توطئة

أصبح السجال الفكري الذي لا يزال يحيط بمصطلح «التفكيك» ينقسم الآن على نحو واسع إلى معسكرين. فمن جانبٍ، نرى قراءات تفكيكية مستوعَبة بسهولة في مقدمات ومختارات من النظرية النقدية أو الأدبية، حيث يكون «التفكيك» حزمة من بين حزم أخرى في مجال أقل إثارة للجدل بشكل متزايد. ومن ناحية أخرى، شهدت السنوات الخمس الماضية سلسلة من الكتب التي تذهب بقوة إلى أن ما يُطلَق عليه غالبًا وصف «تفكيك» لا علاقة له تقريبًا بتلك النصوص التي يمنحها دريدا اسمه. إذ تشرع هذه الدراسات في إعطاء قراءات مختلفة المنحى لعمل دريدا من حيث علاقته، مثلًا، بهيجل أو هيدجر أو فرويد. والحق إن «دراسات دريدا» قد غدت مجالًا فرعيًّا مراوغًا تمارسه مجموعة صغيرة من المفكرين، حيث تبدو المزاعم الراديكالية عن الأدب والفلسفة والتحليل النفسي متقلصة بسبب الصعوبة المطلقة وسعة المعرفة اللازمة لمتابعة تقدم المناقشات فيها. والنتيجة بالنسبة إلى القارئ هي الإحساس المتزايد بأمرين: الأول، إحساس بعلاقة تناسبية بين الصعوبة والشعور بالاعتباطية، ومن ثَم — وهذا هو الأمر الثاني — إحساس بقدر معيَّن من البلادة. يبدو أن «دراسات دريدا» تعاني من خطر متزايد بأن تصبح اهتمامًا تنشغل به أقلية غامضة سرية تقف في موضع بين الدراسات الفرنسية ونوع من التاريخ الأدبي للفلسفة.

عند الكتابة عن نصوص يكون فيها احتمال اللغة الشارحة مسألة شائكة، تصبح طريقة دراسة الدارس نفسها ذات أهمية. ومن المعروف أن كلمات مثل «الوضوح» أو «الشفافية» تعمل عمل استعارات تحجب بيسر شديد التحيز. وبرغم ذلك، فإن استثمار الإتاحة في حدها الأقصى يمكن أيضًا، فيما أعتقد، أن يمنح الكتابة انفتاحًا في حده الأقصى أو حتى قابلية التأثر؛ ومن هنا قد يصبح ذلك طريقة يُمكِن بها لنص من هذا النوع السعي إلى أن يكون مسئولًا. لقد كتبتُ الأقسام الأولى من الفصول الثلاثة الأولى، في هذا الكتاب، بطريقة حريصة على جَعْلها قابلة للقراءة بالنسبة إلى الوافدين الجدد إلى هذا المجال، وتهيئتهم للقضايا الأكثر تورطًا في الأقسام اللاحقة. والقضية المثارة، على طول الكتاب، هي: لماذا يكتسب العمل الأدبي مثل هذه الأهمية الحيوية في أعمال هيدجر وبلانشو ودريدا، وهم المفكرون الثلاثة الذين يشكلون، بدرجة جيدة، جماعة تأملية متميزة. والحق إن فكرة غريبة ظهرت مؤخَّرًا، ألا وهي أن أعمال دريدا التي تهتم بالنص الأدبي تختلف تمامًا عن أشكال التفكيك المعروفة لدى المفكرين الفلسفيين. وفي محاولة لتَتَبُّع طبيعة هذا الاختلاف وأساسه المنطقي، تقوم هذه الدراسة باستكشاف استعمال دريدا الجديد لكلمة «أدب»، بدءًا من أعمال هيدجر وبلانشو على وجه الحصر تقريبًا.

وفيما أعتقد، يكون المحك في هذه النصوص ليس أقل من محاولة متابعة أشكال جديدة من التماسك والترابط كانت مستبعَدة سابقًا في الجدل والفكر (بخلاف الأشكال الأصيلة في التماسك والترابط المنطقي) بقدر ما تفرض ضرورتَها الناشئة في نصوص معينة.

وأخيرًا، أُنوِّه إلى أن كل الترجمات داخل هذه الدراسة قمتُ بها ما لم أذكر غير ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤