تذييل رقم (١)

الأساطير وقصص الحور
نشر جان دي فري كُتيبًا عن قصص الحور تناول فيه العلاقة بين قصص الحور وبين السيرة البطولية والأسطورة.١ الموضوع واسع إلى حدٍّ يبعث على الرهبة، ولم يتصدَّ إليه مَن هو أكفأ من هذا العالم الهولندي البارز بالجرمانيات والفولكلور. لا يدَّعي هذا الكتيب أنه استنفد في أربع وعشرين ومائة صفحة جميع جوانب المشكلة، بل حتى لا يعتبر مدخلًا على أي نحو من الأنحاء. لقد كان غرض المؤلف أن يقدم كشفًا مؤقتًا عن قرن من الأبحاث، وأن يدل على وجه الخصوص على الآفاق الجديدة التي انفتحت منذ عهد قريب أمام المختصين بالقصص الشعبية، وأن تفسيرها قد حقق مؤخرًا قفزة كبيرة إلى الأمام. من جهة، استفاد علماء الفولكلور من التقدم الذي حققه علم الإثنولوجيا وتاريخ الأديان وعلم نفس الأعماق. ومن جهة أخرى، نفس المختصين بالقصص الشعبية بذلوا جهدًا ملموسًا من أجل إخضاع أبحاثهم إلى منهج أشد صرامة؛ والشاهد على ذلك الدراسات النفاذة التي قام بها أندريه جول أو ماكس لوتي.

انصرف جان دي فري كليًّا إلى بيان هذه الحركة في مجملها قبل أن يعرض وجهات نظره الخاصة حول العلاقة بين الأسطورة والسيرة البطولية والقصص الشعبية. بدأ دي فري الحوار طبعًا بالمدرسة الفنلندية، ومزايا هذه المدرسة أشهر من أن نحتاج إلى الرجوع إليها. فالعلماء الإسكانديناف قاموا بعمل دقيق وجليل: سجلوا وبوَّبوا جميع الروايات المتعلقة بقصة، وحاولوا أن يتتبعوا طرق انتشارها. لكن هذه الأبحاث الشكلية والإحصائية لم تحل مشكلةً جوهريةً. أما المدرسة الفنلندية فقد ظنت أن في استطاعتها الوصول إلى «الصيغة الأولية» للقصة عن طريق دراسة دقيقة للروايات المختلفة، لسوء الحظِّ، لقد كان هذا وهْمًا: في أكثر الحالات، لم تكن «الصيغة الأولية»، غير «ما قبل-صيغ» كثيرة تناقلها الرواة إلى أن وصلت إلينا هذه «الصيغة الأولية» الشهيرة — التي افتتن بها جيل كامل من الباحثين — لم تتمتع إلا بوجود افتراضي (جان دي فري ص٢٠).

بعد ذلك سار المؤلف وراء عالِم الفولكلور الفرنسي، بول سانتيف، ونظريته الطقسية. الكتاب الرئيسي الذي وضعه سانتيف٢ يُقرأ للمتعة والفائدة، على الرغم من الثغرات في المعلومات التي اشتمل عليها وعلى الرغم من الخلط المنهجي. لكن لا بدَّ من القول أن اختياره لم يكن موفقًا. فحكايات «بيرولت» لا تشكل دائمًا ملفًّا صالحًا للدراسة المقارنة. من ذلك مثلًا قصة «القطة ذات الحذاء» التي لا وجود لها في إسكاندنافيا ولا في ألمانيا. لكن هذه القصة ظهرت متأخرة في هذا البلد الأخير وبتأثير من «بيرولت». ومع ذلك فقد كان لسانتيف ميزة التعرف من خلال القصص على موضوعات طقسية لم تزل باقية إلى اليوم في المؤسسات الدينية عند الأقوام البدائية. في المقابل، لقد خادع سانتيف نفسه عندما اعتقد أنه اكتشف في هذه القصص «النص» الذي كان يصاحب الطقس (دي فري، ص٣٠). لكن كتابًا فات سانتيف أن يقرأه،٣ لسوء الحظِّ، تناول فيه العالِم السوفياتي بالفولكلور، ف. أيا. بروب، الفرضية الطقسية التي قال بها سانتيف وطوَّرها. فقد رأى «بروب» في القصص الشعبية ذكرى طقوس الاستسرار الطوطمية. المبنى الاسستراري للقصص بيِّن ظاهر، لكن المشكلة كلَّها هي في معرفة ما إن كانت الحكاية تصف لنا جملة طقوس ظهرت في مرحلة محددة من الثقافة، أو إن كان السيناريو الاستسراري «وهميًّا»، بمعنى أنه غير مرتبط بظرف تاريخي-ثقافي، بل يعبِّر بالأحرى عن مسلك غير تاريخي، نموذجي من النفس البشرية. لنأخذ على سبيل المثال كلام «بروب» عن الاستسرار الطوطمي، وقد كان هذا النموذج من الاستسرار قاصرًا على النساء؛ والواقع أن الشخصية الرئيسية في القصص السلافية هي المرأة: الساحرة العجوز، بابا ياغا. بعبارة أخرى، لن نجد أبدًا في هذه القصص الذكرى الحقيقية لمرحلة معينة من الثقافة: الأساليب الثقافية، الدورات التاريخية مرئية فيها من بعيد. لن نجد فيها غير مباني مسلك مثالي نموذجي، قابل لأن يُعاش في عدد كبير من الدورات الثقافية واللحظات التاريخية.
أما نظرية و. ا. بوكرت، التي ناقشها جان دي فري بألمعية (ص٣٠)؛ فقد اصطدمت بمصاعب مماثلة. يذهب هذا العالم إلى أن القصص قد تشكَّلت في شرقي المتوسط، في العصر الحجري الجديد، وما زالت تحتفظ بمباني نظام اجتماعي-ثقافي تشتمل على المطريركية (عهد الأمومة) matriarcat وطقوس الاستسرار والزواج التي يتميز بها الفلاحون. فبوكرت يقارن الامتحانات المفروضة على بطل نموذج معين من القصص من أجل زواجه من ابنة الشيطان مع العادات الأمومية المعمول بها عند الفلاحين: للحصول على زوجة يعمد الخاطب إلى حصاد حقل بكامله وتشييد منزل … إلخ. لكن، كما يلاحظ جان دي فري، الامتحانات المفروضة من أجل الزواج نجدها أيضًا في الملحمة (مثلًا، رامايانا) كما نجدها في السيرة البطولية. والحال، من الصعب ضم السيرة، وهي شِعر أرستقراطي جوهريًّا، إلى الأفق الثقافي للفلاحين. من ناحية ثانية، أن بوكرت يبحث عن «أصل» الحكايات في الشرق الأدنى في حقبة ما قبل التاريخ، بسبب من غناه الاقتصادي الخارق وتوسعه المنقطع النظير الذي عرف فيه ديانات الخصب والرمزية الجنسية، لكن تحليلات ماكس لوتي أثبتت أن الحب، على العكس، لم يلعب دورًا في القصص.
وقد ناقش جان دي فري مطولًا فرضية فون سيدوف حول الأصل الهندو-أوروبي لحكايات العجائب. لكن الصعوبات التي تعترض مثل هذه الفرضية أوضح من أن نؤكد عليها، وفون سيدوف نفسه اضطر إلى تغيير وجهة نظره. إذ صار يميل الآن إلى إرجاع «ميلاد» هذه القصص إلى زمن أكثر إيغالًا في القِدم، وتحديدًا إلى الثقافة الميغاليطيقية، السابقة للهندو-أوروبية. في دراسة حديثة قام بها «أوتو هُوت»،٤ تبنَّى وجهة النظر هذه، لكن المؤسف أن جاي دي فري لم يرَ من الضروري أن يتناولها بالدرس. يذهب «أوتو هوت» إلى أن الموضوعتين اللتين تسودان هذه القصص هُما الرحلة إلى ما وراء العالم، والعرس من النموذج الملكي، وهما موضوعتان ترجعان إلى «الديانة الميغاليطيقية». من المتفق عليه عمومًا أن الموطن الذي نشأت فيه الثقافة الميغاليطيقية هو أسبانيا والجزء الغربي من الشمال الأفريقي. من هناك اندفعت الموجات الميغاليطيقية حتى أندونيسيا وبولينيزيا. ويرى «هوت» أن هذا الانتشار على مدى القارات الثلاث قد يفسِّر لنا أسباب التداول الهائل لهذه القصص. إلا أن هذه النظرية بلغت من تهافتها مبلغًا جعلنا نكاد أن نصرف النظر عن «الديانة الميغاليطيقية» بالمرَّة.
على أن البروفسور دي فري مرَّ مرًّا سريعًا على الشروح التي يقدمها علماء النفس، مشيرًا بصورة خاصة إلى مساهمات يونغ. ويوافق على مفهوم هذا الأخير للنموذج البدئي archétype بما هو مبنى الخافية الجماعية. لكنه يذكر، محقًّا، بأن القصة ليست خلقًا مباشرًا وعفويًّا من الخافية (كما هو الشأن في الأحلام مثلًا): فهي، قبل كل شيء، شكل أدبي كالرواية والدرامة، إن عالم النفس لا يلتفت إلى تاريخ الموضوعات الفولكلورية وتطور الموضوعات الأدبية الشعبية، وإنما هَمُّه منصب في الدرجة الأولى على الخطوط الرئيسية المجردة. هذه المآخذ لها ما يبررها. على أننا يجب ألا ننسى أن عالم نفس الأعماق يستعمل السُّلم الذي يناسبه، ونحن «نعلم أن السُّلم هو الذي يخلق الظاهرة.» إن ما يمكن أن يعترض به عالم الفولكلور على عالم النفس هو أن نتائجه التي يتوصل إليها لا تحل له مشكلته؛ فهي لا تصلح إلا لإلهامه طرائق جديدة للبحث.
القسم الثاني من الكتيب أفرده جان دي فري لآرائه الشخصية. بعد سلسلة من التحليلات الموفَّقة أثبت دي فري أن تفسير السيرة saga لا يكمن في القصص بل في الأساطير. إن مشكلة قصيدة سيغفريد ليست في معرفة كيف خرجت من فتات الأساطير و«الموضوعات» الفولكلورية، بل كيف أمكن نموذجًا أوليًّا تاريخيًّا أن يلد سيرة حياة خرافية. ويُذكِّرنا المؤلف بهذه المناسبة أن السيرة ليست تجميعًا لغبار «موضوعات»؛ بل إن حياة البطل تُشكل كلًّا لا يتجزأ، من ولادته إلى موته المفجع. والملحمة البطولية لا تنتسب إلى المأثور الشعبي، وإنما هي صياغة شِعرية خُلقت في الأوساط الارستقراطية. عالمها عالم مثالي، زمانه عصر ذهبي، شبيه بعالم الآلهة. والسيرة تقارب الأسطورة، لا القصة أو الحكاية. كثيرًا ما يصعب علينا البت بما إن كانت السيرة تروي قصة شخصية تاريخية ارتفعت حياتها إلى مرتبة البطولة، أو تروي لنا، على العكس، أسطورة هبطت إلى مستوى الأشياء الدنيوية. صحيح أن نفس النماذج البدئية — أي نفس الأشخاص والأوضاع المثالية — تعود بلا تمييز نجدها في الأساطير والسير والقصص، إلا أننا نجد البطل في السيرة ينتهي نهاية مفجعة، بينما القصة تنتهي دائمًا نهاية سعيدة.

يلحُّ المؤلف أيضًا على فرق آخر، يبدو له أساسيًّا، بين الحكاية والسيرة؛ فهذه تتخذ من العالم الأسطوري مسرحًا لأحداثها، بينما لا صلة للقصة بهذا العالم. في السيرة، يقطن البطل عالمًا تحكمه الآلهة والأقدار، بينما تبدو شخصية الحكاية متحررة من الآلهة؛ حُماته وأصحابه يضمنون له النصر. هذا الانقطاع عن عالم الآلهة، وهو انقطاع يكاد أن يكون ساخرًا، يترافق مع غياب كلي للإشكالية. في القصص، العالم بسيط وشفاف. لكن الحياة الواقعية، كما يلاحظ جان دي فري، ليست بسيطة ولا شفافة. ثم يتساءل دي فري، متى كان الوجود في أي لحظة من التاريخ غير كارثي؟ إن في ذهنه عالم هوميروس، لحظة أن بدأ الإنسان ينفصل عن الآلهة التقليديين، من غير بحث عن مأوًى في ديانات الأسرار. في مثل هذا العالم — أو في وضع روحي مماثل من حضارات أخرى — خضع البورفسور دي فري لرؤية أرض ملائمة لنشوء القصص القصة، كما يراها دي فري، تعبير عن وجود ارستقراطي، وبهذه الصفة تقترب من السيرة. لكن وجهتيهما مختلفتان: القصة منفصلة عن العالم الأسطوري والإلهي و«تسقط» على الناس في اللحظة التي تكتشف الأرستقراطية الوجود بما هو مشكلة ومأساة.

لو أولينا جميعَ هذه المسائل ما تستحقه من مناقشة، إذَن لخرجنا بعيدًا عما نحن بصدده. بعض النتائج التي توصَّل إليها جان دي فري تفرض نفسها: الاشتراك في المبنى بين الأسطورة والسيرة والقصة أو الحكاية؛ التضاد بين التشاؤم في السيرة والتفاؤل في الحكاية؛ التجريد التدريجي للعالم الأسطوري من القدسية. أما مسألة «أصل» الحكاية فيمنعنا تعقيدها من مباشرتنا لها هنا؛ إذ تكمن الصعوبة الرئيسية في الالتباس الناشئ عن مصطلحي «الأصل»، و«الولادة». بالنسبة لعالم الفولكلور، تلتبس «ولادة» القصة بظهور قطعة أدبية شفهية. إنها واقعة تاريخية تُدرس بما هي كذلك. لذلك كان المختصون بالآداب الشفهية على حق في إهمال «ما قبل تاريخ» وثائقهم. إن في حوزتهم «نصوصًا» شفهية، مثلما في حوزة زملائهم مؤرخي الآداب نصوص مكتوبة. يدرسون ويقارنون ويتتبعون أثر انتشارها وتأثيراتها المتبادلة، تقريبًا كما يفعل مؤرخو الآداب. ترمي طريقتهم في التفسير إلى فهم وعرض العالم الروحي للحكايات بدون الانشغال كثيرًا بسوابقها الميطيقية.

أما بالنسبة لعالم الإثنولوجيا ومؤرخ الأديان فلا تشكل «ولادة» الحكاية، بما هي نص أدبي مستقل، غير مشكلة ثانوية. أولًا، على مستوى الثقافات «البدائية»؛ المسافة التي تفصل الأساطير عن الحكايات أقل جلاءً مما هي في الثقافات التي يوجد فيها فرقٌ عميقٌ بين طبقة «المتعلمين» و«الشعب» (مثلما كانت الحال في الشرق الأدنى القديم واليونان والعصر الأوروبي الوسيط). غالبًا ما تكون الأساطير مختلطة بالحكايات (ويكاد أن يكون ذلك دائمًا في الحالة التي يعرضها علينا علماء الإثنولوجيا)، وما قد يكتسب مهابة الأسطورة لدى قبيلة ما هو إلا مجرد حكاية لدى قبيلة مجاورة. لكن الذي يهم الإثنولوجي ومؤرخ الأديان هو مسلك الإنسان تجاه القدسي، كما يظهر ذلك من جميع هذا الركام من النصوص الشفهية. والواقع، ليس صحيحًا بصفة دائمة أن الحكاية تتميز ﺑ «نزع القدسية» عن العالم الميطيقي. إنما الأصح أن يقال إن الحكاية تقنع الموضوعات والشخصيات الميطيقية. والأفضل أن يقال «تدني المقدس» بدلًا من «نزع القدسية». ذلك أنه ليس ثمة انقطاع للاستمرارية فيما بين سيناريوهات الأساطير والسيَّر والحكايات العجيبة. زِد على ذلك أن الآلهة إذا كانت لم تَعُد تتدخل في الحكايات تحت أسمائها الصريحة، فإن ملامحها ما زالت تتميز في أشخاص الحارسين، وفي خصوم البطل وأصحابه. في الحكايات، تكون الآلهة مقنعة، أو، بالأحرى «مخلوعة» لكنها مع ذلك تظل قائمة بوظائفها.

إنَّ معايشة ومعاصرة الأساطير والحكايات في المجتمعات التقليدية، تطرح مشكلة دقيقة، لكنها ليست غير قابلة للحل. نريد بذلك المجتمعات الغريبة في العصر الوسيط حيث يغرق الصوفيون الحقيقيون وسط جمهور المؤمنين البسطاء، ويقتربون حتى من المسيحيين الذين بلغت منهم قلة الحماس مبلغًا جعلتهم لا يساهمون في المسيحية إلا من الخارج. فالديانة تُعاش دائمًا — أو تُقبل أو تُخضع — على أصعدة كثيرة؛ لكن، بين هذه الأصعدة المختلفة من الخبرة، هناك تساوٍ وتماثل. أما التساوي فيظل حتى بعد «ابتذال» الخبرة الدينية، بعد نزع القدسية (الظاهرية) عن العالم. (لكي نقتنع بذلك، حسبنا تحليل التقويمات الدنيوية والعلمية ﻟ «الطبيعة» على طريقة روسو وفلسفة الأنوار). لكننا نعود اليوم لكي نجد المسلك الديني ومباني القدسي (أشخاصًا إلهيين، بوادر نموذجية … إلخ) في المستويات العميقة من النفْس، في «الخافية»، على أصعدة الحلم والتخيل.

إنَّ هذا يطرح مشكلة أخرى، لم يَعُد الاهتمام بها قاصرًا على عالم الفولكلور أو عالم الإثنولوجيا وحسب، وإنما باتت تهمُّ مؤرخ الأديان أيضًا، وسوف تئول إلى إثارة اهتمام الفيلسوف، وربما الناقد الأدبي أيضًا، لأنها تمسُّ، وإن مُداورة، «ولادة الأدب». إن القصة العجيبة، وقد أصبحت في الغرب أدبًا للتسلية (عند الأطفال والفلاحين) أو لتزجية الوقت (عند سكان المدن)، تعرض لنا مع ذلك مبنى مغامرة خطرة ومسئولة بلا حدود؛ لأنها ترتد على وجه الإجمال إلى سيناريو استسراري: فيها نجد دائمًا الامتحانات الاستسرارية (صراع مع التنين، عقبات لا تقهر ظاهريًّا، ألغاز مطلوب حلُّها، أعمال مستحيلة يجب القيام بها … إلخ) أو النزول إلى الجحيم أو الصعود إلى السماء، أو حتى الموت والقيامة (وهو ما يساوي الشيء نفسَه) والزواج من الأميرة. صحيح أن الحكاية العجيبة، كما يبين ذلك محقًّا جان دي فري، تنتهي دائمًا نهاية سعيدة، إلا أن مضمونها بالتخصيص له علاقة بواقعة خطيرة إلى حد رهيب: الاستسرار، أي العبور بواسطة موت وانبعاث رمزيين، من الجهل وعدم النضج إلى سِنٍّ روحية يبلغها الفتى البالغ. الصعوبة هي في معرفة متى بدأت القصة سيرتها انطلاقًا من قصة عجيبة بسيطة خالية من كل مسئولية استسرارية. بالنسبة لثقافات معينة على الأقل، لا يُستبعد أن يكون هذا قد حدث في وقت كانت فيه الإيديولوجية والطقوس التقليدية المتعلقة باستلام الأسرار في طريقها إلى اهتراء، وصار في الإمكان «رواية» ما كان يتطلب في الماضي أقصى درجات السرية من غير خوف من العواقب. لكن ليس لدينا ما يجعلنا نوقن أن هذا السياق كان هو السياق العام. ففي عدد من الثقافات البدائية؛ حيث ما زالت طقوس الاستسرار معمولًا بها حتى الآن، تُروى أيضًا قصصٌ ذات مبنى استسراري، وهذا يتم منذ مدة طويلة.

نكاد نقول أن الحكاية أو القصة العجيبة تكرر السيناريو الاستسراري النموذجي، لكن على صعيد آخر وبوسائل أخرى. فالحكاية تعود فتتناول «الاستسرار» وتجعله يستطيل إلى مستوى ما هو خياليٌّ. فإن كانت تسلية وتزجية، فهي حصرًا من أجل الوعي المبتذل، وخصوصًا من أجل وعي الإنسان الحديث؛ في النفس العميقة، تحتفظ المشاهد الاستسرارية بخطورتها وتمضي في تبليغ رسالتها، في إحداث طفرات. ما زال إنسان المجتمعات الحديثة، بدون أن يعي، وهو يظن أنه يتسلَّى أو يتهرَّب، ما زال يستفيد من هذا الاستسرار الخيالي والحُلمي. هذه الوجهة من النظر لا تدهش إلا الذين يعتبرون الاستسرار مسلكًا قاصرًا على إنسان المجتمعات التقليدية. لقد بدأننا ندرك اليوم أن ما ندعوه «استسرارًا» يتعايش مع الشرط البشري، وأن كل وجود يتكون من سلسلة غير منقطعة من «الامتحانات» و«الميتات» و«القيامات»، بصرف النظر عن التسميات التي تستخدمها اللغة الحديثة للتعبير عن هذه الخبرات (الدينية أصلًا).

١  Betrachtungen zum Merchen, Besonders in seinem verhaitnis zu heldensage und mythos (Helsinki 1954).
٢  Les Contes de Perrault et les recits Paralleles (1923).
٣  Les racines historiques des contes merveilleux, Leningrad, 1946.
الكتاب موضوع أصلًا بالروسية، وهذه ترجمة فرنسية لعنوانه.
٤  Marchen und Megalltherllgion (paideuma, v, 1950).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤