حاشية: مسئوليات

ينشغل أحدث عمل كَتَبه دريدا في شكل حوار (على حد علمي) بقضية المسئولية، التي هي هَمٌّ متواتر عند بلانشو وفي أعمال دريدا على امتداد ثمانينيات القرن العشرين. ولعله من الضروري، الآن، الحديث عن تصور المسئولية بقدر من التفصيل، سواء في الأخلاق أو السياسة أو (إذا تجاسر أحدنا على القول) في النقد الأدبي، وهو تصور لا يقوم على تنحية مفاهيم الذات أو التمثيل لسبب أو لآخر.

جاءت خلفية محاورة هيدجر المعنونة ﺑ «محادثة على طريق القرية بشأن الفكر»، وكذلك كتاب بلانشو «الانتظار النسيان» (فالخلفية هي طريق القرية عند هيدجر، وغرفة عصرية بلا ملامح عند بلانشو) — جاءت خلفية هاتين المحاورتين في حدها الأدنى؛ الأمر الذي أفسح المجال أمام خلفية غير واضحة تمامًا في محاورة دريدا بشأن هذه القضايا: «ها أنا ذا، في هذه اللحظة عينها من هذا الكتاب» (١٩٨٠م).١ غير أن هذا النقص ليس إلا نقصًا ظاهريًّا، ﻓ «الخلفية» (كما كانت من قبل ضمنية) هي «أنت» أيها القارئ في عملية القراءة الجارية «الآن». وذلكم أمر يشهد عليه تواتر انعكاسات الإشارة («هنا»، «أنا»، «الآن») في ثنايا المحاورة أو في عنوانها نفسه.

وكما سنرى، ينشغل الحوار بجوانب فكر ليفيناس، كالتي انشغل بها دريدا من قبل عند قراءة كتاب بلانشو «الانتظار النسيان». يجري الحوار بين صوتين موسومين بسمات مذكرة ومؤنثة على التوالي، وينتهي بنقش محفور بحروف لاتينية كبيرة تجسد تداخل الصوتين المتبادل.

القضية البارزة في عمل ليفيناس المعنون ﺑ «على طريقة أخرى سوى الوجود أو ما وراء الماهية»٢ هي ما يبدو تناقضًا تداوليًّا في هذا العمل، ألا وهو أن ليفيناس يكتب في واقع الحال كتبًا. إذ كيف يمكن التعبير عن فكر المسئولية نحو التفرد وغيرية الآخر بأسلوب الفرضية الفلسفية من دون أن يغدو هذا التعبير هو نفسه — بحكم أسلوب الفرضية الفلسفية — غيرَ مسئول واختزاليًّا؟ ردا على هذا المأزق، يهتم المحاوِر المذكر نفسه، في حوار دريدا، بتكرار لحظات من الإحالة إلى الذات (على ما يبدو) في نص ليفيناس، مثل الآتي:
«ولكن هل ينجح العقل في تمييز العدالة، والدولة، وتقديم منطق موضوعي، والمعالجة التزامنية، وإعادة التقديم، واللوجوس logos، فيستوعب في تماسكها المترابط جلاءَ القرب الذي يَتكشَّف فيها؟ أفلا يخضع القرب للعقلنة، بما أن المناقشة عينها التي نتعقبها في هذه اللحظة تكتسب أهمية بفضل مَقولها، لأننا في تعلقنا بموضوع الكلام نتناول بالتزامن العبارات، ونشكل نسقًا فيما بينها، ونستعمل فعل الكينونة …» (Otherwise than Being or Beyond Essence, p. 167, cited in Psyche, p. 171; Derrida’s emphasis).
ها هنا، لا يقتصر ليفيناس على الدعوة إلى نفي الذات وأداء هذا النفي بل يحققه ويؤديه عمليًّا، مؤكدًا أن خطابه عن الآخر والقول يعبر بالضرورة عن إطباقهما عينه! ولكن ما يقاوم هذا الالتفاف، وهذا الكسوف الكلي ﻟ القول  le Dire في المَقول  le Dit، حقيقةٌ بسيطة مُفادها أن «اللغة الشارحة لا يمكنها أبدًا إعطاء خطاب عما يجري في هذه اللحظة عينها في عملية التعبير» (Otherwise than Being or Beyond Essence, p. 171). وبالمثل، «انعكاس الخطاب على نفسه لا يشمل نفسَه في حد ذاتها» (Otherwise than Being or Beyond Essence, p. 171). وذلكم يتيح طريقة أخرى لقراءة لحظات الإحالة إلى الذات (البادية) في النص:
«ولا أزال أُقاطِع الخطابَ الذي فيه تُصاغ كل الخطابات، في قوله إلى مَن يستمع إليه، إلى مَن يتموضع خارج المَقول الذي يقوله الخطاب، خارج كل ما يشمله الخطاب. وذلكم ينطبق على المناقشة التي أُجريها في هذه اللحظة عينها. فهذه الإحالة إلى مُحاوِرٍ، تخترق باستمرار النص الذي يزعم الخطاب أنه ينسجه ناظرًا في موضوعات ومستقصيًا كل شيء» (Otherwise than Being or Beyond Essence, p. 170).
يجب أن يكون البعد التخاطبي [وجود مخاطَب] في أي لغة، قد وجَّه نفسَه ومطلبه إليك برغم كل شيء، سواء اعترف بذلك أم لا. وهكذا، تفتتح إستراتيجية ليفيناس، بتجنبها شكل الحوار نفسه، نوعًا واضح التقليدية من اللغة الشارحة، وتشير إلى البعد الأخلاقي أو الأبعاد الأخلاقية التي تكتنف اللغة الشارحة فتَفض تمركزَها ببراعة. وبهذه الطريقة، يَئول نظامُ الذاتية الصارم الذي قد يبدو سمة الحوار إلى مطالبة بالمسئولية عن الآخر المؤكَّد بوصفه بعدًا متعاليًا في أي نص، وإن كان بعدًا متجاهلًا في العادة.
يهتم الصوت المذكر في محاورة دريدا بمشكلات الكتابة عن عنصر المفعولية أكثر من اهتمامه بالعنصر نفسه؛ فيلاحظ دريدا أن ليفيناس مجبر على الإفصاح عنه عبر سلسلة من المقاطعات أو لحظات الإحالة إلى الذات. فمرةً يقرؤه بوصفه تأكيدًا ظاهرًا فيما يبدو أنه قمع حتمي للقول في مَقول أي خطاب («المناقشة عينها التي نتابعها في هذه اللحظة مهمة بفضل مَقولها») (Otherwise than Being or Beyond Essence, p. 178)؛ ثم يقرؤه مرةً أخرى بوصفه شكلًا من برهان الخُلْف على القوة الكلية لموضوع الكلام (فالإحالة إلى مُحَاوِرٍ «تنطبق»، بالضرورة، «على المناقشة التي أُجريها في هذه اللحظة عينها» (Otherwise than Being or Beyond Essence, p. 170)). ولكن، كما يجادل دريدا فيما يتعلق بهذا النص، هناك حدثان لا بد منهما على التوالي.
في هذه الفكرة عن التسلسل، يُمَفْهِم دريدا ضرورةَ (المقاطعة) التي سبق أن أشرتُ إليها في نصوص هيدجر وبلانشو الحوارية. سيتوافق «التسلسل» — أولًا — مع حركة كلمة «الانتظار» أو انعطافها على نفسها أثناء حديث المتحاورين المختلفين في «محادثة» هيدجر، وهي ممارسة يجري فيها تحويل اللغة نفسها. ثم يتوافق — ثانيًا — مع بناء كتاب «الانتظار النسيان» الذي يَلغِي نفسَه بنفسه، حيث تتحول كلمة الانتظار إلى حدث خاص لظهور لازم غير متعد. وعندئذٍ، ربما يُقرَأ هذا التسلسل بأثر رجعي، إما عند هيدجر في ضرورة التكرار والمقاطعة وتغيير المتكلم باستمرار، أو عند بلانشو في شكل البناء الذي يفكك أي قراءة من منظور المحتوى الخبري بإثبات عباراتها ونفيها على التوالي. وبرغم ذلك، تشير كلمة التسلسل عند دريدا إلى تقدم طفيف على السرد عند بلانشو، بفضل تفصيل إيضاحي للنهج الدقيق الذي يحتاج فيه الحدث التغايري — بوصفه أيضًا حدثًا يتجاوز اللغة مع ذلك — إلى النظام عينه الذي يتجاوزه (التمثيل) ليسجل قوته ويعلن عن نفسه على أية حال. تلكم هي مسألة التلوث الضروري لطرائق اللغة وتداخلها الحتمي، وعلى سبيل المثال، يمكن لأحدنا أن يقرأ هذه النصوص دائمًا بطريقة تنكر الأبعاد الأدائية فيها، الأمر الذي يجعل من نصوص هيدجر شكلًا من اللعب الشارد بالكلمة يهيم على وجهه (وهي نظرة لا تزال مسموعة)، ومن نصوص بلانشو سلسلةً من الشعوذات الفارغة أو الحيل يمارسها السحرة في ألعابهم، ومن نصوص ليفيناس مجردَ بلاغة نفي للذات أو (بالقدر نفسه من الإدانة وعلى قدم المساواة) بلاغة تحقيق للذات. إن التسلسل بوصفه المخاطرة بالاستتار ضروري، ولا بد أن يذعن له الآخر كي يمكن تصوره أو الدخول معه في علاقة على أي حال.
ويجسد استعمال دريدا شكل الحوار هذا التلوث والتداخل الضروري في صوته الثاني المؤنث: قارئة ليفيناس التي تصر على قراءته بطريقة أخرى، أعني من منظور الغير الذي يحكم النص بعبارات تنكرها فكرة ليفيناس عن قول الآخر الخالص. فإذا كان على القول بوصفه التماس الآخر/وقوله في كليته أن يغامر بالانمحاء في دعوته عينها للآخر، فعندئذٍ ستغدو هذه المخاطرة عينها أو التلوث والتداخل غيرًا، يتوجب عليه — وهنا المفارقة — أن يمحو نفسَه ويطمسها لصالح الآخر المحض أو الآخر في كليته. لذا، من الغريب أن يُقرَأ غير الآخر عند ليفيناس بوصفه إحالة ذاتية واقتصادًا للهُوية، بدلًا من أن يكون تغايرًا حقيقيًّا! وتذهب المُحاوِرة الأنثى إلى أن هذا الغيرَ المتجاهَل المشوب متضمَّنٌ في معالجة الاختلاف الجنسي في تصور ليفيناس للأخلاقي.
ويُعد شكل محاورة دريدا — كونها حوارًا بين أصوات تُوسَم بسمات مذكرة ومؤنثة على التوالي — تأكيدًا فعليًّا للاختلاف الجنسي، في مقابل، مثلًا، التحييد الفاعل في محاورة هيدجر «محادثة على طريق القرية بشأن الفكر». ويستدعي دريدا، هنا، لفتة نادرة عن ليفيناس، ألا وهي أن ليفيناس يكتب بكل وضوح بوصفه رجلًا، ومن ثَم يرفض الحيادية التي يُزعَم أنها المعيار الفلسفي. وبرغم ذلك، يؤكد الصوت المؤنث في الحوار عدمَ التجانس الذي يقال إن ليفيناس ينكره. يقول الصوت المؤنث:
«يبدو لي أن عمل ليفيناس يضع الآخرية بوصفها اختلافًا جنسيًّا وضعًا ثانويًّا أو يجعلها مشتقة، ويُخضِع سمةَ الاختلاف الجنسي لآخرية آخر كلي من دون سمات جنسية. ليست المرأة أو السمات المؤنثة هي التي تحتل مرتبة ثانوية أو مشتقة أو مرتبة الخاضع بل الاختلاف الجنسي» (Psyche, p. 194).
ومع ذلك، يعني إخضاع الاختلاف الجنسي نفسه السماح بطريقة حميمة لهيمنة الحيادية التي تُوسَم بأنها مذكرة، لا سيما في اللغة الفرنسية: (“il avant il/elle…”) [it (= he) before he/she]. (Psyche, p. 194). ومن ثَم، يَظهر المؤنث — بوصفه الكلمة الحيادية — بوصفه آخر الآخر عند ليفيناس: «الآخر بوصفه مؤنثًا (فيَّ)، بعيدًا عن كونه مشتقًّا أو ثانويًّا، سيغدو آخر قول الآخر في كليته» (Psyche, p. 197).
لذا، يُعد هذا التأنيث الإكمالي — بوصفه غيرًا ينكره تصور الآخر المحض — شكلًا من عدم الملاءمة التي تحتل موقع تلك المخاطرة بالتلوث والتداخل، أو ضرورة التسلسل، التي يُؤكَّد بالفعل أنها حتمية إذا كان القول مقروءًا. وأما الخطأ فهو بالضرورة أحد أبعاد أي نص من شأنه أن يقول — أو يؤدي — موضوعًا غير موضوع الكلام أو ما لا يمكن حسابه:
«سيقع الخطأ دائمًا: منذ اللحظة عينها التي أجعل فيها موضوعَ كلام ذلك العنصرَ في عمله الذي يتجاوز أي موضوع كلام ممكن. ولنكن متأكدين من أن هناك تلوثًا وتداخلًا في عمله بالفعل، فيما يجعله موضوع كلام بشأن ما لا يمكن أن يكون موضوع كلام، حتى «في هذه اللحظة»» (Psyche, p. 200).
وإذن، في قراءة ليفيناس «على طريقة أخرى …» لا يهدف الصوت المؤنث إلى قراءة مختلفة للغير: الصوت المؤنث يجسده بوصفه إمكان التلوث والتداخل بواسطة فعله عينه: «موضوع الكلام الذي لا يمكن قمعه، أُلوِّثه بالتداخل معه» (Psyche, p. 200). وبهذه الطريقة، و«في هذه اللحظة»، وباستعمال شكل الحوار، تجسد المرأة من ثَم تعددية الصوت والالتباس الذي لم تتمكن إستراتيجية ليفيناس من احتوائهما. وقبل كل شيء، تؤدي المُحاوِرة المؤنثة ما قد يُعد شكلًا يُضرَب به المثل على قراءة مسئولة (على الرغم من أن فكرة مضرب المثل المستعملة، هنا، تحتاج إلى التعديل على نحو ما اتضح من قبل). ولْنفحص ما يجري في هذا الحوار، أو بوصفه هذا الحوار. يستجيب الصوت المؤنث عند ليفيناس لدعوة الغير، الذي يعتقد أن كتابته متاحة ومحتجبة في آنٍ. فهي تقرأ بطريقة — وعلى وجه التحديد لكونها مخلصة لليفيناس — تعبر بها بإخلاصٍ (وعدم إخلاص) عن الآخر الذي لا يستطيع ليفيناس إفساح محل له أو تهيئة مجيئه، والذي بإقصائه يمنح نصَّه تماسكَه. وليس معنى ذلك القول إن المرأة — الصوت المؤنث — تكتشف تناقضًا، يرتاب في ليفيناس أو «يدحضه»: الإطار الذي لا يزال أحدنا يعتقد معه أن أفكارًا مثل التناقض أو التفنيد والدحض بمعزل عن اللعبة الجارية هنا. بل الأحرى أن المرأة تحول نص ليفيناس وتوسُّعه وتنشُّطه من جديد بإخضاعه إلى الغير المَشوب الذي يخترقه («ذلك الغير الذي يتجاوز اللغة والذي يستدعي اللغة») (Kearney, “Dialogues”, p. 123).
يمكن أن تكون إعادة صياغة ليفيناس مرتبطة بفكرة التسلسل  sériature. إذ بينما يظل من الممكن تمامًا قراءة هيدجر وبلانشو وليفيناس من منظور طرائق اللغة عينها التي يسائلونها، ستلتفت القراءة المسئولة — وتصغي — إلى تعالي  viens الفريدة (الآخر داخل الذات)، ذلك النداء الفريد الذي يحرك كل نص ويؤسس فتنته وسحره. القراءة المسئولة قراءة تسعى إلى تأكيد كل ما يتجاوز في النص إغلاقات التمثيل. وتكمن مسئوليتها — التي يؤكدها مفهوم التسلسل — في أن أي فائض يخاطر بالانمحاء بوصفه شرط ظهوره. ومن هنا، «تَحمِل المسئولية معها — ولا بد أن تحمل — إفراطًا وفيضانًا أساسيًّا».٣ وهو ما لا يمكن حسابه سلفًا. وذلكم على وجه التحديد لأن المسئولية تتعلق بالآخر بوصفه غير القابل للحساب الذي تنطوي المسئولية على حسمه. ولا يمكن أن تتحقق هذه المسئولية نتيجة أي نسق أو منهاج عام، فهي فريدة دومًا. المسئولية فراكتيلية وليست نموذجية.
هل يمكن ربط أفكار المسئولية هذه بما قد اعتدنا أن نطلق عليه قضايا القيمة الأدبية؟ في نص حديث بعنوان «القابل للانحلال» (١٩٨٩م)٤ — يخصصه دريدا أساسًا للدفاع عن بول دي مان — يرتبط «حدث التوقيع» (p. 845) — كالذي جرى تتبعه عند بلانشو وبونج — بمسألة قوة النص أو ثرائه، التي يمكن قياسها بقابليته للبقاء وقدرته المستمرة على جذب التفسير. ويمكن قراءة دريدا بوصفه واضع حدث التوقيع داخل اقتصاد نصي يتميز بطرفي نقيض: (أ) تفرده الكامل وعدم قابليته للترجمة، عندما يتجاوز النص تصورات المعنى المتوارثة ببساطة لعدم انطوائه على أي منها، فيغدو من ثم غير مفهوم [أو عصيًّا على القراءة]. (ب) قابليته الكاملة للترجمة، كأن يكون معنى النص بسيطًا بساطةً لا خلاف عليها؛ وفي هذه الحالة، تكون قراءة شذرة نيتشه «لقد نسيت مظلتي» غير قابلة للتفسير تقريبًا، لأنها تفتقر إلى خصوصية سياق يضيئها، الأمر الذي يجعلها مثالًا على شكل من «الفقر مَرَدُّه أحادية المعنى» (Living On, p. 90). ويؤكد مقال «حدود فاصلة» Borderlines (١٩٧٩م) أن أي نص لا بد أن يتخذ موقعًا بين هذين القطبين. أما مقال «القابل للانحلال» فيذهب إلى حد القول إن هناك علاقة اقتصادية بعينها بين هذين القطبين يمكن اكتشافها في النصوص ذات القدرة الأعظم أو البقاء: «ما الذي يجعل أعمالًا «عظيمة»، لنقل مثلًا أعمال أفلاطون وشكسبير وهوجو ومالارمه وجيمس جويس وكافكا وهيدجر وبنيامين وبلانشو وسيلان تقاوم الدثور؟» (p. 845). فهذه النصوص تحتل مكانة مرموقة، لأنها تعمل على تخصيب السياقات الثقافية التي تُنقل إليها، على الرغم من أنها في الوقت نفسه تقاوم هذه السياقات وتُشكِّك فيها. وأخيرًا، ففي اجتماع النقيضين الذي يجب أن يميل إليه التغاير، نجد هذه النصوص قابلة للاستيعاب «بوصفها غير قابلة للاستيعاب، وباقية في الاتجاه العكسي، وغير قابلة للنسيان لأنها غير مفهومة، وقادرة على إحداث المعنى من دون أن يستنفدها المعنى» (p. 845). وبرغم ذلك، فكما توحي كلمة biodegradable [= «القابل للانحلال»]، ليس استنفاد النص بالأمر غير المتناهي.
تُربَط قابلية الاستيعاب بوصفها عدم قابلية استيعاب، ربطًا غامضًا نسبيًّا، ﺑ حدث التوقيع بوصفه ذلك الحدث في النص الذي لا ينتمي إلى نظام المعنى، فلا يستملكه أحد، ومن ثَم «يَقرِن الثراءَ الكلي ﻟ «الرسالة» بتفرد غير مفهوم». ويبادر دريدا مضيفًا أن ذلك لا يعني تأكيد مجرد انعدام المعنى أو استعصاء النص على الفَهْم، بل الأحرى أن «المعنى يجب أن يرتبط على نحو ما بما يتجاوزه» (p. 846). وعلى سبيل المثال، قد يضيف أحدنا قائلًا إن صعوبة نصوص بلانشو لا ترجع إلى اللعب بالكلمة أو الالتباس. بل على العكس، تمتلك هذه النصوص ما يمكن أن يُسمَّى، على سبيل التناقض، الوضوح المقاوِم. لا تقوم طبيعة هذه النصوص ببساطة على كسر تلك القواعد التي تحدد المعنى والنسق والحسم، لا ولا على تعطيلها أو تشويشها … إلخ، بل على «ثني تلك القواعد بالنظر إلى هذه القواعد نفسها، من أجل السماح للآخر بالمجيء أو الإعلان عن مجيئه في انفتاح هذا التشقق».٥ ويعيِّن «حدث التوقيع» هذا الإجراء في شكله الخاص المتميز.

إن المناقشة التي يقدمها مقال «القابل للانحلال»، والتي تربط حدث التوقيع بقوة النص، تظل موحية أكثر منها مقنعة في هذه المرحلة من صياغتها؛ فالصفة المائزة — «القابل للاستيعاب بوصفه غير قابل للاستيعاب» — تقدم على سبيل المثال وصفًا ممتازًا لحالة القضايا المعروف أنها «مشكلات الفلسفة» (مشكلة العقل/الجسد، مسألة الإرادة الحرة، مفارقات زينون، وما إلى ذلك). وتظل هذه القضايا، حتى لو جرى الاستخفاف بها، حوافز مثمرة للعمل الفكري، نظرًا إلى أنه إما يستحيل الإجابة عنها أو مداواة العقل من إلحاحها عليه. وبرغم ذلك، يتطلب حدث التوقيع، في السياق الحالي، إطارًا مفاهيميًّا يعمل على تقدير تعقيد الحدود التي تتبعناها بين الفكري والجمالي حَق قدره. يعقد دريدا المقارنة الآتية بالموسيقى:

«يمكن للموسيقى أيضًا، في حالات بعينها، أن تقاوم المحو إلى حد أنها — بفضل شكلها عينه — لا تَدع نفسَها تَتحلل هكذا بسهولة إلى المبدأ العام للمعنى في الخطاب. ومن وجهة النظر هذه على أي حال، ستكون الموسيقى أقل «قبولًا للانحلال» من الخطاب وحتى من فن الخطاب» (p. 847).
ومن ثَم، يُعد حدث التوقيع تعبيرًا محددًا عن النصية «بوصفها عملية انفتاح/انغلاق غير قابلة للحسم تُعيد تشكيل نفسها من دون توقف» (Dissemination, p. 337)، وهو كذلك فيما يتعلق بالتفرد الخاص لما يعطي المعنى ويتجاوزه في الآن نفسه. ولعل دريدا يشير إلى الاقتصاد الفاعل هنا من منظور غشاء بكارة  hymen بين الصدفة والضرورة فاعل في كلمة pas والمقطع ra عند بلانشو، أو في رسم حروف اسم Ponge. إن النص بما هو أثر هذه التأثيرات بين العناصر الصوتية والخطية، يعطي معنى ويتجاوز المعنى، وهو دائمًا آتٍ، على أساس «تنظيم «شكلي» لا ينطوي على معنى في حد ذاته، وهذا لا يعني أنه إما اللامعنى أو عذابات اللامعقول التي تنتاب النزعة الإنسانية الميتافيزيقية» (Margins of Philosophy, p. 134).
يتوافق قدر كبير من الحركة شِبْه المتعالية للغة التي تنعطف على نفسها عند هيدجر وبلانشو ودريدا مع تعريف كريستوفر فينسك للنص المسئول بأنه «فعل كلامي يتخذ شكلًا، ويؤسس نفسَه في انعكاسه على أدائه».٦ ها هنا، يقترح الحوار السقراطي نفسَه، مرة أخرى، بوصفه النموذج؛ الأمر الذي ينبهنا أيضًا إلى أن التركيز على قضايا الماهية والصفة المائزة لهاته النصوص التي ناقشناها هنا لا يعني بالضرورة تنحية الشئون السياسية أو الاجتماعية العامة. فالحق إن النص المسئول من ﺷﺄنه أن يشكل بحكم التعريف تأملًا في ظروف منشأه وتكوينه، فيثير هذه القضايا بوصفها قضايا الأطر التأسيسية للكتابة، وطريقة تجسيده لأشكال جديدة من من الجماعة أو الفكر بطرق أخرى، والأهم من هذا وذاك أنه بوصفه تغايريًّا يعاني عوزًا ضروريًّا، ويتشكك في كل مرة في مفسريه ومعايير التفسير. «كلما علق العمل على نفسه استدعى التعليقات» (Blanchot, L’entretien infini, p. 572). وبطريقة مماثلة، ستنتبه القراءة المسئولة إلى حدث التوقيع الذي يشكل النص، وستقرأ النص بوصفه نصًّا مؤرخًا ومنفتحًا وآتيًا في آنٍ، متقبلةً مخاطرة التعليق التي لا مفر منها.
وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن كتابَي دريدا «خطوة-لا» و«إسفنجة العلامة/علامات بونج» بقدر ما هما عن الصعوبة والالتفاف، يكون دريدا مستعدًّا لممارسة أسلوب الأداء (أو الحوار). أما مقال «النفس: اختراعات الآخر» Psyche: Inventions of the Other — المخصص بدرجة كبيرة لنص بونج «حكاية خيالية» — فهو مكتوب على هيئة درس تقليدي يهتم فيه دريدا بقضايا التصنيف المؤسسي للنصوص وحقوق الملكية وقانون براءة الاختراع ومفهوم الاختراع وحدود التحكم أو التوقع العلمي التقني. وبالمثل، تنطبق هنا قضية تفرد الأدب على نقاشات معاصرة بشأن حالة الأنساق الشكلية وطبيعة الكمبيوترات وحدودها بوصفها أنساقًا شكلية أوتوماتيكية. ففيما يخص فكرة الاختراع مثلًا، يلاحظ دريدا أنه بينما نشأت الاختراعات في الماضي بوصفها مصادفة عارضة أو نتيجة مهارة، فهي الآن قائمة على مؤسسات عالمية ضخمة مخصصة لبرمجة احتمالات الاختراع وحسابها، ثم استغلالها والتحكم فيها.٧ ومن ناحية أخرى، ينبغي على التفكيك أن يصبح «اختراعًا للآخر». أو الأحرى، لأن الآخر، بوصفه الطارئ غير المتوقع، فلا يمكن في حد ذاته أن يكون مخترَعًا، إنها مسألة إسلام النفس لتأثيراتِ غيرِ القابل للحساب، مسألة إعطاء «فرصة» للآخر.

وما كانت حكاية بونج الخيالية سوى هذا الاختراع:

«لا يخلق عمل بونج «حكاية خيالية» Fable شيئًا، بالمعنى اللاهوتي لكلمة يخلق (تلك هي الحالة فيما يبدو على الأقل)، فهو لا يخترع إلا باللجوء إلى المعجم وقواعد النحو والشفرة السائدة، وإلى الأعراف التي يخضع لها بطريقة معينة. ولكن العمل يؤدي إلى ظهور حدث، ويحكي قصة خيالية، وينتج نظامًا آليًّا حين يمهد إلى التباين أو الفجوة في الاستعمال العادي للكلام … إنه يفتتح بداية جديدة» (Psyche, p. 43).
إن سهولة تلقي عمل بونج «حكاية خيالية» أو سلاسته في القراءة، وكذلك إلى حد ما العديد من دروس دريدا الأحدث، يدل على أن النص المسئول ليس من الضروري فيه أن يكون نصًّا صعبًا صعوبةَ كتابَي «خطوة-لا» و«إسفنجة العلامة/علامات بونج»؛ وبرغم ذلك، فالفكر التحريضي الذي يتخذ «مظهرًا بسيطًا» بساطةَ عمل بونج «حكاية خيالية» أو مقال دريدا «النفس: اختراعات الآخر» قد يأتي في النهاية.
ولعل إحدى النتائج المترتبة على هذه المناقشة، وعلى حركة الفكر الفاعلة في نصوص مثل «إسفنجة العلامة/علامات بونج» و«خطوة-لا»، هي أن كلمة تفكيك قد غدت إشكالية على نحو أزيد. ما الذي تشير إليه هذه الكلمة أو تسميه؟ يجيب عمل دريدا «رسالة إلى صديق ياباني» عن هذا السؤال بعبارات بعيدة تمامًا عن الخطوط العريضة للنهج التفكيكي الواردة في كتابه «مواقع» Positions الصادر في أوائل سبعينيات القرن العشرين.٨ تبدو فكرة التفكيك بوصفه نهجًا فكرةً مضللة خادعة، حالها في ذلك من حال إثبات الآخر ما دام الآخر ليس مفهومًا concept، أو نتيجة بناء ذاتي. ففي هذا النص، يلح دريدا على أن التفكيك ليس نهجًا أو موقفًا فكريًّا، كلا ولا هو «حتى فعلًا أو عملية»:
«التفكيك يحدث، وإنه حَدَثٌ لا ينتظر تداولًا أو وعيًا أو تنظيمًا من ذات [فاعلة]، أو حتى من الحداثة. [فما من حال سوى أن] هذا يُفكك نفسَه، [وما من قول سوى إن] هذا يَتفكك» (“Letter to a Japanese Friend,” p. 5).
إن عبارة «هذا يَتفكك» التي ربما تُقرَأ بوصفها إزاحة لعبارة هيدجر المفتاحية «ثمة الكينونة أو انوهاب الوجود»،٩ لا تشير هنا سوى إلى ما يشبه طريقة الوجود الإشكالية (الرؤيوية) في أي مشهد انتظار، إلى ما يمكن تأكيده أو قمعه. وبما أن التفكيك لا يمكن توقعه سلفًا أو برمجته، فهو مستحيل حقًّا، بالمعنى الدقيق لعدم الوقوع في نطاق الممكن أو القابل للحساب. هل هناك من ثَم خطر في أن يصبح التفكيك غير ممكن تمييزه تقريبًا عن تقوى هيدجر المشلولة نوعًا ما في طوره الأخير، حين رأى أنه ما من برنامج عمل يمكنه افتتاح علاقة جديدة بالوجود، فقال: («لن ينقذنا سوى إله. فالإمكان الوحيد المتاح أمامنا هو الإعداد لنوع من التأهب»)؟١٠ ولحسن الحظ، ثمة اختلاف قطعي بين موقف هيدجر ومناقشة دريدا المماثلة؛ أعني أنه لا يمكننا سوى تهيئة أنفسنا لمجيء الآخر. وفكرة دريدا عن هذا التأهب أو هذه التهيئة فكرة مسئولة مسئولية كاملة، لأنها تقتضي نوعًا من التحويل الذي رأيناه — مثلًا — في عمل بونج «حكاية خيالية»، ذلك التحويل الذي يمهد إلى «فجوة في الاستعمال العادي للكلام» بفضل سبْر جديد غير عادي لحدود اللغة المتوارثة. ولا يضع هذا الافتتاحَ — أو البدءَ الجديدَ — موضع التنفيذ سوى ممارسة علم التفرد والحدود في آنٍ، بما ينطوي عليه من مفارقة ظاهرة.
وذلكم يقودنا إلى وجه ثانٍ من وجوه المسئولية. فالترحيب بالطارئ غير المتوقع يقتضي حتمًا إعادة نظر كاملة في الموقع الذي يتحدث أحدنا انطلاقًا منه. إذ ينبغي ألا ينفصل فعل التفكير عن المخاطرة. ويُلمح دريدا إلى أن ذلك، على وجه التحديد، ما نسيه هيدجر عندما احتضن فكرُه بعضَ مظاهر النازية. ويعلن رفضُ المخاطرة الجوهرية في فعل التفكير عن نفسه أيضًا في أي استسلام إلى استسهال تقديم الذات أو الاستنتاج. لقد نشر دريدا مؤخرًا مقالة عن هيدجر تكلم فيها عن «تلك المخاطرة غير المحسوبة بالنسبة إلى الفكر ولكل مَن يخضع للفكر، بقدر ما يخضع له. ألا هل يمكن تخيل فكر من دون هذه المخاطرة؟» (Comment Donner Raison, “How to Concede with Reasons,” 1989).١١ ويؤكد دريدا أنه يكتب حتى يصل إلى موضع لا يعود عنده بقادر على توقُّع الجهة التي يمضي إليها أو التنبؤ بها، وقد يحسب أحدنا هذا التأكيد نوعًا من عدم المسئولية. كلا، إنها استراتيجية صارمة محكمة تسعى إلى تحقيق شكل من المسئولية في حدها الأقصى.
١  In Psyche (Paris: Editions Galilée, 1987), pp. 159–202; originally published in Texts pour Emmanuel Levinas (Paris: J. M. Place, 1980).
٢  See especially the section entitled “Scepticism and Reason,” pp. 165–71. For another account of this issue see Jan de Greef, “Skepticism and Reason,” in Face to Face with Levinas, ed. Richard A. Cohen (Albany, N.Y.: State University of New York Press, 1986), pp. 159–79.
٣  “Eating Well,” or the Calculation of the Subject: An Interview with Jacques Derrida, in Who Comes After the Subject, ed. Wduardo Cadava, Peter Connor and Jean-Luc Nancy (London: Routledge, 1991), pp. 96–119, 108.
٤  “Biodegradables: Seven Diary Fragments,” trans. Peggy Kamuf, Critical Inquiry, 15 (1989), 812–73.
٥  “Psyche: Inventions of the Other,” trans. Catherine Porter, in Reading de Man Reading, ed. Lindsay Waters and Wlad Godzich (Minneapolis, Mo.: University of Minnesota Press, 1989), pp. 25–65, 59–60.
٦  Fynsk, Heidegger: Thought and Historicity (Ithaca, N.Y. and London: Cornell University Press, 1986), p. 196.
٧  “The Principle of Reason: The University in the Eyes of its Pupils,” trans. Catherine Porter and Edward P. Morris, Diacritics, 13 (Fall 1983), pp. 6–20.
٨  “Letter to a Japanese Friend,” in Derrida & Difference, ed. David Wood and Robert Bernasconi (University of Warwick: Parousia Press, 1985), pp. 1–8.
٩  بخصوص هذه العبارة «ثمة الكينونة أو انوهاب الوجود» es gibt Sein، انظر شرحًا لها في كتاب محمد الشيخ: «نقد الحداثة في فكر هيدجر» (سبق ذكره)، ص١٦١–١٦٢. (المترجم)
١٠  “Only a God can Save Us,” Der Spiegel, interview with Martin Heidegger, Philosophy Today (1976), pp. 267–84, 272.
١١  Diacritics, 19 (1989), pp. 4–9, 6.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤