تقديم

لقد كان إمكان النظرية — بوجه عام — على المحك دائمًا، الأمر الذي جعل النظرية الأدبية أو النقدية أكثر من موضة أخرى في مجال الدراسة الأدبية. بَيْدَ أن أعمالًا وفيرة من النقد الأدبي والتاريخ الأدبي الحديثين، وكذا كمٌّ كبيرٌ مما يُعد «تاريخية جديدة» — يظل ملتزمًا ضمنيًّا بفرضيات وضعية تذهب إلى إتاحة وصف الموضوع الأدبي وتصنيفه، وربطه بعمليات ثقافية عامة … إلخ، ويجري الأمر بقدر من السهولة. وتتغافل تلك الفرضيات الوضعية في التاريخ الأدبي عن السؤال الرئيسي الآتي: ما نوع الموضوع الذي يَكونه النص الأدبي؟
والحق إن طريقة وجود الأدبي   the literary تُعد، بحد ذاتها، إنكارًا ظاهرًا للنزعة الوضعية. ولا يحتاج الأمر إلى «التفكيك» ليقول لنا ذلك. فالجدل بأن النص الأدبي ليس موضوعًا كان أحد جدالات رومان إنجاردن في كتابه الكلاسيكي الصادر عام ١٩٣١م بعنوان «العمل الأدبي».١ وثمة نتيجة مماثلة لما توصل إليه إنجاردن، نجدها في الفصل الثاني عشر من كتاب رينيه ويليك وأوستن وارين الصادر عام ١٩٤٩م بعنوان «نظرية الأدب».٢ إذ يدحض هذا الفصل الذي كتبه ويليك، ويَدين به دينًا كبيرًا لإنجاردن، المسوغات المتنوعة لوصف النص الأدبي بأنه كيان إمبريقي أو سيكولوجي من أي نوع كان؛ فالنص الأدبي — من جهةٍ — ليس شيئًا مصنوعًا كالتمثال في فن النحت، بمعنى أنه ليس صفحة/صفحات مادية أو كتابًا ماديًّا؛ كلا وليس هو — من جهة ثانية — أصواتًا حقيقية يَتلفظ بها مَن ينجز النص؛ لا ولا هو — من جهة ثالثة — التجربة السيكولوجية الناشئة عند الاستماع إليه أو قراءته؛ كما أنه ليس — من جهة رابعة — تجربة المؤلف أثناء إبداعه؛ كلا ولا هو — من جهة خامسة وأخيرة — المجموع الكلي لتجارب القراء أو حتى القاسم المشترك في كُلِّيته بينهم جميعًا (الذي سيكون أقل قاسم مشترك، ليس إلا).
ويخلص ويليك إلى أن أي نص ليس سوى مجموعة «المعايير» التي تعمل بوصفها «العلة الكامنة للتجارب» (p. 150). ولكن ذلك لا يُعد إجابة عن السؤال بقدر ما هو اعتراف بالفضاء الفارغ الذي خلَّفته شتى إخفاقات النهج الوضعي. وفيما يرى موريس بلانشو Maurice Blanchot، «تكمن وضعية الفضاء الأدبي الوحيدة في غرابة مقاربته. إنه لا يوجد، ولكن إلحاحه … لا يمكن التخلص منه».٣
طريقة وجود العمل الأدبي: تعلن هذه العبارة عن سؤال لا يزال يُعالَج برداءة، برغم العناية الهائلة بالنظرية الأدبية وقضايا طبيعة التفسير. وفي الوقت نفسه، تعلن العبارة — ربما بإيجاز أبرع من غيرها — عن موضوع النقاش في الكثير من نصوص جاك دريدا Jacques Derrida التي لا تزال بؤرة سجالات عديدة في المجال الأدبي. والحق إن سؤال طريقة وجود «الأدب» يحظى بقوة في عمل دريدا، تجعله يتحدى تصورات الأنطولوجيا والوجود المتوارثة؛ وذلك على النحو الذي يصبح معه سؤالًا يُحوِّل كل شيء يلمسه إلى موضع شك وارتياب. ومن ثَم، يغدو فعل الكينونة is في السؤال «ماذا يكون الأدب؟» [ما الأدب؟] what is literature? أمرًا على المحك ومحل نظر.
إن عبارة «ماذا يكون الأدب» [ما الأدب؟] لا يمكن إدراجها تلقائيًّا في السؤال الفلسفي بامتياز: «ماذا يكون؟» [ما هو؟] what is?: ذلكم هو الادعاء. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فمن الواضح أن ما يسميه دريدا «الأدبي» أو الأدب  littérature لا يمكن استيعابه بسهولة داخل ما نقصده عادةً من المصطلح، حتى لو كان ذلك نقطة الانطلاق التي يتعين على أحدنا أن يبدأ منها. إذ لم يَعد من الممكن فَهْم «الأدب» بوصفه «ماذا» في أي نوع معروف أيضًا. فالكلمات الثلاث التي يتألف منها السؤال (what is literature?) تنزلق هي نفسها، فتغدو على المحك في تساؤلها بهذه الطريقة التعجيزية تقريبًا.
ويتفرَّد سؤال الوجود question of being عند مارتن هيدجر بإعطاء الشيء الأدبي قوةً مشابِهة للادعاءات التي يزعمها دريدا بشأن «الأدب». بل الحق صار يُشار، مؤخرًا، إلى أن مشروع دريدا يكتنفه الغموض ما لم نضع نصب أعيننا اقترابه الاستشكالي المستمر من مشروع هيدجر.٤ غير أن التحذير المذكور سابقًا بشأن دريدا، ليس بأقل انطباقًا على هيدجر. فما يسميه هيدجر Dichtung [= شعرًا] لا يلتبس بما نفهمه، عادةً، من مصطلح poetry [= شعر] أو fiction [= خيال]. الأدب عند دريدا والشعر عند هيدجر يحاولان القفز خارج ما يسميه هذان المصطلحان على مدى العقود القليلة الماضية.

بَيْدَ أن الدراسة الحالية، بين يدي القارئ، تبدأ من الفَهْم الأكثر شيوعًا لطريقة وجود الأدبي. وما من بداية سوى هذه البداية يمكنها أن تقدم استهلالًا إلى فَهْم التصورات الأشد راديكاليةً عند هيدجر ودريدا.

لماذا صار «الأدبي» ميدان جدل خصب، لا في الأقسام الأدبية المتخصصة في الجامعات وإنما خارجها أيضًا؟ لا تزال فلسفة العلم — في العالم الناطق بالإنجليزية — المجال الأبرز وسط فيضان الأدبي هذا، وبخاصة ما يتعلق منها بالمواقف الكلية والنسبية المتنوعة التي يتبناها فلاسفة مختلفون اختلاف توماس كون Thomas Kuhn، وبول فيرابند Paul Feyerabend، وريتشارد رورتي Richard Rorty.٥ ولم يكن يُقصَد ﺑ «الأدبي»، هنا، سوى اللغة الخيالية التي تعلِّق مؤقتًا دعوى إشارتها المباشرة إلى أشياء قائمة. وقد صار هذا الفَهْم مهما بما يتناسب مع الدرجة التي قوَّض بها الفكرُ وجهةَ نظر تمثيلية راسخة ترى أن اللغة تصف الواقع وصفًا غير إشكالي. وقد ظهر «الأدبي» في الشقوق التي تركتها إخفاقات البرامج الوضعية والاختزالية.
النزعة الكلية/النزعة النسبية اللتان أَدَّتَا إلى طمس الفروق بين الحَرْفي والمجازي، بين الخيالي وغير الخيالي … إلخ، يمكن إجمالهما في المبدأين الرئيسيين الآتيين: الأول هو مبدأ عدم تحديد المعطيات. فعلى عكس النزعة الاستقرائية (= محاولة استنباط القوانين العامة من ملاحظة «الوقائع» التي لا تقبل الشك، فحسب)، قيل إن العبارات التي تبدو وصفية، في بيان «الملاحظة»، «عُرْضة للخطأ كالنظريات التي تفترضها ضمنًا، لذا لا تُشكِّل قاعدة آمنة لبناء قوانين ونظريات علمية»؛٦ وذلك لأن بيانات «الملاحظة» ليست محايدة، وإنما هي مصوغة من منظور نظرية من النظريات، فمعنى المفاهيم الأساسية ليس مستمدًّا من التجربة بل من إطار نظري (قائم سلفًا)، ومن خلاله وحده تصبح الملاحظة الانتقائية لأي شيء منفصل أو سمة منفصلة أمرًا ممكنًا. وعلى أساس هذه الرؤية، لا ينطوي الحس المشترك واللغة العادية على أي امتياز؛ إذ لا يشكِّلان سوى طريقة في النظرية غير دقيقة ومفتوحة إذا جاز التعبير، وليس صورة غير إشكالية ﻟ «الأشياء كما تكون».
ولأن أحدنا لم يَعد بمستطاعه القول إن المعنى مستمد تمامًا من الملاحظة، فسيصبح من الواضح أن المعطيات نفسها يمكن «شرحها» بعدد من النظريات على قدم المساواة، وهي نظريات ربما تكون غير متوافقة فيما بينها. إذ «يمكن إعادة تفسير نتائج الملاحظة، بل ربما يمكن حتى إعدادها على نحو يدعم وجهة نظر كانت تتضارب — في الأصل — مع هذه النتائج.» (فيرابند)٧ لم يَعد يبدو أن الملاحظة سبيل إلى قاعدة آمنة للفصل بين تفسيرين لظاهرة من الظواهر. وعليه، أصبح وجود لغة تمثيلية مباشرة أمرًا إشكاليًّا. واكتسبت النظريات صبغة «أدبية» معينة. وباتت «اللغة الشارحة» أمرًا مستحيلًا.
وأما المبدأ الثاني للنزعة الكلية/النزعة النسبية السائدة، فكان طبيعةَ المعنى العلائقية. فما من مُعطَى له معنى في حد ذاته؛ بل يتحدد معناه بالنسبة إلى كلية النظرية. و«يستند معنى كل مصطلح نستعمله إلى السياق النظري الذي يوجد فيه». (فيرابند)٨ وإذن، كلمة «قوة» في نظرية ليست هي نفسها كلمة «قوة» في نظرية أخرى، إذا توخينا الدقة. لذا، تبدو النظريات والتفاسير غير قابلة للمقارنة، لا من حيث «الوقائع» المفترضة (المبدأ الأول) فقط، وإنما من حيث العلاقة فيما بينها أيضًا. وأخيرًا، لم يَعد بمستطاع أحدنا أن يقول بشكل كامل «عن» أي شيء تتحدث هذه النظريات؛ فما «تتناوله» صار لا طائل منه، ما دام قد انهار تصور الحقيقة — بوصفها تطابق اللغة أو المفهوم مع العالم — تاركًا وراءه تصورًا عن الحقيقة يتماشى مع نموذج برَجماتي تداولي أو تجانسي (يربطهما معًا).
لقد نشأت الاقتباسات الواردة أعلاه كلها في سياق المناقشات الدائرة في فلسفة العلم. ولكن العديد من السجالات في النظرية الأدبية سلكت مسارات مماثلة لها. بل الحق إن فلاسفة من أمثال ريتشارد رورتي قد استُوعِبوا منذ فترة طويلة في النقاش، وتَمثَّلت أفكارَه مدرسةُ النقاد التداوليين الجدد المثيرة للخلاف، التي نضجت أعمالها — إلى حد كبير — من خلال مجلة البحث النقدي  Critical Inquiry. ولا تزال أسئلة من قبيل السؤال الآتي تحدد مسار العديد من المناقشات: هل تكتسب تفسيرات النصوص شرعيتها بالاستناد إلى معنى معطى سلفًا «في النص»، أم أنها (حالها من حال «النظريات»، فيما يرى فيرابند وآخرون) ليست سوى قراءات لشيء لم تَعد له طبيعة موضوعية في حد ذاته؟ وتُثار «الهُوية الموضوعية» في مقابل لعبة اللغة أو البناء المجتمعي.٩ ويبدو أن المشكلات المتعلقة بطبيعة الموضوع في نظرية العلم تنطبق بالقدر نفسه على «الموضوع الأدبي» بوجه خاص.
ويظل الكثير من النقد الأدبي الذي يصف نفسه بأنه تفكيكي عالقًا في مآزق هذه المناقشة الخاصة: رفض النزعة الوضعية ومفاهيم التمثيل المستمدة منها. وتُعد قراءة جيه هيليس ميلر J. Hillis Miller لقصيدة والاس ستيفن Wallace Stevens «السرْخس الأحمر» The Red Fern مثالًا لافتًا على هذا المأزق؛ فالقراءة تشتغل من خلال فرضيات وضعية ضيقة عن اللغة، ولا تفعل سوى قلْبها.١٠ وقد نجمت قراءة ميللر عن قبوله تعريف اللغة «الحَرْفية» بأنها «تَلاؤم الكلمة مع إدراك الأشياء حسيًّا». ويعزو ميللر هذا التصور إلى قصيدة ستيفن التي تستثمر السرْخس الأحمر بوصفه صورة شعرية لضوء النهار والشمس. ثم يرى ميللر أن «الشمس» ليست «حَرْفية»؛ لأن الشمس لا يمكن ملاحظتها بطريقة مباشرة، كما يرى أن مجاز ستيفن — السرْخس الأحمر — «لو توخينا الدقة» أيضًا — بلا معنى أو قيمة؛ لأن الصورة الشعرية عن النهار بوصفه نَبْتَةً «لا معنى لها من حيث هي وصف لأي ظاهرة تجريبية» (p. 157). وعلى هذا الأساس، يزعم ميللر أن القصيدة تؤدي «تحريرًا متوترًا غير مستقر للغة من الإدراك الحسي» (p. 156)! فتؤكد القصيدة — فيما يخلص ميللر — ضرورة الاعتراف بأن الواقع «الحَرْفي» (الشمس، على سبيل المثال) لا يمكن التعبير عنه إلا بسلسلة من البدائل اللفظية. وتُعد هذه المناقشة — غير المعقولة إجمالًا — صورة مقلوبة للفرضيات الوضعية جد ساذجة. فحتى الوضعيين المناطقة (الذين أجازوا على الأقل استخدام الأدوات العلمية لمعاينة الشمس!) لم يستعملوا ذلك المفهوم الضيق للإحالة المفيدة.
وثمة رؤية أخرى يمكن تحدِّيها في أعمال دريدا، تهتم ﺑ «الأدب» من حيث هو طريقة في اللغة غير قابلة للاستيعاب لأنها تهدم الفرق بين النص الأدبي والنقد. ويقدم جوناثان كالر Jonathan Culler مثالًا جليًّا على هذا النوع من الحُجج في تقديمه كتاب «هُوية النص الأدبي» Identity of the Literary Text (pp. 3–15)، فيُبرِز الفرقَ بين هذا العمل الجديد والعمل التقليدي [الأرثوذكسي]. أما العمل التقليدي — المسمى «النقد الجديد» new criticism — فقد نتج عن مزج الرغبة في تأسيس النقد فرعًا معرفيًّا منضبطًا مستقلًّا بالعديد من المواقف نحو طبيعة العمل الأدبي المتوارثة عن الجماليات الرومانسية. وعلى حد تعبير كالر، يقيِّم النقاد الجدد العمل الشعري بوصفه «كُلًّا موحَّدًا، مستقلًّا، وواعيًا بذاته» (p. 11). ويقتضي تصورُ موضوع الدراسة بوصفه أثرًا فنيًّا — على هذا النحو — استبعادَ كل الاعتبارات التي تَعتد بغير الأدبي وغير الجمالي، [أي ما يتجاوزهما] … إلخ. ووفقًا لما يراه كالر، يُفضي تصور القصيدة موضوعًا مستقلًّا استقلالًّا مثاليًّا إلى تثمين انعكاسها على نفسها reflexivity أو «وعيها بذاتها» self-consciousness بوصفه أساس هُوية القصيدة. والنتيجة هي توليفة غريبة بين النزعتين التجريبية والشكلية. يقول كالر على نحو يتجاوب مع منشأ اهتمامات النقد الجديد في النزعة الرومانسية والنزعة المثالية الألمانية: «تُعد اللحظاتُ ذاتية الإحالة لحظاتٍ جوهريةً غالبًا في تأسيس هوية النص الأدبي، شأنها شأن معرفة الذات والوعي بالذات الأساسيين في تصورات الهُوية الشخصية» (p. 11).

وتلك الانعكاسية التأسيسية هي ما يسائلها كالر. فيذهب إلى أن «لحظات الوعي الذاتي أو المرجعية الذاتية» — وشك كالر في وجودها ليس بأكثر من شك النقاد الجدد — لا تؤسس هُوية النص من حيث اكتفائه بنفسه ووعيه بنفسه، بل تمزق هذه التصوراتِ نفسَها تمزيقًا وتُشَوِّشها تشويشًا جليًّا.

القصيدة التي جرى تحليلها هي قصيدة جون دون John Donne «تقديس» Canonization، وقد وقع الاختيار عليها بسبب وضعها النموذجي في النقد الجديد. فيذهب كلينث بروكس في كتابه «الجرة المصقولة: دراسات في بنية الشعر»١١ إلى أن قصيدة جون دون هي «إنجاز كبير من إنجازات الخيال الشعري الذي يصف أيضًا نوع الإنجاز الخيالي الذي يَكونه». فالقصيدة تؤدي  enact ما تصفه بأنه «انصهار قائم بذاته بين الوجود والفعل» (p. 11). يحتفي جون دون بنفسه وبعشيقته في قصيدة «تقديس»، فيصف «الغرفة الجميلة» ليبني من خلال الشعر بيتَ حبهما: «جرة مصقولة» تحفظ رماد جثتهما. هذه «الجرة» (وهي صورة شعرية للقصيدة نفسها) ستصبح موضوعًا يهيم به العشاق في الأجيال اللاحقة، على حين يصبح جون دون وحبه نموذجًا لما ينبغي أن يكون عليه الحب نفسه:
«بمقدورنا أن نتخضب بالحب، إنْ لم نَعِشْ به،/وإذا لم تسعه القبور والنُّصُب/تَسَعه أسطورتنا، سيَسعُه الشعر؛/وإنْ لم نثبته في شذرة من التاريخ،/سنبني في القصائد الغرفَ الجميلة؛/فكذلك تصبح الجرة المصقولة/فيها أعظم رماد الجثث، كمقابر على نصف فدان،/ وبهذه الترانيم، سيشهد كل الناس على/أننا قَدَّسنا حبنا» (p. 12).
فيما يرى بروكس، تغدو القصيدة — كما تتجلى — «غرفة جميلة» تصفها القصيدة: «القصيدة نفسها جرةٌ مصقولة تحفظ رماد جثة العاشق» (p. 13). هكذا، يؤكد بروكس تلك الانعكاسية التي يرى أنها تؤسس «هُوية» النص.

كيف يُعقِّد كالر قراءة بروكس؟ تنبسط الانعكاسية وتتمدد، إذا جاز التعبير، عبر تَوَسُّط مرآة ثانية؛ حيث نقرأ:

«إذا كانت القصيدة نفسها جرة مصقولة، فإن إحدى السمات الأساسية لهذه الجرة أنها تصور استجابة للجرة. وإذا كانت الجرة أو الترنيمة هي القصيدة نفسها، فلعل الاستجابة المتوقعة لهذه الترنيمة هي الاستجابة لتمثيل الاستجابة للترنيمة» (p. 13).

ويمكن قراءة النص بوصفه تجسيدًا لبنية انعكاس/تكرار لا نهائية كامنة، تنطوي على أي استجابة لها بوصفها جزءًا مما تدور حوله، فيغدو الفرق بين القصيدة «نفسها» والاستجابة لها فرقًا متوترًا غير مستقر. والحق إن بروكس — فيما يقول كالر — يستجيب بقدر ما تمثله القصيدة فعلًا؛ فهو يقدِّس «التقديس» حين يستعمل عبارة من القصيدة عنوانًا لكتابه. فتصبح القصيدة نموذجًا لما ينبغي أن تكون عليه أي قصيدة طبقًا لمعايير النقد الجديد. والأكثر من هذا، في قراءة كالر، أن القصيدة التي تتضمن تفسيرًا لنفسها تميل بالانعكاسية التي يُقدِّرها بروكس إلى بنية «تحويل» يتضمن بمقتضاها النص فعليًّا كل مَن سيفسرونه، متجاوزًا الحدود التي ربما يرغب النقاد في تعيينها له:

«إذا كانت الجرة تدمج أيضًا بين الجرة والاستجابة إلى الجرة، فإن بنية الإحالة الذاتية هذه تخلق موقفًا تكون فيه الاستجابات — كاستجابة بروكس — جزءًا من الجرة التي نحن بصددها … والناقد الذي يزعم أنه يقف خارج النص ويحلله، يبدو متورطًا فيه بشكل ميئوس منه، محصورًا في تكرار يمكن وصفه بأنه اكتشاف البنيات في نص (غير معروف له) يكرر علاقته بالنص، أو بأنه تكرار في تفسيره علاقةً يصورها النص فعلًا» (p. 14).
والواضح من هذا البيان أن مثال القراءة التفكيكية عند كالر ليس سوى بداية لمعالجة سؤال هُوية النص الأدبي؛ فهو ليس «تفكيكًا» للانعكاسية إطلاقًا، بل العكس حاصل، إذ تُعمَّم الانعكاسية في بنية تنطوي معها القصيدة (في محاكاة ساخرة للنسق الهيجلي)١٢ على قراءاتها الممكنة داخلها! أضِفْ إلى هذا أن تصور القصيدة على أنها تمثيل ذاتي لا يستريب في هُوية النص واستقلاله بأكثر مما تستريب مرآة حطمتها مرآة أخرى موضوعة أمامها. وبغَضِّ النظر عن مساءلة وجود «لحظات» وعي النص بنفسه تلك — كما قد يتوقع قارئ دريدا — فمن الواضح أن كالر يرى فيها تضمينًا مختلفًا عما افترضه النقاد الجدد. وأخيرًا، يُعد هذا النوع من القراءة اختزاليًّا بقدر ما يركز على طبقة واحدة فقط من طبقات النص، ألا وهي الإحالة   reference، مع استبعاد الطبقات الأخرى.
ومع ذلك، ليس من الصعب رؤية أن استراتيجية تعميم هذه الانعكاسية المفترضة يمكن أن تقود النقاد إلى موقف يشعرون فيه بالسعادة وهم يرددون بعض مزاعم دريدا الراديكالية في كتبه. ومن ثَم، يمكن لناقد من النقاد — على أساس قراءة أي نص بوصفه متضمنًا بداخله أمثولة allegory لقراءته (وهو أمر صعب يكاد ألا يحدث) — أن يزعم كل الآتي:
  • أولًا: أن النص، وهو يُمثِّل نفسَه داخل نفسه، يهدم التعارضَ بين الجزء والكل، ويكون الجزء «أكبر» من الكل … إلخ.
  • ثانيًا: أن النص باشتماله على تفسيره داخل نفسه، يهدم التعارض بين الداخل والخارج، فخارجه كائن فعلًا في داخله والعكس صحيح، ومن ثَم (فيما يزعم أحدنا) يتجاوز حدوده المعتادة.
  • ثالثًا: أن النص، باشتماله على مَفسِّريه كما يُفسَّر حقًّا، يهدم كل محاولات البراعة النقدية، ويندمج مع نقطة عمياء حتمية في الموضع نفسه الذي يعتقد أحدنا أنه يَعِيه، وهكذا.
وفي هذه المرحلة، لعله من المفيد اقتباس بعض العبارات القوية — إلى حد ما — من مقابلة أُجريت مع دريدا.١٣ ويعمل هذا الاقتباس على فك ارتباط ما يسميه دريدا «التفكيك» عن مناقشات تدور حول مسارات من قبيل أننا محدودون حتمًا ﺑ «مخططات التفسير» التي نتبناها، وأن أي محاولة للخروج منها إلى «مرجع موضوعي» محاولة مقضي عليها سلفًا بالضرورة … إلخ:
«أتلقى كل أسبوع تعليقات ودراسات عن التفكيك، تعمل على أساس افتراض أن ما يُطلَق عليه «ما بعد البنيوية» يعادل القول بعدم وجود شيء أبعد من اللغة، وأننا غارقون في الكلمات، وسخافات أخرى من هذا القبيل» (p. 123).
فعلى العكس، يُثمِّن دريدا اللغة، لا بوصفها لعبة إشارات اختلافية، بل بوصفها محلًّا لشيء آخر تمامًا، والمقصود به شيء يشبه إعلانًا عن الوجود نفسه أو «مجيئه»، ومن دون محاولة تقديم تعريف اختزالي (وذلكم ما يضطلع به بقية هذا الكتاب)، فلعل الاقتباس الآتي من مقابلة كيرني مع دريدا يكشف — على الأقل — عن سياق القضايا المطروحة، ويفضُّ علاقتها المتسرعة للغاية بالسجالات الدائرة في النظرية الأدبية وغيرها. لا يزعم التفكيك أن اللغة غير إشارية أو إحالية، بل يبحث التفكيك «عن «الآخر»، وعن الآخر في اللغة الذي هو «آخر» اللغة»:
«يسعى التفكيك، يقينًا، إلى إيضاح أن مسألة المرجع أعقد وأكثر استشكالًا مما تفترضه النظريات التقليدية، ولكن الأكثر من هذا أن التفكيك يتساءل عما إذا كان مصطلح «الإحالة» يفي تمامًا بتسمية «الآخر». وهذا الآخر، الذي يتجاوز اللغة والذي يستدعي اللغة، قد لا يكون هو «المشار إليه» referent بالمعنى المعتاد … بَيد أن نأيه بنفسه هكذا عن بنية المرجع المعتادة … لا يعني القول إنه لا يوجد شيء أبعد من اللغة» (Kearney, Dialogues, pp. 123-4).
من الواضح، هنا، اختلاف ما يقوله دريدا عن تصورات التفكيك التي تجسدها، مثلًا، قراءةُ ميللر لستيفن، أو عن أي شيء في كتاب جوناثان كالر المعنون ﺑ «عن التفكيك» On Deconstruction، أو عن الموقف التداولي الذي يغدو من الصعب معه البدء في تحليل أين تكمن الاختلافات على وجه التحديد. لعل الاختلاف الأول الواسع يتمثل في أن اهتمامات نقاد الأدب التفكيكيين (شأن مَن يشبهونهم مِن فلاسفة العلم) اهتمامات إبستيمولوجية بالمعنى الواسع الذي يهتم بمشكلة مزاعم اللغة التي تدَّعي التمثيل الحقيقي للواقع، أو معضلة التفسير، على حين أن اهتمامات دريدا — لو توسعنا في القول — اهتمامات أنطولوجية، ويتردد أحدنا في المقابلة بين مصطلحات عامة ﮐ «الإبستيمولوجيا» و«الأنطولوجيا» في سياق يجب أن تكون علاقتهما فيه محل نظر، وبرغم ذلك، فإن «طريقة وجود» الأدبي هي عبارة تُركز انشغالَ عمل دريدا بمالارمه Mallarmé وآخرين، بأكبر قدر ممكن من الدقة في هذه المرحلة المؤقتة.
يظل ميللر وكالر، على السواء، مشدودين إلى فرضيات وضعية جرى تجاوزها في الفصل الثاني عشر من كتاب «نظرية الأدب». إذ نرى الأدبي عند ميللر مرتبطًا بنظام وضعي من الوقائع «الحَرْفية»، بقدر تَحَدُّدِهِ تحديدًا كاملًا من حيث علاقته بذلك المجال (أعني عدم تناسبه مع ملامحه). وأما عند كالر فالأدبي موضوع — وإنْ يكن موضوعًا خاصًّا متميزًا — تتيح مرجعيته الذاتية المفترضة عَزْو خصائص متميزة إليه من المعتاد أن يتصف بها الوعي الذاتي (أعني بذلك مشاركة القراء).
وأزعم أن عمل دريدا لا يعترف بالوصف انطلاقًا من القضايا الإبستيمولوجية التي يثيرها ميللر وكالر. ولعله من الأدق بالأحرى في هذا الجانب تأكيد أن «النص» — فيما يعني به دريدا — ليس موضوعًا على الإطلاق؛ ولعله من الأدق، أيضًا، الاعتراف بأن منشأ «قراءات» دريدا، في هجومه الهيدجري على الفلسفة التقليدية، راجع إلى تركيزها على قضايا تتصل ﺑ الوقائع في العالم، مع تجاهل قضية العالم بحد ذاته. ففي مقابلة دريدا مع كيرني، نجد أن التفكيك ليس شكلًا من أشكال النزعة الشكية، بل هو «انفتاح على الآخر» (p. 124).
فما هذا «الآخر»؟ يرجع منشأ هذا المفهوم إلى جوانب عديدة فيما يُسمى «نهاية المثالية»: زوال التسليم المؤسس للفلسفة في معناها التقليدي بأن الواقع يمكن معرفته، أي تعقله أو استعقاله بدءًا.١٤ ويعني القول بإمكان معرفة الواقع بدءًا القول إنه لا يوجد سوى الماهية أو المعنى. هكذا، تختزل النزعة المثالية الوجود إلى «المعنى» (Garry Madison, p. 248) وعليه، تكون مهمة الفلسفة الإبانة عن التعالق بين الفَهْم الإنساني والوجود (المسلَّم به فعليًّا في مفهوم المعرفة نفسه). ويمكن القول مؤقتًا إن «الآخر» هو ما يجب على المعرفة أن تشغل نفسَها به، ما إن نعترف بالانفصال بين الوجود والمعرفة. ومن الواضح أن التشديد على الآخرية أو الغيرية يؤكد أن ما «يُعرَف» لم يَعد ضمن نطاق فَهْم المعرفة المتوارث الشائع.
ومن الممكن القول إن التراث الضدي القديم (منذ فلاسفة ما قبل سقراط Socratics حتى نيتشه Nietzsche) كان ينافس على الدوام مزاعم النزعة المثالية ويخاصمها. أما في السياق الحالي، فيقدم هيدجر معجمًا يمكن من خلاله رسم معالم «الآخر» عند دريدا.
بمقتضى ما يقوله هيدجر، لا بد أن يُتصوَّر الفَهْم understanding والوجود being، على السواء، بوصفهما الأمر الممكن عَرَضيًّا المتناهي الذي لا تقدر «الميتافيزيقا» في حد ذاتها — بما هي مجلَى النزعة المثالية الأوَّلي — على الإحاطة به. فيذهب هيدجر إلى أنه لا الكائن البشري (الدازاين  Dasein) ولا العالَم ينطويان على طبيعة جوهرية منفصلة عن عوارض وجودهما العيني existence؛ ومن ثَم لا يمكن أن يتأسس وجودهما على أي فَهْم للجوهر أو الماهية، أي لا يمكن فَهْمهما بطريقة فلسفية. فمحاولة تأسيس العالم وتصوراتنا عنه بفعل انعكاسي من أفعال العقل تجد نفسَها مكتنَفة بشيء آخر (غير عقلي) لا يمكن إدماجه على الرغم من أنه يتحرك ضمن حدود هذه المحاولة؛ الأمر الذي يدعو هيدجر إلى إعادة النظر في المسلَّمة التي تدعم أساس العلم الحديث، ألا وهي مبدأ السبب الكافي، مبدأ إمكان تقديم سبب لأي ظاهرة. والحق إن إمكان العلم وحدوده يكونان على المحك بشكل متكرر عند ثلاثة مفكرين تنشغل بهم هذه الدراسة بين يدي القارئ.
وتحتل هذه القضايا مرتبة الصدارة في كتاب هيدجر «الوجود والزمان» Being and Time (١٩٢٧م)، ومن الضروري الانتقال إليه الآن.١٥ وقد تبدو المناقشة معروفة (بالنسبة إلى بعض القراء)، غير أنه من المهم تَتَبُّع عدد من خطواتها هنا حتى نرسم معالم تَصَوُّرَيْن أساسيين للفصول اللاحقة (التصورات الهرمنيوطيقية/الهيدجرية عن «العالم» و«اللغة»).
حين حاول هيدجر القيام بتحليل الطريقة التي نصادف بها عالمنا اليومي — تيار التجربة الدنيوية العادية المشتركة — وجد نفسَه مضطرًّا إلى الانشقاق على أستاذه إدموند هوسرل Edmund Husserl الغارق في نوع من المثالية المتعالية. فأوضح هيدجر أن العالم لا يظهر لنا فعليًّا بوصفه «واقعًا موضوعيًّا» كما يشيع الاعتقاد؛ ولا يبرز «الواقع الموضوعي» إلى الوجود إلا بعملية تجرُّد من «الحياة اليومية العادية». فالعالم يعرض نفسَه من حولنا بدءًا بوصفه ميدانًا من الانهماك والمشاركة العملية، حيث تكون اهتمامات الإنسان متضمنة فيه فعلًا. «ما نصادفه بوصفه الأقرب لنا … هو الغرفة؛ ولكننا لا نصادفها بوصفها شيئًا «بين أربعة جدران» بالمعنى المكاني الهندسي، بل بوصفها متاعًا مُعَدًّا equipment للإقامة. فمن هذا «الإعداد أو التجهيز» arrangement تنبثق الغرفة وتظهر، وما يجعلها كذلك أن مادة الإعداد «المستقلة» تعرض نفسَها» (Being and Time, p. 98). يميز هيدجر الطريقة الأولية التي تظهر عليها الأشياء لنا بوصفها «في متناول اليد»، أي بوصفها عالمًا من الاستخدامات الكامنة والدلالات الإنسانية معًا. فعالمنا، في الأساس، عالم «متاع مُعَد». ﻓ «في تعاملاتنا نصادف أداة مجهَّزة للكتابة والخياطة والتشغيل والنقل والقياس. ولا بد أن يُعرَض ويُبرَز نوع الوجود الذي ينطوي عليه المتاع المُعَد» (Being and Time, p. 97). والأكثر من هذا، لا تعمل أي أداة من المتاع المُعَد إلا بوصفها جزءًا من سياق كلي من الأشياء والأدوات والمهمات (المطرقة، المسامير، الخشب، المقعد، السقف …). وإذا توخينا الدقة، «لا «يوجد» شيء مفرد بوصفه متاعًا مُعَدًّا» (Being and Time, p. 97) ؛ فوجود أي أداة من المتاع المُعَد ينتمي إلى كلية المتاع المُعَد التي من دونها لم يكن ممكنًا أن توجد أداة بعينها (فما معنى وجود مطرقة من دون مسامير وخشب … إلخ؟). «المتاع المُعَد في جوهره «شيء من أَجْل»» (Being and Time, p. 97). وفي سياق آخر، شكلُ المرجع يؤسس وجودَه. وحتى «يكون» أيُّ موجود ابتداءً، لا بد أن «يوجَد» بوصفه قائمًا في عالم، أيْ كلية من الانهماكات والمشاركات العملية التي تشكل الوجود الإنساني العيني؛ فالموجود لا تسبق ماهيتُه وجودَه. ويصف هيدجر — في أحد أعماله المتأخرة — الكيفية التي ترتبط بها «الخبرة العملية» [الدراية] know-how بالعالم:
«لعل مثال صبي النجار يَفِي بالغرض؛ فالصبي يتعلم حرفة النجارة، وليس تعلُّمُه مجردَ ممارسةٍ الغرضُ منها اكتساب خبرة في استخدام الأدوات. كما أن الصبي لا يقوم بمجرد تحصيل معرفة بأشكال الأشياء التي عليه أن ينشئها. وإذا أراد أن يصبح نجارًا حقيقيًّا، فعليه أن يدخل في علاقة حميمة مع مختلف أنواع الخشب ومع الأشكال الكامنة فيه؛ لأن الخشب يدخل في تكوين مسكن الإنسان بكل غناه الطبيعي الكامن فيه. والحق إن هذه العلاقة الحميمة مع الخشب هي التي تصون المهنة بأكملها» (What is Called Thinking, pp. 14-15).
يقدم العالَمُ نفسَه إلى الدازاين  Dasein — أو الكائن البشري — بوصفه مجالًا كليًّا من الانهماك والمشاركة العملية، فالسياق الكلي من المتاع المُعَد لا يكون فيه شيء سوى ما ينيره ذلك السياق. ذلكم هو اهتمام الدازاين بوجوده — كما يعلن عن نفسه في اهتماماته العملية — الذي يمنح العالَمَ إفصاحه في الأشياء وتلاحمها.
وعلى نحو علائقي، لا يمكن أن يُفهَم الدازاين الذي يَكون عالَمُه هذا، على أساس نموذج الوعي الذاتي الذي يواجه واقعًا خارجيًّا موضوعيًّا ويدركه. فالفَهْم هو «أنا أستطيع» قبل أن يكون «أنا أفكر». لذا، لا يمكن تصوُّر الوعي الإنساني بوصفه أمرًا «عقليًّا»، أي بوصفه غير متجسد برغم ارتباطه بالعالم المادي. الدازاين هو في الأساس وجوده العيني، إنه «الوجود-في-اﻟ-عالم» Being-in-the-world. «ويستغرق الوجود-في-اﻟ-عالم استغراقًا متحسبًا غير ثيماتي في المصادر أو المهمات التي تتشكل منها كلية المتاع المُعَد في متناول اليد» (Being and Time, p. 107).
ثمة تماثُل سطحي بين هذا التصور الهرمنيوطيقي للعالَم والفكرة العامة التي مُفادها أن المصطلح في أي فرع بحثي لا يكتسب معناه إلا بقدر علاقته في سلسلة مصطلحات أخرى. ومع ذلك، تظل سياقات المعنى العلائقي معضلة معرفية ضيقة. إن «العالَم» الهيدجري أمر حتمي، فهو ليس فرضًا قبليًّا مفاهيميًّا بل أفقًا متعاليًا. ومن هنا، صعوبة الإجابة — مثلًا — عن سؤال من قبيل «ماذا يكون «العالم»؟»؛ لأن «العالم» يجب أن يُفهَم بوصفه الأفق الذي يمكن فيه لسؤال «ماذا يكون هذا؟» أن ينطوي على معنى أو أي هدف. ﻓ «العالم» مفترض سلفًا في السؤال بوصفه سياقًا كليًّا من المتاع المُعَد الذي يمكن لأي شيء أن يُنار عبره بوصفه ما يَكونه. لذا:
«ليس العالَم نفسه موجودًا داخل–اﻟ–عالَم؛ بل هو محدد الموجودات التي ما دامت «توجَد» يجعلها العالَم تُلاقي نفسَها وتعرض نفسَها في وجودها، بوصفها موجودات تنكشف وتنجلي» (Being and Time, p. 102).

إن «العالَم» نفسه (من حيث هو علاقة تبادلية بالموجود الإنساني العيني) لا جوهر له أو ماهية، ولا يمكن الاستدلال عليه. واندلاعُه غير المحفز [أو اندلاعه بلا سبب معروف] يدحض، بحد ذاته، أيَّ إيمان فلسفي بعقلانية الوجود.

لم يكن تحليل هيدجر ﻟ الدازاين سوى الجزء الرئيسي من مشروع أشمل، ألا وهو إعادة إثارة السؤال المنسي عن «معنى الوجود». وقد كانت الخطوة الأولى — على طريق الاستفسار عن الوجود نفسه — تحليلَ الكيفية التي ينفتح بها العالم في انهماكات الدازاين ومشاركاته قبل أن ينعكس على نفسه، تاركًا الأشياء تظهر كما تكون (أي في وجودها) عبر حركة الكشف تلك. ويزيح هذا الاستفسارُ التفسيرَ التقليدي للوجود من جهة المقولات (النوع، الكم، العلاقة … إلخ) التي طُبقت على كل الموجودات. ويسعى هيدجر في كتابه «الوجود والزمان» إلى محاولة فَهْم الوجود بوصفه الأمرَ الموهوبَ من خلال البنية الزمانية لأصالة الدازاين في عالَمٍ. ولكن الدازاين يخسر هذا الموقع المركزي بهذا المنعطف أو التحول (kehre) turn المثير للجدل في عمل هيدجر (انظر الفصل الأول).
ولا موضع الآن لتحليل هذا المنعطف أو التحول. غير أنه يكفي حاليًّا التأكيد مع بول ريكور أن فكر هيدجر لا يطرأ عليه تغير كبير.١٦ إذ تحتل فلسفة الفن واللغة موقعًا شبيهًا بالموقع الحاسم الذي يحتله تحليل الدازاين في كتاب «الوجود والزمان». فالسابقة Da في كلمة Dasein التي تعادل في الإنجليزية اسم الإشارة there، والتي عندها يُستبان العالَمُ والوجود، تصبح موقعًا للغة. إنها لغة، أو بالأحرى تَصوُّر جديد عن اللغة «الأولية» التي تضطلع بتكوين انهماك الدازاين ومشاركته العملية في عالَمٍ.

تُفهَم اللغة — وهي ليست بأقل من اﻟ «عالَم» — بوصفها مجالًا شِبْهَ كلي لا يمكن أن يتموضع تَمَوْضُعًا خالصًا تمامًا إلى الحد الذي يجعلها توفر شرطًا قبليًّا ووسطًا تحدث فيه أي عملية تموضُع من هذا القبيل.

ولو تكلمنا بصورة سطحية، يمكن فَهْم عمل هيدجر عن اللغة بطريقين. يميل الأول منهما إلى التهوين من شأن قطيعة هيدجر مع «النزعة المثالية»، ويُعلي ثانيهما من شأنها. ولعل الفلسفة الهرمنيوطيقية عند هانز جورج جادامر وبول ريكور هي الأبرز في مجالي البحث هذين. يتقبل جادامر احتجاج هيدجر بأن «اللغة ليست وسيطًا يَتلاقى من خلاله الوعي مع العالم … [كما] أنها ليست وسيلة على الإطلاق، أي ليست أداة»١٧ (وتتجنب هذه الرؤية — في آنٍ — المشكلات المرتبطة بالموقف الكلي/النسبي السائد في الفلسفة الأنجلوسكسونية والنظرية الأدبية، الذي هو ذرائعي في الغالب)؛ فالأحرى أن اللغة تصبح موقعًا لطريقة التعالي التي تسائل شروطَ إمكان التجربة. وبإيجاز، يمكن فَهْم علاقة التجاوب — السابقة على التفكير النظري — بين الفَهْم الإنساني والعالم بوصفها علاقة أصيلة في اللغة، وعلينا الإصغاء إليها بطريقة جديدة. يقول جادامر:
«لا يعني قبولُ فكرةِ أنَّ الأشياء تحدث في اللغة قبولَ أسبقية الأشياء، كلا ولا أسبقية العقل الإنساني الذي يتوسل بأداة الفَهْم اللغوي. فالأصح أن علاقة التجاوب التي تجد تجسدها العيني في تجربة العالم لغويًّا هي بحد ذاتها السابقة على نحو مطلق».١٨
ولعل أحد مظاهر الفكر الهرمنيوطيقي البارزة — حاليًّا — إثارة مناقشات حول مزاعم ما يُسمى «الذكاء الاصطناعي»، وما يرتبط به من محاولات التعبير عن اللغة والفَهْم البشري، بوصفهما تجليات نسق شكلي. وقد أوضح هوبيرت دريفوس، بوجه خاص، أن اللغة و«الحس المشترك» ينطويان على تضافر — غير نظري وغير قابل للتموضع — بين الجسد والعالم، لا يمكن لنسق شكلي التقاطه، بل تستند أبسط محادثة إلى وشيجة مضمرة في التجربة العملية الكلية لا يمكن التقاطها في الأجزاء المنفصلة.١٩

وهذا التصور عن «الانتماء» المتبادل — السابق على التفكير النظري — بين الكائن البشري والعالَم، الأصيل في اللغة، ليس تصور بلانشو ولا دريدا. ولكنه سياق يتحرك فيه الكثير من عملهما عن النص الأدبي، فيعمل بلانشو ودريدا على رسم معالم طريقة ثانية من التفكير، يَدينان بها لأعمال هيدجر المتأخرة عن اللغة، وهي طريقة تفكير تكاد ألا تُدرَك عند مقارنتها بالهرمنيوطيقا، أو (في حالة دريدا) يُساء فَهْمها غالبًا.

إن المفردات التي يستعملها دريدا في مقابلته مع كيرني مفردات هيدجرية: «الآخر … أبعد من اللغة … و… يستدعي اللغة.» ولكن اهتمامات دريدا ليست لغوية فحسب، على الأقل بأي معنى متعارف عليه للغة، وإنما هي اهتمامات تركز على علاقة اللغة شِبْه المتعالية بمفهومٍ «الآخر» يحتل المكان نفسه (داخل اللغة وأبعد من اللغة)، كما هو حاصل في تصور هيدجر عن الوجود.٢٠ ومن هذه الجهة، قد يُقال إن اللغة ميتافيزيقية بالمعنى الإيتمولوجي الدقيق للعبور إلى ما وراء الطبيعة، وما وراء الموجودات: ما وراء الفيزيقا  meta ta physika. لذا، يقرأ أحدنا في مقابلة دريدا، سالفة الذكر، أن التفكيك — وهو أبعد من أن يكون حديثًا عن سجن اللغة — «يقول في حقيقة أمره العكس تمامًا» (Kearney, Dialogues, p. 123)، بمعنى أنه في تأمل اللغة يكمن أفضل أمل لدينا في الانشغال بالآخر.
ولعل الطريقة المُثْلَى لإجمال التشعُّب بين دريدا والنزعة الكلية/النزعة النسبية الأنجلوسكسونية تكون على النحو الآتي: إذا كانت هذه الثنائية تفترض أن اللغة كيان وجزء من طبيعة (الإنسان) وأداة الذات البشرية (المفهومة إما فردًا فردًا أو بشكل جماعي)، فإن اللغة عند دريدا تحتل صدارة سؤال الوجود نفسه. ﻓ طريقة وجود اللغة إشكال ينفتح على «الآخر» وسؤال الوجود بوجه عام. وأخيرًا، يمكن القول برغم ذلك إن النصوص التي يحللها دريدا، أو يكتبها، تنطوي — كما هي الحال عند بلانشو — على أمر آخر سوى الوجود، ألا وهو «الآخر الذي هو أبعد من اللغة والذي يستدعي اللغة» (Kearney, Dialogues, p. 123).
في مقال منشور عام ١٩٥٧م بعنوان «الفلسفة وفكرة اللاتناهي»،٢١ يتحدث إيمانويل ليفيناس عن «اتجاهين تسلكهما الروح الفلسفية» (p. 47)، ويعرِّفهما من حيث أفكارهما المختلفة عن الحقيقة truth. في الاتجاه الأول، يذهب ليفيناس إلى أن «الحقيقة تتضمن التجربة. ففي الحقيقة يصون المفكر علاقته بواقع يختلف عنه، واقع هو غيره» (p. 47). وتقتضي هذه الحقيقة ضمنًا حركة تبتعد عن الدنيوي والعادي نحو الآخرية otherness. وهذه الحقيقة هي شكل التجربة، على الرغم من أنها ليست تجريبية: «لا تستحق التجربة اسمها إلا إذا كانت تنقلنا أبعد مما يؤسِّس طبيعتَنا» (p. 47). وفي وصف ليفيناس الإجمالي بدرجة كبيرة، يُربَط الآخر بمُسَلَّمة مفادها عدم الكفاية الحتمية في أي مفهوم أو تصور ﻟ ما يوجد. وعليه، ينبغي على الفكر أن يجعل نفسَه تغايُريًّا  heteronomy، يشتبه في نفسه باستمرار، وينفتح على الغير: «سينشغل الفكر بالآخر المطلق» (p. 47). ولكن الفكر الفلسفي قد يُحدَّد أيضًا — والحق إنه محدَّد دومًا تقريبًا — بأنه مستقِل يكتفي بنفسه، وأنه يتضمن تصورًا للحقيقة بوصفها «التزامًا حرًّا بالافتراض [ما يحتمل الصدق والكذب]» (p. 47)، ومشروعًا للمعرفة بما هي صيانة حرية المفكر عن طريق رد الغريب أو الآخر إلى المعروف: «وما هذه الحرية سوى رفض أن يكون الفكر مغتربًا في ولائه، مع الحفاظ على طبيعته وهويته، وأن يظل على الأيلولة إلى نفسه عِوضًا عن الأراضي المجهولة التي يبدو أن الفكر يقود إليها» (p. 48).
تُعد مقالة ليفيناس، بحد ذاتها، نوعًا من تبسيط الإمكانات الوجودية وتخطيطًا إجماليًّا لها، كما تُقدِّم نفسَها شرطًا للفكر أو تحديًا له. ولكنها تثير أحد الأسئلة التي تساور هذه الدراسة: كيف يمكن لأحدنا أن يمارس التغايُر؟ إذا كان الاحتفاء ﺑ الآخر يعني تجربة غير المألوف، والطارئ غير المتوقع، وما لا يمكن حسابه، أو تجربة يَقصُر عنها أيُّ مفهوم، فكيف يمكن للفكر أو اللغة أن تثبته بغير النفي؟ ألا ينطوي مفهوم الآخر، أو تصور اللغة التي تَتَعَالَقُ مع الآخر، على تناقض لفظي؟ ولأن التغايرية — محل النظر هنا — تروغ تمامًا، فمن الصعب تجنُّب القراءات المغلوطة لعمل دريدا بوصفه شكلًا من أشكال نزعة شك متطرفة أو حتى عدمية. ولكن الأمر ليس مسألة رفض أشكال التعقُّل النسقية المنطقية بحد ذاتها، سواء لصالح نسبية مفترَضة أو لصالح الحيلولة دون المعضلات الإبستيمولوجية. بل هو بالأحرى مسألة القراءة أو الكتابة طبقًا لأشكال جديدة من «التماسك» المراوغ والتغايري، تتصف بالتقييدية على طريقتها، حالها من حال أكثر قيود المنطق اعتيادًا. في مؤتمر انعقد في سيريزي Cerisy عام ١٩٨٠م عن أعمال دريدا، نراه يؤكد هيدجر:
«أعتقد أنه يوجد شكلان من التماسك عند هيدجر: في كل مرة يلتزم فيها هيدجر بتقديم شرح لشيء، ويريد أن يكون مفهومًا، نراه يتصالح مع التصور النسقي المنطقي للتماسك؛ ولكن ذلك التماسك الخاص يدخل في ارتباط أو تصالح أو تفاوض مع شيء آخر لم يُنظَر بعد. ذلكم هو الانفتاح المربك حقًّا الذي ينبغي فحصه» (Les fins de l’homme; à partir du travail de Jacques Derrida, p. 52).
ها هنا، تضطلع الطرائق «الأدبية» للغة بالدلالة وتكتسب أهميتها. فما طرائق الفكر والتماسك التي يمكن لبعض النصوص الأدبية أن تجسدها؟ لن يعود بمستطاع أحدنا فَهْم «الأدب» بوصفه عملًا يحدده خيال المؤلف الذاتي في مقابل نماذج التماسك المنطقية التي تحدد النص الفلسفي تحديدًا مثاليًّا. وفي رده على سؤال كيرني المتعلق بما إذا كان الأدب يمكنه توفير وسيلة للوصول إلى «الآخر» بوصفه لا – موقعًا  non-lieu للفلسفة [أو بديلًا]، يجيب دريدا بجزم مقيَّد:
«أعتقد ذلك؛ لكنني عندما أتحدث عن الأدب literature، أتحدث عنه من دون حرف كبير L؛ وفي ذلك — على الأصح — إلماح ضمني إلى اتجاهات بعينها تدور حول حدود مفاهيمنا المنطقية، ونصوص بعينها ترج حدود لغتنا رجًّا، فتكشف عنها بوصفها حدودًا قابلة للقسمة وإثارة الشكوك والتساؤلات» (Kearney, Dialogues, p. 112).
ثم يشير دريدا إلى أعمال «بلانشو أو باتاي Bataille أو بيكيت Beckett». والحق إن دريدا لا يهتم بمؤسسة الأدب في حد ذاتها، بل يهتم ﺑ «نصوص بعينها ترج حدود لغتنا رجًّا». ويسلم دريدا بأن معظم الأدب ميتافيزيقي بكل ما في الكلمة من معنى، كأي نص فلسفي. غير أن اسم مالارمه يشير إلى ظهور الأدب وانبثاقه بالمعنى الذي يحدده دريدا ويخصصه (وحين يشير دريدا إلى مالارمه بهذه الطريقة يقتفي خُطَى بلانشو). والأكثر من هذا، يسعى دريدا إلى ممارسة شكل من الكتابة «الأدبية» أو الفلسفية التغايرية التي تنشغل بالآخرية انشغالًا يتعذر بلوغه في النصوص النظرية. وفي ذلك أيضًا، يكمن الاختلاف الألفت للانتباه بين أعمال دريدا وأعمال دي مان التي يبدو أنها تُماثِل ظاهريًّا أعمال دريدا، فطريقة دي مان نظرية تحليلية.
ولعل مظهر الاهتمام الأشد إثارة بالطرائق «الأدبية» في اللغة، بوصفها كشفًا لحدود نماذج التماسك الفلسفي، كان إحياء شكل الحوار في الفلسفة نفسها. والحق إن الحوار عند ثلاثة مفكرين نناقش «حواراﺗ»ﻬم هنا قد اضطلع باستثارة طريفة، لا سيما أن شكل الحوار نفسه ينطوي على تضمين راديكالي مفتقَد منذ الحوارات السقراطية. والأكثر من هذا، لعله من المفيد النظر إلى معظم التجديدات التي طرأت على عرْض الحجة الفلسفية و«أسلوﺑ»ﻬﺎ، أو أُيِّدت مؤخرًا، بوصفها تنويعات معاصرة على شكل الحوار. (وبهذا الخصوص، يمكن الإشارة إلى استعمال دريدا نمطَ الأعمدة المزدوجة في كتابه «نواقيس»،٢٢ وإلى مزج بلانشو بين الشذرات الحوارية والتأمل النثري في أعماله منذ عام ١٩٦٠م، وإلى تحويل هيدجر «طريق» اللغة).
يعمل الحوار دائمًا بوصفه أداة مناسبة ﻟ عرْض الحجج واللعب بمختلف الأطروحات ونقيضها ضد بعضها البعض في سياقات من الجمع المفتعل بينها. غير أن الأهم من ذلك هو الخصائص الأخرى لتجليات الشكل التاريخية التي يمكن تعدادها على النحو الآتي: (١) الحوار من حيث هو شكل درامي يجسد بالضرورة حدثًا، وبذلك ينطوي الحوار حتمًا على قوة أخلاقية محددة. وغالبًا ما يكون نموذجًا ضمنيًّا للمجتمع. ومن هذه الجهة، يمكن ملاحظة أن حوارات كثيرة جرت في السجن (محاورة «فيدون» Phaedo التي كتبها أفلاطون Plato، أو محاورة «عزاء الفلسفة» The Consolation of Philosophy التي كتبها بوئثيوس Boethius، أو «محاورة العزاء في المحنة» A Dialogue of Comfort against Tribulation التي كتبها السير توماس مور Sir Thomas More). (٢) وعليه، ينطوي الحوار على علاقة أصيلة بقواعد التربية وقضايا التأثير وتبادل التأثير فيما بين الذوات. وقد بات من المعروف أن التحليل النفسي الفرويدي ينعش — من هذه الناحية — الحوار إنعاشًا قويًّا، إنْ لم يكن في شكله المكتوب أيضًا.٢٣ (٣) لعل خصيصة الحوار الأهم — وإنْ كانت نادرة ومراوغة — أنه ينخرط في احتمال التوليد السقراطي  maieutics؛ وأقصد به نظامًا من التبادل الكلامي الذي يسمح في حد ذاته بتوليد أفكار جديدة وغير متوقعة أثناء الحوار نفسه. ومؤلف هذه الأفكار هو الحوار — الحدث بأكمله وليس أي مشارك بعينه (على الرغم من أن أفلاطون اعتقد أن الأفكار كانت ضمنية في شكل غير متذكر لدى جميع المتحاورين). ومع ذلك، ونظرًا إلى أن أحدنا يتعامل دائمًا مع شكل مكتوب، فإن الفعالية الحقيقية ﻟ التوليد السقراطي — لِنَقُل، في إحدى محاورات أفلاطون — هي سؤال مفتوح. ويُعنى ليفيناس بدقة هذه القضية حين يقول إن «الحوار الأفلاطوني هو ذكرى الدراما لا الدراما نفسها» (Otherwise than Being or Beyond Essence, p. 20). ويمكن لأحدنا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فيرى التوليد السقراطي ممارسة أفلاطون الأدبية الخيالية بغرض التعليم ليس إلا. ومع ذلك، تتميز المحاورات الحديثة التي يناقشها هذا المقال بميزة رئيسية، ألا وهي تحاشي هذه المشكلات التي باتت قديمة من خلال إعادة تشكيل جديدة ﻟ فن التوليد.
منذ أن أحيا هيدجر شكل الحوار في خمسينيات القرن العشرين إحياءً ابتكاريًّا، مرورًا بتصور بلانشو عن السرد  récit (narrative)، وصولًا إلى نصوص مثل «خطوة-لا» Pas و«إسفنجة العلامة/علامات بونج» Signsponge كتبها دريدا، يمكن صياغة المسألة على النحو الآتي: «لعله توجد طريقة في التفكير أعمق من طريقة التفكير التي يطلق عليها اسم الفلسفة».٢٤
١  Roman Ingarden, The Literary Work of Art: An Investigation on the Borderlines of Ontology, Logic and Theory of Literature, trns. George G. Grabowicz (Evanston, Ill, Northwestern University Press, 1973), p. 3.
٢  René Wellek and Austin Warren, Theory of Literature (first published 1949; Harmondsworth, Middx.: Penguin, 1973). Ch. 12 was written by Wellek.
٣  Joseph Libertson, Proximity: Levinas, Blanchot, Bataille and Communication (The Hague: Martinus Nijhoff, 1982), p. 141.
٤  في مقابلة مع ريتشارد كيرني Richard Kearney بعنوان Deconstruction and the Other ضمن كتاب Dialogues with Contemporary Continental Thinkers (Manchester: Manchester University Press, 1984), pp. 107–26,، يقول دريدا: «يَدين تكويني الفلسفي، في جانب كبير منه، إلى فكر هيجل Hegel وهوسرل Husserl وهيدجر Heidegger. ولعل هيدجر أدومهم تأثيرًا فيَّ، لا سيما مشروعه في «تجاوز» الميتافيزيقا اليونانية» (p. 109).
٥  للاطلاع على رؤية عامة للأزمة ما بعد التجريبية في فلسفة العلم، انظر: Ian Hacking, ed., Scientific Revolutions, Oxford Readings in Philosophy (Oxford: Oxford University Press, 1981); Mary Hesse, Revolutions and Reconstructions in the Philosophy of Science (Brighton: Harvester and Boomington, Indiana: Indiana University Press, 1980).
٦  A. E. Chambers, What is this Thing Called Science?, 2nd edn (Milton Keynes, Bucks.: Open University Press, 1982), p. 30.
٧  نقلًا عن: Dudley Schapere, “Meaning and Scientific Change,” in Scientific Revolutions, ed. Hacking, pp. 28–59, 48. ويلحظ شابير، في سياق المناقشة، أن كلمة «ربما» التي يقولها فيرابند زائدة في هذا الاقتباس.
٨  Ibid., p. 38.
٩  يقول أوين ميللر في توطئته لكتاب Identity of the Literary Text, ed. Mario J. Valdes and Owen Miller (Toronto: University of Toronto Press, 1985): «معظم المشاركين في هذا المجلد يسلِّمون بدرجات متفاوتة بأنه إذا فُهِمَ النص بوصفه أثرًا فنيًّا مستقلًّا ومكتفيًا بنفسه وله معنى محدد يعمل التفسير على اكتشافه واستعادته، فإن مفهوم الهوية لن يعود بقادر فعليًّا على التأثير بدرجة كبيرة بوصفه مفهومًا صالحًا ومقبولًا في النظرية الأدبية والنقد … سيبدو الاعتقادُ بأن الهوية النصية ليست مُعطًى سابقًا، بل عملية تتشكل أثناء فعل القراءة، موقفًا ربما يحظى بقبول واسع النطاق في الأوساط الفكرية والثقافية اليوم» (p. xix).
١٠  “Impossible Metaphors: Stevens “The Red Fern” as Example,” Yale French Studies, 69 (1985), pp. 150–61.
وتعاود الحجة المتعلقة بالشمس الظهور في مرحلة حاسمة من كتاب: The Linguistic Moment: from Wordsworth to Stevens (Princeton: Princeton University Press, 1985), pp. 141-2.
١١  Cleanth Brooks, The Well-Wrought Urn: Studies in the Structure of Poetry (New York: Harcourt Brace, 1947).
١٢  قارِن بما يقوله ستيفن بونجاي Stephen Bungay عن نظرية الفن عند هيجل في كتابه Beauty and Truth: A Study of Hegel’s Aesthetics (Oxford: Clarendon Press, 1987)، إذ يقول: «الفن مُكتنَفٌ بمقولة الروح المطلق Absolute Spirit. والعلاقة المطلقة علاقة ذاتية محضة. وهكذا، سيكون الروح المطلق مقولة لوعي الروح بنفسها، الأمر الذي يعني أن العلاقة بين الذاتين المنطقيتين المتضمنتين ستكون على النحو الذي تشكل به العلاقة نفسها جانبًا من الانعكاس: الذات تنعكس على نفسها وتعرف نفسها» (p. 28).
١٣  “Deconstruction and the Other,” in Kearney, Dialogues.
١٤  See Gary Madison’s useful essay, “Phenomenology and Existentialism: Husserl and the End of Idealism,” in Husserl: Expositions and Appraisals, ed. Frederick Elliston and Peter McCormick (Notre Dame, Ind.: University of Notre Dame Press, 1977), pp. 247–68, 248.
١٥  See Hubert Dreyfus and John Haugeland, “Husserl and Heidegger: Philosophy’s Last Stand,” in Heidegger and Modern Philosophy, ed. Michael Murray (New Haven, Conn. And London: Yale University Press, 1978), pp. 222–38.
١٦  Paul Ricour, “Heidegger and the Question of the Subject,” in The Conflict of Interpretations, ed. And trans. Don Ihde (Evanston, Ill.: Northwestern University Press, 1974), pp. 223–35.
١٧  Hans-Georg Gadamer, “Man and Language” (1966), in Philosophical Hermeneutics, ed. And trans. David E. Linge (Berkeley, Calif.: University of California Press, 1976), pp. 59–68, 62.
١٨  “The Nature of Things” (1960), in Philosophical Hermeneutics, pp. 69–81, 78.
للاطلاع على مدخل موجز واضح إلى الهرمنيوطيقا في الفلسفة، انظر: Paul Ricoeur: “The Task of Hermeneutics” (1975), in Hermeneutics and the Human Sciences, trans. John B. Thompson (Cambridge: Cambridge University Press and Paris: Editions de la Maison des Sciences de l’Homme, 1981), pp. 43–62.
١٩  انظر على سبيل المثال: Hubert L. Dreyfus, Mind over Machine: The Power of Human Intuition and Expertise in the Era of the Computer (Oxford: Basil Blackwell, 1986).
٢٠  يستعمل دريدا تعبير «شِبْه متعالٍ» quasi-transcendental للإشارة إلى أن طريقته في البحث متعالية بمعنى الاستفسار عن شروط إمكان الموجودات، و«شِبْه» بمعنى أنه لا يقدم — كالأشكال الأخرى من الحجة المتعالية — أسسًا لتلك الموجودات. انظر: Psyche (Paris: Editions Galilée, 1987), p. 648.
٢١  Levinas, “Philosophy and the Idea of Infinity,” in Collected Philosophical Papers, trns. Alphonso Lingis (Dordrecht: Martinus Nijhoff, 1987), pp. 47–59.
٢٢  Glas (Paris: Editions Galilée, 1974). The Post Card: from Socrates to Freud and Beyond, trans. Alan Bass (Chicago, Ill.: University of Chicago Press, 1987).
ويمكن عَدُّ هذين الكتابين مؤشرًا على تغيير جذري في شكل الحوار.
٢٣  بخصوص التحليل النفسي والحوار، انظر: Shoshana Felman: Jacques Lacan and the Adventures of Insight: Psychoanalysis in Contemporary Culture (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1987).
٢٤  Derrida, in Didier Cahen, “Entretien avec Jacques Derrida,” Digraphe (1987), pp. 11–27, 18.
[كلمة Pas التي جعلها دريدا عنوانًا على عمله، تدل في الفرنسية على معنى الاسم «خطوة»، وفي الوقت نفسه تُستعمَل بوصفها أداة نفي. ويلعب دريدا في قراءته بلانشو على كلا المعنيين، الأمر الذي جعل الكلمة تفيد مبادرة اتخاذ خطوة نحو الآخر وفي الوقت نفسه تعليقها أو إيقافها. وقد آثرنا ترجمتها إلى «خطوة-لا». أما عنوان العمل الثاني فهو Signsponge الذي يقرأ فيه دريدا الشاعرَ فرانسيس بونج Francis Ponge، والكلمة بحد ذاتها لا معنى لها، غير أنها تعني الكثير عند تشقيقها، حيث تضم الإمكانات الآتية: sign التي تعني علامة، ثم sponge التي تعني إسفنجة. ولو شققناها بطريقة أخرى فستضم: signs التي تعني علامات، ثم ponge التي هي اسم الشاعر، والتي تدل في الوقت نفسه على «الحرير»، وقد آثرنا ترجمة العنوان إلى «إسفنجة العلامة/علامات بونج». (المترجم)]

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤