الفصل التاسع

الخادع لنفسه (الإنسان الواهم)

إنَّ دماغ الإنسان عضوٌ مُعقَّد يتمتَّع بقدرة رائعة على تمكين الإنسان من اختلاق الأسباب للاستمرار في اعتقاد ما يُريد اعتقادَه، مهما كان.

فولتير

على مرِّ السنين، اصطدمت عشرات الطائرات بالجوانب الوعرة لجبل أبيكس، بمقاطعة كولومبيا البريطانية. في حين أنه تُوجد العديد من العوامل المُسبِّبة لذلك، فإنَّ القاسم المشترك بين هذه الحوادث هو أن طياري الطائرات التي تُحلِّق على ارتفاعٍ مُنخفض وجدوا أنفسهم مُحاصَرين وسط مساحةٍ طبيعية أعلى في الواقع من ارتفاع طائراتهم، ومُنحدرات شديدة الانحدار بصورةٍ أكبر ممَّا تبدو عليه. قال مُعلِّم الطيران المحلي مارك هولمز لصحيفة «جلوب آند ميل»: «إننا نستخدِم هذه المنطقة بالذات في واحدةٍ من دوراتنا التدريبية الجبلية لنُبين لطلابنا الوهم البصري. يظهر للعيان أنَّ انحدار هذه الجبال بسيط، ولكنها في الواقع شديدة الانحدار» (ثيودور، ٢٠١٠؛ يوسف، ٢٠١٠). وأضاف المُحقِّق في «مجلس سلامة النقل الكندي» بيل ييروود أنه «يُمكنك أن تُخدَع بسهولةٍ ظانًّا أن التضاريس ليست مُرتفعة كما هي في الواقع. ستصِل إلى نقطة لا يُمكنك فيها العودة» (ثيودور، ٢٠١٠).

ربما مات الطيَّارون نتيجة اعتقادٍ خاطئ نتج عن وَهمٍ بصري، أن الطريق أمامهم آمن، وهي قصة شائعة عبر التاريخ البشري. مثل هذا «الاعتقاد»، ربما هو ما قتل شَبيه البشر الشاب الذي وقع ضحيةً لهجوم الفهد قبل مليون ونصف مليون سنة (انظر الفصل الأول)، والكثير والكثير غيره منذ ذلك الحين. على النطاق الأوسع، يمكن للمُعتقدات الخاطئة كذلك أن تكون قاتلةً للحضارة.

إذا سألت الناس كيف يرَون الأشياء، سيقول معظمهم إنهم يرون بأعيُنهم. ولكن، مثل الكثير من المفاهيم الشائعة، فهذا غير صحيح. لطالَما عرَف العِلم أن أعيُننا تتكوَّن من خلايا عصبية مُتخصِّصة تجمع الضوء وتُعالجه، وأن الصورة الفعلية التي نراها تُجَمَّع في واقع الأمر في الدماغ من خلال عددٍ لا يُعدُّ ولا يحصى من حزم المعلومات. ومن ثم، فالدماغ هو الذي «يرى»، وليس العين. وبالطبع، يكون الدماغ عُرضةً للخطأ وللمعلومات المُضلِّلة، ويتأثَّر بشدَّة بتجاربه السابقة عندما يبني تلك الصور.

السراب هو خداع بصري مألوف، وهو رُؤية بُقعةٍ من الماء على طريق جاف حار أو على مشهدٍ صحراوي قفْر. حتى الدماغ «يعرف» أن الماء ربما لا يكون موجودًا، ويُمكنه التأكُّد من ذلك عبر الاقتراب منه، ولكنه لا يزال يُصرُّ على تفسير الموجات الضوئية التي جمعتْها العين كما لو أنها كانت حقيقية، وهذا ربما لكونه أكثر اعتيادًا على رؤية الماء من رؤية الهواء اللامع، أو لأنَّ المُشاهد عطشان أو يُهَلوِس. توجد العديد من الاختبارات الساحرة التي تُوضِّح قدرة الدماغ على إنتاج صُوَرٍ زائفة أو خلق صورٍ وهمية، وهذا مِثل سُلَّم إيشر اللامتناهي ومثلث كانيزا، أو القُرص الدوَّار الذي اختُرِعَ في القرن التاسع عشر والذي يُشبه طائرًا في قفص.1 كل هذه الأمثلة السابقة تُفضي إلى القول المعروف أن، «الأشياء ليست دائمًا كما تبدو.» وبالمِثل، فباقي حواسِّنا عُرضة لسوء التفسير الذي يتسبَّب فيه الدماغ، ولكنها تكون بصورةٍ أقلَّ لفتًا للنظر. الأوهام مُمتعة، لكنها قد تكون مُميتة أيضًا. في تسعينيَّات القرن العشرين، على سبيل المثال، حذَّر باحثون بريطانيون من خداعٍ بصري كان على الأرجح يتسبَّب في مقتل حوالي خمسين طفلًا وهم يَعبُرون طرُق المملكة المتحدة كل عام. وكان يرجع ذلك إلى الطريقة التي يفسر بها السائقون التدفُّق البصري الذي يصِل إلى أدمغتهم بينما تتحرَّك سياراتهم بسرعةٍ على طول الطريق. اعتاد الدماغ على رؤية البالِغين يعبُرون الطريق وهذا هو ما يُتوقَّع رؤيته، مما يُتيح للسائق الوقت الكافي للضغط على فرامل السيارة في الظروف العادية. ومع ذلك، عندما يرى السائق أنَّ العابرين من الأطفال، فإن حجمهم الأصغر يعني أنهم أقرَبُ بكثير ممَّا يَتوقَّعه دماغ السائق الذي اعتاد على رؤية البالِغين (هامر، ١٩٩٤). وهكذا، يموت الأطفال نتيجة للمُعتقد الخاطئ لسائق السيارة.

تُعتبَر حالات حوادث الطرُق والحوادث الجوية تشبيهًا مناسبًا لعالَمِنا الحالي وللطريقة التي يسير بها مُسرعًا نحو الأزمات الوجودية الكُبرى، بل والأزمات الكارثية المُحتمَلة، دون أن تدرك البشرية ككل الخطر المُحتمَل، وهذا قد يرجع إلى أنَّنا مُضلَّلون بالتجربة السابقة لعالَمٍ أكثر أمانًا واستقرارًا وأقلَّ اكتظاظًا بالسكان، وكذا لأطُر مُعتقداتنا المُتراكمة (التي حقَّقت لنا هيمَنةً شديدة النجاح حتى الآن؛ هيمنة جعلتنا فخورين بشكلٍ مُبالَغٍ فيه) التي تدفعنا للتقليل من شأن تلك التهديدات أو لتجاهلها.

يُشكل الدماغ تصوراته الخاصة بالعالَم من حوله، ليس من خلال ما تُخبره به أعضاؤنا الحسية فحسْب، بل وكذلك مما يتذكَّره من تجربةٍ سابقة أو ما يتعلَّمه من معلومةٍ تلقَّاها. عندما تكون البيانات الحسِّية غير كافية، بدلًا من أن يترُكنا الدماغ نتعثَّر في مواجهة الخطر، يُشكِّل وجهة نظرٍ غير مدعمة بدليل، أو أفضل تخمين أو صورة خيالية للحالة مما يَسمح لنا بالقتال أو الفرار أو اتِّخاذ أي إجراءاتٍ أُخرى. هذا هو ما نُسمِّيه «اعتقادًا»، وهو تقييم سريع مَبني على معلومات غير كافية أو غير مَبني على أي معلوماتٍ على الإطلاق، ولكنه عادةً ما يرتكز بقوةٍ شديدة على أساسٍ من الخبرات المُكتسبة أو التدريب. لقد أنقذنا ذلك عدَّة مرات على مرِّ وجودنا كنوع، ولكنه بالمِثل، كثيرًا ما يُخطئ ويقتُلنا.

إنَّ الاعتقاد شيء جيد، بل إنه شيء أساسي؛ وذلك لأنه يُمكِّننا من شقِّ طريقنا في الحياة واستغلال الفُرَص وتلافي المخاطر بسرعة، دون أن يكون لدَينا معرفة كاملة بها. ببساطة، يملأ دماغنا الفراغات، ويبني صورةً أو بِنية تُمكِّننا من اتخاذ قراراتٍ سريعة والتصرُّف دون تفاصيل كافية حول ما يدور حولَنا بالفعل. يُمكن مقارنة الاعتقاد بتِقنية السي جي آي (الصور التي يتمُّ إنشاؤها بواسطة الكمبيوتر) المُستخدَمة في أفلام الخيال الملحميَّة، مثل فيلم «سيد الخواتم» (كينج أوف رينجز)؛ حيث لا يُوجَد سوى عددٍ قليل من العناصر أو الشخصيات «الحقيقية»، بينما يكون المشهد المُحيط بها ما هو إلا صورة رائعة رسمتْها الإلكترونات والفوتونات الحاسوبية. إنَّ البشر الذين يتمتَّعُون بدماغٍ أكثر تعقيدًا من حيوانات القطيع الأخرى، قد يكونون قادرين على إقامة بِنياتٍ أكثر تفصيلًا، بما في ذلك القدرة الثمينة على تصوُّر الأحداث المُستقبَلية والتصرُّف في الوقت المناسب لإنقاذ أنفسنا من المخاطر. ولعلَّ هذه القُدرة الفريدة هي التي ميَّزتنا عن غيرنا من سُكَّان السافانا الأفريقية قبل مليون سنة أو أكثر. فقد كانت لدَينا في أذهاننا صورة أفضل للعالَم من حولنا، وكيفية عمله، ومخاطره وكيفية التعامُل معها، عن باقي الحيوانات الاجتماعية الأُخرى، وهذا على الرغم من أنَّ أساسها التجريبي لم يكن أكثر واقعية من ذلك الذي يَمتلكُه الكلْب البري أو قِرد الرُّبَّاح أو الظباء.

ومع ذلك، ففي حالة الإنسان الحكيم (هومو سيبيان)، ارتقى هذا الشكل البسيط من الاعتقاد إلى شيءٍ أكثر تعقيدًا وروعة. في الواقع، قد ارتقى إلى شيءٍ أصبح مِحوريًّا لحضارتنا وعلاقتها بالعالَم، ألا وهو الإيمان المُنظَّم، الذي انبثق من تجربتنا الجماعية. أعطانا هذا الشكل من الاعتقاد الشجاعة والإلهام لعبور آفاقٍ جديدة، والتوسُّع في أراضٍ جديدة، واختبار أفكارٍ جديدة، وتجربة إنشاء مؤسَّسات اجتماعية جديدة والابتكار على المستوى التِّقني، في حين أن حواسَّنا وحدَها ربما كانت ستجعلنا عالِقين في العصر الحجري القديم. يُعرِّف «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية» الاعتقاد بأنه: «القبول بأن شيئًا ما موجود أو صحيح، وخاصة … بدون دليل» (قواميس أكسفورد، ٢٠١٦). لنستعرِض المِثالَين التاليَين على ذلك: الملك ليس أقوى من أيِّ فردٍ آخر، ما لم نختَر أن نُصدِّق أنه كذلك؛ إلا أن اعتقادنا الجمعي هو الذي يمنح الملك سُلطته، والنظام الاجتماعي المُنبثق منه. والقطعة من الذهب، قيمتها الفعلية لا تفوق قيمة قطعة من النحاس، ما لم نختَر أن نُصدِّق أنها أقْيَم. في كِلا المِثالين، لا يُوجَد دليل تجريبي لأيٍّ منهما، بل إنه العقل البشري الذي يُضفي عليهما الصفة «الواقعية» التي نتصرَّف وفقًا لها. لقد نُسِجَت من هذه الروايات البسيطة التوافقية بِنية مُجتمعنا الحديث والشديد التعقيد. السياسة، الدين، نظامنا النقدي، نظامنا الاجتماعي، حُبُّنا وكرهنا وأحكامنا المُسبقة، الحرب والسلام، وفهمنا لقدرة الأرض على تلبية احتياجاتنا، كل هذه الأشياء مبنية على الاعتقاد الإنساني، وفي القليل من الأحيان، على حقائق قابلة للاختبار ولإعادة الاختبار الموضوعي.

بصرف النظر عن حواسِّنا المُعرَّضة للخطأ، فلم ينقل الحقيقة الظاهرية إلى الإيمان سوى العِلم في القرنين أو الثلاثة قرون الماضية، وانظُرُوا إلى أيٍّ مدًى وإلى أيِّ مستوًى ارتقت الإنسانية في فترةٍ قصيرة جدًّا لا تُشكِّل سوى ٠٫٠٣٪ من زمن وجودنا، من خلال إضافة مثل هذه الأدلة المُختبرة التي تطوَّرَت إلى نظرةٍ عالمية مبنية على الإيمان. من المُمكن أنَّ الناس في العصور السابقة كانوا يَعتقدون أنه يُمكن للبعض الطيران (مثل إيكاروس أو السَّحرة أو رجال الإنكا الطائرين)، ولكن احتاج الأمر للعِلم والرياضيات وعِلم المعادن والهندسة ولقاعدة من الأدلة المُختبَرة لنصِل إلى مرحلة الانتقال جوًّا. إنَّ الفرق بين الحضارة الحديثة والحضارة الرومانية قبل ألفَي سنة هو أنَّ إحداهما مُنِحت حقائق أكثر موثوقية حول طبيعة العالَم جعلتها تصِل إلى اعتقاداتٍ أكثر موثوقية عنها؛ ومن ثمَّ إلى تقنياتٍ أفضل للتعامُل معها، وهذا على الرغم من أن كلتيهما كانتا تتمتَّعان بهياكل سياسية ودينية واجتماعية دقيقة. يَكمُن الفرق الرئيسي بين اقتصادات القرن الثامن عشر والقرن الحادي والعشرين في أن اقتصادات الأخير مدعومة بالعِلم وتستنِد إلى حقائق مُختبرة.2 واليوم، في المشروع العِلمي العالمي، قُمنا ببناء مُحرِّك قوي وضخم مُخصَّص لاكتشاف المزيد من الأدلة، التي في الغالِب تتحدَّى، أو حتى تُسقِطُ، رؤيتنا السابقة للعالَم. نُشير إلى هذه الحالة عادةً باسم «التقدُّم».

لقد استكشفنا في هذا الكتاب عشر فئاتٍ رئيسية من المخاطر الحاسِمة لمُستقبل الحضارة ولمستقبل نوعنا. وكل واحد من هذه المخاطر مبني على جبلٍ مُتزايد من الأدلة الموضوعية التي جُمِّعَت على مدى عقود، والتي يُمكن إثباتها جميعًا وإعادة التحقُّق منها بشكلٍ مُستقل. وخلافًا للعديد من جوانب السلوك البشري، لا يُبنى أي من هذه المخاطر الوجودية على الاعتقاد وحدَه، إذ تستنِد جميعها على أشياء يُمكن قياسها والتحقُّق منها بشكلٍ مُستقل. وعلى الرغم من ذلك، تؤثر عادة الاعتقاد القوية بشكلٍ هائل على سلوك الإنسان وسياسته الإنسانية لدرجة أنَّ العديد من الناس لا يزالون يَثقُون بها أكثر ممَّا يثقون بالأدلَّة المتراكمة والواضحة أمام أعيُنهم (هذا إذا كانوا، في الواقع، على درايةٍ بتفاصيل تلك الأدلة).

من الممكن تمامًا من خلال الوثوق الشديد بأشياء غير مُثبتة وغير قابلة للإثبات في هذا المنعطف التاريخي، أن نفشل في إعطاء القيمة المناسبة للأدلَّة الأكثر موثوقية المُتعلقة بالمخاطر التي نواجهها كنوع. ومن ثمَّ يُمكن أن نفشل، كنوع، في فَهم المخاطر الواضحة والحاضرة التي تُحيط بنا. وبهذه الطريقة، سيُصبح الاعتقاد — العملية العقلية التي بُنيت عليها الكثير من الهيمنة البشرية الرائعة — الذي يجِب أن يَحمينا ويُساعدنا على النهوض، نقطة الضعف والخطأ القاتل الذي سيُهلكُنا. وهذا ليس لأن معتقداتنا «خاطئة»، بل فقط لأنها تُزوِّدُنا بمعرفةٍ وفَهمٍ غير كاملَين لوضْعنا، وفي عالَم مُكتظٍّ وملوَّث وموارده مُستنزَفة وأنظمته الطبيعية الرئيسية على شفا الانهيار، قد لا تُوفِّر هذه المُعتقدات إطارًا موثوقًا به بما يكفي لتقييم وضمان مُستقبلنا.

والعامل الآخر الأساسي هو أن مُعظم المعتقدات الإنسانية — وخاصة معتقدات كبار السن — تقوم على نظرةٍ تاريخية للعالَم، وللسكان، وعلى حجم مطالبنا المادية بناءً على الوضع الذي كان قائمًا قبل عدَّة عقود عندما كانوا شبابًا. أصبحت أعداد البشر في الآونة الأخيرة ضخمة جدًّا لدرجة أنَّ معظم الناس لم يُدركوا ببساطة مدى تغيُّر عالمنا بشكلٍ كبير في زمنٍ يقلُّ عن عمر فرد واحد؛ إذ تغيَّر العالَم من عالَم كان على الأرجح مُستدامًا، إلى آخَر ليس مُستدامًا على الإطلاق.

في هذا الفصل، سنتناول أربع فئات رئيسية من المُعتقدات التي يمكنها إما مساعدة أو عرقلة السبب وراء بقاء الإنسان. ليست لديَّ أي نية للاستخفاف بأي مُعْتَقَد أو أي شخصٍ مؤمن أو لانتقاده، بل لإبراز كيف يمكن أن يخدُم كلُّ معتقد منها الصالِح الأعظم.

المال

إن العالم الحديث قائم على الاعتقاد في المال، وهي سلعة لم تكن موجودة قبل نحو ٥٠٠٠ سنة، وعلى الأرجح لن تكون موجودةً في المستقبل البعيد. ومع ذلك، فإنَّ مُعظم الناس في الواقع يتصرَّفون كما لو كانت الأموال حقيقية، بدلًا من كونها مجرَّد اعتقادٍ توافقيٍّ أو رباط ثقة بين الناس. كما يقول أندرو بيتي في موقع «إنفستوبيديا»، «إنَّ المال له قيمة فقط لأن الجميع يعرفون أن الجميع سيَقبلُون به كوسيلةٍ للدفع» (بيتي، ٢٠١٥). ومع ذلك، يُكرِّس الكثيرون حياتهم ﻟ «كسب» هذه المادة غير الحقيقية، ويحترمونها كما لو كانت إلهًا من الآلهة (وهو ما كان الوضع عليه بالفعل خلال العصر الروماني).

يُعتبر المال فكرةً حضرية صُنعت من أجل التسهيل والفعالية، فقد كانت مجتمعات الصيد وجمع الثمار والمجتمعات الزراعية تعيش بدونه لعشرات الآلاف من السنين من خلال منح الهدايا أو تبادُل أو مقايضة السلع. كانت تُستخدَم السبائك الفضية الصغيرة في مدن بلاد الرافدين قبل نحو ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، كما وضع الملك البابلي (العراقي) حمورابي في عام ١٧٦٠ قبل الميلاد قانونًا تجاريًّا لتوحيد أسعار الصرْف بين السِّلع المختلفة والديون والعقود والمُمارسات التجارية العادلة. وأنتجت سلالة زو الصينية الحاكمة أول عملة معدنية في عام ١٠٠٠ قبل الميلاد، تلتْها مملكة ليديا، في تركيا، في عام ٦٠٠ قبل الميلاد (تاريخ المال، كما نشر موقع ويكيبيديا في عام ٢٠١٥). أما في عالم اليوم الإلكتروني المربوط بالإنترنت، فيُعتقَد أن حوالي من ٩٠ إلى ٩٥٪ من عُملة العالَم موجودة فقط في شكلٍ رقمي (جرابيانوسكي، ٢٠١٥؛ سوامي، ٢٠١٥)، أي مجرد إلكترونات — وليس حتى في شكل ذرَّات «صلبة» — في حواسيب النظام المصرفي ونظام التبادُل الدولي. يمكن لعاصفةٍ شمسية ضخمة بما يكفي، على غرار ما حدث في عام ٢٠١٢ و١٨٥٩ (أنطوني، ٢٠١٤)، أن تتسبَّب في انهيار شبكات الطاقة في العالَم وتحرق أجهزة الكمبيوتر بموجة صدمةٍ مغناطيسية واسعة النطاق، وهو، كما يَفترض العلماء، ما سيتسبَّب بدوره في اختفاء معظم أموالنا — أو سجلَّاتها على الأقل — في شيءٍ تقلُّ أهميته عن سحابةٍ من الدخان. لا شك في أن البورصة سيُعاد إنشاؤها، ولكن لفترةٍ من الوقت ستعمُّ الفوضى المُطلقة. ومع ذلك، وعلى الرغم من رَوع مثل هذا الحدث، إلا أنه على الأرجح ليس حدثًا يُهدِّد الحضارة أو النوع، وهذا على الرغم من أنه قد يكون مُزعجًا بشكلٍ هائل وقد يؤدِّي إلى آثارٍ جانبية أُخرى مثل الذُّعر الغذائي والمجاعات وتفشِّي الأمراض وأزمات الطاقة وفشَل الحكومات.

يتمثَّل الخطر الحقيقي على البشرية من المال في حقيقة أنه، كونه وليد الخيال البشري، فهو من الناحية النظرية، مُطلَق وغير محدود. ومع ذلك، فهو يُستخدَم لشراء أو استنفاد أو تلويث أو تدمير الأشياء المحدودة، مثل التربة والمياه والغابات والأسماك والحياة البرية وبعض المعادن ومصادر الطاقة ومناخ الأرض.

قبل قرن، أو حتى نصف قرن، لم يكن هذا أمرًا مهمًّا. فقد كان من الممكن لعدد سكان العالم الذي كان أقل بكثير، وللحياة الأكثر بساطة التي كانوا يعيشونها أن يتخيَّلوا كل ما يرغبونه من المال الوفير لتلبية احتياجاتهم. ولكن عندما أصبح خيالهم جامحًا بعض الشيء، مزَّقت المخاطر البادية النسيج الرقيق للإجماع العام حول قيمة الأشياء، وهو ما تلاه إجراءات تصحيحية، مثل انفجار كلٍّ من الفقَّاعتين الاقتصاديتين اللتين تُعرفان باسم فقاعة «هوس التوليب» (وود، ٢٠٠٦)، وفقاعة شركة البحر الجنوبي الإنجليزية (موسوعة بريتانيكا)، وانهيار بورصة وول ستريت، وعملت الأزمة المالية العالمية على إعادة الأموال وغيرها من الأغراض الثمينة إلى المستوى الذي يتماشى مع فهم الجمهور لقيمتها الحقيقية. وصفت مجلة «إيكونوميست» الأزمة المالية العالمية كما يلي:

من الواضح أنه كان للأزمة [المالية العالمية] أسباب متعدِّدة، أكثرها وضوحًا، هو المُمولون أنفسهم، وخاصة النوع الأنجلو-ساكسوني الطائش، الذين ادَّعوا أنهم وجدوا طريقةً للتخلُّص من المخاطر، في حين أنهم في الواقع وببساطة فقدوا إحساسهم بها. وكذا يتحمَّل المصرفيُّون المركزيون والجهات الرقابية الأخرى اللَّوم أيضًا؛ لأنهم هم من سمحوا بهذه الحماقات؛ كما كانت الخلفية الاقتصادية الكلية مُهمة أيضًا. إن سنوات «الاعتدال العظيم» — التضخُّم المُنخفِض والنمو المُستقر — عزَّزت كلًّا من الشعور بالرضا عن النفس والرغبة في المُجازفة. وأدَّت «وفرة المُدَّخرات» في آسيا إلى انخفاض أسعار الفائدة العالمية. كما تُشير بعض الأبحاث إلى تورُّط البنوك الأوروبية، التي اقترضَت بجشعٍ في أسواق المال الأمريكية قبل الأزمة واستَخدمَت الأموال لشراء أوراقٍ مالية خادعة. اجتمعَت كل هذه العوامل معًا وعزَّزت زيادة الدَّين فيما بدا أنه قد أصبح عالمًا أقلَّ مُخاطرة. (مجلة «إيكونوميست»، ٢٠١٣)

كما تقول مجلة «إيكونوميست»، بدأت الأزمة المالية العالمية ﺑ «فيضان من الإقراض العقاري غير المسئول في أمريكا.» ببساطة، قامت البنوك والمُقرضون بصنع الأموال من العدم لإقراض مُشتري المساكن الذين لم يتمكَّنُوا وقتها من سداد «ديونهم»، خاصة عندما بدأت أسعار المساكن في الانخفاض. ثم جُمِّعَت هذه القروض عديمة القيمة (المبنية على أموال وهمية) في مشتقَّات وبيعت إلى أشخاصٍ لم يعرفوا ما الذي كانوا يشترونه، وعندما تضاءلت الثقة في قيمتها، أطلق ذلك العنان لسلسلةٍ من الإخفاقات المتتالية. ومن المفارقة أن الأزمة قد حلَّت تدريجيًّا على يد نظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بفعل الشيء نفسه إلى حدٍّ كبير؛ إذ صنع فيضانًا من الأموال الجديدة من العدم أيضًا لترسيخ الثقة التي كانت قد تداعت وإنقاذ البنوك، وإلباس هذا الاحتيال المالي ثوب المُصطلح الأنيق الذي يُعرَف باسم «التيسير الكمي». و«استحدثت» هيئات النقد الأمريكية ٣٫٥ تريليون دولار أمريكي إضافي من العدَم بهذه الطريقة، كما أفاد موقع «نيوز ليمتد»: «إذن، قد شُكِّلت اﻟ ٣٫٥ تريليون دولار أمريكي التي ضخَّتها الحكومة في الاقتصاد من العدم. ولكن ذلك المال لم يذهب إلى جيوب المُستهلكين العاديين فحسْب، فقد استُخدِم لشراء ديون الصناعة المصرفية. وذهبت الأموال إلى احتياطيات البنوك ممَّا عزَّز البنوك ومنحَها الثقة لإعطاء القروض، وهو ما سمح للاقتصاد بالتقدم ببطء. كان الخيار البديل هو السماح للبنوك بالانهيار مما قد يُؤدِّي إلى الانكماش، والذي يُعدُّ في الأساس انكماشًا اقتصاديًّا» (نيوز ليمتد، ٢٠١٤). ومن ثم استُخدمت الأموال المُستحدَثة لإلغاء الدَّين الخيالي الناتج عن الأموال الخيالية، لذا لا عجَبَ أنَّ الشعب كان مرتبكًا حول كيفية حدوث هذا الأمر برمته.

فيما يتعلَّق بالقضايا التي تتحدَّى بقاء الحضارة، وربما النوع البشري أيضًا، فإن أحد أهم هذه القضايا هو حقيقة أنَّ المال — على الرغم من الجهود الحثيثة التي تبذُلها البنوك المركزية للسيطرة على إمداده — غير محدود من الناحية النظرية، في حين أنه غالبًا ما يُستخدَم لاستخراج أو استغلال أو إتلاف الأشياء المحدودة، مثل التُّربة والماء والهواء والطاقة والمعادن والأسمدة والحياة البرية والأخشاب. إن هذا التعارُض بين القوة الشرائية اللامحدودة نظريًّا والمحدودية المُتزايدة لعرْض السلع المادية، الناجم عن الزيادة السكانية والطلب غير المقيد، هو المسئول عن الضرر الذي تُلحقه الأنشطة الاقتصادية البشرية الآن بالنظم الطبيعية لكوكب الأرض، مثل المناخ والمحيط الحيوي وصحتنا. المال هو الوسيلة التي يضغط بها طلب هذه الأعداد الغفيرة من البشر على الأنماط المعيشية الأفضل على كوكبٍ محدود. يُرسِل المال الإشارات التي تدفعنا إلى الإفراط في الاستخدام والاستغلال والتلوث.

يجادل الاقتصاديون التقليديون بأن الندرة تؤدي إلى رفع أسعار السلع النادرة؛ ومن ثمَّ ترشيد استهلاكها وخلق بدائل أخرى، ولكن أحد نقاط ضعف الاقتصاد هو ميله إلى «تنحية» (عدم تفسير أو تجاهل) التكاليف الحقيقية لأشياء مثل تدهور التربة، وتلوث الهواء والماء، وفقدان الأنواع، وتدهور المساحات الطبيعية، وانقراض مناخ العصر الهولوسيني الحديث، والحرب، وتدفق اللاجئين، والأوبئة، وتسميم الأجيال الشابة القادمة من البشر. يُنحِّي الاقتصاد هذه الأشياء ببساطة جانبًا، كما لو كانت غير موجودة. إلا أن كل هذه المخاطر، في جوهرها، مدفوعة بإشارات نقدية. يُعتبر المثال التقليدي على «التنحية» هو «تراجيديا المشاع»، حيث تُشكِّل المطالب البشرية غير المحدودة عبئًا كبيرًا على مساحة محدودة ومشتركة من الأرض (أو المياه) ويَنتهي بها الأمر إلى تدميرها، وهو حدَث يَعتبِر الكثير من المُعلِّقين أنه يحدث الآن على مستوى الكوكب. ويُحذِّر كلٌّ من داسجوبتا وإيرليش من أن تصحيح هذه الأحداث صعبٌ بصورة استثنائية، وهذا لأنَّ السوق يفشل في تصحيحها ذاتيًّا (داسجوبتا وإيرليش، ٢٠١٣). فنحن نُنفق، ولكنَّنا لا نحسب التكاليف.

تكمُن المفارقة في أننا نحن البشر كائنات شديدة التنافسية، وفي الوقت نفسه شديدة التعاون؛ وكلا الجانبين أساسي لوجودنا. وفي الواقع، لا يتحقَّق أي شيء تقريبًا، بما في ذلك المنافسة، بدون تعاون. ربما يرجع بقاؤنا وهَيْمنتنا الأولى بصورة أكبر إلى طبيعتنا التعاونية أكثر مما يعود إلى طابعنا التنافسي. ومع ذلك، في المائتي سنة الماضية، ومع صعود المال كعامل مسيطر في المجتمعات (التي كانت غير نقدية في السابق إلى حدٍّ كبير)، أصبح العنصر التنافسي هو السائد، وهو العامل الرئيسي المحرك بالفعل في الوقت الحاضر في الاقتصاد العالمي، بما في ذلك أكبر اللاعبين؛ ألا وهما الولايات المتحدة والصين. وكما رأينا، يُؤدِّي هذا إلى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في جميع المجتمعات، وهو ما يُمكن أن يقوِّض التعاون اللازم لبقائنا الجماعي. لذلك فمِن الأهمية القصوى أن نعمل نحن البشر على إعادة توازُن سلوكياتنا ومُعتقداتنا، ما بين التنافُس والتعاون؛ وهو ما سنَتناول كيفية تحقيقه في الفصل التالي.

ومن ثمَّ فالاعتقاد الشائع بأن «المال هو الهدف الرئيسي في الحياة» يقِف عقبةً بين الإنسانية وقُدرتنا على التعامُل مع التهديدات الفعلية لوجودنا المستقبلي والتغلُّب عليها. وطالما أن الإشارات النقدية تُوجِّهنا إلى الإفراط في استغلال المكان الذي نعيش فيه وتدميره وتخريبه والتنافس معه وإلحاق الأضرار به، فسيكون من الصعب للغاية وضع أنظمة أخرى تحفظ وتَحمي وتُعيد ما فُقِدَ وتُعيد تدوير واستخدام الموارد. تُخبرنا الفطرة السليمة والحكمة بحماية الأرض التي نعيش عليها والحفاظ عليها، وعلى مُستقبلنا كنوع، بينما يقودنا المال، والنظرة قصيرة المدى إلى العكس. باختصار، يُعتبر إيمان الإنسانية الحديثة بالمال أقوى من غريزة الحفاظ على الذات، وهذا أمر مقلق.

من السهل جدًّا رفض ذلك باعتباره «جشعًا» أو إلقاء اللوم على «الرأسمالية» كما يفعل البعض، في حين أن إلقاء اللوم، والجدَل حول الفلسفات السياسية والاقتصادية لم يُوفِّر حلولًا دائمة لمُعظم المشكلات البشرية في الماضي. وبالمِثل، فإن إلغاء المال أو نظامنا النقدي لن يحلَّ أي شيء، حتى ولو كان المجتمع يَميل إلى القيام بذلك، وهو حتى الآن لا يَميل لذلك. تؤيد ناعومي كلاين في كتابها «هذا يغير كل شيء: الرأسمالية مقابل المناخ» (كلاين، ٢٠١٤) اتباع نهجٍ بديل وواعٍ يقوم على إيلاء الأولوية للمناخ قبل المال. وتقول إنَّ تغير المناخ «إذا تمَّ التعامُل معه على أنه حالة طوارئ كوكبية حقيقية.» يُمكن أن «يُصبح قوة دافعة للبشرية، وهو ما سيجعلنا جميعًا ليس أكثر أمانًا من الطقس القاسي فحسب، بل سيُتيح لنا مُجتمعات أكثر أمانًا وعدلًا بكل الأشكال والطرُق الأخرى.» حسنًا، هذا مُمكن، ولكن ما هي فرص تحقيق ذلك إذا استمرَّت الإشارات النقدية العالمية الكبيرة وحُب المجتمع للمال في توجيهنا إلى الاتجاه المعاكس؟ وماذا عن التهديدات الوجودية التسعة الأخرى؟

يقدم الأكاديمي الأمريكي جيفري ساكس منظورًا مختلفًا قليلًا يدعو فيه لإعادة الاتصال بين نظامنا الاقتصادي وحاجتنا الأساسية للبقاء ويقول: «لقد أدخلنا أنفسنا بشكلٍ أعمى في كارثة بفصلِنا بين الطبيعة والاقتصاد» (ساكس، ٢٠١٥ب). ويُضيف:

لقد دخلنا عصرًا جديدًا من التنمية المُستدامة سواء أحبَبْنا ذلك أو اعترفنا به على نطاقٍ واسع أم لا. كما قال عالِم الأحياء العظيم إي أوه ويلسون، لقد دخلْنا القرن الحادي والعشرين بخُطًى متعثِّرة حامِلين معنا مشاعر العصر الحجري، ومؤسسات القرون الوسطى، وتقنيات حديثة شِبه إلهية. باختصار، نحن لسْنا مُستعدِّين بعد للعالَم الذي خلقناه. ستكون أهداف التنمية المستدامة فرصةً جوهرية لمنح أنفسنا علاماتٍ وإجراءات إرشادية جديدة لقياس مستويات الازدهار والعدالة والسلامة البيئية في عالمنا الخطير غير المستقر سريع الحركة والتغيُّر.

يطرح «الفريق الدولي المعني بالموارد» (المذكور في الفصل الثالث) وجهة نظر ثالثة يُؤيد فيها «إزالة الطابع المادي» للاقتصاد العالَمي، أي أنَّنا بحاجةٍ إلى بناء اقتصاد أقلَّ اعتمادًا على الأشياء المادية في نموِّه. اقتصاد يَستخدِم طاقةً أقل، ومعادن أقل، وأخشابًا، وحيواناتٍ برية، وتربة، وخرسانة أقلَّ لتحقيق النمو؛ ويخلق المزيد من نموه وعمله من منتجات العقل والخيال البشري ونزعته الإبداعية (الفريق الدولي المعني بالموارد، ٢٠١١). بادئ ذي بدء، يمكن تحقيق ذلك من خلال المسار البسيط والجذَّاب اقتصاديًّا الخاص بتحسين كفاءة الإنتاج في كلٍّ من الزراعة وإنتاج المعادن واستخدام الطاقة والتصنيع والنقل والبناء. عندما يُنَفَّذُ ذلك على أكمل وجه، يُصبح الهدف بعد ذلك تحويل الاقتصاد إلى نظامٍ تُبنى فيه «الثروة» على أساسٍ من المعرفة والإبداع، بدلًا من الأصول والمُنتَجات المادية.

من المنطقي بلا شكٍّ أن نستثمر المخزون اللانهائي نظريًّا من «الثروة» في سلعةٍ لا نهائية مثله — ألا وهي المعرفة والخيال البشري — بدلًا من استخدام تلك الثروة في استنزاف وتدمير الأشياء المحدودة التي نحتاجها من أجل البقاء. ونَفصل بين «المال» والسلع المادية ونوظفه في العمل على «اقتصاد العقل»: العلوم والفلسفة والفن والأدب والترفيه والمعلومات والبرامج والتصميم والتكنولوجيا والرياضة والأزياء والمأكولات والصحة ورعاية رفقائنا من البشر. يُمكن تنفيذ كل ذلك بمُدخلاتٍ مادية مُتواضِعة، يكون معظمها قابلًا لإعادة تدويره أو تجديده من خلال «الاقتصاد الدائري».

مع أداء الروبوتات لمُعظم المهام القذِرة والمُملة والشاقة في الاقتصاد المادي بحلول منتصَف القرن الحادي والعشرين، ستُصبح فرصة الفصل بين الاقتصادات المادية وغير المادية أكبر، وهذا كي نركز معظم نموِّنا وازدهارنا وعملنا في الاقتصاد غير المادي وليس العكس. لن تُصبح الحجة القديمة القائلة بأنه «علينا قطع الغابات لحماية الوظائف الحرجية» هي الأعلى صوتًا بعد ذلك، وهذا لأنَّ مُعظَم الوظائف ستكون في الاقتصاد غير المادي. وبما أننا ما زلنا بحاجةٍ إلى تبادل السلع المادية وتحفيز إعادة معالجتها وإعادة استخدامها، فقد يكون من المناسب تطوير «عملة» ثانية، ولكنَّها ذات مخزون وقيمة ثابتة، ومُحصَّنة ضدَّ الاختلالات التي يُحدثها المضاربون الضعفاء والمُقامرون في البنوك وغرف التداول والأقسام المَعنية بالقروض الخادعة في العالم. إنه نظام نَقدي محدود لعالَم محدود. المفتاح هو خلق عملة مِعيارية للكوكب ككل (لا تَختلف عن معيار الذهب القديم) تَعكِس الندرة الحقيقية للموارد المادية وتُعطينا إشارةً عندما تُصبح تلك الموارد شحيحة بصورةٍ تُنذر بالخطر، ومن ثم تُساعد في تخصيصها على نحوٍ أفضل. ستقترح العقول الحكيمة حلولًا أخرى للتحدي المالي الذي يُواجهنا، أما هذا فهو مجرَّد مُساهمة في النقاش الذي يتعيَّن علينا خَوضُه.

ومع ذلك، فالشيء الأساسي الذي يَنبغي أن نفهمه بصورةٍ قاطعة هو أنه يجِب ألا نسمح لسلعتنا الرائعة والخادعة، ألا وهي المال، بتضليلنا لتحويل الأرض الحقيقية إلى كومةٍ ساخنة وسامة من الخبَث غير قابلة للعيش فيها.

السياسة

تَجَادَل البشر لأكثر من ثلاثة آلاف عام حول السياسة (ما يُعرف في اللغة اليونانية القديمة باسم «شئون المدينة») وهياكل الحوكمة. وطُبِّقت الملكية، والثيوقراطية (الحكم الديني)، والأوليجاركية (حكم الأقلية من الأغنياء)، والتيموقراطية (مدينة الغَلَبَة)، والحكم الاستبدادي، والإقطاعي، والديمقراطية، والجمهوريانية، والديمقراطية البرلمانية، والاشتراكية، والرأسمالية، والماركسية، والعسكرة، والفاشية، والتخطيط المركزي، والليبرتارية (التحرُّرية) وغيرها من أشكال الحُكم باعتبارها الطريقة المُثلى لإدارة المجتمع، ولقيَ عشرات الملايين من البشر حتفهم بلا طائل في محاولة لإثبات تفوُّق إحدى تلك النظريات على الأخرى.

قبل ٢٤٠٠ سنة، كان أفلاطون يميل إلى فكرة المُستبد المُحب للحكمة، هذا إن استطعنا إيجاده:

لن تكون هناك نهاية لمشكلات الحُكم، أو في الواقع، لمشكلات الإنسانية نفسها يا عزيزي جلوكون، حتى يُصبح الفلاسفة ملوكًا في هذا العالَم؛ أو حتى يُصبح من نُسمِّيهم الآن بالملوك والحكام فعلًا فلاسفة بحق؛ ومن ثمَّ تُصبح السلطة السياسية والفلسفة في القبضة نفسها. (أفلاطون، حوالي عام ٣٦٠ق.م.)

وبعد آلاف السنين، انتقد ونستون تشرشل الذي كان قد مُنِيَ بهزيمةٍ انتخابية، أحد البدائل السياسية الرئيسية قائلًا: «إن الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم، باستثناء جميع أشكال الحكم الأخرى التي جُربت بين وقتٍ وآخر» (تشرشل، ١٩٤٧). فإذا كان هناك نقص في الملوك الفلاسفة، وكانت الأنظمة الاستبدادية الحالية مهووسة ببناء ثروتها وقوتها وهيبتها أكثر من اهتمامها بإنقاذ البشرية، وإذا لم تَعُد الديمقراطيات الحالية قادرة على حسْم أمرها حول أي شيء ذي أهمية حقيقية لمُستقبلها البعيد أو لنوعها، فمن أين ستأتي الحكمة للحفاظ على بقاء الإنسان؟

لن تأتيَ من السياسة على الأرجح، ولا حتى من الديمقراطية في ثوبها الحالي. لقد سلَّط التحليل المُخيف للراحل بيتر مير في كتابه «حكم الفراغ: تفريغ الديمقراطية الغربية» الضوء على خيبة الأمل التي تتسلَّل إلى الديمقراطية الغربية، وذكر فيه: «لقد مرَّ عصر الديمقراطية الحزبية. فعلى الرغم من أن الأحزاب نفسها ما زالت موجودة، إلا أنها قد أصبحت مُنفصلة تمامًا عن المجتمع ككل، وتسعى إلى شكلٍ من أشكال المنافسة الذي يَفتقر إلى المعنى افتقارًا كبيرًا، لدرجة أنها لم تعُد تبدو قادرة على الحفاظ على الديمقراطية بشكلها الحالي» (مير، ٢٠١٤). ونتيجة لذلك، فنسبة المشاركة الانتخابية في انخفاض، وتتراجع نسبة العضويات في الأحزاب الرئيسية، أما أولئك الذين ما زالوا موالين مُخلصين لحزبٍ بعينه، فقد فقدوا حماسهم وانسحبوا عائدين إلى الرأي الواحد. ومن ثمَّ فالتطرُّف في ازدياد مرة أخرى.

أحد أسباب ذلك هو أن جميع الحكومات الوطنية، سواء كانت ديمقراطية أو استبدادية، تَفقد ببطءٍ ولكن بثباتٍ سُلطتَها على اقتصاداتها وشئونها السياسية، مع التزايُد المُلحِّ لمطالب عالَمٍ يزداد عولمة. تكتسب الاتفاقيات والمُعاهَدات الدولية والهيئات فوق الوطنية مثل مجموعة الثمانية ومجموعة العشرين والاتحاد الأوروبي ومنظَّمة التعاون الاقتصادي والتنمية ورابطة دول جنوب شرق آسيا (أسيان) ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والأمم المتحدة ومنظَّمة الصحة العالمية نفوذًا، في حين تبدو الحكومات الوطنية غير مؤهَّلة بشكلٍ واضح، أو غير مُهتمَّة، للتعامُل مع تحدياتٍ تَحدُث على مستوى الكوكب مثل تغير المناخ وندرة الموارد وانقراض الأنواع وتسمُّم السكان والتسمُّم العالمي. وفي ظلِّ نزيف السلطة هذا، يُقاد السياسيون الوطنيون الذين يسعون لتحقيق النجاح الانتخابي بشكلٍ مُتزايد إلى الكذِب أو المُبالغة حول ما يُمكنهم تحقيقه فِعليًّا لناخبيهم. ونتيجة لذلك، يُصبح الناخبون أكثر تشكُّكًا وانفصالًا.

في الوقت نفسه، تتركَّز القوة الاقتصادية العالمية في أيدي الشركات العالمية التي تبرَع في تجنُّب سداد الضرائب — ومن ثمَّ تَستنزف دماء الحكومات — أو تجنُّب اللوائح التي لا تروق لها. وكقاعدةٍ عامة، تُظهر تلك الشركات اهتمامًا محدودًا بالمسائل المُتعلِّقة ببقاء الإنسان. وقد أشار منتدى السياسة العالمية إلى أنَّ «من بين أكبر مائة اقتصادٍ في العالَم، هناك الآن ٥١ شركة عالمية؛ و٤٩ دولة فقط. تُعتبر شركة وول مارت، التي تحتل المرتبة الثانية عشرة بين الشركات، أكبر من ١٦١ دولة، بما في ذلك إسرائيل وبولندا واليونان. أما ميتسوبيشي فهي أكبر من رابع أكبر دولة على وجه الأرض من حيث عدد السكان، ألا وهي أندونيسيا. أما شركة جنرال موتورز فهي أكبر من دولة الدنمارك؛ وفورد أكبر من جنوب أفريقيا؛ وتويوتا أكبر من النرويج.» (أندرسون وكافانا، ٢٠٠٠). كما أضاف المنتدى أن المائتَي شركة الأكبر يتمتَّعون بقوةٍ اقتصادية أكبر من القاعدة الأدنى التي تشكل ٨٠٪ من البشرية.3

لا تُعتبر أيٌّ من هذه الشركات العملاقة كيانًا ديموقراطيًّا، فكل واحدةٍ منها كيان استبدادي نشِط، يعمل وَفق نموذج قيادة وسيطرة وتوجيه من الأعلى إلى الأسفل. قد تَعترف بعض الشركات بذلك — اللهجة المُستخدَمة فيها هي المسئولية الاجتماعية للشركات — ولكن لا تتواجد منها على أرض الواقع لخدمة «الصالح العام». تُكرِّس كل الشركات نفسها بصورة أكبر للسعي وراء الدولار غير المؤثر أكثر من اهتمامها بالحفاظ على الحضارة. لا يُدير «الملوك الفلاسفة» الذين يُقدِّرون الحِكمة سوى القليل منها، ولكن مُعظمها يُدار بشكلٍ رئيسي من قبل الأفراد المدفوعين بالرواتب الضخمة والأسهم والمكافآت وهو ما يقودهم في مُعظم الأحيان إلى سلوكٍ غير حكيم وقصير الأجل لا يرى أبعدَ من ضمان دفع الإيجار (انظر الفصل الخامس). تعمل القوة المشتركة لهذه الشركات العابرة للحدود البالغ عددها ٤٠ ألف شركة على إعاقة الحكومات الوطنية، ليس باستنزاف عائداتها فحسْب، بل وكذا تقويض سُلطتها القانونية وثقة الشعب فيها وحرية تصرُّفها وقُدرتها على تقرير ما يحدُث داخل نطاق حدودها والالتزام به. والنتيجة المنطقية لهذه العملية هي أنه بحلول منتصف القرن، ستجد معظم الحكومات — وخاصة الديمقراطية منها — نفسها مغلولة اليدين بشكلٍ مُتزايد، وفاقدة لمصداقيتها، ومُفلسة، وغير قادرة على الحكم، ولا تستطيع أن تقدم لمواطنيها المزايا التي وعدتهم بها عندما انتُخِبَت. ستنشأ مدن ضخمة مرتبطة عالميًّا ككيانات حكومية أكثر فعالية، وستكون معظمها أقدر بكثيرٍ على تقديم خدمات مثل المدارس والمستشفيات والطرُق والطاقة والمياه النظيفة والمرافق التي تنهض بحياة مواطنيها. وبذلك، فمع تركُّز السلطة على المُستويين العالمي والمحلي، قد يشهد القرن الحادي والعشرون تفريغ الدولة القومية كبناء سياسي، هذا وإن لم يكن زوالها الفعلي (انظر على سبيل المثال، خانا ٢٠١٣). ولتذهب غير مأسوفٍ عليها، وهذا لأن الحكومات الوطنية والنزعة القومية هي أسباب جَليَّة لمُعظم الحروب، وهم المدافعون الرئيسيون عن أسلحة الدمار الشامل. إذا شاء القدَر أن تُدَمَّر الإنسانية، فسيكون ذلك على يد الأمم.

إنَّ الخطر الذي يفرِضه هذا الوضع الناشيء على مُستقبل الإنسان هو أن الكثير من الناس سيظلُّون مُشتَّتين بوهم أنَّ شكلًا ما من أشكال الدولة أو البنية السياسية أو الأيديولوجية هو ما سيقدِّم الحل السِّحري للتهديدات الوجودية التي تواجهنا. ولكن هذا غير حقيقي؛ فلا تُمثل أي واحدةٍ منها حلًّا. فلن تُنقذ الماركسية أو الرأسمالية، أو ديمقراطية وستمنستر أو الحكم الاستبدادي، أو التجارة الحرة أو سياسة الحماية، أو الليبرالية أو النزعة المحافظة الجنس البشري، فكل هذه أفكار ترجع إلى القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، وهي أفكار قد فقَدَت جدواها وابتلعتْها موجات الزيادة الهائلة في أعداد البشر ومُتطلباتهم. في المستقبل، سيَعتمد البقاء والازدهار على تعاون البشر والمدن في جميع أنحاء العالَم من أجل تحقيق مصلحتنا الجماعية. إذا سمحْنا لأنفسنا أن يُشتِّتنا الجدل البالي حول «المذاهب السياسية»، وأن تُقسِّمنا الأيديولوجيات القديمة، فإنَّ الخطر يكمُن في أننا — على غرار الطيارين الكنديين — سنُحلِّق أعلى وأعلى حتى نصطدم بوادٍ شديد الانحدار، وسنثق في الوهم المُستمر بأن السياسة وطقوسها ستنقذنا، مُعمَّيِين عن الجدران الصلبة للواقع التي تُضيِّق خناقها علينا.

لا بدَّ أن يُصبح بقاء الحضارة والنوع البشري هو الطموح الجوهري لكل مُعتقَد سياسي ونظام وحزب ومُمثل له، لا بدَّ أن يكون هذا هو هدفهم السياسي الأول. بدون وجود مثل هذا الإجماع، فلن تكون السياسة سوى إلهاءٍ خطير. بيد أن السياسة لن تتغيَّر إلا إذا أجبرناها، نحن الشعوب، على إعادة التركيز على ما هو أكثر أهمية لمُستقبلنا. في القرن الحادي والعشرين، لا يستحق الحزب السياسي الذي لا يضع بقاء الإنسان كحجَرٍ أساسي في برنامجه السياسي حتى صوتًا واحدًا. هذا هو واجبنا المُخلص كناخبين أو كمُناصِرين حزبيِّين.

وفي الوقت نفسه، ستحتاج الشركات العابرة للحدود الوطنية — وهي القوى العظمى الاقتصادية الجديدة — إلى التوقُّف عن مكافأة مديريها التنفيذيين على تدمير الكوكب على أساس أن تدمير الكوكب أمر سيئ بالنسبة للأعمال والربح، إن لم يكن هناك أسباب أخرى. وسيُوضِّح الفصل التالي كيف يُمكنهم أن يفعلوا ذلك.

الدِّين

منذ شامانية العصر الحجري، كان المُعتقَد الديني هو البناء الأساسي الذي أسَّست عليه البشرية رؤيتها للعالَم، وقوانينها الأخلاقية ونظامها الاجتماعي. ومثل جميع أشكال المُعتقدات التي نَعتمد عليها، يوفِّر الإيمان طريقةً للتفسير والتعامُل مع عالَم لا نعرفه أو نفهمه بشكلٍ كامل، ولكن مع ذلك، يجِب علينا التعامل معه واستكشافه. ومن المُحتمل أن تهيمن قوة الإيمان ونفوذه على الشئون الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، تمامًا كما كان الوضع في الماضي.

أظهر استطلاع للرأي حول العالَم شمل ٥٠ ألف شخص في عام ٢٠١٢ أن ٥٩٪ من المشاكرين لديهم مُعتقَد ديني و٣٦٪ ليس لديهم (وين-مؤسسة جالوب الدولية، ٢٠١٢). ولاحظ انخفاض التديُّن بنسبة ٩٪ خلال السنوات السبع الماضية. يتوقَّع «مركز بيو للأبحاث» أنه بحلول عام ٢٠٥٠ سيكون لدى الدِّيانتَين الأكبر، المسيحية والإسلام، ٢٫٩ مليار و٢٫٨ مليار تابع على التوالي، وللهندوسية ١٫٤ مليار تابع (مركز بيو للأبحاث، ٢٠١٥). وأشارت إلى أن النمو الديني سيَعتمِد بشكلٍ رئيسي على المكان الذي ستحدُث فيه أعلى مُعدَّلات من المواليد.

لقد أثبت المُعتقد الديني أنه يُشكل إحدى نقاط القوة العظيمة وأحيانًا إحدى نقاط الضعف القاتلة للبشر. تميل العديد من الأديان في الوقت الذي تُؤكِّد فيه صِدقها، إلى عادة إنكار صِدق الأديان الأخرى، وعادةً ما ينتهي هذا الأمر بمأساة. فبين عامَي ١٦١٨ و١٦٤٨ على سبيل المثال، غرقت أوروبا في واحدةٍ من أكثر الصراعات الطائفية دمويةً ووحشية في تاريخها، بين الدول الكاثوليكية والبروتستانتية للإمبراطورية الرومانية المُقدَّسة المُفكَّكة. وهو ما قد نتج عنه حدوث مجاعاتٍ وانتشار الأوبئة ومقتل ٧٫٥ مليون شخص وإفلاس العديد من البلدان وأعمال مُشينة مثل «نهب ماجديبورج» («نيكرومتريكس»، ٢٠١٢). كما أشعل أصحاب الرُّؤى الدينية (المسيحية) «تمرُّد تايبينج» في الصين من عام ١٨٥٠ إلى عام ١٨٦٤، والذي كان أكثر دموية، ويُعتقَد أنه أودى بحياة ٢٠ مليون شخص. أما التقدير التقريبي لعدد الأمريكيين الأصليين الذين قُتلوا نتيجة للغزو الأوروبي المدفوع بالدِّين والجشع فهو من ١٧ إلى ٣٠ مليون شخص (موسوعة بريتانيكا، وفقًا لما نُشِرَ فيها في عام ٢٠١٥). بينما أودى الانقسام الطائفي السُّنِّي الشيعي في الإسلام بحياة عدد لا يُحصى من البشر في صراع استمرَّ لِما يَقرُب من أربعة عشر قرنًا (مجلس العلاقات الخارجية، وفقًا لما نُشِرَ فيه في عام ٢٠١٥). بشكلٍ عام، فقد حصدت الصراعات الدينية على الأرجح عددًا أقل إلى حدٍّ ما من الأرواح مُقارنة بالحروب ذات الدوافع السياسية عبر التاريخ؛ غير أن كليهما يُمثِّلان دليلًا قويًّا على ما يحدُث عندما تَصطدم أنظمة المُعتقدات الإنسانية — حتى تلك التي تبدو للغريب أنها لا تعكس سوى اختلافات بسيطة في الإيمان أو العقيدة أو رُؤية العالم.

إن الخطر الذي يُشكله هذا على البشرية التي تواجه تحدياتٍ وجودية كبيرة يُعتبر خطرًا واضحًا، فنحن نُخاطر بقضاء المزيد من الوقت وبذْل المزيد من الطاقة في التنازُع حول تفاصيل ما نؤمن به أكثر مما نفعله في ضمان بقاء أي شخص ليُؤمن بأيِّ شيء.

يُعلمنا تاريخ الدين أنه لا يُوجَد عقيدة تحتكِر الحقيقة، بصرف النظر عن مدى يقين، أو تعصُّب أتباعها. يُعارض كلُّ دينٍ تقريبًا مُعتقَدات كل دينٍ آخر. في الواقع، إذا أجرِيتْ دراسة حول ما يؤمن به كل فرد، فمن المشكوك فيه أن يتشارك أي فردَين — حتى وإن تطابقت أسسهما العقائدية — في المعتقدات نفسها بالضبط، فنظرًا لاختلاف الأدمغة والتجارب الحياتية، يحمِل كل شخصٍ مفهومًا شخصيًّا مُختلفًا قليلًا عن الإله أو الروح أو الآخرة أو الأخلاق، على سبيل المثال. ومع ذلك، فإن هذا التفاوُت لا يُضعِف ولا يُبطل الدين، بل يُقوِّيه على الرغم من تنوُّعه. كما هو الحال مع السياسة، فالمهمَّة الأساسية هي تركيز أديان العالَم، الكبرى والصغرى، على القضية المشتركة الخاصَّة ببقاء الإنسان، وعلى القناعات المشتركة التي تخدمها، بدلًا من التركيز على الفروق العقائدية والخلافات. يقول البروفيسور الألماني هانس كونج، أستاذ المسكونية، الذي يُؤيد فكرة «برلمان الأديان» ويدعو إلى «أخلاقية اقتصادية عالمية»: «لن يُوجد سلام بين الأمم دون وجود سلام بين الأديان. ولن يُوجد سلام بين الأديان دون وجود حوار بين الأديان» (موسر وساندرلاند، ٢٠٠٥). ومع ذلك، فالوحدة بين الأديان لا بدَّ أن تتبنَّى الآن قضايا أوسع بكثيرٍ من الأهداف التقليدية المُتمثلة في السلام العالمي والمُساواة السياسية والاقتصادية. إنَّ من الواجب عليها أن تتبنَّى حقائق نهاية المناخ الذي نهض فيه الإنسان، وانقراض نصف الكائنات الحية في العالَم، واستنزاف موارد العالم وفقْد غاباته ومَراعيه وتُربته، وتسميم أطفاله وهوائه ومائه وطعامه، والمَسيرة العنيدة للتكنولوجيا والأعمال التي لا تحكمها الأخلاق والسلوكيات التي مكَّنت المجتمع الإنساني، غالبًا من خلال الدِّين، من النجاح في الماضي.

وهذا بدوره قد يَستدعي مراجعة بعض البنود العتيقة للمُعتقَدات الدينية، مثل الاعتقاد بأن الإله سيُنقذنا بصرْف النظر عمَّا نفعله، فقط إذا دعوناه نادِمين ومُخلصين بما يكفي. والاعتقاد أن البشر هم «سادة الخلق» المُنَصَّبون على الأرض للتصرُّف فيها كما يرغبون. والاعتقاد بأنه يجب أن يكون لدَينا أكبر عددٍ مُمكن من الأطفال، بصرف النظر عن المخاطر والبؤس الناجم عن الزيادة السكانية. والاعتقاد بأنَّ الإله يُكافئ التقوى بالثروات المادية. كل هذه أمثلة على مُعتقدات سابقة ربما كانت مفيدة فيما مضى، ولكنها أصبحت الآن مؤذية لفُرَص بقائنا في العالَم المُعاصر وفي ضوء الأدلة العلمية حول الخطر الذي نُشكله.

عادةً ما يُصَوَّر عالَما العِلم والدِّين على أن أحدهما يُعارض الآخر، ولكن في الواقع كلاهما مُكوَّن قوي من نظام الاعتقاد الواسع نفسه الذي استخدمه البشر لآلاف السنين للاستكشاف والبقاء والازدهار في عالَم صعب. لم يجد ألبرت أينشتاين، الذي ربما كان يعرِف عن الكون أكثر من أي شخصٍ آخر في عصره، صعوبةً تُذكر في التوفيق بين وجهات نظره كفيزيائي ومُعتقَداته كشخصٍ مؤمن، قائلًا التصريح الشهير: «بدون دين، العِلم شيء مُمل؛ وبدون عِلم، الدين أعمى» (آينشتاين، ١٩٣٩). لقد أسفرت الشراكة بين الإيمان والعِلم عن الإنجازات الهائلة لعصرنا الحالي، وكذا أدَّت إلى ظهور المخاطر الهائلة التي تُحيط بنا الآن. يعمل الإيمان على الخبرة المتراكمة للبشرية وأسلافها التطوريين على مدى عشرات الملايين من السنين حول ما هو جيد وما هو سيئ بالنسبة لنا، وهو ما نَعرفه باسم الأخلاق (هاريس، ٢٠١٣). بينما يعمل العِلم على حقائق مُحايدة يُمكنه اختبارها، ونظريات يُمكنه إثباتها أو إبطال صحَّتها حول الكيفية التي يسير بها العالم. لا يُوفر أيٌّ منهما رؤية استشرافية كاملة وواضحة، فالمُتديِّنون يبحثون عن الإرشاد الإلهي، بينما يستخدِم العلماء النماذج الحاسوبية. ومع ذلك، فمِثل أرجُلنا، يدعم الإنسانية هذان المكونان الأساسيَّان لنظام معتقداتنا حول عالَمنا الآن ويحملاننا إلى الأمام؛ لذا فبتر أحدهما لن يكون تصرُّفًا حكيمًا.

كان التطوُّر الكبير الذي حدث في هذا المجال في الآونة الأخيرة هو الرسالة الباباوية التي أصدرها رئيس الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، البابا فرانسيس في عام ٢٠١٥، «كُن مُسَبَّحًا» التي قال فيها إن الأرض:

تحتجُّ على الأذى الذي نُلحقه بها، بسبب الاستعمال غير المسئول وانتهاك الخيرات التي وضعها الله فيها. لقد نشأنا مُعتقدِين أنها ملْكِيَّةٌ لنا وبأننا المُسيطرون عليها ومباحٌ لنا نهبُها. إن العنف القاطن في القلب الإنساني المجروح بالخطيئة يَظهر أيضًا من خلال أعراض المرض التي نُلاحظها في التربة وفي المياه وفي الهواء وفي الكائنات الحيَّة. لهذا، فمِنْ بين الفقراء الأكثرِ تعرُّضًا للإهمال ولسوء المعاملة، تُوجَد أرضنا المظلومة والمُخرَّبة، التي «تَئِنُّ مِن آلامِ المَخاض» (روم، ٨: ٢٢). ننسى أننا نحن أيضًا تراب (را. تك، ٢: ٧). جسدنا ذاته مُكوَّن من عناصر الأرض، وهواؤها هو الذي نتنسَّمه وماؤها هو الذي يُنعشنا ويُجدِّدنا.

في ربط قوي بين العلم واللاهوت، ندَّد البابا فرانسيس بالتلوُّث العالمي وﺑ «ثقافة الهدر» التي نتَّبِعُها، موضحًا أن «المناخ هو خيرٌ عام، للجميع ومن أجل الجميع. إنه، على مستوى الكون، نظامٌ مُعقَّد ومُتَّصِلٌ بالكثيرِ من المتطلبات الجوهرية للحياة البشرية. وهنالك إجماع عِلمي راسخ جدًّا يُشير إلى أننا نواجه احترارًا مُقلقًا للنظام المناخي.» وحذَّر أيضًا من مخاطر ندرة المياه، وانقراض الأنواع، والأضرار التي لحقت بالمُحيطات، وتدهور جودة الحياة البشرية، وعدم المساواة و«انهيار المجتمع». كما أنه وصف الأسباب قائلًا: «يَسترعي الانتباه ضعف ردِّ الفعل السياسي الدولي. فخضوع السِّياسة للتكنولوجيا وللمالية قد ظهر جليًّا في فشل القمم العالمية حول البيئة.» وختامًا، حث الكاثوليك وغيرهم قائلًا:

ينبغي أن نشعُر مُجدَّدًا بأننا بحاجةٍ بعضنا إلى بعض، وأنه تقع علينا مسئولية تجاه الآخرين وتجاه العالَم، وأنه أمر يستحقُّ العناء أن نكون صالحين وصادِقين … إن هذا التدمير لكل أساس للحياة الاجتماعية سوف يدفعنا للوقوف كلٌّ منَّا ضدَّ الآخر من أجل الدفاع عن المصالح الشخصية، ويتسبَّب بظهور أنواع جديدة من العنف ومن القسوة، ويحُول دون نموِّ ثقافة حقيقية لحماية البيئة. (البابا فرانسيس، ٢٠١٥)

على الرغم من أنَّ الكاثوليك يُشكِّلون بالكاد سدس سكان العالم، فلا شكَّ أن المثال الذي يُقدِّمه البابا، والذي يربط العِلم بالإيمان، قد منح الأديان الرئيسية الأخرى إلهامًا جديدًا. لقد كانت الآراء المشتركة بين أديان العالَم الكبرى حول المناخ على وجه الخصوص تتزايد لبعض الوقت. في عام ٢٠٠٩، قال القادة الهندوس، الذين يُمثلون سدسًا آخر من سكان الأرض: «يدرك الهندوس أنه قد يكون الأوان قد فات لتَفادي تغيُّر المناخ الشديد. وهكذا، ومن منطلق أن «العالَم بأسره عائلة واحدة»، يُشجع الهندوس العالَم على الاستعداد للاستجابة بتعاطُف مع التحديات الكارثية التي نُواجهها مثل نزوح السكان ونقص الغذاء والماء والطقس الكارثي والأمراض المُتفشية.» وجد الباحث الإسلامي حيدر إحسان محاسنة، الذي طلبَتْ منه «رابطة العالم الإسلامي» تجميع بيانٍ إيماني عن البيئة، «العديد من المبادئ القرآنية … التي إذا ما أُخذَت في مجملها … تنصُّ بعباراتٍ واضحة على أن الله، الإله الواحد الأحد هو رب الكون وخالقه ومالكه بلا ريب. إليه تعود كل الأشياء الحية وغير الحية، وإليه لا بدَّ أن تَخضع، أو تخضع فعلًا.» كما اختتم قائلًا:

البيئي على وجه الأرض، إذن أليس على البشر أن ينتشلوا أنفسهم من حافة الهاوية وأن يتخلَّوا — لمصلحتهم — عن عبادة المال ويستمعوا إلى أوامر الله بشأن الحفاظ على بيئتهم وبيئة جميع المخلوقات على الأرض؟ إن الإجابة الإسلامية على هذا السؤال قاطعة بالإيجاب. (محاسنة، ٢٠٠٣)

دعت مجموعة من الأكاديميين والعلماء المسلمين وخبراء السياسة البيئية الدوليِّين في «الإعلان الإسلامي حول تغيُّر المناخ العالمي»، مُسلمي العالم الذين يبلغ عددهم ١٫٦ مليار مسلم، للتخلُّص التدريجي من انبعاثات غازات الدفيئة الناتجة من الوقود الأحفوري والتحوُّل إلى استخدام الطاقة من مصادر مُتجدِّدة. على العكس من الكاثوليكية الرومانية، لا يُوجَد في الإسلام سلطة دينية مركزية، ولكن وفقًا لمجلة «نيتشر»: «يُشير الإعلان إلى أن على المسلمين واجبًا دينيًّا في معالجة مشكلة التغيُّر المناخي» (كاستيلفيتشي وآخرون، ٢٠١٥).

صاغ أسقف كنيسة شيفيلد ستيفن كروفت خطر تغيُّر المناخ قائلًا إنه «شرٌّ جبار؛ وشيطان كبير لعصرنا هذا.» مُضيفًا أن «قوته تُستمدُّ من الجشع والعمى والغرور الكائن في الجيل الحالي، ونحن نعلَم أن هذا العملاق يَعيث فسادًا على الرغم من القوة الهائلة لأنظمة الطقس، والتي، هي نفسها، لا يُمكن التنبؤ بها» (جونز، ٢٠١٤). دعت الكنيسة إلى خفض انبعاثات بريطانيا بنسبة ٨٠٪ بحلول عام ٢٠٥٠، وبدأت في بيع استثماراتها في الوقود الأحفوري. وفي أستراليا، انضم الأنجليكان إلى الهندوس والبوذيِّين والكنيسة الموحدة والمعتقدات اليهودية والكاثوليكية في رسالة تحثُّ الحكومة على اتخاذ إجراءات أقوى لخفض انبعاثات الكربون. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وقَّع ٣٨٠ حاخامًا أمريكيًّا على نداء عام مُماثل:

تُحذِّرنا التوراة من أننا إذا رفضْنا ترك الأرض تستريح، فإنها «ستستريح» على أي حال رغمًا عنَّا وعلى كاهلنا، من خلال الجفاف والمجاعات والنَّفي الذي سيُحوِّل شعوبًا كاملة إلى لاجئين. لقد أصبح هذا التحذير القديم الذي سمعه أحد شعوب السكان الأصليين في أرضٍ صغيرة يُشكِّل الآن أزمةً لكوكبنا ككل وللنوع البشري بأكمله. يكتمِل تجلِّي السلوك البشري الذي يرهق الأرض — لا سيما احتراق الوقود الأحفوري — في استجابة كوكبية نظامية تُعرِّض المُجتمعات البشرية والعديد من أشكال الحياة الأخرى للخطر أيضًا. (واسكو، ٢٠١٥)

وهكذا، تقترِب جميع الديانات الكبرى في العالَم من إجماعٍ قائم على العِلم حول ما هو ضروري لبقاء الإنسان في سياق تغيُّر المناخ والضرَر البيئي الأوسع. إذا أردْنا الحفاظ على الحضارة والتخفيف من حِدَّة التهديدات الواضحة على جنسنا البشري، فإن البشرية بحاجةٍ إلى بنية إيمانية أقوى وأكثر صلابة، وليس أضعف، ترتكز عليها أفعالها. كما يقترح كل من آينشتاين وفرانسيس، فإن الدين والعِلم معًا يُشكلان الطريق اللازم للمضي قدمًا، فهي ليست قضية تَعتمد على الاختيار بين هذا أو ذاك. يُمكن للعِلم أن يزوِّد الدين بحقائق موثوقة حول العالَم الذي نعيش فيه لتأكيد مُعتقداتنا وترسيخها؛ بينما يُمكن للدين أن يزوِّد العِلم بالبوصلة الأخلاقية التي تُشير إلى ما هو جيد أو سيئ للإنسانية ولعالَمِنا ككل.

نظرًا لطبيعة العلم المُحايدة أخلاقيًّا، فبدون توجيهٍ من القيم الدينية أو غيرها من القيم الاجتماعية، فإن التقنيات التي تُهدد الأنواع مثل أسلحة الدمار الشامل، أو تسميم أو تدمير الكوكب، أو الذكاء الاصطناعي الذي لا يُمكن السيطرة عليه أو التقنيات الأخرى (الفصل الثامن)، ستكونُ عرضةً للانتشار والتزايد المُستمِر قبل أن نَنتبهَ لعواقبها. كما نحتاج إلى وضع حدود مادية للضرر الذي نُلحقه بالأرض، نحتاج أيضًا لترسيم الحدود الأخلاقية لطريقة استخدامنا للتكنولوجيا وإفراطنا في استخدامها وإساءة استخدامنا لها وكذا الأشكال الأخرى من الحياة، وهذا كما اقترح كل من روكستروم وشتيفن بحكمةٍ في بحثيهما العِلميَّين الرائدَين (شتيفن وآخرون، ٢٠٠٩؛ روكستروم وآخرون، ٢٠٠٩). على مستوى جميع لجان الأخلاقيات الجامعية، ومراجعة الأقران، والمعايير الشخصية للباحثين الأفراد، يُوجَد القليل من الحوكمة الأخلاقية للعلوم، والتي تكون مدفوعةً بشكلٍ رئيسي بمُتطلبات التمويل التجاري أو الدفاعي أو السياسي، أو بافتتانٍ طائش بفتح صندوق باندورا العجائبي، حتى وإن لم يَخرج منه سوى البلاء. وقد أدَّى ذلك إلى الإنتاج الضخم والإفراط في استخدام التقنيات ونشرها وإساءة استخدامها، وهي العوامل التي تعمل معًا على تعريض مُستقبَل البشرية للخطر بشكلٍ واضح، هذا بالإضافة إلى تقديم مجموعة من المزايا القصيرة الأمد. إن العِلم هو المحرك الأساسي لمِحنتنا الحالية، ولا يُمكنه الهروب من المسئولية الأخلاقية لذلك. وعليه، فالشراكة بين الدين والعلم لديها الكثير لتُسهم به في تحقيق التوازن بين فوائد العلم والتكنولوجيا واستخدامهما غير الحكيم أو الإفراط في استخدامهما.

الرواية البشرية

قد يبدو المجال الرابع لخداع الذات، الذي قد يكون مُميتًا، تافهًا مقارنة بالمال والسياسة والدين، ولكنه ليس كذلك. إنه يتعلَّق بالروايات التي نرويها عن أنفسنا، وعن الكيفية التي يُمكن أن تقودنا بها إلى إساءة قراءة المخاطر الحقيقية.

لقد أرعبت هوليوود على مدى سنوات عديدة جمهورها وأبهجته بوجبةٍ مُشبعة من أفلام الكوارث الملحمية، مثل: «ذا داي أفتر تومورو» (بعد غدٍ)، و«ديب إمباكت» (تأثير عميق)، و«ذا رود» (الطريق)، و«إندبندانس داي» (يوم الاستقلال)، و«ذا داي أفتر» (اليوم التالي)، و«أون ذا بيتش» (على الشاطيء)، و«٢٠١٢»، و«ذا ستاند» (الموقف) وكلها أمثلة تقليدية على السينما المُثيرة التي تصور سيناريوهات مُروعة ومختلفة لنهاية العالم (آي إم دي بي، ٢٠١٢). تشترك قصص هذه الأفلام غالبًا في شيءٍ واحد، ألا وهو انهيار الحضارة، ولكن على الرغم من كل الصعاب، يظلُّ الأبطال على قيد الحياة، وينجون في النهاية، إن لم ينجُ مُعظَم العالَم.

ولكن هذا ما هو إلا محض خيال خالص، فنحن نعرف من تاريخ الحروب الكارثية والكوارث الطبيعية التي وقعت في القرون الأخيرة أن مُعظم الأبطال لا ينجون، وأن عددًا لا يُحصى من الأناس الأبرياء الطيبين يموتون، وأن الخير لا ينتصر دائمًا على الشر؛ أو كما قال مؤلِّف الأغاني ليونارد كوهين باختصار مفيد، «الكل يعلَم أن الأخيار قد خسِروا» (كوهين، ١٩٨٨). ومع ذلك، فما زلنا نعزِّي أنفسنا بالأساطير الخيالية. تُوفِّر قصص عدد لا يحصى من الأفلام والروايات وألعاب الكمبيوتر النهايات السعيدة ووجبة من المتعة المستمرة والمنتظِمة للفائزين، والتي يعلم مُنتجوها أنها تُشكل نبعًا لا ينتهي من هذه السلعة القائمة على العقيدة والتي لا تُقدَّر بثمن، ألا وهي المال.

تُشكِّل ألعاب الكمبيوتر مصدرَ قلق خاص، فكل ليلة يتَّصل مليار طفل حول العالم بالإنترنت لذبح مُختلف الأعداء والأشرار والوحوش في الفضاء الإلكتروني في عددٍ كبير من الألعاب العنيفة المصنوعة بصورةٍ فنية. دائمًا ما يلعب الأطفال لعبة الحرب، ولكن ضحاياهم في الفضاء الإلكتروني ليسوا سوى إلكترونات بلا معنى، ولا تُوجَد عقوبة أو مخاطر شخصية سيتعرَّضون لها جراء إصابة أو قتل شخص آخر؛ بل إن مُعظم الألعاب تُعلِّم لاعبيها أنه كلما زاد عدد القتلى، زادت المكافأة، في حين أنه عادة ما يُعاقَب الطفل الذي يُصيب طفلًا على أرض الواقع. يتمثل الخطر الناشئ في أنَّ الشباب يُصبحون مُحصَّنين عقليًّا ضد التأثير السلبي للقتل بلا معنى، وهذا يجعلهم غير قادرين على التعاطف. يُمكننا القول إنه يُوجَد جيل تحت التمرين الآن ليُصبح جيلًا من المرضى النفسيين (جرودزينسكي، ٢٠١١). شهد أندرس بريفيك، المُسلَّح النرويجي الذي قتل سبعة وسبعين مُراهقًا وشخصًا من المارة في مذبحة دموية في عام ٢٠١١، بأنه تدرَّب على هجومه من خلال ممارسة لعبة فيديو يقوم فيها بدور القنَّاص واسمها «كول أوف ديوتي: مودرن وورفير ٢» (كلية كينيدي بجامعة هارفارد، ٢٠١٥). سعى بريفيك أيضًا إلى تبرير ثورته في بيانٍ عنيف ومُرتبك ضد الإسلام والماركسية والتعدُّدية الثقافية والنسوية وموالٍ لإسرائيل، مما يُوضِّح تداخُلًا غريبًا بين المعتقدات السياسية والدينية والقومية والثقافية، وما قد تتسبَّب فيه من مأساةٍ عندما تتداخَل معًا في عقل شخص واهِم (هارتمان، ٢٠١١).

يناقش علماء الاجتماع ما إذا كانت ألعاب الفيديو تؤدِّي إلى زيادة العنف الجماعي أو الإرهاب (انظر على سبيل المثال ماركي وآخرون، ٢٠١٤)، ولكن القضية هنا تتعلَّق بالإيمان، فإذا تم تدريب مليارات من الشباب على الإيمان بأنهم قادرون على القتل، مرارًا وتكرارًا والإفلات من العقاب، إذا كانوا يتدرَّبون ضدَّ أعداء جرَّدَهم الوسط الإلكتروني الخيالي الذي يعيشون فيه من إنسانيتهم، فعندئذٍ سيكون من الممكن أن تشوِّش هذه المعتقدات من وقتٍ لآخر أو تطمس الأخلاق والعلاقات الإنسانية التي عادةً ما تُحافظ على المجتمع في حالة توازن. يصبح العنف العقلي غير المحدود جزءًا من التكيُّف الاجتماعي البشري، وجزءًا من روايتنا المشتركة والعادية التي تُحاصِرنا بعد ذلك في دائرةٍ لا نهاية لها من العنف الفعلي. يُعتبر التجنيد المُتعمَّد من قبل العديد من الجيوش لهؤلاء الشباب من «محاربي النينتندو» لتشغيل وقيادة آلات الحرب القاتلة والفِعلية التي يتمُّ نشرُها الآن في ساحات المعارك في جميع أنحاء العالَم هو مثال مُظلم على الكيفية التي تحوَّل بها الترفيه الخيالي إلى حقيقة. ومن المُثير للسخرية أن تزايد حالات اضطرابات الإجهاد النفسي والاستقالات بين مُشغِّلي الطائرات بدون طيَّار قد أبرز مشاعر الذنب والقلق والاشمئزاز من الذات الذي يشعُر به بعض البشر عندما يضطرون إلى القتل المُستمرِّ بلا رحمة (شاترجي، ٢٠١٥). كتبت هيذر لاينبو، وهي مُحلِّلة سابقة للصور التي تلتقطها الطائرات بدون طيار، في صحيفة «الجارديان» تقول: «كم عدد النساء والأطفال الذين رأيتهم يَحترقون بصاروخ «هيلفاير»؟ كم عدد الرجال الذين رأيتهم يَزحفون عبر أحد الحقول مُحاولين الوصول إلى أقرب مُجمَّع مبانٍ طلبًا للمساعدة وهم ينزفون من سيقانهم المقطوعة؟ عندما تتعرَّض لمِثل هذه المشاهد مرارًا وتكرارًا، تُصبح مثل مقطع فيديو صغير محفور في ذاكرتك ولا يتوقَّف أبدًا، مما يُسبِّب ألمًا ومُعاناة نفسية» (لاينبو، ٢٠١٣).

لكي تصِل البشرية إلى تقديرٍ حكيم للمخاطر الوجودية التي نُواجهها، فمن الضروري أن نتعلَّم التمييز بين الواقع والوهْم على جميع المستويات. منذ آلاف السنين، كنا يقص بعضنا على بعض قصصًا عن أبطالنا ودهائهم ومهارتهم وشجاعتهم ومصيرهم، كي نُعزِّز المُعتقَدات التي لدينا حول أنفسنا. في العصر الأصلي للأساطير، عادة ما كانت تعكس تلك القصص الحياة الحقيقية، فكثيرًا ما كان الأبطال اليونانيُّون يُواجهوان المآسي والعقاب الإلهي، بينما كان ينتهي الحال بالآلهة الإسكندنافية في مدينة راجناروك، بينما كانت الآلهة المصرية تزِن قلبك مُقابل ريشة الحقيقة. حملت هذه القصص كلًّا من القوة الأخلاقية والدروس الحياتية المُهمة. ومع ذلك، فالأساطير الأكثر شيوعًا اليوم تَشمل البطل (الذي نكون مَدعُوِّين للتماهي معه) الذي دائمًا ما يفوز، ولا يموت أبدًا، والذي غالبًا ما يَستخدم العنف الجماعي ليَحصد مكاسبه.

ترسُم هذه الصفات الطبيعة شِبه الواهمة للبشرية التي تعجز عن فهم العالَم أو الآخرين بصِدق والتي تتضاءل احتمالات بقائها. تمامًا كالسياسة، يجِب على الدين والاقتصاد أن يُعيدا تقييم فلسفاتهما وتعاليمهما للاعتراف بأولوية الحاجة إلى العمل معًا من أجل البقاء، يجِب على الصناعة التي تنسج رواياتنا الشعبية، ومبدعوها حول العالَم، أن تعترِف بالحاجة إلى خلق نوع جديد من الأبطال لعصرنا المحفوف بالمخاطر بشكلٍ استثنائي، بطل يبني ويتعاون ويتسامح ويحتضن ويُنظف ويَشفي ويستعيد ما فُقد ويرعى ويحافظ ليكسِبَ عالَمًا أكثر أمانًا؛ بطلٌ يُشبه صفات الأنثى أكثر ممَّا يُشبه صفات الشخصيات الكاريكاتيرية الذكورية العنيفة التي تُعْتِمُ القصة البشرية الحالية (انظر الفصل العاشر).

تراجع أم انهيار؟

هل يُعقل أن تستمرَّ الأعداد البشرية في الازدياد دون رادعٍ حتى نصل إلى أن يُوجد شخص واحد يقف على كلِّ متر مُربَّع من الأرض الجافة على هذا الكوكب؟ لقد صوَّر هذا السيناريو المُرعب العالِم الزراعي ديريك ترايب في كتابه «إطعام وتخضير العالم» (ترايب، ١٩٩٤) لتوضيح العبثية المُطلقة للجدال حول النمو السكاني المُقيد. سيُدرك أي شخص كرَّس ولو حتى بضع ثوانٍ للتفكير في هذه القضية وقراءة التوقعات السكانية للأمم المتحدة، أنه مُستحيل تمامًا. في مرحلةٍ ما من هذا القرن، سيَختبر العالم بلا محالة «الذروة السكانية»، والسؤال الوحيد هو ما إذا كان الانخفاض اللاحق في أعدادنا سيكون تدريجيًّا ومُدارًا وتوافقيًّا أو سيكون كارثيًّا، مثل مُعظَم الانهيارات البيولوجية الأخرى.

تحدُث حوادث التدهور الحاد والكارثي في الأعداد في الطبيعة طوال الوقت. فتنتشر أوبئة الجراد، ثم تنتهي عند نفاد طعامها من النباتات. وتزدهر أوبئة الفئران واللاموس في فصل الصيف، ثم تموت جوعًا في الشتاء. تُشير الأبحاث الحديثة إلى أن الأوروبيين عانَوا من انهيارٍ حادٍّ بنسبة ٦٠٪ في الأعداد بسبب «الموت الأسود» في القرن الرابع عشر (بينيديكتو، ٢٠٠٥). بين عامي ١٦١٨ و١٦٨٠، تُوفِّيَ نحو نصف سكان العالَم في سنٍّ مُبكرة في سلسلة متداخلة من المجاعات والحروب والكوارث (باركر، ٢٠١٣). وفي السبعين سنة الماضية، سجَّل العلماء ما لا يقلُّ عن ٧٢٧ حالة فناء جماعي (أي الأحداث التي هلك فيها أكثر من ٩٠٪ من عدد نوع بعينه) بين الأسماك والطيور والثدييات (فاي وآخرون، ٢٠١٥). وفي حالة مُعاكِسة مُثيرة للقلق، ازدادت أعداد حيوانات الرنة التي أُتيَ بتسعةٍ وعشرين منها إلى جزيرة سانت ماثيو في ألاسكا في عام ١٩٤٤، وسرعان ما وصلت إلى أكثر من ستة آلاف؛ ومن ثمَّ نفدت إمداداتها من الطعام، ثم انهارت أعدادُها مرةً أخرى حتى وصلت إلى اثنين وأربعين حيوانًا (كلاين، ١٩٦٦)، وهو تشبيهٌ تَمثيلي لما يُمكن أن يحدُث لنا على كوكبنا، إذا لم ننتبِه إلى أجراس الإنذار.

لا يُوجَد أي شيء في الأدبيات العلمية الكاملة لعِلم الأحياء يُوحي بأن البشر مُحصَّنون ضد مثل هذا الانهيار الحاد في الأعداد، بصرْف النظر عما قد يختار الأفراد أن يأملوا فيه أو يؤمنوا به. إذا كسرْنا قواعد الطبيعة الأساسية للبقاء عاجلًا أم آجلًا، مثل جميع الأنواع الأخرى، فسنَدفع الثمن. هذه هي القضية التي سعى كل من بول وآن إيرليش لأول مرة إلى لفت انتباهنا إليها في عام ١٩٦٨ في كتاب «القنبلة السكانية» (إيرليش، ١٩٦٨). إنه التحذير الأساسي الذي وضعته «منظمة نادي روما» البحثية أمام إنسانية شكَّاكة في تقريرها «حدود النمو»، وتنبؤها الحاسوبي الرائد في عام ١٩٧٢ بالآثار المشتركة للنمو الاقتصادي والنمو السُّكاني الأُسِّي في عالمٍ محدود الموارد (نادي روما، ١٩٧٢). إنه التحذير الذي صدر في أشكالٍ مختلفة من كلٍّ من ويليام كاتون في كتابه «تجاوز القدرة الاستيعابية» (كاتون، ١٩٨٢)، و«سوني» رامفال في كتابه «وطننا، كوكب الأرض» (رامفال، ١٩٩٢)، وتيم فلانري في كتابه «الآكلون المُستقبليُّون» (فلانري، ٢٠٠٢)، وليستر براون في كتابه «نمو يفوق قدرات الأرض» (براون، ٢٠٠٤)، والدرس الذي استخلصَه جاريد دايموند من كوارث الحضارات السابقة في كتابه المُميز «الانهيار» (دايموند، ٢٠٠٦)، هذا إلى جانب عددٍ لا يُحصى مما قاله المؤلِّفون والعلماء المُحترمون الآخرون. إنها الحقيقة التي سعت شبكة البصمة العالمية إلى تسليط الضوء عليها منذ عام ٢٠٠٣، عندما شكَّلت شراكةً مُكرَّسة ﻟ «مستقبل مُستدام يُتاح فيه لجميع الناس فرصة أن يحيَوا حياةً مُرضية في حدود إمكانيات كوكب واحد» (شبكة البصمة العالمية، ٢٠١٦). وقد شكَّل هذا موضوعًا مهمًّا في الرسالة الباباوية العامة للبابا فرانسيس في عام ٢٠١٥، «كن مُسَبَّحًا» (البابا فرانسيس، ٢٠١٥). وهو ما رفَضه الداعمون والأقليات الدينية وبعض علماء الاجتماع والمَهووسون بالتكنولوجيا (الذين يَعتقدون أن التكنولوجيا أو الإيمان الأعمى سيحلُّ جميع مُشكلاتنا بطريقةٍ ما، دون أن يفهموا هذه المشكلات على ما يبدو، أو دون بذْل الكثير من الجهد الجماعي) مرارًا وتكرارًا باعتباره «هراء مالتوسي» (لومبورج، ٢٠٠١).

fig11
شكل ٩-١: كيفية انخفاض قدرة الأرض على دعمِنا بسرعة أكبر مع زيادة الأعداد البشرية.
fig12
شكل ٩-٢: مقارنة بين ثلاثة سيناريوهات للانخفاض في عدد السكا؛ كارثي، فوضوي ومُدار. والخيار يرجع لنا.
تتمثَّل تحذيرات كل هؤلاء البشر الحكماء، والعديد مثلهم، في كلٍّ من الشكلَين ٩-١ و٩-٢.
يوضح شكل ٩-١ القيد الذي غَلَلْنا به نحن البشر أيدينا، وكيف من المُرجَّح أن يستمر الأمر خلال القرن الحادي والعشرين. جوهريًّا، نظرًا لأن أعدادنا ومُتطلباتنا على الموارد تتجاوز «القدرة الاستيعابية» (أو القُدرة على التجدُّد) لنظام الأرض، فإن قُدرته على دعمنا تنهار، مما يؤدِّي بدوره إلى انهيارٍ حادٍّ في أعداد البشر. وهو أمر من شأنه أن يكون رهيبًا ومؤلمًا للغاية بالنسبة لمن سيمرُّ به.
ويوضح شكل ٩-٢ الفرق بين (١) حدوث انخفاض كارثي «طبيعي» في الأعداد (ارتفاع في عدد السكان، حيث ترتفع أعدادنا إلى ١٠ مليارات أو ١١ مليارًا قبل أن تَنخفِض مرة أخرى إلى مليار أو أقل) نتيجة لمجموعةٍ من الأزمات الوجودية التي لم تُحَل، (٢) حدوث «تراجع فوضوي» في الأعداد تتفسَّخ فيه الحضارة بشكلٍ أو بآخَر في مواجهة تصاعُد الأزمات الأقل خطورةً التي تتضمَّن المناخ والحروب والأوبئة والانهيارات البيئية المحلية والمجاعات ولكنها تتمكَّن من تثبيت أعدادنا عند مستوًى أقل بكثير، ربما يبلغ مليارين أو ثلاثة مليارات نسمة، و(٣) حدوث «انخفاض مُدار» ندخل فيه إلى السَّحب على المكشوف من موارِد الأرض ولكن من خلال خيارات حكيمة تنجح في إدارة عدد سكاننا مرةً أُخرى ليبلُغ عددًا مُستدامًا يتراوح بين اثنين وأربعة مليارات نسمة تتمتَّع بجودة حياة جيدة وموحدة بحلول أوائل القرن الثاني والعشرين، دون تدمير المُحيط الحيوي أو التعجيل باندلاع حربٍ نووية، وعن طريق إعادة تدوير الموارد، وإصلاح النظم البيئية، ووقف الاحتباس الحراري العالمي، وإزالة الطابع المادي عن الاقتصاد والتقليل من خصوبتنا.

قد يبدو للفرد أنه ليس له أو لها تأثير يذكر على كَون أيٍّ من هذه السيناريوهات الثلاثة سيتحقَّق. ولكن هذا ليس صحيحًا، إذ يُمكننا جميعًا التأثير على النتيجة ومصير البشرية. تَعتمد كيفية القيام بذلك إلى حدٍّ كبير على ما نؤمن به — وهذا نظرًا لأن الإيمان هو الدافع القوي لأفعالنا — وعلى ما إذا كانت هذه المعتقَدات قائمة على أساس من الحقائق القابلة للاختبار علميًّا والأخلاق السليمة، أو على مُستنقع غادر من التخيُّلات والشهوات البشرية المُتضاربة. لضمان بقائنا، ستَسترشد الإنسانية الحكيمة بمُعتقَدات أخلاقية ومُعزَّزة بالأدلة في الوقت نفسه.

ما الذي يجب علينا فعله؟

  • (١)

    إعادة صياغة خطاباتنا ورواياتنا الاقتصادية والسياسية والدينية لوضْع بقاء الحضارة والنوع البشري في مقدمة الأولويات بحيث يكون هو الهدف الأساسي بلا جدال.

    كيفية التطبيق: «يتطلَّب هذا تحرُّكًا عالميًّا من قبل القادة ووسائل الإعلام والمُعلمين والقساوسة والمواطنين المَعنيِّين. تدعم الأدلة المقدمة في هذا الكتاب الحجج التي يمكنهم استخدامها.»
  • (٢)

    إزالة الطابع المادي عن الاقتصاد العالمي لمنع الإفراط في استخدام وتدمير الموارد المحدودة مثل الهواء والماء والتربة والغابات والحياة البرية.

    كيفية التطبيق: «وضَّحَت لجنة الموارد الدولية التابعة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة هذا الأمر. لا بدَّ أن يقترن ذلك بالتفكير الجديد حول الإيكولوجيا الصناعية والتصنيع الأخضر وإعادة التدوير ونمو الاقتصاد الإبداعي بدعمٍ من الحكومات، إذا لزم الأمر، لنقل الوظائف من الاقتصادات «القديمة» إلى «الجديدة» بأكبر قدر مُمكن من السلاسة.»
  • (٣)

    تشجيع ديانات العالَم على تولِّي زمام قيادة أخلاقية أكثر شجاعة بشأن القضايا التي تُهدد البشرية ككل، وتنحية خلافاتهم جانبًا من أجل الصالح العام.

    كيفية التطبيق: «يجب على الزعماء الدينيِّين من جميع الطوائف أن يتبنَّوا المُستقبل، والتحدِّيات التي يطرحها، وألا يتمسَّكوا بالماضي فحسب، أو يخشوا من نظرة المجتمع إليهم على أنهم زائدون عن الحاجة. يجِب عليهم التركيز على الأدلة وما تعكسه عن وضعِنا، وكذا التركيز على حُسن الأخلاق.»
  • (٤)

    إعادة تركيز السياسات العالَمية والوطنية والمحلية على بقاء الإنسان من خلال الضغط الذي يُمارسه المواطنون.

    كيفية التطبيق: «يتعلَّم السياسيون تدريجيًّا أن الطريق إلى البقاء السياسي يَكمن في الاهتمام بمخاوف ناخبيهم حول بقاء الإنسان. ومع ذلك، يحتاج جميع السياسيِّين إلى الخضوع لتعليمٍ قصير عن المخاطر الوجودية، حيث لا يزال الكثيرون يستبعدون وجودها أو يَفتقرون إلى معلوماتٍ جيدة عنها.»
  • (٥)

    استلهام رواية جديدة عن البشَر تُكافئ التعاون، والتسامح، واستعادة ما فُقِد، والتطهير والاستدامة بدلًا من تلك التي تُكافئ قِيم الانقسام والأنانية والتدمير.

    كيفية التطبيق: «يُعيد هذا بطريقة أو بأخرى النظر في الحركات ونُظم المعتقدات التعاونية والغيرية الماضية، بدلًا من التركيز على الإرث الوحشي للقرن العشرين. الناس مُستعدُّون لقصَّةٍ إنسانية أكثر سعادة وأقلَّ فتكًا واستغلالية، وهي فرصة عظيمة لرواة القصص لسرْد هذه القصة.»

ما الذي يُمكنك فعله؟

  • قَدِّر أنَّ المال والسياسة والدين والترفيه ما هي إلا معتقدات يجب تعزيزها بحقائق موثوقٍ بها كي تخدمنا بأكبر قدرٍ مُمكن.

  • كن حذرًا للغاية في كيفية إنفاقك لدولارك الخيالي؛ فهذا الأمر له عواقب حقيقية جدًّا.

  • اشترِ من، واستثمر في، واعمل فقط لدى الشركات التي تُقدِّر بقاءك أنت وأحفادك على المدى الطويل.

  • لا تُصوِّت سوى للأحزاب السياسية والقادة الذين يُقدرون بقاءك أنت وأحفادك.

  • إذا كنت شخصًا مؤمنًا، فافعل كل ما هو ممكن لتوجيه زملائك إلى موقف يُصبح فيه بقاء البشرية ونسلها، والإدارة الحريصة للأرض بنودًا أساسية للإيمان والأخلاق.

  • ارعَ الترفيه الذي يُقدِّم رواية أكثر إبداعًا وتعاونية وأقل تدميرًا عن الإنسانية والكيفية التي نحل بها مشكلاتنا.

  • شجِّع أطفالك على ممارسة الألعاب التي تُشجع على البناء والحفاظ على الأشياء، بدلًا من القتل أو التدمير. افهم أن اللعب ما هو إلا تدريب على الحياة وأن الكيفية التي يلعب بها الأطفال قد تحكم مصيرهم في نهاية المطاف.

هوامش

(1) A range of interesting optical illusions can be found at http://list25.com/25-incredible-opticalillusions/.
(2) Based on the 1987 Nobel Prize winning work of Robert Solow—http://www.nobelprize.org/nobel_prizes/economic-sciences/laureates/1987/press.html.
(3) Fort a recent list of the “top 200” see: Forbes 2014.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤