الفصل الخامس

التكامل السردي

الهُوية في السيرة الذاتية ومعنى «الحياة الطيبة»
مارك فريمان وجينز بروكميير
«كيف تكون الموسيقى العذبة الحزينة
حين ينكسر الزمن، ولا يبقى اتساق!
هكذا في موسيقى حياة الرجال.»
شكسبير، «ريتشارد الثاني»
(الفصل الخامس، المشهد الخامس، ٤٢–٤٤)١

نبدأ هذا المقال بثلاث مقولات نأمل أن تصبح مستساغة فيما يلي: الأولى، لا يمكن فصل هُوية المرء، بقدر ما ترتبط بتقييم تفسيري للماضي الشخصي لامرئ وهو يحدث في سرد السيرة الذاتية، عن الأفكار المعيارية عن حقيقة الحياة، أو ما يفترض أنه حقيقتها، إذا كان المرء يعيشها بشكل جيد. ونسمي هذه الأفكار مفاهيم «الحياة الطيبة»، باستخدام مفهوم أرسطي في خطوطه العريضة. وهذا في الاعتبار، جزء مما نودُّ أن نفعله هو لفت الانتباه إلى حقيقة أن البناء السردي للهُوية ليس له فقط بُعد سيكولوجي واجتماعي وجمالي، لكن بُعد خلقي. بمعنى أننا نأمل أن نقدِّم فكرة أن مفاهيم الحياة الطيبة منسوجة في النسيج السردي لهُوية الإنسان. أو، لوضع المسألة بشكل مختلف بعض الشيء، يمكن أيضًا أن نقول إنه مهما يكُن الشكل الخاص لعملية السيرة الذاتية التي نسعى فيها إلى التوافق مع ماضينا — مكتوبًا أو شفهيًّا، متماسكًا أو متناثرًا … إلخ — سوف يكون لا محالة مشروطًا بمفهوم عن الحياة الطيبة. ونظن أن صوت ما سماه شكسبير «موسيقى» حياتنا لا يتوقف، على الأقل، على قدرتنا على ربط حياتنا بنظام الوجود الذي نقرر فيه كيف نعيشها بأفضل شكل.

نحاول دعم هذه المقولة، أولًا بإلقاء الضوء على بعض الخصائص العامة لذاكرة السيرة الذاتية وبناء الهُوية ثم فحص الأجناس الأدبية المتنوعة للسير الذاتية، وهي أجناس تتنوع ثقافيًّا وتاريخيًّا بقدر تنوُّع فكرة الحياة الطيبة في اليونان القديمة، والمسيحية، والحداثة، وما بعد الحداثة. نظرة ما بعد الحداثية إلى هُوية السيرة الذاتية، بشكل خاص، تثير عدة أسئلة معقدة نتيجة لهدفها الذي يتكرَّر التعبير عنه، وهو الاعتزال تمامًا، وبسعادة في الحقيقة، الفكرة ونموذج ربط المنطق الخلقي بحياة المرء. وسوف تخضع هذه المقولة الأولى والأساسية أكثر من غيرها لاختبار مهم.

مقولتنا الثانية، إن درجة الإجماع بشأن ما يشكِّل الحياة الطيبة في محيط اجتماعي معين تؤثر بدَورها على «موسيقى حياة الرجال والنساء». بمصطلحات نظرية أكثر، تؤثر على درجة التكامل السردي المتأصل في قصص يحكيها الناس عن حياتهم، وتؤثر في هُوياتهم في النهاية. بالتكامل السردي لا نشير فقط إلى اتساق نسب شكل أو جماله بوصفه مبادئ لتأليف السرد، بل إلى تماسك الالتزامات الخلقية للمرء وعمقها، كما تكشف عنها حياته. أي إننا لا نودُّ ببساطة أن نقدم مفهومًا سرديًّا للتماسك، يمكن توقُّعه بشكل حصري بناءً على طبيعة الشكل؛ ويشمل التكامل السردي، كما نتصوره هنا، الجمالي والخلقي، ويعتبر بنية جدلية للمعنى. ربما نرى في فكرة بول ريكو (١٩٩١م) عن «هُوية السرد» مناظرة لبنية جدلية تساعدنا في رسم الخطوط العريضة لتأملاتنا في العلاقة بين الهُوية والتكامل السردي.

لتحديد هذه المقولة الثانية أكثر، نظن أن في العصور، أو الثقافات، التي فيها اتفاق قوي على معايير الحياة الطيبة، توجد، نظريًّا، درجة عالية من التكامل السردي، بشكل صريح أو ضمني، في سردياتها. وتأتي إعادة بناء الماضي في السير الذاتية غير ملتبسة نسبيًّا، وتتَّسم بقيود قانونية قوية، ويكون مجال المعاني المحتملة محدودًا نسبيًّا. ومن الناحية الأخرى، في العصور أو الثقافات التي لا تكون فيها معايير الحياة الطيبة واضحة جدًّا أو في غمرة خلاف أو تنقيح، كما هو الحال في الغرب الحديث غالبًا، تكون هناك نظريًّا مرة أخرى، درجة منخفضة نسبيًّا من التكامل السردي، مع ذاكرة سيرة ذاتية تنبثق، بدَورها بلا جدال، أكثر التباسًا، ومتعددة المعاني بشكل أكبر. ولتجنُّب إساءة الفهم، ينبغي ملاحظة أننا في الحديث عن «درجة منخفضة» من التكامل السردي، ليست لدينا نية بحال من الأحوال لتقديم حكم خلقي على الحيوات التي نشير إليها، وكأن هناك معايير مطلقة نقيسها عليها لنعرف أنها «أدنى» أو «أعظم» بطريقة ما. نريد أن نبرهن بدلًا من ذلك على أن بنى هُوية السيرة الذاتية تسعى دائمًا إلى شكل ما من التكامل السردي، لا يمكنها، إذا جاز التعبير، أن تعمل من دونه، مهما يكُن اختلاف «تماسك حياكة» نسيجها السردي. ونطور هذه الفكرة بعد قليل.

تأتي مقولتنا الثالثة من الاثنتين السابقتين. إن سرديات السيرة الذاتية — نصوص السيرة الذاتية، منطوقة أو مكتوبة — أدوات مفيدة ليس لاستكشاف البُعد الخلقي لبناء الهوية فقط لكن أيضًا لاستكشاف النسيج الخلقي للعوالم الاجتماعية التي تظهر فيها. وبهذا الشكل، تسمح لنا دراسة السير الذاتية بفهم أفضل للجدل، الذي ذكرناه من قبل، بين أفكار الحياة الطيبة والحقائق التاريخية والثقافية المحددة التي تنشأ فيها هذه الأفكار. في هذا الإطار التاريخي والثقافي، نركز بشكل خاص على سمات Geisteschichte، تاريخ الأفكار، لأن من الواضح أن ما يكوِّن التكامل السردي لحياة فردية مجسد دائمًا في شبكة من المعتقدات والالتزامات الخلقية التي يتم التعبير عنها في الآراء الفلسفية والدينية والسياسية والخلقية في العصر موضع التساؤل.

(١) التاريخية

ربما يفيد سياق تاريخي ما في بلورة هذه المقولات. كما أكَّد دارسون متنوعون، إن فكرة أن كائنًا بشريًّا له هُوية فردية خاصة ومميزة، تاريخًا وسيكولوجيا شخصيين واضحين — وقد وصف ميشيل فوكو (١٩٧٣م) هذه الفكرة بأنها «معرفة الإنسان» الحديث — محدودة في زمن تاريخي وفضاء ثقافي. في ملاحظة شهيرة (ومثيرة للجدل تمامًا) في نهاية «نظام الأشياء» (١٩٧٣م)، توقع فوكو «موت الإنسان» تاريخيًّا، ويعني بذلك نهاية المفهوم الغربي لموضوع فرد مستقل وأساسي. وبالمثل، أثيرت مناقشات حول أن الجنس اللغوي والسيكولوجي للسيرة الذاتية ظاهرة محدودة تمامًا. يلاحظ جورج جسدورف Gusdorf (١٩٨٠م)، على سبيل المثال، في مقاله المؤثر عن «شروط السيرة الذاتية وحدودها» أن السيرة الذاتية «لم تكُن موجودة دائمًا، ولا توجد في كل مكان. (…) لم تؤكد وجودها إلا في القرون الأخيرة وعلى جزء صغير فقط من خريطة العالم. (…) خلال معظم تاريخ الإنسان»، ويواصل جسدروف ليشرح: «لا يضع الفردُ نفسَه في مواجهة الآخرين كلهم؛ لا يشعر أنه يوجد خارج الآخرين، ويبقى أنه ضدهم بشكل أقل، لكنه مع الآخرين بشكل كبير جدًّا في وجود مترابط يؤكد إيقاعاته في كل مكان في المجتمع» (ص٢٨-٢٩). بالإضافة إلى ذلك، يميل هذا الفرد الذي يتحدث عنه جسدروف إلى الانخراط في وعي أسطوري لثقافة شفهية سائدة، وفهم حياته من خلال عدسة الأشكال المتكررة والأزلية وليس بشكل تاريخي. إن مفهوم الوعي التاريخي مهم في هذا السياق لأنه يتضمَّن فكرة نظام للأحداث لا رجعة فيه، بما في ذلك تلك الأحداث التي تُصنَع منها حياة المرء. بينما الفكرة الأسطورية هي بالأساس ظاهرة ثقافات من دون تواصل كتابي وسجلات، فإن الفكرة التاريخية، مثل التاريخ نفسه، مرتبطة بوجود الكتابة. السجلات التاريخية المكتوبة تجعل من الممكن التفكير ليس فقط في الزمن لكن أيضًا في الحياة نفسها في تتابعها الزمني: إن ما يحدث بين ميلاد شخص وموته يصبح مرئيًّا بوصفه انسيابًا خطيًّا للأحداث، يمتد بطول «قوس الزمن». وهكذا يصبح ما يمكن أن يُسمَّى «عمر المرء» جزءًا، وإن يكُن جزءًا خاصًّا جدًّا، من عمر العالم (Blumenberg 1986). ومن ثَم يرتبط ظهور فكرة شخص له تاريخ أيضًا ارتباطًا وثيقًا بظهور الوعي التاريخي، وبأن تاريخ حياته جزء من عملية تاريخية أكبر. بتعبير آخر، نحن أنفسنا كيانات تعيش في تاريخ (Freeman 1998). لنتحدث عن هذا المفهوم البارز لحياة الإنسان بوصفه عملية متتابعة زمنيًّا متعلقة بالتاريخية. ويمكن اعتبار السيرة الذاتية، بهذا المعنى، جنسًا تاريخيًّا، وهوية السيرة الذاتية، بدورها، جشتالت اجتماعيًّا سيكولوجيًّا مندمجًا في حركة تاريخية لا رجعة فيها.
يتجلَّى ما يعنيه هذا إذا تأملنا، في المقابل، اليونان القديمة. رغم وصف الإغريق القدماء — غالبًا — بأنهم أصل الثقافة الغربية، لم يعرفوا فكرة الفرد الذي يحتاج إلى أن يطور نسخة متسقة لحياته. يخلو أدب الإغريق القدماء، رغم ثرائه وتنوعه، من جنس أدبي خاص بالسيرة الذاتية، يركز على ذات الفرد بوصفها مركز معنى حياته. بدلًا من حكي سرديات لأحداث وأفكار ونوايا وهي شخصية وخاصة جدًّا، كان الاهتمام الرئيسي للفرد الاندماج فيما كان يعتبر الجماعة الطبيعية للثقافة الإغريقية. يمكن للفرد الإغريقي فقط وهو منصهر بتجانس مع هذه الجماعة وتوليفها في نظام الأساطير أن يفكر في وجوده. بدلًا من التأكيد على «ظهور» لعقل فردي أو شخصية فردية، غُرِس فهم الإغريق للذات بعمق في كل ثقافي، في سياق للوجود مُعطًى بشكل اجتماعي وطبيعي (Vernant 1995). ومن المهم تمامًا أن هذا يصدق تمامًا على الرؤية الإغريقية للفرد العظيم، البطل، وإنْ كان مسار حياته مرسومًا بشكل كامل تقريبًا بالقوة الصارمة للقدر. وبالتالي، لا نجد جنسًا مميزًا للسيرة الذاتية ولا نجد موضعًا استطراديًّا خاصًّا أو حدثًا اعتقد إغريقي أن من المناسب أن يسجِّل ذكرياته الخاصة عنه، أو يحكي قصة حياة — باستثناء مواقف فريدة «لكشف الذات» من قبيل سرديات مروية بضمير المتكلم وموجهة للغرباء (في جنس أدبي وحيد، القصة الشهوانية الإغريقية) وفي محكمة، حين يتهم بجريمة (Most 1989).
إن السيرة الذاتية للفرد — وربما ذاكرة السيرة الذاتية — بمعنى مميز، كما هو الحال بالنسبة للهوية المستقلة التي تعرِّف الذات كما فُهِمتْ، على سبيل المثال، في بحث هاملت وفاوست عن معرفة الذات، غير واردة في الفكر الإغريقي القديم وخلال معظم تاريخ الإنسان. هذا البحث، كما انعكس وتشكل بشكل إيجابي من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر في الفلسفة والأدب الأوروبيين، يجب رؤيته على خلفية نسيج آخر جديد ظهر مع العالم الحديث: مقولات الذات مقابل مقولات المجتمع والقانون المعياري (Watt 1996). ثمة شرط جوهري لاحتمالية السيرة الذاتية والتأمل الذاتي في السيرة الذاتية في هذا النسيج الثقافي التاريخي، وهو التوافق مع التحول من إطار أسطوري بالأساس للزمن إلى مجال التاريخ. بمجرد أن تشكلت فكرة الزمن التاريخي، يصير زمن حياة جشتالت تاريخيًّا، سياقًا له معنى يتعلق بالأحداث مع عمق دياكروني.٢
وهنا تفيد أعمال مؤرخ الفكر كارل فينتروب Weintraub بشكل خاص. يرى فينتروب في مقال بعنوان «السيرة الذاتية والوعي التاريخي» (١٩٧٥م)، بشكل لا يختلف عن جسدروف، أن «جنس السيرة الذاتية تَبنَّى بُعدَه التام وثراءه حين اكتسب الإنسان الغربي فهمًا تاريخيًّا لوجوده (ص٨٢٢) — أي حين بدأ الناس يرون آثار حيواتهم وروايتها وسيلة مناسبة وضرورية لتحقيق مقياس لفهم الذات. هنا إدراك بأن الأحداث غير قابلة للتكرار (حتى لو تكررت الأنماط والنظم التاريخية)، والحاضر مختلف عن الماضي (حتى لو كان استمرارًا له)، والزمن نفسه يتميز بتغير دائم (حتى لو بدا مستمرًّا). ولذلك، توجد «دلالات» مختلفة «للزمن» — أي الإطار التاريخي للمعاني اللغوية الذي يتشابك فيه تفكيرنا وتخيُّلنا بشكل يتعذر فصله (Roselleck 1985).
لنحكي قصة طويلة باختصار، تظهر في فترة معينة في التاريخ الأوروبي المبكر، في تزامن مع تآكُل التفكير الأسطوري وطريقة للحياة يغلب عليها الطابع المؤسسي، «الشخصية التاريخية»، أي كينونة — ذات في زمن — تجد في تاريخها الفريد وسيلة لفهم الوجود والتوافق معه (Taylor 1989). في هذه الفترة بالتحديد نبدأ رؤية السيرة الذاتية أداةً لتتبع مسار حياة، تعطينا، بالسرد، معنًى. وهكذا تظهر التاريخية، وذاكرة السيرة الذاتية، وهوية السرد بوصفها شكلًا استطراديًّا متشابكًا (Freeman 1993). تعمل فكرة الجوهر بشكل جيد للقبض على أساسياته.

(٢) المسئولية

ثمَّة سمة أخرى لظهور السيرة الذاتية، وتأمل السيرة الذاتية، ينبغي أن تتوافق مع فكرة المسئولية. كما لوحظ، كانت محاسبة شخص على أفعاله في محكمة من الحالات القليلة في الثقافة الإغريقية التي يتوقَّع أن يحث فيها الفرد على أن يحكي سردًا بضمير المتكلم عن أحداث حياتية متعلقة بالأمر. لكن المسيحية، في الزمن الذي كتب فيه أوجستين كتابه «اعترافات» (١٩٨٠م؛ الطبعة الأصلية ٣٩٧) يعتقد عادة أنها تميز بداية تأمل السيرة الذاتية كما عرفناها. تجلب المسيحية معها مفهومَ أنَّ على كل شخص أن يردَّ، أمام الرب، عما يتعلق بحياته، وتعمل حقيقة الاعتراف نفسه على تضخيم عملية الفحص الذاتي للفرد وتعميقها (Gurewich 1995). تتطلب السيرة الذاتية، بدَورها، من أصولها الأوجستية الأكثر تأثيرًا إلى شكلها الحديث، أن يقيِّم المرء ماضيه، ويفهمه بوصفه شيئًا يمكن تثمينه وتقييمه وتقديره في ضوء نموذج معياري للحياة. وهكذا يتطلَّب بناء الذات في السيرة الذاتية تباينًا ذاتيًّا؛ إنها «قراءة ثانية» للخبرة توجهها حاجة المرء إلى أن يواجه نفسه «بصدق» ويعترف بالمناطق المضطربة في تاريخه. وهي، على هذا النحو، الطريقة التي نفهم بها حيواتنا التي انقضت لنواجه الحيوات المحتملة التي نتصورها.
أوضح كُتَّاب في العصر الحديث مثل بروست في تفاصيل معقَّدة ما يعنيه أن نحيا مرة أخرى لحظات مهمة في ماضينا. في لحظات التذكُّر — الذي يحدث في الحاضر— يُستدعَى واقع «أحداث الماضي» بثراء وعمق، وكان المستحيل معرفتها وتقييمها حين مرَّت بنا «أصلًا». يشير مؤلفون متنوعون (على سبيل المثال، Rorty 1979) إلى رواية بروست «البحث عن الزمن الضائع» (١٩١٩م) بوصفها مثالًا مقترحًا لتوضيح أنَّ السرد لا يصف فقط حياة الفرد، بل «يبتكرها». وكما أشار ويدرشوفن Widdershoven (١٩٩٣م)، يمس بروست جوهر العلاقة بين الخبرة والقصة حين يصف زيارة إلى المسرح، وبرما تمثل دور «فيدرا». يحكي لنا الراوي كيف أنه يحاول أن يحفظ كل لفظ وتعبير وإيماءة لبرما، ليتذكر فيما بعد الخبرة كاملةً. لكن جهوده المركزة للقبض على الماضي وتذكره جعله يشاهد ويصغي بصعوبة. فقط حين يبدأ تصفيق الجمهور يشعر بالإعجاب؛ وبعد ذلك بكثير، وهو يقرأ تقريرًا عن الأداء في الصحيفة، يقتنع حقًّا بخصائصه. يصف راوي بروست كيف «تنصهر» في هذه اللحظة قصة الصحيفة مع خبرته الخاصة — أو مع ما يعتقد، بإدراك متأخر، أنها خبرته — وهكذا يزيد إعجابه وبهجته. لكنَّ هناك إدراكًا بأنَّ هذه المشاعر ربما تبدو مضللة لأن الخبرة «الأصلية» لم تكن تقريبًا إيجابية كما كان حكمه بعد قراءة النقاد، يعترف الراوي بأنه ليست هناك طريقة للهروب من هذا التشابك: تتأثر خبرتنا دائمًا بخبرة الآخرين، وتتضافر قصصنا دائمًا مع قصص الآخرين. تذكُّرنا لأشياء الماضي ضئيل القيمة ما دامت لا «ترتبط ﺑ»، كما يكتب ويدرشوفن — أو «تنصهر مع»، كما يقول بروست — سرد. يواصل ويدرشوفن ليعلن أنَّ هذا لا ينطبق فقط على الخبرات غير المهمة نسبيًّا، مثل الذهاب إلى المسرح، لكن على الخبرات التي يفترض أنها تشكل هُويتنا السردية: «ندرك فقط أهمية هذه الخبرات بحكي قصص عنها وصهرها مع قصص أخرى» (١٩٩٣م، ص٧).

بوضوح، ما قبض عليه بروست يمتدُّ بشكل مهم إلى ما وراء عالم الأدب. إنها ظاهرة مشتركة، وجوهرية بشكل خاص لعملية السيرة الذاتية. يكتب جسدروف (١٩٨٠م): «في اللحظة الفورية يطوقني غضب الأشياء عادة بأكثر مما أستطيع أن أراه في مجموعه. تمنحني الذاكرة نقلة معينة وتسمح لي بأن أتأمل كل مداخل الموضوع ومخارجه، سياقه في الزمان والمكان» (ص٣٨). تسير ذاكرة السيرة الذاتية والتقييم التفسيري، بالطبع، معًا. ومثل جسدروف، لاحظ كثير من المؤلفين الذين استكشفوا ذاكرة السيرة الذاتية أنه لا يوجد كاتب سيرة ذاتية انشغل في سعي موضوعي تمامًا ونزيه. بصرف النظر عن الاهتمام الخاص والبؤرة، تكون نتيجة عملية السيرة الذاتية عملًا يتعلق بانتقاء وتبرير شخصيين، وفقًا له للفرصة المتاحة للمرء لكي «يسترد» ما قد يكون فُقِد أثناء السنوات المنقضية. وبهذا المعنى، يستنتج جسدروف: «مهمة السيرة الذاتية في المقام الأول مهمة الخلاص الشخصي». إنها مهمة «إعادة تجميع العناصر المتناثرة لمصير يبدو … أنه كان جديرًا بعناء المعيشة» (ص٣٩). وهكذا ليست الغاية النهائية لهذه العملية نوعًا من التمثيل الحقيقي لحياة انقضت؛ لا يمكن أن يكون هناك مثل هذه الإعادة للعرض. وكما أشار جيروم برنر (١٩٩٣م)، إن الفكرة الرائجة عن أن هناك شيئًا من قبيل سيرة ذاتية حقيقية، أو صحيحة أو حتى صادقة بشكل فريد، فكرة مضلِّلة. إنها لا تقبض على جوهر عملية السيرة الذاتية ببساطة لأن هدف هذه العملية ليس الإعلان عن حقيقة منطقية أو افتراضية. لو كانت هناك قصة حياة عن الحقيقة فهي عن الحقيقة السردية، كما يرى برنر.

لكن الحقيقة السردية ليست الكلمة الأخيرة. رغم أنها مفهوم قد يساعدنا في التغلب على بعض نقاط ضعف المفهوم الميتافيزيقي التقليدي للحقيقة، إلا أنه يثير عددًا من الأسئلة الجديدة. على سبيل المثال، ما الطبيعة الحقيقية لخاصية سرد حقيقة الحياة؟ وما الخاصية الحقيقية لقصة حياة؟ نقترح — على الأقل — معنى للحقيقة السردية، في سياق مناقشتنا، يمكن أن يخضع بشكل كافٍ لمعيار التماسك، أو بشكل أكثر ملاءمة، لوعي متماسك. تمثل الحقيقة السردية، من هذا المنظور، سمة من التبرير الخلقي الجوهري المرتبط بمفهوم التكامل السردي. يبرهن برنر (١٩٩٦م) بشكل مقنع على أن الحقيقة السردية نتيجة مشتركة لطرق خاصة في صناعة المعنى، مرنة جدًّا فيما يتعلق بإمكانية التحقق منها، شروط الحقيقة، أو التبريرات المنطقية. لفحص النسيج السردي لذكريات السيرة الذاتية، علينا إذَن أن نستخدم معايير مناسبة أكثر للتماسك، من قبيل الاحتمال، والحيوية، والاستساغة السردية، والتكامل السردي. كما نرى، في تحقيق الخاصيتين المزدوجتين للتماسك السردي والاستساغة الاستطرادية، يتجاوز مفهوم التكامل السردي منظور السرد. وبؤرته هي الانسجام المتأصل في عيش حياة وسردها.

ينبغي التأكيد على أن السير الذاتية، بخلاف الأشكال الأخرى من الكتابة الذاتية (المذكرات، واليوميات، والرسائل … إلخ) تُكتَب دائمًا في الحاضر، ناظرة إلى الخلف — وإلى الأمام — وجمهور معين ومميز بشكل ما في الذهن. ويعرف دائمًا راوي السيرة الذاتية نتيجة قصته. ونرى هذا عمليًّا في الحقيقة البسيطة، بالغة الأهمية، بأن سرديات السيرة الذاتية تضفي معاني على أحداث لم تمتلكها وما كان من الممكن أن تمتلكها وقت حدوثها. يشير وينتروب Weintraub (١٩٧٥م)، معبرًا عن خصائص محددة أخرى لتفسير السيرة الذاتية، إلى ما يحدث بمجرد أن يكتسب مؤلف السيرة الذاتية نقطة امتياز النظر بأثر رجعي إلى الحياة أو إلى جزء ما منها: بشكل يتعذر تجنبه، «يفرض على الماضي نظام الحاضر. الحقيقة التي كانت تتشكَّل ذات يوم يمكن أن تُرى الآن مع الحقيقة التي تتشكَّل نتيجة لها. بهذه الإضافة للحقيقة المكتملة، تكتسب الحقيقة التي تتشكل معنى لم تمتلكه من قبل. معنى الماضي جلي وذو معنًى في الفهم الحالي؛ وهو كذلك مع كل فهم تاريخي» (ص٨٢٦). طرح جسدروف (١٩٨٠م) فكرة وينتروب «الإضافة للحقيقة المكتملة» بوصفها «افتراضًا لمعنى … يُملِي اختيار الحقائق التي يجب حفظها والتفاصيل التي يجب كشفها أو نبذها طبقًا لضرورات الوضوح المتصور سلفًا» (ص٤٢).
يرتبط ما يعنيه وينتروب ﺑ «نظام الحاضر»، وما يعنيه جسدروف ﺑ «الوضوح المتصور»، بمفهومنا عن التكامل السردي. في القضية، في كل حالة، نظام للبناء تمتد جذوره هنا والآن في عملية السيرة الذاتية. وهذا النظام لا يعكس فقط النظام الوقتي المتأصل في عملية السرد؛ إنه يوحي أيضًا بأن «افتراض» معاني حياة لا يحدث ويكون له معنًى إلا في الحاضر، أي الحاضر الذي تُعاش فيه هذه الحياة ويصبح فيها الماضي موضوعًا للبناء (أو إعادة البناء). وبتعبير مختلف، إن افتراضَ معنًى للماضي وظيفة سيكولوجية وخلقية هنا والآن، لمجموعة حاضرة لا يسعى فيها مؤلف السيرة الذاتية إلى اكتساب القبول فقط لماضيه، بل لحاضر حياته ومستقبلها (Brockmeier 1997). مرة أخرى، إذَن، تتمثل أهمية فكرة المسئولية في تقديم مبرِّر تفسيري — أو حتى اعتذار — عن حياة المرء. وبالإضافة إلى ذلك، يتكامل البُعد الخلقي لهذه العملية، اعتمادها على توجه معياري يقدم المعايير الأساسية للمسئولية، مع تصميم الهُوية.

ما عرضناه حتى الآن، إذَن، فكرة أن هُويَّة السيرة الذاتية، وهي تتطور في عملية السيرة الذاتية، تظهر متوافقة مع ظروف اجتماعية وتاريخية واستطرادية خاصة بأهمية الفرد وأيضًا أهمية المحاسبة على حياة عاشها المرء بالتوافق مع نظام ثقافي ممتد للقيم الذوقية والخلقية. يظهر التكامل السردي للذات في هذا التفاعل؛ أي إن البُعد الذوقي جزء من قسم العملية التي يتشكَّل بها التاريخ المسرود بوصفه موضوعًا لاهتمام وتقييم تفسيري. تتوقف كيفية تقييم الذات على المفاهيم المنتشرة عن الحياة الطيبة. ونستكشف الآن هذه القضية ببعض التفصيل.

(٣) فهم السيرة الذاتية و«تقييم» الذات

لِبنَى الفَهم الحالي، الملازمة لبيئة اجتماعية وثقافية، تأثير مهم على الطبيعة الخاصة لكل من الفهم التاريخي وعملية التذكُّر في السيرة الذاتية. نرى هذا بوضوح في حالة الأطر التطورية التي تسعى لمحاسبة منهجية لشكل الماضي الشخصي. نرى، على سبيل المثال، متبعين وينتروب (١٩٧٥م) في الخطوط العريضة مرة أخرى، أنه كلما تناولت العمليات «الطبيعية» أو «التطورية» الأطر التطورية الأكثر ملاءمة، ازداد تميز الحياة نفسها بمفهوم التفتح العضوي؛ وكأن هناك شيئًا حاضرًا منذ البداية، يتكشف تدريجيًّا ببرنامج ضروري مُعَد سلفًا، أو مصير، أو قدر، أو منطق غائي متأصل. كما يعبر وينتروب: «تصبح إمكانية محددة حقيقة» (١٩٧٥م، ص٨٣٠).

لعبت فكرة غائية التطور، مثل انبثاق الحقيقة من الإمكانية — وهي فكرة يمكن، مرة أخرى، إرجاعها إلى أرسطو — لعبت دورًا مهمًّا في تاريخ الفكر الغربي، بما في ذلك تاريخ التفكير في السيرة الذاتية. حين نرى أن تطور الإنسان عملية طبيعية، تسعى بالأساس إلى تحقيق هدف محدد سلفًا، يمكن إذَن أن نرى أي تاريخ لحياة معينة طبقًا للدرجة التي يتحقق بها هذا الهدف المثالي، هذه الغاية، فعليًّا: وهكذا تصبح قيمة الحياة مسألة «أكثر» أو «أقل». لكن هناك نتيجة أخرى أكثر أهمية لهذه النظرة الغائية، تتوافق مع ما قد يسمَّى «إقصاء الشاذ». ويعتبر دخول الحوادث وما شابه في حياة معينة — الأحداث العشوائية، الانحرافات — من هذا المنظور، مسائل ثانوية عمومًا، مجرد انحرافات عن منطق متأصل مُعد سلفًا.

ما معنى أن تصبح هذه الفكرة منطقًا أساسيًّا لتحقيق التكامل السردي؟ ربما يكون من المفيد تناول هذه المسألة باستكشاف تاريخ حياتين. وهما نموذجيتان جدًّا من أكثر من ناحية. ذكرنا واحدة بالفعل، حكاية أوجستين عن ذكرياته في السيرة الذاتية كما وجدت في كتابه «اعترافات» (١٩٨٠م). إنها نوع بدائي لهذا الجنس الأدبي، مؤسس على الاقتناع بأن قدر الإنسان — والاعتراف بهذا القدَر — محدَّد من البداية إلى النهاية، من تدبير الرب. ويشير المثال الثاني إلى صورة حديثة — أو لنقل حداثية — لأكاديمي من القرن العشرين: حكايات السيرة الذاتية لعالم النفس والفيلسوف السويسري جان بياجيه. تبدو هذه الحكايات نتيجة لقناعة بمنطق متفتح يؤسس تطور الحياة والتفكير، وبمعنى ما، حتى عملية تأمل السيرة الذاتية نفسها. لاحظ وينتروب (١٩٧٥م) أن حيوات الفلاسفة والدارسين الآخرين تُكتب غالبًا بطريقة تعرض «اتساقًا شكليًّا في النمط الأساسي للحياة المتوقعة من مفهوم جوهري لطبيعة كشف الحياة نفسها مع قوة دافعة للتماسك المنطقي» (ص٨٣٠). رغم فاصل زمني لأكثر من ١٥٠٠ سنة من التاريخ الفكري يمكن اعتبار أوجستين وبياجيه حالتين جيدتين لتوضيح فكرة أن طبيعة تفتح الحياة نفسها و«القوة الدافعة للتماسك المنطقي»، سواء كان تماسك التدبير الإلهي أو التفكير العلمي الحديث.

تمثل «اعترافات» أوجستين نموذجًا كلاسيكيًّا، إن لم تكُن النموذج الكلاسيكي، للفهم الغائي للذات. مرة أخرى، في العصر الحديث فقط لم تعتبر «الاعترافات» مجرد قصة عن حياة قديس، بل «نموذجًا لتصور الذات في بنية أدبية بأثر رجعي» (Frecero 1986, p. 17). تقترح حكاية أوجستين هوية للسيرة الذاتية تحددها قوة مطوقة تمامًا ومحدِّدة تمامًا. هذه القوة كلية الوجود حتى لو لم تُعرَف بهذا الشكل، كما كانت الحال في بداية حياة أوجستين. يمكن أن نرى في «الاعترافات» منطقًا مختلفًا تمامًا ومؤثرًا، ونرى غاية مختلفة تمامًا. يصرح أوجستين (١٩٨٠م، ص٣٩) للرب: «كنتُ أعمى عن دوامة المهانة التي هَويت إليها بعيدًا عن مرأى عينيك، كنتُ قلقًا ومشتتًا، أتعثر في البحر الحارق … ولم تنطق بكلمة … كنت صامتًا حينذاك، وواصلت طريقي، مبتعدًا ومبتعدًا عنك، مزهوًّا في كربي ومتوترًا في تعبي، ناثرًا المزيد والمزيد من الحبوب ولم أجنِ سوى الأسى» (ص٣٤). كل هذا، بالطبع، يراه أوجستين واضحًا بأثر رجعي، بعد هدايته. وهكذا يغمر العار والوضاعة ذكرياته لكن أيضًا بامتنان عميق؛ لأن ما أدركه في النهاية كان أن تدبير الرب، حتى في غمرة الصمت، مسئولة عن منعه من السير في تلك المسارات المحتملة في الحياة التي كان يمكن أن تتوَّج بنهايات مسدودة. النقطة الأساسية هنا، على أية حال، أن أوجستين بالتذكر، بالنظر إلى الخلف ورؤية مسار حياته بشكل جديد، يزعم أنه أدرك المنطق في ذلك الأمر، «الضرورة الباطنية» حيث يقاوم شابٌّ مشاكسٌ فاسقٌ أيَّ تلميح بشأن إمكانية تنظيم حياته، ولا يحاول أن يتحرك في الاتجاه الصحيح أبدًا.

نرى في حكاية أوجستين، إذن، مثالًا نموذجيًّا عن قصة التجلي، وعلى مستوى الذاكرة، مثالًا كلاسيكيًّا لطريقة خاصة تمامًا للفهم التاريخي، فيها تُمنَح الأحداث والحوادث المتنوعة التي مرَّت في طريقه ما أشار إليه وينتروب بالأهمية «المحفزة»: لا تصبح هذه الأحداث والحوادث مهمة في ذاتها، ولكن في حقيقة أنها تدفعه في الاتجاه الذي ينبغي أن يتحرك فيه — أي الاتجاه الذي يمليه المنطق عمليًّا، ويملي هذا المنطق نفسه رؤية لتطور إنساني مثالي فعَّال في عالمه الاجتماعي. إن سرد أوجستين دليل لمفهوم مميز للحياة الطيبة، مفهوم يرتبط بإدراك الوجود المقدس للرب في كل الأشياء كبيرة وصغيرة. وهو أيضًا بمثابة وظيفة نموذجية وإرشادية، تقدم طريقة لتوجيه الأرواح الأخرى الضالة التي تبحث عن الخلاص.

لكن الأكثر أهمية، بالنسبة لنا هنا، هو التكامل الباطني لسرد أوجستين وصرامة «نسيج» ذاكرته، كما عبَّرنا من قبل. بالطبع، لأسباب واضحة تمامًا، حين يصبح المرء قديسًا، وينظر إلى حياته التي خلَّفها وراءه، يحتمل أن تكون هناك درجة عالية من القناعة واليقين بشأن معنى الماضي. إن هذا النص لم يكتب فقط بوصفه اعترافًا، أو مذكرات، أو تبريرًا ذاتيًّا أو اعتذارًا — الأغراض الثلاثة التي تميز، في رأي هارت Hart (١٩٦٩-١٩٧٠م)، أعمال السيرة الذاتية — بل كتب أيضًا لإقناع القرَّاء بأن هذا الطريق، طريق أوجستين، أفضل الطرق. حين نفهم أن الرب هو المحرك الأول، لا توجد مساحة كبيرة للشك في حدوث الأشياء بالطريقة التي حدثت بها — على الأقل في النسخة الأوجستية لما يُفترَض أن تكون عليه حياةُ إنسانٍ. علينا أن نضع في الاعتبار أن أوجستين أحد أوائل المفكرين المنهجيين الذين أخلصوا لمهمة فحص حالة الإنسان في ضوء المسيحية. وقد حاول رجال اللاهوت فيما بعدُ — البروتستانت خاصة — تلطيف النتائج الحتمية لرؤية العالم والذات كما طورها آباء الكنيسة. النقطة الأساسية، على أية حال، أن ما يمكن تسميته الفضاء الخلقي للتفسير الذاتي، وبالتالي فضاء ذاكرة السيرة الذاتية نفسها، يبقى محدَّدًا جدًّا هنا، في توافق مع وسط اجتماعي وتاريخي وخلقي فيه درجة عالية من الإجماع بشأن الحياة الطيبة.
كما اقترحنا بالفعل، إن فكرة الحياة بوصفها برنامجًا للتجلي، مثل انبثاق الحقيقة من الإمكانية، ليس بحال من الأحوال محدودًا بإدراك عناية الرب. نتحول الآن إلى السير الذاتية لبياجيه، لنجد إلى حدٍّ بعيد المبدأ نفسه فعالًا، رغم أن الإيمان هنا في القدرة المطلقة للرب حل محله الإيمان بالصلاحية المطلقة للقوانين الطبيعية، وبالتالي للعلم. مرة أخرى، تتطوَّر الحياة طبقًا لبرنامج معين؛ يتجلَّى التفكير، والعقل ذاته في الحقيقة، بدورهما، بوصفهما بنًى ذاتية منطقية تتميز بتماسك منطقي مطرد. كتب بياجيه، في مسار حياته الطويلة، عدَّة سِيَر ذاتية. تختلف بدرجة لافتة؛ في كل منها، يقدم نفسه بطرق مختلفة، في مشاهِد مختلفة، من وجهات نظر مختلفة. بمعنى أن كل سردية تقدم حياة مختلفة. يوضح جاك فونشي (في هذا المجلد)، في مقارنته لهذه الحيوات المتنوعة وقصص الحياة، أنَّ السير الذاتية لبياجيه، بقدر تميزها، تقوم بوظيفة واحدة أولًا وقبل كل شيء: وهي تقديم الذات، تقديم الذات للآخرين. ولا نندهش حين يختلف التقديم طبقًا للجمهور المستهدف الذي تُنظَّم له حبكة حياته ويعاد تنظيمها. على سبيل المثال، في السيرة الذاتية المبكرة لبياجيه، «بحث Recherche»، وقد كتبها في العشرين من عمره، نقرأ رواية تعليمية لميتافيزيقي ما بعد البرجوسنية تصور ظهور شخصية في لحظة أزمة مراهقة خطيرة، أزمة الهوية. في مدخله لكتاب «تاريخ علم النفس في السيرة الذاتية»، نتتبع القصة المباشرة لحياة عالِم. وفي السيرة الذاتية التي ضمها بياجيه في كتابه «الحكمة وأوهام الفلسفة»، يحكي قصة فيلسوف تحرر من الوهم وتحول إلى التخصص في علم النفس نتيجة لقصور الفلسفة وغرور الفلاسفة.

يكتب فونشي أن بياجيه يغير القبعات طبقًا لوظيفة سرده. وطبقًا لهذا، تتغير طريقة وضع الممثلين الآخرين: الزملاء، والمنافسين، والدارسين، والخصوم؛ تصبح الشخصيات الثانوية في حياةٍ أبطالًا في أخرى. بالنسبة لفونشي، يبدو المنطق السردي لهذه السير الذاتية وظيفة للتفاعلات بين «ممثل»، و«مشهد»، و«حبكة» في علاقاتها بالجمهور. مثل أوجستين، يريد بياجيه أن يقنِّع قراءه؛ يريد أن يقنعهم بنظريته وبتماسك هذه الحياة كما عاشها في ضوء نظريته. تتمثل الرسالة الشاملة للنظرية والحياة في فكرة بياجيه عن نظرية المعرفة، تفسيره لعقل يمثل التطور فيه العامل التفسيري الأساسي. بينما بدأ بياجيه توضيح أن الأهمية المعرفية المحورية لهذا العامل تنبعث من وظيفته الجوهرية في الارتقاء والتطور البيولوجي — وهو اكتشاف زعم أنه توصل إليه وهو شابٌّ صغير جدًّا — ونعلم من تحليل فونشي أن فكرة بياجيه عن التطور تتأصل في المقام الأول في نظرته إلى تطوره الخاص في مراهقته وشبابه. وهكذا يكون النسيج الأساسي لنظرية بياجيه عن التطور نظريته عن السيرة الذاتية، مفهومه الفعال في حياته الخاصة. تُدفَع هذه النظرية نفسها، طبقًا لرأي فونشي، بقوة أكبر: ذعر بياجيه طوال الحياة من أن يجنَّ، خوف رجل يتمتع بخيال جريء وأفكار جامحة من أن يصبح منطويًّا ومجنونًا، ومن ثم كان عليه أن يبقي فنتازياته التأملية تحت السيطرة من خلال بنية فكرية قوية.

إن فكرة الحياة وهي تتجلى، كما فحصناها أولًا في سرد السيرة الذاتية عند أوجستين والآن في شكلها عند بياجيه، تبدو في ضوء آخر. في تقديم مفهوم تطور ذكاء الإنسان من خلال سرد تطوره الفكري والخلقي، يمكن للمنظِّر أن يدعي أحقية في منزلة خاصة جدًّا بإبداع إطار تصوري يحقق متطلبات النظرية والحياة. ويبقى هناك، بالطبع، بُعْدٌ آخر لهذا الإطار التصوري يضيف إلى جاذبيته: تندمج الحياة وصحتها المفترضة فيما يسميه فونشي، وبيير بورديو Bourdieu، «بلاغة المعيار العلمي». حين يصاغ معنى الحياة الطيبة طبقًا لنماذج مميزة للذات المثالية مع منطق مميز لحقيقتها — وليكن بالقوة المتأصلة للعناية الإلهية أو العقلانية — تعتبر ذاكرة السيرة الذاتية عمومًا مصدرًا جديرًا بالثقة وغير ملتبس نسبيًّا لمعلومات عن الماضي. بشكل خاص في أعمال مثل أعمال أوجستين، حيث تسقط المعايير التي يضرب بها المثل من عيوننا، تظهر الذاكرة غالبًا بوضوح مشع وجديد من خلال نقطة تحول محوري، مقدمة بصيرة «فريدة» أو «أكثر عمقًا». كما يلاحظ برنر (في هذا المجلد)، نقط التحول المغيرة للحياة بهذا الشكل عناصر مجازية تحتل موقعها في معظم قصص الحياة. وكما نرى في السير الذاتية المتنوعة لبياجيه، حيث تتغير باختلاف الجمهور الذي تخاطبه، وبالتالي، باختلاف الحبكات التي تُعطَى حولها هذه الحيوات شكلًا ومعنًى. لكنَّ هناك أيضًا شيئًا فريدًا بشأن نقطة التحول الرئيسي في «اعترافات» أوجستين، أعني، تعتبر هنا، للمرة الأولى في التاريخ، وظيفة الذاكرة نفسها ذات أهمية حيوية في تصميم الهوية. في الفصل الشهير عن الذاكرة في «الاعترافات»، يكيل المديح للذاكرة، معترفًا بطريقة بالغة البراعة بتعقيداتها الكثيرة، لكن متعجبًا منها طوال الوقت. ضمن العجائب الكثيرة للذاكرة، ربما هناك واحدة تبدو الأكبر: أي شيء وكل شيء قد نتذكره، من أبسط الأفكار إلى أعمق المدارك الخلقية التي نوجه بها حيواتنا، موجودة قبل تجسدها فينا. وتتمثل المهمة في العثور عليها.

(٤) آفاق الحداثة وما بعد الحداثة

إنَّ مثالَي أوجستين وبياجيه، رغم اختلافهما الجوهري في أوجه كثيرة، يمثلان نسخًا قوية للتكامل السردي. في الطرف الآخر من المجال، في بعض أعمال السير ذاتية تعتبر الأحداث العارضة وما شابه لحظات مكملة وحاسمة، بدل أن تعتبر عرَضية أو محفِّزة — بشكل متطرف حقًّا، تعتبر المادة الحقيقية التي تشكَّلت منها الحيوات. هنا، إذن، نتناول شكلًا تاريخيًّا تمامًا، لا غائيًّا، لفهم الحيوات وتصويرها. يمكن أن ندعوه رأيًا جدليًّا أكثر عن الماضي، مع ذاكرة ترتبط بالطرق التي انهمك فيها المرء بشكل تفاعلي مع العالم، بما في ذلك الطرق التي تغير بها المرء، وهي تعمل بشكل غير متوقع خارج الذات. وقد اقترح البعض أننا نجد، في هذا الشكل الأكثر وعيًا بالتاريخ، أو الذي يحمل صبغة تاريخية للفهم، المجال التام لتأمل السيرة الذاتية وكتابتها (Weintraub, 1975). بدلًا من وجود ما يصل في النهاية إلى تنوعات في مجموعة مخططات، أشكال متنوعة لتحقيق غايات محددة بالفعل أو عدم تحقيقها، يوجد مجال أوسع بكثير لاحتمالات السيرة الذاتية، طرق لتحديد حركة الماضي الشخصي وتشكيل الهوية. وينبغي ملاحظة أن مفاهيم الذات تلعب دورًا مهمًّا في هذا السياق (Markus & Nurius 1986; Kerby 1991; Bruner 1997; Olney 1998). بالإضافة إلى ذلك، زعم كثير من الدارسين أن هناك ترابطًا وثيقًا بين مفهوم الثقافة للذات أو الشخص ومفهومها للزمن والتاريخ (على سبيل المثال، Greetz 1973; Mühlhäusler & Harré 1990; Kippenberg et al., 1990). ونظرًا لهذا، يمكن أن نرى مزيدًا من الترابط بين مجال النماذج الموجودة لتطور الفرد ومجال خيارات السيرة الذاتية التي تقدمها ثقافة معينة — مع تلك الخيارات تتأسس على استعارة التجلي كقاعدة عامة أكثر وضوحًا، وأكثر ثباتًا وتحديدًا، من تلك التي تتأسس على منظور جدلي.
يبدو أن ما حدث من اليونان القديمة حتى الحاضر — إذا كان لنا أن نخاطر بمخطط تاريخي فجٍّ وتأملي إلى حد ما — هو أن المفاهيم المبكرة للذات والتاريخ، المبنية على رؤى مثالية متفق عليها بشأن الحياة الطيبة، كما تجسدت في الشخصيات التاريخية من مواطن المدينة اليونانية، أب العائلة، والراهب الملتزم، والمحارب الشجاع … إلخ، تخلت عن مكانها تدريجيًّا لرؤى أكثر تفتحًا وجمعية وتنوعًا. من ناحية، يبدو أن هذه الرؤى والنسخ لحياة الإنسان تبتعد تمامًا عن الاعتماد على محاكاة النماذج. وهكذا يبدو أنه بينما كان هناك، في أزمنة موغلة في الماضي، ميل لوجود نماذج مثالية وسرديات حياة مثالية أكثر تحديدًا، تخلت النماذج عن موقعها، في عصر الحداثة وما بعد الحداثة خاصة، لصالح ذوات «متحررة من النموذج»، إذا جاز التعبير مع نمو هائل لسرديات الحياة المحتملة، دون أن تعتبر إحداها أكثر مثالية من الأخرى. على هذه الخلفية، يمكن أن نتوقع أن يقل الاهتمام بمشروع بناء الهوية إلى حد ما في كل الأحوال. ويبدو أن هناك عددًا كبيرًا من المناقشات تدعم هذا الرأي. استُخدِم جزء من معجم ما بعد الحداثة لمنح تماسك نظري له، وأشير، على سبيل المثال، إلى «نهاية السرديات الكبرى» — كثيرًا ما كانت قصة تشكيل الهوية الفردية أو الشخصية تعتبر من أول ما يجب أن ينتهي. ومن المؤكد أن مفهوم جيرجن Gergen (١٩٩١م) عن «الذات المشبعة» مرتبط بهذا السياق. وهكذا ظهرت حركات كثيرة جدًّا ضد فكرة الهُوية (أو ربما بشكل مناسب أكثر، باتجاه «مناهض للهوية») في علم الاجتماع والفلسفة ونظرية الثقافة، وخاصة، نظرية أدب الحداثة وما بعد الحداثة. بشكل مصاحب لمناهضة الهوية، ربما نفترض، مناهضة الكمال.
ومع أنَّ هذه الحركات كانت مهمة في تصويب مفاهيم للهُوية، مفاهيم أحادية ومتكاملة بوضوح، وأيضًا مفاهيم كلية واضحة تتعلق بالحياة الطيبة، إلا أننا نظن أن تحدي تحقيق مقياس التكامل السردي، كما يتجسَّد في عملية بناء الذات في السيرة الذاتية، لا يزال باقيًا. حتى رؤى ما بعد الحداثة للذات، مع هجرها الواضح لنماذج ثابتة للشخصية ومفاهيم أُحادية للهُوية، كثيرًا ما تضع أهدافًا وصورًا خلقية محددة تمامًا للحياة الطيبة. وربما نمضي بعيدا جدًّا لنقول إن أسلوب ما بعد الحداثة — في القصة والسينما والمعمار والفنون البصرية الأخرى، وأيضًا السرد «التقليدي» في السيرة الذاتية — يجادل في ذاته من أجل صورة جديدة، نسخة جديدة حقًّا، للحياة الطيبة. إن هذه النسخة، بشكل ينطوي على مفارقة، تنتج جزئيًّا عن الجهد المبذول للتبرؤ تمامًا من فكرة النموذج الحتمي المعياري، «سرد عظيم» — وهو جهد يتجلى رائعًا في كثير من الأعمال القصصية المعاصرة (انظر، على سبيل المثال، Francese 1997). ويبقى أن في التبرؤ من المسارات التقليدية وتبديدها، مسارات العقل الفردي والهُوية الفردية، يقدم هذا الجهد نفسه بوضوح، على ما نعتقد، مفهومًا خاصًّا تمامًا للتكامل السردي: ذات متفتحة وغير مركزية ومتعددة، وتبقى أصواتها المحتملة الكثيرة فردية بدرجة كبيرة ومحددة ذاتيًّا، تجسِّد حياتها المروية الرفض العنيد لنماذج الشخصية المقيدة والجوهرية.
يمكن أن نستكشف الكثير من السير الذاتية لما بعد الحداثة ونجد فيها فهمًا أكثر مرونة والتباسًا وشكًّا، للذات والذاكرة والتاريخ، أكثر بكثير مما كان موجودًا في الأزمنة الماضية. مرة أخرى، الحدود الغائمة بين الانغلاق والانفتاح، الواقع والخيالي، المعاني الفعلية والمحتملة، الزمن الذاتي والموضوعي، أمور مركزية في سرد ما بعد الحداثة — لكن علينا ألا ننسى أنَّ الحداثة الأدبية طورت معظم التقنيات السردية التي تؤسس هذه الرؤى (Brockmeier 1998). لكن يمكن لنا، الآن، أن يتوقع أن تُستخدَم مثل هذه التقنيات لسرد السيرة الذاتية بطريقة مركزة، ليس فقط لرفض الفكرة التقليدية عن هُوية شخصية جوهرية — أو على الأقل متمركزة حول الذات — في الزمان والمكان وإنكارها، بل أيضًا لاستدعاء منطق خلقي مؤسس على هذه الفكرة. ومهما يكن، يختلف مفهوم الحياة الطيبة الذي يظهر هنا، اختلافًا كبيرًا عن النسخ الشهيرة السابقة. إن التغيرات نفسها التي تحدث في العمر المحدود للمرء تكفي غالبًا في ذاتها لزعزعة سمات ماضيه والتشكك فيها، وهو ماضٍ ربما بدا ذات يوم ثابتًا.
مثال جيد لهذا النوع من التحول (مع أنه، من هذه الوجهة، لا ينتمي إلى ما بعد الحداثة في توجهه) ربما نجده في كتاب «جيل كير كونواي Conway» «الطريق من كورين» (١٩٨٩م). نتيجة لظروف متنوعة، بما في ذلك الإبعاد من وظيفة كانت مؤهلة لها بامتياز لأنها امرأة، فقد نشأت كونواي في ريف أستراليا، وتلقت تعليمًا جافًّا وبدت عمومًا في وضع مناسب لتضع بصمتها في وطنها، استيقظت منتفضة بشكل جذري لتحول نظرتها للماضي تمامًا. «لم أضمن أن تمكنني هذه المزية من اكتساب موضع في محاولة أردت القيام بها، كانت القرارات بشأن استحقاقي مبنية فقط على حقيقة أنني أنثى وليس على مواهبي … كانت مجحفة، مجحفة تمامًا.» وهناك ظهر دليل إضافي على الإجحاف والظلم أيضًا، في شكل آثار قديمة، رموز للاضطهاد في الماضي، مدفونة مباشرة تحت بيت عائلتها. وبالتالي، «لم أستطع قطُّ أن أتذكر صورة والديَّ يستريحان في المساء، يجلسان على درج الشرفة الأمامية في كورين، بالشكل نفسه مرة أخرى» (ص١٩١).

لقد بدأت ترى بصورة مزدوجة: من ناحية، «صورة ذهبية من الطفولة»، ومن الناحية الأخرى، اضطهاد من كانت حيواتهم معرضة لخطر رهيب بحيث لا يمكن أن تكون عائلتها مستريحة وآمنة، الآثار المسحوقة للماضي المدفون ربما تحت درج الشرفة نفسها. لم يكن لماضيها قط أن يرجع مرة أخرى كما كان. ولم يكن لها أن ترجع كما كانت. للمخاطرة بتكثيف كتاب دقيق جدًّا ورقيق ومثير للمشاعر إلى حبكة شديدة التبسيط، ما يحدث في النهاية هو: كونواي، نتيجة رفض الوظيفة بالإضافة إلى عدة ظروف وأحداث أخرى، لا نحتاج إلى تتبعها هنا، تجد نفسها في النهاية في أوج معضلة مؤلمة. يمكن أن تقوم بالشيء اللائق، «بِبنوَّة» وتبقى في أستراليا حيث ينبغي عليها أن تعتني بأمها المتوعكة، والصعبة جدًّا؛ أو تتبع قلبها وموهبتها، وتعتق نفسها من عالم كان يقيدها أكثر وأكثر، وتواصل دراسة التاريخ، ربما بعيدًا عن وطنها.

رغم تفضيلها للمسار الأخير، وهو مسار أكثر «حداثة» إلى حد ما، كان هناك في النهاية قدر كبير من الإحساس بالذنب والأسى والارتباك. تكتب كونواي: «لم تكن الرحلة، التي كنت على وشك القيام بها، تتواءم بدقة مع أي نوع أدبي كنت أعرفه.» رأت أنها مرَّت بأوقات صعبة وسعت إلى مخرج «لأنني لم أتكيف، ولم أتكيف قط من قبل، وما كان من المحتمل أن أتكيف». بجانب قصة البطلة كانت هناك قصة عن روح ضائعة، امرأة وجدت نفسها قلقة في بلادها، «وكانت ذاهبة إلى [بلاد] أخرى، لتبدأ كل شيء من جديد». وهكذا يكون انتهاء القصة مبهجًا بالكاد: «بحثتُ في عقلي عن سرديات تعاملت مع مثل هذه الهزائم الشاملة والكاملة»، تعترف بشعور بالذنب، «لكن لم أتوصل إلى شيء» (ص٢٣٦). وكونواي تتطلع إلى الخلف، إلى ماضيها وتحاول أن تتسق مع حياتها، لا تجد طريقة تغلف بها حركة تاريخها بدقة. لم تكن قديسة أو آثمة، كانت شيئًا ما في الوسط، شيئًا لم توجد له نماذج ولم تكن هناك سرديات جاهزة.

رغم أن سرد حياة كونواي، كما ذكرنا، لا يقع تحت نوع أدبي ينتمي إلى كتابة ما بعد الحداثة، إلا أن حياتها وقصتها تعكسان بوضوح عناصر حالة ما بعد الحداثة. يوضح كتاب كونواي وجود تفاعل متغير بشكل جوهري بين «الوسيلة» و«المشهد»، بين الموضوع وشروط وظروف ثقافية جديدة عليها أن تعيش في ظلها وتمنح معنى لحياتها؛ وهذا التفاعل يستدعي قدرات ومهارات «بنيوية» جديدة ترتبط بتشكيل الهوية. وهكذا يكون ما نراه في السيرة الذاتية لكونواي مفهومًا جديدًا للذات أكثر تفتحًا ومرونة، وأيضًا تحديًّا جديدًا لحكي قصتها. وتجد أيضًا الخصائص طريقها إلى السير الذاتية لما بعد الحداثة بشكل أكثر صراحة، في شكل أنواع جديدة من الخلافات أو الورطات أو المآزق، من شكوك لا يمكن تحديدها ضمن الأجناس التقليدية للتراجيديا، والرواية التعليمية، وقصة المغامرة، وسرد الانتصارات … إلخ. وكانت النتيجة مهمة: ونحن نتحرك إلى قلب حالة ما بعد الحداثة، ربما أصبح التحدي لتحقيق معيار للتكامل السردي، بعيدًا عن تجنبه، قويًّا. بالإضافة إلى ذلك، ربما سارت المحاولة الحقيقية للابتعاد عن الذات باتجاهها. كيف يمكن لنا، في وجه هذه المجموعة المتشعبة من الذوات المحتملة، أن نعرف اتجاهات أفضل طريقة يمكن أن نعيش بها؟ وكيف يمكن لنا، في وجه ضخامة مكتبة السرديات المحتملة، أن نحدد أفضل طريقة لحكي قصتنا؟ أحيانًا، قد يبدو أن «المسار الداخلي» هو المسار الوحيد الذي يجب السير فيه.

(٥) هويَّة السيرة الذاتية والنسيج السردي للحياة

جزء من سبب زعزعة ماضي كونواي، كما يَرد في سيرتها الذاتية، شخصي؛ أثارتها ظروفها وتحدياتها الفريدة لتعيد كتابة تاريخها وأيضًا فهمها لحقيقتها. لكن هذه الظروف والتحديات الفريدة، بعيدًا عن كونها شخصية فقط، تتشابك تمامًا مع ما أشرنا إليه من قبل بأنه النسيج الخلقي للعالم الاجتماعي — في الحالة الحالية، للعالم الذي تعيش فيه. جزء من سبب تدهور أمها بهذا الشكل، على سبيل المثال، أنه لم تكن هناك إلا مخارج قليلة متاحة للإبداع بين النساء المسنات. تكتب كونواي: «شجع المجتمع اعتماد المرأة عاطفيًّا على أطفالها» (١٩٨٩م، ص٢١١). ومن الأسباب التي جعلتها ترى درجات تلك الشرفة بأسلوب رعوى، يتَّسم بحنين أقل مما كان، أنها عرفت طرق ازدهار تراثها الثقافي الخاص على حساب الآخرين. وبالنسبة للصعوبة التي واجهتها كونواي تصور نوع القصة المطلوبة لتحكي عن وضعها، ولا شكَّ في أنها عمومًا نتيجة لحقيقة أن العالم الذي كانت تعيش فيه كان في خضم التغير، والشك في الكثير من هذه التقاليد والرؤى الراسخة لما يعنيه أن نعيش حياة طيبة.

وهكذا يدل الخطر الحقيقي الذي يحيق بقصة كونواي مع الذكريات التي تضمها على نوع من إعادة التقييم، والجيشان الذي ميَّز قدرًا كبيرًا من حياتنا في المجتمعات الغربية بعد تآكل الأشكال التقليدية للحياة، والتعبير عنها. علق جيرجن Gergen (١٩٩١م): «والمرء يتطلع إلى البحر في العالم المعاصر، يترك لحظات الصباح خلفه ببطء» و«يصبح من الصعب بصورة مطردة أن يستدعي بدقة الجوهر الحقيقي الذي ينبغي على المرء الوفاء له» (ص١٥٠). إن استخدام كلمة «يستدعي» هنا مجازي على ما يُفترَض. لكن هناك أيضًا، بشكل مثير للجدل، حس حرْفي أكثر يعتبر الاستدعاء فيه إشكاليًّا. تأمل في هذا السياق عملًا اعتبره الكثيرون من أمثلة أدب ما بعد الحداثة: رواية مايكل أونداتي Ondaatje «المريض الإنجليزي» (١٩٩٢م). لا شكَّ في أنها سردية — أو ربما، بتعبير أفضل، حزمة سرديات — تقدم نماذج إيحائية لما يمكن أن ندعوه «نصوص الذاكرة المفتوحة». يحكي أونداتي، في كتابه، عدة قصص عن تشابك أربع حيوات مختلفة تُقدَّم، بأشكال متنوعة من الفلاش باك، في تيارات متعددة من الذاكرة. عند نقطة معينة من التاريخ — في اللحظات النهائية من الحرب العالمية الثانية — نشهد لقاءً في فيلَّا مهجورة في إيطاليا، محادثة عن الحيوات وسرديات الحياة. وتتمركز الخطوط الكثيرة لهذه المحادثة حول «المريض الإنجليزي»، مقاتل مصاب بإصابات خطيرة، وحروق شديدة، تعالجه ممرضة كندية. تظهر عدة قصص مختلفة في أجزاء من محادثة بين أشخاص ينتمون إلى أمم وثقافات وتواريخ مختلفة، «ليسوا متأكدين قط مما يحدث، ومما ينبثق من الماضي» (ص٢٧٠). تدريجيًّا، وأبطال الحاضر يتشابكون معًا، تتميز أحداث ماضيهم الفردي — لتندمج مرة أخرى. بينما يقضي المريض المجهول المحتضر هذه الأيام بين الأحلام والهذيان الناجم عن المورفين، وصفاء سوداوي، تحاصره ذكريات تمزج صور الحرب والحب، العاطفة والموت، التاريخ والسراب. وكأن هذا لم يكُن كافيًا، هذا كله متضافرًا مع التأملات المتعرجة في طبيعة التذكُّر، الأوقات التي تعاد فيها باستمرار كتابة الذاكرة التاريخية والفردية. الكثير والكثير مما نفترض أنه خطوط حدودية ثابتة كلها وموضع ثقة بصورة ملتبسة.

يتبين أن المريض المجهول قضى سنوات جيولوجيًّا ورسام خرائط في الصحراء الأفريقية. ضد رغبته، تورط في أحداث الحرب، وفي النهاية تعرض لحادث اصطدام طائرة في الصحراء. والصحراء أيضًا هي الاستعارة المركزية في الكتاب عن التاريخ والذاكرة، وخاصة بدمج الذاكرة التاريخية والفردية. الصحراء، مثل الذاكرة، فضاء يجعل فقد الحس بالتمييز سهلًا. تمحو سطوح الرمال الجافة كل ما تفرضه الحضارة الحديثة من نظم الزمان والمكان. لكن الصحراء ليست مجرد رمال جافة. بالتحول من طبقة زمنية إلى أخرى، من طبقة جيولوجية إلى أخرى، يجد البطل نفسه ضمن ناس الماء. توضِّح العلامات المثيرة للحياة آثار الحضارات التي وجدت حين كان البحر يغطي الصحراء: رموز بنْية الطبقة الزمنية المكسورة، التاريخية والفردية. تصبح أحداث الماضي، على ما يبدو، جزءًا من حياة الحاضر، قوى طيِّعة ونشطة في تصميم الخبرة. ولا يكون تأثيرها على فعلنا وفكرنا وتخيلنا أقل قوة مما يحدث هنا والآن. ليس هناك تدرج هرمي معين في طبقات الذاكرة في عقلنا لأن مفهوم الزمن، المرشح الرئيسي لتقديم نظام مسلسل للأحداث، يبدو هو نفسه ناتجًا عن بناء. كل فرد في هذه الرواية يخلق باستمرار نظامه الجديد الناشئ عن السرديات التي نحاول بها دفع العناصر معًا من طبقات زمنية شخصية وتاريخية.

في محاولة فهم المونولوجات السرية للرجل المحترق، بلا وجه أو اسم أو هوية، يمكن أن نميل للتفكير في أن قصصه الممزقة، المرسومة من طبقات زمنية متباينة من حياته الخاصة ومن العالم الذي كان له معنًى بالنسبة له، صممت لتوضيح «نظرية» خاصة «بالسيرة الذاتية»، منظمة بطريقة ذات مرجعية ذاتية ربما يمكن أن ترتبط بدائرة بياجيه عن الحياة والتصور النظري. بالإضافة إلى ذلك، ندرك أن الذاكرة، من هذا المنظور — بقدر ما تبنى من اللغة وخلالها، وهكذا توجد تعددية للسرديات المتنافسة عن الماضي الشخصي — تجسد صراعًا للتفسيرات. تصبح نصًّا ملتبسًا وفي بعض الأوقات طلسمًا، يفتقر إلى نوع من التكامل الطبيعي كان يرتبط به غالبًا. ما يظهر في نهاية اليوم من هذا الالتباس ليس غياب النظام والمعنى والفهم، لكن رؤية جديدة للتكامل. هناك يظهر عالم، مثل الذاكرة والصحراء، يوجد دون الفصل المصطنع في الزمن الخطي، دون تخوم الفضاء السياسي، عالم تحرر من الحرب ومما — طبقًا لأصوات هذه المحادثة — أسبابها: المبادئ الغربية التقليدية الخاصة بالقيمة، كما تجسَّدت في نظام الدول القومية مع خلافاتها التي لا تنتهي على الحدود والاتفاق على تحديدها. يبدو أن هذه الصورة للتفتح وتلاشي الحدود هي الرؤية الأساسية التي تأتي مع سرد أونداتي. إنها رؤية قوية للحياة الطيبة.

ربما يكون من الجدير بالملاحظة أن مايكل أونداتي ينحدر من أصول تاميلية وسيريلانكية وهولندية. تعلم في إنجلترا، وهاجر إلى كندا؛ رجل عوالمه الثقافية متعددة. ونظرًا لهذا، قد نُغرَى بربط هذه التعددية «بيوتوبيا السرد» التي صممها في عمله، حيث نرى شعارات عالم يخلو من مبادئ التكامل، المرتبطة غالبًا بفكرة السرد. لا شكَّ في أن الرؤية التي نتعرف عليها في قصص الحياة المتجزئة في «المريض الإنجليزي» — ويتبين أنه الكونت المجري «لاديسلوس دي ألماسي» — لا يختلف فقط مع المفاهيم التقليدية للأمة والهويَّة القومية، بل يختلف أيضًا مع المبادئ المناظرة لتماسك السرد، والخطية الزمنية، والهُوية الشخصية. لكنه لا يختلف مع مفهوم التكامل السردي. إن النهايات الجديدة مع رسم خريطة «أنا» سردية (أو «أنا» سردية للمرء)، استغاثة للبطل المحتضر الذي يستدعى، مرة أخرى، تشبه أحلامه عن الحياة الشيوعية الطليقة للبدو «الذين ساروا في رتابة الصحراء ورأوا سطوع الإيمان واللون» (ص٢٦١). ويواصل، الآن من الموقع المتميز لموته الوشيك، عن حياته واهتماماته الأخيرة. «نموت وفينا ثراء العشاق والقبائل، مذاق ما ابتلعناه، أجساد غصنا فيها وسبحنا كأنها أنهار الحكمة، شخصيات تسلقناها كأنها أشجار، مخاوف خبأناها فيما يشبه الكهوف. أودُّ من هذا كله أن تكون هناك علامة على جسدي حين أموت. أؤمن بمثل هذا الرسم للخرائط — أن تميزني الطبيعة، لا أن نميِّز أنفسنا فقط على خريطة مثل أسماء الرجال والنساء الأغنياء على البنايات. إننا تواريخ مشتركة، كتب مشتركة. لسنا مملوكين أو أحاديين في مذاقنا أو خبرتنا. لم أردْ إلا أن أسير على أرض ليس لها خرائط» (ص٢٦١).

ونعتقد أن هذا النوع من الالتزام الخلقي يقف وراء مفهوم التكامل السردي ويكمل التكامل الشعري والجمالي القوي لنثر أونداتي. نرى بشكل أكثر عمومية أن مفهوم التكامل السردي، بدل أن يقتصر على أجناس معينة من سرد السيرة الذاتية والأشكال المرتبطة في بناء الهوية، قد يكون جزءًا من مشروع حقيقي لإضفاء معنًى مفهوم على الخبرة. وهذا، بالطبع، أسهل بكثير في حالة أوجستين وحالة بياجيه، حيث توجد «قيود» قوية — من الرب بطول الطريق إلى العقلانية العلمية — إلى هذا المشروع. لكنه ليس أقل وضوحًا في حالات من قبيل حالة كونواي وأونداتي، حيث القيود أقل إلزامًا.

نتيجة طبيعية لهذه الأفكار، نقدِّم فكرة إضافية قد تكون جديرة بالتأمل في السياق الحالي. في جزء كبير من البحث المعاصر في الذات، وخصوصًا في شرائح معينة من الأدب البنيوي الاجتماعي عن الذاكرة والسرد والثقافة فيما يتعلَّق بالسيرة الذاتية، توجد عدة فرضيات مترابطة. وتشمل فكرة أن تواريخ للحياة متقطعة ومتنوعة وعشوائية ومجزأة أكثر بكثير مما تخيلناها غالبًا؛ فكرة أن سرديات السيرة الذاتية مع الذوات التي تكتبها، في النهاية، بنى خيالية؛ والفكرة الأكثر عمومية، البارزة بشكل خاص في حكايات ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية، بأن الحياة ذاتها، بدل أن يكون لها أي معنى وشكل مميزين، تستمر ببساطة، بطريقة أو أخرى. وعلى هذا النحو، يعتبر أي معنى أو شكل يمكن أن يظهر في ذاكرة السيرة الذاتية، من هذا المنظور، ظنيًّا، فرض شكل على ما ليس له شكل أساسًا (انظر Freeman 1997). مرة أخرى، هناك معنًى معين فيه هذه الصورة للذات، وسرد السيرة الذاتية، وذاكرتها، قد تكون بمثابة تصحيح مهم للمفاهيم المبكرة. لقد ساعدت «على نزع جوهر» الثلاثة كلها، لتوضح أنها أقل ثباتًا مما افترض غالبًا ولا يمكن تشبيهها بعالم «الأشياء» الأساسية. بالإضافة إلى هذا، ساعدت هذه الصورة على جذب اهتمام أكبر بالطبيعة البنيوية للذاكرة وأيضًا للطريقة العميقة التي توضع فيها الذاكرة وتُكيَّف اجتماعيًّا. لكن مفهوم أن الحياة نفسها دون أي معنًى وشكل مميزين وأن الذاكرة بدَورها عبء ثقيل على تدفق الخبرة هو، كما ينبغي أن نعترف، رأي حديث تمامًا، يشهد في ذاته على نوع من الوسط الاجتماعي والخلقي الذي نستوطنه: وسط هو غالبًا دون معنًى وشكل مميزين، وسط يجعل غالبًا حَكْي قصة الذات إشكاليًّا بدرجة كبيرة، وسط يخلو من المبادئ المنظمة التي من دونها لا يكون هناك تكامل سردي. ونظرًا لهذا، ربما يكون من المفيد أن نرى في نظرات بنيوية اجتماعية معينة إلى الذات والسرد والذاكرة ظواهر هي ذاتها رمز لنسيج الحداثة.

بتشكيل هذه القضايا بطريقة أكثر إيجابية، نرى أنه مهما بدت «الحياة نفسها» بلا معنًى أو شكل — نتيجة التزامات فلسفية للمرء أو للنسيج الخلقي لوسطه الاجتماعي — فهي متشابكة تمامًا في النظام السردي ومقيدة تمامًا بمتطلبات ما أسميناه هنا التكامل السردي. وقد نفكر أيضًا في القضايا المتعلقة «بهدف» الحياة، سبب وجودها. وكما اقترح مارسيل (١٩٥٠م): «لا أستطيع التحدث عن حياتي دون أن أسأل عن هدفها، أو حتى إن كانت تسير في أي اتجاه عمومًا؛ وحتى إن قررتُ أنها عملية بلا هدف، لا تشير إلى أي مكان، تبقى حقيقة أنني أثرت السؤال الذي يسلم بفرضية أن الحياة، في بعض الحالات على الأقل، قد يكون لها هدف» (ص٢١٢). وكقاعدة عامة، يتضمن كلام مارسيل، أنه مهما بدت حياة معينة بلا هدف أو غاية، مهما بدت خالية من الشكل والمعنى، لا مهرب سواء من النظام السردي أو متطلبات التكامل السردي.

ربما نصادف استثناءات لهذه القاعدة. يبدو أن بعض أنواع الفصام، مثلًا، تعوق نظام السرد بشكل مؤثر، تعلق المصاب في جحيم بلا زمن، خال تمامًا من الشكل القصصي (Sass 1992). يبدو أيضًا أن خبرات السأم أو الضجر الشديد تفعل ذلك (Carr 1986). لكن هذه الاستثناءات تشهد، أكثر من أي شيء، على الاستمرارية بين «الحياة نفسها» والسرد. لكن أليس هذا المفهوم، الاستمرارية بين الحياة نفسها والسرد، إشكاليًّا في ذاته؟ ألا يعتمد، أساسًا، على فرضية أن الحياة والسرد ظاهرتان مستقلتان، كلٌّ منهما معزولة عن الأخرى، في انتظار أن يصهرهما العقل معًا؟ وألا يتضمن هذا، بدَوره، أن سرد الخبرة يستلزم فرض شكل على ما يبدو بلا شكل أساسًا؟ اعتمادًا على ما قلنا، نأمل أن نقدم طريقة مختلفة، أكثر راديكالية، لصياغة القضايا المطروحة. فكرة أن الحياة متشابكة دائمًا مع الفعل في نسيج السرد. ونتائج هذه الصيغة مزدوجة. الأولى، نرى أنه لا توجد طريقة للحديث عما تعنيه حياة، عن حقيقة حياة، بعيدًا عن السرد. والفكرة الثانية أن عيش الحياة وحكيها ليسا مختلفين كما افتُرِض تقليديًّا. وهكذا نأمل في الحديث عن هُوية السيرة الذاتية فيما يتعلق بالنسيج السردي للحياة.

في الختام نعود إلى المقولة الأولى التي طرحناها في بداية هذا المقال. كانت هذه المقولة، كما يمكن أن تتذكر، أن فكرة التكامل السردي، بدل أن تكون محدودة في المجال بنوعية شكل أو نسبة — أي بالبعد الجمالي — تشمل الجمالي والخلقي في وقت واحد. وفي ضوء ما اقترحناه للتوِّ بشأن النسيج السردي للحياة، من الواضح أن فكرة التكامل السردي تشمل أيضًا العيش والحَكي. مِن وجوه مهمة، وظيفته ربطهما معًا، لتوضيح أنه ليس هناك، في النهاية، حياة بعيدًا عن قصص تُحكى عنها وليست هناك قصص بعيدًا عن العالم الخلقي. ومن ثَم يمكن اعتبار التكامل السردي فضاء تصوريًّا يلتقي فيه هوية السيرة الذاتية ومعنى الحياة الطيبة.

المراجع

  • Augustine (1980), Confessions, New York: Penguin.
  • Blumenberg, H. (1986), Lebenszeit und Weltzeit [Life time and world time], Frankfurt am Main: Suhrkamp.
  • Brockmeier, J. (1995), The language of human temporality: Narrative schemes and cultural meanings of time, Mind, Culture, and Activity, 2, 102–118.
  • Brockmeier, J. (1997), Autobiography, narrative and the Freudian conception of life history, Philosophy, Psychiatry, & Psychology, 4, 175–200.
  • Brockmeier, J. (1999), Autobiographical time: Between the modern and the postmodern experience, Paper presented at the Twenty-Third Annual Colloquium on Modern, Literature and Film “Representing Identities: Biography and Autobiography,” Morgantown, West Virginia University.
  • Bruner, J. S. (1993), The autobiographical process, In: R. Folkenflik (Ed.), The culture of autobiography (pp. 38–56), Stanford, CA: Stanford University Press.
  • Bruner, J. S. (1996), Frames for thinking: Ways of making meaning, In: D. R. Olson & N. Torrance (Eds.), Modes of thought: Explorations in culture and cognition (pp. 93–105), Cambridge: Cambridge University Press.
  • Bruner, J. S. (1997), A narrative model of self-construction, In: J. G. Snodgrass & R. L. Thompson (Eds.), The self across psychology: Self recognition, self-awareness and the self concept (pp. 145–161), New York: New York Academy of Science.
  • Carr, D. (1986), Time, narrative, and history, Indianapolis, IN: Indiana University Press.
  • Conway, J. K. (1989), The road from Coorain, New York: Alfred A. Knopf.
  • Foucault, M. (1973), The order of things, New York: Vintage.
  • Francese, J. (1997), Narrating postmodern time and space, Albany, NY: State University of New York Press.
  • Freccero, J. (1986), Autobiography and narrative, In: T. Heller, M. Sosua, and D.E. Wellberg (Eds.), Reconstructing individualism (pp. 16–29), Stanford, CA: Stanford University Press.
  • Freeman, M. (1993), Rewriting the self: History, memory, narrative, London: Routledge.
  • Freeman, M. (1997), Death, narrative integrity, and the radical challenge of self-understanding: A reading of Tolstoy’s “Death of Ivan Ilych”, Ageing and Society, 17, 373–398.
  • Freeman, M. (1998), Mythical time, historical time, and the narrative fabric of the self, Narrative Inquiry, 8: 1–24.
  • Geertz, C. (1973), The interpretation of cultures, New York: Basic Books.
  • Gergen, K. (1991), The saturated self: Dilemmas of identity in contemporary life, New York: Basic Books.
  • Gurewich, A. (1995), The origins of European individualism, Oxford: Blackwell.
  • Gusdorf, G. (1980), Conditions and limits of autobiography, In J. Olney (Ed.), Autobiography: Essays theoretical and critical, Princeton, NJ: Princeton University Press.
  • Hart, F. R. (1969-1970), Notes for an anatomy of modern autobiography, New Literary History, 1, 485–511.
  • Kerby, A. P. (1991), Narrative and the self, Bloomington, IN: Indiana University Press.
  • Kippenberg, H. G., Kuiper, Y. B., and Sanders, A. F. (Eds.) (1990), Concepts of person in religion and thought, Berlin & New York: De Gruyter.
  • Koselleck, R. (1985), Futures past: On the semantics of historical time, Cambridge, MA & London: MIT Press.
  • Marcel, G. (1950), The mystery of being, Vol. 1, Chicago, IL: Henry Regnery Company.
  • Markus, H., & Nurius, P. (1986), Possible selves, American Psychologist, 41, 954–969.
  • Most, G. W. (1989), The stranger’s strategem: Self-disclosure and self-sufficiency in Greek culture, Journal of Hellenic Studies, CIX, 114–133.
  • Mühlhäusler, P., & Harré, R. (1990), Pronouns and people: The linguistic construction of social and personal identity, Oxford: Blackwell.
  • Olney, J. (1998), Memory and narrative: The weave of life-writing, Chicago, IL: University of Chicago Press.
  • Ondaatje, M. (1992), The English patient, Toronto et al.: Vintage Books.
  • Proust, M. (1919), A la recherche du temps perdu, A l’ombre des jeunes filles en fleur, Première Partie: Autour de Mme Swann, Paris: Gallimard.
  • Ricœur, P. (1991), Narrative identity, In D. Wood (Ed.), On Paul Ricœur: Narrative and interpretation, London & New York: Routledge.
  • Rorty, R. (1979), Contingency, irony, and solidarity. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Sass, L. (1992), Madness und modernism: Insanity in the light of modern art, literature, and thought, New York: Basic Books.
  • Taylor, C. (1989), Sources of the self, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Vernant, J. P. (Ed.) (1995), The Greeks, Chicago, IL: The University of Chicago Press.
  • Vonèche, J. (1999), Identity and narrative in Piaget’s autobiographies (In this volume).
  • Watt, I. (1996), Myths of modern individualism, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Weintraub, K. (1975), Autobiography and historical consciousness, Critical Inquiry, 1. 821–848.
  • Widdershoven, G. A. M. (1993), The story of life: Hermeneutic perspectives on the relationship between narrative and life history, In R. Josselson & A. Lieblich (Eds.), The narrative study of lives (pp. 1–20), Newbury Park, CA: Sage.
١  في الأصل ٤٢–٤٩، والخطأ واضح. (المترجم)
٢  دياكروني diachronic: ما يهتم بالظواهر، خاصة ظواهر اللغة، وهي تتغير عبر الزمن. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤