائر الوامضة، مما يمنحها مساحة أكبر للمناورة مقارنة بالكائنات السابحة بأعداد كبيرة في مساحة صغيرة.

انحنى ريتشارد ونيكول ليتبينا ما يجري داخل الصهريج. فوجدا أن حيوانات الدولار الرملي تتحرك في كل اتجاه. ونظرًا لأن المياه كانت تعج بالكثير من الكائنات والحركة، فقد استغرق ريتشارد ونيكول عدة دقائق كي يدركا النمط العام للحركة. كان كل حيوان من حيوانات الدولار الرملي يدفع نفسه على فترات غير منتظمة إلى السياج الشبكي، بمساعدة الأهداب التي تُشبه السوط أسفل جسده المسطح، ثم يستخدم زوجًا آخر من الأهداب وهو يقف على السياج، ليمسك كائنًا من الكائنات الصغيرة التي تسبح في الجزء الآخر، ويسحبه عبر أحد ثقوب الشبكة. وعندما يكون الدولار الرملي أمام السياج يخبو ضوءه. وإذا مكث وقتًا طويلًا واصطاد عددًا من الكائنات السابحة ليأكلها، فإن ضوءه يتلاشى تمامًا.

قال ريتشارد لنيكول وهو يشير إلى دولار رملي معين أسفلهما: «انظري ماذا يحدث الآن عندما يترك السياج. عندما يسبح مع رفاقه، فإن ضوءه يتجدد ببطء.»

أسرع ريتشارد عائدًا إلى أقرب عمود أسطواني إليه وجثا على ركبتيه على الأرض. ثم حفر في التربة بواحدة من الأدوات التي يحتفظ بها في حقيبته. ثم قال بحماسة: «هناك جزء كبير من النظام تحت الأرض. أراهن أن هذه المصفوفة بالكامل جزء من مولِّد طاقة عملاق.»

ثم خطا ثلاث خطواتٍ كبيرة محسوبةً إلى الجنوب، وحدد مكانه بدقة ثم انحنى فوق الصهريج؛ ليحصي حيوانات الدولار الرملي في المنطقة بين العمود الأسطواني وبينه. ولم يكن ذلك بالأمر السهل نظرًا للحركة المستمرَّة للدوائر الوامضة.

ثم قال ريتشارد: «هناك تقريبًا ثلاثمائة في ثلاثة أمتار من طول الصهريج، مما يجعل عددها في الصهريج الكامل تقريبًا خمسة وعشرين ألفًا، أو مائتَي ألف في صفٍّ كامل.»

فسألته نيكول: «هل تفترض إذن أن هذه الأعمدة الأسطوانية نوع من أنظمة التخزين؟ مثل البطاريات؟»

فقال ريتشارد: «على الأرجح. يا لها من فكرة مذهلة! العثور على كائن حي يولد الكهرباء داخليًّا. ثم إجباره على التخلي عن طاقته المخزنة كي يأكل. ماذا قد يكون أفضل من هذا؟»

«وماذا عن المركبات الآلية التي تتحرك جيئة وذهابًا بين الأعمدة، ما الهدف منها؟»

فأجابها ريتشارد: «أظن أنها وسيلة مراقبة من نوع ما.»

•••

تناول ريتشارد ونيكول غداءهما، ثم انتهيا من فحص ما يفترضان أنه مولِّد طاقة. كانَت المصفوفة بالكامل تتكوَّن من ثمانية أعمدة وثمانية صفوف، مما يجعل العدد الكلي للصهاريج أربعة وستين صهريجًا. لم يكن يعمل منها سوى عشرين صهريجًا في ذلك الوقت. فقال ريتشارد معلقًا على هذا: «هناك الكثير من الطاقة الزائدة. من المؤكد أن مهندسيهم يدركون بوضوح مفاهيم الزيادة والهامش.»

اتجهت اليراعتان الضخمتان إلى الشرق بمحاذاة ما بدا أنه طريق سريع رئيسي. وقابل ريتشارد ونيكول مرتَين قطعانًا صغيرةً من الكائنات الضخمة الشبيهة بالنمل تسير في الاتجاه المقابل، لكن لم يحدث بينهما احتكاك. فسألت نيكول ريتشارد: «هل هذه الكائنات عاقلة بصورة تمكنها من العمل دون إشراف؟ أم إننا غير مسموحٍ لنا برؤية الكائنات التي تُعطيها التعليمات؟»

فقال ريتشارد: «هذا سؤال مثير للاهتمام حقًّا. هل تذكرين كيف هُرِع الأوكتوسبايدر إلى النملة الضخمة التي اصطدمت بها الكرة؟ ربما تتمتع بذكاء محدود لا يمكِّنها من العمل جيدًا في بيئةٍ جديدة أو غير معروفة.»

فقالت نيكول وهي تضحك: «مثل بعض الأشخاص الذين عرفناهم.»

انتهت رحلتهما الطويلة شرقًا، عندما قادتهما اليراعتان إلى حقلٍ ترابيٍّ كبير على جانب الطريق. كان الحقل خاويًا فيما عدا ما بدا من بعيدٍ أنه أربعون عارضةً كالمستخدمة في كرة القدم، مغطَّاة بنبات اللَّبْلَاب المتسلق، ومنظمة في خمسة صفوف كل منها يتكوَّن من ثماني عوارض.

فقال ريتشارد: «هلَّا تراجعين الدليل من فضلك؟ سيكون من الأسهل فهم ما نراه إذا قرأنا عنه أولًا.»

فابتسمت نيكول. وقالت: «إنهم يصطحبوننا في رحلة، أليس كذلك؟ لماذا يريد مضيفونا أن نرى كل هذا في رأيك؟»

صمت ريتشارد لدقيقة. ثم قال في النهاية: «أنا واثقٌ إلى حدٍّ كبير أن كائنات الأوكتوسبايدر هي المسيطرة على هذه المقاطعة بالكامل، أو على الأقل هي الأجناس العليا في هذه السلسلة المعقدة … ولا بد أن مَن اختارنا دون غيرنا للذهاب في هذه الجولة، يؤمن أن إعطاءنا معلوماتٍ عن إمكانياته سيجعل التعامل بيننا أسهل في المستقبل.»

فقالت نيكول: «لكن إذا كانت هي كائنات الأوكتوسبايدر بالفعل، فلماذا لم تختطفنا ببساطة مثلما فعلت مع إيلي وإيبونين؟»

أجابها ريتشارد: «لا أعلم. ربما يكون حسُّها الأخلاقي أكثر تعقيدًا مما نتخيَّل.»

وفي تلك اللحظة، كانت اليراعتان العملاقتان تدوران في الهواء فوق مجموعة العوارض المغطَّاة باللبلاب. فقالت نيكول: «أظن أن صبر مرشدتَينا بدأ ينفد.»

لو لم يكن ريتشارد ونيكول منهكَين من رحلتهما الشاقة على الأقدام لمدة يومَين، ولو لم يكونا قد رأيا بالفعل الكثير من المشاهد الرائعة، في ذلك العالم الفضائي الغريب الموجود في نصف الأسطوانة الجنوبي من راما؛ لخلب لُبَّهما وأذهلهما ما اكتشفاه في الساعات التالية من علاقاتٍ تكافليةٍ معقَّدة.

لم يكن ما يغطي العوارض لبلابًا. فما بدا من بعيد أنه أوراق كان في الحقيقة أعشاشًا صغيرةً مخروطية الشكل، تتكوَّن من آلاف الكائنات المتناهية الصِّغَر التي تُشبه حشرات قملة النبات. كانت الحشرات ملتصقة بعضها ببعض؛ لتكون العش باستخدام مادة لزجة حلوة المذاق تشبه العسل، كان البشر يستمتعون بتناولها في الغرفة أسفل القبة. وكانت حشرات قملة النبات الفضائية تصنع كميات كبيرة من هذه المادة كجزء من نشاطها العادي.

وبينما راقب ريتشارد ونيكول ما يحدث، كانت قوافل من الخنافس البارزة الأنف — تعيش في تلالٍ ترتفع لعدَّة أمتارٍ عن الأرض حول الحقل — تندفع من منازلها كل أربعين دقيقة تقريبًا، وتزحف حول العوارض من كل جانب لحصد المادة اللزجة الإضافية من الأعشاش. بلغ طول تلك الخنافس عشرة سنتيمترات تقريبًا قبل حصاد المادة اللزجة، لكنها كانت تنتفخ ويتضاعف حجمها ثلاث أو أربع مرات، قبل أن تستكمل دورة الحصاد، وتفرغ محتويات أجسامها المنتفخة في أوعيةٍ مغمورةٍ في قاع العوارض.

لم يتبادل ريتشارد ونيكول الكثير من الحديث وهما يراقبان تلك الأنشطة. فقد كان النظام البيولوجي الذي يرونه أمامهما دقيقًا ورائعًا؛ إنه مثال آخر على التقدم المذهل الذي أحرزه مضيفوهما في مجال العلاقات التكافلية. قال ريتشارد المرهق وهو يستعد هو ونيكول للنوم في مكان ليس ببعيد عن تلال الخنافس: «أراهن أننا لو انتظرنا وقتًا أطول، فستظهر دابة وترفع أوعية العسل — أو أيًّا كانت تلك المادة — من فوق الأرض، وتحملها إلى مكان آخر.»

ولاحظا، وهما يرقدان متجاورين على التراب، اليراعتَين وهما تهبطان على مسافةٍ منهما. ثم خيَّم الظلام فجأة. فقالت نيكول: «لا أصدق أن كل هذا حدث. ليس على كوكب آخر. وليس في أي مكان. إن التطور الطبيعي لا يتمخَّض بهذه البساطة عن هذا النوع من الانسجام الذي شاهدناه خلال اليومَين السابقَين، بين الأنواع المختلفة من الكائنات.»

فسألها ريتشارد: «ما الذي تحاولين قوله؟ إن جميع هذه الكائنات تم تصميمها بطريقة ما مثل الآلات لتنفيذ المهام الموكلة إليها؟»

فقالت نيكول: «هذا هو التفسير الوحيد الذي يمكنني تقبله. لا بد أن كائنات الأوكتوسبايدر أو غيرها، قد وصلت إلى مستوًى من التقدُّم يمكنها من التحكم في الجينات؛ لإنتاج نباتٍ أو حيوانٍ يفعل بالضبط ما تريده. لماذا تضع هذه الخنافس العسل في الأوعية؟ ما النفع البيولوجي الذي تحصل عليه من قيامها بهذا السلوك؟»

فقال ريتشارد: «لا بد أنها تحصل على عائدٍ ما لم نكتشفه بعد.»

فقالت نيكول: «بالطبع. وسيكون خلف ذلك العائد مُصمِّم أو مهندسٌ مذهل للأنظمة البيولوجية، يعمل على ضمان الانسجام بين هذه العلاقات المتداخلة، ليس فقط كي يكون كل جنس سعيدًا، مهما كان اختيارنا لتعريف هذه الكلمة، لكن أيضًا كي يحصل مُصمِّمو النظام أنفسهم على فائدة؛ ألَا وهي الطعام في شكل العسل الإضافي … هل تعتقد أن هذا النوع من الكفاءة في الأداء يحدث دون الاعتماد على هندسةٍ جينيةٍ متطورة؟»

صمت ريتشارد لدقيقة تقريبًا. ثم قال في النهاية ببطء: «تخيلي أن هناك مهندسًا بيولوجيًّا محترفًا يجلس إلى لوحة مفاتيح، يصمِّم نظامًا يتألَّف من كائناتٍ حية تطابق متطلبات محددة لنظام معين … إنها فكرة مرعبة.»

ومرة أخرى خرجت أسراب الخنافس من تلالها، متفادية البشريَّين النائمَين وهي تندفع إلى العوارض للقيام بمهمة الحصاد. راقبت نيكول الخنافس حتى اختفَت في الظلام. ثم تثاءبَت واستدارَت على جانبها. وفكَّرت في نفسها قبل أن تغطَّ في سبات عميق: «دخلنا نحن البشر عصرًا جديدًا. وفي المستقبل ستؤرخ الأحداث التاريخية جميعها بحرفَي «ق.ت» أي قبل الاتصال و«ب.ت» أي بعد الاتصال. لأننا منذ اللحظة الأولى التي تأكدنا فيها أن العناصر الكيميائية البسيطة قد تطورت إلى كيان واعٍ وحياة عاقلة في مكانٍ آخر من كوننا الشاسع، أصبح تاريخ جنسنا لا شيء سوى تاريخ قديم؛ جزء صغير وغير مهمٍّ في لوحةٍ عملاقةٍ ليس لها حدود، تصور التنوع المذهل للحياة العاقلة.»

•••

وفي الصباح التالي بعد تناول طعام الإفطار، دارت مناقشة قصيرة بين ريتشارد ونيكول عن مخزون طعامهما الذي ينخفض بسرعة، ثم قررا أن يأخذا بعضًا من المادة التي تشبه العسل من أحد الأوعية. قالت نيكول وهي تنظر حولها وهي تملأ حاوية صغيرة: «أظن أنه لو لم يجدر بنا فعل ذلك لجاء شرطيٌّ فضائيٌّ وأوقفنا.»

في البداية تحركت الأضواء التي تقودهما إلى الجنوب مباشرة، متجهة بريتشارد ونيكول إلى غابة كثيفة من الأشجار الباسقة تمتدُّ على مرمى البصر، في اتجاهَي الشرق والغرب. انحرفت اليراعتان إلى اليمين وتحركتا بموازاة حافة الأشجار. فرأيا الغابة إلى يسارهما مظلمةً وتثير في النفس خيفة. ومن حين لآخر، سمع ريتشارد ونيكول أصواتًا عالية غريبة تأتي من داخلها.

وفي إحدى المرات، توقف ريتشارد وسار حيث تبدأ النباتات الكثيفة. وكان بين الأشجار الكثير من النباتات الصغيرة ذات أوراق كبيرة تختلف ألوانها ما بين أخضر وأحمر وبني، بالإضافة إلى أنواعٍ عديدةٍ مختلفة من الكَرْم التي كانت تربط الغصون الوسطى والعليا من الأشجار. تراجع ريتشارد مجفلًا عندما سمع صوت عواء حاد بدا على بعد أمتار قليلة للغاية. ودارت عيناه تبحثان في الغابة لكنه لم يعثر على مصدر العواء.

فقال عندما عاد إلى نيكول: «هناك شيء غريب في هذه الغابة. إنها تبدو في غير محلها، كما لو أنها لا تنتمي إلى هنا.»

ولأكثر من ساعة استمرت اليراعتان في طريقهما غربًا. وترددت الأصوات الغريبة أكثر بينما كان ريتشارد ونيكول يسيران ببطء وإجهاد في صمت. ووافقت نيكول ريتشارد في رأيه عن الغابة. نظرت إلى الحقول التي يسودها النظام على يمينها، وقارنت بينها وبين النباتات العشوائية غير المشذبة على يسارها. قالت في نفسها: «ثمة شيء مختلف يثير القلق في تلك الغابة.»

توقف ريتشارد ونيكول للراحة قليلًا وقت الضحى. حسب ريتشارد المسافة التي ساراها منذ أن استيقظا من نومهما، فوجدها أكثر من خمسة كيلومترات. طلبَت نيكول بعضًا من العسل الطازج الذي يحتفظ به ريتشارد في حقيبة ظهره.

ثم قالت بعد أن تناولت طعامها، ثم شربت جرعةً كبيرةً من الماء: «إن قدمَيَّ تؤلماني. وألم ساقيَّ لم يتوقف الليلة الماضية … أتمنى أن نصل إلى وجهتنا أيًّا كانت قبل مرور المزيد من الوقت.»

فقال ريتشارد: «أنا أيضًا أشعر بالتعب. لكن أداءنا ليس سيئًا لشخصَين في بداية الستينيات من عمرَيهما.»

فقالت نيكول: «أشعر أنني أكبر من هذه السن الآن.» ثم وقفت وتمددت قائلة: «لا بد أن قلبَينا في التسعين من عمرَيهما الآن. صحيح أنهما لم يمارسا أنشطة كثيرة خلال السنوات التي قضيناها نائمَين، لكنهما ظلا يخفقان.»

وبينما كانا يتحدثان، اندفع حيوان غريب صغير الحجم كروي الجسم، له عين واحدة وشعر أبيض أشعث واثنتا عشرة ساقًا طويلة، من الغابة القريبة واختطف حاوية العسل. ثم اختفى الكائن والطعام في لحظة.

ففزعت نيكول وسألت زوجها: «ماذا كان هذا؟»

فقال ريتشارد: «كائن يحب الطعام حلو المذاق.» ثم حدق في الغابة إلى حيث اختفى الحيوان. وقال: «لا بد أن هناك عالمًا آخر في هذه الجهة.»

وبعد نصف ساعة تحركت اليراعتان إلى اليسار، وحامتا فوق طريق يقود إلى الغابة. كان عرض الطريق خمسة أمتارٍ وتصطفُّ على جانبَيه نباتاتٌ كثيفة. غير أن حدس نيكول أخبرها ألَّا تتبع اليراعتَين، لكنها لم تقُل شيئًا. وازداد خوفها عندما انبعثَت ضوضاء من الأشجار حولهما، بعد أن خطت هي وريتشارد بضع خطواتٍ داخل الغابة. فتوقَّفا وشبكا أيديهما وأنصتا.

قال ريتشارد: «إنها تبدو أصوات طيور وقردة وضفادع.»

فقالت نيكول: «لا بد أنها تبعث إشارة بحضورنا.» ثم التفتت ونظرت خلفها. وقالت: «هل أنت واثق أن ما نفعله هو الصواب؟»

فأشار ريتشارد إلى الضوء فوق رأسَيهما. وقال: «نحن نتبع هاتَين الحشرتَين منذ يومَين ونصف اليوم. ليس من المنطقي أن نفقد ثقتنا فيهما الآن.»

بدآ يسيران في الطريق مرة أخرى. وظلَّت أصوات النعيب والعواء والنقيق مسموعة. ومن حين لآخر كان نوع أوراق النباتات على جانبَي الطريق يتغير، لكنه ظل كثيفًا وداكنًا.

وفي وقتٍ من الأوقات قال ريتشارد: «لا بد أن هناك مجموعة من البستانيِّين الفضائيِّين يعملون في المنطقة حول هذا الطريق، عدة مرات في الأسبوع. انظري كيف تبدو هذه الشجيرات والأشجار مشذبة … إنها لا تبرز ولو مقدارًا قليلًا في الفضاء فوق رءوسنا.»

وبعد وقتٍ قصيرٍ قالت نيكول: «ريتشارد، إذا كانت الأصوات التي نسمعها تصدر عن حيواناتٍ فضائية، فلمَ لا نرى أيًّا منها على الإطلاق؟ فلم يخرج أي كائن قطُّ إلى الطريق.» ثم انحنت وفحصت التراب أسفل قدميها. وقالت: «ولا يوجد أي دليل مرئي على وجود حياة هنا، سواء الآن أو قبل ذلك … ولا نملة حتى …»

فقال ريتشارد وابتسامة عريضة ترتسم على وجهه: «ربما نسير في طريق سحري. وربما يقود إلى منزل مصنوع من الكعك وساحرة عجوز شريرة … دعينا نتغنَّ يا جريتل، وربما نشعر أننا أفضل.»

بدأ الطريق الذي كان مستقيمًا تمامًا في أول كيلومتر تقريبًا يصبح متعرجًا. ومن ثم أصبحت أصوات كائنات الغابة تحيط بريتشارد ونيكول. أنشد ريتشارد أغاني شهيرةً تعود إلى سنوات مرحلة المراهقة التي عاشها في إنجلترا. وانضمَّت إليه نيكول لبعض الوقت عندما عرفت الأغنية، لكنها بذلت طاقتها معظم الوقت في محاولة التحكُّم في توتُّرها المتزايد. وكانت تحاول إقناعَ نفسها ألَّا تفكر في أنهما هدفٌ سهل لأي حيوانٍ فضائيٍّ ضخم متربص في الغابة.

وفجأة سكت ريتشارد. واستنشق الهواء بعمق مرتَين. وسأل نيكول: «هل تشمين هذه الرائحة؟»

فاستنشقت نيكول الهواء حولها. وقالت: «نعم … إنها تشبه قليلًا رائحة أزهار الجاردينيا.»

فقال ريتشارد: «إلا أنها أجمل بكثير. إنها خلابة!»

وفجأة انعطف الطريق أمامهما إلى اليمين. وبعد الانعطاف، كانت هناك مجموعة أعشابٍ كبيرة إلى جانب الطريق مغطَّاة بأزهارٍ صفراء ضخمة، وهي أول زهور يريانها منذ دخولهما إلى الغابة. كانت كل زهرةٍ في حجم كرة السلة. وعندما اقترب ريتشارد ونيكول أكثر من مجموعة الأعشاب أصبحت الرائحة الخلابة أقوى.

لم يستطع ريتشارد كبح نفسه. وقبل أن تتفوه نيكول بأي كلمة كان قد سار أمتارًا قليلة خارج الطريق، وأدخل وجهه في واحدة من الزهور الضخمة واستنشق عبيرها بعمق. كانت رائحتها بديعة. وفي تلك الأثناء، عادت واحدة من اليراعتَين في اتجاههما وبدأت تحوم فوق رأسَيهما في خطٍّ متعرِّج.

فقالت نيكول: «لا أظن أن مرشدتَينا توافقان على الغارة التي تقوم بها.»

فأجابها ريتشارد وهو يعود إلى الطريق: «على الأرجح لا. لكن الأمر كان يستحق.»

وهما يستأنفان سيرهما أحاط بهما المزيد من الزهور من جميع الأشكال والأحجام والألوان على جانبي الطريق. ولم يسبق لأيٍّ منهما رؤية هذه الوفرة من الألوان. وفي الوقت نفسه خبت الأصوات التي كانا يسمعانها. وبعد قليل عندما كان ريتشارد ونيكول في وسط منطقة الزهور، اختفت الضوضاء تمامًا.

ضاق الطريق ليصبح عرضه مترَين فقط، بالكاد يتسع كي يسيرا فيه جنبًا إلى جنب دون أن يحتكا من الجانبَين بالنباتات، التي كانت الزهور تنمو عليها. خرج ريتشارد عن الدرب عدة مرات كي يفحص أو يشم واحدة من الزهور الرائعة. وكل مرة يفعل فيها هذا كانت اليراعتان تعودان لإعادته إلى اتجاهَيهما. ومع أن ريتشارد كان متحمسًا للغاية لرحلاته الخاصة إلى داخل الغابة، فقد كانت نيكول منتبهةً تمامًا للقائدتَين وظلَّت تسير في الطريق.

كان ريتشارد على بعد ثمانية أمتار إلى اليسار يحاول أن يفحص زهرة عملاقة تشبه السجاد الشرقي، عندما اختفى بغتة من أمام ناظرَيها. سمعته نيكول يصرخ فجأة وهو يسقط على الأرض: «آه.»

فسألته على الفور: «هل أنت بخير؟»

فقال: «نعم. تعثرت ببعض النباتات وسقطت داخل كومةٍ من النباتات الشوكية … إن الشجيرة المحيطة بي أوراقها حمراء اللون وتنمو عليها أزهار صغيرة غريبة تشبه الكرات … رائحتها كالقرفة.»

فسألته نيكول: «هل تحتاج إلى مساعدة؟»

أجابها: «كلا … سأخرج من هنا خلال لحظة.»

فنظرت نيكول إلى الأعلى، ولاحظَت أن واحدةً من اليراعتَين كانت تنطلق مبتعدة. فتساءلت في نفسها: «ما الذي يحدث؟» ثم سمعت ريتشارد يتحدث مرة أخرى.

كان يقول: «قد أحتاج إلى بعض المساعدة. يبدو أنني علقت.»

خطت نيكول بحذر خارج الطريق. ففقدت اليراعة الأخرى صوابها، وظلَّت تقترب من نيكول حتى أصبحَت بجوار وجهها تقريبًا. ففقدت نيكول مؤقتًا القدرة على الرؤية بسبب الضوء المبهر.

وبعد ثوانٍ قليلة قال ريتشارد على حين غرة: «لا تقتربي يا نيكول. إن لم أكن مجنونًا فإن هذا النبات يستعد ليلتهمني.»

تملك الخوف من نيكول. قالت: «ماذا؟ هل أنت جاد فيما تقول؟» وانتظرت بنفاد صبر حتى يتعافى نظرها من تأثير الضوء المبهر.

قال ريتشارد: «نعم. عودي إلى الطريق … لقد لفت هذه الشجيرة الغريبة فروعها الصفراء حول ذراعَيَّ وساقيَّ … وهناك بعض الحشرات الزاحفة تمتص الدماء التي سببتها الأشواك … وهناك فتحة في الشجرة أنجذب في اتجاهها ببطء، تبدو كفم قبيح … يمكنني أن أرى بعض الأسنان أيضًا.»

شعرت نيكول بنبرة الرعب في صوت ريتشارد. فأخذت خطوة أخرى في اتجاهه، لكن عادت اليراعة مرة أخرى كي تعميها بضوئها.

فصاحت: «أنا لا أستطيع أن أرى شيئًا. هل ما زلت موجودًا يا ريتشارد؟»

فأجابها: «نعم. لكن لا أعلم إلى متى.»

ثم سمعا صوت حيوانات تتحرك بسرعة في الغابة مع عواء عالٍ. وفجأة ظهر ثلاثة من كائنات الأوكتوسبايدر تلوِّح بأسلحةٍ طويلةٍ رفيعةٍ بصورة غريبة. أطلقت كائنات الأوكتوسبايدر رذاذًا سائلًا على الشجيرة آكلة اللحوم، وفي غضون ثوانٍ لفظت الشجيرة ريتشارد. وعلى الفور أخفت الشجرة العدوانية فمها مرة أخرى خلف أغصانها الكثيرة.

سار ريتشارد متعثرًا واحتضن نيكول. وصاح كلاهما: «شكرًا لكم» لكائنات الأكتوسبايدر الثلاثة، بينما كانت تختفي في الغابة بالسرعة نفسها التي ظهرت بها. ولم يلحظ ريتشارد ونيكول أن اليراعتَين عادتا تحومان فوق رأسَيهما.

فحصت نيكول ريتشارد بحرص، لكنها لم تعثر على شيءٍ سوى جروحٍ بسيطةٍ وخدوش. فقال وهو يبتسم ابتسامةً باهتة: «أظن أنني سألتزم بالطريق لبعض الوقت.»

فأجابته نيكول: «هذه على الأرجح ليسَت فكرة سيئة.»

تحدَّث الاثنان عما حدث وهما يستكملان سيرهما في الغابة. كان ريتشارد لا يزال مصدومًا. قال: «تباعدَت الأغصان القريبة من كتفي الأيسر وظهرت تلك الفجوة، في البداية كانت في حجم كرة بيسبول. لكن عندما حملتني الحركة الموجية للفروع باتجاهها، اتسعت الفجوة.» ثم انتفض جسده. وقال: «حينها رأيت الأسنان الصغيرة التي تحيط بها. كنت قد بدأت أفكر في شعوري وأنا وجبة حين ظهر أصدقاؤنا كائنات الأوكتوسبايدر.»

بعد قليل سألته نيكول: «ماذا يحدث هنا برأيك؟»

كانا في ذلك الوقت قد تركا منطقة الزهور، وعادا مرة أخرى محاطَين بالأشجار ونباتات الغابة وضوضاء الحيوانات المتقطعة.

فأجابها ريتشارد: «لا أعلم مطلقًا.»

•••

انتهت الغابة فجأةً بينما كان ريتشارد ونيكول يتضوران جوعًا. وجدا نفسَيهما يخرجان إلى أرضٍ منبسطةٍ خاوية. ورأيا أمامهما — ربما على بعد كيلومترَين — قبة خضراء كبيرة تملأ المكان.

«ما هذا؟»

فقال ريتشارد: «إنها مدينة الزمرد يا حبيبتي. بالطبع تعرفينها من مشاهدة الفيلم القديم … وبداخلها ستجدين الساحر أوز مستعدًّا لأن يلبِّي جميع أمنياتك.»

ابتسمت نيكول وقبَّلت زوجها. ثم قالت: «اتضح أن الساحر محتال. فلم يكن يتمتع بأي قوًى خارقة.»

أجابها ريتشارد بابتسامة عريضة: «الأمر محل خلاف.»

وبينما كانا يتحدثان، اندفع ضوء اليراعتَين اللتَين كانتا تقودانهما باتجاه القبة الخضراء، تاركَين ريتشارد ونيكول في ظلامٍ شبه دامس. فأخرجا مصباحَيهما من حقيبتَيهما. وقال ريتشارد وهو يسير بخطًى واسعةٍ يقطع المسافة في اتجاه مدينة الزمرد: «أشعر أننا نقترب من نهاية رحلتنا.»

كان بإمكانهما من مسافة تزيد عن الكيلومتر رؤية البوابات من خلال منظارَيهما المقرِّبَين. بدأت الإثارة تعرف طريقها إلى قلب ريتشارد ونيكول. ثم سألت نيكول: «هل تعتقد أن هذا هو موطن كائنات الأوكتوسبايدر؟»

فقال ريتشارد: «بالتأكيد. لا بد أنه مكان مذهل. فقمَّة القبة الخضراء ترتفع على الأقل مسافة ثلاثمائة مترٍ فوق سطح الأرض. وتخميني أن المساحة أسفلها تتجاوز عشرة كيلومترات مربعة …»

وسألت نيكول بعد أن أصبحا على بعد ستمائة متر فقط من المكان: «ما هي خطتنا يا ريتشارد، هل سنذهب إليها ونطرق الباب؟»

فسألها ريتشارد وخطاه تتسارع: «ولم لا؟»

عندما أصبحا على بعد مائتَي متر من البوابة، فُتحت وظهر ثلاث هيئات. سمع ريتشارد ونيكول صيحة عندما بدأ أحدها يتحرك في اتجاههما بسرعة. فوقف ريتشارد واستخدم منظاره المقرِّب مرة أخرى. ثم صاح: «إنهما إيلي، وإيبونين … ومعهما أوكتوسبايدر.»

ألقت نيكول حقيبة ظهرها وقطعت السهل ركضًا. واحتضنت ابنتها الحبيبة بين ذراعَيها حتى إنها رفعتها من فوق الأرض من قوة عناقها، وردَّدت اسمها والدموع تنهمر من عينَيها لتغرق وجنتَيها.

٥

«هذا صديقنا آرشي … كان عونًا كبيرًا لنا طوال المدة التي قضيناها هنا … هذان هما أبي وأمي يا آرشي.»

أجاب آرشي الأوكتوسبايدر بسلسلة من الألوان بدأت بلون قرمزي رائع، تبعه لون أخضر يميل إلى الزرقة، ثم لون أرجواني ثم درجتان مختلفتان من اللون الأصفر (الأولى تميل إلى اللون البرتقالي، والثانية ليمونية تميل إلى الأخضر) وأخيرًا لون بنفسجي. ودارت سلسلة الألوان حول رأس الأوكتوسبايدر الكروي دورة كاملة، ثم اختفَت مرة أخرى في الجانب الأيسر من الشق الذي تكوَّن من الفجوتَين المتوازيتَين في منتصف وجهه.

فقالت إيلي: «إن آرشي يقول إنه سعيد للقائكما، خاصة بعد سماع الكثير عنكما.»

فسألتها نيكول وهي مصدومة بعض الشيء: «هل بإمكانك قراءة ألوانه؟»

فأجابتها إيبونين: «إن إيلي بارعة. تعلمت لغة كائنات الأوكتوسبايدر بسرعة كبيرة.»

فعادت نيكول تسأل: «لكن كيف تتحدَّثين إليها؟»

فأجابتها إيلي قائلة: «إن بصرها حادٌّ بصورة مذهلة وتتمتع بذكاء خارق … إذ تعلَّم آرشي واثنا عشر أوكتوسبايدر آخر أن يقرءوا الشفاه … لكن يمكننا التحدُّث عن كل هذا فيما بعد يا أمي. أخبريني أولًا كيف حال نيكي وروبرت. هل هما بخير؟»

«إن ابنتك تزداد جمالًا كل يوم وتشتاق إليكِ بشدة … وأظن أن روبرت لم يتغلب على فقدك، فلا يزال يلوم نفسه لأنه لم يحمِكِ بصورةٍ أفضل …»

تابع الأوكتوسبايدر آرشي الحوار الشخصي بأدب لعدة دقائق قبل أن يربت على كتف إيلي، ليذكرها أن والديها على الأرجح مرهقان ويشعران بالبرد.

فقالت إيلي: «شكرًا لك يا آرشي. إليكم الخطة. ستدخلان أنتما الاثنان إلى المدينة على الأقل لقضاء الليلة والغد؛ إذ تم إعداد ما يمكن أن نعتبره جناحًا في فندق بالداخل لنا نحن الأربعة، وبعد غد أو عندما تنالا قسطًا من الراحة سنعود جميعًا إلى الآخرين. وسيحضر آرشي معنا.»

فسألها ريتشارد بعد صمت دام لفترة قصيرة: «ألم يكن من الأسهل أن تأتوا أنتم الثلاثة إلى حيث كنا؟»

«طرحت السؤال نفسه يا أبي … ولم أتلقَّ إجابةً مرضية …»

قاطعت شرائط الألوان التي ظهرت على رأس آرشي ما كانت إيلي تقوله. فقالت للأوكتوسبايدر: «حسنًا.» ثم التفتت إلى والديها وقالت: «يقول آرشي إن كائنات الأوكتوسبايدر أرادت أن يكون لديكما أنتما الاثنان بالذات فكرة واضحة عنها، وعلى أي حال يمكننا مناقشة هذه الأمور بعد أن نستقر في جناحنا.»

•••

فُتحت أبواب مدينة الزمرد العملاقة، عندما كان البشر الأربعة ومرافقهم الأوكتوسبايدر على بعد عشرة أمتارٍ منها. ولم يكن ريتشارد ونيكول مستعدَّين لرؤية تلك المشاهد الغريبة المتنوعة التي سقطت عليها أعينهما فور دخولهما المدينة. فكان أمامهما مباشرة طريقٌ واسعٌ على طول جانبَيه مبانٍ منخفضة يؤدي إلى مبنًى هرمي مرتفع ذي لونَين قرنفلي وأزرق على بعد عدة مئات من الأمتار.

وعندما خطا ريتشارد ونيكول أولى خطواتهما داخل مدينة الأوكتوسبايدر، كانا مذهولَين. ولن يتمكن أيٌّ منهما أن ينسى أبدًا تلك اللحظة الأولى التي لا تصدق. كانا محاطين بلوحة من الألوان المختلفة. فكل شيء في المدينة — بما في ذلك الشوارع والمباني والزخارف غير المفهومة التي تصطف على طول الطريق والنباتات في الحديقة (إذا كانت نباتات بالفعل) والعدد الكبير من الحيوانات التي كانت تنطلق في جميع الاتجاهات — كان مزخرفًا بألوان زاهية. كانت هناك مجموعة من أربع ديدان أو ثعابين، تشبه الحلويات على شكل عصا المشي فيما عدا أنها أكثر منها ألوانًا، ظلت ملتفة داخل البوابة على الأرض إلى يسار ريتشارد ونيكول. وكانت رءوسها مرفوعة لأعلى، على الأرجح تجاهد كي ترى الزوار الأغراب. ورأيا حيوانات لونها أحمر وأصفر فاتح لها ثماني أرجل ومخالب تشبه مخالب جراد البحر، تحمل أعوادًا خضراء سميكة في تقاطع على بعد خمسين مترًا أمام ريتشارد ونيكول.

وبالطبع كان هناك عشرات وربما مئات من كائنات الأوكتوسبايدر جاءت جميعًا إلى منطقة البوابة، لتلقي نظرة على البشريَّين الجديدَين في المدينة. كانت تجلس في جماعات أمام المباني أو تقف إلى جانب الطريق أو تسير على أسطح المباني. وكانت جميعها تتحدث في الوقت نفسه مستخدمة شرائط الألوان الزاهية، مؤكدة على جمال الزخارف في الشارع، بمساعدة موجاتٍ متحركةٍ من الألوان المختلفة.

نظرت نيكول حولها، وهي تلقي نظرة سريعة للحظة واحدة على كل كائن من الكائنات الغريبة التي تحملق فيها. ثم أعادت رأسها إلى الخلف لتتمعن في القبة الخضراء في الأعلى. فرأت ما يشبه أضلاعًا مرنة رفيعة في نقاط بعيدة، مغطاة تقريبًا بمظلة خضراء سميكة.

ثم سمعت إيلي بجوارها تقول: «إن السقف يتكون من نباتات معترشة وغيرها، بالإضافة إلى بعض الحيوانات التي تشبه الحشرات التي تحصد الفواكه والزهور المفيدة. إنه نظام بيئي حي متكامل يتمتع بميزة إضافية، ألا وهي قدرته على أن يكون غطاءً ممتازًا للمدينة، يمنع عنها هواء راما البارد. وبعد أن تغلق الأبواب سترين أن درجة الحرارة ملائمة داخل المدينة.»

وتناثر تقريبًا عشرون مصدرًا مبهرًا للضوء أسفل القبة، أكبر بكثيرٍ من حجم اليراعات التي قادَت ريتشارد ونيكول إلى موطن الأوكتوسبايدر. حاولت نيكول أن تفحص واحدًا من الأضواء، لكنها سريعًا ما توقفت لأن الضوء كان يغشي عينَيها. قالت في نفسها: «إن صحَّ تخميني فإن هذا الضوء يصدر عن مجموعاتٍ من اليراعات نفسها التي قادتنا إلى مدينة الزمرد.»

هل هو التعب أم السعادة أم مزيج من هذا وذاك الذي جعل نيكول تفقد توازنها؟ أيًّا كان السبب، فقد بدأت نيكول تشعر بالدوار وهي تحدق في القبة الخضراء بالأعلى، فتعثرت ومدت يدها لتتعلق بريتشارد. وتسبب تدفق الأدرينالين الذي صاحب شعورها بالدوار والخوف المفاجئ في ازدياد معدل خفقان قلبها.

فقالت إيلي وقد أقلقها شحوب وجه أمها: «ماذا بك يا أمي؟»

فقالت نيكول وهي تتنفس ببطء وروية: «لا شيء، لا شيء … شعرت بالدوار للحظة.»

نظرت نيكول إلى الأرض أسفلها كي تشعر بالثبات. كانت الشوارع مرصوفة بمربعات زاهية الألوان تشبه السيراميك. ورأت على الأرض أمامها يجلس على بعد ما لا يزيد عن خمسين سنتيمترًا أغرب ثلاثة كائنات رأتها نيكول في حياتها. كان كلٌّ منها في حجم كرة السلة. ورءوسها نصف الكروية مموجة لونها أزرق داكن، تشبه إلى حد ما شكل المخ البشري، والجزء الذي يطفو من قنديل البحر على سطح الماء. وفي منتصف تلك الكتلة التي تتحرَّك باستمرارٍ كانت هناك فجوة دائرية مظلمة، يخرج منها قرنا استشعارٍ رفيعان طويلان، ربما يصل طول كلٍّ منهما إلى عشرين سنتيمترًا، وبه كتل عصبية أو عقد يبعد بعضها عن بعض بمقدار اثنين أو ثلاثة سنتيمترات تقريبًا. عندما تراجعت نيكول لا إراديًّا، وقفزت إلى الخلف لشعورها الغريزي أن هذه الكائنات الغريبة تمثِّل تهديدًا لها، دارَت قرون الاستشعار وفرَّت الكائنات الثلاثة بسرعةٍ إلى جانب الطريق.

ألقت نيكول نظرة سريعة حولها. كانت شرائط الألوان تتدفق حول رءوس جميع كائنات الأوكتوسبايدر التي رأتها. وكانت نيكول «تعرف» أنها تحلل ردود أفعالها لحظة بلحظة. وفجأة شعرت كما لو أنها عارية وتائهة ومرتبكة تمامًا. ومن أعماق نفسها راودها شعور قديم قوي بالحزن. فخشيت أن تبدأ في الصراخ.

فقالت بهدوء: «إيلي، أظن أنني رأيت ما يكفيني اليوم … هل نستطيع الدخول إلى الجناح سريعًا؟»

فأمسكت إيلي والدتها من ذراعها، وقادتها باتجاه بابٍ في المبنى الثاني إلى يمين الساحة. وقالت: «ظلت كائنات الأوكتوسبايدر تعمل ليلًا ونهارًا كي تجعل هذه الغرف مناسبة. أتمنى أن تكون مرضية لكما.»

استمرت نيكول في التحديق في مشهد الشارع، لكن ما رأته لم يعد يخترق أعماق عقلها الواعي. فقالت في نفسها عندما مرت أمام عينيها مجموعةٌ من الكائنات الخضراء النحيفة، التي تشبه كرات البولينج على ركائز خشبية رفيعة: «إنه حلم. لا يمكن أن يكون هناك مكانٌ كهذا في أي مكان.»

•••

قال ريتشارد: «شعرت أنا أيضًا بالإجهاد. إذ حدث ما أرعبنا في الغابة. وقطعنا مسافة طويلة سيرًا على الأقدام لثلاثة أيام، مسافة طويلة لعجوزَين مثلنا … لا عجب أن ترتبك أمك بهذا الشكل؛ فالمشهد بالخارج كان غريبًا.»

فقالت إيلي: «قبل أن يغادر آرشي اعتذر بثلاث طرائق مختلفة. فحاول أن يشرح أن الأوكتوسبايدر سمحت لأي شخصٍ بالاتجاه إلى منطقة البوابة ظنًّا منها أن هذا سيثير سعادتك أنت وأمي … ولم تفكر في احتمال أن يكون الأمر أكثر مما يمكنكما احتماله …»

اعتدلت نيكول في جلستها على فراشها ببطء. وقالت: «لا تقلقي يا إيلي. لم أَصِر بعدُ هشةً لهذه الدرجة … أظن أنني لم أكن مستعدة، لا سيما بعد كل هذا المجهود البدني والعاطفي.»

«إذن هل ترغبين في نيل المزيد من الراحة يا أمي، أم تفضلين تناول الطعام؟»

فكررت نيكول: «أنا بخير حقًّا. دعينا نَسِر وفق خطتك …» ثم التفتت إلى صديقتها الفرنسية التي لم تتحدث كثيرًا منذ أن ألقت عليهما التحية على الباب خارج المدينة، وقالت: «بالمناسبة يا إيبونين، يجب أن أعتذر عن فظاظتنا. انشغلت أنا وريتشارد في التحدث إلى إيلي ومشاهدة كل شيء … فنسيت أن أخبرك أن ماكس يرسل لك تحياته الحارة. جعلني أعده أنني إذا رأيتك، فسأخبرك أنه يفتقدك بشدة.»

فأجابتها إيبونين: «شكرًا لك يا نيكول. ظللت أفكر في ماكس وفي الآخرين يوميًّا منذ أن أحضرتنا كائنات الأوكتوسبايدر إلى هنا.»

ثم سألتها نيكول: «هل تتعلمين لغة الأوكتوسبايدر مثل إيلي؟»

فأجابتها إيبونين ببطء: «لا، كنت أقوم بشيء آخر مختلف تمامًا …» ثم نظرت حولها بحثًا عن إيلي التي خرجت للحظةٍ كي تطلب إحضار العشاء. ثم استكملت: «في الحقيقة لم أرَ إيلي لمدة أسبوعَين، حتى بدأنا نضع خطة مجيئكما إلى هنا.»

ساد صمتٌ غريبٌ في الغرفة دام لثوانٍ. ثم سألها ريتشارد بصوت منخفض: «هل كنت أنت وإيلي سجينتين هنا؟ وهل علمتما لم اختطفتكما؟»

فأجابته إيبونين: «لا، ليس بالضبط.» ثم وقفت في الغرفة الصغيرة وصاحت: «إيلي، هل أنت بالخارج؟ إن والدك يطرح بعض الأسئلة …»

ثم سمعوا جميعًا صوت إيلي وهي تصيح: «دقيقة واحدة.» وبعد بضع لحظات عادت إلى الغرفة والأوكتوسبايدر آرشي خلفها. ففهمت إيلي النظرة التي ارتسمت على وجه أبيها. ثم قالت: «إن وجود آرشي لا بأس به. اتفقنا أنه عندما نبدأ بإخباركما عن كل شيء يمكن أن يكون موجودًا … ليشرح ويوضح لكما بعض الأمور، وربما ليجيب عن الأسئلة التي لا نستطيع الإجابة عنها …»

جلس الأوكتوسبايدر بين البشر فخيَّم الصمت المؤقت ثانية. وفي النهاية قال ريتشارد: «لماذا يراودني شعور أنكما تدربتما على هذا المشهد بالكامل؟»

فانحنت نيكول التي تشعر بالقلق إلى الأمام وأمسكت بيد ابنتها. وقالت: «لا توجد أخبار سيئة، أليس كذلك يا إيلي؟ أخبرتمانا أنكما ستعودان معنا …»

فقالت إيلي: «صحيح يا أمي. كل ما في الأمر أن هناك بعض الأشياء التي نودُّ أنا وإيبونين أن نخبركما بها … لماذا لا تبدئين أنتِ يا إيب؟»

تدفقت حول رأس آرشي الذي كان من الواضح أنه يتابع الحوار بانتباه شرائط من الألوان، وهو يغير موضع جلوسه ليواجه إيبونين. فراقبت إيلي شرائط الألوان بحرص.

فسألتها نيكول: «ماذا يقول هذا الشيء … هذا الكائن؟» كانت مذهولة من مهارة ابنتها في تعلم لغة الفضائيين.

فقالت إيلي وهي تضحك ضحكة قصيرة: «أظن أن «الكائن» ستكون مناسبة أكثر. على الأقل هذا ما أخبرني به آرشي عندما شرحت له الفرق … لكنني ظللت أنا وإيب نستخدم صيغة المذكر للإشارة إلى آرشي ودكتور بلو … على أي حال يريدنا آرشي أن نخبركما أن كائنات الأوكتوسبايدر اعتنت جيدًا بي وبإيبونين، وأننا لم نعانِ بأي شكلٍ من الأشكال، وأنها اختطفَتنا لأنها لم تتمكَّن من التوصل لطريقةٍ تمكنها من التواصل معنا على نحوٍ غير عدائي …»

فقاطعها ريتشارد قائلًا: «إن الخطف لا يعد الوسيلة المناسبة لبدء التواصل.»

فاستكملت إيلي: «شرحت كل هذا لآرشي والآخرين يا أبي؛ لهذا يريدني أن أوضِّح الأمور الآن … عاملونا معاملةً حسنة، ولم أرَ أي إشارةٍ تدل على أن جنسها قادرٌ على القيام بسلوكٍ عدواني …»

فقال ريتشارد: «حسنًا، أفهم أنا ووالدتك «الغرض» من هذا التمهيد …»

انقطع الحديث لحظة بسبب بعض التعليقات الملونة من آرشي. وبعد أن شرحت له إيلي معنى كلمتَي «الغرض» و«التمهيد» نظرت إلى والدَيها. وقالت: «إن مستوى ذكاء كائنات الأوكتوسبايدر مبهر حقًّا. فآرشي لم يسألني عن معنى أي كلمة أكثر من مرة.»

بدأت إيبونين تتحدث قائلة: «عندما وصلت إلى هنا، كانت إيلي قد بدأت تفهم لغة الأوكتوسبايدر … وفي البداية كان كل شيء محيرًا بصورة رهيبة … لكن بعد بضعة أيام فهمنا أنا وإيلي لماذا اختطفتنا كائنات الأوكتوسبايدر.»

فتدخلت إيلي قائلة: «تحدثنا عن الأمر لليلة كاملة. كنا نحن الاثنتان مشدوهتين … لم نستطع التوصل إلى كيفية معرفتها بالأمر …»

فقال ريتشارد: «أي أمر؟ أنا آسف أيتها السيدتان. لكنني أواجه مشكلة في متابعة ما تتحدثان عنه …»

قالت إيبونين: «عرفت الأوكتوسبايدر أنني مريضة بفيروس «آر في ٤١». كان آرشي ودكتور بلو … إنه أوكتوسبايدر آخر يعمل طبيبًا ونحن نطلق عليه اسم دكتور بلو (أزرق) لأنه عندما يتحدث يتدفق شريط الألوان الأزرق الفضي خارج الحدود العادية …»

هذه المرة نيكول هي التي قاطعتها، وقالت وهي تهز رأسها بقوة: «انتظري لحظة. دعيني أستوعب الأمر. أنت تقولين إن كائنات الأوكتوسبايدر «عرفت» أن إيبونين مريضة بفيروس «آر في ٤١». كيف يمكن ذلك؟»

فأظهر آرشي سلسلة طويلة من الألوان، وطلبت منه إيلي أن يعيدها. ثم قالت: «إنه يقول إنهم ظلوا يراقبون جميع أنشطتنا عن كثب منذ أن غادرنا عدن الجديدة. واستدلَّت كائنات الأوكتوسبايدر من تصرفاتنا — على حسب قوله — على أن إيبونين تعاني مرضًا عضالًا من نوع ما.»

بدأ ريتشارد يذرع الغرفة. ثم قال بانفعال: «إن هذا أحد أروع التصريحات التي سمعتها على الإطلاق.» ثم استدار مواجهًا الحائط وهو مستغرق تمامًا في أفكاره. فذكَّر آرشي إيلي أنه لن يستطيع فهم أي شيء إلا إذا كان ريتشارد يواجهه. وفي النهاية استدار ريتشارد ليواجه المجموعة وقال: «كيف أمكنها … إيلي، أليست كائنات الأوكتوسبايدر صماء؟»

وعندما أومأت إيلي برأسها مؤكدة، تعلم ريتشارد ونيكول أول مقطع من لغة الأوكتوسبايدر. إذ أطلق آرشي شريطًا قرمزيًّا عريضًا بسرعة، مشيرًا إلى أن العبارة تقريرية، وأتبعها بلون أزرق رائع يميل إلى الخضرة.

فقال ريتشارد: «حسنًا، إذا كانت صماء، فكيف أمكنها معرفة أن أيبونين مريضة بفيروس «آر في ٤١»، إلا إذا كانت عبقرية في قراءة العقول، أو لديها سجل لكل … لا، لن يكون الأمر ممكنًا حتى في هذه الحالة.»

ثم جلس. وعاد الصمت يخيم على الغرفة. وفي النهاية سألت إيبونين: «هل أستكمل حديثي؟» فأومأ لها ريتشارد بالإيجاب.

«كما كنت أقول، شرح دكتور بلو وآرشي لإيلي ولي أن جنسَهما متقدم للغاية في علمَي الأحياء والطب … وإذا فكرنا في التعاون معها، فستبحث عن تقنياتٍ يمكنها شفائي … على فرض طبعًا أنني سأكون مستعدةً للخضوع لكل إجراءات العلاج …»

قالت إيلي: «وعندما سألناه لماذا يرغب في علاج إيبونين، أخبرنا دكتور بلو أن كائنات الأوكتوسبايدر تحاول تقديم عربون صداقةٍ كبير، شيءٍ يمهد الطريق لعلاقةٍ متناغمة بين النوعَين.»

كان ريتشارد ونيكول مذهولَين تمامًا مما سمعاه. فنظر أحدهما إلى الآخر غير مصدِّقَين في حين استكملت إيلي حديثها.

«نظرًا لأنني كنت لا أزال مبتدئة في تعلم اللغة، كان من الصعب للغاية أن أخبر الأوكتوسبايدر بما نعرفه عن «آر في ٤١». وفي النهاية بعد الكثير من الجلسات المكثفة الطويلة لتعلم اللغة، تمكنا من إخبارها بما نعرف.»

«حاولت أن أتذكر أنا وإيلي كل شيء قاله دكتور روبرت عن ذلك المرض. وطوال الوقت كان دكتور بلو وآرشي واثنان آخران من كائنات الأوكتوسبايدر معنا. ولم نرهم قطُّ يدوِّنون ملحوظة. ومع هذا لم نخبرها قط المعلومة نفسها مرتَين.»

وأضافت إيلي: «في الواقع عندما كنا نكرر الأمر سهوًا، كانت تذكرنا أننا أخبرناها بذلك الأمر من قبل.»

وعادت إيبونين تقول: «ومنذ ثلاثة أسابيع تقريبًا أخبرتنا كائنات الأوكتوسبايدر أن عملية جمع المعلومات انتهَت، وأنها مستعدةٌ لإخضاعي لبعض الفحوصات. وشرحت أن الفحوصات قد تكون مؤلمةً في بعض الأوقات، وفق معايير البشر.»

قالت إيلي: «كانت معظم الفحوصات تتضمن استخدام كائنات حية، بعضها لا يُرى بالعين المجردة، والبعض الآخر كان بإمكان إيبونين أن تراه، وإدخالها إلى جسدها، إما بالحقن …»

«أو بجعل هذه الكائنات تدخل إلى جسدي عبر … أعتقد أن الكلمة المناسبة هي فتحات جسمي.»

وهنا قاطعهما آرشي ليسأل عن معنى «سهوًا» و«فتحات». وبينما كانت إيلي تشرح له مالت نيكول على ريتشارد. وسألته: «هل يبدو لك الأمر مألوفًا؟»

فأومأ ريتشارد. وقال: «لكن لم يحدث بيننا أي نوع من التفاعل قط، على الأقل لا أتذكر حدوثه … بل كنت معزولًا …»

فقالت إيبونين: «راودتني بعض المشاعر الغريبة في حياتي، لكن لا شيء على الإطلاق يشبه ما شعرت به يوم زحفت خمس أو ست ديدان صغيرة — لا يزيد حجمها عن حجم دبوس — في الجزء الأسفل من جسدي.» ثم انتفض جسدها. وأكملت: «قلت لنفسي إذا نجوت من غزو كائناتٍ غريبة لجسدي من الداخل، فلن أشكوَ أبدًا من أي مشكلاتٍ جسدية.»

فسألتها نيكول: «وهل صدقت أن كائنات الأوكتوسبايدر ستتمكن من مداواتك؟»

فأجابت إيبونين: «ليس في البداية. لكن بمرور الأيام بدأت أفكر أن ذلك ممكن، رأيت بالتأكيد أن لديها إمكانياتٍ طبيةً تختلف تمامًا عن إمكانياتنا … وراودني شعور بأنها تحرز تقدمًا بالفعل …

وذات يوم بعد انتهاء الفحوصات جاءت إيلي إلى غرفتي؛ إذ كنت طوال تلك المدة في جزءٍ آخر من المدينة، على الأرجح فيما يعتبرونه المستشفى، وأخبرَتني أن كائنات الأوكتوسبايدر عزلت فيروس «آر في ٤١»، وفهمت كيف يعمل في جسد مضيفه؛ أنا. وطلبت كائنات الأوكتوسبايدر من إيلي أن تخبرني أنها ستدخل «عميلًا بيولوجيًّا» في جسدي، ليطارد الفيروس ويدمره تمامًا. لكن لن يكون بإمكان العميل تقليل الضرر الذي تسبب فيه الفيروس بالفعل، وعلمت من إيلي أن الضرر ليس شديدًا، لكن العميل سينظف جسدي تمامًا من الفيروس.»

فقالت إيلي: «أخبرتني كائنات الأوكتوسبايدر أن أشرح لإيبونين أيضًا أنه من المحتمل ظهور بعض الآثار الجانبية لذلك العميل. لم تعرف الكائنات بالضبط ما تتوقعه؛ لأنها لم تستخدم ذلك العميل في جسد بشري من قبل، لكن توقعت «نماذجها» الإصابة بالغثيان والصداع.»

وقالت إيبونين: «كانت محقة بشأن الغثيان بالفعل. فقد كنت أتقيأ كل ثلاث أو أربع ساعات لمدة يومَين. وفي نهاية ذلك الوقت جاء دكتور بلو وآرشي وإيلي والاثنان الآخران، واجتمعوا حول فراشي وأخبروني أنني شُفيت.»

فهب ريتشارد من مكانه واقفًا. وصاح: «ماذا؟»

وقالت نيكول على الفور: «إيبونين، أنا سعيدة للغاية من أجلك.» ثم وقفت واحتضنت صديقتها.

فقال ريتشارد لنيكول: «وهل تصدقين هذا؟ هل تصدقين أن أطباء الأوكتوسبايدر الذين من المستحيل أن يكونوا قد ألمُّوا بآليات عمل جسم الإنسان؛ نجحوا في غضون أيامٍ فيما لم يستطع زوج ابنتكِ العبقري، وفريق عمله في المستشفى في إنجازه في أربع سنوات؟»

فقالت نيكول: «ولمَ لا يا ريتشارد؟ لو كان الرجل النسر في النود فعل ذلك، لكنت صدقته على الفور. فماذا يمنع أن تكون كائنات الأوكتوسبايدر أكثر تقدمًا منا في علم الأحياء؟ فكر في كل ما رأيناه …»

فقال ريتشارد: «حسنًا.» وهز رأسه بضع مرات ثم التفت إلى إيبونين. وقال: «أنا آسف، لكن من الصعب عليَّ … تهانينا. أنا أيضًا سعيد من أجلك.» ثم احتضن إيبونين وهو مضطرب.

وبينما كانوا يتحدثون، وضع شخصٌ ما الخضراواتِ الطازجةَ والماء على باب غرفتهم دون أن يصدر أدنى صوت. ورأت نيكول المواد المستخدمة لإعداد وليمتهم عندما ذهبت إلى الحمام.

وحين عادت إلى حيث كانوا جالسين قالت لإيبونين: «لا بد أنها كانت تجربة مذهلة.»

قالت إيبونين: «هذا أقل مما يوصف به الأمر.» ثم ابتسمت. واستأنفت: «ومع أنني أُومِن في أعماقي أنني شُفيت تمامًا، لا أطيق صبرًا حتى أحصل على تأكيدٍ منك ومن دكتور تيرنر.»

•••

كان ريتشارد ونيكول مرهقَين بشدة بعد تناول عشائهما الهائل. وأخبرت إيلي والديها أن هناك المزيد ليتحدثوا بشأنه، لكن بإمكانها أن تنتظر حتى ينالا قسطًا من الراحة.

قال ريتشارد عندما كان مستلقيًا بجوار نيكول على الفراش الكبير، الذي وفَّره لهما مضيفوهما: «أتمنى أن أتذكر المزيد عن الفترة التي قضيتها مع كائنات الأوكتوسبايدر قبل أن نصل إلى النود. ربما يمكنني حينها أن أفهم بصورةٍ أفضلَ رد فعلي تجاه القصة التي أخبرتنا بها إيلي وإيبونين.»

فسألته نيكول: «هل لا تزال تشكُّ في أنها شُفيت؟»

قال ريتشارد: «لا أعلم، لكنني أعترف أنني متحير من اختلاف سلوك كائنات الأوكتوسبايدر هذه، وتلك التي فحصتني وأجرت اختبارات عليَّ قبل سنوات … فأنا لا أستطيع أن أصدق أن كائنات الأوكتوسبايدر على متن مركبة راما الثانية، كانت تنقذني من بين براثن نبات مفترس.»

«ربما تكون كائنات الأوكتوسبايدر قادرةً على تغيير سلوكها تغييرًا جذريًّا. فهذا ينطبق تمامًا على البشر. وفي الواقع إنه ينطبق على جميع الثدييات من الرتبة العليا على سطح الأرض. فلماذا تتوقَّع أن تكون جميع كائنات الأوكتوسبايدر متشابهة؟»

«أعلم أنك ستتهمينني بالخوف من الكائنات الفضائية، لكن من الصعب عليَّ أن أتقبل كائنات الأوكتوسبايدر «الجديدة» هذه. إنها متعاونة بدرجة تثير الريبة. وبصفتك عالمة بيولوجيا ماذا تظنين سيكون مقابل لطفها معنا؟»

أجابته نيكول: «هذا سؤال منطقي يا حبيبي، لكنني لا أعرف الإجابة. فالشخص المثالي بداخلي يريد أن يصدق أننا صادفنا جنسًا يتصرف — معظم الوقت — بطريقة أخلاقية، بدافع فعل الخير ذاته.»

فضحك ريتشارد. وقال: «كان لا بد أن أعرف أنكِ ستقولين شيئًا كهذا. فهذا يتفق مع تعليقاتك على سيسيفوس، أثناء النقاش الذي دار بيننا في عدن الجديدة قبل وقت طويل.»

٦

عندما استيقظت نيكول أخيرًا من نومها الذي دام إحدى عشرة ساعة، كانت إيلي تقول: «ستجد أن لغتها مذهلة يا أبي.» كان ريتشارد وإيلي يتناولان إفطارهما. أكملت إيلي: «إنها رياضية بحتة. فهي تستخدم أربعةً وستين لونًا في المجمل، لكن واحدًا وخمسين منها فقط هي ما يمكن أن نطلق عليها حروفًا هجائية. والثلاثة عشر الأخرى تُستخدم للإيضاح، فتستخدم لتحديد الأزمنة أو لتحديد مقابل الكلمة، أو لتحديد صيغ التفضيل والتفضيل المطلق. إنها حقًّا لغة راقية.»

فقال ريتشارد: «لا أتخيل كيف يمكن للغة أن تكون راقية، والدتك هي الخبيرة اللغوية في العائلة. تمكنت من تعلم قراءة اللغة الألمانية لكن مهارتي في التحدث كانت سيئة.»

وهنا قالت نيكول وهي على الفراش: «صباح الخير جميعًا. ماذا لدينا على الإفطار؟»

فأجابتها إيلي: «بعض الخضراوات المختلفة والجديدة … أو ربما تكون فواكه، فلا يوجد في عالمنا نظير لها … إن كل شيء تقريبًا تأكله كائنات الأوكتوسبايدر يمكن أن نعتبره نباتًا يستمد طاقته من الضوء. والديدان هي الطعام الوحيد الذي تتناوله كائنات الأوكتوسبايدر بانتظامٍ ولا يستمد طاقته الأساسية من الفوتونات.»

«إذن فجميع النباتات في الحقول التي مررنا بها، تستمدُّ طاقتها الأساسية من عملية البناء الضوئي؟»

أجابتها إيلي: «شيء من هذا القبيل، إذا كنت أفهم ما أخبرني به آرشي فهمًا صحيحًا … وفي مجتمع الأوكتوسبايدر لا يهدر الكثير … فهذه الكائنات التي تطلقين عليها أنت وأبي «اليراعات العملاقة» تحوم فوق كل حقل لأوقات محددة بدقة أسبوعيًّا أو شهريًّا … ويجري التحكم في المياه بدقة كما هو الحال مع الفوتونات.»

ثم سألت نيكول وهي تلقي نظرة على الطعام على المائدة في منتصف الغرفة: «أين إيبونين؟»

فقالت إيلي: «ذهبت لتجمع أغراضها. إلى جانب أنها فضلت عدم المشاركة في حوار هذا الصباح.»

سألتها نيكول برفق: «هل سنتلقَّى صدمة أخرى مثل الليلة السابقة؟»

أجابتها إيلي برفق: «ربما. لا أعلم في الواقع ماذا سيكون رد فعلكما … هل تريدان أن تنتهيا من تناول إفطاركما قبل أن نبدأ، أم أخبر آرشي أننا مستعدون؟»

فسألها ريتشارد: «هل تعنين أن الأوكتوسبايدر سيشارك في الحوار ولن تشارك فيه إيبونين؟»

فقالت إيلي: «إنه خيارها. إلى جانب أن آرشي — على الأقل بصفته ممثلًا عن كائنات الأوكتوسبايدر — له علاقة بالموضوع أكثر من إيبونين.»

تبادل ريتشارد ونيكول النظرات. ثم سأل ريتشارد: «هل لديك أدنى فكرة عن ماهية الأمر؟»

فهزت نيكول رأسها. ثم قالت: «لكن يمكننا أن نبدأ الآن.»

فرد آرشي لوامسه على الأرض، بحيث يكون رأسه في نفس مستوى رءوس البشر الجالسين، ثم أخبرت إيلي والدَيها أن هذه المرة آرشي هو الذي سيبدأ ﺑ «التمهيد»، فضحك الجميع. تولت إيلي — بتردد في بعض الأحيان — ترجمة ما يقوله آرشي، الذي بدأ حديثه بالاعتذار لريتشارد عما فعله به «أقرباؤه» قبل سنوات. وشرح آرشي أن كائنات الأوكتوسبايدر التي قابلها البشر على متن راما قبل الوصول إلى النود كانت من موطن منشقٍّ منفصل، يرتبط من بعيدٍ بكائنات الأوكتوسبايدر الموجودة على متن راما في تلك اللحظة. وأكد آرشي أن كائنات الأوكتوسبايدر — كجنس — لم تدرك أهمية مركبة الفضاء الأسطوانية الضخمة حتى دخلَت إلى نطاق نفوذهم للمرة الثالثة.

إن قليلًا من كائنات الأوكتوسبايدر المنتمية لمستعمرة الأكتوسبايدر الأخرى التي نجت — والتي وصفها آرشي بأنها «شرذمة منحدرة المستوى» (وهذا أحد المواضع التي طلبت فيها إيلي من آرشي أن يعيد ما قال) ظلَّت على متن راما، عندما اعترض السفينة في بداية مسارها سكان مستعمرة الأكتوسبايدر الموجودون حاليًّا على متن راما، والذين اختيروا لتمثيل باقي أفراد نوعهم. وتم التخلُّص من تلك الشرذمة المنشقة من على متن راما، مع الاحتفاظ بسجلاتها. وعرف آرشي والآخرون من مستعمرته تفاصيل ما حدث لريتشارد في ذلك الوقت، وتمنَّوا أن يعوضوه عن تلك المعاملة التي تلقاها.

فقال ريتشارد: «إذن فهذه المقدمة الطويلة الهدف منها — بالإضافة إلى أنها مذهلة — تقديم اعتذار مفصل لي؟»

أومأت إيلي برأسها، وأطلق آرشي شريط اللون القرمزي تبعه اللون الأزرق الرائع المائل للخضرة.

حينها سألت نيكول: «هل لي بسؤال قبل أن نستأنف؟» ثم التفتت نحو الأوكتوسبايدر. وسألته: «بناءً على ما أخبرتنا به، أفترض أنك أنت وأهل مستعمرتك صعدتم على متن راما عندما كنا نائمين. فهل علمتم أننا موجودون؟»

أجابها آرشي قائلًا إن كائنات الأوكتوسبايدر افترضَت بقاء البشر في الموطن أقصى شمال راما، لكنها لم تتأكد من ذلك حتى كُسر القفل الخارجي لموطن البشر لأول مرة. وفي ذلك الوقت — وفقًا لما يقوله آرشي — كان موطن الأوكتوسبايدر قد ظل على متن راما لمدة اثنَي عشر عامًا من زمن البشر.

قالت إيلي وهي تنظر إلى والدها: «أصرَّ آرشي أن يعتذر إليك بنفسه»، ثم انتظرت ردًّا من والدها.

أجابها ريتشارد: «حسنًا، وأنا أقبل اعتذاره. مع أنني ليس لديَّ أدنى فكرةٍ عن البروتوكول المناسب لذلك …»

فطلب آرشي من إيلي أن تشرح معنى كلمة «بروتوكول». فضحكت نيكول. وقالت لزوجها: «في بعض الأحيان تكون متزمتًا يا ريتشارد.»

قالت إيلي مرة أخرى: «على أي حال حفاظًا على الوقت، سأخبركم بنفسي عن كل شيء. وفقًا لما يقوله آرشي، توضِّح سجلات الموطن المنشق أن كائنات الأوكتوسبايدر أجرَت عددًا من التجارب عليك، معظمها محظورة قانونًا في مواطن الأوكتوسبايدر التي يصفها آرشي بأنها «شديدة التطور». كانت إحدى تلك التجارب — كما اقترحتَ دومًا يا أبي — تتضمن إدخال سلسلة من الميكروبات المتخصصة إلى مخك، لإلغاء ذاكرتك عن المدة التي قضيتها مع الأوكتوسبايدر. وقد أخبرت آرشي والآخرين أن تجربة محو الذاكرة كانت ناجحةً إلى حدٍّ ما …

أما أكثر تجربة تعقيدًا أجرتها على جسدك، فكانت محاولة تغيير حيواناتك المنوية. إذ إن الأوكتوسبايدر المنشقة لم تعرف شيئًا عن اتجاه سير راما أكثر مما عرفته عائلتنا. فظنت أن البشر وكائنات الأوكتوسبايدر سيتحتم عليهما التعايش معًا لقرون أو لعصور، فقررت أنه من الضروري للغاية أن يتواصل الجنسان.

فحاولت تغيير الكروموسومات في حيواناتك المنوية، حتى يكون لدى نسلك قدراتٌ لغويةٌ إضافية وقدرة بصرية أكبر على تحليل الألوان. باختصار حاولت أن تتحكم فيَّ بواسطة الهندسة الجينية؛ لأني كنت الطفل الوحيد الذي أنجبته من أمي بعد مغامرتك الطويلة، وذلك بهدف أن أكون قادرةً على التواصل معها بكفاءة. ولتحقيق هذا أدخلت مجموعة من الكائنات الخاصة في جسدك.»

سكتت إيلي، وكان ريتشارد ونيكول يحدقان فيها كما لو أنهما مصدومان.

وفي النهاية سألها ريتشارد: «إذن فأنت هجين من نوع ما؟»

فقالت إيلي ضاحكة كي تهدِّئ قلقهما: «ربما قليلًا، وإذا كنت قد فهمت جيدًا فلم يتغيَّر سوى بضعة آلافٍ من ثلاثة مليارات الكيلوقاعدة التي تحدِّد الجينات في جسمي … وفيما يخص هذا الشأن سيحتاج آرشي وكائنات الأوكتوسبايدر الأخرى إلى التأكد مرة أخرى — من أجل أبحاثها العلمية — أنني فعلًا نتيجة حيوان منوي معدل. فستحتاج إلى عينات دم وخلايا منكما، لتتيقن دون شك أنني لست نتيجة جماع «عادي» بينكما. ومن ثم تتأكد أن قدرتي على فهم لغتها بسهولة ناتجة بالفعل عن «تعديل وراثي» وليس حسن حظ.»

فسألها ريتشارد: «وما الفارق الذي يحدثه هذا الأمر الآن؟ فكل ما يهم الآن أن بإمكانك التواصل معها.»

«أستغرب سؤالك هذا يا أبي، فطالما كنت متعطشًا للمعرفة … إن مجتمع كائنات الأوكتوسبايدر يضع المعلومات على رأس قائمة الأشياء التي يقدرها. إنها متأكدة بالفعل بناءً على الفحوصات التي أجرتها عليَّ، بالإضافة إلى سجلات مجموعة الأوكتوسبايدر المنشقة أنني نتاج حيوان منوي معدل. لكن فحص جيناتكما بالتفصيل سيجعلها تتأكد من الأمر.»

قالت نيكول بعد تردد قصير: «حسنًا، أنا مستعدة للمشاركة.» ثم توجهت إلى إيلي واحتضنتها. وقالت: «أيًّا كان ما جاء بك إلى الحياة، فأنت ابنتي وأنا أحبك من كل قلبي.» ثم ألقت نظرة سريعة على ريتشارد. وقالت: «وأنا واثقة أن والدك سيوافق بعد أن يحظى بفرصة للتفكير.»

ابتسمت نيكول لآرشي. فأجاب بإطلاق شريط قرمزي عريض، ثم تبعه آخر أضيق أزرق فضي وأصفر فاتح. وهذه العبارة تعني «شكرًا لك» في لغة الأوكتوسبايدر.

•••

في صباح اليوم التالي، تمنَّت نيكول لو أنها ألقت المزيد من الأسئلة قبل أن تتطوَّع لمساعدة كائنات الأوكتوسبايدر في بحثها العلمي. فبعد الإفطار مباشرة انضم اثنان من كائنات الأوكتوسبايدر إلى آرشي الرفيق الدائم للبشر في غرفتهم الصغيرة. وشرح أحد الكائنَين الجديدَين الذي عرَّفته إيلي بأنه «دكتور بلو، خبير طبي بارز» ما يُتوقع أن يحدث. كانت الإجراءات الخاصة بريتشارد بسيطة ومباشرة. ففي الأساس أرادت الأوكتوسبايدر بيانات كافية عن ريتشارد؛ للتأكد من صحة السجل القديم لزيارته مستعمرة الأوكتوسبايدر المنشقة قبل سنوات.

أما نيكول، فنظرًا لأن قاعدة بيانات الأوكتوسبايدر لا تحتوي على أي معلومات فسيولوجية عنها، وأن كائنات الأوكتوسبايدر علمت من خلال فحصها الدقيق لإيلي أن الطريقة التي تنتقل بها الخصائص الجينية للبشر يكون للأم فيها النصيبُ الأكبر، فسيتطلَّب الأمر إجراء فحوصاتٍ أكثر على نيكول. فاقترح دكتور بلو أن يجري سلسلةً معقدةً من الفحوصات على نيكول، أهمُّها جمع بيانات من داخل جسدها عن طريق الكثير من الكائنات الملتوية الضئيلة، التي يبلغ طولها سنتيمترَين وعرضها مثل عرض دبوس. انتفض بدن نيكول عندما أمسك الأوكتوسبايدر الطبيب ما يشبه الحقيبة البلاستيكية، ورأت للمرة الأولى الكائنات اللزجة الملتوية التي ستدخل جسدها.

فقالت نيكول: «لكنني ظننت أن كل ما تحتاج إليه هو شفرتي الجينية، وهي موجودة في كل خلية، وليس من الضروري …»

قاطعَت سلسلة الألوان الزاهية فوق رأس دكتور بلو نيكول، قبل أن تنتهي من اعتراضها. وقال بواسطة إيلي: «إن التقنيات التي نستخدمها لاستخلاص معلوماتك الجينية ليست متقدمة للغاية بعد. ووسائلنا تعمل بصورةٍ أفضل إذا كان لدينا العديد من الخلايا من العديد من الأعضاء المختلفة والأنظمة البيولوجية الفرعية.»

ثم شكر الدكتور نيكول بأسلوب مهذب على تعاونها، خاتمًا عبارته بالشريط الأزرق الفضي والأصفر الفاتح التي تعلمت أن تفسرها بنفسها. لكن اللون الأزرق في عبارة الشكر أضاء جانب رأس دكتور بلو، مسببًا تأثيرًا مرئيًّا رائعًا أثار انتباه العالمة اللغوية في نيكول. ففكرت في نفسها: «لا بد أن القدرة على الحفاظ على انتظام شرائط الألوان تعد سلوكًا تتعلمه. وطبيبنا يعاني نوعًا من الإعاقة في التخاطب.»

لكن بعد لحظاتٍ قليلةٍ عادت نيكول للتركيز على الإجراءات التي تنتظرها، عندما شرح لها دكتور بلو أن الكائنات الملتوية ستحفر في جلدها وتدخل إلى جسدها، وتبقى داخلها لمدة نصف ساعة. فقالت نيكول لنفسها على الفور: «إنها تذكرني بالديدان الطفيلية.»

وُضِعت إحدى هذه الديدان على ساعدها. فرفعت نيكول ذراعها أمام وجهها، وراقبت الحيوان الصغير وهو يشق طريقه عبر جلدها. لم تشعر بشيء عندما كانت الدودة تغزوها، لكنها ارتعدت رغمًا عنها عندما اختفت داخل جسدها.

ثم طُلب من نيكول أن تستلقي على ظهرها. وأراها دكتور بلو كائنَين صغيرَين ثمانيَّي الأرجل، أحدهما أحمر والآخر أزرق، وكلٌّ منهما في حجم ذبابة الفاكهة. وقال لها بواسطة إيلي: «قد تشعرين بعدم الراحة بعد قليل، عندما تصل الديدان الملتوية إلى أعضائك الداخلية. ويمكن استخدام هذَين الصغيرَين للتخدير إذا أردت تسكين الألم.»

وبعد أقل من دقيقة شعرت نيكول بوخز حاد في صدرها. كان أول ما خطر لها هو أن شيئًا يدخل إلى حجرات قلبها. وعندما رأى دكتور بلو الألم الذي ارتسم على وجهها، وضع ذبابتَي التخدير على رقبتها. وخلال ثوانٍ دخلَت نيكول في وضعٍ غريبٍ بين اليقظة والنوم. فكانَت لا تزال تسمع صوت إيلي يستمر في شرح ما يحدث، لكنها لم تشعر بأي شيء مما يحدث داخل جسدها.

وجدت نيكول نظرها مثبتًا على مقدمة رأس دكتور بلو، الذي كان يشرف على العملية بأكملها. وظنت أنها بدأت ترى بعض التعبيرات العاطفية في تجاعيد السطح الرقيقة لوجه الأوكتوسبايدر، وهو ما أدهشها. وتذكرت أنها ذات مرة وهي طفلة كانت متيقنة أنها ترى كلبها المدلل يبتسم، ففكرت في نفسها: «هناك الكثير من الأشياء التي يمكن أن نراها. أكثر مما نفعل بأعيننا بالفعل.»

شعرت نيكول بسكينة بالغة. فأغلقت عينيها للحظة وعندما فتحتهما رأت نفسها طفلة في العاشرة من عمرها، تبكي بجوار أبيها وهي ترى نعش أمها تلتهمه النيران في مراسم دفن تليق بملكة قبيلة سينوفو. ورأت رجلًا عجوزًا — جدها الأكبر أومه — يرتدي قناعًا مخيفًا ليطرد أي شياطين قد تحاول مصاحبة والدة نيكول إلى الحياة الآخرة، اقترب الجد منها وأمسك بيدها. وقال لها مستخدمًا اسمها في عشيرة سينوفو: «تحقق ما جاء في النبوءة يا روناتا، تناثر دمنا حتى النجوم.»

تلاشى القناع الملون الذي ارتداه جدها الكاهن، وتحوَّل إلى مجموعة أخرى من الألوان تتحرَّك في شرائط حول رأس دكتور بلو. ومرةً أخرى سمعَت نيكول صوتَ إيلي. قالت في نفسها دون عاطفة: «إن ابنتي هجينة. وضعتُ طفلة بسمات أفضل من البشر. لقد بدأ نوع جديد من التطور.»

ومرة أخرى سافر عقلها بعيدًا، ورأت نفسَها طائرًا ضخمًا أو طائرةً تحلق في الظلام فوق غابات السافانا في ساحل العاج. تركت الأرض وراءها وأدارت ظهرها للشمس، واندفعت كالصاروخ نحو الظلام والمجهول فيما وراء النظام الشمسي. وفي عقلها رأت بوضوح وجه أومه، كان يناديها في سماء ليل ساحل العاج: «لا تنسي يا روناتا. أنت المختارة.»

ففكرت نيكول وهي لا تزال بين النوم واليقظة: «هل كان يعلم فعلًا قبل كل هذه السنوات، وهو في أفريقيا على كوكب الأرض؟ وإذا كان يعرف، فكيف؟ هل لا يزال هناك بُعد آخر للإدراك لم نبدأ في فهمه إلا أخيرًا؟»

كان ريتشارد ونيكول يجلسان معًا في الظلام. كانا وحدهما مؤقتًا. إذ خرجت إيلي وإيبونين مع آرشي للترتيب لرحيلهم في الصباح التالي.

فقال ريتشارد: «أنتِ هادئة طوال اليوم.»

فأجابته نيكول: «هذا صحيح. راودني شعورٌ غريب، كأنني مخدرة تقريبًا منذ إجراء تلك الاختبارات الأخيرة هذا الصباح … فذاكرتي نشيطةٌ نشاطًا غير عادي. تذكرت والدي ووالدتي. وأومه. وتذكرت رؤًى كنت أراها قبل سنوات.»

فقال ريتشارد بعد صمتٍ قصير: «هل فاجأتك نتيجة التحاليل؟»

«لا. فقد مررنا بالكثير … ريتشارد، أتعرف أنني لا زلت أذكر عندما حملت بإيلي … لم تكن حينها قد عدت إلى سجيتك بعد.»

قال: «تحدثت إلى إيلي وآرشي قليلًا بعد ظهيرة اليوم عندما كنت نائمة. إن التغيرات التي أحدثَتها كائنات الأوكتوسبايدر في إيلي دائمة، مثل الطفرات الوراثية. وعلى الأرجح تتمتع نيكي ببعض من تلك الخصائص أيضًا، وهذا يعتمد على خليطها الجيني بالضبط. وبالطبع ستضعف خصائصها من جيل لآخر …»

لم ينهِ ريتشارد نظريته. وتثاءب ثم أمسك بيد نيكول. وجلسا معًا في هدوء لعدة دقائق قبل أن تكسر نيكول حاجز الصمت.

قالت: «ريتشارد، هل تذكر عندما أخبرتك عن سجل تاريخ سينوفو؟ وعن المرأة من القبيلة ابنة الملكة، التي تقول النبوءة إنها ستحمل دم سينوفو «إلى النجوم»؟»

فأجابها ريتشارد: «ليس بوضوح. فإننا لم نتحدث عن الأمر منذ وقتٍ بعيد.»

«كان أومه واثقًا أنني المرأة التي تحدثت عنها النبوءة … وكان يطلق عليها «المرأة الوحيدة» … هل تصدق أن هناك طريقة بالفعل نعرف بها المستقبل؟»

فضحك ريتشارد. وقال: «إن كل شيء في الطبيعة يتبع قوانين محددة. ويمكن التعبير عن هذه القوانين في صورة معادلات تفاضلية تصف التغيرات على مدى الزمن. إذا كنا نعرف جيدًا الحالة المبدئية للنظام في حقبة معينة، والمعادلات الدقيقة التي تمثل قوانين الطبيعة، يمكننا نظريًّا التنبؤ بكل النتائج. لكن هذا غير ممكن بالطبع؛ لأن معرفتنا دائمًا غير مكتملة وقوانين الفوضى تحدُّ من قابلية تطبيق تقنيات التقدير …»

فقالت نيكول وهي تعتدل مستندةً على مرفقها: «افترض أن هناك أفرادًا أو مجموعاتٍ لا تعرف الرياضيات، لكنها تستطيع بطريقةٍ ما «رؤية» أو «الشعور» بالقوانين والحالة المبدئية التي ذكرتها. ألن يكون بإمكانهم بالاعتماد على الحدس أن يحلُّوا على الأقل جزءًا من المعادلات، ويتنبئوا بالمستقبل بالاستبصار الذي لا نستطيع وضع نموذجٍ له أو قياسه؟»

فقال ريتشارد: «هذا ممكن، لكن تذكري أن الافتراضات غير العادية تتطلَّب …»

قالت نيكول مُتمِّمةً عبارته: «… أدلَّة غير عادية. أعلم هذا.» ثم سكتَت للحظة. وأردفت: «إذن ما هو القدر؟ هل هو شيء يختلقه البشر بعد الحقيقة؟ أم هو شيء حقيقي؟ وإذا كان القدر موجودًا كمفهوم، فكيف نشرحه بمساعدة قوانين الفيزياء؟»

فقال لها ريتشارد: «أنا لا أفهمك يا حبيبتي.»

فقالت نيكول: «إنه أمر محير لي أيضًا. هل أنا ما أنا عليه لأن السبب — كما أكَّد لي أومه عندما كنت صغيرة — أن قدري أن أسافر دائمًا في الفضاء؟ أم أنا ما أنا عليه بسبب جميع خياراتي الشخصية ومهاراتي التي عمدت إلى تنميتها؟»

فضحك ريتشارد مرةً أخرى. وقال: «أنتِ الآن تتطرقين لواحدةٍ من أهم الألغاز الفلسفية، الخلاف حول معرفة الله بكل الأمور في مقابل إرادة الإنسان الحرة.»

قالت نيكول وهي تفكر بعمق: «لم أقصد ذلك. كل ما في الأمر أنني لا أستطيع أن أبعد عن ذهني فكرة أن كل ما حدث في حياتي لم يكن مفاجأةً لأومه.»

٧

كان إفطار يوم رحيل البشر وليمة كبيرة. إذ قدمت لهم كائنات الأوكتوسبايدر أكثر من اثنَي عشر صنفًا مختلفًا من الفواكه والخضراوات، بالإضافة إلى حبوب حارة سميكة، تُصنع، طبقًا لما يقوله آرشي وإيلي، من الأعشاب الطويلة التي توجد إلى شمال محطة الطاقة. وبينما كانوا يأكلون سأل ريتشارد الأوكتوسبايدر عما حدث لفرخَي المخلوقات الطائرة تامي وتيمي وكذلك بطيخ المَن والكائنات اللاسويقية. لكن الإجابة المترجمة التي تلقَّاها كانت غامضةً إلى حد ما ولم تكن مرضيةً له، إذ قيل له إنهم جميعًا بخير.

فقال ريتشارد بأسلوبه الجاف المعهود، بعد أن أصبح يشعر بألفة مع مضيفه الفضائي، حتى إنه لم يجد داعيًا لأن يكون شديد التهذيب: «اسمع يا آرشي. إن اهتمامي بهذه الكائنات ليس اهتمامًا عاديًّا. لقد أنقذتها وربيتها منذ ميلادها بنفسي. وأودُّ أن أراها ولو لوقتٍ قصير … وعلى أي حالٍ أعتقد أنني أستحق إجابةً أكثر وضوحًا على سؤالي.»

فوقف آرشي، وسار بتمهل إلى خارج الغرفة، ثم عاد بعد بضع دقائق. وقال: «رتبنا لك أن ترى المخلوقات الطائرة بنفسك في وقتٍ لاحق اليوم، أثناء رحلة عودتنا إلى أصدقائك. أما الكائنات الأخرى فاثنتان من البيض تكوَّن الفرخان بداخلهما، وهما الآن في مرحلة طفولة القطنمل. ونحن نراقب نموَّهما عن كثب في الجانب الآخر من المدينة، ولا يمكنك زيارتهما.»

أشرق وجه ريتشارد. وقال: «تكوَّن في اثنتَين منهما أجنة! كيف أمكنكم فعل ذلك؟»

فترجمت إيلي ما يقوله آرشي ببطء: «إن بيض الكائنات اللاسويقية يجب أن يوضع في سائلٍ نتحكم في درجة حرارته لمدة شهرٍ من أشهركم، قبل أن تبدأ عملية تطور الجنين. ويجب الحفاظ على درجة الحرارة ضمن نطاق صغير جدًّا — أقل من درجة واحدة بمقاييسكم — بالمقدار الأمثل لنمو القطنمل. وإلا فلن تحدث عملية النمو والتطور.»

هب ريتشارد واقفًا. صاح قائلًا: «إذن فهذا هو السر. تبًّا كان يجب أن أكتشف هذا. كان لديَّ الكثير من الإشارات؛ مثل الظروف داخل موطنها واللوحات التي أروني إياها …» بدأ يجوب الغرفة. ثم قال وهو يُدير ظهره لآرشي: «لكن كيف عرفَت كائنات الأوكتوسبايدر هذا؟»

ترجمت إيلي لآرشي ما قاله والدها. فأجاب بسرعة: «حصلنا على معلوماتٍ من موطن الأوكتوسبايدر الآخر، شرحت سجلاتها عملية تحول الكائنات اللاسويقية بالكامل.»

بدا الأمر لريتشارد أكثر سهولةً مما ينبغي. فساورَته شكوك أن زميله الفضائي لا يخبره الحقيقة كاملة. كان ريتشارد يستعد لطرح المزيد من الأسئلة، عندما دخل دكتور بلو إلى الغرفة يتبعه ثلاثةٌ من كائنات الأوكتوسبايدر، يحمل اثنان منهم جسمًا سداسيًّا كبيرًا مغلفًا في مادة تشبه الورق.

فسأل ريتشارد: «ما هذا؟»

فأجابته إيلي: «إنه حفل وداعنا الرسمي. بالإضافة إلى هدية من سكان المدينة.»

سأل أحد كائنات الأوكتوسبايدر الجديدة إيلي إذا كان من الممكن أن يتجمع كل البشر في الطريق بالخارج، لإقامة حفل الوداع لهم. فجمع البشر أغراضهم وساروا عبر الرواق إلى الخارج حيث كانت الإضاءة أقوى. فوجئت نيكول بما رأته. ففيما عدا كائنات الأوكتوسبايدر التي خرجت معهم من الغرفة كان الشارع خاويًا تمامًا. وبدت ألوان الحدائق أقل إشراقًا، كما لو أنها كانت أكثر إشراقًا منذ يومَين عندما وصل ريتشارد ونيكول؛ بسبب جميع الأنشطة التي كانت تحيط بها.

فسألت نيكول إيلي: «أين ذهب الجميع؟»

فأجابتها ابنتها: «إن هذا الهدوء متعمد. فلم تشأ كائنات الأوكتوسبايدر أن تسبب لكما صدمة أخرى.»

وقفت كائنات الأوكتوسبايدر الخمسة في صف في منتصف الطريق، وخلفها مباشرة المبنى الهرمي. ووازن كائنا الأوكتوسبايدر إلى اليمين المغلف السداسي الشكل بينهما. كان أكبر من حجمهما. ووقف البشر الأربعة في صف مقابلها أمام أبواب المدينة مباشرة. ثم تقدم الأوكتوسبايدر الذي كان يقف في المنتصف — والذي قدمته إيلي على أنه «مسئول الأمثلية» (بناءً على وصف آرشي لمهام ذلك المسئول) — خطوة إلى الأمام كي يتحدث.

عبَّر مسئول الأمثلية عن امتنانه لريتشارد ونيكول وإيلي وإيبونين، وتضمن ذلك توجيه شكر شخصي لكلٍّ منهم، وقال إنه يتمنى أن يكون ذلك اللقاء القصير هو «الأول في سلسلة طويلة» تهدف إلى زيادة فَهْم كلٍّ من النوعَين للآخر. ثم أوضح القائد أن آرشي سيعود مع البشر، ليس فقط لضمان استمرار واتساع مجال التواصل بينهما، لكن أيضًا ليثبت للبشر الآخرين وجود ثقةٍ متبادلة بين النوعَين.

وعندما سكت المسئول للحظات، تقدم آرشي إلى المنطقة بين الصفَّين ورحبت به إيلي لينضم إلى قافلتهم المسافرة. ثم أزاح كائنا الأوكتوسبايدر اللذان يقفان على اليمين الستار عن الهدية، التي كانت رسمًا مفصلًا رائعًا للمشهد الذي رآه ريتشارد ونيكول لحظة دخولهما إلى مدينة الزمرد. كان الرسم واقعيًّا للغاية حتى إن نيكول صُدمت للحظات. وبعد بضع لحظاتٍ اقترب البشر جميعًا من الرسم لدراسة تفاصيله. فوجدوا جميع الكائنات الغريبة موجودة في الصورة، بما في ذلك ثلاثة الكائنات المتموجة ذات اللون الأزرق، الذين ذكَّرَت قرونُ استشعارها الطويلة المستقيمة ذات العقد الخارجة من جسدها؛ نيكول كيف فقدت توازنها في اليوم السابق.

وبينما تفحصت نيكول الرسم وفكرت في طريقة تنفيذه، تذكرت حالة شبه الإغماء التي تعرضت لها عندما عايشت المشهد الحقيقي. وتساءلت في نفسها: «هل كانت تلك هواجس تنتابني وتحذرني من خطرٍ ما؟ أم إنها شيء آخر؟» ثم نظرت بعيدًا عن الرسم، ورأت كائنات الأوكتوسبايدر تتحدث فيما بينها. وفكرت: «ربما كان ذلك نفاذ بصيرة، نوبة إدراك لحظي لشيء أعلى من مستوى فهمي. قوة أو طاقة لم يختبرها أي بشر.» وسرت في جسدها قشعريرة باردة عندما بدأت أبواب مدينة الزمرد تفتح.

•••

دائمًا ما كان ريتشارد يهتم بإطلاق أسماء على الأشياء. وبعد أقل من دقيقة من فحص الكائنَين اللذَين كانوا سيمتطونهما، أطلق عليهما اسم «نعامصور».

فقالت له نيكول لإغاظته: «لكنه ليس اسمًا مبتكرًا يا حبيبي.»

فقال: «ربما لا يكون كذلك، لكنه وصف مثالي لهما. إنهما يشبهان نعامة عملاقة لها وجه ورقبة ديناصور آكل للعشب.»

كان للكائنَين أربع أرجل تشبه أرجل الطيور، وجسد ناعم الملمس مغطًّى بالريش في وسطه جزء أجوف له حواف يمكن أن يجلس فيه أربعة من البشر بارتياح، وله رقبة طويلة يمكنها أن تمتدَّ ثلاثة أمتارٍ في أي اتجاه. ونظرًا لأن طول أرجله متران تقريبًا، فكان من السهل أن تصل الرقبة إلى الأرض المحيطة دون صعوبة.

كان كائنا النعامصور سريعَين بصورة مدهشة. فامتطى آرشي وإيلي وإيبونين أحدهما، وربطوا اللوحة السداسية بأحد جانبَيه بنوعٍ من الحبال، وركب ريتشارد ونيكول وحدهما على النعامصور الآخر. لم يكن على ظهرهما لجام أو أي وسيلة أخرى واضحة للتحكم فيهما، لكن قبل أن ترحل المجموعة من مدينة الزمرد، قضى آرشي عشر دقائق تقريبًا «يتحدث» إلى الكائنَين.

فقالت إيلي: «إنه يشرح لهما الطريق بالكامل. ويحدد لهما ماذا يفعلان في حالة وقوع حادث.»

فسألها ريتشارد: «حادث من أي نوع؟» فهزَّت إيلي كتفَيها.

في البداية تمسَّك ريتشارد ونيكول «بالريش» الذي يُحيط بالتجويف الذي يجلسان فيه، لكن بعد بضع دقائق استرخيا. كانت الرحلة هادئة للغاية تخللها اهتزازات بسيطة. وقال ريتشارد بعد أن اختفت مدينة الزمرد من مجال الرؤية: «هل تظنين أن هذه الحيوانات تطورت بصورة طبيعية لتصبح بهذا الشكل، مع وجود هذا الجزء المجوَّف المناسب على ظهورها؟ أم إن مهندسي جيناتٍ من الأوكتوسبايدر هجَّنوها بطريقةٍ ما كوسيلة للنقل؟»

فأجابته نيكول: «لا يساورني شكٌّ في هذا الأمر. فأنا أعتقد أن معظم الأشياء الحية التي قابلناها، وهذا يتضمن بالطبع تلك الأشياء الملتوية السوداء التي زحفت شاقَّةً طريقها عبر جلدي، صممتها كائنات الأوكتوسبايدر للقيام بوظيفةٍ محددة. كيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك؟»

فقال ريتشارد: «لكن لا يعقل أن تكون هذه الكائنات مُصممة بالكامل. فهذا يعني وجود تكنولوجيا فائقة، أكثر تقدمًا مما يمكن أن نتخيله.»

فقالت نيكول: «لا أعلم يا حبيبي. ربما تكون كائنات الأوكتوسبايدر قد سافرت إلى الكثير من الأنظمة الكوكبية المختلفة، وعثرت في كل مكان على أشكال حياة يمكنها تغييرها قليلًا لتناسب نظامها التكافلي الضخم. لكن لا يمكنني أن أقبل أبدًا فكرة أن هذا الكائن الحي الرائع نتاجٌ للتطور الطبيعي فحسب.»

كان هناك ثلاث يراعاتٍ عملاقة ترشد كائنَي النعامصور وركابهما الخمسة. وبعد مرور ساعتَين وصلت القافلة إلى بحيرةٍ شاسعة تمتد جنوبًا وغربًا. فجثم الكائنان على الأرض حتى يتمكن آرشي والبشر الأربعة من النزول.

وقال آرشي للآخرين: «سنتناول الغداء ونحتسي بعض الماء هنا.» ثم ناول إيلي حاوية ممتلئة بالطعام، ثم قاد كائنَي النعامصور إلى البحيرة. سارت نيكول وإيبونين في اتجاه بعض النباتات الزرقاء التي تنمو على حافة الماء تاركتَين ريتشارد وإيلي وحدهما.

قال ريتشارد وهما يتناولان طعامهما: «أقل ما توصف به براعتك في تعلم لغتها هي أنها مذهلة.»

فضحكت إيلي. وقالت: «أخشى أنني لست بالمهارة التي تظنها. فكائنات الأوكتوسبايدر تتعمد قول جمل بسيطة كي أفهمها. وتتحدث ببطء بشرائط عريضة. لكنني أحرز تقدمًا … هل تدرك أنها لا تستخدم لغتها «الحقيقية» عندما تتحدث إلينا؟ بل تستعمل صورة مشتقة منها.»

فسألها ريتشارد: «ماذا تعنين؟»

«شرحت الأمر لأمي عندما كنا في مدينة الزمرد. أعتقد لم تتح لها الفرصة لتخبرك بالأمر.» ثم ابتلعت الطعام قبل أن تستمر في الحديث قائلة: «إن لغتها «الحقيقية» تتكوَّن من أربعة وستين رمزًا لونيًّا كما ذكرت من قبل، لكن أحد عشر رمزًا منها يصعب علينا فَهْمها. فثمانية منها توجد في الجزء دون الأحمر من ألوان الطيف المرئي، والثلاثة الأخرى في الجزء فوق البنفسجي. لذا فبإمكاننا تمييز ثلاثة وخمسين رمزًا فقط من رموزها بوضوح. وكانت هذه مشكلة حقيقية في البداية. لكن لحسن الحظ خمسة من الأحد عشر رمزًا عبارة عن رموز توضيحية. وعلى أي حال طورت كائنات الأوكتوسبايدر من أجلنا ما يمكن أن نطلق عليه لهجة جديدة من لغتها، تستخدم فيها الأطوال الموجية للألوان التي يمكننا رؤيتها فقط. ويقول آرشي إن هذه اللهجة الجديدة أصبحت تُدرَّس بالفعل في بعض مساقاتهم التعليمية المتقدمة …»

فقال ريتشارد: «هذا مذهل. هل تعنين أنها «عدلت» لغتها لتناسب إمكانياتنا الجسدية المحدودة.»

«ليس بالضبط يا أبي. فإنها لا تزال تستخدم لغتها الحقيقية عند التحدث فيما بينها. لهذا لا أستطيع أن أفهم دائمًا ما تقوله. وعلى أي حال تطورت هذه اللهجة الجديدة، وتتحسن الآن كي تسهل عملية التواصل معنا لأقصى درجة ممكنة.»

انتهى ريتشارد من تناول غدائه. وكان على وَشْك أن يطرح على إيلي سؤالًا آخر عن لغة الأوكتوسبايدر عندما سمع نيكول تنادي. كانت تهتف من على بعد خمسين مترًا قائلة: «ريتشارد، انظر إلى السماء باتجاه الغابة.»

مد ريتشارد عنقه وظلل عينَيه بيدَيه. رأى في الأفق طائرَين يحلقان باتجاههم. ولسببٍ ما تأخر إدراك ريتشارد للطائرَين حتى سمع صوت الصياح المألوف. فقفز وجرى باتجاه المخلوقَين الطائرَين. هبط تامي وتيمي — اللذان أصبحا طائرَين بالغَين — من السماء إلى جواره. كان ريتشارد سعيدًا للغاية وطائراه يصرخان بلا توقف، ويحكان الجزء السفلي الناعم الملمس من بطنَيهما به.

بدا الطائران في صحةٍ جيدة. ولم يكن هناك أيُّ نظرة حزن في عيونهما الضخمة المعبرة. وبعد دقائق قليلة، ابتعد تيمي عنه فجأة وصرخ بصوت عالٍ ثم حلَّق في السماء. وعاد في غضون دقائق قليلة، ومعه رفيقة ذات ريش ناعم برتقالي اللون لم يرَ ريتشارد مثله قط. فشعر ريتشارد ببعض الحيرة، لكنه أدرك أن تيمي يحاول أن يقدِّم له أنثاه.

استمر لمُّ الشمل مع المخلوقات الطائرة لمدة عشر أو خمس عشرة دقيقة. ثم شرح آرشي أن البحيرة الضخمة تمدُّ كائنات الأوكتوسبايدر بنصف احتياجاتها من المياه العذبة تقريبًا، وبعدها أصرَّ على أن تستأنف القافلة رحلتها. وعندما رحلت المخلوقات الطائرة الثلاثة كان ريتشارد ونيكول في التجويف الخاص بهما على ظهر النعامصور بالفعل. وظلت تامي تحوم فوقهما لتودعهما وتسببت بالطبع في إزعاج الكائن الذي يركبانه. وفي النهاية لحقت بشقيقها ورفيقته في رحلتهما باتجاه الغابة.

ظل ريتشارد هادئًا بصورة غريبة، عندما كانت القافلة تتجه إلى الشمال أيضًا باتجاه الغابة. فقالت نيكول: «إنهما يعنيان كثيرًا لك، أليس كذلك؟»

فأجابها زوجها: «بلى بالطبع. بقيت وحيدًا تمامًا لا أحد معي سواهما لوقت طويل. اعتمد تيمي وتامي عليَّ ليبقيا على قيد الحياة … ربما كان تكريس نفسي لإنقاذ حياتَيهما أول عملٍ يخلو من الأنانية أقوم به طوال حياتي. وهو ما كشف لي أبعادًا جديدة من القلق والسعادة.»

فاقتربت نيكول منه وأمسكت يده. وقالت برفق: «كانت حياتك العاطفية ملحمةً خاصة، كل جزءٍ منها متنوع تنوع الرحلة الفعلية التي قمت بها.»

قبلها ريتشارد. ثم قال: «أنت لم تطردي جميع أشباحي بعد. ربما سأصبح بمساعدتك إنسانًا جيدًا في غضون عشر سنوات أخرى.»

فقالت نيكول: «إنك لا توفي نفسك قدرها.»

فقال ريتشارد بابتسامة عريضة مغيرًا نبرة الحوار: «أنا أوفي «عقلي» قدره. هل تدرين فِيمَ يفكر الآن؟ من أين جاءت المخلوقة الطائرة البرتقالية البطن؟»

بدت الحيرة على نيكول. أجابته: «من الموطن الثاني. أخبرتنا بنفسك أنه لا بد من وجود ما يقرب من ألف نسمة هناك قبل غزو قوات ناكامورا الموطن. ربما أنقذت كائنات الأوكتوسبايدر بعضها أيضًا.»

فقال ريتشارد معترضًا: «لكنني عشت هناك لأشهر. ولم أرَ مخلوقًا طائرًا برتقالي البطن. ولو واحدًا. كنت سأتذكر.»

«ما الذي تحاول قوله؟»

«لا شيء. إن تفسيرك يتفق تمامًا مع مبدأ نصل أوكام (الذي ينص على أنه إذا كان لدينا نظريتان لتفسير شيء واحد، فإن البسيطة بينهما هي الصحيحة). لكنني بدأت أشك أن أصدقاءنا الأوكتوسبايدر لديها أسرار لم تتحدث معنا بشأنها بعد.»

وصلت القافلة إلى الكوخ الجليدي الكبير الذي لا يبعد عن البحر الأسطواني أكثر من عدة ساعات. لكن الكوخ الصغير المتوهج لم يكن موجودًا. ترجل آرشي والبشر الأربعة. وفك الأوكتوسبايدر وريتشارد اللوحة السداسية ووضعوها بجانب الكوخ. ثم أخذ آرشي كائنَي النعامصور جانبًا وأعطاهما تعليمات العودة إلى وطنهما.

سألت نيكول: «ألَا يمكنهما البقاء قليلًا؟ سيسعد الأطفال كثيرًا بوجودهما.»

أجابها آرشي: «للأسف لا يمكن ذلك. إننا لا نملك الكثير منها، وعليها طلب كبير.»

ومع أن إيبونين وإيلي وريتشارد ونيكول كانوا مرهقين من الرحلة، فقد كانوا مبتهجين للغاية لالتئام الشمل الوشيك. وقبل مغادرة الكوخ الجليدي استخدمت إيبونين ثم إيلي المرآة وعدلتا من هيئتهما. ثم قالت إيبونين: «من فضلكم جميعًا، سأطلب منكم معروفًا واحدًا. لا تقولوا شيئًا عن شفائي لأحد حتى أحظى بفرصة كي أخبر ماكس على انفراد. أريد أن يكون هذا الخبر مفاجأتي له.»

وحينما كانوا يهبطون السلم الأول، ويدخلون إلى الرواق الذي يؤدي إلى أعلى السلم الكبير، قالت إيلي بعصبية: «أتمنى أن تتعرف عليَّ نيكي.» انتاب الجميع الهلع لوهلة إذ خَشُوا أن يكون الآخرون نائمين، حتى أجرى ريتشارد بعض الحسابات بواسطة خوارزميته، وطمأنهم أن النهار في منتصفه الآن تحت قبة قوس القزح.

وصلوا جميعًا إلى المساحة المفتوحة أعلى السلم، ونظروا إلى الأرضية الدائرية أسفلهم. كان التوءمان كيبلر وجاليليو يلعبان ويطارد كلٌّ منهما الآخر، ونيكي تشاهدهما وتضحك. وكانت ناي وماكس يفرغان الطعام من قطار بدا أنه وصل حديثًا. ولم تستطع إيبونين التحكم في نفسها. فصرخت: «ماكس، ماكس!»

كان ماكس كمن أصابته رصاصة. أسقط ما كان بيده من طعام واستدار باتجاه أعلى السلم. فرأى إيبونين تلوح له، فاندفع كجواد سباق أصيل في اتجاه السلم الأسطواني. ولم يمر أكثر من دقيقتَين عندما وقف ماكس أعلى السلم، وطوق إيبونين بذراعَيه.

وقال وهو يرفعها نصف متر تقريبًا عن الأرض، ويحتضنها بقوة: «كم اشتقت إليكِ أيتها الفرنسية!»

٨

كان بإمكان آرشي القيام بجميع أنواع الخدع بالكرات الملونة. فكان بإمكانه الإمساك باثنتين في الوقت نفسه ثم إلقاؤهما في اتجاهَين مختلفَين. حتى إنه كان بإمكانه قذف الكرات الست في الوقت نفسه باستخدام أربع من لوامسه؛ إذ كان يحتاج إلى اللوامس الأربع الباقية على الأرض ليحفظ توازنه. كان الأطفال يحبون أن يؤرجح ثلاثتهم في الوقت نفسه. ولم يبدُ أن آرشي يسأم أبدًا من اللعب مع أطفال البشر.

في البداية بالطبع كان الأطفال خائفين من الزائر الفضائي. وكانت نيكي الصغيرة حذرةً بصورة خاصة في التعامل معه؛ بسبب الرعب الذي شعرت به عند اختطاف والدتها. مع أن إيلي حاولت أن تطمئنها مرارًا وتكرارًا أن آرشي ودود. أما بينجي فكان أول من لعب مع آرشي. فلم يكن التوءمان منظمَين بصورة تمكنهما من الاشتراك في ألعاب معقدة؛ لذا سر بينجي عندما اكتشف أن آرشي مستعد بسعادةٍ أن يشاركه في لعبة مطاردة، أو لعبة مراوغة بالكرة كما يحب أن يلعبها بينجي.

أما ماكس وروبرت فكانا منزعجين من وجود آرشي. وفي الواقع في غضون ساعة من وصول البشر الأربعة والأوكتوسبايدر، واجه ماكس ريتشارد ونيكول في غرفة نومهما. قال بغضب: «أخبرتني إيبونين أن الأوكتوسبايدر اللعين سيعيش معنا هنا. هل فقدتما صوابكما؟»

فقالت له نيكول: «فكر في آرشي على أنه سفير يا ماكس. فكائنات الأوكتوسبايدر تود أن تتواصل معنا بانتظام.»

«لكن كائنات الأوكتوسبايدر هذه هي نفسها التي اختطفت ابنتك وصديقتي، واحتجزتهما رغمًا عنهما لأكثر من شهر … هل تعنين أننا «سنتناسى» تلك التصرفات تمامًا؟»

بادلت نيكول ريتشارد نظرة سريعة، ثم أجابته: «هناك أسباب وجيهة لعمليتَي الاختطاف. كما أنها أحسنت معاملتهما … فلمَ لا تتحدث إلى إيبونين بهذا الشأن؟»

فقال ماكس: «إن إيبونين لا تقول شيئًا سوى مدح الأوكتوسبايدر. كما لو أنها تعرضت لعملية غسيل مخ … ظننت أنكما ستكونان أكثر منطقية.»

حتى بعد أن أخبرت إيبونين ماكس أن كائنات الأوكتوسبايدر عالجتها من فيروس «آر في ٤١»، ظل يساوره الشك. قال: «إذا كان ذلك صحيحًا، فهذا أفضل خبر سمعته منذ أن ظهرت الآليتان الصغيرتان في المزرعة، وأكدتا لي أن نيكول وصلت إلى نيويورك بسلام. لكنني لا أزال أواجه صعوبةً في تصديق أن تلك الوحوش ذات الأرجل الثماني تحسن إلينا. أريد دكتور تيرنر أن يفحصكِ جيدًا. وإذا أخبرني أنكِ تعافيت، يمكنني حينها أن أصدق.»

أما روبرت تيرنر فكان عدائيًّا تجاه آرشي بوضوحٍ منذ البداية. ولم يفلح أي شيء قالته نيكول أو إيلي في تخفيف مشاعر الغضب التي راودته منذ اختطاف إيلي عنوة. وكذلك جُرحَ كبرياؤه المهني نتيجة السهولة الشديدة التي عولجت بها إيبونين.

فقال لإيلي في ثاني ليلة لهما بعد عودتهما: «إنك تتوقعين الكثير كالعادة يا إيلي. لقد عدت إلى هنا وجعبتك مليئة بالأخبار المثيرة عن تلك الكائنات الفضائية التي اختطفتك بعيدًا عن نيكي وعني، ثم تتوقعين مني أن أصدقها على الفور. هذا ليس عدلًا. أحتاج إلى وقت كي أفهم وأستوعب كل ما تخبرينني به … ألا تدركين أن اختطافك آلمني أنا ونيكي؟ لقد سببت لنا تلك المخلوقات التي تريدين مني أن أصادقها جروحًا نفسية … لا يمكنني أن أغير وجهة نظري بين عشية وضحاها.»

كما أن إعلان إيلي لزوجها عن التغيرات الجينية التي أصابت الحيوانات المنوية الخاصة بأبيها؛ أزعجه، مع أنه فسر سبب تحدي جينات زوجته للتصنيف في الفحوصات التي أجراها عليها زميله إد ستافورد في عدن الجديدة.

فقال لها: «كيف يمكنك أن تكوني بهذا الهدوء بعد أن اكتشفت أنك هجينة؟ ألا تفهمين ما يعنيه ذلك؟ عندما غيرت كائنات الأوكتوسبايدر حمضك النووي لتحسين قدرتك البصرية وجعل تعلم لغتها أسهل، فإنها تلاعبت بشفرة جينية قوية تطورت طبيعيًّا على مدار ملايين السنين. من يدري ما التغيرات التي قد تطرأ عليك أو على الأجيال اللاحقة من استعداد للإصابة بالأمراض، أو عجز، أو تغيرات سلبية في الخصوبة؟ من المحتمل أن تكون كائنات الأوكتوسبايدر قد تسببت عن جهل في هلاك جميع أحفادنا.»

لم يكن بإمكان إيلي تهدئة زوجها. وعندما بدأت نيكول تعمل مع روبرت على التحقُّق مما إذا كانت إيبونين قد شُفيت من فيروس «آر في ٤١»، لاحظت أن روبرت كان يتخذ موقفًا عدائيًّا في كل مرة تبدي فيها استحسانًا لآرشي أو لكائنات الأوكتوسبايدر.

وبعد أسبوع من وصول المجموعة واسَت نيكول ابنتها قائلة: «يجب أن نمهل روبرت المزيد من الوقت. إنه لا يزال يشعر أن كائنات الأوكتوسبايدر تعدت عليه، ليس فقط باختطافك لكن أيضًا بإفساد جينات ابنته.»

«هناك مشكلة أخرى يا أمي. أشعر أن روبرت يغير بصورة غريبة. فهو يرى أنني أقضي وقتًا طويلًا مع آرشي. ولا يستطيع تقبُّل حقيقة أن آرشي لا يستطيع التواصل مع أحدٍ آخر ما لم أكن موجودةً لأفسر ما يقول.»

«كما قلت لك، يجب أن نتحلى بالصبر. في النهاية سيتقبل روبرت الوضع.»

لكن كان لنيكول شكوكها التي لم تبُح بها لأحد. فكان روبرت عاقد العزم على أن يجد بقايا فيروس «آر في ٤١» في جسد إيبونين، وبعد أن أثبتت الفحوصات التي أجراها واحدًا تلو الآخر، باستخدام معداته غير المتطورة نسبيًّا التي نقلها معه؛ غياب أي أثرٍ للفيروس في جسدها، ظل يطلب إجراء المزيد من الفحوصات. في حين كانت وجهة نظر نيكول المهنية أن إجراء المزيد من الفحوصات لن يجدي نفعًا. ومع وجود احتمال ضئيل للغاية أن يكون الفيروس ضلل الجميع، ولا يزال موجودًا في مكان ما في جسد إيبونين، فقد شعرت نيكول أنه من المؤكد عمليًّا أن إيبونين تعافت.

وفي اليوم الذي تلا اعتراف إيلي لوالدتها بأن روبرت يغار من آرشي، حدث خلاف بين الطبيبَين. فعندما اقترحت نيكول إنهاء إجراء فحوصات على إيبونين وإعلان أنها سليمة، صدمها زوج ابنتها باقتراح فتح تجويف صدر إيبونين، وأخذ عينة مباشرة من الأنسجة المحيطة بقلبها.

سألته نيكول: «هل حدث من قبل أن واجهتك حالة أتت فيها جميع الفحوصات الأخرى سلبية، بينما ظل الفيروس نشطًا في منطقة القلب؟»

فقال: «فقط عندما يكون الموت وشيكًا والقلب قد تدهور بالفعل. لكن هذا لا يمنع حدوث الموقف نفسه في وقت مبكر في دورة المرض.»

صُعقت نيكول من رده. ولم تناقش روبرت لأنها رأت من تصلب عضلاته أنه قرر بالفعل الخطوات التالية. قالت في نفسها: ستكون عملية قلب مفتوح من أي نوع مخاطرة كبيرة، حتى لو كان من يجريها محترفًا. أي خطأ قد يحدث في هذه البيئة قد يؤدي إلى الوفاة. أرجوك يا روبرت عد إلى رشدك. إن لم تفعل فسأضطر إلى معارضتك حفاظًا على حياة إيبونين.

•••

بعد أن أوصى روبرت بإجراء عملية القلب بوقت قصير، طلب ماكس أن يتحدث إلى نيكول على انفراد. وقال لها: «إن إيبونين خائفة، وأنا كذلك … لقد عادت من مدينة الزمرد تشعُّ حياةً وحيويةً أكثر من أي مرةٍ رأيتها فيها. وأخبرني روبرت في البداية أن الفحوصات ستستغرق يومَين. وامتدَّ الأمر إلى أسبوعَين تقريبًا، والآن يقول إنه يريد أن يأخذ عينة نسيج من قلبها …»

فقالت نيكول بكآبة: «أعلم هذا. أخبرني ليلة أمسِ أنه سينصح بإجراء عملية قلب مفتوح.»

فقال لها ماكس: «ساعديني من فضلك يا نيكول. أريد أن أتأكد أنني أفهم الحقائق جيدًا. فحصتما دمها أنت وروبرت عدة مرات، كما فحصتما أنسجة من عدة أجزاء من جسدها، كانت توضح من قبل أحيانًا وجود كميات صغيرة من الفيروس في جسدها، وكانت نتائج جميع تلك العينات سلبية بشكل قاطع؟»

فقالت نيكول: «هذا صحيح.»

«أليس من الصحيح أيضًا أنه في كل مرة فُحصت فيها إيبونين، منذ أن اكتشفت إصابتها بفيروس «آر في ٤١» لأول مرة قبل سنوات، كانت عينات دمها تُشير إلى وجود الفيروس؟»

«بلى.»

«لماذا يريد روبرت إذن إخضاعها لعملية؟ هل لأنه لا يريد أن يصدق أنها شُفيت تمامًا؟ أم إنه فقط حريص بصورة زائدة؟»

«لا يمكنني الإجابة نيابة عنه.»

ثم نظرت إلى وجه صديقها، وعلمت جيدًا ماذا سيكون سؤاله التالي، وماذا ستكون إجابتها عليه. قالت في نفسها: «جميعنا نضطر إلى اتخاذ قرارتٍ صعبة على مدار حياتنا. في شبابي كنت أتجنب، قدر الإمكان، وضع نفسي في موقف يضطرني إلى اتخاذ مثل تلك القرارات. أما الآن فقد صرت أدرك أن تجنبها يجعل الآخرين يقررون نيابة عني. وفي بعض الأحيان يكون قرارهم خاطئًا.»

سألها ماكس: «إذا كنت أنت الطبيب المسئول يا نيكول، هل كنت ستجرين العملية لإيبونين؟»

فأجابته نيكول بحرص: «لا. أثق أن كائنات الأوكتوسبايدر نجحَت في علاج إيبونين، وأنه من غير المبرر المجازفة بإجراء عملية.»

فابتسم ماكس وقبل صديقته على جبينها. ثم قال: «شكرًا لك.»

•••

استشاط روبرت غضبًا. أخذ يذكر الجميع أنه كرس أكثر من أربع سنوات من حياته لدراسة هذا المرض بالتحديد، ومحاولة إيجاد علاج له، وأنه يعلم عن فيروس «آر في ٤١» بلا شك أكثر منهم جميعًا مجتمعين. وتساءل كيف أمكنهم أن يثقوا بعلاج كائنات فضائية أكثر من مهارته الجراحية؟ كيف يمكن لوالدة زوجته — التي لا تتعدى معرفتها بالمرض ما علمها هو إياه — أن تجرؤ على الاختلاف معه في الرأي؟ ولم ينجح أحد في تهدئته، ولا حتى إيلي التي صرفها عنه في النهاية بعد عدة مشادات كلامية.

ولمدة يومَين رفض روبرت الخروج من غرفته. ولم يُجِب ابنته نيكي عندما قالت له: «أحلامًا سعيدة يا أبي» قبل أن تخلد لنوم القيلولة في النهار أو تذهب للفراش ليلًا. كانت عائلته وأصدقاؤه منزعجين بشدة بالعذاب الذي يشعر به، لكنهم لم يعرفوا كيف يخففوا عنه آلامه. وطُرح موضوع استقراره العقلي في العديد من المناقشات. واتفق الجميع على أن روبرت بدا غريبًا منذ هروبهم من عدن الجديدة، وأن سلوكه أصبح أغرب وغير متوقع بعد اختطاف إيلي.

وأسرَّت إيلي لوالدتها أن روبرت يعاملها «بغرابة» منذ أن عادت. فقالت في حزن: «إنه لم يقترب مني ولو مرة واحدة. وكأنه يشعر أن تلك التجربة دنستني … ويظل يطرح أسئلة غريبة مثل: «إيلي هل أردت أن تُختطفي؟»»

أجابتها نيكول: «أشعر بالأسف حياله. إنه يحمل عبئًا عاطفيًّا ثقيلًا منذ أن كان في تكساس. كل ما جرى له يفوق احتماله. كان يجب علينا أن …»

فقاطعتها إيلي: «لكن ماذا بإمكاننا أن نفعل الآن؟»

فقالت نيكول: «لا أعلم يا حبيبتي. لا أعلم.»

حاولت إيلي أن تمضي ذلك الوقت العصيب في مساعدة بينجي على تعلم لغة الأوكتوسبايدر. إذ كان أخوها غير الشقيق مفتونًا للغاية بكل شيءٍ يخص الكائنات الفضائية، بما في ذلك الرسم السداسي لمدينة الأوكتوسبايدر الذي أحضروه معهم من مدينة الزمرد. فكان بينجي يحدق في الصورة عدة مرات في اليوم، ولا يفوت فرصة لطرح أسئلة عن المخلوقات المدهشة التي يصورها الرسم. وكان آرشي يجيب بواسطة إيلي بصبر عن كل أسئلة بينجي.

وقرَّر بينجي بعد أن بدأ يلعب مع آرشي بانتظامٍ أنه يريد تعلُّم بعض العبارات من مفردات الأوكتوسبايدر على الأقل. علم بينجي أن آرشي يستطيع قراءة الشفاه، فأراد أن يثبت للأوكتوسبايدر أن «البشري البطيء الفهم» يمكنه إذا وجد ما يحفزه، أن يفهم من لغة الأوكتوسبايدر ما يمكِّنه من الاشتراك في حوارٍ بسيط.

فبدأت إيلي وآرشي يعلمان بينجي الأساسيات. فتعلَّم ألوان الأوكتوسبايدر لقول «نعم» و«لا» و«من فضلك» و«شكرًا لك» دون أدنى صعوبة. كما كانت الأعداد سهلةً إلى حد ما؛ لأن الأعداد الأصلية والأعداد الترتيبية كانت في الأساس سلسلة من لونَين أساسيَّين، هما الأحمر القاني والأخضر الزيتوني، يستخدمان في نمطٍ ثنائي ويظهران في تسلسل الجملة بلون وردي توضيحي. لكن كان صعبًا على بينجي إدراك أن الألوان المنفردة ليس لها معنًى. فعلى سبيل المثال الشريط البني المائل للحمرة يمثل الفعل «يفهم» إذا تبعه اللون البنفسجي الزاهي ثم لون توضيحي، لكن إذا تبع الشريط البني المائل للحمرة الذي يليه لون بنفسجي زاهٍ لون قرمزي، فإن الشريط الثلاثي يعني «نباتًا مزهرًا».

كما لا تعدُّ الألوان المفردة حروفًا هجائية بالمعنى الحرفي. ففي بعض الأحيان كان عرض شرائط الألوان — عند مقارنته بغيره في سلسلة أطول تحدد معنى كلمة واحدة — يغير المعنى تمامًا. فالشريط البني الذي يميل إلى الحمرة يتبعه البنفسجي الزاهي يعني «يفهم» فقط، إذا كان عَرْض الشريطَين متساويًا تقريبًا. أما إذا تبع شريط اللون البني المائل للحمرة شريط بنفسجي زاهٍ ضِعْفه في العرض تقريبًا، فتصبح الكلمة هي «سعة».

بذل بينجي جهدًا كبيرًا في تعلُّم اللغة، وكان يكرِّر ما يلزم بحماسةٍ فائقة. أسعدت تلك الحماسة للتعلم إيلي، في وقتٍ كانت فيه شديدة القلق حيال كيفية حل الأزمة مع روبرت.

•••

في بداية اليوم الثالث من الحبس الانفرادي الذي فرضه روبرت على نفسه، وصل القطار في مكانه المعتاد — كما هو متوقع — حاملًا معه مؤنهم من الطعام والماء التي تكفيهم لمدة نصف أسبوع. لكن هذه المرة كان هناك اثنان من كائنات الأوكتوسبايدر على متنه. وترجَّلا عن القطار وأجريا مع آرشي حوارًا مفصلًا. فتجمعت العائلة وهي تتوقع سماع أخبار غير عادية.

أبلغهم آرشي أن «قوات البشر عادت إلى نيويورك، وتحاول كسر القفل المؤدِّي إلى مخبئنا. إنها مسألة وقت فقط حتى تكتشف أنفاق القطار.»

فسألته نيكول: «ماذا نفعل الآن؟»

فقال آرشي: «إننا نود أن تأتوا وتعيشوا معنا في مدينة الزمرد. توقَّع زملائي حدوث ذلك وانتهوا بالفعل من تصميم جزءٍ مخصصٍ لكم في المدينة. ومن الممكن أن يكون جاهزًا في غضون أيامٍ قليلة.»

فسأله ماكس: «ماذا لو أننا لا نريد أن نذهب؟»

تشاور آرشي لبعض الوقت مع زميلَيه. ثم قال: «يمكنكم البقاء هنا وانتظار القوات. سنمدكم بأكبر كمية ممكنة من الطعام، لكننا سنبدأ في تفكيك القطار فور إخلاء جميع رفاقنا في الجانب الشمالي من البحر الأسطواني.»

واستمر آرشي في الحديث لكن إيلي توقفت عن الترجمة. وطلبت منه أن يعيد العبارات القليلة الأخيرة التي قالها عدة مرات، قبل أن تلتفت إلى أصدقائها وعائلتها شاحبة الوجه.

قالت مترجمة كلامه: «للأسف نحن الأوكتوسبايدر يجب أن نهتم بمصلحتنا. ولهذا فإن من يقرِّر منكم ألَّا يأتي معنا يجب أن نمسح ذاكرته خلال المدة القصيرة السابقة، ولن يتذكر أي أحداثٍ وقعت في الأسابيع القليلة الماضية بالتفصيل.»

فأطلق ماكس صفيرًا. وقال: «ماذا حدث إذن للحديث عن الصداقة والتواصل. عندما تسوء الأمور تلجأ كل الأجناس إلى استخدام القوة.»

ثم توجَّه إلى إيبونين وأمسك يدها. فنظرَت إليه بحيرةٍ وهو يجذبها إلى حيث تقف نيكول. ثم قال ماكس لنيكول: «هلا تزوجيننا؟»

ارتبكت نيكول. وسألته: «الآن؟»

فأجابها: «نعم، في هذه اللحظة. إنني أحبُّ هذه المرأة الواقفة بجانبي، وأريد أن أهنأ بشهر عسل معها في ذلك الكوخ الجليدي بالأعلى، قبل أن تنفتح علينا أبواب الجحيم على مصراعَيها.»

فاعترضت نيكول: «لكنني لست مؤهلة …»

فقاطعها ماكس: «لكنكِ أفضل خيار متاح. هيا، على الأقل حاولي.» فتهلَّل وجه العروس التي لم تتفوه بكلمة.

فقالت نيكول بتردُّد: «ماكس باكيت، هل تقبل السيدة إيبونين زوجة لك؟»

فأجابها ماكس: «نعم أقبل، وكان يجب أن أفعل ذلك قبل أشهر.»

«وهل تقبلين يا إيبونين، هذا الرجل ماكس باكيت زوجًا لك؟»

«طبعًا يا نيكول بكل سرور.»

فجذب ماكس إيبونين إليه وقبلها بعاطفة جياشة. وقال وهو يتجه معها إلى السلم: «الآن يا صديقي آرشي، إذا كنت تتساءل فأعتزم أنا وفرنسيتي الجميلة الذهاب معك إلى مدينة الزمرد التي تتحدث هي عنها كثيرًا. لكننا سنختفي لمدة أربع وعشرين ساعة أو أكثر، حسب قدرة إيبونين على التحمل، ولا نريد أن يزعجنا أحد.»

وسارا بحيويةٍ إلى السلم الأسطواني واختفيا. وعندما انتهت إيلي تقريبًا من شرح ما حدث مع ماكس وإيبونين لآرشي، ظهر العروسان أعلى السلم ولوحا بأيديهما. ثم ضحك الجميع وهم يرون ماكس يجذب إيبونين من يدها إلى الممر.

•••

جلست إيلي وحدها وهي تسند ظهرها إلى الحائط في الضوء الخافت. وفكرت في نفسها: «إما الآن وإما لا، يجب أن أحاول مرة أخرى.»

وتذكرت الحوار الغاضب الذي دار قبل ساعات. كان روبرت قد قال لها بمرارة: «بالطبع تريدين الذهاب مع صديقك الأوكتوسبايدر آرشي. وتتوقعين أن تصطحبي نيكي معك؟»

فأجابته دون محاولة لإخفاء دموعها: «إن الجميع سيقبلون الدعوة. من فضلك تعالَ معنا يا روبرت. إنهم جنسٌ لطيف ولديه حسٌّ أخلاقي عالٍ.»

فقال لها: «أجرَوْا لكم جميعًا عمليات غسيل مخ. وخدعوكِ بطريقة ما لتصدقي أنهم أفضل من جنسك.» ثم نظر إليها بامتعاض وهو يكرر: «جنسك. يا لها من مزحة! أظن أنكِ أوكتوسبايدر قدر ما أنت بشرية.»

فقالت إيلي: «هذا ليس صحيحًا يا حبيبي. أخبرتك عدة مرات أن التغييرات التي أجريت عليَّ كانت طفيفة … إنني بشرية مثلك بالضبط.»

ثم صرخ روبرت فجأة: «لماذا؟ لماذا؟ لماذا تركتكِ تقنعينني بالقدوم إلى نيويورك من الأساس؟ كان يجب أن أبقى حيث كنت محاطًا بأشياء أفهمها.»

ومع أنها توسَّلت إليه كثيرًا، فقد ظلَّ على عناده، وأصرَّ أنه لن يذهب إلى مدينة الزمرد. بل بدا سعيدًا بصورة غريبة لأن كائنات الأوكتوسبايدر ستمحو ذاكرته عن المدة القصيرة السابقة. فقال وهو يضحك بمرارة: «ربما ستُمحى ذكرياتي الخاصة برجوعك. ولن أتذكَّر أن زوجتي وابنتي هجينتان، وأن أقرب أصدقائي لا يحترمون قدراتي المهنية.» ثم استكمل: «أجل، سيكون بإمكاني نسيان هذا الكابوس الذي عشته الأسابيع القليلة الماضية، وسأتذكر فقط أنكِ اختُطفت مني، كما حدث مع زوجتي الأولى، وأنا لا أزال أحبك حبًّا جمًّا.»

ظل روبرت يذرع الغرفة غاضبًا. حاولت إيلي أن تهدئه وتبث الطمأنينة في نفسه. لكنه صرخ وهو يبتعد عنها كي لا تلمسه: «لا، لا. فات الأوان. أنا عانيت الكثير من الآلام. لا يمكنني تحمل المزيد.»

وفي الساعات الأولى من المساء، حاولت إيلي استشارة والدتها فيما يجب أن تفعله. لكن نيكول لم تستطع مواساة إيلي بأي طريقة. في حين وافقتها على أنه يجب ألَّا تَيْئس، وحذرتها أن لا شيء في سلوكيات روبرت يُشير إلى أنه من المحتمل أن يغيِّر رأيه.

قصدت إيلي آرشي — بناءً على اقتراح نيكول — وطلبت منه معروفًا. ترجَّته أنه إذا أصر روبرت على عدم الذهاب معهم، فهلا اصطحبه آرشي أو أي أوكتوسبايدر آخر إلى المخبأ، حيث سيجده البشر الآخرون بسرعة؟ وافق آرشي على مضض.

وفي النهاية قالت إيلي لنفسها وهي تنهض لتقف على قدمَيها: «إنني أحبك يا روبرت. ونيكي تحبك أيضًا. ونريدك أن تأتي معنا؛ لأنك زوجي ووالدها.» ثم التقطت نفسًا عميقًا ودخلت غرفة نومها.

•••

بكى الجميع حتى ريتشارد وهم يرون روبرت تيرنر يغمغم ببضع كلمات، ويسير ببطء خلف آرشي في اتجاه القطار على بعد عشرين مترًا بعد أن أحتضن زوجته وابنته للمرة الأخيرة. كانت نيكي تبكي بكاءً خفيفًا لكنها لم تدرك ما يحدث بالفعل. كانت أصغر من أن تفهم.

استدار روبرت ولوح بيده ثم دخل القطار. وخلال بضع ثوانٍ كان القطار يشقُّ طريقه مسرعًا في النفق. وبعد أقل من دقيقة واحدة، حطمت صرخات السعادة التي انطلقت من أعلى السلم الأسطواني الصمت الكئيب الذي خيم على المكان.

فصاح ماكس قائلًا: «أنتم بالأسفل هناك، من الأفضل أن تكونوا مستعدين لحفل كبير.»

فنظرت نيكول عاليًا أسفل القبة، واستطاعت بالرغم من تلك المسافة والضوء الخافت أن ترى ابتسامتَين مشرقتَين على وجهَي العروسَين. فقالت في نفسها وقلبها حزين على الخسارة التي لحقت بابنتها: «هكذا هي الحياة، حزن وفرح. وفرح وحزن. أينما وُجد البشر. على الأرض. أو في عوالم جديدة وراء النجوم. الآن وإلى الأبد.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤