الفصل الثالث

دريدا والأدبي

لا يزال من الشائع تقديم عمل دريدا إما بوصفه تطرفًا راديكاليًّا في البنيوية، لا سيما فيما يتعلق بالطبيعة العلائقية للعلامة، أو بوصفه نسخة أوروبية من ثنائية الكلية/النسبية البارزة في الفلسفة الأنجلوسكسونية. كذا لا يزال تعبير «ما بعد البنيوية»، وهو أحد أعراض هذا التلقي، يحجب الطبيعة الدقيقة لمصدر كتابات دريدا في المشهد الفلسفي الأدبي الفرنسي، حيث لا مفر من هيدجر وبلانشو.

يقدم دريدا في مقاله «القوة والدلالة» Force and Signification (١٩٦٣م) (Writing and Difference, pp. 3–30) تفسيرًا للنزعة البنيوية، كما يقدم أيضًا تفسيرًا متعارضًا للغة الأدبية يتماشى في خطوطه العريضة مع ما جرت مناقشته في الفصلين السابقين. فاللغة الأدبية تتميز بإشارتها إلى مسائل أنطولوجية أساسًا. وكما هو حال الشعر عند هيدجر، يتعلق الأدبي تعلقًا خاصًّا بأمر يزيد على أي موجود ويتعداه، ألا وهو «اللاشيء الجوهري الذي يمكن على أساسه لكل شيء أن يظهر ويبرز داخل اللغة» (Writing and Difference, p. 8):
«الكتاب النقي، الكتاب في حد ذاته، بحكم ما لا يمكن الاستغناء عنه فيه، لا بد أن يكون «كتابًا عن اللاشيء» الذي كان يحلم به فلوبير … ولا بد أن يعترف الناقد بهذا الفراغ بوصفه موقف الأدب ووضعه، وبوصفه ما يؤسس خصوصية موضوعه. ألا وإنه ما يجب أن يتحدث عنه الناقد باستمرار» (Writing and Difference, p. 8).
ولا يمكن تمييز هذه الفقرة، في حد ذاتها، عن كثير من أعمال بلانشو المعاصرة. فالاعتقاد بأن غياب أي كائن قد لا يصبح أبدًا موضوعًا لأي تمثيل يجعل الأدبي بنية غريبة ﻟ الظهور بوصفه انسحابًا. و«نظرًا إلى أن اللاشيء ليس موضوعًا»، فعلى الناقد أن يهتم ﺑ «الطريقة التي يَتحدد بها هذا اللاشيء نفسه عبر تلاشيه واختفائه» (Writing and Difference, p. 8). ومنشأ النص الأدبي هذا في حركة المحو هو ما يسميه دريدا «القوة» force. وهي «قوة» تتعارض، من ثَم، مع التركيز على «الشكل» form الذي يميز البنيوية بفرضياتها التي تهتم ﺑ «القوة والدلالة».
ويختلف هذا البيان حتى الآن عن الأوصاف المتداولة ﻟ «التفكيك». إذ لا يتحدث دريدا مثلًا عن تحليل «الاستبعادات» و«الاندماجات» في النص التي «تجعل النسق معتمدًا اعتمادًا تأسيسيًّا على عوامل لا يمكنه توحيدها أو احتواؤها».١
والأكثر من هذا، تختلف معالجة دريدا لنصوص مالارمه وبلانشو اختلافًا كليًّا عن قراءاته للمجازات الفلسفية. فمثلًا، يفحص مقاله «الحضور أصلًا غائيًّا ووحدة الكتابة» Ousia and Grammé، فحصًا دقيقًا تكوين المفاهيم الفلسفية والعلاقات التبادلية بينها (مفهوم الزمن مثلًا في ذلك المقال) للكشف عن أسبقية اشتغال قانون الخلل الوظيفي في تأسيس المفاهيم الميتافيزيقية. وذلكم وجه من وجوه عمل دريدا يمكن القول إنه قد صار مألوفًا تقريبًا، ويشكل مدخلًا — في كتابه «مواقع»٢ — إلى حالة طريقة في التفكيك (بكل ما تنطوي عليه هذه الفكرة من مخاطر)، أعني شكل الجدل أو الديالكتيك الذي يدين به دينًا كبيرًا لهيجل، إلا أنها ترفض استيعاب عمل النفي في الكلي. وتُعَد معالجة دريدا لمفهوم «الأدب» مثالًا على هذا الإجراء. فبينما يتأسس مفهوم الأدب بتعارضه — مثلًا — مع الفلسفة ومفاهيمها (الحقيقة/الخيال، الحَرْفي/المجازي)، نجد دريدا يقلب أولًا هذه الأسبقية المفترَضة للفلسفي بتبيان أن شيئًا «أدبيًّا» فاعلٌ فعلًا لا محيد عنه في تكوين المفاهيم الفلسفية، الأمر الذي دعاه ثانيًا إلى تشكيل حد جديد يمكن بمقتضاه تصور «الأدب» خارج المفهوم الذي كان يشمله سابقًا. وبرغم ذلك، لا تهتم معالجات دريدا لنصوص أدبية بعينها بتشكيل المفهوم أو تكوينه على هذا النحو تمامًا.

يقول جوناثان كالر:

«وتلفتنا مناقشات دريدا للعمل الأدبي إلى مجموعة مشكلات مهمة، مع أنها ليست تفكيكات بالطريقة التي كنا نستعمل بها المصطلح، إذ سيتأثر النقد الأدبي التفكيكي تأثرًا أساسيًّا بقراءاته للأعمال الفلسفية».٣
ولا يزال هذا الموقف غريبًا إلى حد ما؛ فحتى لو كانت إحدى نتائج عمل دريدا رَج الخطوط الفاصلة بين الأدبي والفلسفي، فقد غاب المغزى المميز لمقالاته التي تناول فيها شخصيات من أمثال مالارمه Mallarmé، وجويس Joyce، وبونج Ponge، وسيلان Celan … إلخ — غاب هذا المغزى حتى عن دراسات قيمة مثل كتاب كالر «عن التفكيك». والأكثر من هذا، فمع أن دريدا تقبل عمل بول دي مان بوصفه متممًا عمله،٤ فقد اختلفت معالجتهما للنصوص الأدبية اختلافًا ملحوظًا، برغم ميل النقاد إلى دمجهما معًا. والطموح الرئيسي لهذا الفصل رسم معالم الطابع الذي تتميز به معالجة دريدا للأدبي.
يشكل مقال «القوة والدلالة» أساس التقارب بين مقالات دريدا عن الأدب ومقالات بلانشو:
  • فأولًا: «يُحتفَى» بالكتابة عندهما على قدر تحريرها المعنى من ملابسات السياق المباشر وتوجيهه إلى أفق إمكانات غير متوقعة: «الكتابة تبدع المعنى عبر تنشيطه، وإسلامه إلى النقش والثَّلْم والشق، إلى سطح يتميز أساسًا بأنه يقبل الانتقال بلا حدود» (Writing and Difference, p. 12).
  • وثانيًا: تُعرَّف اللغة «المتحررة» عندهما من منظور استدعاء مباينة مالارمه بين الخطاب الشعري والخطاب اليومي. وأما الكتابة فهي متحررة من التصورات الأداتية عن اللغة، لأن ما يؤسسها هو تعليق الإحالة المباشرة. فكلما تحررت الكتابة من كونها علامة إشارية أو أداة تواصل، تتمكن من أن «تقول ما تَكونه العلامة من دون دلالة، عبر إحالتها [الكتابة] إلى نفسها فقط» (Writing and Difference, p. 12). لذا، «تُولَد الكتابة شأنها شأن اللغة» عبر علاقة جوهرية باللاشيء. «ولقد تحدث هيدجر عن الكلام الخالص الذي لا يمكن تصوره في إطار صرامة «ماهيته» المستندة إلى «طبيعته بوصفه علامة»، «ولا حتى المستندة إلى طبيعته بوصفه دلالة»» (Writing and Difference, p. 13). والفكر الأدبي هو فكر ذلك العدم [اللاشيء] التأسيسي الغريب.
  • وثالثًا: تَظهر مرة أخرى مسألة «الآخر». وكما هو الحال مع بلانشو وهيدجر، تُسمي هذه الكلمةُ الحدثَ في الشعر، والمعنى والنقش الذي يفلت من أي سيطرة أو تحكم أو توقع بشري. ولسنا ها هنا بعيدين عن وصف بلانشو لمالارمه فيما يتعلق بالكلام النقي: «لا أحد يتكلم الكلام ولا أحد يَكون ما يتكلمه، كما لو أن الكلام يتكلم إلى نفسه» (The Siren’s Song, p. 113). وكذلك عند دريدا تنطوي الكتابة على «المحل الذي يوجد فيه الآخر» (Writing and Difference, p. 11). إذ يشارك الآخر في الكتابة من منظور ثانويةٍ لا مفر منها في المعنى المكتوب، لأنه حتى في كونه منقوشًا يقدم المكتوبُ نفسَه بوصفه مقروءًا في الوقت نفسه عبر صدى الدلالات غير المتوقعة في فعل النقش. وعليه، طبقًا لدريدا «لا يوجد المعنى قبل فعل الكتابة، كلا ولا بعده» (Writing and Difference, p. 11). فالآخر يحدد فضاء «التبادل المؤجَّل بين القراءة والكتابة» (Writing and Difference, p. 11). ولعل هذا الآخر مرتبط بما يناقشه دريدا — في موضع آخر — من منظور الصوت الأوسط (Margins of Philosophy, p. 9): «الآخر … يصون كلًّا من اليقظة والحركة ذهابًا وإيابًا، فالعمل بغُدُوِّه بين الكتابة والقراءة يجعل نفسَه غير قابل للاختزال» (Writing and Difference, p. 11).
وليست الكتابة، هنا، طرفًا صريحًا في نقد نزعة التمركز الصوتي المميزة للميتافيزيقا الغربية (see Of Grammatology, first published 1967). بل ترتبط الكتابة ارتباطًا أساسيًّا بتصور يناهض أداتية اللغة وما يترتب على ذلك من مسائل تتعلق بطريقة وجود النص الأدبي.٥ ويسبق هذا التصورُ الراديكالي عن الكتابة — المدين دينًا كبيرًا لبلانشو — كلماتِ «التفكيك» و«علم أنساق الكتابة» زمنيًّا، إنْ لم يكن يسبق الممارسة التي ترسمها تلك الكلمات.
ولعل قدرَ الإبهام أو الغموض الكبير الذي يحيط بعمل دريدا ناجمٌ عن أن فكرته عن الأدب   littérature — طبقًا للنهج الذي أوضح معالمه العريضة في كتابه «مواقع» — تكمن في استعماله استعمالًا جديدًا.٦ والحق إن هذه الفكرة — كما يقول دريدا في مقاله «خارج العمل» Outwork (١٩٧٢م) (Dissemination, pp. 3–54) — تتعارض بصفة خاصة مع تصور الأدب المتعارف عليه:
«لماذا ينبغي على «الأدب» أن يظل يشير إلى ما ينفصل بالفعل عنه — عمَّا جرى تصوره والإشارة إليه تحت اسمه — أو عما يدمره تدميرًا لا هوادة فيه، ولا يكتفي بمجرد الروغان منه؟» (Dissemination, p. 3).
وكما هو حاصل مع بلانشو وهيدجر برغم ذلك، فهذا الاستعمال الجديد (مثل الشعر أو السرد) يُعيِّن أمرًا يتصل بقضايا الماهية المتجاهَلة في المصطلح بمفهومه الأكثر اعتيادًا. لذا، يُسمِّي الأدبُ  littérture ما يَكون «أدبيًّا» على نحو راديكالي في الأدب literature، بدلًا من ممارسة جديدة في الكتابة كليًّا. ومرة أخرى، يلعب اسم مالارمه دورًا في تعيين ظهور هذه الممارسة الراديكالية في الكتابة، فاهتماماته تتجاوز اهتمامات النقد الأدبي. يقدم الأدب «لاموقعًا» يمكن من خلاله الاقتراب من آخر الفلسفة الذي هو الهم الأساسي لدى التفكيك. إنه مصطلح ينطبق على بعض النصوص أكثر من غيرها، وبخاصة أن دريدا يشير «إلى اتجاهات بعينها تعمل حول حدود مفاهيمنا المنطقية، وإلى نصوص بعينها ترج حدود لغتنا». وبعد أن أتى دريدا على ذكر مالارمه في هذا الشأن، أشار إلى «أعمال بلانشو وباتاي وبيكيت».٧
تُعد قراءة دريدا لعمل مالارمه «محاكاة» Mimique نموذجًا على إقحام الأدب ضمن حدود الشعر. وتنطوي على فكرتين رئيسيتين متعارضتين. أولًا: يهتم دريدا بمن كتبوا عن مالارمه، لا سيما جان بيير ريشار Jean-Pierre Richard، في محاولة منه لزحزحة مفهوم «المثالي»، المركزي عند مالارمه، عن القراءات الثيماتية والأفلاطونية الجديدة. فيغدو «المثالي» حركة بين النصوص تتعارض بالأحرى مع الأنطولوجيا الإيجابية. وثانيًا: ينشغل نص «محاكاة» بهيدجر عبر مناقشة مستمرة، وإنْ يكن هذا الانشغال غير واضح تمامًا. فالنص لا يكتفي بمساءلة التصورات المتعارف عليها عن المحاكاة من حيث هي تقليد، وإنما يسائل أيضًا قراءة هيدجر ﻟ المحاكاة من حيث هي ظهور الكائن؛ أي يسائل باختصار الشعرَ، وإن لم ينص على ذلك صراحةً.
ولعله من الضروري الآن عرض تلخيص موجز لنص مالارمه. فحوى نص «محاكاة» نقل المونودراما من الإيماء إلى اللغة وتدوينها، وتتألف هذه المونودراما بأكملها من تمثيل صامت mime. فهناك بيرو٨ الذي يحاكي (على سبيل التذكر) خطته النهائية التي رسمها لقتل زوجته بدغدغتها حتى الموت.
يعيد بيرو أداء سلسلة الأحداث محاكيًا أفعال القاتل والضحية على حد سواء. ويركز دريدا، من بعد مالارمه، على البنية الزمنية الغريبة في كتابة بيرو الإيمائية: «يحاكي بيرو — «في الحاضر» — اقترافَ جريمة قتل «في ظل مظهر زائف للحاضر» (Dissemination, p. 200). ويشير دريدا، هنا، إلى ثلاث سمات يمكن ملاحظتها في هذا الأداء، السمة الأولى: لا بد من فصل التمثيل الصامت mime عن فَهْم المحاكاة  mimesis الكلاسيكي بما هي تمثيل representation: «فلا تقليد imitation هنا، التمثيل الصامت لا يقلد شيئًا. فبيرو منذ البداية لا يقلد أو يحاكي شيئًا، إذ لا يوجد شيء سابق على كتابة هذه الحركات أو الإيماءات» (Dissemination, p. 194) فهو لا يكرر حاضرًا قد تَعين من قبل. التمثيل الصامت «كتابة» أصلية (أو هكذا يبدو)؛ بمعنى أنه إنتاج. ومن ثَم، يغدو هذا الرجلُ بتمثيله الصامت المنتِجَ والنتاجَ والخشبةَ نفسَها أو مشهدَ عملية الإنتاج على نحو شديد الغرابة. «الممثل المسرحي يُنتج نفسَه هنا. والصحيح هنا: أنا بذاتي، من تلقاء نفسي، كنت الممثل المسرحي الحقيقي هنا!» (Dissemination, p. 198) والكتيب الذي يصفه مالارمه بأنه (بيرو قاتل زوجته   Pierrot Murderer of his Wife) ليس سيناريو script بل هو تدوين بعد الحدث، تدوين كتابة صامتة إيمائية لا تقلد شيئًا. والسمة الثانية: لأن نص «محاكاة» لا يتماشى مع التصور الكلاسيكي عن المحاكاة من حيث هي تقليد، فلا يخضع لمعنى المحاكاة الفينومينولوجي الذي مفاده أنها نزع الحجاب عن مظهر حاضر أو تقديمه. ويقول دريدا إنه «توجد محاكاة إيمائية، دَوَّن مالارمه مخزونه الكبير منها» (Dissemination, p. 206) يحاكي بيرو اقترافَ جريمة قتل وينوه بها «في ظل مظهر زائف للحاضر». ومن ثَم، يستبقي التمثيلُ الصامت في بنيته حركةَ الإحالة التي هي أيضًا حركة إنتاج على نحو ما اتضح في السمة الأولى. وهذه المفارقة الظاهرة تفضي بنا إلى السمة الثالثة، ألا وهي أن نص «محاكاة» يدمج معنيي المحاكاة  mimesis   كليهما المتعارف عليهما أو يتظاهر بهما أو يلوثهما. فالمحاكاةُ بوصفها تمثيلًا مُزاحةٌ في بنية التمثيل الصامت الذي لا شيء يسبقه، والذي هو — من ثَم — شكل من الكتابة الأصلية. وفي الوقت نفسه، مع ذلك، فالتمثيل الصامت بوصفه «كتابة أصلية» هو أيضًا بنية تنويه وتقليد. ومن ثَم، لم تَعد هذه الكتابة الإيمائية توصف بأنها «أصلية» على الرغم من أنه لا شيء يسبقها. المحاكاة (في معناها الأول) تتظاهر ﺑ المحاكاة (في معناها الثاني)، والعكس صحيح. وهذه بنية يسميها مالارمه «تنويه مستمر يترك الثلج ثلجًا والمرآة مرآة من دون تهشيم أو خدش» (كما وَرَد في: Dissemination, p. 206.) ويشدد دريدا على السمات البنيوية في هذه العملية:
«وإذن، نحن أمام محاكاة إيمائية لا تحاكي شيئًا، فما نلقاه ازدواجٌ يزدوج — إذا جاز التعبير — على نحو غير بسيط، ازدواجٌ يتوقعه اللاشيء، وهذا اللاشيء ليس هو نفسه على الأقل مزدوِجًا بالفعل. الحاصل أنه ما من إحالة بسيطة» (Dissemination, p. 206).
المحاكاة لا تحاكي فحسب، وإنما هي نفسها ما يُحاكَى.
لذا، يصدع نص «محاكاة» شرحَ هيدجر للغة الشعرية في علاقتها بالاختلاف بين الموجود والوجود. ولا مفر من أن يفقد المعنى الأوَّلي ﻟ المحاكاة (ظهور المظهر)، على الأخص، الأسبقيةَ التي يعطيها له هيدجر.
إن إزاحة دريدا لبنية الظهور (معنى المحاكاة الأول) بوصفها حركة محو (ذاتي) يمكن تتبعها من منظور السؤال المتكرر ﻟ خشبة المسرح. ويثير هذا النموذج المسرحي — بصورة منظمة — سؤال «الوسط» اللامرئي الذي يصبح من خلاله التقديم ظاهرًا. إذا كانت هندسة خشبة المسرح مربعة، فسيتوقف كل شيء على الجانب الرابع أو المفتوح أو «الناقص». وذلكم هو الجانب الذي لا يظهر:
«الانفتاح يمر من دون أن يلاحظه أحد بوصفه انفتاحًا (كُوة وثقبًا)، ولكونه عنصرًا شفافًا يضمن شفافية العبور إلى أي شيء يقدم نفسَه. وبينما نبقى منتبهين مأخوذين مشدودين إلى ما يَعرض نفسَه، نكون غير قادرين على رؤية الحضور بحد ذاته، لأن الحضور لا يَعرض نفسَه، فلا أكثر من رؤية المرئي وسماع المسموع، الوسط أو «الهواء»، الذي يختفي في فعل الإذن بالظهور» (Dissemination, pp. 313-14).
ويُعد هذا النموذج المسرحي مصدرًا من مصادر دريدا الأساسية، تقريبًا في كل مقالاته التي يحتل فيها سؤال الأدب مرتبة الصدارة، وهو نموذج بارز في مقاليه عن أنتونين آرتو Antonin Artaud (وبصفة خاصة مقاله «مسرح القسوة وإنهاء التمثيل») (Writing and Difference, pp. 232–250)؛ وأيضًا مقال «التشتيت» (Dissemination, pp. 289–366)؛ ثم مقال «جلسة مزدوجة» (Dissemination, pp. 175–286)، كما أن هذا النموذج متضمن أيضًا في تصانيف دريدا القوية للحوار. تغدو «خشبة المسرح» فضاءً فلسفيًّا، وعلى الأخص هيدجريًّا، حيث تنشغل بالوجود من حيث وضعه الملتبس بين الظهور والدلالة، إذ بينما تقدم الحضورَ «لا يقدم هذا الحضورُ نفسَه … يختفي في فعل السماح بالظهور» (Dissemination, p. 314).
إن خشبة المسرح، في نص مالارمه «محاكاة»، هي إعداد غريب على الأخص، لأنها هي بيرو نفسه. ومع ذلك، تغدو العملية المسرحية نفسها هنا — بعيدًا عن صيرورة الجانب الرابع غير المرئى في مشهد التمثيل — الشاغلَ الوحيد لخشبة المسرح. وما قد يبدو حضورًا بسيطًا (المحاكاة بالمعنى الأول) «يمثل» نفسَه هنا. والأكثر من هذا، فما يجري تمثيله هنا، ويُشار إليه، لا يوجد قبل التمثيل الصامت الذي يؤديه بيرو: فعل الإحالة. وعلى المنوال نفسه، لا يوجد تمثيل، ولا تطابق بين موضوع يوجد سلفًا ودلالته. فالدلالة التي لا محل لها ترسو عنده، تغلف كليةَ ما يبدو أنه يحدث حتى أثناء إنتاجه. «هذا العاكس لا يعكس الواقع، وإنما ينتج «تأثيرات الواقع» (Dissemination, p. 206). وكل ما يبدو معروضًا هو رؤية المرئي: «فلا شيء سوى تكاثر بريق متعدد الأوجه، هو في حد ذاته ليس شيئًا أبعد من ضوئه المتقطع» (Dissemination, p. 208).
ويلزم عن هذه القراءة أن رؤية المرئي أو حضور الحاضر ليس سوى أثر بنية الطي. حين لا يُعرَض شيء سوى خشبة المسرح نفسها، لا بد أن يتبدد وَهْم العمق المسرحي. وما الجانب الرابع من الخشبة المربعة إلا سطح: أثر واقع بنية الإحالة البينية: «حضور الحاضر لا يشكله سوى سطح» (Dissemination, p. 303).
وتغدو فوريةُ تقديم بيرو أثرَ بنية الاختلاف. فما من حاضر زمني قد يُثبت حركات الإحالة. فهو يحاكي، «في ظل مظهر زائف للحاضر»، التدبيرات التي أدت إلى جريمة يُفترَض أنها ارتُكِبت في وقت التمثيل الصامت. لذا، يصبح «فعل» القتل نفسه فعلًا مركبًا على المستوى الزمني إلى حد استثنائي: توقع ما سيحدث فعلًا، فلا شيء ببساطة في متناول اليد، أو يحدث في اختلاف الأزمنة العديدة لحركات الإحالة في التمثيل الصامت:
«هذا الاختلاف من دون حضور يظهر، أو بالأحرى يحبط الظهور، عن طريق تفكيك أي زمن منتظم في قلب الحاضر. لم يَعد الزمن الحاضر صورة الأم التي يجتمع عندها المستقبل (الحاضر) والماضي (الحاضر)، ثم يتمايزان» (Dissemination, p. 210).
ومن ثَم، قد تكون خشبة المسرح الغريبة عند مالارمه مرتبطة بمساءلة أعم وأشمل أثارها دريدا بخصوص الزمن عند هيدجر في مقاله «الحضور أصلًا غائيًّا ووحدة الكتابة».٩ وعلى سبيل الإيجاز، لا بد أن يُخلي تجميعُ هيدجر لامتدادات الزمن تجاه حضور الحاضر سبيلًا أمام حركة تأطير زمني لا يمكن اختزاله وآثار بعدية غير متوقعة، وتلك مفارقة. وبينما يصل مقال «الحضور أصلًا غائيًّا ووحدة الكتابة» إلى نتيجة مماثلة بشأن الزمن عبر تحليل دقيق لمفهوم هيدجر وعلاقته بأرسطو وهيجل، نجد في مقال «جلسة مزدوجة» نتائج مماثلة مُفادها أن خللًا وظيفيًّا في مفهوم الزمن يعمل بشكل واضح بوصفه طريقة لوجود نص مالارمه.
في التحليل الأولي لمعنيَي المحاكاة mimesis، كان من الممكن القول (بعد هيدجر) إن معناها الثاني — ألا وهو إعادة التقديم — مشتق من معناها الأول، ألا وهو الحضور ومظهر الحاضر في ظهوره. ولكن نص مالارمه «محاكاة» Mimique لا يكتفي بتحدي هذا الاشتقاق، وإنما يشوش الفرق بين التقديم presentation والتمثيل representation. ولذا، يسائل نص مالارمه تثمين هيدجر للمعنى الأول في مقابل الثاني، كما يسائل ثنائيةَ الشعر والأدب بمعناه المعتاد، وهي الثنائية المضادة للحداثة عند هيدجر. عندما كتب هيدجر عن هولدرلن، قارَن بين مجرد «النُّسَخ والتقليد» من ناحية و«الصورة الأصيلة» التي تُعد تنويعات منها. الصور الشعرية تحتفظ بقوة فينومينولوجية مميزة. ﻓ «الصورة الأصيلة» «تجعل غير المرئي مرئيًّا، كما تصور غيرَ المرئي بشيء أجنبي عنه» (Poetry, Language, Thought, p. 226). وفي بنية الظهور/الإخفاء هذه، يبرز إلى الوجود شيء. أما في نص مالارمه «محاكاة»، فمن الضروري القول إنه لا شيء يحدث أو يُقدَّم، ويتحدى عمل دريدا «الصورة الأصيلة» بوصفها أثر لعبة المرآة ليس إلا. ﻓ «لا حاضر في الحقيقة يَعْرض نفسَه هناك، كلا ولا حتى في شكل إخفاء نفسه» (Dissemination, p. 230).
وبالنسبة إلى هيدجر، تنطوي اللغة على وظيفة أنطولوجية غير ثابتة في تحقيقها ظهور العالم بوجودها. لذا، تحظى اللغة بامتياز كبير، أقوى فاعلية في الشعر، حين تتيح معنى الوجود، حتى لو كان هذا المعنى بنية مركبة مراوغة كبنية الإخفاء/الكشف التي ناقشناها من قبل.١٠ وأما بالنسبة إلى دريدا، فإن الطية:
«لا توجد في الحاضر، فهي لا تنطوي على معنى حَرْفي يلائمها، ولم تَعد تُولَد من المعنى بحد ذاته، أي المعنى بما هو معنى الوجود. الطية تجعل نفسها متشعبة وليست طية واحدة» (Dissemination, p. 229).
وذلكم يفضي إلى جعل الأدب  littérature شيئًا لا يمكن إخضاعه لأي ميتافيزيقا أو فلسفة أدب literature محتملة. وتُعد مناقشة دريدا المناهضة للنقد الثيماتي، في مقاله «جلسة مزدوجة»، أساسًا مألوفًا نسبيًّا، ومن الممكن الحديث عنها بإيجاز هنا. إذا كان الأدب ينأى بجانبه حقًّا عن الوجود، وإذا كان لا شيء يُقدَّم ببساطة في بنية لعبة التمثيل الصامت، فإن تحديد مادة الموضوع في النص الأدبي تتقوض بالضرورة لسببين؛ الأول: لا ينجح مثل هذا التحديد إلا بتجاهل البعد الأدبي في النص على وجه التحديد. والثاني: يغدو هذا التحديدُ، بأفقه القاصر، فعلَ عنف غير علمي بسبب مقاومة المجال المبهم الذي يحتاج إليه المحتوى الثيماتي المحتمل حتى يظهر. «لا توجد ماهية للأدب أو جوهر، كلا ولا حقيقة في الأدب، لا ولا وجود لأدبية الأدب أو وجود أدبي» (Dissemination, p. 233).
وتظل إعادة كتابة دريدا ﻟ الشعر أبعد من مجرد تناوله حالة مالارمه الخاصة في نصه «محاكاة». ولعل ما لا يثير الدهشة أن تزودنا مقالات هيدجر بنقطة النقاش الرئيسية هنا.
«اللغة في حد ذاتها شعر بالمعنى الجوهري» (Poetry, Language, Thought, p. 74). لقد صارت هذه العبارة المقتبسة من «أصل العمل الفني» (١٩٣٥م) مألوفة. ومع ذلك، ما حالة هذه العبارة نفسها؟ من الواضح أنها ليست عبارة شعرية. وأي تفكير في قضية الفرق بين لغة المفكر ولغة الشاعر لا بد أن يصطدم، في النهاية، بقضية حالة لغة هيدجر في أعماله. وفضلًا عن ذلك، تُعد لغته وسطًا (إذا كانت هذه هي الكلمة المناسبة) لا ينفتح سؤال الوجود إلا من خلاله.
ولا مفر من الاعتراف بفضل كتاب إيراسموس شوفر «عن لغة هيدجر» (١٩٦٢م)١١ عند التفكير في مسألة نصية أعمال هيدجر. إن محاولة الإنصات إلى معنى الوجود (على نحو ما هو حاصل ﻟ «المعنى» الذي أوجدته قصيدة توملينسون «قصيدة») لا تلائم الإجراءات المنطقية المعتادة في النقاش. يحلل شوفر استعمال هيدجر غير العادي للغة، لا سيما «دَوَر الحُجج»، والألفاظ المتناقضة، والإطناب … إلخ، ومن ثَم، يفتتح كتاب شوفر نوعًا من الأعمال الأكثر إلحاحًا بشأن هيدجر: صياغة «بلاغة» الشعر بقدر ما تحاول لغة المفكر الدخول إلى هذا الجوهر الشعري في اللغة. وطبقًا لمناقشتي في الفصل الأول، لا مفر من فصل «البلاغة» فصلًا واضحًا عن الإيحاءات المتعارف عليها؛ إذ لا تنشغل هذه البلاغة بصياغة مجازات لغوية للإقناع، لأنها لا تعبِّر عن ذاتية. ستنطوي «البلاغة» بالأحرى على حركة إيقاعية — وُصِفت في الفصل الأول من الكتاب بين يدي القارئ — تتعلق باللغة من حيث هي طريقة استملاك متبادل، فاعلة في «عبارات مفتاحية» عند هيدجر من قبيل: «اللغة منزل الوجود»، «الزمن يتزمن»، «المكان يتماكن»، «وجود اللغة: لغة الوجود». أما المجال الذي يمكن فيه رسم المعالم الأكمل لهذه البلاغة المفترضة فهو مجال «الاستعارة»، كما هو حاصل على الأخص في كتاب بول ريكور «وظيفة الاستعارة» (١٩٧٥م)،١٢ وبطريقة أشمل في مقال دريدا «انسحاب الاستعارة» The Retrait of Metaphor (١٩٧٨م).
إن عبارة هيدجر المفتاحية المتكررة في أعماله — «اللغة منزل الوجود»١٣ — ليست عبارة استعارية بأي معنى متعارف عليه. فالمرء لا يفهم ببساطة غير المعروف (الوجود) عبر مقارنته بمعروف (المنزل)، إذ لا يغدو الوجود أكثر «تعينًا» أو «مباشَرة» من خلال علاقته بالمنزل. وأما الوجود بمفرده فيعطي ألفة المنزل بوصفها مادة للفكر، على قدر فعاليته بوصفه قوة اللغة الاستملاكية. غير أن ذلك لا يعني القول إن العلاقة «الاستعارية» بين المنزل والوجود علاقة مقلوبة ببساطة، بمعنى أن الوجود هو ما يتحدث عن المنزل وينيره. ولا يكاد الوجود يغدو أقل غرابة من خلال عملية لغوية غريبة يعمل على أساسها الاستملاك في لغة — إذا جاز القول — تُحمَل على التعلق بنفسها. وأما العبارات الإطنابية الواضحة ببساطة — من قبيل «اللغة لغة»، «المكان يتماكن»، «الزمن يتزمن» — فلَسوف تلعب أيضًا دورًا ضمن حدود طريقة «إيقاع» الاستملاك الغريبة على نحو أوضح قليلًا في عبارة «اللغة منزل الوجود».
ولكن مقال «انسحاب الاستعارة» لا يقتصر على تقديم شرح بسيط لهيدجر؛ إذ يثير أسئلة بعينها — لا سيما المتعلقة بالنصية — على نحو تزداد معه صعوبة استيعابها في عبارات هيدجر عن اللغة. وبدايةً، يتحرك دريدا في هذا الاتجاه بتأكيده المفارقة الناشئة عن الاحتواء المتبادل بين «الاستعارة» و«الميتافيزيقا»، متخذًا نقطة البداية حجة هيدجر القائلة إن «الاستعارة» لا توجد إلا ضمن حدود الميتافيزيقا وفَهْمها الأداتي للغة.
وثمة نقطتان تفرضان نفسهما؛ الأولى: ما دامت الميتافيزيقا ممتدة تاريخيًّا امتداد نسيان الوجود، أفلا يمكن القول إن كل التعبيرات التي تُعيِّن بها الميتافيزيقا وجود الموجود، فتحدده بوصفه الكائن الأعلى والعلة الأولى … إلخ، هي تعبيرات استعارية؛ بمعنى أنها لا تدخل إلا في علاقة مجازية مع ما تمثله (وتخطئ في تمثيله)؟ ثانيًا: وبرغم ذلك، لا بد في الوقت نفسه من تأكيد أن كلمتي «مجازي» و«استعاري» تظلان غير ملائمتين تمامًا، إذ تنتميان إلى العالم الميتافيزيقي نفسه الذي صُمِّمَتَا لتعيين حدوده. إن الوجود من حيث هو لا شيء، لا يوصف حَرْفيًّا، كلا ولا استعاريًّا: «إن الوجود لكونه لا شيء، أي ليس كونه وجودًا، لا يمكن التعبير عنه أو تسميته بطريقة أشد مجازية» (The Retrait of Metaphor, p. 21). والبنية الإيقاعية الموصوفة أعلاه المتعلقة بما يبدو أنه حالة «استعارية» في عبارة «اللغة منزل الوجود»، لا بد من ثَم أن تكون مركبة. وحين يُقر أحدنا بالدرجة التي تؤثر بها تحولات اللغة في الدخول إلى حضور اللغة نفسها، فلا مفر مع ذلك من إقرار أن حركتها غير الملائمة تشهد أيضًا نوعًا من ازدواج الاستعارة.
«ولأن هذا الانسحاب الاستعاري لا يترك مجالًا خاليًا لخطاب الحقيقي الشرعي السليم والسالم proper؛ أو الحَرْفي literal؛ فلَسوف ينطوي في الوقت نفسه على معنى الطي من جديد re-fold (re-pli)، على معنى ما يتراجع كموجة على الشاطئ، معنى الرجْعة re-turn (re-tour)، معنى التكرار المفرط لسمة تكميلية، معنى استعارة أخرى برغم ذلك، معنى سمة ازدواج الاستعارة (إعادة وَسْم/انسحاب re-trait)، وإنه لَخطاب لم يَعد حده البلاغي يقبل التحديد طبقًا لخط فاصل بسيط لا ينقسم، طبقًا للخطية وسمة عدم التحلل أو التفكك» (The Retrait of Metaphor, p. 22).
وستكون الإحالة الأوثق صلة هنا إلى نصية مقالات هيدجر نفسها: إلى اللغة عينها التي في محاولتها إرجاع الصدى — بوصفه صمتًا جوهريًّا وقول الاستملاك المتبادل في اللغة — لا مفر أمامها لعمل ذلك إلا عبر تكاثر النصوص وعبر القول البشري.١٤ وستكون المسألة الملحة هنا مسألة تناهي الوجود، علاقة المتعالي بالتجريبي أو ضرورتها: الحركة بين نص وما يجعله ممكنًا حتى عندما يحاول ذلك النصُّ الحديثَ عنه.
في مقال «جلسة مزدوجة»، يتتبع دريدا ضرورة السمة التكميلية (أي ضرورة المزيد من إعادة التقديم re-presentation حتى في التقديم presentation نفسه) من خلال فكرته اللافتة عن «إعادة الوَسْم» re-mark، وهي فكرة تُسمِّي الطريقة التي يجري بها طي مفهومي المحاكاة أحدهما في الآخر طيًّا يتجنب التعلق بتصورات الحقيقة سواء أكانت ملاءمة أم أليثيا   (Dissemination, p. 193). وفي مقال «قانون النوع» (١٩٧٩م) توصف إعادة الوَسْم بمزيد من التدقيق عند الحديث عن إجراءات النقد الأدبي. ولعله يمكن مؤقتًا تعريف إعادة الوَسْم بأنها واسِم تكويني. ويُعرِّف مقالُ «قانون النوع» إعادةَ الوسم بأنها عنصر في النص يميزه بقابلية القراءة والمقروئية بوصفه نصًّا من هذا النوع أو ذاك، علاوة على وظائف التمثيل أو الدلالة. وهكذا، فإعادة الوسم ضرورية للغاية، ومؤسِّسة لما ندعوه فنًّا أو شعرًا أو أدبًا.
«ويمكن أن تتخذ إعادة الوسم هذه عددًا كبيرًا من الأشكال، ويمكن أن تتعلق في حد ذاتها بأنواع متباينة للغاية. ولا يلزم أن يكون تعيينًا أو «ذكرًا» للنوع الموجود أسفل عنوان بعض الكتب (رواية، سرد، دراما)» (The Law of Genre, p. 211).
وتتخلل إعادةُ وسم النص هذه، بحكم الضرورة، كليةَ النص الذي نقرأه بوصفه كذا أو كذا. فهي ضرورية دائمًا، ما دامت مقروئية النص ممكنة، ولا يلزم أن تكون صريحة.
وكما ناقشت أعلاه، يهتم الشعر ببنية الاختلاف الأنطولوجي التي تصبح الأشياء بواسطتها حاضرة بحد ذاتها أو بوصفها كذا as such. ويسكن الشعر بل يؤسِّس تلك اﻟ «بوصفها» as. ومن الممكن أيضًا فَهْم إعادة الوسم عند دريدا على أساس أنها تهتم بهذه اﻟ as. فتمييز نص بوصفه  as نصًّا من نوع بعينه وبوصفه قابلًا للقراءة، يدل على إمكان القراءة أو المقروئية أو التجربة نفسها القابلة للإفصاح. غير أن ميزة إعادة الوسم أو خصوصيتها تكمن في علاقتها بما تُعيِّنه:
«ولنضرب مثلًا بتسمية «الرواية». فهي ينبغي أن تُوسَم بطريقة أو أخرى، حتى لو لم يظهر الوسم … بصورة صريحة في عنوان جانبي يحدد النوع، وحتى لو ثبت أنها تسمية مضللة أو ساخرة. هذه التسمية ليست روائية، فهي لا تشارك كليًّا أو جزئيًّا في الجسم الذي تسميه، كلا وليست دخيلة بكل بساطة على هذا الجسم» (The Law of Genre, p. 212).
إن إعادة الوسم، وهي تَسِم نصًّا بوصفه كذا أو كذا، تؤسس «سمة تكميلية وتمييزية؛ علامة انتماء أو احتواء لا تنتمي حقيقةً» إلى ذلك الذي تقدمه: «إعادة وَسْم الانتماء لا تنتمي» (The Law of Genre, p. 212). وفي حالة عدم الانتماء هذه، لا مفر من القطيعة مع تثمين هيدجر ﻟ الشعر. والأكثر من هذا أن الاضطراب أو التفكك الذي يجلبه دريدا إلى بنية اﻟ «بوصفه» as يجسد تصوره ﻟ الأدب من منظور «اتجاهات بعينها تعمل حول حدود مفاهيمنا المنطقية».١٥

ويبقى أن نعود إلى قصيدة «قصيدة» للمرة الأخيرة، حيث يمكن طرح الأسئلة المتعلقة بإعادة الوسم وإيضاح معناها. وعلى الفور، يلاحظ القارئ المقروئية النسبية في مفتتح النص وعنوانه:

قصيدة

مكان
نافذة
تنظر إلى نفسها
يتواجهان
كلاهما و
بكل طريقة
يتألف النص من سلسلة إسنادات، تسقط — إذا جاز التعبير — من أعلى الصفحة في عمود رأسي، وذلك على النحو الذي يتسع معه «المكان — الإيقاع» (s)pace مع كل سطر جديد. غير أنه كما لاحظنا من قبل، تجد السلسلةُ رأسَها في العنوان ذاته — «قصيدة» — بالقدر نفسه الذي يغدو معه «المكان» هو الإسناد الأول في سلسلة إسنادات الشعر. وبطبيعة الحال، تؤثر هذه البدائل في كل شيء آخر في القصيدة.
وكما ناقشنا في الفصل الأول، من الممكن قراءة القصيدة باعتبارها مؤثرة تأثيرًا غير عادي في علاقتها ﺑ «القول»؛ أي هيئة اللغة بوصفها عرضًا استملاكيًّا يتجاهل نفسَه تمامًا ليُحرر ذلك الذي يُعرَض، فيَظهر في ظهوره الأصيل» (On the Way to Language, p. 131). ويبدو أن نص «قصيدة» يؤكد اللغة بوصفها شعرًا لا بوصفها تمثيلًا لأي كيان ظاهر: يؤكد اللغة بوصفها عالَم الظهور نفسه. أما النقطتان الرأسيتان في المقطع الشعري التالي فتنشغلان، على وجه الدقة، بالاستملاك في اللغة نفسها:
نقطتان رأسيتان
بين تفاحة خضراء:
وفازة خضراء
وكما يظهر الآن، لا يتخذ هذا الوصف هيئة مثالية، حتى عندما يحاول التطابق مع كل ما يكون أشد مراوغة في تصور هيدجر ﻟ الشعر. يوجد ضرب من إعادة التقديم، ولا بد من إدراكه — على نحو فيه مفارقة — بوصفه شرطًا لأي تقديم أو عدم خفاء مؤثر في كلمات نص «قصيدة». وتتكرر هنا بعض الحركات النصية المتبعة في نص مالارمه «محاكاة»، ولكنها تتكرر بطريقة تسمح بقدر من التعميم فيما يخص علاقة الأدب  littérature بالأدب literature.١٦ إعادة الوَسْم المقروءة بوصفها القراءة البديلة المحتملة التي من شأنها أن تتضمن العنوان في أعلى النص، تُغلف مشهد الأليثيا، كما يجب أن تُغلف المقروئيةُ نفسُها اللغةَ في قوتها الإيحائية. وعلى سبيل المثال، يمكن مقارنة النقطتين الرأسيتين في المقطع الشعري الثالث بالنقاط الرأسية التي يناقشها هيدجر عند بارمنيدس أو التي توجد في عباراته المفتاحية من قبيل: «وجود اللغة: لغة الوجود».١٧   الاختلاف نفسه هو الذي يُعاد وسمه: ذلك اﻟ «بين» الذي يؤدي إلى ظهور العالم والشيء، الوجود في الموجود، ولا يوجد منفصلًا برغم ذلك عن الذي يؤدي إليه. وستكون النقطتان الرأسيتان علامة على هذا الاقتران بوصفه انشطارًا واستملاكًا وتجريدًا من الملكية. ولكنَّ النقطتين الرأسيتين من حيث هما علامة من علامات الترقيم (:) ليستا مؤثرتين فحسب في نص «قصيدة»، وإنما تتسميان في القصيدة (colon) أيضًا، كما تتسميان في كل تعليقات هيدجر، وإن بطريقة تفترض دومًا إعادة وسمهما من جديد بوصفهما أمرًا طارئًا على الاستملاك نفسه. وذلكم ليس مجرد مسألة سيكولوجية: أن أحدنا لن ينتبه إلى اللعبة الاستملاكية ما لم يقم هيدجر ﺑ إعادة وسمها في تعليق أو قراءة. كلا وليست إعادةُ الوسم التي يظهر بواسطتها الشعر بوصفه مُمثلًا، سمةً نوعية لنصوص كنص «قصيدة» أو نص مالارمه «محاكاة». إعادة الوسم سمة ضرورية لأي نص، وتؤسس النصيةَ بحد ذاتها. وإلى هذا الحد، لا تكتفي إعادة الوسم بكونها حالة الشعر الذي يظهر مُمثلًا، وإنما هي أيضًا حالة الشعر الذي يقيم في نوع بعينه من إعادة التقديم لكي يظهر.
وعلى نحو فيه مفارقة، من الممكن الإلماح إلى أن قصيدة «قصيدة» تقدم سبيلًا يمكن معه مساءلة فَهْم هيدجر للشعر، وعلى وجه التحديد في مداه الذي بدا معه جليًّا ظاهرًا أو ملائمًا لإنشاء مثيل له. أما تأثيره في إبراز قدرة اللغة على العرض أو الإشارة — بينما يكاد ألا يُعرَض أو يُكشَف أي شيء سوى عدم الخفاء نفسه — فلا يُعد شيئًا إن لم يكن إعادة وَسْم. ما من مظهر غير وسيط في اللغة، عدا الدرجة التي تتأثر فيها مرحلة الظهور نفسها بضرورة إعادة التقديم.
ولعله من المناسب، هنا، الرجوع إلى محاورة هيدجر «محادثة على طريق القرية بشأن الفكر»، وإعادة فتح مسألة طبيعة الحوار الهجينة. ما الذي يَحول دون استبعاد هذا الحوار بحجة أنه تفاعل خيالي بين شخصيات خيالية؟ من الواضح أن الحجة ليست سوى أن اللغة نفسها التي تكشف عن نفسها، في حركة التفاف الحوار على الحوار، موجهةٌ بالتساؤل عما يسميها. ومن ثَم، تشكل قيود هذا التوجيه تمييزًا دقيقًا، بل حاسمًا تمامًا، بين (مجرد) الخيال وتقدم اللغة المنضبط في الحوار بدرجة كبيرة. أما سلطة النص الكلية — بتجسيدها شكلًا جديدًا من التماسك — فهي تكمن هنا. ومع ذلك، وكما توحي قصيدة «قصيدة»، ينشغل السؤال الموجه ضد هيدجر بالضرورة التي بواسطتها تقتضي حركةُ اللغة نحو «ذلك الذي يأخذ نطاقًا» شكلًا من الخيال أو ضربًا من التمثيل لكي تصبح نافذة المفعول. يحتاج الحوار إلى سوء استعمال catachresis في عبارة من قبيل «ذلك الذي يأخذ نطاقًا» that which regions أو كلمة «الانتظار» the wait، حتى عندما تقدم نفسها بوصفها إعادة استملاك جوهر اللغة التي ستجعل التصورات المتعارف عليها للاستعارة غير ملائمة في العمل نفسه الذي تقوم به مثل هذه العبارات المنتشرة في بناء الحوار.
لذا، ليس من الدقيق تمامًا وصف الشعر — كما فعل هيدجر — بأنه القول الذي ستكون الاستجابة الصحيحة له إنصاتًا فينومينولوجيًّا سيحاول صيانة ما يعطي نفسَه قبل أي صياغة مفاهيمية. وإذا كان الشعر ينطوي في داخله على ضرورة كونه مسموعًا، فعندئذٍ سيكون «الإنصات» مصطلحًا أقل دقة من «القراءة» في وصف عنصر العلاقة ﺑ الشعر. ثم أَلَن يكون هذا أيضًا دلالة على «سمة الإكمال» التي حللها مقال «انسحاب الاستعارة»؟ والأكثر من هذا، من دون إعادة الوسم بوصفها احتمالًا أساسيًّا في اللغة، لا يمكن أن توجد أليثيا (= كشف)، كلا ولا تقديم:
«إعادة وسم الانتماء لا تنتمي؛ إنها تنتمي من دون انتماء، واﻟ «من دون» without (أو اللاحقة “-less”) التي تربط الانتماء بعدم الانتماء لا تظهر إلا في زمن طرفة العين اللازمني [Augenblick]. ولحظة انغلاق الجفن هي بالكاد لحظة بين لحظات، فما ينغلق حقًّا ويقينًا هو العين، والرؤية، وضوء النهار. ولكن من دون هذه المهلة، لن يظهر شيء» (The Law of Genre, p. 212).
ما لا يمكن تجنبه ليس في الأساس اللغة المتعارف عليها، عمومًا، بوصفها تمثيلًا يعكس عالم الأشياء عكسًا مرآويًّا، كلا ولا حتى اللغة بوصفها تقديمًا، بل الأحرى إذا جاز القول المرآةُ التي تواجه الداخل في إعادة الوسم قائلةً: «هذا هو نص من نوع كذا أو كذا». ذلكم هو الشرط السابق لتَرْك اللغة تُوجَد، بالمعنى الذي يطلبه هيدجر: «الترْك — الحقيقة التي ترفع الستارة الحاجبة — يُنظَّم بالفعل وفقًا لمرآة» (Dissemination, p. 314). وعلى نحو مشابه، بقدر ما تَتخلل إعادةُ الوسم النص كله أو أي ظاهرة — بوصفها قابليته للقراءة — تؤشر أيضًا على شيء تأسيسي (نقضي) (de)constitutive لا ينقاد لوظيفة إحالية أو فينومينولوجية.
والعديد من حركات الإحالة المميزة المتداولة في مقال «جلسة مزدوجة» تعمل بالفعل في الأقسام الأولى من كتاب «في علم أنساق الكتابة»، لا سيما في القسم المخصص لمسألة الدلالة ومكانتها في أعقاب عمل هيدجر. يلخص دريدا في هذه الصفحات الطريقة التي لا يصير بها الوجودُ — بصفته هدية الحضور — ثيمة بسيطة في أي لغة، فيقول دريدا إنه لا بد من إزاحة مفهوم التمثيل:
«إن إخفاء معنى الوجود — وهو إخفاء ضروري وأصلي لا يقبل الاختزال — واحتجابه داخل تفتح الحضور وإشراقه … كل هذا يدل بوضوح على أنه ما من شيء في الأساس يفلت من حركة الدال وأن الاختلاف بين المدلول والدال هو لا شيء في النهاية» (Of Grammatology, p. 22-3).
ولكن عدم الاختلاف بين المدلول والدال لا يعني الحضور البسيط لشيء من الأشياء في حد ذاته. فالإخفاء هو الهم في كتاب دريدا «في علم أنساق الكتابة»، والمحاكاة الإيمائية في نص مالارمه «محاكاة». والأغرب أنه ليس حالةً لحضور أي شيء (بالمعنى الأول ﻟ المحاكاة) أو تمثيله (بالمعنى الثاني)، بل شيء بينهما، ليس أيًّا منهما ولا يحتويهما بعد: «ومن ثَم، فما يجري إظهاره ليس الاختلاف بل المختلف والخلافات وخارجية «الحدود» المختلفة القابلة للحسم» (Dissemination, p. 210). ويستعمل دريدا تعبير «غشاء البكارة» hymen لإبراز بعض المفارقات هنا؛ إذ بينما يدل هذا التعبير على التزاوج وما يصحبه من إيلاج، يدل على الغشاء الأنثوي الذي هو دليل العذرية.
وثمة نتيجتان مؤقتتان ها هنا؛ الأولى: أنه لا يوجد شعر بالمعنى الذي يطلبه هيدجر، فما يوجد إلا أثره أو الوَهْم به داخل آلة نصية. وثانيًا — وعلى نحو أكثر استفزازًا ربما: ما من شيء في قصيدة «قصيدة» سوى الشعر. ولا شيء يحدث سوى خشبة المسرح نفسها. والأكثر من هذا وذاك أن هذا (اللا) حدوث يظل عنصرًا ضروريًّا في أي نص أو في «التجربة» نفسها. فما من شيء يُقرَأ سوى المقروئية نفسها، التي تعادل عدم المقروئية. ولا يمكن للقراءة أن تشمل هذا «الأساس» «الذي يجعل من الممكن أن «يوجد» نص، أي قابلية القراءة من دون مدلول (التي سيُقدَّر لها أن تكون عدم قابلية قراءة من خلال انعكاسات الرعب)» (Dissemination, p. 253). إذ وحدها قابلية القراءة هي التي تجعل الأدبي نوعًا بلا نوعية (أو «ليس نوعًا بل كل الأنواع»)١٨ يقف في علاقة شِبْه متعالية مع الأنواع الأخرى رافضًا انغلاقها. ويصوغ دريدا ذلك من منظور اﻟ «كارت بوستال» postcard، مستفيدًا من أن كروت البوستال أو التلغرافات تظل منفتحة على القراءة دومًا بأقل محتوى ممكن:
«ما إن تنقسم الضربة الأولى لحرف على نفسها، في ثانية — ولا بد أن تدعم التقسيم لكي تتعرف على نفسها — حتى لا يوجد شيء سوى بطاقات بريدية، شذرات مجهولة بلا أماكن إقامة ثابتة، بلا مرسَل إليه محدد، حيث تنفتح الحروف كالسراديب».١٩
في الفصل السابق، قُدِّم بلانشو على أنه يعمل من خلال بعض مضمرات بدهية مُفادها أن الوسيلة الوحيدة للدخول إلى عالم النص الأدبي هي النص نفسه. وهي بدهية تبرز ما يبديه تمثيلًا (فقط). ثم حاولت مقالة بلانشو الإقامة في الفضاء داخل المحاكاة نفسها، فاتحةً مجالًا لا تحيط به المحاكاة بأبعادها الميتافيزيقية كلا ولا النزعة الشكلية. ويماثله في ذلك مماثلة واضحة مالارمه كما يفهمه دريدا، إذ يبرز نصه «محاكاةٌ» ما يبديه تمثيلًا وفي الوقت نفسه يمثل ذلك الإبراز. ولذا، يأتي الفضاء داخل الأدبي ليحيط بالنص الأدبي أجمعه، الأمر الذي يؤدي إلى الإيبوخيه [التوقف] epoché أو التعليق. ولعل هذه، إذن، هي الطريقة التي لا يزال بمقدور الأدب  littérature أن «يدل بها على ما ينفصل بالفعل عن الأدب literature، بل «يدمره تدميرًا عنيفًا» (Dissemination, p. 31)، حتى عندما يُعيِّن الشيءَ الملازم لوجود الأدبي. وبالنسبة إلى دريدا — وهو في ذلك ليس بأقل من بلانشو — ما من اختزال فينومينولوجي إلى المعنى، فما ثمة إلا اختزال المعنى، بما فيه حتى «معنى الوجود» عند هيدجر.
ولننتقل، إذن، إلى مسألة العلاقة المعقدة بين بلانشو ودريدا. فللوهلة الأولى، يبدو أن تصور الأدب عند دريدا يختلف عن مفهوم السرد عند بلانشو، على الأخص في نطاقه الصريح المتعلق بالإحالة واهتمام دريدا الأشد منهجيةً بتحدي موروثه في الفكر الفلسفي. وكذلك، حين نعود إلى نصوص دريدا الأشهر عن بلانشو — قراءاته ﻟ «سرود» récits، و«جنون النهار» La Folie du jour (١٩٧٣م)، ثم «عقوبة الإعدام» L’arrêt de mort (١٩٤٨م)٢٠ — نجد حركة نصية كالتي رُسِمت معالمها في المناقشة المتعلقة بإعادة الوسم (التي تظهر هي نفسها في مقال عن بلانشو): نجد شكلًا من الانعطاف الهيدجري ينحرف بالفروق بين «الفعل» و«تمثيله» إلى هيئة زمنية منزوعة المركز، لأنه «ينجز» بنفسه الحركةَ التي تخلى عنها.
ومن الغريب بما يكفي أن يَبرز عملُ دريدا المستمر على التحليل النفسي وتحولات اللغة وما يترتب عليها من مفاهيم، بوصفه نقطة اقترابه الأكبر من بلانشو، برغم قلة كتابة بلانشو عن التحليل النفسي وانصرافه الفَطِن عنه.٢١ وأما دريدا فيذهب إلى أن نظرية التحليل النفسي تتخذ طريقة وجود غريبة في سرد بلانشو.
تنشغل دراسة دريدا المعنونة ﺑ «تأملات: عن فرويد» Speculations: On Freud٢٢ بالمدى الذي يمكن عنده القول إن محتوى نظرية التحليل النفسي يَستبِق التفكيكَ، وعلى سبيل المثال الكيفية التي ترفض بها فكرة اللاوعي الخضوع لسلطان أي تقييم فلسفي للبدهي الواضح بذاته بوصفه الأساس في الحكم. وعليه، يغدو إشكاليًّا تسميةُ أو تحديد أي ظاهرة نفسية في حد ذاتها أو بوصفها كذا  as such، لأن كلمة «بوصفها» as لا بد أن تكون مركبة؛ فما قد يكون «لذة» بالنسبة إلى اللاوعي ربما يبدو «ألمًا» بالنسبة إلى الوعي. ولكن دريدا — بغض النظر عن هذه التأكيدات — مفتون بمساءلة مكانة نظرية التحليل النفسي ذاتها واستشكالها، على طريقة المنتقدين لمزاعمها باحتلال مكانة علمية، الأمر الذي يثير دهشة بما يكفي. ولكن المسألة عند دريدا هي، في نهاية المطاف، إثبات أن تصور النسيان أشد راديكالية من تصور فرويد له.
ولعل مناقشة كارل بوبر تمثل خير هجوم على مزاعم التحليل النفسي بأنه علم.٢٣ فهو يرى أن أي نظرية إذا عُدَّت ذات محتوى محدد، فلا بد أن تكون قابلة للاختبار، ومن هنا يمكن دحضها. والحق إنه كلما قدمت النظرية مزاعم محددة تفيد بأنها عرضة من حيث المبدأ للدحض، احتازت النظرية محتوى أو تعددية أو قوة تفسيرية. وبالمقابل، فأي نظرية لا تعترف بالدحض نظرية فارغة. وتلك، على وجه التحديد، مكانة التحليل النفسي فيما يصفه بوبر. والسهولة عينها التي يتغلب بها التحليل النفسي على منتقديه (من خلال إعادة تعريف الظواهر بتعبيراته الخاصة، وتذكيرنا بأن اللاوعي لا ينظر إلى السلبيات أو يَعْزو مقاومة النقاد إلى أشكال من الكبت النفسي) هي، على وجه التحديد، ما يمكن عَده موضع إدانته. ولأنه يصوغ دومًا كل اعتراض عليه صياغة جديدة ويرد عليه، فهو دومًا لا يقول شيئًا.
في قراءة دريدا لكتاب فرويد «ما وراء مبدأ اللذة» Beyond the Pleasure Principle (١٩٢٠م)، يوجد هذا النوع من الالتباس الكامل فيما يتعلق بالموضوعية التي تربط نص فرويد ﺑ الأدب، وفي الوقت نفسه مَنْحه أهمية فريدة يمكن معارضتها في النهاية باستبعاد بوبر له استنادًا إلى فرضيات كفرضيات الوضعية المنطقية. لم يكن هم فرويد في هذا النص تقديم أطروحة، بل التروي فيما إذا كان يوجد أي دليل أو لا يوجد على أن الفكرة الرئيسية في نظرية التحليل النفسي، ألا وهي مبدأ اللذة، يمكن انتهاكها أحيانًا. ويدل استعمال فرويد هنا لتعبير «التروي» على علاقته المتميزة بكل من الفلسفة والملاحظة التجريبية. ولا يعني التروي الانخراط في الفلسفة (وكان ما يبدو مزعجًا لفرويد ميل الفلسفة إلى استباق التحليل النفسي من دون تحقيق خبراته)، كلا ولا يعني مجرد التعليق على الظواهر الملاحَظة (p. 381). فهذه الطريقة التأملية في الكتابة وإضفاء الشرعية الذاتية، حتى في عدم قطعيتها، هي التي جلبت فرويد إلى «الأدبي»، إلى العالم الذي لا يمكن دحضه أو تفنيده. ويلاحظ دريدا أن «موقع هذه السيولة المؤقتة يكمن فعليًّا في اللغة» (p. 381). والأكثر من هذا، بما أنه لا توجد نتيجة يمكن الوصول إليها، «فلا يمكن اختزال هذه المؤقتية أو التقليل من شأنها».
ويزداد الموقف تعقيدًا لاعتبارين؛ الأول: يشير فرويد إلى نظرية التحليل النفسي كما لو أنها متن مقرر ثابت، واضح ومُسَلَّم به إجمالًا. وذلكم يخفي حقيقة أن هذه النظرية لا تزال من إبداعه وأن مكانتها، حتى عندما يكتبها، محل خلاف مستمر. وعليه، ينتبه دريدا إلى التوترات المحيطة بتلك الملاحظات المدونة في كتاب «ما وراء مبدأ اللذة»، ومن المعروف أنها ملاحظات تهتم بحفيد فرويد وابنته، وهما مَن ارتبط بهما فرويد عاطفيًّا ارتباطًا قد يبدو معه أنه يضع الموضوعية التي يدعيها السرد موضع التساؤل.
وثانيًا: هناك تماثل غريب بين الظواهر الملاحَظة وحركات اللغة العلمانية أو التأملية عند فرويد. فالطفل الصغير (ونحن نعرف مَن يكون إرنست؛ حفيد فرويد) يلاحظ فرويدُ انهماكَه في لعبة يرمي فيها بَكَرَةً، مربوطة بخيط، خارج حافة سريره، بعيدًا عن نظره، ثم يجذبها بتنهيدة متلذذة، وقد تَأَولَ المشاهدان (فرويد وابنته) الأصوات التي يصدرها إرنست بأنها كلمة fort (= ذهبت) تتبعها كلمة da (= هناك). على نهج هذه اللعبة نفسها، يتحرك تفكير فرويد المتأمل فيما إذا كان مبدأ اللذة يُنتهَك أم لا — في هذه اللعبة أو في غيرها من السياقات — فيتحرك إقبالًا وإدبارًا في بنية تكرار غير محدود، كالحاصل في لعبة حفيده الطفل. وذلك كما لو أن الخطاب يقع على طرف الخيط، أو أن اللعبة إسقاط على الخطاب. وأي محاولة ممكنة للتفكير في التحليل النفسي على الأرضية نفسها بالإحالة إلى الظواهر تَتقوض، على قدر ترابط هاته الظواهر في ديناميات النص. وباختصار، كما تشير تلميحات دريدا العديدة إلى بلانشو (pp. 260, 285)، يمكن الإمساك بتأمل فرويد في حركة اللغة التي يسردها بلانشو من منظور علاقة السرد بحدثه («ذلك الذي يبتعد عن الفكر عائدًا إلى الفكر، فيغدو الفكرُ حركةَ ابتعاده» (L’attente l’oubli, p. 81).

وبالنظر إلى حجة دريدا بشأن إعادة الوَسْم بوصفها تلاعبًا بأنواع الخطاب، فلن يدهشنا ذلك الاستنتاج المتعلق بعدم التحديد الذي يُشرِك نظرية التحليل النفسي في محاولتها تعريف نفسها وتأسيسها وإضفاء الشرعية عليها. فالحق، يصبح افتتان التحليل النفسي هو على وجه التحديد مكانته شِبْه الصريحة، بوصفه، رغمًا عنه، علمًا يقف عند هوامش إمكان العلم، وهي مسألة سنتناولها من جديد في الفصل القادم.

يتبع دريدا نصوص هيدجر وبلانشو، التي درسناها أعلاه، من حيث كونها نصوصًا مكتوبة في شكل الحوار، وذلك في معالجته الأولى الأقوى إثارة لبلانشو في كتابه «خطوة-لا» Pas (١٩٥٦م) (Pas, pp. 20–116) وبينما قد يبدو أن هذا الفصل، حتى الآن، يخلص إلى نتيجة مؤداها أن الكثيرَ مما يقوله عن الأدبي «مذكورٌ سلفًا بشكل ضمني عند بلانشو»، فإن أفكار الأصالة والتأثير الضمنية في هذه النتيجة تعمل في كتابه «خطوة-لا» على نحو يغدو معه استسلام دريدا، في حد ذاته، لفتنة بلانشو نوعًا غير مسبوق من الكتابة التغايرية غير المكتفية بنفسها.
محل النظر هو اللغز الآتي: بالنظر إلى أن سرود بلانشو هي نوع من الأداء (السرد بوصفه حدثًا)، فهل من الممكن قراءتها بطريقة تسلم بكونها أداءات غير حاضرة وغير ثيماتية من دون اختزال؟ وكيف يمكن لأحدنا ألا يختزلها إلى أداء فكر أو نسق فلسفي؟ ذلكم هو السؤال الذي ينجذب إليه كتاب دريدا «خطوة-لا». إذ يهتم بشكل عسير إن لم يكن راديكاليًّا من أشكال المعالجة اللاموضوعية للنص. وتكمن المشكلة في قراءته وصعوبة فَهْمه بمصطلحات غير تمثيلية (وعلى النقيض من ذلك، مثلًا، مُنظِّرو استجابة القارئ، أو عمل رومان إنجاردن، بنظريتهم عن النص بوصفه موضوعًا قصديًّا ينبني إلى حد ما أثناء القراءة). وأما عند هيدجر الذي تصدى للمشكلة نفسها، كما رأينا، فيجب على القراءة نفسها أن تحقق نوعًا من الرجْعة أو الانعطاف، حتى تُلزِم نفسَها بشكل جديد من فن التوليد السقراطي. ولكن ماذا عن القراءة في بلانشو أو بمزيد من الالتفاف قراءة بلانشو؟ لا بد أولًا من إيضاح وجيز لهذا الأمر قبل أي بيان لما يفعله دريدا في كتابه «خطوة-لا» الذي هو عبارة عن حوار يدخل إلى — أو «يؤدي» — قراءة بلانشو طبقًا لبلانشو نفسه.

يسائل بلانشو — كما ساءل هيدجر — أعراف القراءة الجارية، أعني القراءة بوصفها تمثُّلًا ثقافيًّا أو تفسيرًا أو تقييمًا أو القراءة المرتبطة بكتابة تواريخ الأدب … إلخ، فبدلًا من ذلك، يستقر بلانشو على مقام القراءة في أنطولوجيا العمل، فيختط لنفسه نطاقًا يتجاهله النشاط الثقافي أو الأدبي السائر المعتاد ويحجبه.

القراءة كما يقدمها كتاب «الفضاء الأدبي» أساسية لتحرير العمل من التصور الأداتي أو التواصلي عن اللغة. فالعمل قبل قراءته يظل نتاج مؤلفه فقط. يبدو أن الكتاب يفتقر في صلابته المادية إلى الانفصال الذي يظهر فورًا في أعمال العمارة أو الرسم مثلًا. والقراءة التي تحرر العمل من مؤلفه وتفتحه على أفق المقروئية العامة غير المحدد، هي التي تمنح العمل هذا الانفصال الضروري: «لا تعني القراءة كتابة الكتاب مرة أخرى، بل السماح للكتاب بأن يوجد» (The Space of Literature, p. 193). فلا يَبرز العمل إلى الوجود إلا بوصفه مقروءًا، في انفصاله الأساسي: «القراءة «تجعل» الكتابَ، أو العمل، عملًا يتجاوز الشخص الذي أنتجه، ويتجاوز التجربة المُعبر عنها فيه، بل يتجاوز كل المصادر الفنية التي جعله التراث الفني متاحًا من خلالها» (The Space of Literature, p. 194). لذا، القراءة نوع من الأمر  fiat، أو قُمْ لَعَازر Lazare veni foras. ولا بد أن يُذكِّر أحدُنا نفسَه بأن بلانشو لا يتحدث هنا عن القراءة بوصفها تجربة ذاتية، بل بوصفها هيئة ضرورية لوجود العمل نفسه إذا أراد أن يكون حدثًا يُثبِت نفسَه بنفسه. فلا مجال هنا لثنائية الذات والموضوع؛ لأن تصور بلانشو عن «العمل» لا يمكن أن يُشمَل داخل أي فكرة بسيطة عن كيان موضوعي تضيف القراءة إليه نفسَها بوصفها وعيًا ذاتيًّا بذلك الكيان نفسه. القراءة «تجعل العمل يصبح عملًا» (The Space of Literature, p. 194). وبينما يُنتِج هذا الاعتبار مشكلاته الخاصة، يتجنب مرة واحدة قدرًا كبيرًا من النقاش النقدي المعاصر حول الموضوعية والنسبية في التفسير أو التأويل.
القراءة محل تمزيق عنيف «بين الكتاب الذي يوجد والعمل الذي لا يوجد سلفًا» (The Space of Literature, p. 196). تنقلنا القراءة من العالم المألوف المتعلق بنا «حيث يكون لكل شيء معنى كثير أو قليل»، «إلى فضاء — إذا تحدثنا بدقة — لا شيء فيه له معنى بعد، وحيث كل شيء له معنى يرجع مع ذلك إلى أصله» (The Space of Literature, p. 196). والقراءة بتحقيقها اختلافًا بين الألفة وأساسها (لا أساسها) الخفي، تُعيد كتابةَ الاختلاف الأنطولوجي عند هيدجر، ولعل قائلًا يقول كما لو أن فضاءها هو طوبولوجيا غريبة للعلاقة بين الكائن والدازاين أو بوصفه الدازاين في حوارات هيدجر أو في مقاله «عن الحد الفاصل». ويتواتر وصف هذه القراءة بأنها ترحيب، و«نعم»، استجابةً لنداء العمل، ﻓ «تجعل من الترحيب سرورًا شاملًا يُعلن العمل عن نفسه من خلاله» (The Space of Literature, p. 196).٢٤ والأكثر من هذا أن القراءة تدشينية بَدْئية، تثبت لعبة النفي أو التباعد الأصيل في العلامة الأدبية، وتتيحها. فالمسافة منفتحة في العمل بالنظر إلى إيجابيته، أو إلى سياق القارئ أو أي سياق محدد. ويذهب بلانشو إلى أن هذه المسافة «تؤسس براءة القراءة»، ولكنها «تحدد مسئوليتها ومخاطرتها» أيضًا (The Space of Literature, p. 201)؛ نظرًا إلى أن التباعد الذي تتيحه القراءة مدوِّخٌ أيضًا. ويبدو أن ذلك هو منبع الاسترداد المؤسسي للعمل، حيث «يُقال إنه جيد أو رديء من منظور الأخلاق … غني أو فقير من منظور الثقافة» (The Space of Literature, pp. 201-2).
ولكن شيئًا مما يمنعه هذا الاسترداد يثابر على البقاء، بمعنى أن العمل يفلت من الزمن، أو بمعنى «هالة الغياب التي تميز حضور روائع الأعمال» (The Space of Literature, p. 203). ومن ثَم، تغدو مهمة القارئ عند بلانشو إثباتَ عدم الراحة الملازمة للعمل الناجح. يجب على القارئ أن يقاوم تلقي العمل من منظور التمثيل وآراء المؤلف … إلخ، وأن ينفتح على تفرد العمل بوصفه «حدثًا» في الوجود: «لا يكف العمل عن الارتباط بأصله … وتجربة الأصل المستمرة هي شرط وجوده» (The Space of Literature, p. 204). يظل العمل «حرية عنيفة»، فهو يتواصل مع نفسه بوصفه إثباتًا «لعمق الأصل الخاوي المتحيِّر» (The Space of Literature, p. 204)، «إثباتًا بلا محتوى» (The Space of Literature, p. 206).
وإذا كانت القراءة عند بلانشو طريقة في قول «نعم» للعمل — شكلًا من الانعطاف إلى فضائه الخيالي — فليس من المستغرب أن يثبت كتابُ دريدا «خطوة-لا» قراءةَ بلانشو بوصفها «نعم» مضاعفة (فالكلمات الأخيرة في الحوار هي: «نعم، نعم»). ولكن التضاعف المقدَّم هنا تضاعف حاذق، يتعاطى أيضًا مع تصورات ما يَكونه التعليق طبقًا لبلانشو.
إن «نعم المُثناة» في كتاب «خطوة-لا» تؤدي تصورَ القراءة الذي أجمله بلانشو في عمله على مفهوم التعليق. لقد تساءل بلانشو: لماذا توجد تعليقات؟ وبهذا السؤال، لا يسأل بلانشو السؤال التجريبي تقريبًا، الذي قد تكمن إجابته في أن بعض القراء أفضل من غيرهم، أو أن مؤسسات تعليم الأدب مطالبة بإرشاد طلابها وتوجيههم … إلخ، فالأصح أن السؤال مهموم ﺑ مفهوم التعليق وما يعنيه ضمنًا. لماذا نسعى إلى تكرار العمل؟ ألا توحي هذه المحاولة — على سبيل المفارقة — بأن ما يكرره التعليق هو، بطريقة ما، مفقود من العمل الذي يعلق عليه؟ وكيف يمكن لأحدنا أن يتجاسر على الحديث عن عمل من دون افتراض ضمني بأن العمل نفسه شيء صامت، لا يقدر على الحديث عن نفسه؟ (L’entretien infini, p. 570).
هناك نوع من عدم تطابق العمل مع نفسه، وبذلك يتمكن من أن يظهر. ومن ثَم، يعتني التعليق بحركة المنطق الإكمالي التي تحاول بواسطته كلمة جديدة ملء هذا الفضاء الذي يتحدث من خلاله العمل. ولذا، تظهر الحاجة إلى التعليق لكونه ضرورة بنيوية بالنسبة إلى أي عمل، على نحو ما يدل على ذلك ضمنًا بلانشو برجوعه إلى الأدب المكتوب في عصر تاريخي مختلف، قبل أن يستنَّ المعلقون أنفسُهم سلطتَهم. ففي الملاحم البطولية العظيمة، مثلًا، يظهر التعليق أيضًا، لكن في داخل العمل نفسه. وفي الغالب تُضَاعِف هذه الأعمالُ نفسَها من الداخل مرات عديدة، على نحو ما تَتكرر أو تَتمدد الإبيسود٢٥ في التراجيديا اليونانية. ليس التعليق ممارسة خارجية على العمل، بل جزء من الاقتصاد النصي داخل العمل نفسه، من خلاله يرتبط العمل بنفسه، ويقدم نفسَه، ويَبرز إلى الوجود. ويعرف بلانشو، بإيجاز، العمل الفريد بأنه «ذلك الذي لا يكتمل إلا عندما يكون شيء ناقص فيه، ويشكل هذا النقص علاقته غير المحدودة بنفسه؛ تمامه في نقصه» (L’entretien infini, p. 572).
يقدم بلانشو وصفًا لرواية كافكا غير المكتملة، «القلعة» The Castle (١٩٢٦م). فأحد مظاهر الأدبي الغريبة أن الكتب التي تعلق على نفسها بطريقة رواية «القلعة»، لا تقل حاجتها إلى مزيد من التفسير، بل تزيد — في حقيقة الأمر — حاجتها وتتضخم: «كلما علق العمل على نفسه، استحث مزيدًا من التعليقات» (L’entretien infini, p. 572). وكلما انعكس الكتاب على نفسه صار مركزُه («نفسُه») ملغزًا. وتنطبق هذه الملاحظة، في أقل تقدير، على سرود بلانشو، كما تنطبق على روايات كافكا.
تدور رواية «القلعة» حول رجل في الثلاثينيات من عمره، اسمه كي   K، استُدعي بوصفه مسَّاح أراضٍ إلى قرية صغيرة غامضة تحكمها القلعة جغرافيًّا وسياسيَّا. وما من سبيل إلى دخول القلعة التي تظل نائية وغير مبررة على نحو يثير الدهشة، مع أن نفوذها ومكائدها يَعمَّان القرية الخاضعة لها. وفي القرية، يحاول كي أن يكتشف مهمته على وجه التحديد، أو ما إذا كان قد استُدعي في مهمة أو لا؛ وأثناء ذلك يتورط في علاقة زواج. ويَشيع في الجو العام درجة من التوتر والقلق والعزلة، عندما تتعاقب الأحداث أحدها وراء الآخر بطريقة غير مفهومة.
وعلى الرغم من أن نص كافكا — الذي لا يشبه مثلًا نص سيرفانتس «دون كيشوته» Don Quixote — لا يدور صراحةً عن الكتب والتعليقات، فإن سؤال الكتابة يتخلل بنيته، «لأن الموضوع الرئيسي للسرد — ولنقل الموضوع الرئيسي لرحلة كي الغريبة — لا يتألف من الذهاب من مكان إلى مكان، بل من تفسير إلى تفسير، ومن معلق إلى معلق» (L’entretien infini, p. 576). وأي قراءة ممكنة لعلاقة كي «الحقيقية» بالقلعة تظل غير وافية أو نهائية. فالكتاب يبدو غير مكتمل من حيث المبدأ، كما يبدو تصادفيًّا عارضًا.
ها هنا، يعارض بلانشو معارضة حادة رأي هيدجر عن مثالية التعليق التي تكلم عنها عند تحليله هولدرلن. إذ طبقًا لهيدجر: «على الكلام الشارح أن ينفصل في كل مرة عن نفسه وعما يسعى إليه على السواء»، و«كل عرْض بما يحمله من شرح يتلاشى في مواجهة وجود القصيدة المحض».٢٦ ولا ينصف هذا الوصف ممارسة هيدجر العملية، كلا ولا القضايا التي تثيرها. وأما بلانشو فيرى أن التعليق يدخل إلى الوجود المحايد للعمل. وتلخص جيرترود شتاين Gertrude Stein «بنية» التعليق أو «حرﻛﺘ»ﻪ في العبارة الآتية: «الوردة هي الوردة هي الوردة». فمن ناحية، يبدو هذا التعليق تكرارًا وحشوًا، ومن ناحية أخرى يثبت جمال الوردة وتفردها برفض تعريفها بأي شيء سوى نفسها. وفي الوقت نفسه، الوردةُ ووجودها (الوردة هي الوردة هي الوردة) معهودٌ بهما إلى الزمن الميت في الفضاء الأدبي بحركته الغريبة في الانعطاف (على نفسه) (L’entretien infini, p. 504). وإذن، يجب أن يتخلى كتاب «خطوة-لا»، ضمنًا، عن المطامح الأداتية أو الثيماتية لصالح نص يَتصادى مع (أو يقول «نعم» ﻟ) الوجود المحايد للعمل. وينبغي أن يكون التعليق شكلًا من الافتتان بالعمل، بالمعنى الفريد الذي حدده كتاب بلانشو ﻟ «الافتتان» (انظر أدناه).

ومثل مواضع عديدة في كتاب «الانتظار النسيان»، يأتي كتاب «خطوة-لا» في شكل حوار. ثمة صوتان؛ أحدهما صوت رجل وهو صوت تفسيري إلى حد ما، والآخر صوت امرأة وهي الصوت الأكثر تشككًا؛ وكلاهما يتحاوران حول مادة نصوص بلانشو.

وينقسم تحليلي إلى ثلاثة أقسام.

I

بقدر ما يجب أن يُفهَم السرد بوصفه طريقة في الشعر، فمن السذاجة تمامًا قراءته بوصفه تعبيرًا عن ذاتية شخصية. ومن غير المقبول أيضًا فكرة التعليق الذي يدع النص «كما هو عليه». التعليق أصيل في حركة السرد نفسه. وكما يلاحظ أحد المتحاورَين في كتاب «خطوة-لا»، فيقول: حتى لو اقتبس أحدنا كل شيء قاله بلانشو فستظل الحركة الكلية مفقودة. أما في عمل دريدا الحديث فيتزامن مطلب القراءة والعنف الضروري — الذي يجب على أي قراءة أن تجسده — في مفهوم «المقاطعة» interruption. لا توجد لغة سِلْمية أو مغايرة تمامًا. فالتعليق، كما في كتاب «خطوة-لا»، يرافق/يقاطع النص «الأصلي» بطريقة تُضمِّن الآخرَ داخل الشيء نفسه. فلا نص ينطوي على أي صلابة أو تماسك من دون أن يقاطعه الآخر.٢٧ يتميز كتاب «خطوة-لا»، وكذلك حوار لاحق عن ليفيناس (انظر أدناه)، بوجود أصوات يقاطع أحدها الآخر على نحو متكرر. (والحق إنه إذا أعدنا النظر فيما مضى، فمن الممكن ملاحظة أن فكرة المقاطعة من هذا النوع تنطبق على الطريقة التي يمارس بها هيدجر الحوار).
«عند الدخول في علاقة مع الآخر، لا بد أن تكون المقاطعة ممكنة؛ ولا بد أن تكون العلاقة علاقة مقاطعة. والمقاطعة، هنا، لا تقاطع العلاقةَ مع الآخر، بل هي التي تبادر إلى العلاقة معه.» (دريدا)٢٨

ويضع بلانشو في كتابه «خطوة أبعد» إطارًا لتاريخ فكري تفكيكي، فيثبت أصالة القراءة أو التعليق في تكوين معنى النص «بأثر رجعي»:

«نحن نعرف أن العمل، في ضرورته التاريخية، تُعدِّله، وتحوِّله، وتتجاوزه، وتفصله عن نفسه، وتعود به إلى خارجه باستمرار كلُّ الأعمال التي تأتي بعده» (Le pas au-delà, p. 54).
ويكمن قدر كبير من «أصالة» دريدا المتعلقة بالأدبي في قراءات هيدجر وبلانشو اللذين جعلا عمله يبدو مشتقًّا منهما. ومن ثَم، تُقرَأ المكانة الفعلية لعمله بوصفها نتاجَ العلاقة بالآخر وفضاءً ﻟ «تبادل مؤجل بين القراءة والكتابة» على حد سواء (Writing and Difference, p. 11). وبتعبيرات دريدا الخاصة، لا يحدث التوقيع على النص «حتى» يُقرَأ النص. وما تلقيه سوى ضرورة ومخاطرة أنطولوجية لا مادة تاريخ تجريبي. ومن هنا، يكون النص «منفتحًا» دائمًا، ويكون معناه قيد الوصول دائمًا، أو المجيء، في عملية تأسيس بأثر رجعي، قيد التشكل دائمًا، من خلال مصادفات تَعرض له في «مستقبله».
وليس من الضروري أن يُكتَب التعليق بعد النص حتى نفهم أنه تعليق على النص. ففي مقاله «مواصلة الحياة»، يقرأ دريدا كتاب بلانشو «عقوبة الإعدام» من خلال مقطوعة شيلي Shelly «انتصار الحياة» Trimph of Life (١٨٢٢م)، فيذهب إلى أن «كل نص منهما يقرأ الآخر … كل «نص» هو آلة ذات رءوس قراءة متعددة بالنسبة إلى النصوص الأخرى.» (Living On, p. 107) هكذا، يغدو نصَّا شيلي وبلانشو شريكين في حوار يكتسب فيه كل نص منهما معناه في علاقته بالنص الآخر، الأمر الذي يؤكد النصية بوصفها «عملية انفتاح/انغلاق لا يمكن اختزالها أو التقليل من شأنها، تُعيد تكوين نفسها من دون كلل.» (Dissemination, p. 337) وفي المقابل، يشكل كتابُ «خطوة-لا» جزءًا من إعادة تهيئة شكل الحوار الذي انخرط فيه دريدا على مدى سبعينيات القرن العشرين، وقد جاء ترتيب الكتاب بين كتابي «نواقيس» Glas (١٩٧٤م) و«بطاقة بريدية» The Post Card (١٩٨٠م).
لذا، من الملائم تمامًا القول إن كتاب «خطوة-لا» يمثل، من زوايا عديدة، تقليدًا لكتاب بلانشو «الانتظار النسيان»، إذ لا تغدو الحركةُ فيه نحو إثبات الحوارية — «الكلمة المتعددة» بوصفها مؤسِّسة النصيةَ في صورة زمنية منحرفة — موضوعَ العلاقة بين المتحاورَين فقط، وإنما بين «دريدا» و«بلانشو» أيضًا.
يُفتتَح كتاب «خطوة-لا»، بالكلمة تعالي  viens، التي تمثل دعوة من المُحاوِر الرجل إلى نظيرته المرأة، والتي هي — في الوقت نفسه — كلمة مقتبسة من بلانشو؛ حيث تُحوَّل الكلمةُ — في التأمل — إلى كلمة حوارية أو كلمة تعددية لها اعتبارها في سرود بلانشو. ها هنا، يظهر على الفور التشاكل مع هيدجر:
«لا تتبادل كلمةُ تعالي شيئًا، ولا تتواصل، لا تقول شيئًا، كلا ولا تَعْرض شيئًا أو تصفه أو تحدده أو تقرره؛ وحتى في اللحظة التي تعلن فيها عن نفسها، لا يوجد شيء أو شخص، كلا ولا ذات أو موضوع.» (Pas, p. 26)
عند هيدجر، يهتم الشعر بذلك بالانفراج الساطع الذي يُوهَب به الدازاين عالمًا ويُحدد في تصوره لنفسه على السواء. وتُعيد كلمة تعالي، بوصفها صيغة نداء، كتابةَ هذه الفكرة من منظور قضايا التفرد والأخلاق التي يمكن مطالعتها عند بلانشو (See Pas, p. 79). وفي المقابل، لا ترتبط كلمة تعالي بتجلي عالَم عمومًا. وتماشيًا مع مناقشة بلانشو في «الكلمة المتعددة»، فهي بصيغة الجمع «حدث فردي في كل مرة» (Pas, p. 27). على نحو أصيل. وبالمثل، تتضمن عنصرًا أخلاقيًّا متعديًا، فترتبط بالخارج والغير («متجاوزةً الوجود»، فيما يقول دريدا). إنها علاقة تؤسس أطرافًا مرتبطة من دون تحييد آخرية هذه الأطراف أو تحييد عدم قابليتها للمُعايَرة أو القياس؛ لأن الوجود نفسه فريد في كل مرة. والأكثر من هذا، فإن كلمة تعالي «أدبية» بطبيعتها واقتباس بالفعل، وذلك تماشيًا مع إزاحة الشعر الهيدجري المتتبع في سرود بلانشو. إنها تنادي «نفسَها» في حركة أو طلب التعليق (على نفسها):
«إنها حتى لا تنادي أي شخص يوجد قبل النداء. ولعل الأدق القول إنها تنادي النداءَ، وتدعو نفسَها، على شرط ألا يَفهم أحدنا من ذلك أي نوع من الانعكاس التأملي.» (Pas, p. 26)
وكما يوحي هذا الاقتباس بالفعل، تعمل كلمة تعالي أيضًا على تسمية دعوة الانتظار المتكررة في كتاب «الانتظار النسيان» وبنيته الغريبة ذاتية التفريغ. إنها إغراء بقول «نعم» لقراءةٍ تحرر نفسَها، حتى عندما يُسلِم ذلك الإغراءُ نفسَه لها.٢٩
أما الكلمة الأخرى التي يستعملها دريدا في التأمل حتى يسمي نصية سرود بلانشو فهي كلمة pas (= خطوة + لا)، التي يمكن إما أن تدل على النفي («لا») أو على اسم («خطوة»). وتتحرك أصداء هذه الكلمة في اتجاهات عديدة؛ فهي تُلامِس فكرةَ «الرجْعة» [بمعنى خطوة إلى الخلف] step back بوصفها تحويلًا للغة وانحرافًا بها، طبقًا لبنية الانتظار أو بنية كتاب مالارمه «محاكاة»، في خطوة ليست بخطوة، بل تحييدًا. لا توجد حركة، وإنما تمثيل صامت لها فقط.٣٠ ويلح كتاب «خطوة-لا» على أن بنية كلمة pas ينبغي ألا تُفهَم بوصفها أي شكل من اللعب بالكلمة، لأن هذا الفَهْم معناه الارتداد مرة أخرى إلى قراءة النص بوصفه معالجة ذاتية يقوم بها المؤلف. إن كلمة pas — إذا جاز القول — تفرض نفسها، بما يتناسب مع ما يفكر فيه أحدنا عبر التغاير الذي نحن بصدده. وثمة مفارقة هنا، فالمرء لا يمكنه الاقتراب من الآخر — بما هو آخر — إلا بإثبات غيريته من منظور اقتراب يُكثف بُعْدَنا عن أي اقتراب منه، «خطوة التباعد وإيقاف التباعد» [خطوة اللامسافة pas d’é-loignement] (Pas, p. 37). فاللغة، وهي تلبي دعوة الآخر التي لا يمكن تمثيلها، لا «تقترب» أو تدنو من الغير إلا بحركة من إزاحة الذات، بها يغدو الحوارُ «عن» بلانشو شكلًا جديدًا من كتابة لا تندرج تحت أي نوع، ولا اسم لها تَتسمَّى به بعد.
«في خطوتها المزدوِجة (خطوة القرب بوصفه ابتعادًا)، يزيح الآخرُ التعارضَ بين القريب والبعيد، من دون الخلط بينهما مع ذلك. فهي خطوة تُخضع الحضورَ الفينومينولوجي لحركتها» (Pas, p. 37).
إنها تتعلق بما قد يبدو تناقضًا ذاتيًّا براجماتيًّا أو تجسده، الأمر الذي يذكرنا بسجالات قديمة حول حالة «اللاشيء» بوصفه مشارًا إليه؛ كما يذكرنا بنقطة أثرناها سابقًا أيضًا فيما يتعلق ﺑ الشعر، ألا وهي اللافعالية النسبية لأشكال النفي في اللغة الشعرية. وتترك كلمةُ pas في اللغة — من حيث دلالتها مرةً على النفي «لا»، ومرةً على الاسم «خطوة» — أثرًا أو أثرَ خطوةِ اقترابٍ واحدةٍ (عبر النفي) من الآخر. والحاصل من ذلك كلمة مركبة، تتميز حركتها الإجمالية بأنها أعقد من أن تكون إثباتًا أو نفيًا. وعليه، لا تعدو كلمة pas بدلالتها المركبة أن تكون مفهومًا يُمسك في آنٍ بحركة القرب والابتعاد المزدوِجة، الأمر الذي يَحْرِف أفكارَ هيدجر عن الاختلاف الأنطولوجي و«الرجْعة» ويزيحها. فكلمة pas التي يمكن كتابتها هكذا (p)as، ينبغي ألا تُفهَم بوصفها تسمية لأي مفهوم عن الكتابة أو التحييد (Pas, p. 52)، بل تؤدي بالأحرى هذا المفهومَ. يتتبع المُحاوِر الرجلُ الطريقةَ التي تعمل بها كلمة pas في نصوص بلانشو، لا سيما نصه «خطوة أبعد» (١٩٧٣م)، وفي الوقت نفسه نصوصه الأحدث. فيَقرأ هذه الكلمةَ بوصفها وجودًا ملتفًّا على نفسه («خطوة-لا خطوة» step-not) في بنية شَلَلٍ يشبه بنية الحياد الفاعلة في استعمال بلانشو التعبير sans (= من دون) في عبارات من قبيل: تقرير من دون تقرير  rapport sans rapport، نحن من دون نحن  nous sans nous … إلخ، إن كلمتَي pas وsans، بما هما كلمتان «تفعلان» ما «تصفانه»، أو من حيث هما «حدثان» «يتعلقان» بهما، تتجسدان — من ثَم — في «كلمة» واحدة تجسد فتنتَها حركةُ السرد بوصفه كلًّا، وكذلك الحوارُ!
ويَلزم عن ذلك أن كلمات «تعالي» viens و«خطوة-لا» pas و«من دون» sans تحدد علاقة القراء بنصوص بلانشو على أساس أن فتنتها هي التي تجذبنا إلى الفضاء الأدبي، أُنشوطة القرب المنعقدة بوصفها انفصالًا يضفي على السرود نفسها قوة جاذبة. و«الفتنة» هي الاسم الذي يسمي به بلانشو حركة الكتابة التي تسحب نفسَها من تحديدات الفضاء والزمن المتعارف عليها، والتي تجذب القارئ، بفضل عجزها نفسه، إلى ذلك الآخر أو الفضاء الأدبي؛ ففيه تُثبِت نفسَها «في محيط مبهم من الفتنة» (The Space of Literature, p. 32). وتؤكد كلمة pas [بدلالتها على الخطوة ونفيها] أن كلمة تعالي  viens ربما تُقرَأ بوصفها الكلمة المعبرة عن هذه الفتنة: الحاجة إلى التماهي مع جاذبية النص من دون تطابق، ومن هنا، يُعد الانجذاب إلى فتنة هذه النصوص دخولًا في علاقة مع بلانشو ينجذب من خلالها بلانشو والقارئ معًا إلى حوار لا يتملكان نفسهما عنه، كالشخصيتين في سرد بلانشو. وفي المقتبس الآتي من كتاب «خطوة-لا»، يصير الشخص المخاطَب بأنه «أنت» صيرورةً مبهمةً إلى الصوت الثاني في الحوار و«بلانشو» أيضًا. ترفرف خطوة الاقتراب بين أنت tu وهو il، بين «أنت» thou٣١ و«هو» he.
«أنت تفتنني، وأنا أحبك. وهذه الفتنة — ولا نَنسيَنَّ أن بلانشو يصفها ويحللها ويشرحها ولا يكف أيضًا عن إنتاجها — ليست فتنتَه، فالأحرى أنه يَفْتِنُ ما إن تفتنه الفتنةُ (مثل «أنا» الواحد الذي لا يجاريني)» (Pas, p. 93).٣٢
وبالطريقة التي أمكن بها قراءة العلاقة بين بلانشو وليفيناس في كتاب «الانتظار النسيان»، يغدو الحوارُ نفسُه «بين» هذين المفكرين شكلًا من الصداقة «في» فضاء أدبي تَبقى فيه الهُوية المحددة معلقة. ومن ثَم، لا يقوم كتاب «خطوة-لا» بمجرد «إعادة تشكيل سمة مائزة»٣٣ لبلانشو، فهذا شيء لا مبرر له، وإنما يقرأ بلانشو «طبقًا ﻟ» الطريقة التي يمارس بها بلانشو التعليق والكتابة. ولو ابتغينا السداد، ليس المقصود بذلك حتى «تطبيق أفكار بلانشو على عمله» أو مجرد تصور حاذق — نوعًا ما — للقراءة الفاحصة، بل المقصود على الأصح افتتان بدعوة الآخر أو استجابة له، وهي الدعوة التي تُسْلِم سرودُ بلانشو نفسَها لها، فتحقق — ومن ثَم تمحو أيضًا بلا انقطاع — حركةَ الرجوع المستأنفة بوصفها تعليقًا (ذاتيًّا)، والعكس صحيح. إذ يعمل شكل من أشكال التأثير غير الذاتي في نص بلانشو الذي يخضع لقيد صارم أمْلَته قوانين تماسكه كأي حجة حاسمة ترد على حجة أخرى.

II

المتحاورون الثلاثة في كتاب هيدجر «محادثة على طريق القرية بشأن الفكر» غير محدَّدي الجنس، على الرغم من أن أحدنا يشك في أنهم ذكور. أما كتاب دريدا «خطوة-لا»، ككتاب بلانشو «الانتظار النسيان»، فيتألف من التفاعل بين صوتي رجل وامرأة. ولذا، يجعل كلا النصين من الاختلاف الجنسي مظهرًا من مظاهر اللاتماثل الأصيل في اللغة والحوار لا يمكن اختزاله أو التقليل من شأنه. وعلى النقيض من ذلك هيدجر؛ لأن الدازاين عنده غير متمايز جنسيًّا، والاختلاف الجنسي لا يمكن فصله عن الاختلاف الأنطولوجي، بوصفه عنصرًا غير متماثل يجب تأكيده بدلًا من تحييده.٣٤ يتماشى كتاب «خطوة-لا» مع مشروع دريدا ﻟ «إعادة صياغة الخطاب الفلسفي أو النظري جنسيًّا».٣٥ ولكن قبل تناوُل هذا الموضوع بالتفصيل، من الضروري الوضع في الحسبان تصورات الجماعة  community عند بلانشو ودريدا؛ إذ لا ينفصل سؤال الاختلاف الجنسي عن قضية الجماعة التغايرية غير المكتفية بنفسها.
إن إحدى السمات الأكثر تحديًا في شكل الحوار أنه يُعد، بوصفه مسرحية أصوات، أداءً ﻟ طرائق الجماعة. فيمكن أن يُقرَأ بوصفه أداءً لمسائل أو قضايا من النوع التعليمي أو الاجتماعي أو السياسي، والحق إنه على عكس الصورة المتعارف عليها عن نزعة ما بعد البنيوية في العالم الناطق بالإنجليزية، يهتم جانب كبير من أعمال بلانشو بفكرة الجماعة وإمكانها على الأخص، وهي قضية ينشغل بها أيضًا كتاب «خطوة-لا» وغيره من نصوص دريدا اللاحقة عليه. وبالنظر إلى أن كل الخيارات المتاحة — تقريبًا — لصياغة مفهوم عن الاجتماعي أو السياسي، تستند إلى النزعة الإنسانية الميتافيزيقية التي يجب تجاوزها، فإن هذه القضية تظل مُلِحة إلحاحًا قويًّا. فالمضمرُ في نصوص من قبيل «الانتظار النسيان» أو «خطوة-لا» فكرةٌ عن الجماعة ترتبط بما كان قد أجمله بلانشو في نص أحدث نسبيًّا كَتبَه عن باتاي Bataille ومارجريت دوراس Marguerite Duras، تحت عنوان «الجماعة غير المعترف بها» (١٩٨٣م).٣٦ وتختلف فكرة «الجماعة» — التي نبحثها هنا — عن الطرائق التي تفهم الجماعةَ بوصفها — مثلًا — كيانًا في حد ذاته، أو بوصفها — مثلًا — انصهار الأفراد في مجموعة. ما نتحدث عنه «شكل آخر من المجتمع society لا يجرؤ المرء على تسميته «جماعة» community»  (p. 3). وتشكل هذه الجماعة التي تؤكد — على نحو فيه مفارقة — استحالةَ الجماعة، شكلًا من «التجربة الحد»،٣٧ يسائل أي موجود «فيها» نفسَه من خلال علاقته بأغياره:
«إذا كان الوجود البشري وجودًا يضع نفسَه على نحو جذري ومستمر موضع تساؤل، فلا يمكن أن يكون له بمفرده ذلك الإمكان الذي يتجاوزه دائمًا، لأن السؤال سيكون مفتقرًا دائمًا إلى سؤال (من الواضح أن النقد الذاتي ليس سوى رفض النقد الذي يوجهه الآخر)» (p. 8).٣٨

وكما هو الحال في كتاب هيدجر «الوجود والزمان»، فإن الموت هو الذي يضع الوجود البشري العيني موضع السؤال على النحو الأتم الأكمل. ولكن هذه «التجربة الحد» هي عند بلانشو، بالضرورة، موت شخص آخر، صديق مثلًا؛ لأن موت الشخص نفسه ليس شيئًا، ليس تجربة تخصه، إذ لم تَعد توجد ذاتٌ تجربه. إن العلاقة التي تُبقي على اللامتماثل والتي تسلم بالإمكان الضروري لاختفاء الآخر، يمكن أن تصبح تحولًا للذات يتجاوز التصورات الإنسانية عن الفرد. يقول بلانشو:

«في الحياة نفسها، لا بد أن نصادف غياب شخص آخر عنا. ومع هذا الغياب — بحضوره الغريب المقلق فهو دائمًا قيد تهديد سابق بالاختفاء — تلوذ الصداقة باللعب والفقدان في كل لحظة، علاقة من دون علاقة … وهكذا، ستكون هذه هي الصداقة التي تكتشف المجهولَ الذي هو نحن أنفسنا، ولقاءَنا بعزلتنا التي لا يمكن أن نجربها بمفردنا …» (p. 25).
وأما عن دريدا فقد أثار موت صديقه بول دي مان هذا النوع من الأفكار المؤلمة وجعلها في بؤرة اهتمامه، الأمر الذي أفضى به إلى أقوال وتأكيدات، لو عبرنا عنها بمصطلحات التحليل النفسي، لبَدَتْ غير متمايزة تقريبًا عن أقوال باتاي وبلانشو: «يُلهم إمكانُ موت الآخر، ويشكل، أي علاقة بالآخر وتناهي الذاكرة»؛ فضلًا عن أن هذا الإمكان نفسه — سواء سُلِّم بوجوده أم لا — هو الذي يؤسس أثر الغير داخل الهُوية التي تمكننا من قول «أنا» أو «نحن» (اللذين نتحدث عنهما ونتولد منهما، ويُحددان على نحو ما تكونهما تجربة الآخر هذه وحدها»).٣٩
ومن العسير، بل لعله من غير المرغوب أصلًا، ترجمة هذه الأقوال المتعلقة بالحِداد الأساسي، مهما خُففت، إلى مفاهيم عن الفرد المستقل، أو إلى أي شكل من أشكال البرامج الاجتماعية أو السياسية. لذا، من الواضح أن هذه الجماعة «المستحيلة» هي مفهوم متعالٍ من نوع ما، ومن ثَم توجد فعليًّا بوصفها شرطًا مهملًا للمفاهيم المتعارف عليها عن الجماعات والأفراد والشعوب … إلخ، ومن ناحية أخرى، ينطوي وصف بلانشو على قوة إلزامية؛ فقوله يدعو إلى أداء الانتظار الذي من شأنه أن يؤكد أو يصبح تلك الأخوية في العزلة الجوهرية حيث نكون مسئولين فعليًّا — عبر علاقة القرب في الانفصال — عن التجديد الدائم للمطالب الأخلاقية في العلاقة. وعلى هذا النحو أيضًا، يقول كتاب «خطوة-لا» إن كلمةَ تعالي — من حيث هي ضمنًا كلمة منقسمة على نفسها وتستشهد بنفسها على نفسها — نداءٌ منبعه إمكان موت الآخر. وتجذب فتنتها القارئ إلى مجال هُوية من دون هُوية، يُضحَّى فيه بأي وجود إيجابي وضعي.
في مقالة عن سرد مارجريت دوراس، يميز بلانشو تمييزًا واضحًا بين الجماعة التقليدية بوصفها نزوعًا اجتماعيًّا بحكم الأمر الواقع أو الطبيعة حيث نجد فيها أنفسنا، وبين ما يدعوه الجماعة المنتخبة   (Community, p. 46). تلك هي الجماعة التي يختارها أحدنا أو قد يُنشئها فيما يمكن أن يُسمَّى «الحياة الخاصة»، وهو تعبير ملائم. وهنا، يبدو شكل من التغاير العملي ممكنًا، كجماعة المحبين أو الأصدقاء أو الفنانين، معًا في علاقة متبادلة بخارجها وإن كانت غير تماثلية، فهي جماعة تضع باستمرار تماسكها ووجودها على المحك (مثلًا؛ التساؤل عما إذا كانت هُويتها قائمة على استبعاد آخرية ينبغي ألا تتبرأ منها). ويجب أن يكون هذا التغاير تحويلًا ضمنيًّا للمجتمع والمفاهيم المحددة له، لأنه يفتح فضاءً داخل فضاء؛ وذلكم هو الحدث على شاكلة ما يجري في العمل الأدبي: «التخلي عن إبداع عمل، والاكتفاء بالإشارة إلى الفضاء الذي يتردد فيه صدى كلمات خاملة désœuvrement، دائمًا ما لا تبدأ عملها بعد، بالنسبة إلى الجميع وإلى كل أحد، ومن ثَم بالنسبة إلى لا أحد» (Community, p. 46).
ومن اليسير إدراك أن فكرة الجماعة التغايرية يمكن تسخيرها لأغراض بعض الظواهر الاجتماعية التاريخية. فالنزعة العِرْقية، مثلًا، تظهر بوصفها تجليًا وحشيًّا إطلاقيًّا لقانون الهُوية. ولكن إمكان الفكر التغايري لا يزال يبدو فكرًا تخطيطيًّا مجردًا أكثر مما ينبغي في هذا المجال. ففكر بلانشو ودريدا المَدين دينًا كبيرًا لتجارب باتاي مع الشيوعية محدود على الأغلب بحدود مناقشة ظاهرة واحدة؛ أعني النزعة الفاشية وأسئلة الهُوية اليهودية. ومن المثير للقلق أن مفاهيم الجماعة التغايرية يمكن أن تُقرَأ بوصفها مجرد قلب للنزعة الفاشية. وعلى سبيل المثال، عرَّف جان لوك نانسي مؤخرًا الفاشية تعريفًا شارحًا من منظور ما أسماه «مذهب الحلول أو المحايثة»، أي: «ظرف تهدف فيه الجماعة البشرية أساسًا إلى إنتاج هُويتها الخاصة بوصفها شغلها الشاغل، والأكثر من هذا إنتاج هذه الهُوية بوصفها هذه الجماعة على وجه التحديد».٤٠ ومن الملاحظ أيضًا أنه برغم معارضة تصورات الجماعة التغايرية للفكر الفاشي، فإنها تحتفظ بتماثلها القوي بين الشكل الشيوعي والجمالي، وإنْ كانت تعيد تعريف الجمالي تعريفًا راديكاليًّا في هذا السياق الجديد.
بيد أنه بالرجوع إلى قضية الاختلاف الجنسي، نجد أن كلًّا من دريدا وبلانشو يؤكدان وجود علاقة جوهرية بين التغاير الممكن ونزعة نسوية بعينها. وباعتبار الدازاين الهيدجري، فإن جوهر وجوده العيني existence ليس فيه هو نفسه، بل في العلاقة بالوجود being التي تنزع عنه مركزيته وتؤسسه على حد سواء. فالمتحاورون في سرود بلانشو، وكذلك المتحاورون الذين يتكلمون عن بلانشو في كتاب دريدا «خطوة-لا»، يجدون أنفسهم مزاحين — بالطريقة نفسها — عن أي يقين مزعوم قد يفترضون على أساسه وجودهم أو هُويتهم الشخصية أو الفردية التي تقول «أنا». فالموقف الجاري في سرود بلانشو هو الموقف الذي يجد فيه سارد أو صوت مذكر نفسَه في علاقة تُزيح الهُوية والسلطة المرجعية. وتحدث هذه الإزاحة أو الخلخلة عبر لقاء الصوت المذكر — في علاقة محايدة — بمحاورة مؤنثة لا تماثله («القانون» la loi، «الكلام» la parole، «الفكر» la pensée، «الصوت» la voix).٤١ ويشك أحدنا في أن العلاقة الغريبة بين الفكر والشعر عند هيدجر هي ما يجري الانشغال به وتحويله دومًا في هذه اللقاءات.
في مقال «قانون النوع» (١٩٧٩م)، يتكلم دريدا عن العلاقة بين الصوت السردي الذي يوصف بسمات مذكرة ومحايدة ملتبسة، فيَعْلَق في حركة السرد («جنون النهار» La folie du jour) التي تسرد حدثًا يستحيل سرده، وعنصر مؤنث، ألا وهو القانون (La loi). وثمة رموز سلطوية متنوعة يخضع لها السارد تطالبه بتشكيل نفسه بوصفه «أنا» تملك القدرة على إعطاء ما حدث تفسيرًا، ولكن هذا المطلب مستحيل بقدر إحاطة إزاحة الذات وحركة السرد غير المتعدية به وتفكيكها له على حد سواء. وفي العلاقة من دون علاقة، لا يمكن فصل القانون بمطالبه التي أوجدها اسمُها٤٢ والصوت السردي، عند تمييزهما عبر القرب في الانفصال. وذلك لأن القانون أصبح ممكنًا في قول «نعم» للسرد مضاعفة، في حين أنها تتجاوز جميع المطالب الخاصة بهُوية الملاءمة، من رغم حاجتها إلى القانون الذي بموجبه تؤكد نفسَها بوصفها ذلك الفائض أو الإزاحة والتفكك.
ولم يُنتهَك القانون فحسب، وإنما تُجووِز وحُوِّل في الحركة عينها التي تنتهكه أيضًا، ولعل الأمر الوثيق الصلة هنا تأمل هيدجر في «الحد». فالحركة عينها التي يُؤكَّد بموجبها أي حد صارم (يخص النوع أو الهُوية) هي أيضًا الحركة التي بموجبها يحقق القانون والصوت السردي لااختلافًا غريبًا، «اتصالًا ﺑ غشاء البكارة من دون ملامسته» (The Law of Genre, p. 226). وفي عدم التحديد هذا، المتعلق بالاختلاف الجنسي، يؤكد دريدا صوتًا تعدديًّا يمكن قراءته بوصفه إعادة وَسْم جنسي لتصور بلانشو عن الكلمة المتعددة (him، her، I، we، النوع المحايد …») (The Law of Genre, p. 226).
في كتاب رينو فيرتانين «أحاديث عن الحوار»،٤٣ توجد مناقشة مهمة ولافتة عن الغياب النسبي للمُحاوِرات من النساء في بعض نماذج شكل الحوار. ويلاحظ أحد المتحدثين في نص فيرتانين أن حضور المرأة الذي يقدم «توترات» (p. 41) سيمزق النظام الصارم الضروري للحوار: «حضور المرأة سيغير الحوار إلى دراما حتمًا» (p. 41). وبالإضافة إلى هذا التنبيه إلى أن الحوار هو دائمًا حلبة قوة، يعلق متحدث فيرتانين قائلًا إن الحوارات التي تشتمل على وجود نساء لا تهتم عادةً «لا بالميتافيزيقا كلا ولا بالإبستيمولوجيا، وإنما بالحب والزواج» (p. 42). ومن الواضح أن كتابَي «الانتظار النسيان» و«خطوة-لا»، يحاولان تقديم الاختلاف الجنسي بوصفه اختلافًا مؤكدًا ومتحولًا — في آنٍ — عبر نظام تبادل كلامي قوي. لذا، تسمح عبارة فيرتانين بقراءة أخرى أيضًا: العناصر المؤنثة (كالكلام la parole والفكر la pensée) في الحوار تعطي السرد شكل غشاء البكارة بين الفلسفة والمسرح، فيحيدهما معًا لصالح كلمة النداء تعالي التي تؤدي إليهما. إنها مسألة «حركة أو لحظة أنثوية»، في كتاب «خطوة-لا»:
«تعلن عن … الاختلاف الجنسي قبل أي تحديدات أخرى، وأي تطابقات أخرى. وبما أن هذا الاختلاف الجنسي٤٤ لا يُحدَّد أو يُسمَّى إلا على أساس كلمة النداء تعالي التي تُبْرزه وترجع عنه في آنٍ، فإن حركة التباعد في كلمة تعالي توجه خطوةَ الاختلاف الجنسي ونفيها» (Pas, p. 81).
ويقدم دريدا — بشكل تخطيطي — في مقاله «فنون الرقص» Choreographies (١٩٨٢م) — فكرة جماعة يمكن تصورها طبقًا ﻟ «خطوة الاختلاف الجنسي ونفيها» pas de différence sexuelle التغايرية هذه. وستتألف هذه الجماعة بالأحرى من «عدد غير محدد وطوباوي من أصوات متمازجة مندمجة، تتقلب سماتها الجنسية غير الواضحة تقلبًا سريعًا، فيستولي تراقصُها على جسد كل «فرد» ويَقسِمه ويضاعفه، سواء أكان مصنفًا بموجب معايير الاستعمال إلى «رجل» أم إلى «امرأة»» (p. 76).

III

لقد استبق بلانشو الكثير من مضمون كتاب «خطوة-لا» بطرائق عديدة. وبرغم ذلك، فأثناء الحوار، هناك أهمية متزايدة لمفهوم يميز دريدا إلى حد كبير، ولا يزال يشكل الجانب الأقل فَهْمًا واستيعابًا من عمله، ألا وهو: «التوقيع» signature. إذ بينما يشير التوقيع عادةً إلى دمغة تدل على السلطة المرجعية والملكية، نجده في كتاب «خطوة-لا» يشكل جانبًا من إعادة تشكيل هذه التصورات بطريقة ارتيابية. يؤكد كتاب «خطوة-لا» أن موضوعه النهائي — وهو يُسلِم نفسَه إلى الافتتان بنصوص بلانشو — ليس شرح القانون الذي يحكم حركة سرود بلانشو، بل الاقتراب المتأني من «حدث توقيعه» (Pas, p. 43). إن «التوقيع» تعبير يدل على ما قد يُسمَّى قوة العمل وتفرده، فيصبح بموجبه حدث وجود فريد (ويُعتقَد في تفرد الشعر). وذلكم أمر يتعلق بتلك المسألة التي يُزعَم غالبًا أن مَن يُسمَّون «ما بعد البنيويين» يتجاهلونها، ويتعلق بما يجعل نصًّا مختلفًا عن غيره، أي قدرته على تحقيق «فرادة» بعينها. ومن ثَم، يشير التوقيع إلى النص بوصفه كلًّا، له طبيعة فريدة.
تنص مقدمة كتاب لدريدا عنوانه Parages، وهو عمل جماعي «عن» بلانشو نُشِر في العام الذي أُعيد فيه نشر كتاب «خطوة-لا» عام ١٩٨٩م، على إمكان قراءة عمل بلانشو بوصفه عملًا مدموغًا من داخله ﺑ «اسم لم يَعد أحدنا يعرف إلام أو إلى مَن يرجع، إلى المؤلف أم إلى اللغة» (Pas, p. 17). ويشير عنوان نص دريدا نفسه — Parages — إلى أثر التوقيع في عمل بلانشو، وإلى تكرار كلمات تتكون من الحروف الآتية: Pas, “age, rage, ra, para, par, pa”, p. 17).
وكما يخبرنا هذا المثال، لا يحتاج «التوقيع» إلى أن يرتبط بحروف اسم العلم (Les fins de l’homme, p. 229). (على الرغم من أن بعض أجزاء من كتاب «خطوة-لا» تقوم بهذا الربط): «الاسم الذي نعرفه به يمكن أن يخفي عن عينيه أو أعيننا اسمًا آخر مختلفًا تمامًا يعمل عمله في نصه بصمت» (Pas, p, 113).

فما مصدر هذا المفهوم الغامض؟ يكمن هذا المفهوم — من نواحٍ عديدة — في مقال «جلسة مزدوجة» أثناء الكلام عن مسألةٍ تتكرر غالبًا في التأملات بخصوص الشعر: هل الدال هو الذي يُمْلي تقدم النص أم المدلول؟ هل تحدد الضوابط أو القيود الإيقاعية والشكلية «ما يُقال»؟

«يُقال غالبًا إن مالارمه قد أنشأ ممارسته الأدبية بأكملها من ضرورات الشعر والقافية من دون أي تجديد حقيقي في هذا المجال على ما يبدو. وهذا معناه أنه قد حول هذين المفهومين وعممهما في الوقت نفسه، فجعلهما صدى الحركة بين الدوال، من دون أن تمليهما أو تقررهما سلفًا قصديةُ ثيماتية بأي حال من الأحوال» (Dissemination, p. 277).
وتلك ليست حجة دريدا. إذ قد يبدو للوهلة الأولى أن فصل مظاهر اللغة عن مفاهيم التواصل أو التمثيل الأداتية لا بد أن يفضي إلى الجزم ﺑ «استقلال الدال». والحق إن مفكرين من أمثال جون كابوتو قدموا هذه الحجة حرفيًّا.٤٥ لكن من الضروري الاعتراف بوجود علاقة وثيقة لا تنفصم بين المفهوم السميوطيقي ﻟ «الدال» والتصور الديكارتي عن التمثيل، وهي علاقة على المحك في كتابي هذا من أوله إلى آخره. وعلى سبيل المثال، تنطوي الأقوال الجازمة ﺑ «استقلال الدال» على انقسام ثنائي إلى المادي والمثالي، وعلى المحاجاة بأن الأول منهما (الذي يتخذ هيئة وحدات صوتية أو كتابية) يُحدد ثانيهما غالبًا. ولكن تأكيد «حرية لعب الدال» يظل شكلًا من أشكال النزعة الوضعية، وذلك لأن مادية «الدال» نفسه وفعاليته السببية، ومباينته المفترَضة للمدلول، لم تُطرَح أو توضع في الحسبان. ويؤكد كتاب «خطوة-لا» أن هذا الفرق بين الدال والمدلول «فرق مُهمَل» (Pas, p. 52)؛ نظرًا إلى أن «وحدات الكتابة» graphemes التي يتألف منها التوقيع وحدات قبل لغوية  prelinguistic تقع على حافة اللغة و«الخطوة»  pas الملتفة أبعد منها، كلمة نداء الآخر: تعالي.
إنها مرةً أخرى مسألة «اللااختلاف الغريب» بين الدال والمدلول. ومع أن مقال «جلسة مزدوجة» لا يشتبك صراحةً مع بلانشو، يلاحظ أحدنا أن لعبة اللااختلاف هذه وغشاء البكارة تشبه العلاقة بين السرد وحدثه. والأكثر من هذا، يمكن صياغة مثالية «الإيقاع» أو «القافية» — التي شرحها دريدا — بوصفها إعادة اقتباس بين العلامات وتغليفها على السواء:
«القافية — وهي القانون العام للتأثيرات النصية — تطوي كلًّا من الهُوية والاختلاف. فالمادة الخام اللازمة لهذه العملية لم تَعد سوى صوت نهاية الكلمة: كل «المواد» (الصوتية والخطية) وكل «الأشكال» يمكن أن ترتبط معًا عند أي مسافة وفي ظل أي قاعدة لكي تنتج نُسخًا جديدة من «خطاب لا يتكلم»» (Dissemination, p. 277).
لقد اعتاد مُنَظِّرو الشعر على وجود تفاعل بين الجوانب الشكلية والدلالية في نص، يوحي فيه التناظر الشكلي بين تعبيرين مثلًا برنين ثيماتي، ويفرض هذا الرنين من ثَم قيودًا شكلية على النص في تقدمه. وما يهمنا هنا العنصر المقوِّم في هذه العلاقة نفسها: «المجال» غير المحدد الذي لا يمكن أن يُقال معه إن كلًّا من «الدال» و«المدلول» هما القوة الحافزة المحركة، استنادًا إلى اللااختلاف الغريب الفاعل — لنقل — في نص مالارمه «محاكاة»: «في الحالة الأخيرة، الاختلاف بين المدلول والدال هو لا شيء» (Of Grammatology, p. 23). ذلكم هو غشاء البكارة بين الصدفة والضرورة.
وعلى نحو مفيد، لفت هيرمان رابابورت الانتباه إلى سمة أسلوبية في مقالات بلانشو لا يمكن فصلها عن حركة الفكر التي تؤديها، ألا وهي البارانومازيا  paranomasia بمعنى تكرار العلامات أو حروف متماثلة في كلمات مختلفة.٤٦ ويستشهد رابابورت بعبارات من قبيل العبارة الآتية: et qu’a la vue qui s’ouvre s’ouvre؛ مع أن تكرار كلمات مثل الانتظار  l’attente والفكر  pensée في كتاب «الانتظار النسيان» يؤدي بالقدر نفسه حركةَ الفكر في البارانومازيا التي تحقق زمنية السرد المنحرفة. ويوحي انتباه رابابورت إلى هذه السمة الأسلوبية عند بلانشو بقراءة عمل دريدا عن التوقيع بوصفه امتدادًا لهذه الممارسة نفسها، إذ من الممكن افتراض أن فكرة التوقيع هذه، قد تولدت أثناء تأملات دريدا في كتابات بلانشو حتى وإنْ غابت هذه الفكرة عن عمل بلانشو نفسه.
لعله من الممكن — في المقام الأول — ربط «التوقيع» بتواتر انفصال وجود العمل عن فكرة الذات فاعلة الإبداع. وطبقًا لبلانشو، ما الكتابة في سرد سوى عملية منحرفة زمنيًّا انحرافًا يجعل من كلمات ﮐ «الإبداع» و«التمثيل» كلمات خرقاء لا طائل من ورائها. وتتجنب هاته الكتابة أيضًا التساؤل عن نقطة البداية في العمل أو أصله البسيط الذي عنه نَبَعَ. ومن ثَم، لا يمكن سوى الحديث عن ظهور السرد بوصفه حدثًا والحدث في السرد والحدث بوصفه إبرازًا ﻟ السرد، من دون خلط بينها. وينفتح الفضاء الأدبي في هذا التفاعل غير الخطي، كما يمكن قراءة فكرة دريدا عن التوقيع بوصفها إضافة بعض الخصوصية على هذا الوصف العام تماشيًا مع فكرة «القافية» العامة عند مالارمه. وبينما يعبر مقال بلانشو الذي يعالج السرد عن المستوى العام نسبيًّا في القصة، مثل قصة أهاب وموبي ديك وعوليس والسيرينيات، يعالج دريدا وحدات الكتابة والصوت — شديدة الوضوح وإنْ كانت أقل ظهورًا — التي يُهيئ رنينها المتنامي حركية النص إذا جاز التعبير. إن مقال «جلسة مزدوجة»– الذي يدرس بالتفصيل ظهور ما يُسمَّى تأثيرات التوقيع عند مالارمه — يشير إلى «آثار» الكتابة أو الصوت، «آثار خلفها الصدى، بصمات يتركها دال صوتي على دال آخر، إنتاج المعنى عبر ترجيع الأصداء داخل جدار مزدوِج. اثنان ولا أحد» (Dissemination, p. 274). لذا، يوجد التوقيع في النص بوصفه آثار حركته في ظهوره، بوصفه رمزًا على واقع مفروض أو عارض لا يمكن اختزاله في وجود العمل، حيث تنتشر بقايا التوقيع في النص المكتمل. (ومن منظور الوقت الراهن، يُقرَأ حدث التوقيع بوصفه حالة أخرى من تأثيرات واسعة النطاق ناجمة عن فرط الحساسية للظروف الأولية).٤٧ يؤكد دريدا قائلًا: «ستنتج الكتابةُ هذا «الاسمَ» توقيعًا لا يمكن معرفته قبل أن تنتجه الكتابة (حتى وإنْ كان علامة على تاريخ ذاتٍ)» (Les fins de l’homme, p. 229).
ولكي يكتمل هذا الفصل، ثمة بعض التساؤلات التشككية الأخيرة. كيف تختلف طريقة كتابة دريدا في كتابه «خطوة-لا»، وكما سنرى أيضًا طريقته في مقاله عن الشاعر فرانسيس بونج Francis Ponge، عن كونها مجرد إعادة تشكيل مرتابة أو «لعوبة» ترد شعرية كل كاتب على ممارسته الخاصة، الأمر الذي يثير — من ثَم — سلسلة تساؤلات مدوخة تُشبِه المفارقات المعروفة في الإحالة الذاتية؟ وبالنظر إلى أن تقدم هذه النصوص يكمن أساسًا في إثبات استحالة الإشارة إلى الآخر الذي يتعلق بها ويجعلها ممكنة، فقد يتجه هذا المتشكك المرتاب إلى فضح زيف الاستنتاج؛ أعني على وجه التحديد أن إثباتَ — لنقل — طريقة المعرفة (الانتظار) بوصفها نسيانَ موضوعها نفسه، وكأنه الطريقة الوحيدة في الوفاء به (النسيان)، لا يزيد عن كونه برهانَ خُلف ٤٨ على نقطة بداية المشروع! إن تصور هيدجر لطبيعة اللغة التي «لا يمكن أن تظهر من خلال أي شاهد آخر سوى شاهد اللغة الذي يُعيِّنها»،٤٩ يظهر أنه — ترتيبًا على ذلك — تصور غير متماسك فيما قد يرى هذا المرتاب المتشكك، وما فعلت نصوص بلانشو ودريدا سوى أن أوهمت بأداء هذه المغالطة المعروفة بأنها مصادرة على المطلوب.٥٠

وبما أن نص «إسفنجة العلامة/علامات بونج» — موضوع الفصل الآتي — هو أعقدُ نصوص دريدا المكتوبة بوصفه أداءً لارتداد اللغة على طبيعتها (تعقيد واضح في عدم الانتباه الكامل تقريبًا الذي قوبل به)، فسنعيد بشكل موجز الخطوات الأساسية في المناقشة التي تتبعناها حتى الآن، لكي نجيب على متشككنا الافتراضي. وقد يتساءل متسائل: كيف بحق السماء وصلنا إلى موقف يبدو معه أن نصًّا بهذا الغموض له ما يبرره؟

لقد تحركت طريقة معالجتي لمسألة التغاير في كتابي هذا على النحو الآتي:
  • (١)
    الوجود/في/العالم لا يمكن اختزاله أو فَهْمه من منظور أي موجود. فهو بالأحرى معنى الموجودات التي تصبح منكشفة عبر وجود الدازاين. وما دام لا شيء يمكن فصله عن الموجودات، فإن هذا «الوجود» هو حركة كشف تغدو معها المظاهر قابلة للإفصاح عنها في عالم ذي مغزى.
  • (٢)
    اللغة عنصر أساسي في هذه الحركة من كشف العالم. وعليه، لا يمكن فَهْمها بالطريقة التقليدية التي مفادها أنها كيان أو موضوع في العالم، لأن شرط إمكان تموضع اللغة لا يمكن أن يصبح — بشكل كامل على أقل تقدير — موضوعًا في أي لغة شارحة تمثيلية. وهذه القوة المتعالية في اللغة لا يمكن مقاربتها إلا بواسطة طريقة لغوية تحاول الإنصات إلى منابع اللغة أو أصلها، أو تسعى إلى ترجيع صداها، من دون أن تجعل هذه المعالجة من اللغة موضوعًا، كما لا بد أن تصير اللغة قولًا لازمًا غير مُتعدٍّ للقول، وهذا المطلب ضروري مهما كانت جدة الإبداعات الأسلوبية.
  • (٣)
    إذا سلَّم أحدنا مع ليفيناس وبلانشو بأن رؤية هيدجر لانعطاف اللغة على نفسها — كما هو حاصل في الشعر — لا تنجو من بقايا الفينومينولوجيا (وأعني على وجه التحديد أن العنصر المتعالي في اللغة عند هيدجر لا يزال تحدده بحذقٍ طريقةُ ظاهرةٍ في العالم)، فلا بد من أن تُصاغ الأليثيا والكشف عند هيدجر بطريقة جديدة بوصفهما حركية اللغة أو إزاحة اللغة في اللغة، ويُعد هذا الانعطاف التركيبي نفسه — ووحده — ماهيةَ (أو لا ماهية) اللغة من حيث هي بناء فضاء غير فينومينولوجي. وما يدعو إلى ضرورة مخالفة هيدجر في ذلك، ضرورةُ الاستجابة إلى تعالي الآخر بوصفه الشخص الآخر.
  • (٤)
    ولذا، فالحاصل هو ممارسة انتظار يسعى — وهو يتجنب بالضرورة اللغة الشارحة بل الحق اللغة نفسها بمعناها المتعارف عليه — إلى «عَطْف أو لَيِّ لسان اللغة لتقول الشروط غير اللغوية للغة»،٥١ مثبتةً نفسَها بوصفها الآخر، بوصفها تفككًا ذاتيًّا أو خلخلة ذاتية. والأكثر من هذا أنها وهي تفعل ذلك، لا تكتفي بأن تدع نفسَها تُرجع الصدى أو تأتي بحدث اللغة وحده، وإنما لا بد — بالنظر إلى الحالة المتعالية للغة — أن تثبت حركتَها وهي تتفكك ذاتيًّا، وأن تثبت صيرورتها الدائمة إلى آخر، فتهبنا معنى المكان والزمان («هنا» و«الآن») بقدر ما تهب فرادة تعالي.
١  Samuel Weber, “The Limits of Professionalism,” The Oxford Literary Review, 5 (1982), pp. 59–70, 60.
٢  Derrida, “Positions”, trans. Alan Bass (Chicago Press, 1971).
٣  Jonathan Culler, “On Deconstruction: Theory and Criticism after Structuralism” (London: Routledge, 1983), p. 213.
٤  انظر: Derrida, Memoires: For Paul de Man (New York, N.Y.: Columbia University Press, 1986). يكمن إجراء دي مان في إظهار اللاتماسك [التفكك] في النص من خلال وضع القراءة الحَرْفية والبلاغية جنبًا إلى جنب، والكشف عن أن المطارحة بين التفاسير غير المتوافقة لا تقبل أي حل. لماذا؟ إنها غير قابلة للحل لأنه ما من نص يقدر بنفسه على تقديم معيار للاختلاف بين الحَرْفي والمجازي ضمن حدوده. وأي عنصر من عناصر النص (ثيمات قراءته، إذا جاز التعبير) سيكون محل تساؤل من خلال حالته اللغوية التي تتعرض طبيعتها غير المحددة للحل، بمعنى أن أي ثيمة في القراءة يمكنها استعمال «القراءة» بطريقة مجازية. ويختلف إجراء دي مان — برغم تقديمي له هنا بطريقة إجمالية بسيطة فحسب — اختلافًا واضحًا تمامًا (من حيث اهتمامه المبدئي بالمعضلة الإبستيمولوجية) عن إجراء دريدا المهتم اهتمامًا غامضًا بعيدًا ﺑ «الآخر» الذي يَهب اللغةَ ويتجاوزها في آنٍ.
وبرغم ذلك، تتشابه مناقشة دي مان في كثير من جوانبها مع فتجنشتاين في طوره الأخير، وتلك مسألة لم يتناولها أحد من قبل على حد علمي. يرى فتجنشتاين — على النقيض من الطموح (الذي لا يزال قويًّا هذه الأيام) إلى إضفاء طابع شكلي formalize على الوظيفة الإبستيمية للغة بتقديرات حسابية يمكن التعويل عليها — أن مساق العلامات لا يتضمن في حد ذاته قواعد استعماله في التفسير. إنه يتصرف تصرف إشارة لافتة تفيد بأن كلمة West (= الغرب) سوف تعني West إذا اختار الناس لها أن تعني هذا المعنى، كما لو أنها كانت تعني شيئًا آخر. وبرغم ذلك، لدينا ميل لا يُقاوَم نحو قراءة تفسيراتنا للعلامات من خلال طبيعة غامضة أو قاعدة مضمرة في العلامة نفسها، وهكذا نجعل أنفسنا غافلين عن طبيعة تفسيراتنا العَرَضية غير الثابتة في نهاية المطاف. انظر: G. P. Baker and P. M. S. Hacker, Wittgenstein: Meaning and Understanding: Essays on the Philosophical Investigations (Oxford: Basil Blackwell, 1984), esp., pp. 57–59.
٥  فمثلًا، يتضمن كتاب دريدا Memoires، بوصفه مرحلة في المناقشة، إعادة تأكيد الشعر  Dichtung الآتية: «إنها مسألة … معرفة حقيقة أن اللغة ليست أداة يمكن للذات المتكلمة أن تتحكم فيها أو توجهها، وأن طبيعتها لا يمكن أن تظهر من خلال أي مثال آخر سوى مثال اللغة نفسها الذي يسميها ويقولها ويعطيها للتفكير ويتكلمها. فنحن لا نستطيع حتى القول إن اللغة توجد أو تفعل شيئًا، كلا ولا حتى «تعمل»؛ فكل هذه القيم (الوجود والفعل والعمل) غير كافية هنا لبناء لغة شارحة لذات اللغة. اللغة تتحدث عن نفسها بنفسها، وذلكم أمر مختلف تمامًا عن التكرار المرآوي» (pp. 96-7).
٦  أحتفظ بالكلمة الفرنسية للإشارة إلى هذه الحالة الجديدة في الاستعمال.
٧  Interview with Richard Kearney, “Deconstruction and the Other,” in Dialogues with Contemporary Continental Thinkers (Manchester: Manchester University Press, 1984), p. 112.
٨  Pierrot: شخصية في المسرح الإيطالي كانت تحت اسم بيدرولينو. وقد ظهرت لأول مرة في باريس في القرن السادس عشر، ثم حققت نجاحًا في القرن الثامن عشر، قبل أن تصبح شخصية صامتة في التمثيل الأدائي الحركي الصامت في منتصف القرن التاسع عشر، وقد ظهرت على شاشة السينما لأول مرة عام ١٩٤٥م. (المترجم)
٩  Derrida, “Ousia and Grammé” in Margins of Philosophy, pp. 31–67.
وقد حاولتُ تحليل هيدجر ودريدا فيما يتعلق بالزمن في: “Time after Time: Temporality, Temporalization,” The Oxford Literary Review, 9 (1987), pp. 119–35.
١٠  انظر: Derrida, “The Ends of Man” (1968), in Margins of Philosophy, pp. 109–36, 134. وقارن أيضًا تفكيك دريدا لحدث الاستملاك الهيدجري في: Spurs: Nietzsche’s Styles/Eperons, trans. Barbara Harlow (Chicago, Ill.: University of Chicago Press, 1979): «الحقيقة وعدم الحجاب والإنارة لم تَعد محسومة في استملاك حقيقة الوجود، وإنما أُلقي بها في مَهْواة بلا قرار بوصفها اللاحقيقة والحجاب والخفاء» (p. 119).
١١  Schöfer, Die Sprache Heidegger (Pfullingen: Neske, 1962); see also Schöfer, “Heidegger’s Language: Metalogical Forms of Thought and Grammatical Specialities,” in On Heidegger and Language, ed. Joseph J. Kockelmans (Evanston, Ill.: Northwestern University Press, 1972), pp. 281–301.
١٢  Ricoeur, The Rule of Metaphor: Multi-disciplinary Studies in the Creation of Meaning in Language, trans. Robert Czerny with Kathleen Mclaughlin and John Costello (Toronto: University of Toronto Press, 1977), pp. 309–13.
١٣  تتكرر هذه العبارة في مقاله «رسالة في النزعة الإنسانية»: “Letter on Humanism” (1949) in Basic Writings, ed. David Krell (New York, N.Y.: Harper & Row, 1977), pp. 193–242.
١٤  انظر تحليل لاكو-لابارت لهذه المسألة الصعبة في معالجة هيدجر لنصية لغة المفكر في: “L’Oblitération” (1973), in Le sujet de la philosophe: Typographies I (Paris: Editions Galilée, 1979), pp. 113–84, esp., 170–6.
١٥  Derrida, “Deconstruction and the Other,” in Kearney, Dialogues, p. 112.
١٦  المقصود بالكلمة الفرنسية الدالة على الأدب استعمال دريدا الجديد لها انطلاقًا من مالارمه وبلانشو، أما الكلمة الإنجليزية فهي دالة على الأدب بالمعنى السائر المتعارف عليه الذي يفككه دريدا والذي أشار إليه كلارك في مفتتح هذا الفصل. (المترجم)
١٧  See Heidegger, “What is Called Thinking,” pp. 182–6; “On the Way to Language”, pp. 94-5.
١٨  The Post Card: From Socrates to Freud and Beyond, trans. Alan Bass (Chicago, Ill.: University of Chicago Press, 1987), p. 48.
١٩  Ibid.
٢٠  “Living on: Borderlines,” trans. James Hulbert, in Harold Bloom et al., Deconstruction and criticism (London: Routledge 1979), pp. 75–176; “Title (to be specified),” trans. Tom Conley, Sub-Stance, 31 (1978), pp. 5–22.
٢١  See L’entretien infini, pp. 353-4; Libertson, Proximity: Levinas, Blanchot, Bataille and Communication (The Hague: Martinus Nijhoff, 1982), p. 271.
٢٢  Derrida, “Post Card”, pp. 259–409.
٢٣  Karl Popper, “The Logic of Scientific Discovery” (London: Hutchinson, 1968).
٢٤  مرةً أخرى، وكما هو الحال مع تعقيد تصور ليفيناس للعلاقة الأخلاقية المؤداة في كتاب «الانتظار النسيان»، توجد فكرة «نعم» أيضًا عند ليفيناس، ولكن بلانشو يوضحها من منظور مفاهيم النصية أقوى إيضاح. يؤكد ليفيناس في مقاله المعنون ﺑ «على طريقة أخرى سوى الوجود وما وراء الماهية» Otherwise than Being and Beyond Essence قائلًا: «إن عدم مشروطية هذه اﻟ «نعم» ليست حالة عَفْوية لامتناهية. إنها التعرض للنقد، التعرض السابق على الموافقة، الأقدم من أي تلقائية بسيطة» (p. 122).   (Cf. Le pas, p. 162). وانظر أيضًا عمل دريدا عن تصور نيتشه ﻟ «العودة الأبدية» في: The Ear of the Other: Otobiography, Transference, Translation, ed. C. Léveque and C. V. McDonald, trans. Peggy Kamuf (New York N.Y.: Schocken, 1975).
٢٥  الإبيسود episodes: هو ذلك الجزء من التراجيديا اليونانية القديمة الواقع بين أغنيتي الكورس. (المترجم)
٢٦  Heidegger, “Remembrance of the Poet” (1943), trans. Douglas Scot, in Existence and Being (London: Vision, 1949), pp. 253–10, 255.
٢٧  Derrida and Pierre-Jean Labarriére, Altérités (Paris: Editions Osiris, 1986), p. 26.
٢٨  Ibid., p. 82.
٢٩  See Derrida, Psyche (Paris: Editions Galilée, 1987), pp. 645–9.
٣٠  يذهب روجر لابورت Roger Laporte إلى أن لكلمة pas، أو ينبغي أن يكون لها، أربعة معانٍ على الأقل؛ فهي أولًا تُفهَم بمعنى «خطوة»، وتفيد ثانيًا معنى النفي «لا» أو «ليس بعد»، كما قد تكون ثالثًا مقطعًا من كلمة passive (ومن كلمتي passion وpatience)، وقد تكون رابعًا مقطعًا من كلمة past. تلك هي المعاني الأربعة التي تتصادى مع بعضها البعض في الكتابة وبواسطتها. انظر: Blanchot: L’ancien, l’effroyablement ancient (Paris: Fata Morgana, 1987), p. 44.
٣١  Thou: ضمير المخاطَب المفرد في أسلوب إنجليزي قديم، كثيرًا ما يُستعمَل حتى الآن في الابتهال إلى الله. (المترجم)
٣٢  يقارن دريدا علاقة القارئ المفتون ببلانشو بالعلاقة من دون علاقة التي يخوضها المتحدث مع آخر غريب أو نظير في سردية بلانشو وعنوانها: Celui qui ne m’accompanait pas (PARIS: Gallimard, 1953, 1953).
٣٣  Donald G. Marshall, “History, Theory and Influence: Yale Critics as Readers of Maurice Blanchot,” in The Yale Critics: Deconstruction in America, ed. Jonathan Arc, Wlad Godzich and Wallace Martin (Minneapolis: University of Minnesota Press), pp. 90–155, 134.
٣٤  Derrida, “Geschlecht: sexual difference, ontological difference,” Research in Phenomenology, 13 (1983), pp. 65–83.
٣٥  Derrida, “Choreographies,” Diacritics, 12 (1982), pp. 66–76, 75.
٣٦  Blanchot, “The Unavowable Community”, trans. Pierre Joris (Barrytown, N.Y.: Station Hill Press, 1988).
٣٧  See the section of L’entretien infini entitled “L’expérience-limite,” pp. 117–418.
٣٨  من الغريب ألا يربط بلانشو هنا «حوار» الكاتب مع الكتابة بحوار الذات مع الآخر، أو يتأمل في العلاقة المعقدة بينهما على نحو ما فعل في: La parole plurielle (L’entretien infini, pp. 1–116).
٣٩  Derrida, “Memoires”, p. 33.
٤٠  Nancy, quoted from Philippe Lacoue-Labarthe, Heidegger: Art and Politics, trans. Chris Turner (Oxford: Basil Blackwell, 1990), p. 68.
٤١  وكما هو واضح، فهذه الكلمات الأربع تأخذ صورة التأنيث في اللغة الفرنسية، فتدخل من هذه الناحية ضمن الطرف المؤنث المشار إليه. (المترجم)
٤٢  الضمير المؤنث في كلمة «اسمها» عائد إلى كلمة القانون التي تأخذ علامة تأنيث في اللغة الفرنسية. (المترجم)
٤٣  Virtanen, Conversations on Dialogue (Lincoln, Nebr.: University of Nebraska Press, 1977).
٤٤  في الفرنسية تأخذ عبارة «الاختلاف الجنسي» هيئة التأنيث فهي la différence sexuelle، والمقصود بكلمة النداء «تعالي» منادَى مؤنثًا، وهيئة التأنيث التي لا تظهر في الترجمة العربية مهمة في السياق الحالي، فلزم التنبيه. (المترجم)
٤٥  John Caputo, “The Economy of Signs in Husserl and Derrida: from Uselessness to Full Employment,” in Deconstruction and Philosophy: The Texts of Jacques Derrida, ed. John Sallis (Chicago, Ill.: University of Chicago Press, 1987), pp. 99–113.
٤٦  Rapaport, Heidegger and Derrida (Lincoln, Nebr.: University of Nebraska Press, 1989), pp. 104–74.
٤٧  انظر تأملات مارجريت بودين Margaret Boden حول علاقة «الإبداع» بالتأثيرات واسعة النطاق لأحداث صغيرة في: The Creative Mind: Myths and Mechanisms (London: Wiedefeld and Nicolson, 1990), pp. 217–39.
٤٨  برهان الخُلْف reductio ad absurdam: إثبات صحة المطلوب بإبطال نقيضه، أو فساد المطلوب بإثبات نقيضه. (المترجم)
٤٩  Memoires, p. 96.
٥٠  المصادرة على المطلوب petitio principii: مغالطة منطقية تجعل المطلوب جزءًا من مقدمات البرهان المراد به إنتاج هذا المطلوب. (المترجم)
٥١  Derrida, “Me-Psychoanalysis: An Introduction to the translation of “The Shell and the Kernel” by Nicolas Abraham,” trans. Richard Klein, Diacritics, 9 (1979), pp. 4–12, 10.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤