الفصل السابع

سرديات الهوية القومية بوصفها سرديات جماعة أنماط المعرفة التفسيرية١

كارول فليشر فيلدمان
بدأ هذا البحث بلُغزٍ. ماذا يجري في صناعة القرار القومي الأمريكي وطرق الحديث عنها؟ بدا شيء ما خطأً في النمط القومي للسرد، طريقة مكررة لحكي قصص بدا أنها تصنف كل الأحداث الخاصة بتجريد عام استهلكها بدل أن يلقي الضوءَ عليها. ماذا كان النمط العام للسرد؟ من أين أتى؟ ولماذا انتشر على هذا النحو؟ لماذا هو استهلاكي إلى هذا الحد؟ وما المبادئ العامة في علم النفس، إن وجدت، التي يتضمنها؟ هذه السلسلة من الأسئلة قادتني إلى سلسلة أسفار طويلة بعيدًا عن حلبتي المألوفة — ومن أبرزها التاريخ الأمريكي، ودراسات الثقافة الشعبية، وخاصة أفلام الغرب. وساعدني كثيرًا دارسون أضاءوا بشكل رائع كل هذه المناطق العديدة — ترنر Turner (١٩٦٢م) عن التخوم الأمريكية، ورايت Wright (١٩٧٥م) وكويلتي Cawelti (١٩٨٤م) عن الغرب، وخاصة سلوتكين Slotkin (١٩٩٣م)، الذي وضعهم معًا أمامي. لكن انشغالي الخاص باستمرار كان بمعرفة هذه المسائل، وهذا ما يتناوله هذا البحث.

أحلِّل فقط السرديات الأمريكية الخاصة بالهوية القومية، لكنني أتخيَّل أن السرديات القومية، على الأقل في هذا القرن، في أماكن أخرى كانت مماثلة من وجوه معينة. مبدئيًّا، أفترض أن كل السرديات القومية قصص تعرف الجماعة عادة من حيث إنها (أ) نمطية جدًّا، (ب) وتؤثر أيضًا على شكل السيرة الذاتية الشخصية، (ج) وتتوغل باعتبارها معرفة لتمثل أداة ذهنية لتفسير الأحداث.

فيما يلي أحاول أن أوضح أنَّ هذا الوصف مناسب بالنسبة للسرد القومي الأمريكي، وأثق بأنه، بقدر ما يصح، سيكون من الصواب أن نعزوه إلى آخرين كثر. لكن، بالطبع، كل سرد قومي مختلف، وسيكون هناك الكثير من الخصائص، ومنها خصائص مهمة، غير مشتركة في كثير من السرديات القومية. تأمل، على سبيل المثال، أسلوب الزخرفة. ربما يكون لقصص الهوية القومية جنس أدبي مميز، لكن لا بدَّ أن يختلف كل جنس أدبي يتم اختياره. ربما نجد تراجيديا في مكان، وقصة حب في مكان آخَر. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون لهذه الاختلافات نتائج مهمة بالنسبة للمسائل الأخرى في الحالة العامة، وخاصة الجنس الأدبي الخاص ببناء الذات، والنمط المعرفي الخاص للتفسير المطبق عمومًا في الأمور الحالية.

أبدأ بالحالة العامة، منتقلًا إلى دراسة سرد تعريف الجماعة لأقدِّم مثالًا له؛ ثم إلى أنماط قصة الهُوية القومية الأمريكية، بشكل عام وخاص. وأخيرًا، أتأمل قليلًا في الاختلافات بين سرديات الهُوية القومية، بوصفها حالة عامة، من الأنواع الأخرى لقصة تعريف الجماعة.

(١) سرديات الجماعة: جماعات المسرح

من الواضح أن سرديات الجماعة لا بدَّ أن تختلف اختلافًا كبيرًا في تفاصيل الحبكة، والظروف التاريخية لكل منها مميز بالضرورة، لكن الأقل وضوحًا أنها تختلف غالبًا في الجنس الأدبي، حتى حين تكون الجماعة قائمة بالطريقة نفسها في عالم الواقع وفي الركن نفسه منه. في بحث سابق ذكر برنر وفلدمان (١٩٩٦م) دراسة عن فرق المسرح التجريبي في مدينة نيويورك. كشفت تحليلات المقابلات التي أجرياها اختلافات مذهلة على مستوى الجنس الأدبي بين الجماعات حتى لو تشابهت تمامًا أوضاعهم في الواقع. كانت العوامل المشتركة بينها ما يلي: التحقوا جميعًا بالجامعة نفسها، وتخرجوا في السنة نفسها، اجتمعت الجماعات الثلاث كلها على أساس صداقة نشأت في المدرسة؛ وواجهوا جميعًا المشاكل التي يواجهها المسرح غير التجاري في نيويورك فيما يتعلق بالمال والمساحة والجمهور. لكن رغم اشتراكهم في واقع عام، إلا أن سردهم له كان متميزًا. حكتْ جماعة، نسميها «طلاب اللاهوت»، قصتها بوصفها بحثًا، نوعًا من الرومانس. وحكتْ أخرى، نسميها «المتدربين»، قصتها بوصفها رواية تعليمية، حكاية عن التطور الشخصي و«التنشئة». في طوبولوجيا نورثروب فراي Frye (١٩٥٧م) للأجناس الأدبية؛ ولم يكن من الممكن أن تكون هاتان الحكايتان أكثر اختلافًا: تنتمي الأولى إلى نمط المحاكاة الرفيعة، والثانية إلى نمط المحاكاة المتدنية.٢ طبقًا للتمييز الأساسي لفراي، في المحاكاة الرفيعة بطل متفوق وهو في جنس الرومانس (وفي الأسطورة إذا كان البطل سماويًّا)، وفي المحاكاة المتدنية بطل عادي يؤدي إلى ظهور الكوميديا والقصة الواقعية الحديثة. وبالمناسبة، توقع فراي ملاحم قومية ضمن جنس الرومانس، وهي مسألة نعود إليها فيما بعدُ.

يحكي «طلاب اللاهوت» هذه القصة: «نحن جماعة صغيرة محدودة من الممثلين، مجموعة، نشترك في التقنية وفي فلسفة مسرحية تعلمناها على يد مؤسس الجماعة واستمرت على يد المخرج. نؤمن بمبادئنا العامة منذ يوم تأسيس الجماعة.» لهذا السرد عن التفاني، مجسدًا في سرد غني بالأحداث في المكان والزمان، مذاق الرحلات في مهمة روحية (ناجحة)، قصة بحث. وتمثل قصة «المتدربين» مقابلة حادة. إنها قصة جماعة تمكن أعضاؤها، وكانوا في جماعة بفضل الزمالة، من تحقيق تطور شخصي بوصفهم فنانين، وكانوا جميعًا تحت جناح قائدَي الجماعة (مخرجين تنفيذيين) اللذين يقدمان لهم الفرص لتحسين أنفسهم واختبارها، رواية تعليمية.

ذُهِلْنا باختلافات الجنس الأدبي بين الجماعات. لكنَّ الجماعتين كانتا مؤثرتين. لكن سرد هُوية الجماعة ليس مجرد تقرير عما يفعله الناس، لكن أيضًا عن كيف تفعله، وعن العلاقات بينهم. كانت الجماعات الثلاث كلها تحاول أن تطور مقاربتها الخاصة للمسرح، كل جماعة بطريقتها. كانت أفكارهم مختلفة بشأن المهم في المسرح، وعن علاقته ببعضه، وكانت جماعة «المتدربين» ذات طابع عائلي جدًّا. وكانت أهمية العاملين مختلفة نسبيًّا — نظرية بالنسبة لجماعة «طلاب اللاهوت»، وعلاقات بالنسبة لجماعة «المتدربين». وكان على الجنس الأدبي الذي بنَوه أن يأخذ كل هذه المسائل في الاعتبار إذا كان له أن يؤثر بوصفه نموذجًا تفسيريًّا للنوع الخاص بهم فيما يتعلق بالخبرة المشتركة، أي النمط المشيد الخاص بهم فيما يتعلق بالمعاني.

الاعتبار الثاني هو العلاقة بين السيرة الذاتية الشخصية وقصة الجماعة. كيف يكون التماثل أو الانسجام المتوقع بينهما؟ أي من الاثنين الأول أو الأساسي أكثر، وبشكل أكثر عمومية، ما العمليات التي تنتقل بها السرديات من الداخل إلى الخارج، أو من الخارج إلى الداخل؟

المسألة ليست أوضح على المستوى النظري أو الميتانظري مما هي عليه على المستوى الإمبريقي. ينسب أنطوني كوهين (١٩٩٤م) لعلماء الاجتماع الرأي القائل بأن الذوات الفردية مجرد نسخ داخلية للثقافة الاجتماعية، ورأى علماء النفس عكس هذا الرأي، حيث البنية الاجتماعية مجرد إسقاط للحياة الذهنية الخاصة. بينما قد يقلل رأي علماء النفس من أهمية الجماعة باعتبارها حاملًا للبنية، ويثير في الحقيقة سؤالًا بشأن محاولة الأفراد باستمرار وضع قصة عن الذات غير ذاتية٣ قابلة للمشاركة، وربما يبدو الرأي السوسيولوجي أرويليًّا٤ بشكل إيجابي. ويمكن أن يثير الارتياب في أن حكايات الجماعة يمكن أن تستحوذ على عقول الأفراد وتسيطر عليها. وربما تكون هذه هي الحالة أحيانًا، لكنها قد تكون الاستثناء، إنها حالة مفزعة، لكنها ليست القاعدة.

لحل لهذه المقولات المتنافسة عن شرعية ميتافيزيقية فريدة يقترح كوهين بناء منظور أكثر رمزية عن حكايات الذات، في وسط يمكن أن تتقاسمه أنماط الجماعة والأنماط الشخصية، في وقت واحد. ويصبح الاختلاف الذي لا يمكن اجتيازه بين الالتزامات الأنطولوجية المتنافسة للأفراد أو الجماعات مجرد مشكلة لا تثير الاهتمام، تشبه مشكلة البيضة والدجاجة بشأن قصة تعاد كتابتها مرات كثيرة.

إننا ربما نكتب غالبًا وننقح قصصنا الجماعية والشخصية في الوقت ذاته. وكانت هذه هي الحال بوضوح بالنسبة لجماعات المسرح التي أجرينا مقابلات معها، لأنه لم تكن هناك جماعات لها وجود سابق على تشكيلها، وقد تشكلت قصص الجماعة في الوقت ذاته الذي تتشكل فيه حياة كل ممثل بوصفه ممثلًا يولد. بالطبع، هناك قدر كبير من المادة الثقافية الخام لكتابة كل منها — المعرفة المسرحية، والأدب، وحتى الأسطورة. وقد قدمت هذه المادة الثقافية معجمًا تفسيريًّا لكل من القصص الجماعية والفردية. وأنارت كل قصة الأخرى، ربما أنارت قصة الجماعة قصة الفرد بإضفاء الصفة الذاتية عليها، وربما أنارت قصة الفرد قصة الجماعة بالإسقاط. على أية حال، ضمن «طلاب اللاهوت»، الذين واصلوا جميعًا البحث نفسه معًا، كانت القصص الجماعية والفردية متماثلة بصورة مذهلة، بينما ضمن «المتدربين»، كان النوعان مختلفين تمامًا مثلما كانت قصة كل فرد مختلفة عن قصص الآخرين بروايتهم التعليمية الشخصية.

كان كل «طلاب اللاهوت» في البحث ذاته. وقد قصوا حتى خبرة الجماعة بضمير المتكلم الجمع، وبها معجم مشترك بصورة أكبر، وتسلسل حبكة أكثر اتساقًا عبر الأعضاء. وليس من المدهش أن يكون لحكايتهم عن الارتباط بين الفرد والجماعة أساس خلقي. يرى طلاب اللاهوت أن جماعتهم تتبنى مجموعة مبادئ، وهي مبادئهم الشخصية أيضًا. الحدود بين الذات والجماعة ليست مطموسة، لكن الجماعة والأفراد في انسجام تام. في المقابل، كان كل فرد في جماعة «المتدربين» يعمل على إتقان مهارات تمثيلية مختلفة، غالبًا بمفرده، وكذلك في أوقات مختلفة، وبطرق مختلفة. كل ما كانوا يشتركون فيه هو أسرة الرواد (الآباء) والأعضاء (الأبناء) التي سمحت لهم بالنمو، واحتمالية النمو. وحيث رأى معظمهم أن هذه المهمة ناقصة، فقد بقوا متباينين في نهاية السرد.

لاحظ أن الجنس الأدبي لا يصمِّم الحكي ويؤثر على شكل السيرة الذاتية الفردية فقط، لكنه أيضًا بمثابة بنية معرفية للخبرة، وهي النقطة الثالثة التي أود تناولها بشأن سرديات الجماعة عمومًا. كما يقول ريكور (١٩٨٥م): «قد يُعزى نظام [الحبكة] إلى المخيلة المثمرة التي يكوِّن بالنسبة لها النزعة التخطيطية» (ص١٩). إن سرديات الجماعة أدوات تكوِّن واقع الجماعة، وتكوِّن، في الوقت ذاته، طريقة تفكير كل عضو.

طريقة التفكير التي تدعو إليها المعرفة السردية تفسيرية. إنها شكل من التفكير ينسب المعنى لخبرات أو أحداث معينة بوضعها في نمط سردي. وبتقديم إطار تفسيري مشترك لخبرة أعضاء الجماعة، تبدِّع سرديات هُوية الجماعة البيئة التفسيرية للمشاركة في المعنى.

توجد احتمالات لسرديات تعريف الجماعة بقدر وجود أنواع معبرة عن الانتساب إلى جماعة في الخبرة البشرية. إن معظم الحيوات في الحياة الغربية الحديثة يثريها انتساب متعدد للجماعة — للأسرة، للحي، لمجموعة العمل، للأمة، مكتفين بذكر بعض الأمثلة القياسية. يحمل الكثير من هذه الأنواع من الانتساب في داخله قصة لتعريف الجماعة. يمكن أن يتكرر ظهور حدث معين لشخص مفرد فيما يتعلق بسرديات هوية الجماعات المختلفة، وبتأثيرات متباينة. على سبيل المثال، يمكن أن يكون لترقية في عمل معانٍ مختلفة في قصة أسرة واحدة، وقصة مكان عمل المرء. يمكن أن تكون نقطة تحول في قصة ولا تكون في الأخرى، أو لحظة مجد في قصة واغتراب في الأخرى. تقودنا الأطر السردية المتعددة إلى معانٍ متعددة، في آفاق سردية متعددة يمكن منها رؤية الحدث. يمكن أن يكون هذا تقوية وتحريرًا، أو إرباكًا ببساطة. ومن المحتمل جدًّا أن يعتمد هذا على مدى إدراك المرء لأطر القصة التي تُستخدَم، وكيف تتلاءم هذه الأطر مع ميتا سرد meta-narrative أوسع عن الهوية، وهو أمر خارج مجال هذا البحث.

(٢) السرد القومي الأمريكي

السرد القومي الأمريكي، مثل الأنواع الأخرى من قصص تعريف الجماعة هو (أ) نمطي، (ب) يؤثر على السيرة الذاتية الشخصية، (ج) يمثل أساسًا معرفيًّا للتفسير.

أعود أولًا إلى النمط. يسمى توم إنجلردت Engelhardt (١٩٩٥م) كتابَه عن الهُوية القومية الأمريكية «نهاية ثقافة الانتصار». إنه يرجع نسختنا الأمريكية عن الذات إلى حكاية أسطورية، والآن تتجسَّد، بطريقة ما، حكاية أخرى، لكنها تبنى عادة لتناسب حبكة يسميها حبكة «المنتصر».٥ يصف هذا السرد سيناريو توضع فيه التحديات وتواجه وتقهر، بضمان خلقي بنصر يدمر العدو بحسم دائمًا. السرد رومانس نموذجي فيما يتعلق بالجنس الأدبي: بطل متفوق يواجهه خصم أقوى بكثير، لكنه أدنى خلقيًّا، حيث تدور معركة تبلغ الذروة في النهاية بعد سلسلة مغامرات أقل. وهو، بالإضافة إلى ذلك، يشترك في هذه الخاصية الرومانسية: جدلية الأضداد. يقول فراي Frye (١٩٥٧م) إن «الشكل المركزي للرومانس جدلي: يتم تركيز كل شيء على نزاع بين البطل وعدوه، وترتبط كل قيم القارئ بقيم البطل» (ص١٨٧). تتطلب حبكة المنتصر الغربي ضرورة أن يكسب البطل في النهاية، مما يؤدي إلى انتقاء جنس فرعي معين من الرومانس: البحث. وهكذا يتشكل السرد الأمريكي بالجنس الأدبي والحبكة. الحبكة مميزة، يسميها إنجلردت (١٩٩٥م) حبكة «المنتصر». والجنس الأدبي نوع خاص من الرومانس، بحث.
هذا هو نمط السرد الأمريكي القانوني: الغربي الكلاسيكي. غلاف كتاب إنجلردت مزين بلوحة بوب متوهجة لراعي بقر وحيد يطارد هنديًّا في براري الغرب — لوحة تماثل تمامًا اللوحات التي زينت غلاف «روايات الدايم»٦ حين ظهر السرد الغربي أول مرة.

الآن عليَّ أن أنحرف قليلًا لأتحدث عن تاريخ الغرب وتطوره التالي. نعود إلى تأثيرات هذه القصة على السيرة الذاتية الفردية كما يقدمها طلاب الجامعات الأمريكية اليوم، ثم إلى كيفية تأثيرها بوصفها نظامًا معرفيًّا.

رغم أن «الغرب» يبدو قانونيًّا اليوم، إلا أنه ظهر حديثًا تمامًا كجنس أدبي شعبي، قرب نهاية القرن الماضي.٧ ومن المهم أنه كان إنتاجًا تجاريًّا منذ البداية. يرده سلوتكين Slotkin (١٩٩٣م) إلى رومانس أكثر عمومية: قصة التخومي frontier. يلاحظ أن كلًّا من رومانس التخوم والغرب الشعبي صارا مهمين بعد بداية اختفاء الحقائق التاريخية التي تقف وراءهما. يقول فراي (١٩٥٧م) إن الرومانس جنس أدبي لإشباع الرغبة، جنس يحدث في عصر ذهبي وينظر غالبًا إلى الماضي بشغف، وهكذا فإن التوقيت المذكور من قبل صحيح في الحقيقة.
حصل السرد الغربي على دفعة شعبية هائلة من «بفلو بل» (وليم كودي)،٨ وعرض «الوايلد ويست». وطبقًا لرأي سلوتكين (١٩٩٣م، ص٦٩–٨٧)، كان وليم كودي رائدًا لأعمال كثيرة متنوعة حتى عام ١٨٦٩م، وفي ذلك العام صار مستكشفًا شعبيًّا شهيرًا بالنسبة للصيادين المحترمين من الشرق. كتب روايته الأولى في ١٨٦٩م، ومسرحيته الأولى في ١٨٧١م. ونشأ عرض الوايلد ويست من هذا، وبعد سنوات كثيرة من التجوال، فتح معرضًا باسم «الوايلد ويست» في ميدواي Midway بالقرب من المعرض الكولومبي في شيكاغو، وكان جزءًا منه على ما يبدو، في ١٨٩٣م. وكان هناك رعاة بقر وهنود وجياد في المعرض، وقد عرضت مسرحيات كودي مع هذه الشخصيات على المسرح. وأصر كودي على أن «الوايلد ويست» لم يكن معرضًا، بل مكانًا. أو إن معرضه كان جزءًا من الواقع نفسه. ويلاحظ سلوتكين أن فكرة أنه كان هناك تقدم من الجامح إلى المنظَّم على مستوى المؤسسات هيمن على مثل هذا التفكير عن الرائد، مثل تفكير تيودور روزفلت في كتابه «فوز الغرب»، كان يمثل أيقونيا على الميدواي نفسه. وكان «الوايت سيتي White City» نهاية الطريق الطويل، مكانًا لنظام هارموني كامل، بداية «الوايلد ويست».
وكان كودي نفسه شخصية لا تُصدَّق، مربكًا ليس فقط في منتجاته التجارية، لكن حتى في شخصيته، القصصية والحقيقية. يكتب سلوتكين (١٩٩٣م، ص٧٢) أنه بعد أن حقق كودي نجاحًا مسرحيًّا معينًا، وبالتالي، ومن المحتمل، باعتباره ممثلًا للغرب البري، دُعِي للمشاركة في المعركة بين السيوكس والشايان الشماليين٩ التي وقعت في ١٨٧٨م. متأخرًا نتيجة انشغالاته المسرحية في «ظهر الشرق»، وصل متأخرًا ووحيدًا ووجد نفسه مع هندي منعزل في وادٍ مفتوح. مرتديًا ملابسه المفضلة، ملابس من القطيفة وشرائط؛ ذبح الهندي، ونزع فروة رأسه، وحمل الفروة إلى معسكر الجيش، قائلًا إنه «من أخذ أول فروة من أجل كستر».١٠ وبالمناسبة، أخذ معه الفروة والقصة إلى ظهر الشرق، حيث كانتا بمثابة معرض ومسرحية على المسرح في «الوايلد ويست». قام كودي بدَور «بافلو بل»، «ذبح» ممثلًا يلعب دَور الهندي ثم، في لحظة انتصار التمثيل الدرامي، أثار جمهوره بالقبض على ما يعرفون جميعًا أنها فروة حقيقية من حدث فعلي موصوف في المسرحية.

رغم أن «الغرب» لم يصبح سردًا شعبيًّا مهمًّا حتى تسعينيات القرن التاسع عشر، إلا أن له جذورًا منتشرة في الماضي. في الكتابة التاريخية الشعبية عن التخومي، وفي الأدب الذي يتناول جذورنا التاريخية القومية — البحث عن الحرية، حرب الاستقلال ضد الاضطهاد البريطاني. الكلمات المثيرة للشخصيات التاريخية في تلك الأزمنة: «أعطني الحرية أو أعطني الموت»، قال الأمريكيون في تسعينيات القرن التاسع عشر، وحققوا ما سعوا إليه. خلقت استثنائية هذه الأصول وشعبيتها وتفوقها أرضًا خصبة «للغرب» وجنسه الأدبي النموذجي وأنماط الحبكة.

حتى وقت حديث، أي حتى الهزيمة الأمريكية المحيرة في حرب فيتنام، طبقًا لرأي إنجلردت، ثمة شيء ما، كل شيء في الحقيقة، سار بشكل خطأ فيما يتعلق بسرد الهوية الأمريكية. طبقًا لرأي إنجلردت، تغذى أيضًا ضياع سردنا المميز على مصدر آخر، ألا وهو تفكك المجتمع الأمريكي. في التعددية الثقافية الجديدة التي بدأت تقريبًا في الوقت ذاته، بدأ كثير من الجماعات الأمريكية الفرعية، في جزء من تعريف هويات جماعاتهم الفرعية، الانفصال عن السرد القانوني، أو الانتساب إليه بطرق جديدة متنوعة. تبنته أحيانًا مجموعات معينة لكنها جعلته ملائمًا لها باعتباره ينتمي لهم بشكل مميز، ولهم فقط. في حالات أخرى، أخذت علاقة التباعد شكل التماهي مع الهنود بدل التماهي مع رعاة البقر. شعرت النساء أحيانًا وشعر السود والآسيويون والمكسيك الأمريكيون والشواذ بأنهم أقرب إلى الضحايا من الأبطال.

انفصلتْ بعض الجماعات عن السرد القانوني المتفوق تمامًا، على سبيل المثال، لصالح قصة الحب والتسامح حيث تجد القوى القطبية ظاهريًّا تسوية بالتفاوض يمكن أن يتعايشوا فيها بسلام، رافضة جدلية جنس الرومانس بشأن المتناقضات في الوقت ذاته. لكن حتى حينذاك كانت قصة رعاة البقر في الصورة دائمًا، بمثابة طبقة رقيقة. قصة التسامح مثل كلمة «مارتين لوثر كنج» «لي حلم»١١ ضد المتفوق دائمًا في السياق الأمريكي. كانت ضد الأسطورة التي اكتسبت في النهاية وضعًا أسطوريًّا خاصًّا بها، ولم يكن مدهشًا أن نسمع صداها يتردد في كلمات رودني كنج١٢ عن عشية أعمال الشغب في لوس أنجلوس التي اشتعلت نتيجة وحشية الشرطة التي عانى منها هو نفسه: «ألا يمكن أن نعاني منها جميعًا؟»
في الوقت ذاته، خضعت «أعمال الغرب» — الروايات، والأفلام خاصة، لتغير موازٍ. يوثق ويل رايت١٣ (١٩٧٥م) سلسلة تغيرات حولت قصة رعاة البقر التقليدية، أولًا إلى قصة انتقام وفيها رغم بقاء راعي البقر رجلًا طيبًا بشكل أساسي يتصرف مقلدًا ما يحدث في الأفلام الأكثر سوادًا. ثم إلى ما يسميه القصة «الانتقالية»، وأخيرًا إلى «الغرب» المحترف، حيث البطل راعي بقر محترف (رجل فظ يُستأجَر) قد يحفزه تمامًا الطمع، لكن السمات الأخرى لشخصيته، اجتماعي عادة، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأعضاء جماعته، تبقيه محبوبًا بشكل كافٍ للعمل بطلًا بأي مفهوم. وتتمثل التغيرات المتتالية في تشويش خلقي مطرد لنقاء دوافع البطل الغربي التي تتراوح من الخيِّر تمامًا إلى الأناني تمامًا، مما يجعله بطلًا من نوع أكثر تعقيدًا والتباسًا من الأبطال الآخرين غير القصصيين الذين تطوروا في الفترة ذاتها، من جنود فيتنام إلى الرؤساء.

كيف تحدث مثل هذه التغيرات الشديدة ويبقى البطل عمومًا يؤدي مهمته بطلًا؟ يكمن جزء من الإجابة في الوضع الأسطوري للغرب، بمعانيه الخالدة الذائعة، وأصداء ماضي الغربيين. ويكمن جزء منها في البنية النمطية جدًّا لأسطورة راعي البقر — الوظائف الثابتة لحبكتها عبر مختلف الأجناس الأدبية الفرعية، وثبات جنسها الأدبي. ولأن هناك قدرًا كبيرًا من التداخل بين الوظائف المطلوبة لحبكات الأجناس الأدبية الفرعية، وتشمل على الأقل النهاية الكارثة. بالطريقة نفسها سمحت هذه النمطية الكثيفة للغرب الكلاسيكي باستيعاب الهنود، لكن وأيضًا ملاحظي الأرض وملاك السكك الحديد الشرقية، وحتى الوكلاء الفاسدين فيما يتعلق بالقانون، بوصفهم رجالًا سيئين دون فقدان التماس مع المعاني الأسطورية الأصلية، تحملت الأسطورة تطورًا دالًّا للأنماط القديمة في الشخصيات الرئيسية في مختلف الأجناس الأدبية الفرعية. وربما اعتمد بقاء الأسطورة عليه، مثل السود والبيض في أمريكا في وقت سابق، وخاصة طريقتها في فهم نفسها، منحت طريقة للرماديين باقتحام وعينا القومي بعد فيتنام. لكن الغرب المعاصر، مع كل تشويش فضيلة البطل، لا يزال يحافظ على قطبية الخير والشر مركزية بدرجة كبيرة في هذه الأسطورة. لا يزال الأبطال رجالًا طيبين، حتى رغم عيوبهم. لم تعد قطبية الخير والشر واضحة، لكنها كامنة دائمًا في النص.

وهكذا بقدر ما رأينا أن السرد القومي الأمريكي بدأ تاريخيًّا مع ثورتنا التاريخية سعيًا للاستقلال. انتصرنا في ذلك الحدث وأكَّدنا تميزنا. كانت أمريكا في تلك الأيام منطقة صغيرة، لكن تم ضم مساحة أكبر بكثير، ووصلت أعداد أكبر من السكان للإقامة فيها. وهكذا بدأ تمدد أمريكا باتجاه المحيط الهادي، خلال المناطق التي كانت براري، انتقال التخومي. تم تذليل كل جزء جديد من المساحة البرية بالتتابع، وانتصر التقدم الأمريكي عليها وعلى كل أخطارها. كان البطل النمطي في هذه القصة قويًّا (حتى أكثر خطورة، لم يكن متحضرًا). يجلب الأمريكان، الذين انتصروا على الخواء، الحضارة الأمريكية، الأمان والنظام والكنائس والمدارس، إلى مساحة خاوية خطيرة.

تغذت قصة التطور على قصة التخوم التي تغذت على «الغرب»، ونثرت نمطها الأساسي جانبيًّا إلى أجناس أدبية فرعية مثل قصص بنكرتون،١٤ وما يسمى قصة «المخبر الثائر الشديد». وخلال هذا الانتثار، يعاد حكي القصة مرات ومرات. قصة لا نملُّ قط من سماعها. واستخدم القالب النمطي نفسه لروايتها: المجموعة نفسها من وظائف الحبكة، الجدلية نفسها بين الخير والشر، والبطل القوي (والطيب) نفسه، والبناء نفسه للمغامرات الصغيرة التي تؤدي إلى المواجهات العنيفة نفسها في النهاية المنتصرة دائمًا، والجنس الأدبي الرومانسي نفسه – البحث. وكانت البنية المعرفية التفسيرية التي يشترك فيها كل الأمريكيين، وشكَّلتْ إطارًا للحوار القومي بشأن الأحداث المدنية. ثم قذفتنا إلى حرب فيتنام، ومهما تكُن الأسباب، رفض مجموعة كبيرة من أمريكيين شباب غالبًا اعتبار معارك تلك الحرب خيرًا ضد الشر، أو تمدن ضد الهمجية، أو اعتبار تورطنا هناك تقدمًا. لم تكُن الحرب بحثًا، كانت عنفًا غير مبرر، حقيرًا. وكان هذا الرفض للقصة الأسطورية القومية على الأقل في أهمية رفض المخطط نفسه. وبالإضافة إلى ذلك، بعد أن خسرنا، توقف الأمريكيون كلهم عن اعتبار تلك الحرب انتصارًا. هزت أول خسارة حقيقية لنا ارتباط الجميع بسرد الانتصار الذي كنا نحكيه مرارًا وتكرارًا. لكن بمَ استبدلناه؟

ذكرت قصة حديثة في نيويورك تايمز انتحار مراهق في بلدة «بيير»، بولاية «داكوتا الجنوبية»، ومضت لتشرح عددًا كبيرًا من حالات انتحار المراهقين في البلدة نفسها، وفي عدة أماكن أخرى متباعدة ومختلفة. وكان من الطبيعي عقد مقابلات للنظر في الأسباب، وقد برزت عدة عوامل، لكن بقيت الحيرة. اقترح تقرير في النيويورك تايمز (١٩٩٨م) أن المشكلة ربما كانت نتيجة نقص في سرد جماعي قانوني. «وفي وسط ولاية نصف سهلية، نصف جبلية، تبدو بيير غير متأكدة مما إن كانت «مايبري» [بلدة صغيرة محبوبة في عرض تليفزيوني جماهيري] أخرى أو «غربًا قديمًا» آخر». وذكر أن التفسير للقس «تشارلي وارتون»، قسيس الشرطة، وقيل إنه أضاف: «وصلْتَ إلى هذه النقطة، تريد أن تكتشف ما يمكن أن تتهمه. صدقني، لقد بحثْتُ.» ومن الواضح أن الأنماط المعرفية التي يمكن أن تعطي معنى للحيوات والأحداث مشتركة على نطاق واسع، لكل من يعرف الغرب البري وقصص المايبري. مفهوم وارتون أن هؤلاء المراهقين يعانون لأنهم لا يستطيعون ببساطة أن يقرروا تبني بعض السرد المعروف باعتباره سردهم، ومن ثَم يبقون بلا سرد. ويوجد هذا ضمنيًّا في رأيه أنه دون قصة يستخدمونها، تكون حيواتهم بلا معنى.

تاريخيًّا، كان للسرد القانوني للهُوية القومية الأمريكية صدى قوي مع سرديات السيرة الذاتية للهوية الفردية. ولا ينبغي لهذا أن يثير دهشتنا حيث إننا نتوقع مع جنس البحث الانصهار بين الجماعة والذات كما رأينا في مسرح الجماعة الذي دعوناه «طلاب اللاهوت». مِلنا إلى التماهي مع راعي بقر يقهر الآخر الغريب — عمليًّا، في حيوات الاحتراف، حتى في الحياة الخاصة في التعامل مع الضعف والمرض والموت. بدلًا من ذلك، نحاربه. حيث يجب التغلب على مصائبنا، لا أن نعاني منها، لم يأسرنا مصيرنا أيضًا. لكن الأمور تغيرت، سواء في الطبيعة التجريبية للحياة الأمريكية أو في السرد فقط، ويزداد خاصة عدد الشباب، الذين هم بالمناسبة، أبناء الجيل الذي كان شابًّا في أواخر تسعينيات القرن العشرين، الذين يرفضون اعتبار هذه القصة القومية الخاصة قصة حيواتهم. مع نهاية جنس البحث جاءت أيضًا نهاية انصهار قصة الذات وقصة الجماعة الأقدم.

جمعنا مقابلات عن الهُوية الأمريكية مع دارسين في جامعة نيويورك. أشار كلٌّ منهم تقريبًا إلى هوة بين الكيفية التي ينبغي أن يرى بها الأمور بوصفه أمريكيًّا (بانتصار) والكيفية التي يراها بها فعليًّا. وعبر كثير منهم عن الانزعاج من تبني سرد المتفوق الأمريكي باعتباره سردهم. وذكر حتى أحد الطلبة «جون واين»١٥ في إشارة إلى الأمريكي الذي ليس هو. ويبقى أنه كان من المدهش أن يرفض «الغرب» تمامًا وبوعي، ويمكن للمرء أن يتساءل عن السبب. ربما لأن الاختيار وقع على طالب جامعي في نيويورك في مجموعة غير عادية، أعني أولئك الأبناء الذين لا يستطيعون التواؤم مع الحكاية القانونية الأمريكية.

يقدم الناس المختلفون أسبابًا مختلفة لكونهم ليسوا أمريكيين بشكل نموذجي. يشير كثيرون إلى الاختلافات العرقية، أو إلى هوية الشاذ، أو إلى القيم التي تؤثر في قصصهم أكثر كما تؤثر الاختلافات العِرقية في الآخرين لتجعلهم غرباء. وكان أحد الحلول مقاومة الإيحاء بأن كونهم أمريكيين جزءٌ من هُويتهم (أو، بالمناسبة، أن الرئيس يمثلهم، أو حتى ينبغي أن يمثلهم). والحل الآخر تعريف حقيقة الأمريكي بطريقة جديدة: الأمريكيون أناس لهم أسرة.

وهكذا، يبدو أن قصة الهُوية القومية الجديدة تنبثق ضمن هذه الجماعة من الشباب على الأقل. الجنس الأدبي والحبكة، في الحكاية التي يحكونها، أدنى ما يمكن. إنهم يصورون مأزقًا يشعرون أنهم تورطوا فيه في ومضة مرحلة البلوغ. ربما ينبغي ألا يكون هذا مدهشًا، حيث إننا نعرف من عملنا السابق (Feldman et al., 1993) أن المأزق شكل نموذجي لتفسيرات المراهقة، خاصة في قصص البلوغ.
يمكن أن أقدم ملاحظات أولية بشأن المأزق الجديد الذي حلَّ مكان حكاية المتفوق بالنسبة لهذه المجموعة من طلبة الجامعة. ورغم تركيز المقابلة بالكامل على الهوية الأمريكية، وجدنا تأكيدًا معجميًّا على الحياة الشخصية (الأسرة، المنزل، البيت … إلخ) بقدر ما وجدنا في كلمات ذات محتوى يرتبط بالحكومة (حكومة، سياسة، قوة). تتمثل نسختهم عن كونهم أمريكيين في العيش في منزل مع أسرة، وفي مسألة أعود إليها في لحظة. ووجدنا تكرارًا مرتفعًا لكلمة «الاختلاف» وكلمة «النمطية»، على عكس ثورنديك Thorndike ولورج Lorge (١٩٤٤م). ومع أن الغرب الأمريكي لا يخصهم، إلا أنه مهيمن في تصورهم لأمريكا من حولهم، يطلب منهم الانسجام، وربما حتى يدفعهم إلى الانسجام. وهذا يشكل مأزقهم: مسارات متباعدة تؤدي إلى الانسجام والثروة، من ناحية، أو إلى الاستقلال والمعنى من الناحية الأخرى. ويمثل المعرض للخطر في هذه الورطة دهشة كبرى: إذا نجح الشبان في أن تكون لهم أسرة (زوج، أطفال، منزل) حين يكبرون. يمكن أن يؤدي التعامل الخطأ مع الأمر إلى عزلة المرء، ويوجد هذا الخطر في المسارين. الانسجام يجلب المال للأسرة، لكن الأسرة قد تتنافر مع مهنة، وبمعنى معين، مع الأنانية التي تتطلبها المهنة. إن كون المرء غير منسجم يهدد النجاح ببساطة، ومن ثَم الوسيلة المالية لتكوين أسرة.

إذا كان كون المرء أمريكيًّا يعني أن تكون له أسرة ومنزل، فمن الواضح أن سرد الهوية الأمريكية في مرحلة انتقالية. في بعض المناطق، وأجيال معينة، ربما لا يزال للغرب الكلاسيكي أبعاده الأسطورية. لكن بين بعض الناس، يمثل بطل الغرب الكلاسيكي قصة عن شخص آخر. إلى حدٍّ ما، ربما هذه هي الحالة دائمًا، لأنه ربما كان هناك دائمًا كثير من قصص الهُوية الأمريكية، تبعت بعضَها تغيراتٌ في الجنس الأدبي الغربي نفسه بعد أن تطور عن الشكل الكلاسيكي. ومن المؤكد أن العاجزين والفقراء لا يمكنهم التماهي مع البطل راعي البقر الكلاسيكي. أو حين تماهوا، ربما رأوا معنى القصة بشكل مختلف، مثلًا بتأكيد أكبر على جلب العدل إلى عالم ظالم. ويبقى هناك شيء مميز بشأن النكهة القانونية المهيمنة التي تُدرَك في هذه القصة حتى اليوم. أو ربما حتى بشكل أكبر خاصة اليوم. وتتجلى في خوف شبابنا من عدم الانسجام معها. هل الحالة الأمريكية مختلفة عن الهويات القومية الأخرى في فرديتها؟ لا أعرف.

أخيرًا، يشير ماتيو Matthew (١٩٩٨م)، متناولًا الحالة الغريبة للسرد القومي الأمريكي اليوم، إلى أن سردنا قصة النصر الكامل. بحلول عام ١٩٩٨م، رغم حرب فيتنام، صارت أمريكا القوة الكبرى الوحيدة في العالم، على ما يبدو هازمة، أحيانًا طوعًا أو كرهًا، كل مصائبها. الحاجة إلى سرد جديد نتيجة أيضًا لهذا جزئيًّا؛ متذكرين أن البحث الذي تناولناه كفاح ضد الاختلافات، ولا علاقة له بأزمنة ما بعد التفوق.

(٣) سمات السرد القومي

الغرب سرد قومي ضمن أنواع كثيرة. ماذا نتعلم من تلك الحالة بشأن الحالة الأكثر عمومية؟ ماذا نتوقع من السرديات القومية بوصفها مجموعةً؟ أود أن أصحح الآن وأتناول كيف نتوقَّع من السرديات القومية أن تكون نموذج الحالة الأكثر عمومية لقصة تعريف الجماعة. إن السرد القومي من أوجه كثيرة نموذج من قصة تعريف الجماعة، ناهيك عن بنيتها النمطية (وحتى في أنماطه الخاصة: وقد رأينا بالفعل حتى جماعة من جماعات التمثيل بوصفها نوعًا من جنس «البحث» وهو نوع من جنس الرومانس بوصفه من أدب الغرب). إن كل السرديات القومية هي بطريقة ما عن القوة، حتى حين تكون، كما في حالة بعض البلاد الصغيرة (مثل الدنمارك، انظر Borish 1991)، عن غياب القوة. حين تكون عن القوة العظمى، فإن هذا بلا شك يؤثر على مجال الأجناس الأدبية المناسبة. تميل قصص الهُوية القومية، كما يلاحظ فراي، إلى أن تكون رومانسيات. لكنها لا تحتاج بالطبع إلى أن تكون متعلقة بالنصر، خاصة حين تنتهي بالهزيمة بدلًا من النصر.

إذا كان فراي (١٩٥٧م) مصيبًا في أن جنس الرومانس نموذج من القصص القومية، نموذج مهم، وليس مميزًا على الإطلاق، فقد تكون سمة القصص القومية جنسها الأدبي. إن مثل هذه السرديات القومية من قبيل القصة الصربية عن جرح قديم يصرخ طلبًا للثأر، أو القصة النازية عن شعب متفوق في صراع الحياة أو الموت لمحو المتسللين الغرباء الأدنى ربما تكون رومانسيات. نمط حبكتها المتفوقة أكثر تميزًا، لكنها موجودة أيضًا في أنواع أخرى من السرديات، على سبيل المثال، في المعارك ضد جرح أو علة. وحتى اتحاد جنس الرومانس وحبكة المتفوق لا يبدو أنها تميز قصص الهوية القومية عن القصص الأخرى.

وهكذا، يبدو أنَّ هناك الكثير مما هو مشترك بين السرديات القومية وسرديات الجماعة فيما يتعلق بالأنواع الأخرى. لتميُّز السرديات القومية علاقة بمقدار تميز الأمم أكبر من علاقة الأمم بطبيعة سردياتها — قوة شرطتها. إن معظم قصص الجماعة، وخاصة قصص جماعات العمل، تسير غير مسلحة. الجماعات القومية، لديها قوة قهرية لا تشاركها فيها الجماعات الأخرى — البوليس والمحاكم والسجون والجنود والبنادق. وهذه القوة تعطي سرديات الجماعات القومية ما سماه دوركهايم Durkheim (١٩٦٨م) «الخروج والتقييد»، لنوع معين له القدرة على إحداث الدمار.

نتحول الآن إلى تمثُّل السرديات القومية في السيرة الذاتية الفردية وصناعة الذات. إن السرديات القومية، بوضوح، أكثر شبهًا بالسرديات الجماعية الأخرى في أنها بمثابة ناقلات لتعريفات الذات. ومثل السرديات الجماعية الأخرى، تتنوع، ويؤدي بعضها إلى تماهٍ أكثر بين الذات والجماعة، وتؤدي الأخرى إلى تماهٍ أقل. لكن القوة القهرية للدول القومية لا بدَّ أن تؤثر على الطريقة التي تعتبر بها السرديات القومية قصصًا للذات. أولًا، تأمل الانصهار والبعد بين الفرد والجماعة. إن قوة شرطة الأمم، حتى الأمم الضعيفة، لا تزال قوية بالنسبة للفرد في داخلها. ويمكن أن يؤدي هذا إلى تفاعلات مبالغ فيها، سواء كانت انصهارًا — ممَّا يؤدي إلى أن يقبل الشعب القصة القومية بشكل غير نقدي باعتبارها قصتهم، أو تمردًا. بالإضافة إلى ذلك، إن بعض السرديات القومية، مثل الكثير من القصص الدينية، سواء لأن القوة السياسية تساندها أو لأسباب أخرى، لها نكهة يمكن أن توصف بأنها «إرشادية». يمكنها ألا تخبرنا فقط بحقيقتنا، وبما كنا عليه، لكنها تخبرنا أيضًا بما ينبغي أن نكون عليه. رأَيْنا ذلك في مقابلاتنا مع طلاب الجامعات الأمريكية، الذين رفضوا نزعة التفوق، واصفين سرد المتفوق بأنه يضغط عليهم للتكيف معه والاندماج فيه أو ينبذونه باعتباره آخر غريبًا. وهكذا سواء اعتبرنا سردياتنا القومية سردياتنا الخاصة أو لم نعتبرها، فإنها تكتب قصة عنا جميعًا، نحن الذين نشكل أمة. إنها جزء مما نتفاعل معه.

يبدو لي أن نزعة التفوق كبحت بشكل ضار المصادر الأخرى للقوة في الحياة السياسية الأمريكية. لقد قدمت بالتأكيد غطاء لأسلوبنا القومي غير التفاوضي في حل الاختلافات مع الأمم الأخرى. في العلاقات الدولية، كان من السهل جعل مواقف التعالي، غير القابلة للتفاوض، وحتى الابتزازية مقبولة بجعلها مناسبة للصورة التي تحظى بالكثير من الإعجاب، صورة البطل الوحيد الصامت، المسلح بشكل كبير. لكن داخليًّا أيضًا، هزم راعي البقر (وقهر) الجانب التعاوني للحياة المدنية الأمريكية. يخبرنا أسلوب تحريات «كينيث ستار»، كبير هيئة المحلفين في قضية الرئيس كلينتون سنة ١٩٩٨م، أنه لا يوجد أحد آمنٌ ممن هم على قيد الحياة من نزعة التفوق، إذا لم يكُن الرئيس نفسه آمنًا منها.

إذا كان المواطنون لا يزالون يستخدمون السرد الكلاسيكي نموذجًا معرفيًّا للتفسير، فينبغي أن يكون الرئيس قد دفعته هذه الأحداث إلى دَور الرجل السيئ. لكنه لم يكُن. ربما لم يعبر الشعب الأمريكي، بشعبيته العالية المستمرة، فقط عن نضج جديد بشأن النشاط الجنسي الخاص الذي يُشار إليه غالبًا، لكن عن رفض لرؤيته في هذا الدور في قصة يعرفها جيدًا. وللقيام بذلك، كان على الشعب أن يرفض القصة برمَّتها، نظرًا لأن هذا هو ما تؤدي إليه.

لكن دون نمط سردي جديد، يكون تفسير الأحداث صعبًا، مشوشًا، مشتتًا، والأهم أنه يكون غير مشترك. وهذا ما أعتقد أننا نراه اليوم (تاريخ الكتابة أكتوبر ١٩٩٨م)، وخاصة في الحاجة إلى مناقشة هذه الأحداث مرات ومرات. إننا نحاول العثور على معناها، ونحاول أثناء ذلك أن نجد إطارًا سرديًّا يجعلنا نفعل ذلك في خطابنا القومي. وهو ما نفعله كلنا معًا. وبالنسبة لهذه الأحداث المدنية المهمة، تكون المحادثة مع الآخرين مهمة للجميع. إن التطورات الجديدة في قصتنا القومية قيد المناقشة لبعض الأسباب نفسها التي شاركنا «الغربي» فيها، لأننا كلنا تقريبًا نريد أن نكون جزءًا من وسط اجتماعي مشترك١٦ وحواري حين يتعلق الأمر بشيء مهم للذات بقدر أهمية الهوية القومية.
إذا وضعنا في الاعتبار قدرة الدول على تفعيل قصتهم بإذن أو دون إذن من الآخرين، فسوف يكون هناك سؤال مهم بشأن الكيفية التي نقيم بها السرديات القومية. وكان زيمرمان Zimmermann (١٩٩٦م) أول لاحظ، من كثير من الدارسين، الدور المهم للسرد القومي أو صناعة الأسطورة في حرب البوسنة. أزيل الغبار عن جرح تاريخ قديم، وبدأ يحكي ويحكي من جديد باعتباره نقطة التحول في قصة هُوية قومية صربية جديدة. بمجرد أن حققت هذه القصة احتمالية تاريخية، ربما بدت الأحداث الناتجة ضرورية، وحتى صحيحة. تلازمنا القصص القومية عن الإبادة الجماعية بقوتها الخارقة. ويمكنها، أحيانًا، أن تقود شعبًا يبدو عاديًّا إلى العثور على معنى في أفعال بربرية لا توصف، وأن يبررها. ومن الواضح أن السرديات القومية تقودنا إلى نتائج مفزعة لا تقودنا إليها قصص الجماعات العادية. لكن كل قصص الجماعات تثير، بعد إجراء التعديلات اللازمة، أسئلة مهمة عن التقييم. إن بعض قصص جماعات العمل ينبغي أن تكون أفضل من غيرها، ليس فقط نتيجة بقاء الجماعة على قيد الحياة، ولكن أيضًا نتيجة أسلوب حياة أعضاء الجماعات. باستخدام كلمة «أسلوب» لا أريد أن أسم بأنه أمر تافه. على العكس، إن المرء هو الذي يستحق اهتمامًا جادًّا ونحن نتأمل المكان المهم للثقافات المشتركة في العالم الحديث، لكنني لا أستطيع أن أتناولها هنا.

(٤) الخلاصة

ماذا نتعلم إذن من دراسات السرد التي تتناول مشاكل الهوية القومية في عالم اليوم؟ ربما نرى الاحتمالات الخمسة التالية: (١) يمكن مقاربة سرديات الهوية القومية باعتبارها حالة خاصة لقصة تعريف الجماعة. (٢) يمكن أن تكون قصص تعريف الجماعة نمطية بشكل كبير، لها جنس أدبي مميز وبنية حبكة، بحيث يستطيع كل أفراد الجماعة أن يحكوا قصة جماعتهم بالطريقة نفسها إلى حد بعيد. (٣) إن سرديات الهوية القومية حالة خاصة من قصة تعريف الجماعة بفضل خروجها المميز وتقييدها، وهي نابعة من قوة بوليس الأمم. (٤) بالضبط كما تضفي عضوية الجماعة معنًى على الحيوات الفردية، لقصص تعريف الجماعة تأثير على قصص الذات، أي على السير الذاتية الفردية لأعضاء الجماعة. وحين يتماهى الأعضاء بقوة مع جماعة، ربما يتم التعبير عن السير الذاتية للعضو بالشكل السردي نفسه لقصة الجماعة. (٥) لا توجد أنماط سرديات تعريف الجماعة، ومنها الأجناس الأدبية، في القصص وحدها، لكنها أيضًا جزء من الأداة المعرفية للأعضاء. إن الطريقة التي يؤدون بها وظائفهم المعرفية بمثابة أطر تفسيرية تحدد المعنى الذي يمكن أن يرتبط بالأحداث. عمومًا، تسهل سرديات تعريف الجماعة التفسير، أو تسمح بإضفاء معنًى على أحداث معينة، بتقديم سياق خاص مشترك فيها وبه تتخذ معنًى محددًا.

المراجع

  • Borish, S. (1991), The land of the living, Nevada City, CA: Blue Dolphin Publishing Co.
  • Bruner, J., & Feldman, C. (1996), Group narrative as a cultural context of autobiography, In: D. Rubin (ed.) Remembering our past: Studies in autobiographical memory, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Cawelti, J. (1984), The six-gun mystique, Bowling Green, OH: Bowling Green State University Press.
  • Cohen, A. (1994), Self consciousness: An alternative anthropology of identity, London: Routledge.
  • Engelhardt, T. (1995), The end of victory culture, New York: Basic Books.
  • Feldman, C., Bruner, J., Kalmar, D., & Renderer, B. (1994), Plot, plight, and dramatism: Interpretation at three ages, In: W. Overton & D. Palermo (Eds.), The nature and ontogenesis of meaning, Hillsdale, NJ: Erlbaum, Also (1993) Human Development, 36, 327–342.
  • Frye, N. (1957), Anatomy of criticism: Four essays, Princeton, NJ: Princeton University Press.
  • Matthews, T. J. (1998), Personal communication, New York Times, April 5, 1998, National Section, p. 1 et seq.
  • Ricœur, P. (1985), Time and narrative, Vol. 2, Chicago, IL: University of Chicago Press.
  • Slotkin, R. (1993), Gunfighter nation: The myth of the frontier in twentieth-century America, New York: Harper Perennial.
  • Thorndike, E., & Lorge, I. (1944), The teacher’s word book of 30,000 words, New York: Bureau of Publications, Teachers College, Columbia University.
  • (Turner, F.), (1962; earlier editions 1926 and 1947), The frontier in American history, New York: Henry Holt and Co.
  • Wright, W. (1975), Six guns and society: A structural study of the western, Berkeley & Los Angeles, CA: University of California Press.
  • Zimmermann, W. (1996), Origins of a catastrophe: Yugoslavia and its destroyers, New York: Times Books.
١  هذا البحث والدراسات المذكورة فيه بدعم من منحة سبنسر Spencer Grant لجيروم برنر، «صناعة المعنى في سياق»، ١٩٩٥–١٩٩٩م. وتستحق مساعدة المؤسسة التنويه بامتنان. (المؤلف)
٢  طبقًا لتقسيم فراي في «تشريح النقد»، وتشير المحاكاة الرفيعة high mimetic إلى الأعمال التراجيدية الكلاسيكية والمحاكاة المتدنية low mimetic إلى الأعمال التراجيدية التي تتَّسم بالانفعال المفرط. (المترجم)
٣  غير ذاتية non-solipsistic: عن solipsism، وهي نظرية فلسفية ترى أنه لا جود إلا للذات. (المترجم)
٤  أرويلي Orwellian: نسبة إلى جورج أرويل Orwell (١٩٠٣–١٩٥٠م)، كاتب بريطاني. (المترجم)
٥  المنتصر triumphalist: من triumphalism، الاعتقاد بتفوق مبادئ معينة وخصوصًا دين أو نظرية سياسية على كل المبادئ الأخرى. (المترجم)
٦  روايات الدايم dime novels: روايات ميلودرامية رخيصة عن الحب والمغامرة، ويعود الاسم إلى سلسلة من الروايات كانت تصدر بهذا الاسم. (المترجم)
٧  أظن أن الإشارة هنا إلى نهاية القرن التاسع عشر وليس العشرين. (المترجم)
٨  بفلو بل Buffalo Bill أو وليم كودي William Cody (١٨٤٦–١٩١٧م): كاتب وجندي أمريكي حصل على وسام الشرف العسكري سنة ١٨٧٢م. (المترجم)
٩  السيوكس Sioux والشايان الشماليين Northern Cheyenne: من الشعوب الأمريكية الأصلية. (المترجم)
١٠  كستر Custer (١٨٣٩–١٨٧٦م): أمريكي، وصل إلى رتبة عميد وهو في الثالثة والعشرين ومات في إحدى المعارك. (المترجم)
١١  مارتين لوثر كنج King (١٩٢٩–١٩٦٨م): زعيم أمريكي بارز. لي حلم: كلمة عامة ألقاها في ٢٨ أغسطس ١٩٦٣م طالب فيها بالمساواة العرقية ونبذ التمييز العنصري. (المترجم)
١٢  رودني كنج King (١٩٦٥م–…): أحد ضحايا وحشية البوليس في أحداث لوس أنجلوس. (المترجم)
١٣  ويل رايت Will Right (١٩٦٠م–…): أمريكي، مصمم لألعاب الفيديو. (المترجم)
١٤  بنكرتون Pinkerton (١٨١٩–١٨٨٤م): مخبر أمريكي من مواليد اسكتلندا. (المترجم)
١٥  جون واين» John Wayen (١٩٠٧–١٩٧٩م): ممثل مخرج ومنتج أمريكي. (المترجم)
١٦  مشترك intersubjective: مصطلح في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع يصف حالة بين الذاتية والموضوعية، حالة يشعر بها شخص ويشاركه فيها آخرون. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤