الفصل الثامن

كيف نمنع حدوث الجريمة؟

في الفصول السابقة، بحثنا الاتجاهاتِ السائدة في الجريمة، واكتشفنا أن الجريمة، بمقاييسنا الأساسية، يبدو أنها قد انخفضت منذ منتصف التسعينيات، وتساءلنا عن كيفيةِ تفسير ذلك. وكما هو مُتوقَّع، وجَدْنا أنه لا توجد إجاباتٌ سهلة أو بسيطة على هذا السؤال. فمستويات الجريمة تتأثَّر بمجموعة كبيرة ومتنوِّعة من العوامل. وتشمل هذه العواملُ أمورًا مثل التغيرات في الاقتصاد والتحولات الديموجرافية، وصولًا إلى احتمالات مثل ارتفاعِ وانخفاض كميات الرَّصاص في الغلاف الجوي. وتجدُر الإشارة إلى أن كل هذه المؤثِّرات ليس لها علاقة بالعدالة الجنائية. وعلى الرغم من أنه غالبًا ما يُفترض أن الشُّرطة والعناصر الأخرى لنظام العدالة الجنائية لها دورٌ بالِغ الأهمية في تحديد مستويات الجريمة، وذلك لأسباب مفهومة تمامًا، فإن الأدلةَ المتاحة لا تدعَم ذلك. في الواقع، وكما رأينا في الفصل السابع، يكاد يكون من المؤكَّد أن عمليات التنشئة الاجتماعية التي تدعَمُها وتعزِّزها الرقابة الاجتماعية غير الرسمية تلعب دورًا حيويًّا في مكافحة الجريمة. وفيما يتعلَّق بالتدخلات الرسمية، كما أوضحَ الفصل السادس، توجد الآن أدلةٌ كثيرة تشير إلى أن تقنيات منْع الجريمة المختلفة قد أسهمت إسهامًا ضخمًا في الانخفاضات الواضحة في مستويات الجريمة مؤخرًا. وفي الواقع، كان البحث في المجال الواسع لمنع الجريمة أحدَ أكبر إسهامات علم الجريمة في الآونة الأخيرة.

تبدأ المناقشات حول مَنْع الجريمة عادةً بالتمييز بين ما يُشار إليه عادةً بالنُّهُج «الاجتماعية» والنُّهُج «الظرفية». ويميل منْع الجرائم بالنُّهُج الاجتماعية إلى التركيز على قضايا واسعةِ النطاق وعميقةٍ إلى حدٍّ ما؛ أيْ ما قد يراه البعض أسبابًا «أساسية» إلى حدٍّ معقول لارتكاب الجريمة؛ إذ يتناول موضوعات مثل الفقر، وعدم كفاية التعليم والتنشئة الاجتماعية، والظروف السكنية السيئة، ونقص فرص العمل. على النقيض من ذلك، فإنَّ منْع الجرائم الظرفي أضيَقُ من حيث نطاق التركيز، واستباقيٌّ، ويسعى، من خلال مجموعة متنوعة من الوسائل، إلى الحدِّ من فُرص حدوث الجريمة.

لطالما اهتمَّ خبراء علم الجريمة بمنْعِ الجرائم بالنُّهُج الاجتماعية، وإنْ كانوا لم يستخدموا المصطلح. ولعل من أشهرِ مبادراتِ منعِ الجرائم بالنُّهُج الاجتماعية وأكثرِها انتشارًا ما يُطلق عليه اسم «مشروع هاي/سكوب بيري لمرحلةِ ما قبل المدرسة». كان المشروع، الذي انطلق من ولاية ميشيجان بالولايات المتحدة، والذي بدأ في الستينيات، بمثابة تجربةِ تَدخُّل في حياة مجموعة من الأطفال «معرَّضين لمخاطرَ كبيرة»؛ إذ كانوا يُظهِرون عددًا كبيرًا من عوامل الخطر في فترةٍ مبكرة من حياتهم، وكانت الأبحاث قد أوضحت ارتباطَ هذه العوامل باحتمالية ارتكاب جرائم في المستقبل. وفَّر البرنامج مشاركةً مكثفة وعالية الجودة في مرحلةِ ما قبل المدرسة في كلِّ يوم من أيام الأسبوع لمدة عامَين، وكان التركيز بالأخص على التنمية الفكرية والاجتماعية للأطفال. وكان إجمالي عدد المشاركين فيه ١٢٧ أمريكيًّا من أصلٍ أفريقي تتراوح أعمارهم بين الثالثة والرابعة، وقع الاختيار على ٥٨ منهم عشوائيًّا، وبهدف المقارنة، اختِير ٦٥ آخَرون شكَّلوا مجموعةَ تحكُّم لم تخضع للبرنامج. كان الأطفال في حالة اجتماعية واقتصادية متدنية، ولديهم معدَّلات ذكاء منخفضة، ومُعرَّضين بشدة لخطر الفشل التعليمي، وبالطبع التورُّط في ارتكابِ جرائمَ في المستقبل. وقد اكتسب البرنامج شهرةً كبيرة؛ ويرجع ذلك إلى خضوعه إلى أبحاث تقييمية جيدة التصميم من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب نتائجه شبه الناجحة. جرَت متابعةُ مجموعتين من الأطفال المتطابقين كلَّ عام من سن الرابعة حتى الحادية عشرة، ثم في الرابعة عشرة والخامسة عشرة والتاسعة عشرة، وبعد ذلك على فترات متقطعة.

ومع أنَّ البرنامج ركَّز في المقام الأول على التعليم، يبدو أنه قد حقَّق مجموعةً كبيرة من النتائج الإيجابية. فعلى المستوى التعليمي، سجَّل الأطفال المشاركون في البرنامج درجاتٍ أعلى استنادًا إلى عدد من المعايير، أهمُّها احتمالُ تخرُّجهم من المدرسة الثانوية. وعلى المستوى الاقتصادي، كانوا أنجحَ من الأطفال في مجموعة التحكُّم، مع انخفاض احتمالية تلقِّيهم المساعدات الاجتماعية، وارتفاع احتمالية كَسْبهم مزيدًا من الأموال وامتلاك منازلهم الخاصة. أما فيما يتعلَّق بسلوكهم، فكانوا أقلَّ عرضة للتورُّط في أعمال عنف، وانخفضت معدَّلات اعتقالهم واحتكاكهم بالشُّرطة (انظر شكل ٨-١). وذكر تحليلٌ لنسبةِ التكلفة إلى الفائدة أن الاستثمار في التعليم في مرحلةِ التعليم في سنِّ ما قبل المدرسة لهؤلاء الأطفال قد أدَّى إلى توفيرِ أكثرَ من سبعة أمثال التكلفة الأصلية. وأشار الباحثون إلى أن العائد على دافعي الضرائب من الأموال التي وُفِّرت من مساعدات الرعاية الاجتماعية، والتعليم الخاص، والعدالة الجنائية كان أكثرَ من ٨٠ ألف دولار لكل طفل. ونتيجةً لذلك، يُستخدَم مشروع هاي/سكوب بيري لمرحلةِ ما قبل المدرسة دائمًا بوصفه نموذجًا يُظهِر إمكاناتِ مبادرات منْع الجرائم بالنُّهُج الاجتماعية.
fig12
شكل ٨-١: النتائج الأساسية لمشروع هاي/سكوب بيري لمرحلةِ ما قبل المدرسة للمشاركين في سن السابعة والعشرين.
إن تزايد الاهتمام بمنْع الجرائم الظرفي هو تطوُّر أحدَث بكثير، ويعكس التغييراتِ في توجُّهنا الأوسع نطاقًا نحو الجريمة ومكافحتها. عند مناقشة الاتجاهات السائدة في العِقاب في الفصل السابع، لاحظنا التحوُّل الكبير نحو زيادة الاتجاه العقابي الذي شهِده العديد من الدول الديمقراطية الغربية في السنوات الأخيرة من القرن العشرين. كان هذا التحوُّل في طرقِ مناقشة الجريمة، والتفكير فيها، والرد عليها مدعومًا بالابتعاد عن بعض المُثُل الواسعة النطاق التي كانت بارزةً في مطلع هذا القرن. والشيء الأبرز أنه انطوى على انخفاضٍ كبير جدًّا في الإيمان بما يُشار إليه في الغالب باسم «نموذج إعادة التأهيل المثالي». وفي ذلك علَّق ونستون تشرشل، بوصفه وزيرًا شابًّا للداخلية البريطانية في عام ١٩١٠، بأن «الحالة المزاجية وطِباع العامة فيما يتعلَّق بمعاملة الجريمة والمجرمين هو أحدُ أكثر الاختبارات رسوخًا وثباتًا لحضارة أيِّ بلد». ثم استطرد قائلًا عاكسًا مبدأً أخلاقيًّا قويًّا للغاية لإعادة التأهيل:

إن الاعترافَ الرَّزين والمحايد بحقوق المتهمين على الدولة، بل والاعترافَ حتى بحقوق المجرمين المدانين، والمحاسبةَ المستمرة للنفس من قِبل جميع المكلفين بقضاء عقوبة، والرغبةَ والحرص على إعادة تأهيل كلِّ مَن دفع ثَمن جرائمه في هذا القطاع بقضاء مدة العقوبة التي تُعتبر بمنزلة عملةٍ صعبة، والجهودَ الحثيثة لاكتشاف عمليات العلاج والإصلاح، والإيمانَ الراسخ بأن في قلب كل إنسان كنزًا، فقط إذا تمكَّنت من العثور عليه؛ كلُّ تلك الأمور بمثابةِ رموزٍ تُميِّز وتقيس القوةَ المُختزنة لأي دولة في معالجة الجريمة والمجرمين، وهي دلالةٌ ودليل على الفضيلة الحية بداخلها.

حتى الستينيات أو نحو ذلك، سيطرت وجهةُ النظر هذه إلى حدٍّ كبير على وجهات النظر المهنية، والسياسية، والعامة بشأن الجريمة في العديد من الدول الغربية. ومن ذلك الوقت فصاعدًا، بدأت نقاط الضَّعف في الظهور وشهِدت العقود اللاحقة تعرُّض هذا النموذج الواسع النطاق لإعادة التأهيل لانتقاداتٍ تزايدت بالتدريج وحلَّ محلَّه في بعض النواحي عددٌ من المُثُل والخطابات والممارسات الأخرى، التي كان العديد منها يحمل اتجاهًا عقابيًّا، سواء من حيث الهدف أو النتيجة أو كليهما. واقترن تراجُع الإيمان بطرقِ إعادةِ التأهيل التقليدية بزيادةِ الدعم لاستخدام مزيد من العقوبات الأشد قسوة. وأصبح التعجيزُ مبرِّرًا لاستخدام السَّجن، كما أدَّى التأثير المتزايد لنماذج الاختيار العقلاني للسلوك البشري إلى تحويل الانتباه بعيدًا عن العوامل الاجتماعية المؤثِّرة في ارتكاب الجرائم ليتجه نحو المخاوف المتعلقة بالمسئولية الفردية. وقد استند كلُّ هذا إلى تغييرات جوهرية للغاية في سياسات القانون والنظام؛ إذ ظهر — في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، على سبيل المثال — إجماعًا سياسيًّا جديدًا ركَّز على الخطاب الصارم وركَّز بشكل متزايد على الممارسات الصارمة في مجال القانون والنظام.

بالتوازي مع هذه التحوُّلات، حدثت أيضًا بعضُ التغيُّرات في وجهات نظر بعض خبراء علم الجريمة. فبدأ بعضُ الأكاديميين في استكشافِ ما كانوا يأمُلون أن تكون سبلًا أكثرَ فاعلية بسبب خوفهم المتزايد من التأثير المخيِّب للآمال للنُّهُج التقليدية لمعالجة الجريمة والإجرام. وكانت النتيجةُ أن ارتبطَ الاهتمام التقليدي لعلم الجريمة بالأسباب الاجتماعية «العميقة» للجريمة ارتباطًا متزايدًا بنُهُج أكثرَ واقعيةً وتركيزًا للمنع الظرفي للجرائم، بل وحلَّ محلَّه في بعض النواحي. وكما أوضحت بالفعل، لا توجد مبالغةٌ في القول إن حركةَ المنْع الظرفي للجريمة كانت واحدةً من أهمِّ التطورات في مجال علم الجريمة في نصف القرن الماضي. وفيما يلي سنُلقي نظرةً على اللَّبِنات الأساسية للمنْع الظرفي للجريمة، ونستعرض بعضَ الأفكار النظرية التي تدعَمُها، ونستكشف دراسةَ حالة أو اثنتين من دراسات الحالة التوضيحية، بالإضافة إلى النظر في بعض الانتقادات المُوجَّهة إليها.

المنع الظرفي للجريمة

كما أُشيرَ من قبل، يركِّز نهجُ المنع الظرفي للجريمة على فكرةِ أن الجريمة سلوكٌ «وليد اللحظة» إلى حدٍّ كبير. فهو نهجٌ يتجنَّب عن عمدٍ الشواغلَ التقليدية لمنع الجرائم بالنُّهُج الاجتماعية مثل الفقر، والظروف السكنية السيئة، والحرمان التعليمي، وما إلى ذلك. بل له غايةٌ أكثرُ مباشرةً وعملية؛ إذ يركِّز على التدابير التي تستهدِف أشكالًا مُعيَّنة من الجريمة (وليس الجريمة عمومًا) وتؤثِّر بدورها على إدارة البيئة أو تصميمها، وتهدُف إمَّا إلى زيادة خطورة ارتكاب الجرائم وإمَّا تقليل جاذبيتها بطرقٍ أخرى.

كان من أوائل الأمثلة على هذا النهج فكرةُ «المساحة التي يمكن حمايتُها»، التي طوَّرَها المهندس المعماري والمخطط العمراني، أوسكار نيومان. ففي كتابه الذي يحمل الاسمَ نَفْسَه، دافع نيومان عن فكرة التصميم البيئي بوصفها الأساسَ لمنعِ الجريمة. انتقد نيومان تصميمَ العديد من مخطَّطات الإسكان المعاصرة بحجةِ أنها جعلت من الصعب على السكان مراقبة بعضهم والتعرُّف على الغرباء، وأن هناك عددًا كبيرًا جدًّا من نقاط الدخول والخروج غير الخاضعة للرقابة مما يجعل من السهل جدًّا على مرتكبي الجرائم الدخول دون أن يلاحظهم أحد والمغادرة دون القبض عليهم. وأوصى بزيادة فرص المراقبة الطبيعية حتى يتمكَّن السكان من رؤيةِ ما يحدُث من حولهم، واستخدام مبادئ التصميم لإضفاء شعور بالأمان، بالإضافة إلى اتخاذِ مجموعة متنوِّعة من التدابير الأخرى لزيادة الشعور ﺑ «النزعة الإقليمية»؛ الأمر الذي من شأنه أن يحقِّق «نموذجًا للبيئات السكنية التي تمنع الجريمةَ من خلال خَلْق التعبير المادي عن نسيج مجتمعي يدافع عن ذاته». وتضمَّنَت التطوراتُ النظرية المتزامنة فكرةَ سي راي جيفري عن «منعِ الجريمة من خلال مراعاة التصميم البيئي» — التي تشترك في بعضِ مخاوفِ أوسكار نيومان ولكنها تركِّز أيضًا على الأسس الجينية لارتكاب الجرائم بالإضافة إلى البيئة المادية — وتأييد هيرمان جولدشتاين لفكرةِ «الأداء الشُّرطي الموجَّه نحو حلِّ المشاكل» التي سعَت إلى جعلِ أقسام الشُّرطة ذاتَ توجُّهٍ أكثرَ استباقيةَ ونهجٍ يميل إلى حلِّ المشاكل.

تذهب حركةُ المنع الظرفي للجريمة في محورها إلى أن الفرصة تلعب دورًا في جميع الجرائم؛ وأن الفرص مُحدَّدة ومركَّزة مكانيًّا وزمانيًّا؛ وأنه يمكن تقليل الفرص؛ وأن تقليل الفرص في مكانٍ ما يمكن أن يحُدَّ من الجريمة في العموم، وليس مجرَّد «نقلها» إلى أماكنَ أخرى. في العقود الثلاثة الماضية، أصبحت حركةُ المنع الظرفي للجريمة متطورةً بشكل متزايد، على الرغم من أن بعضَ النقاد لا يزالون قلِقين بشأن اعتمادها على شكل من أشكال نظرية الاختيار العقلاني. إن الافتراضَ الأساسي للحركة هو أننا، بصفتنا أفرادًا، «نسعى إلى تعظيم الفائدة إلى أقصى حد»؛ أي إننا نمضي قُدمًا على أساسِ قرارات نأمُل أن تحقِّق أقصى فائدة لنا مع تقليل التكاليف إلى الحد الأدنى. فنحن محاسبون صغار، نحسب الربح والخسارة، ونشق طريقًا نتوقَّع أنه سيخدم مصالحنا على أفضلِ وجه.

من وجهة نظرٍ كهذه، تُعتبر الجرائم مجرَّد أفعالٍ تُرتكب بقصد الحصول على شكلٍ من أشكال المنفعة، بمفهومها الواسع، وليس المالي فقط. ويؤدِّي تطبيق هذا الشكل من نظرية الاختيار العقلاني إلى افتراضٍ آخَر وهو إذا كان بإمكان المرء العبثُ بميزان الفوائد والتكاليف، أو المخاطر، فلا بد أن يكون قادرًا على تغييرِ القرار الذي يتخذه الجناةُ المحتملون. والنتيجة الأخرى هي أن القرارَ الذي يتخذه الجاني يكون محصورًا في الجريمة. فهناك دوافعُ مختلفة في ظروفٍ مختلفة، ولذا يجب استهداف الجهود الوقائية بعناية. قد يعترض أحدُهم على فكرةِ أننا جميعًا صنَّاع قرار حريصون، ندرس الاحتمالات ونتخذ قراراتٍ عقلانية بشأن مسار العمل المُتَّبع. فماذا عن العواطف؟ وماذا عن المعلومات المحدودة، والذكاء المحدود، وعلم الأمراض؟ تكمُن الإجابة في فكرة «العقلانية المحدودة». باختصار، ثمَّة رأي يذهب إلى أنه حتى في الظروف التي لا يحظى فيها مسارُ عملٍ ما إلا باهتمام عابر، وتستند القرارات إلى معلومات محدودة للغاية، تظل هناك درجةٌ من العقلانية في العملية. فالجناة «يبذلون قصارى جهدهم في حدود الوقت، والموارد، والمعلومات المتاحة لهم». ويمكن استغلال هذه الحسابات الذهنية التي يقوم بها جميعُ الجناة، حتى لو كانت مؤقتة، لأغراض منع الجريمة.

نظرية الأنشطة الروتينية

يمكن القول إن أكثرَ النُّهُج تأثيرًا على الإطلاق في هذا المجال العام للمنع الظرفي للجريمة هو «نظرية الأنشطة الروتينية». وكما رأينا في الفصل الرابع، يكمُن أحدُ الاستخدامات الأكثر تطوُّرًا لنظرية الأنشطة الروتينية في محاولة لورانس كوهين وماركوس فيلسون الواسعة النطاق لبناء تفسيرٍ مُعمَّم لاتجاهات الجريمة الطويلة الأجل في فترةِ ما بعد الحرب. لاحقًا، استُخدمت مرَّة أخرى نظرية الأنشطة الروتينية المنسوبة في المقام الأول إلى خبير عِلم الجريمة الأمريكي، ماركوس فيلسون، بطريقةٍ أكثرَ عمليةً كأساس لفهمِ ما يُسمِّيه فيلسون «كيمياء الجرائم». ويتكون هذا النَّهج من ثلاثة عناصر ألقينا عليها الضوء في الفصل الرابع هي: الجاني صاحب الدافع، والأهداف المناسبة، وغياب الرقباء الأكفاء. أولًا، وبديهيًّا: إن ارتكاب جريمة يستلزم وجودَ شخصٍ يريد ارتكابَ هذه الجريمة وقادرٍ على ارتكابها، وهو: الجاني صاحب الدافع. ثانيًا، يجب أن يكون هناك هدفٌ مناسب؛ شيءٌ ما، على سبيل المثال، يرغب في سرقته أو تخريبه، أو شخص يرغب في الاعتداء عليه أو الاحتيال عليه. العنصر الثالث والأخير هو غياب شخص أو شيء قادرٍ على منع الجريمة. تشكِّل هذه العناصر الثلاثة معًا أساس — أو كيمياء — الأعمال الإجرامية. والحجَّة المقامة في نظرية الأنشطة الروتينية هي أنَّ تغيير أيٍّ من هذه العناصر يحمل في طياته إمكانيةَ تحقيقِ منافعَ كبيرةٍ تتعلَّق بمنع الجريمة.

من بين العناصرِ الثلاثة في نظرية الأنشطة الروتينية عادةً ما يكون كلٌّ من الهدف المناسب وغياب الرقباء الأكفاء محطَّ تركيزِ أنشطةِ منْع الجريمة. ومن المفترض أن يعكسَ دافعُ الجاني حسابَ التكلفة والفائدة الناتج عن مقارنةِ جاذبية الهدف ودرجة المخاطرة التي ينطوي عليها. والرقباء الأكفاء هم أشخاصٌ أو أشياءُ قد تمنع اجتماعَ جانٍ محتمَل وهدفٍ مناسب في نفس الزمان والمكان. ويُعتقد أن جاذبيةَ الهدف تتحدَّد من خلال ستة معايير: قابلية إخفائه، وقابلية نقله، ومدى توفُّره، وقيمته، والمتعة التي يضفيها، وإمكانية التخلُّص منه.

وقد حدَّد ديريك كورنيش ورون كلارك، وهما اثنان من أوائل مؤيدي حركة المنْع الظرفي للجريمة إلى جانب تأييدهما نهجًا آخرَ لمنعِ الجريمة يؤكِّد أهميةَ الفرص، ٢٥ طريقة أساسية لمنع الجريمة. يمكن الاطلاع عليها في جدول ٨-١.
جدول ٨-١: خمس وعشرون طريقة للمنع الظرفي للجريمة.
زيادة الجهود زيادة المخاطر تقليل المكافآت تقليل الاستفزازات التخلُّص من الأعذار

(١) حماية الأهداف:

أقفال عمود عجلة القيادة وموانع الحركة.
حواجز مانعة للسرقات.
عبوات مقاومة للعبث.

(٦) توسيع نطاق الحماية:

اتخاذ الاحتياطات الروتينية: الخروج في مجموعة ليلًا، ترك لافتات الإشغال، حمل هاتف.
تأمين مراقبة الحي.

(١١) إخفاء الأهداف:

وقوف السيارات بعيدًا عن الشوارع العامة.
أدلة هاتف محايدة جنسانيًّا.
شاحنات غير مميزة لنقل الأموال.

(١٦) تقليل الإحباطات والتوتر:

طوابير فعَّالة وخدمة مهذَّبة.
مقاعد واسعة.
موسيقى هادئة/أضواء خافتة.

(٢١) إرساء قواعد:

عقود الإيجار.
قوانين التحرُّش.
التسجيل بالفنادق.

(٢) التحكُّم في الدخول إلى المنشآت:

هواتف الاتصال الداخلي.
الدخول باستخدام البطاقات الإلكترونية.
فحص الحقائب.

(٧) تسهيل عمليات المراقبة الطبيعية:

تحسين إنارة الشوارع.
تصميم مساحات يمكن الدفاع عنها.
دعم المبلِّغين عن المخالفات.

(١٢) إزالة الأهداف:

راديو سيارة قابل للفك.
ملاجئ للنساء.
بطاقات مسبقة الدفع للهواتف العمومية.

(١٧) تجنُّب المنازعات:

أماكن منفصلة لمشجِّعي فريق كرة القدم المنافس.
تقليل الازدحام في الحانات.
تحديد أجرة ثابتة لسيارات الأجرة.

(٢٢) نشر التعليمات:

«ممنوع وقوف السيارات.»
«ملكية خاصة.»
«ممنوع إشعال النار.»

(٣) حماية المخارج:

التذكرة اللازمة للخروج.
وثائق التصدير.
بطاقات البضائع الإلكترونية.

(٨) الحد من إخفاء الهوية:

بطاقات هوية سائقي سيارات الأجرة.
ملصقات تقييم القيادة.
الزي المدرسي.

(١٣) تمييز الممتلكات:

وسم الممتلكات.
ترخيص المرْكبات ووسم قطع الغيار.
تمييز الماشية بعلامات تجارية.

(١٨) تقليل الاستثارة العاطفية:

فرض ضوابط على المواد الإباحية العنيفة.
فرض حُسن السلوك في ملاعب كرة القدم.
حظر الإهانات العنصرية.

(٢٣) إيقاظ الضمير:

لوحات عرض السرعة على جانب الطريق.
توقيعات التصريحات الجمركية.
«سرقة السلع من المتاجر جريمة.»

(٤) تشتيت انتباه الجناة:

غلق الشوارع.
دورات مياه منفصلة للسيدات.
توزيع الحانات على مساحات متفرقة.

(٩) الاستعانة بمديري المكان:

أنظمة المراقبة بالفيديو للحافلات ذات الطابقين.
موظفان للمتاجر الصغيرة.
مكافأة اليقظة.

(١٤) تقويض الأسواق:

مراقبة محلات الرهن
فرض ضوابط على الإعلانات المُبوَّبة.
إصدار تراخيص للباعة الجائلين.

(١٩) تحييد ضغط الأقران:

«الأحمق فقط هو مَن يقود تحت تأثير الكحول.»
«لا بأس من قول لا.»
تفريق مثيري المشاكل في المدرسة.

(٢٤) تسهيل الإذعان للقواعد:

تسهيل استعارة الكتب من المكتبة.
المراحيض العامة.
صناديق القُمامة.

(٥) التحكُّم في الأدوات/الأسلحة:

البنادق «الذكية».
تعطيل الهواتف المحمولة المسروقة.
تقييد بيع بخاخات الطلاء للقُصَّر.

(١٠) تعزيز المراقبة الرسمية:

كاميرات إشارات المرور.
أجهزة الإنذار ضد السرقة.
حرَّاس الأمن.

(١٥) رفض الفوائد:

ملصقات البضائع التي تحتوي على حبر.
إزالة رسومات الجرافيتي.
مطبات لتخفيف السرعة.

(٢٠) الإثناء عن التقليد:

الإصلاح السريع لأعمال التخريب.
رقاقات «في» حظر البرامج التي تحثُّ على العنف في أجهزة التلفزيون.
مراقبة تفاصيل طريقة التشغيل.

(٢٥) مكافحة المخدرات والكحول:

أجهزة فحص نسبة الكحول في التنفُّس في الحانات، تدخل مقدِّم الخدمة.
فعاليات خالية من الكحول.
ستساعد بعضُ الأمثلة في توضيح كيفية عمل مبادرات المنع الظرفي للجريمة، كما يعتقد، عند تأثُّرها بنظرية الأنشطة الروتينية. تسعى الأمثلة الموجودة في العمود الأول من الجدول ٨-١ إلى زيادة الجهد المبذول في ارتكاب الجرائم. ولعل أحدَ أكثر الأمثلة التوضيحية المدهشة على قوة نهج المنع الظرفي للجريمة هو الانخفاض في جرائم المرْكبات الذي حدث في الربع الأخير من القرن الماضي والذي ناقشناه بإيجاز في الفصل الخامس. فبينما كان مصنِّعو السيارات يولون في السابق اهتمامًا محدودًا نسبيًّا لمشكلةِ سرقة المرْكبات وسرقة الأغراض منها، أصبح المألوف الآن فعليًّا تركيبَ أجهزة تأمين. ففي إنجلترا وويلز، على سبيل المثال، حيث كان ثلث السيارات فقط في عام ١٩٩١ مزودًا بنظام قَفل مركزي، ارتفعت النسبة إلى ٩٠ في المائة بحلول عام ٢٠٠٦-٢٠٠٧. وفي عام ١٩٩١، كان ٢٣ في المائة فقط من السيارات مزودة بأجهزة إنذار. وبعد خمسة عشر عامًا، بلغَت النسبة أكثرَ من ٦٠ في المائة. وفي الفترة نفسها، انخفضت سرقة السيارات إلى النصف تقريبًا. عِلاوة على ذلك، كان سببُ ثلثي الانخفاض هو السرقةَ المؤقتة — أيْ سرقة السيارات للتنزُّه والاستمتاع بها والاستيلاء على السيارات لأغراضٍ أخرى عابرة في المقام الأول — وكانت الجرائم الوليدة اللحظة هي الأكثر ردعًا بشكل واضح. واكتُشف نمط مشابه جدًّا في أستراليا، على الرغم من أن الدخول المتأخِّر لنُظم منْع حركة السيارات الإلكترونية هناك تزامنَ معه انخفاضٌ لاحق في جرائم المرْكبات. وتشير الأبحاث الأسترالية أيضًا إلى أن متوسِّط عمر السيارات المسروقة آخِذ في الازدياد؛ إذ تقلُّ احتمالية تزويد السيارات الأقدَم بميزات الأمان الأحدث، ومن ثَم يسهُل سرقتها.

يتمثَّل المحور الاستراتيجي الثاني في حركةِ المنع الظرفي للجريمة في زيادة المخاطر الملموسة المرتبطة بارتكاب الجرائم. ربما يتعلَّق المثال الأكثر وضوحًا هنا بتأثير أنظمة المراقبة بالفيديو، وهو تطوُّر تكنولوجي جديد نسبيًّا سيكون مألوفًا لمعظم القرَّاء، خاصة أولئك الذين يعيشون في بريطانيا حيث تنتشر أنظمةُ المراقبة بالفيديو بشكل خاص. وقد استخدمت إحدى التجارب الخاصة، التي أُجرِيَت في شيكاغو، بولاية إلينوي في الولايات المتحدة، ثلاثين جهازًا محمولًا خاصة بالشُّرطة عبارة عن كاميرات كانت موجودة في أحياءٍ ترتفع فيها نسبة الجرائم ويتحكَّم فيها ضباط شُرطة بالجوار لديهم وحدة بيانات متنقِّلة في سيارة الدورية الخاصة بهم. وتسمح لهم هذه الوحدة باستعراض البيانات دون تأخير والتصرُّف فورًا عند الضرورة. واختار الباحثون منطقتَين في شيكاغو لإجراء الدراسة: هومبولت بارك وويست جارفيلد بارك. كذلك حُدِّدَت مناطقُ مقارنةٌ لها أنماطُ جريمة أساسية مماثلة بصفتها أساسًا لتقييم حجم أي تغييرات مكتشفة. دُرست المنطقتان على مدى خمس سنوات. في هومبولت بارك، انخفضت جرائم المخدرات والسطو المسلح بنحو الثلث، وجرائم العنف بنحو الخُمس.

كان أحد الأسباب المحتملة وراء ذلك الانخفاض، بالطبع، أن تجار المخدِّرات وغيرهم قد نقلوا ببساطة موقعَ أنشطتهم. أو، بلغة الباحثين، ربما «انتقلت» الجريمة ببساطة إلى مكانٍ آخَر؟ في هذه الحالة لم يكُن هناك دليلٌ على حدوث ذلك. يبدو أن وجودَ الكاميرات جنبًا إلى جنب مع نشاط الشُّرطة والملاحقة القضائية المرتبطة بتسجيلات الكاميرات، أدَّى ببعض الأشخاص إلى تغيير سلوكهم. غير أن النتيجةَ كانت مختلفة في ويست جارفيلد بارك. فبعد حدوث انخفاض أولي في معدَّلات الجريمة بعد تركيب الكاميرات هناك، عادت المعدَّلات للارتفاع، لا سيَّما معدَّلات جرائم العنف. لم يكُن سببُ وجود مثل هذا الاختلاف بين المنطقتين واضحًا تمامًا للباحثين، على الرغم من افتراضهم أن سلوك ضباط الشُّرطة كان مختلفًا في كل منطقة — إذ كان أولئك الموجودون في همبولت أكثرَ انتباهًا بكثير للكاميرات وأكثر استجابة لِمَا كانوا يرصدونه من خلالها — وأن الكاميرات كانت أقلَّ تمركزًا في ويست جارفيلد بارك. غير أن الباحثين، بشكل عام، قدَّروا في تحليلهم نسبةَ التكلفة إلى الفائدة أن مدينة شيكاغو وفَّرَت ما يتراوح بين ثلاثة إلى أربعة دولارات مقابل كل دولار أنفقته. وتميل الأبحاث في مدنٍ ودول أخرى إلى استنتاج هذه النتائج العامة. ما زلنا بعيدين عن الحصول على أدلةٍ بحثية كافية حتى نتمكَّن من تحديد الظروف المُثلى للاستخدام الفعَّال لأنظمة المراقبة بالفيديو، ولكن، إيجازًا، نعلم أن أنظمة المراقبة بالفيديو عادةً ما تتسبَّب في حدوث انخفاضات متواضعة، ولكنها ليست ضئيلة، في مستويات الجريمة، وأنها أكثرُ فاعلية بكثير في بعض الأماكن (مواقف السيارات والمواصلات العامة على سبيل المثال) من غيرها (مثل مراكز المدن والبلدات).

لعل أحدَ التطورات الأكثر تأثيرًا في مجال منْع الجريمة هو ما يُعرف باسم «الأداء الشُّرطي في المناطق الحرجة أمنيًّا». نشأت هذه المبادرة نتيجةَ ما لُوحظ من أن الجريمة تميل إلى التمركز على أساس المكان: فبعض الأماكن ستكون أكثرَ عُرضة للجرائم بكثير من غيرها. وفي إحدى الدراسات الكلاسيكية التي أُجرِيَت في مينيابوليس بالولايات المتحدة، وجد الباحثون أن نصف الاستدعاءات الواردة إلى الشُّرطة جاءت من ثلاثة في المائة فقط من العناوين في المدينة. وكان أحدُ أساليب الاستجابة لهذه النتيجة تجربةَ دورية الشُّرطة. بينما كان يُعتقَد سابقًا أن دورية الشُّرطة العادية ربما كانت مضيعةً للموارد — إذ من غير المرجَّح أن يصادف الضباط جريمةً أثناء حدوثها — هل سيؤدِّي التركيز على «المناطق الحرجة أمنيًّا» إلى نتيجةٍ مختلفة؟ باستخدام الأساليب التجريبية، تمكَّن الباحثون من إظهار انخفاض كبير ومستمر في مستويات الجريمة في المناطق التي زادت فيها دوريات الشُّرطة الموجَّهة؛ أيْ وضع الضباط حيث تتركز المشاكل.

ثمَّة نهجٌ ثالث لتقليل فرص التورُّط في الجريمة هو تقليل المكافآت المتوقَّعة من ارتكاب الجريمة. ولعلَّ أحدَ أشهر الأمثلة هنا يتعلق بالتطهير الناجح لشبكة مترو الأنفاق في نيويورك. ففي وقتٍ من الأوقات، كانت قطارات الأنفاق مُغطَّاة برسومات الجرافيتي، وبُذلت محاولات عديدة لحل المشكلة، كان من ضمنها زيادةُ الأمن واستخدام طلاء يُفترض أنه مقاوم للكتابة على الجدران، وفشلت. كان الحل في هذه الحالة هو التصدِّي لنظام مكافآت فنَّاني الجرافيتي. ما الفوائد التي حصلوا عليها من مثل هذه الأنشطة؟ كانت المشاهدة هي المفتاح. فقد كانت مشاهدةُ الجمهورِ «توقيعَ» أصحابِ هذه الرسومات هي المكافأة الأساسية التي يسعون وراءها؛ ومن ثَم أصبح حرمانهم من تكوين جمهور أمرًا أساسيًّا لمنْع الجريمة. فبدأت هيئةُ النقل سياسةً لتطهير القطارات منها في أسرعِ وقت ممكن، مما يضمن عدم السماح للقطارات التي تحمل رسومات الجرافيتي بالعودة إلى الخدمة. وكان التراجع في رسومات الجرافيتي والاعتقالات المرتبطة بها لافتًا للنظر. في الواقع، كانت المشكلة، كما لاحظ اثنان من المشاركين المُطَّلِعين في البرنامجين، «تعتبر مستعصيةً على الحل لدرجة أن البعض اعتبر القضاء عليها أحدَ أنجح «انتصارات» السياسة الحضرية على الإطلاق».

يتعامل المحور الرابع مع ما يمكن اعتباره بعضَ «الاستفزازات» اليومية في الحياة؛ على سبيل المثال تلك الإحباطات والتوترات التي يمكن أن تؤدِّي إلى نشوب نزاع. برغم أنه من المُسلَّم به أن معظم الناس يسهُل عليهم إلى حدٍّ ما تجنُّب مثل هذه الاستفزازات معظم الأوقات، سيكون هناك بعض الأشخاص وبعض الظروف الخاصة تقل فيها هذه الاحتمالية. ولعل أبرزَ الأمثلة التوضيحية على قدرات النشاط الوقائي في هذا الصدد تلك التي تظهر في بيئة السِّجن القاسية، حيث تنتشر المثيرات السلبية في مثل هذه الأماكن، ويتم التعرُّض لها بانتظام، وليس من السهل تجنُّبها. وقد طُبِّقَت أساليبُ المنع الظرفي للجريمة على التحدِّي المتمثِّل في الحد من العنف بين السجناء، وبين السجناء والموظفين بطُرق متنوِّعة، لا سيَّما عن طريق الحد من الإحباطات المرتبطة بالاكتظاظ والعناصر الأخرى المدمِّرة لآدمية الإنسان التي تنطوي عليها حياة السِّجن.

المجموعة الخامسة من الاستراتيجيات التي حدَّدَها كورنيش وكلارك هي تلك التي تحاول التخلُّص من الأعذارِ المرتبطة بالجريمة. ففي خمسينيات القرن الماضي، جادل الباحثان الأمريكيان جريشام سايكس وديفيد ماتزا، وكانت حجَّتهما مقنِعة جدًّا، بأن منظومات القِيَم الخاصة بالجانحين الشباب لم تكُن مختلفة كثيرًا عن تلك الخاصة بالبالغين في مجتمعاتهم، كلُّ ما في الأمر أنهم طوَّروا سلسلةً من الاستراتيجيات — المعروفة باسم «تقنيات التحييد» — مكَّنَتهم من إجراء إيقاف مؤقَّت لتلك القواعد الأخلاقية التي من شأنها عادةً كبْحُ السلوك الإجرامي. وهذه الأساليب هي في الأساس أعذارٌ أو مبرِّرات تُساعد في تبرير الأفعال المعنية. فاللصوص، على سبيل المثال، سيزعمون عمومًا أنهم لا يُؤثِّرون حقًّا على أيِّ شخص؛ لأن الجميع بالتأكيد يؤمِّن على ممتلكاته على أي حال.

فيما يتعلَّق بمنْعِ الجريمة أو الحدِّ منها، أظهر خبراءُ الاقتصاد السلوكي مؤخرًا كيف يشجِّع اللجوءُ للأعراف الاجتماعية على الإذعان بعدة طرُق. وأظهرت التجاربُ في المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وأستراليا كيف أن تغييرًا بسيطًا في الرسائل المرسلة إلى الأشخاص الذين لم يدفعوا غراماتِ انتظار السيارات الخاصة بهم يمكن أن يحسِّن معدَّلات السَّداد بشكلٍ كبير. ففي إحدى التجارب، وُجد أن إضافة جملة بسيطة إلى الرسالة التي تلقَّاها مَن لم يسدِّدوا الغرامات في ولاية كنتاكي، بالولايات المتحدة، تقول إن «غالبية السائقين الذين يحصلون على غرامة انتظار السيارات في لويفيل يدفعونها في غضون ١٣ يومًا»، إلى جانب تغييرات بسيطة أخرى، تزيد معدَّلات السَّداد بنسبة ١٠ في المائة. وبالفعل، هناك مجموعة متزايدة من الأعمال التجريبية التي تشير إلى أن ما يُطلق عليه «الرسائل المعايير السلوكية» — أيْ قول شيء مثل «تسعة من عشرة أشخاص يفعلون [السلوك المعني]» — يكفي لزيادة الإذعان والتعاون من المواطنين فيما يتعلَّق بمجموعة من السلوكيات، بدءًا من دفع الضرائب إلى تسوية الغرامات القضائية، وما إلى ذلك.

الإيذاء المتكرِّر

لقد واجهنا حتى الآن فكرةَ أن الجريمة ليست مُوزَّعة بالتساوي من حيث «مكان» وقوعها. لن تكونَ هذه فكرةً مفاجئة بشكل خاص لمعظم القرَّاء، من بعض النواحي، على الرغم من أن درجةَ تركيزها قد تكون كذلك. وهناك أمرٌ آخَر قد لا يبدو مفاجئًا ظاهريًّا وهو أن ضحايا الجرائم غير مُوزَّعين بالتساوي أيضًا؛ فلا شكَّ أن حقيقةَ أن الناس يعيشون في أماكنَ عُرضةٍ للجرائم أكثرَ أو أقلَّ من غيرها ستؤثِّر على فُرص تعرُّضهم للسطو، والاعتداء، وما إلى ذلك. عِلاوةً على ذلك، تؤثِّر أيضًا الأنشطةُ الروتينية للأشخاص — أيْ أنماط حياتهم — على احتمالية تعرُّضهم للجريمة في مرحلةٍ ما. فالشباب الذين يقضون جزءًا من وقت فراغهم في الحانات والنوادي في ليالي الجمعة والسبت عُرضةٌ للوقوع ضحايا للعنف أكثرَ بكثير من الأشخاص المتوسِّطي العمر الذين يفرضون مزيدًا من القيود على معدَّل وأماكن خروجهم.

لكن من أهم النتائج التي توصَّل إليها علم الجريمة في العقود الأخيرة هي اكتشاف، من خلال تحليل استقصاءات ضحايا الجرائم، أن الإيذاء لا يتكرَّر مع بعض الأشخاص دون غيرهم فحسب، بل إن وقوعهم ضحايا لجريمة قد يؤدِّي في الواقع إلى «زيادة» احتمالية تعرُّضهم لمزيد من الإيذاء في المستقبل بدلًا من تقليلها. فنحو ٤٠ في المائة من إجمالي الجرائم التي أُبلغ عنها في «الاستقصاء الدولي لضحايا الجرائم» في عام ٢٠٠٠، على سبيل المثال، كانت جرائمَ متكررة ضد أهدافٍ تعرَّضَت بالفعل لجريمة واحدة على الأقل في العام السابق. وعلى الرغم من أن حقيقةَ أن شخصًا ما قد اقتحم منزلي مؤخرًا وسرق أشياءَ منه قد تجعلني أشعرُ شعورًا منطقيًّا بأن ذلك لن يحدث لي مجددًا، فإن فرصَ حدوثِ ذلك مرَّة أخرى ربما زادت في الحقيقة. والسؤال هو: لماذا؟

فيما يتعلَّق بمثال السطو، ثمَّة عددٌ من الاحتمالات. قد يعود اللصوص بعد إدراكِ أنه لا تزال هناك سِلعٌ تستحق السرقةَ أو أنه سيكون هناك عناصر جديدة أو بديلة يمكن أخذُها. وقد يتحدَّثون إلى آخَرين حول فرص السرقة المتاحة هناك، أو قد يكون للمنزل نَفْسه، ببساطة، سماتٌ تجعله عُرضة للسطو بشكل خاص. عِلاوةً على ذلك، ثمَّة أنواعٌ مُعيَّنة من الجرائم يكون تكرارها سِمةً أساسية. ربما يكون العنف المنزلي مثالًا واضحًا وشديد الخطورة. ففي هذه الحالات، تكون الضحيةُ على علاقة بالجاني، وهكذا وبمقتضى الحال، وفقًا لنظرية الأنشطة الروتينية، لا يوجد فقط جانٍ ذو دافع، بل يوجد أيضًا «هدف مناسب»، مع غيابٍ للرقباء الأكفاء على الأرجح (غالبًا ما تكون النساء اللواتي يتعرَّضْن لمثل هذا العنف غيرَ راغبات أو غير قادرات على الإبلاغ، أو ربما يَجِدن الشُّرطة غير قادرة على التدخُّل، أو غيرَ راغبة في التدخُّل). ويمكن إبداء ملاحظات مماثلة عن مخاطرِ الإيذاء المتكرِّر تتعلَّق بإساءة معاملة الأطفال، وكذلك الإساءة والعنف العنصريين. ويبدو أن نظرية الاختيار العقلاني تنطبق جيدًا بشكلٍ خاص على مجال الإيذاء المتكرر. وعلى حدِّ تعبيرِ مجموعةٍ من المؤلِّفين: «قد يأخذ نَفْس الجناة أو جناةٌ آخَرون الحلوى من طفل بسهولة، حتى تنفدَ الحلوى من الطفل، أو يفقدون رغبتَهم في الحلوى، أو حتى يصلَ وصيٌّ على الحلوى.»

الانتقال والانتشار

لقد أشرتُ بالفعل إلى «الانتقال» أكثرَ من مرَّة ويجب أن نتناوله بتفصيلٍ أكثرَ بعضَ الشيء؛ لأنه أكثرُ الانتقادات التي تُثار ضد المبادرات على غرار حركةِ المنعِ الظرفي للجريمة. في الحالات المذكورة آنِفًا في هذا الفصل، كانت المشكلة هي احتمالية انتقال الجريمة مكانيًّا؛ أيْ من مكانٍ إلى آخَر. غير أن ثمَّة عددًا من الاحتمالات في هذا الشأن. يمكن أيضًا أن تنتقل الجريمة زمانيًّا (من خلال تغيير الجناةِ الوقتَ الذي يرتكبون فيه الجرائم)، وتكتيكيًّا (تغيير الجناةِ أساليبَهم)، ومن حيث الهدف (بتحويل الجناةِ تركيزَهم من نشاطٍ إلى آخَر، على سبيل المثال)، والفعل (بتغيير الجناة نوعيةَ الجريمة التي يرتكبونها). وتكمُن مشكلة الانتقال في أنها تثير احتمالَ ألا تؤدي تدابير منعِ الجريمة إلى الحد من الجريمة على الإطلاق، بل تُعيد تنظيمَها بطريقةٍ ما. وفي بعض الحالات هناك بلا شك شيءٌ من الصحة في هذا الأمر، وقد بذل الباحثون جهدًا كبيرًا في هذا المجال محاولين تقديرَ الآثار المحتملة للانتقال على جهود منع الجريمة وتقييمها.

fig13
شكل ٨-٢: إجمالي عدد حالات الانتحار وحالات الانتحار بالغاز المنزلي في إنجلترا وويلز، ١٩٥٨–١٩٧٧.
بالرغم من كل هذا، هناك العديد من الأسباب الوجيهة لعدم التشاؤم كثيرًا فيما يتعلَّق بإشكالية الانتقال. فثمَّة قصةٌ تستحق إعادةَ سردِها تقدِّم أملًا كبيرًا للغاية في أن منْعَ الجريمة في مكانٍ ما، أو بطريقةٍ ما، لا يعني بالضرورة ظهورَ مشاكل في مكان آخَر. يوضِّح الرسم التوضيحي حالاتِ الانتحار، أو بشكلٍ أكثرَ تحديدًا، ما كان يُعَد انخفاضًا مفاجئًا ومستمرًّا إلى حدٍّ ما في عدد حالات الانتحار في إنجلترا وويلز بين عامَي ١٩٦٣ و١٩٧٥ (انظر شكل ٨-٢). ففي أوائل الستينيات، كان أكثر من ٤٠ في المائة من إجمالي حالات الانتحار نتيجةً لاستنشاق الغاز المنزلي الذي كان، في ذلك الوقت، شديدَ السُّمِّية. ويبدو أن الانخفاض في عدد حالات الانتحار — الذي يُقدَّر بحوالي الثلث في وقتٍ كان الانتحار فيه يتزايد في العديد من البلدان الأوروبية — كان نتيجةً للإزالة التدريجية لأول أكسيد الكربون من إمدادات الغاز المنزلي.

لهذه القصة أهميةٌ خاصة هنا، على الرغم من أنها لا تتعلَّق بالجريمة؛ لأن تطهيرَ إمدادات الغاز المنزلي لم يتسبَّب فقط في انخفاض حالات الانتحار بالغاز، ولكنَّه أثَّر على مستويات الانتحار عمومًا. ويشير هذا ببساطةٍ إلى أن عددًا كبيرًا من الأشخاص الذين ربما كانوا سيُقْدِمون على الانتحار قد مُنعوا من القيام بذلك بسبب عدم توافر إمداد جاهز من الغازِ السامِّ لديهم. أهمُّ ما في ذلك فيما يتعلَّق بمناقشتنا هنا أنه لم يكُن هناك انتقالٌ كبير؛ فعلى ما يبدو أن هؤلاء الناس لم يعثروا سريعًا على وسيلةٍ جديدة لإنهاء حياتهم. وعلى حدِّ تعبير مؤلِّفي الدراسة، تقدِّم قصةُ الانتحار بالغاز دليلًا واضحًا على أن تقليلَ الفرص حقَّق فوائد واضحة لم يُلْغِها الانتقال. في الواقع، حتى لو حدثَ بعضُ الانتقال، ربما مع توجُّه الناس إلى أساليبَ أقلَّ فتكًا، فقد أُنقِذَت آلاف الأرواح. إذَن، هناك أسبابٌ واضحة تدعو إلى التفاؤل فيما يتعلَّق بتقليل الفرص.

غير أنه قد أُشير إلى أن الممارسين قد أمضَوا وقتًا طويلًا في الدفاع عن عملهم ضد انتقادات مثل انتقال الجريمة، لدرجةِ أنهم لم يُولوا اهتمامًا كافيًا للاستقصاءات التي يُحتمل أن تكون أكثرَ فائدة، بما في ذلك احتماليةُ أن يكون لجهود مَنْع الجريمة آثارُ انتقال حميدة، أو حتى إيجابية. وفي هذا الصدد، ذهب كين بيز، خبيرُ علم الجريمة البريطاني، بشكلٍ أثار الجدل إلى حدٍّ ما، إلى أن انتقال الجريمة قد يُعتبَر حميدًا إذا ساعدَ ببساطة في توزيع المخاطر، بدلًا من الحد من الجريمة بشكلٍ عام. واقترح أن انتقال الجريمة يمكن أن يكون من الناحية النظرية ذا طابع ديمقراطي على المستوى الاجتماعي بشكل عام؛ إذ يعادل معدَّلات الإيذاء، ويساعد في التخفيف من وطأة الوضع الحالي حيث تتحمَّل بعضُ الأحياء، وبعضُ الناس، نسبةً غير عادلة من العبء.

والواقع أنه بمجرد أن بدأ الباحثون في النظر عن كثَب في مثل هذه الأفكار، بدءوا في اكتشاف أنَّ هناك احتمالات أكثرَ إيجابية، من بينها أن فوائد أنشطة منعِ الجريمة في مكانٍ ما قد تنتشر في أماكنَ أخرى. ومرَّة أخرى، يمكن النظر إلى مثل هذا الانتشار للفوائد بعدة طرُق؛ إذ لا يقتصر على الانتشار من المناطق المستهدَفة إلى المناطق المجاورة، ولكنه أيضًا يشمل إمكانيةَ الحد من أنواع الجرائم التي لا تُعالج مباشرةً من خلالِ تدابيرِ منعِ الجريمة، أو إمكانية انخفاض مستويات الجريمة في الأوقات التي لا تكون فيها إجراءات المنع ساريةَ المفعول. ولسوء الحظ، لا تزال الأبحاثُ المباشرة المتعلِّقة بانتشار فوائدِ منعِ الجريمة في مهدِها. غير أن الدراسات الدقيقة القليلة الموجودة قد أظهرت نتائجَ إيجابية.

وجَدَت إحدى الدراسات الكبيرة في جيرسي سيتي، بولاية نيوجيرسي، التي حصرت جهودَ مَنْع الجريمة في مجالَين وعلى مشكلتَين مُحدَّدتَين — الدِّعارة في الشوارع وأسواق المخدرات — انخفاضاتٍ كبيرةً في الجريمة في المناطق المُستهدَفة، وكذلك في المناطق المجاورة، سواء القريبة أو البعيدة بعضَ الشيء، حيث لم تكُن هناك تدخُّلات محدَّدة. كان جزء من تفسير حقيقة عدم انتقال مشكلة الدعارة في إحدى المناطق إلى المناطق المجاورة هو أن هذه المناطق الأخرى لا تعاني من المباني الشاغرة وقلةِ المساكن مثل منطقة الخطر الأصلية. باختصار، المناطقُ الجديدة المحتمَلة تَمركزَ بها رقباءُ أكفاءُ مما جعلها أماكنَ غير جذَّابة — أكثرَ خطورة — لممارسة تجارة الجنس. وأشار الباحثون إلى أن انتقالَ الأنشطة الإجرامية من مكان إلى آخَر غالبًا ما ينطوي على جهد كبير ومزيد من المخاطر بالنسبة إلى الجناة. فقد وجد بحثٌ نوعي من الدراسة نفسها، على سبيل المثال، أن المتورِّطين في تجارة المخدرات شعروا أن الانتقال حتى ولو مسافةَ بضع بنايات يعني أنهم «يجب أن يبدءوا من الصفر»، وأن الأمر سيستغرق وقتًا لإعادة بناء قاعدة عملائهم، ونتيجةً لذلك، لن تظل المكافآت المالية كما كانت في السابق.

بهذه الطرُق، قد يكون لجهودِ مَنْع الجريمة المُوجَّهة في مكان واحد، أو إلى نوع واحد من الجرائم، فوائدُ غير مُتوقَّعة في مكان آخَر. في الواقع، تشير واحدةٌ من مراجعات الأدلة المتاحة إلى أن حدوثَ الانتقال (التأثير السلبي) والانتشار (التأثير الإيجابي) مُحتملان على نحوٍ شِبه متساوٍ. ويبدو أن الانتقال الزمني وانتقال الهدف هما أكثر الأشكال شيوعًا للانتقال، بينما كان الانتشار المكاني الأكثر شيوعًا للانتشار، يليه انتشار الهدف.

لا بد أن نختتمَ هذه المناقشة بالاعتراف بأن القضايا التي يثيرها المنع الظرفي للجريمة ليست تقنية أو عملية فحسب، بل هي قضايا تثير تساؤلاتٍ أخلاقية. فعلى سبيل المثال، ذهب النقاد إلى أن توجُّهَ مَنْع الجريمة يساعد في الحفاظ على الوضع الراهن ويصرِف الانتباه عن الحاجة إلى إصلاحٍ اجتماعي؛ ويميل إلى حماية مصالح الأقوياء على حساب الضعفاء نسبيًّا؛ ويشجِّع على زيادة الإقصاء الاجتماعي من خلال استهداف مجموعاتٍ وأماكنَ بعينها. في عام ١٩٦١، أبدت الناشطة والصحفية الشهيرة جين جاكوبس ملاحظةً مهمةً مُفادها: «إن الطريق العام المزدحم عادةً ما يكون آمنًا. أما الطريق المهجور فعادةً ما يكون غيرَ آمِن.» ونصحَت بتجنُّب العقلية المنكفئة على ذاتها، وبدلًا من ذلك أبدَت تأييدها لأهمية تلك الأشكال من التفاعل الاجتماعي اليومي والمراقبة التي ذُكِرَت في الفصل السابع عند مناقشة الرقابة الاجتماعية غير الرسمية، والتي اقترحت أنها الأساس لتكوين مجتمع حضري يعمل بكفاءة.

التركيز على مَنْع الجريمة

على مدار جزء كبير من القرن العشرين، تبنَّى علم الجريمة نظرةً متفائلة بشكل عام، مُفترِضًا أن مزيجًا من التحسينات العامة في الظروف الاجتماعية، إلى جانب تطوير المعرفة بشأن الجريمة والإجرام، من شأنه أن يؤديَ إلى انخفاض مستويات الجريمة. غير أن العقودَ الأولى التي تَلَت الحرب، كما رأينا في الفصل الخامس، اتَّسمَت بارتفاعات كبيرة ومستمرة في معدَّلات الجريمة. وعلى خلفية ذلك، بدأ التفاؤل بشأن إمكانات الإصلاح والتدخُّلات التأهيلية في التراجُع. ويمكن القول إن التشاؤم المتزايد الذي أحاط بفاعلية التدخلات الاجتماعية في هذه الفترة كان في غيرِ محله إلى حد كبير، وكان له عواقبُ سلبية كبيرة على كلٍّ من سياسات مكافحة الجريمة والاستثمار في الجهود الإصلاحية. غير أنه في ظلِّ تلك الظروف نفسها، ظهرَ ما أشار إليه ديفيد جارلاند باسم «علوم الجريمة الجديدة للحياة اليومية». وهذه المبادرات الخاصة بحركة المنع الظرفي للجريمة التي تركِّز على الفرص هي بلا شك الإسهام العملي الأكثر تأثيرًا لعلم الجريمة في مجال مكافحة الجريمة في الآونة الأخيرة. وكما هو الحال مع الكثير من مجالات علم الجريمة، لا يزال قَدْرٌ كبير من العمل في هذا المجال في مهده نسبيًّا، والأدلة البحثية الدقيقة ليست متوافرة بقدْرِ ما نتمنى. غير أن ثمَّة أسبابًا وجيهة للاعتقاد بأن الاهتمام الدقيق بما أشار إليه ماركوس فيلسون باسم «كيمياء الجريمة» ينطوي على إمكانات كبيرة لتحقيقِ مكاسبَ كبيرة في مجال الحد من الجريمة مستقبلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤