الفصل الرابع عشر

الجنوسة والتنمية وفلسفات العلم بعد-التنويرية١

ساندرا هاردنغ

التسليم بالحضور المكثف للثقافة الإسلامية في العصور الوسطى الأوروبية وبواكير عصرها الحديث، والاستعارات التي تمَّت في العلوم الحديثة المبكرة من الفكر الصوفي المصري.

ساندرا هاردنغ

إن التقريرات المحدثة الآتية من «الجنوسة والبيئة والتنمية المستدامة» تثير تساؤلات ثاقبة ولاذعة حول كارثة البيئة الراهنة والجريمة التي تشترك في ارتكابها فلسفات العلم التنويرية وخطط التنمية في العالم الثالث. تأتي مكامن القوة في هذه التحليلات من الطرق المتميزة لربطها بين جوانب في التفكير التنموي وهي النزعة الاقتصادية والمركزية الذكورية والتعامي عن الطبيعة، وبين «الحلم التنويري». وإذ تفعل تلك التقريرات هذا، فإنها تشارك في المنظورات مع مدارس أخرى ذات نفوذ في دراسات ظاهرة العلم، وتزودها بمنابع ومصادر.

(١) رؤية من الحدود القصوى للتنوير

منذ الحرب العالمية الثانية تسعى الوكالات الشمالية في محاولة تحديث ما يسمَّى بالمجتمعات النامية في الجنوب، حتى تلحق مستوياتها المعيشية بمستويات الشمال. غير أن ثمة الآن اتفاقًا عامًّا على أنه طوال عقود من التنمية قد تدهورت مستويات المعيشة بالنسبة إلى غالبية الذين يعيشون في المجتمعات النامية؛ أي أولئك الذين هم أضعف من الناحيتين الاقتصادية والسياسية. يتبدى في هذه التقديرات صنوف من إعادة تقويم العلم الحديث وفلسفته، فقد كان تصور التنمية بوصفها أن ننقل إلى الجنوب العلوم والتكنولوجيات وفلسفاتها والتي يفترض أنها المسئولة عن النمو الصناعي في أوروبا وأمريكا الشمالية إبَّان القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين. وكذلك ثمة نقطة خلاف حول العلم الحديث بسببٍ من التصاعد المروع للفساد البيئي في الجنوب، وعلى مستوى العالم أيضًا. وتبدو فلسفات الطبيعة في الشمال متورطة في تلك الكارثة الشاملة.

تقتحم تحليلات الجنوسة والبيئة والتنمية المستدامة «ج. ب. ت»٢ تلك المسائل المتعلقة بالتنمية العولمية وما نسميه بالكارثة البيئية، وذلك من موقف حيوات الغالبية العظمى من النساء في الجنوب. وتنبع أصول هذه التقارير من محاولات «المرأة في التنمية» المبكرة للدفع بوكالات التنمية الحكومية وغير الحكومية لتقدير مدى تأثير سياسات التنمية على النساء، وكما هو معتاد، «لإضافة النساء» كمستفيداتٍ من منافع التنمية في العالم الثالث (كما كانت مفهومة آنذاك). وفي العقود الثلاثة التي مرَّت منذ أن شرعت التحليلات النسوية في تحدِّي معظم الحدود التي طرحت داخلها المسائل الأساسية، تفاعل هذا الفرع من التفكير النسوي مع تحليلاتٍ نقدية أخرى للتنمية تحدت أيضًا تلك الحدود.
وهذه الأدبيات في بحثها عن التحديد الدقيق للكيفية التي ينبغي أن تتغير بها سياسات التنمية، تتقدم أيضًا بمصادر لفلسفة لعلَّها لا تلقى ما تستحقه من تقديرٍ أو هي غير متاحة تمامًا. إنها تنشأ عن مواضع في السياسات العولمية تمكننا من تحديد فرضيات في فلسفات العلوم يصعب تحديدها بأي طريقةٍ أخرى، وهي الفرضيات التي وجهت التفكير التنموي ومثلت معالم دالة على أن تلك الفلسفات أقل كثيرًا من أن تكون صالحة للعالم أجمع. وعلاوة على هذا تستجيب تلك التحليلات لاعتباراتٍ عملية ملحَّة تدعو إلى تطوير أنماط من المعرفة أكثر موثوقية، وإلى عمليات إكسابها المشروعية، من أجل مشاريع تهم غالبية مواطني العالم في الثقافات اللاغربية المستضعفين اقتصاديًّا وسياسيًّا — والحق أنها تهم أيضًا كثيرين من البقية الباقية منا، هكذا نجدها فلسفات لا بد أن تفقد دور «الوصيفة» الفخيمة وهو الدور الذي يفضله التيار السائد في فلسفة العلم ومعظم دراسات العلم في الشمال: بوم مينرفا …٣ هذا لا بد أن يعمل دورةً ثانية في ضوء النهار. إن فلسفةً على شاكلة تلك التي ننخرط فيها ترهف من القدرة على كشف الفرضيات الفلسفية، وكيف تمارس فعلها في الحياة اليومية. وأخيرًا، أفضت مثل هذه الاعتبارات بحركة الجنوسة والبيئة والتنمية المستدامة «ج. ب. ت» إلى مد نطاق طائفة من الائتلافات مع جماعاتٍ تقدمية أخرى في العلم. تساهم هذه الائتلافات بمنظوراتٍ نقدية مبتكرة من أجل مشروع يترسم كيفية انتزاع أنفسنا من العناصر المستشكلة الآن في عقلانية التنوير العلمي.٤

لقد وضعت فلسفات التنوير تعريفًا لنمو المعرفة العلمية ولما يُفترض أنها تجلبه من تقدمٍ اجتماعي، وذلك بطريقة تحط من قيمة النساء والطبيعة و«الثقافات المتخلفة». أما الفلسفات الجديدة للمعرفة والقوة المنبثقة عن مناقشات وتحليلات الجنوسة والبيئة والتنمية المستدامة التي تعتمد عليها، فإنها تمثل عودة الآخرين بالنسبة إلى التنوير — عودة النساء والطبيعة و«الثقافات المختلفة»، عودة إلى مواقع تزيد على أن تكون مجرد قيمة ذاتية (على أفضل الفروض) في التفكير الحداثي. إن المعرفة قوة، كما يقول المثال الشائع، وإنه لمن الحدود القصوى لشبكات المعرفة-القوة نستطيع أن ندرك بأفضل صورةٍ التخوم التي تتبوأ فيها المعرفة والقوة مواقع المركز لتخلق كلٌّ منهما الأخرى وتغذيها.

مشروع هذا المقال هو أن يبين، أولًا، كيف أن مساجلات الجنوسة والبيئة والتنمية المستدامة «ج. ب. ت» تمثل حلقة وصل لنقد الفكر التنموي في جوانبه المتمثلة في المركزية الذكورية والنزعة الاقتصادية والتعامي عن الطبيعة لتطعن في إبستمولوجيا «الحلم التنويري»٥ وفلسفته للعلم. يبين الجزءان الثالث والرابع كيف أن الدعم المتبادل بين تحليلات «ج. ب. ت» وبين الحجج الناتجة عن دراسات العلم بعد الكونية وبعد الاستعمارية. وبهذا أصبحت ثمة ثلاث مدارس مؤثرة في دراسات العلم بعد الحرب العالمية الثانية، فضلًا عن النسوية الشمالية، التقت جميعها، من منطلقاتٍ مختلفة بعض الشيء، على تقويمات مشتركة لفلسفات العلم التنويرية. أما الجزء الختامي فهو يوجز بشكلٍ عام كيف أن المواقع الفلسفية في هذه المجموعة من التحليلات تختلف عن تلك التي تمركزت في فلسفة التنوير. من الواضح أن هذا المقال لا يستطيع إلا أن يرسم خريطةً إجمالية للغاية لتضاريس فلسفية تستحق اهتمامًا أكثر تفصيلًا (بعضها، بطبيعة الحال، تلقى بالفعل مثل هذا الاهتمام في أدبيات أشرنا إليها).

(٢) نقود «ج. ب. ت» لفرضيات التنوير

سوف يتركز الحديث الآتي حول ثلاث مسائل.٦ وهي كيف تبدو فلسفات التنوير متواطئة مع المركزية الذكورية ومع النزعة الاقتصادية ومع الحط من قيمة الطبيعة، في سياسات وممارسات التنمية في العالم الثالث.٧

هل التنمية مجنوسة؟

أربع مسائل تصل بين «ج. ب. ت» والتحليلات النسوية الأخرى: عمل المرأة، والجنوسة كمقولةٍ تحليلية، والمركزية الذكورية في التفكير العلمي والتكنولوجي، ومواقف النساء الملونات. أولًا، كان ثمة موضوع رئيسي في النقد النسوي المبكر للتنمية ألا وهو أن المرأة متروكة خارج مجال التنمية، من حيث إن برامج محو الأمية والتدريب المهني موضوعة من أجل الرجال فقط، وأن الرجال لديهم فرص أفضل للالتحاق بالعمل الذي يدرُّ دخلًا. في الغالب لا يُعنى مخططو التنمية رسميًّا بأمر النساء إلا من باب تحديد نسل النساء. وعلاوة على هذا، ينسحب الرجال إلى التصنيع في المناطق الحضرية أو التعدين أو الفلاحة في المزارع، فيما تترك النساء ليمثلن النسبة الأعلى من سكان الريف، وتتزايد مسئولياتهن في العناية بالصغار والمسنين والمعاقين مع أقل القليل من الموارد الاجتماعية والبيئية للحفاظ على الحياة والبيئة والمجتمع المحلي. وتمضي الحجة على أن سياسات التنمية تجاوزت النساء.

أم تُرى النساء قد تُركن فعليًّا خارج إطار ذلك التخطيط للتحديث، بينت دورة ثانية من التحليلات أن صميم عمليات «ترك النساء خارج الإطار» تتقدم فعليًّا بموارد جديدة ضرورية لتحديث الاقتصاديات القومية. إن تحقيق النمو الاقتصادي استدعى تزايدًا في عمل النساء المنزلي غير مدفوع الأجر. ويستميل النساء أو يدفعهن إلى العمل في التصنيع أو في الزراعة بأجورٍ أقل، والاستيلاء على حقوقهنَّ في الأراضي الموروثة، توجه حقوقهن في الأراضي إلى الرجال، حين يكون الرجال فقط هم الذين تعلموا كيف يزرعون بالطرق العلمية الحديثة. في أحايين أخرى، يتم الاستيلاء مباشرة على هذه الحقوق، حتى يمكن استخدام الأراضي في تصدير الناتج عن طريق إنكار حق النساء في المساحات المشاع المملوكة للمجتمع المحلي من مزارع وغابات ومراعٍ. وأيضًا واجه القرويون من حيث هم طبقة، رجالًا ونساءً على السواء، المعاناة من بعض هذه الأشكال من الاستيلاء على الحقوق (Mies 1986, Shiva 1989).
على هذا النحو كانت نقض-تنمية development النساء والقرويين شرطًا أساسيًّا للتنمية في الجنوب. كان «تقدم الإنسانية» في الجنوب يعني نكوصًا للنساء (والقرويين). وذلك ما أوضحه المؤرخون النسويون الشماليون في نقطةٍ مماثلة.٨ تلك العقلانية العلمية والتكنولوجية التي انتقلت من الشمال إلى الجنوب، هل تضمنت توجيهات إلى مثل هذه اللصوصية (كما يمكن أن نسميها بمعقوليةٍ تامة) أو على الأقل سمحت بها. على أي حال، لغة التنمية والتحديث والتقدم العلمي التي استخدمت للتعتيم على الآلية الفعلية تعد مسئولة عن جانبٍ كبير من النجاح الذي أحرزته التنمية. وقد اتبعت هذا النمط نفسه سياسات الإصلاح الهيكلي في ثمانينيات القرن العشرين التي كان مقصودًا بها حل أزمات الديون، فهي استمرار لزعزعة أوضاع المرأة في البلدان النامية. ها هنا أمر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي حكومات الجنوب المثقلة بالديون بخفض خدماتها الاجتماعية من أجل سداد قروض التنمية للطبقات الاستثمارية في الشمال. وعلى هذا النحو، نجد عمل النساء غير مدفوع الأجر يحل محله عملهن المأجور رسميًّا فيما توفره الدولة من خدماتٍ اجتماعية في التربية والصحة ورعاية الأطفال؛ وبهذا نحافظ على ثروة الطبقات الأكثر حظًّا في الشمال (Sparr 1994).

وأيضًا شرع بعض النسويين المعنيين بقضايا العمل تلك بتعيين مشكلات في النزعة الاقتصادية، وفي نمط الإنتاج، وفي مساعي الاقتصاديين من الكلاسيكية الجديدة والماركسية الجديدة كلتيهما للتصدي لقضايا المرأة، والتدهور البيئي الذي تسببه سياسات التنمية بشأن عمل المرأة في الإعاشة وعملها المأجور. أدَّت هذه المشاغل إلى ائتلافاتٍ مع جماعاتٍ أخرى ذات صلة.

وثمة مصدر مهم ثانٍ لتحليلات «ج. ب. ت» ألا وهو استخدام تفهُّم أعقد وأشمل للجنوسة، فقد كان موضوع اهتمام «ج. ب. ت»، هو علاقة الجنوسة [أي الجنسين]٩ وليس فقط النساء (كما كان الوضع في التقارير المبكرة لحركة «المرأة في التنمية») صيغ مفهوم الجنوسة أساسًا ليس كخاصيةٍ للأفراد، بل كمقولةٍ تحليلية مثل العرق والطبقة، يمكن أن يفهم المرء من خلالها بنية المجتمعات وأنساقها الرمزية. ولكي يفهم مواقف النساء ومعاني النسائية أو الأنوثة في سياسات وممارسات التنمية، عليه أن ينظر أيضًا في مواقف الرجال ومعاني الرجولة أو الذكورية.
إن الجنوسة أساسًا علاقة، مثلها في هذا مثل الطبقة أو العرق. ومن ثم جادلت تقارير «ج. ب. ت»، مثلما فعلت تقارير نسوية أخرى، في أن المشكلة مع فلسفات التنوير لا تقتصر على إقصاء النساء من الإفصاح عن هذه الفلسفات، والافتراء عليهن جهارًا نهارًا، بل في أن معايير التنوير للإنسانية والخير والتقدم والرفاهة الاجتماعية والنمو الاقتصادي، وبالمثل كذلك معايير الموضوعية والعقلانية والمنهج السديد وما نعتبره مشكلات عملية مهمة، صيغت جميعها بلغة مصالح ومعاني الذكورة والبرجوازية. لقد كانت جزءًا من تغيرٍ تاريخي، ولكنها مع ذلك خطابات تلح على المركزية الذكورية والطبقية. ثمة مغانم عديدة لتفهُّم الجنوسة بوصفها بنائية ورمزية، منها تيسير سبل التكامل بين تحليلات «ج. ب. ت»، ونقود جماعات أخرى للجوانب البنائية والتمثيلية في الفرضيات التنويرية، يفضي بنا هذا إلى قضيةٍ ثالثة. ثمة مدارات بحث رئيسية في تقارير النسوية الشمالية عن العلم والتكنولوجيا. وقد انبثقت بشكلٍ مستقل في تحليلات «ج. ب. ت» أو انتقلت إليها. تخلقت مشكلة «ج. ب. ت» بصفةٍ أساسية في وكالات إقليمية وعالمية، وليس في سياقات الجامعة أو المعمل التي تشكلت فيها مناقشات النسوية الشمالية للعلم والتقانة.١٠ بنيات ومعاني العوالم الحديثة العلمية والتقانية المتمركزة حول الذكورة، رسمت هي الأخرى معالم وحدود تفكير وكالات التنمية العالمية والقومية والمحلية. بفعل النسويين الشماليين والدراسات بعد الاستعمارية وحركة البيئة تعينت ثنائيات مبهمة ومناهضة غالبًا للمرأة، تمارس فعلها خلال خطاب بلاغي تنموي لتشكيل سياسات تقوم بتمييزٍ منهجي ضد السكان الأضعف اقتصاديًّا وسياسيًّا (Kettel 1995). إن التساؤلات والمشكلات التي تصدت لها التنمية لم تكن قط تلك التي تحددها المرأة أو التي تتحدد من موقف حيوات النساء. لقد كانت التنمية مجنوسة، وهذا ما تشير إليه مجرد وثيقة من وثائق لجنة الأمم المتحدة للعلم والتكنولوجيا من أجل التنمية التي وضعت في أواسط التسعينيات (Kettel 1995). وأيضًا احتل المركز في تحليلات «ج. ب. ت» تلك المشاغل النسوية من مركزيةٍ ذكورية في معايير الموضوعية والعقلانية والبيئة والمنهج الجيد وما الذي يؤخذ بوصفه علمًا.
وأخيرًا، تتوازى مناقشات «ج. ب. ت» مع تحليلاتٍ في كتابات الأمريكيات الأفارقة ونسويات ملونات أخريات في المراكز الكائنة بالعواصم والمدن الكبرى، ممَّا فتح الباب للمزيد من الائتلافات. هذه الخطابات، سواء في تقارير الشمال أو في تقارير «ج. ب. ت»، ساعدت في إعادة تعريف موضوعات المعرفة بوصفها موضوعات ذات هويات متعددة وأحيانًا هويات متصارعة، بسبب ما تحمله من عرقٍ وطبقة وجنوسة وإثنية والحياة الجنسية وتواريخها الأخرى. إنها تكشف النقاب عن تعددية في الأنساق المعرفية المتصارعة التي سوف تنتج عن التواريخ الثقافية المختلفة. وتشدد على أهمية تمكين الجماعات العرقية والإثنية المهمشة كشرطٍ للحوار الديمقراطي والائتلاف، لا بد من تقدير واحترام الاختلاف، وبالمثل كذلك التجانس. في الجنوب وفي الشمال على السواء، نتج عن هذه الكتابات نقدٌ قوي للوضعية والوضعيات الجديدة، وطُورت أشكال كاشفة لموقف الإبستمولوجيا النسوية (في الشمال، ثمة على سبيل المثال) (Anzaldúa 1987; Collins 1991).١١
هذه الأصول النسوية لإعادة تقويم التنوير قد اشتدَّ عودها وامتدَّ مجالها في تقارير «ج. ب. ت»، من خلال ربطها بين نقد النزعة الاقتصادية للتنمية والتعامي عن حدود الطبيعة.١٢

هل الفلسفة التنويرية مصبوغة بالنزعة الاقتصادية

هل تعتمد روح التنوير العلمية على نموذجٍ اقتصادي برجوازي للتقدم البشري؟ بالطبع يمكن قراءة جوانب عديدة من فلسفات التنوير للعلم قراءة مثمرة بوصفها فلسفات ديمقراطية راديكالية فيما يتعلق بالطبقة والعرق والعلائم الاجتماعية الأخرى، آخذين في الاعتبار أن الفائدة الفعالة للمناهج العلمية (أو لخاصيةٍ ما أخرى في العمليات العلمية) في أنها تؤكد موثوقية الدعاوى المعرفية، وليست تؤكد المنزلة الاجتماعية للعارف، سواء أكانت موروثة أم غير موروثة. ونفترض أن الدولة الليبرالية الحديثة محايدة إزاء تصورات متباينة غالبًا «للخير» في الجماعات الفرعية فيها وبين أعضائها، سواء ما كانت مثل هذه التصورات قائمة على أسسٍ بيولوجية أو دينية أو عرقية أو طبقية أو جنوسية. ويجب وضع تبرير عقلاني لأي اختلافاتٍ في المعالجة. وبالمثل يجب أن تكون المؤسسات المنتجة للبيانات في الدول الحديثة محايدة إزاء القيمة لكي تمكن الدولة من إحراز سياسات غير منحازة إزاء تصورات «الخير». وبالنسبة إلى العلوم، تم «تفعيل» هدف الحياد إزاء القيمة من خلال مناهج بحث صارمة.

وبطبيعة الحال، يصعب كثيرًا أن يفكر أحدٌ في أنه من الممكن الدفاع بأي شكلٍ من الأشكال عن افتراض ما إذا كانت العلوم الطبيعية في واقع الأمر محايدة إزاء قيم ثقافاتها ومصالحها. وحتى الدراسات البعد-كُونية — وهي الأقل في راديكاليتها السياسية العلنية بين حركات دراسات العلم التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية — كانت منشغلة بتبيان تكامل العلوم الحديثة مع حقبها التاريخية، باستخدام تعبيرات توماس كون نفسه (١٩٧٠، ١). معنى هذا أن المشاريع العلمية ونواتجها تحمل دائمًا بصمات الحقب التاريخية التي نشأت فيها وأنها تمضي في اعتبارها ذات قيمة. وأنا لا أستطيع أن أناقش هنا ما في العلم الحديث بشكلٍ عام من خطاب-القيمة-المصلحة-والمنهج-المحمل (انظر Harding 1992, 1996, Proctor 1991). وبدلًا من هذا، نجد المسألة هي ما إذا كانت قيم النزعة الاقتصادية ومصالحها تنفذ في ثنايا العلم الحديث.

مبدئيًّا تم وضع تصور للتنمية بوصفها نموًّا اقتصاديًّا. هكذا جرى التفكير في التقدم البشري في حدود زيادة الإنتاج والاستهلاك. في المقام الأول، تفشل هذه المقاربة في إدراك عمل المرأة في داخل الأسرة من حيث هو عمل حقيقي، أو، وبسبب من هذا، من حيث هو فعالية احتوت عناصر من تاريخ التقدم البشري. وكان هذا التصور سائدًا في التحليلات الماركسية وفي التحليلات الليبرالية على السواء. وهكذا، تصور مفكرو التنمية أن الاحتياج إلى العمل في رعاية الأطفال وفي الأسرة استنزاف لذروة النمو الاقتصادي من قِبل طبقات العمال والفلاحين في الجنوب، وبوصفه فرصة لضم نساء الطبقة الوسطى والطبقة العليا في الشمال وفي الجنوب في داخل دورة «الاستهلاك-العمل» التي كانت مطلوبة لكي يظل الإنتاج مريحًا. كان يجب استدراج النساء الفقيرات إلى العمل المنتج في الزراعة وفي التصنيع، ثم تركهن ليقمن برعاية الأطفال وبالأعمال المنزلية بأفضل ما في وسعهن، فيما ينبغي على النساء في الطبقات الأسعد حالًا من الناحية الاقتصادية أن يكرسن المزيد من الوقت والجهد لرعاية الأطفال وللقيام بالمهام المنزلية، بصرف النظر عن الأجهزة المنزلية التي فيما يبدو تقوم بتوفير العمل وعن الخدمات التي يمكن أن ينتفعن بها، وذلك ليستهلكن على مستوياتٍ أعلى وأعلى. ومن هنا، فإنه بالنسبة إلى النسويين، كانت عملية تصور التنمية والتقدم البشري فقط في حدود الإنتاج الاقتصادي، إنما يدع النساء وحياة الأسرة عرضة للاستغلال الحاد.

وفي المقام الثاني، وضعت نظرية التحديث تصورًا روتينيًّا للنمو السكاني في البلدان النامية بوصفه عقبة كبرى أمام مستويات المعيشة المرتفعة. وتصر هذه النظرية على أن النمو السكاني يسبب الفقر. ومن هذا المنظور، كانت أجساد النساء عقبة كبرى أمام التقدم الاجتماعي، وبدت سياسات تحديد النسل الإجباري مبررة تمامًا. وأخيرًا، هذا الذي يجادل من أجله النسويون والاقتصاديون التقدميون لسنواتٍ عديدة قد تم في التسعينيات الاعتراف به رسميًّا حتى من قِبل مؤتمر الأمم المتحدة للسكان ألا وهو: أن الفقر هو الذي يسبب الانفجار السكاني، وليس العكس. كل ما تفعله كثرة الأطفال أن تؤدي إلى فقر العائلات من حيث المعونات الاقتصادية والاجتماعية التي تقدمها الدولة لعائلات الطبقة المتوسطة. أما حكمة العلم الغربي المصطلح عليها، فتسلك الاتجاه السببي المعاكس تمامًا.

هناك مشكلة ثالثة في تصور التنمية كنموٍّ اقتصادي، فكما جادل النسويون والبيئيون والنقاد من أهل الكلاسيكية الجديدة والاقتصاد الماركسي، الطبيعة ذاتها تضع حدودًا للنمو الاقتصادي. ليس في العالم موارد كافية لدعم احتياجات سكان الكرة الأرضية الآن ولا حتى في حدود الاستهلاك المعتدل تمامًا للطبقات الوسطى في العالم الثالث. وإحراز مثل ذلك المستوى المعيشي للسكان الأضعف سياسيًّا واقتصاديًّا سوف يتطلب تخفيض مستويات الاستهلاك بين نصف سكان العالم الأسعد حظًّا، وهذا ما لا يمكن تخيله تقريبًا، فما هي العملية السياسية التي يمكنها أن تحقق هذا؟

وأخيرًا، مسألة تصور التنمية في حدود تعظيم الإنتاجية الاقتصادية والاستهلاك، تتجاهل وتنقض قيمة كل الأشكال الأخرى «للخير»، التي لها الأولوية في عوالم النساء وثقافاتهن، من قبيل القيم الأخلاقية والسياسية والجمالية والروحية.

مثل هذه الاعتبارات تُفضي إلى التشكُّك في أن الرجل العقلاني، الذي يبحث دومًا عن المعلومات من أجل تعظيم منافعه الخاصة، إنما يؤكد على تدمير صميم الشروط الضرورية لبقائه في الحياة حينما يتصور هذه المنافع بوصفها اقتصادية فقط لا غير. (وهذه بطبيعة الحال مسألة تدور حول القيم والمعايير في التنمية وفي المؤسسات الحديثة الأخرى المعنية بالتقدم البشري، وليس حول قيم العلماء كأفرادٍ والجهات الفاعلة في المؤسسات). لن نستطيع تعزيز الطبيعة ولا الحياة الاجتماعية، حين تغدو مثل هذه العقلانية هي العقلانية المؤسسية السائدة في الدول وفي الشركات العابرة للقوميات، ويرتفع لواؤها لا مباليًا بالقيم الاجتماعية الأخرى.

يُثار السؤال حول هذه العقلانية المدمرة لذاتها وإلى أي حدٍّ كانت ملمحًا مفطورًا في العقلانية التنويرية. لقد انبثق العلم الحديث كجزءٍ من التشكلات الأوروبية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تَلَتْ مرحلة العصور الوسطى. وإحدى المسائل هي أن المثال العلمي الحديث للحياد القيمي والبحث عن المعرفة المستقل عن الاعتبارات الاجتماعية يجعل العلوم والتقانات الحديثة «مدفعًا رشاشًا للإيجار». اللجان الأخلاقية في مواقع العمل العلمي أفضل من لا شيء، ولكنها لا تملك سلطة على الشركات العابرة للقوميات، التي تبدو في الوقت الراهن غير مبالية إطلاقًا بالجماعات المدنية. هل يجب أن تستوعب العلوم مبادئ الديمقراطية الأخلاقية والسياسية لكي تتفادى وضع «المدفع الرشاش». وثمة مسألة أخرى حول ما إذا كانت زيادة فرص استغلال الموارد الطبيعية التي هي أحد الأهداف المركزية للعلوم الحديثة إنما ترمز لاستنفاد البيئات وإفسادها أو تضفي المشروعية على هذا من أجل منفعة الجماعات التي تخدمها العلوم الحديثة. تضع الطبيعة حدودًا للنمو الاقتصادي وأي شكل من أشكال التقدم البشري إنما يتطلب مثل ذلك النمو، ولكن أين يمكن الإقرار بوجود هذا في فلسفات العلم التنويرية؟

أفلسفة تنويرية لتدمير البيئة؟

لعلَّ الطبقات المتوسطة والعليا في الشمال وفي الجنوب قدمت تضحيات هائلة من أجل رفع مستوى معيشة السكان المتخلفين، ولو حتى إلى أدنى مستويات الطبقات الوسطى في تلك المجتمعات. فما هي الممارسات الحكومية التي أمكنها تحقيق هذا؟ علاوة على هذا، نجد نماذج التنمية القائمة على النمو تواصل التضحية بالبيئات المستدامة من أجل أغراض الاستهلاك على المدى القصير. تتلاشى الموارد الطبيعية من خلال الاستهلاك، وأيضًا من خلال تأثيرات الأنشطة العسكرية والزراعية والحضرية، والأنماط الأخرى من التلوث المسمم للهواء والماء والمواد المغذية الأخرى التي تتطلبها الحياة البشرية وغير البشرية.

ومن خلال القيود التي تفرضها الطبيعة على النمو الاقتصادي تعاني النساء بأساليب متميزة، وحظوظهنَّ التعسة تنتقل إلى الأطفال والآخرين الذين يعتمدون على طاقاتهن ومواردهن. يتواتر وضعهنَّ في آخر صفوف المستفيدين من الموارد الاقتصادية لعائلاتهن، ويوضعن بشكلٍ غير متناسب في المؤخرة داخل مجتمعاتهن. تُناط بهنَّ المسئولية لإنجاز أو إدارة أمور الإعالة والمعيشة اليومية، وصحة ورفاهة المعالين وأهل المنزل وذوي القربى والمسنين والمرضى، وكذلك مجتمعاتهنَّ المحلية والبيئات. فضلًا عن هذا، عملهن المأجور في التصنيع وفي الأماكن الحضرية يجعلهن يتعرضن، مثلما يتعرض الرجال، لأخطار السموم بالإضافة إلى أخطار السموم المتوطنة في الحياة العائلية للفقراء، مثل الآفات والغازات المتصاعدة من المواقد المفتوحة، وما شابه هذا. الظروف المهددة للحياة والصحة في التعدين وأعمال البناء والتصنيع والزراعة تجعل الحياة كريهة وقصيرة وفظَّة، بالنسبة إلى الرجال وكذلك النساء الذين يشكلون أضعف الطبقات سياسيًّا واقتصاديًّا.

حيث يقوم العمل والتفاعل مع الطبيعة على أساس التفرقة بين الجنسين، يغدو من المفيد تصور البيئات بوصفها مجنوسة. النقطة هنا ليست في أن الانشغال البيئي باهتمامات الرجال يجب أن يحل محله انشغال بيئي باهتمامات النساء، بل في أن التصدي لمشاكل الرجال لا يعالج تلقائيًّا قضايا المرأة في هذه الحالة ولا في أي سواها.

يحاج النقاد بأن التنوير عمل على ترسيخ دعائم فلسفة خرقاء للطبيعة. فليست الطبيعة قرن الوفرة،١٣ تتيح تلبية رغبات لا حدود لها، مثلما ينتظر الطفل الرضيع من أمه. وعلاوة على هذا، فإن العلوم وفلسفات الطبيعة وفلسفات العلم، مثلها مثل سائر الإبداعات الأخرى للإنسان، تأتي أهميتها من الطبيعة ولا تستقل عنها. وينبغي تفسير العلوم وفلسفاتها وعلاقاتها بالمجتمعات التي تستخدمها، كلها معًا. مع هذا نزعت الفلسفات الحديثة إلى عزل وتحصين العلوم الطبيعية عن أي تفسيرٍ اجتماعي، وعمل نقضها لقيمة المعارف المحلية على الحيلولة دون مثل هذا الفهم الشامل. توجد مبادئ الطبيعة خارج نطاق سائر الثقافات الإنسانية ولا يمكن تعيين وتفسير نظامها الفريد إلا من خلال علمٍ ذي صحة كونية، وحتى اللغة في الفلسفات العلمية للطبيعة، وعلى الرغم من أن لها العديد من السمات الجذابة، تخفي مع ذلك تمامًا ما يحدث في بيئات الإنسان. غير أن هذه البيئات وبصميم تعريفها هي القطاعات الوحيدة من الطبيعة التي يتفاعل معها الإنسان، سواء أكانت هذه الطبيعة متموضعة في الطريق إلى المريخ أو في ماضي كوكب المشترى، في المصنع أو في المطبخ. إننا في حاجةٍ إلى فلسفاتٍ للبيئات وللتفاعل الإنساني معها لتحل محل فلسفات التنوير للطبيعة وللعلم.

وإذ تترسم معًا مصادر من النسوية ومن الاقتصاد السياسي ومن دراسات البيئة، تبين لنا نظرية «ج. ب. ت» أهمية الائتلافات الفكرية والسياسية بين تحليلات غالبًا ما ظلَّت غريبة بعضها عن بعض. وعلاوة على هذا، فإن فلسفات التنوير هي رؤيتنا للعالم — رؤية العالم الحداثية — وفرضياتها تتغلغل في المؤسسات والممارسات، ولا يمكن زحزحتها من مواقعها حيثما اعتدنا أن نمارس الفلسفة؛ أي في الدراسات والمكتبات وقاعات الدراسة والمؤتمرات. إن تحويل فلسفات التنوير للعلم يتطلب استبصارات من كل المراكز ومن كل الأطراف، حيث أقدمت مثل تلك المعتقدات على تشكيل بنية العلاقات الاجتماعية ومعانيها.

نحن نعمل في الشمال على تعديل وضع بؤرة الفلسفات التنويرية لتتخذ اتجاهات مفيدة أكثر في إرشاد إنتاج المعرفة التي نريدها من أجل السياسات الديمقراطية، وبالنسبة إلينا فإن مصادر حركتين إضافيتين لدراسة العلم سوف تكتسب هي الأخرى أهمية؛ ذلك أن استبصارات دراسات العلم والتكنولوجيا بعد-الكُونية وبعد-الاستعمارية كلتيهما لها قيمتها بالنسبة لمشاريع ما بعد-التنموية في الشمال.١٤

(٣) منظور آخر لقصة نجاح العلم الحديث

دراسات العلم والتقانة بعد-الاستعمارية
تقوم دراسات العلم والتقانة بعد-الاستعمارية على نقد فلسفات التنوير وتأثيراتها في سياسات التنمية من منظورٍ لتواريخ العلوم الحديثة مناهض للنزعة الأوروبية، وكذلك الدراسات ذات الصِّلة للعلم والتقاليد التقانية الخاصة بالثقافات غير الأوروبية. في هذه التقارير، تُفهم سياسات التنمية بوصفها استمرارًا للتوسع الأوروبي الذي بدأ في العام ١٤٩٢م. علاوة على هذا، لعب التوسع الأوروبي دورًا أكبر كثيرًا مما سبق الاعتراف به، وذلك في مجال نمو العلم الحديث في أوروبا وإحرازه منزلة إبستمولوجية فريدة بوصفه القادر على إعطاء التفسير الحقيقي الوحيد لنظام الطبيعة. ذلك أن جدارة إبستمولوجيا العلوم الحديثة قد اعتمدت على نجاح التوسع الأوروبي، وليس فقط على قوى التنظيم الذاتي للعقلانية. تحتاج العلوم الحديثة إلى سلطة مؤسسات الدولة القومية أو المؤسسات الدولية لإضفاء المشروعية على العمل العلمي ولإجرائه قوة الدولة التوسعية تجعل من الممكن الإغارة على التقاليد المعرفية للثقافات الأخرى. ومن الممكن اختبار فروض في بيئاتٍ غير أوروبية حول العالم، وتدمير تلك التقاليد الأخرى التي قد تخلق منافسًا للدعاوى وللممارسات العلمية المحدثة، تدميرها بقصدٍ أو بغير قصد. هذه مدرسة من مدارس الفكر يمكن تتبع جذورها عودًا إلى أربعينيات القرن العشرين، ولكنها بدأت تنتعش وتزدهر في مؤتمرات ومطبوعات بالإنجليزية فقط منذ الثمانينيات.١٥ وفيها بؤرتان لهما أهمية خاصة بالنسبة إلينا هنا، هما: العلوم الإثنية المقارنة و«العلم — و — الإمبراطوريات».

وعن الإطار الأقدم، إطار المركزية الأوروبية الاستعماري، انبثق نوعٌ جديد من العلم الإثني المقارن في الأنثروبولوجيا والتاريخ. في ذلك الإطار الأقدم تتمثل التقاليد العُرفية للثقافات الأخرى بوصفها ناتجة عن «عقول همجية»، عن الخرافات والسحر، أو عن التأمل فقط، متوشجة في المعتقدات الدينية والمعتقدات الثقافية الأخرى، أو بوصفها مجرد معرفة بطريقةٍ تكنولوجية. ووفقًا للنظرة المركزية الأوروبية، تمتلك الثقافات الأخرى أنساقًا معرفية محلية. بَيد أن العلم الحديث لا سواه هو الذي ينتج دعاوى ذات صحة كونية.

بدأت حركة العلم الإثني المقارن المناهضة للمركزية الأوروبية في إعادة تقويم التمرس البارع في الإنجازات العلمية والتكنولوجية للثقافات الأخرى، وما أحرزته من إسهامٍ في تطور العلم الحديث في أوروبا، وهو الإسهام الذي جرى السكوت عنه في التاريخ المتعارف عليه للعلم، شرعت أيضًا في استخدام أدوات الإثنوغرافيا والتاريخ الاجتماعي، لتعيد فحص العلوم الغربية الحديثة بوصفها أنساقًا معرفية محلية، تتكامل مع الثقافات الخاصة بها. مثلًا، يوضح المؤرخ جوزيف نيدهام المعاني ذات الصبغة المسيحية المتميزة لفكرة قوانين الطبيعة في توجيهها للمنهج العلمي حتى مجيء القرن العشرين (Needham 1969). وإذا رمنا حالة أخرى، فإن التفكير التوسعي الأوروبي وتمثلاته فيما تعنيه الأمريكتان من جنات عدن وثقافات آسيا المتهاوية وقدر أوروبا المسيحية وهلم جرًّا، أشارت إلى الاحتياج لمعرفة عن أجزاءٍ معينة من نظام الطبيعة، ومثَّل هذا دفعًا عظيمًا لكي تتطور في أوروبا علوم البحار والمناخ والجيولوجيا ورسم الخرائط، ومشاريع هندسية شتى، وطب المناطق المدارية والصيدلة وعلوم الزراعة والبيولوجيا التطورية والعديد من العلوم الحديثة الأخرى (انظر، على سبيل المثال 1984 Goonatilake, 1979 Brockway, 192 McClellan, 1992-93 Kochhar). إن الخطابات الثقافية المحلية لها تأثيرات إيجابية على نمو العلم، وليس فقط تلك التأثيرات السلبية التي تركز عليها الفلسفات التقليدية.
وفي مقاربة مشروع ثانٍ وذي صلة، وهو «العلم — و — الإمبراطوريات»، انبثقت التواريخ بعد-الاستعمارية للعلم والتكنولوجيا كجزءٍ من تواريخ عولمية جديدة مناهضة للمركزية الأوروبية. ها هنا ينظرون إلى الثقافات الأوروبية وغير الأوروبية وكيف تفاعلت معًا على مدار ما يقرب من ألف عام، وبالتأكيد نشط هذا التفاعل في الخمسمائة عام التي تلت العام ١٤٩٢م. في مثل هذه المواجهات، تتبادل الثقافات حبات الخرز والبضائع المصنوعة والمواشي والنساء والأفكار العلمية والتكنولوجية. وهكذا كانت رحلات الكشوف ما تلاها من حقبةٍ استعمارية من ناحية، وتطور العلوم الحديثة من الناحية الأخرى، كل منهما شرط لنجاح الآخر (انظر، على سبيل المثال، ١٩٧٩م Brockway, 1984 Goonatilake, 1992 McClellan, 1992 Petitjean et al, 1988 Sardar). واستمرا يدعم كلٌّ منهما الآخر من خلال سياسات التنمية، التي توصف في تلك الأدبيات بأنها مواصلة للنزعة الاستعمارية بأساليب أخرى؛ أي إن سياسات التنمية وما تثيره من تساؤلاتٍ علمية وتكنولوجية هي أساسًا مواصلة لتقدم التوسع الأوروبي وليس تقدم المجتمعات التي تمثل المستفيدين الذين تستهدفهم تلك السياسات بشكلٍ علني.
ما الذي تقصده الأدبيات بعد-الاستعمارية حين تسمي العلوم الحديثة والتقاليد المعرفية للثقافات الأخرى، كلتيهما على السواء، «أنساقًا معرفية محلية»؟ تحركت هذه الفكرة لتحتل صدر المسرح في كل حركات العلم الأخرى التي نوقشت هنا (انظر ١٩٩٥م Turnbull and Verran–Watson; 1998b, 1998a Harding). وإحدى الطرق لوضع تصور لهذه النقطة هي أن الثقافات لها مواقع متمايزة في طبيعةٍ غير متجانسة ومصالح متمايزة في المناطق المحيطة بها. سوف يميل البشر الذين يعيشون في الصحاري أو بجوار المحيطات إلى إنتاج أنماط مختلفة من المعرفة (ومن الجهل). ودائمًا تمتد فروضهم (وعلى نحوٍ مفيد) امتدادًا يتجاوز كثيرًا البينة المتاحة، وهذا أحد الأسباب التي تجعل هذه الأنماط المعرفية لا يمكن أن تتلاءم أجزاؤها معًا كشأن القطع في لغز الصورة المتقطعة. وحتى في البيئة نفسها — لنقل مثلًا على طول شواطئ الأطلنطي — سوف يكون للثقافات المختلفة اهتمامات متمايزة بالمحيط وتنتج أنماطًا مختلفة من المعرفة ومن الجهل به تعتمد على ما إذا كانت اهتماماتهم بالصيد، أم بتحلية مياه الشرب المأخوذة من المحيط، أم إلقاء النفايات فيه، أم البحث عن المعادن تحت قاعه، أم استخدام المحيط كطريقٍ للتجارة أو لإرسال الحملات الحربية.

اثنان من المعالم يتقدمان سواهما في إمداد المشاريع المعرفية للثقافات بمصادر محلية. فيمكن للثقافات المختلفة الولوج إلى مصادر خطابية مختلفة: النماذج المسيحية لنظام الطبيعة، أو نماذج الطبيعة العضوية أو الميكانيكية أو الإنجيلية، أو الأفكار البيئية عن الأرض كقاربٍ يحمل الحياة، أو كسفينة فضاء. كل خطاب من مثل هذه الخطابات يوجه الاهتمام العلمي إلى جوانب مختلفة من اطِّرادات الطبيعة ويعمل على تنظيمها في تشكيلاتٍ سببية مختلفة. وأخيرًا، ليس هناك منهج علمي واحد ووحيد، أو بصفةٍ أكثر عمومية ليس هناك طريق واحد ووحيد لتنظيم إنتاج المعارف يمكنه الزعم بأنه الطريق الموثوق به لجميع أنواع المعرفة بنظام الطبيعة التي تنتجها الثقافات المختلفة-أو حتى التي تنتجها العلوم الحديثة. إلا أن مناهج البحث المثمر إنما تتنوع بتنوع الأنماط الإنسانية للتفكير وللتنظيم الاجتماعي.

بطبيعة الحال، ليست قوة أنساق المعارف المحلية جميعها على قدم المساواة بالنسبة إلى المشاريع جميعها. الطب الحيوي الحديث له قيمته في أغراضٍ عديدة. بَيد أن أشكال العلاج بالوخز بالإبر وبالتدليك والفيتامينات والتمرينات قد يكون لها قيمة أعلى في بعض الأغراض الصحية التي أهملها الطب الحيوي أو أساء تقديرها. إن مزاعم الفلسفة الحديثة للعلم بتفرده وصحته الكونية تعوق قدرتنا على تحديد الطريق في مثل هذه المسائل. مزاعم العمومية تؤدي إلى خللٍ وظيفية علميًّا وسياسيًّا.

على هذا النحو تستبدل تلك الدراسات بعد-الاستعمارية بالتواريخ والإبستمولوجيات التنويرية للعلم الحديث أخرى أكثر موضوعية، تحفزت مبدئيًّا بفعل طرح الأسئلة انطلاقًا من الموقف الاستشرافي لأولئك الذين خرجوا بأقل المغانم من تطور العلوم الحديثة في أوروبا. تقترح هذه الأسئلة أن العلوم التي كانت الأفضل بالنسبة إلى الغرب ليست بالضرورة هي الأفضل بالنسبة إلى بقية العالم، وأن العلوم «الغربية» التي لدينا الآن قد لا تكون جيدة بالنسبة إلى الغرب أيضًا. تنتج تلك العلوم جهلًا نسقيًّا، مخاطره تهدد الجنس البشري، يدمر الطبيعة ويدمر تقاليد معرفية أخرى لها قيمتها، وينتج علاقات اجتماعية مضادة للديمقراطية. علاوة على ذلك، تمتلئ تلك الأدبيات بأشكالٍ متعينة من إعادة تقويم فلسفات العلم التنويرية. لقد تركزت بشكلٍ خاص على ما في هذه الفلسفات من فروضٍ قبلية مجانية ترسم نماذج مُثل فريدة للموضوعية والعقلانية والمنهج الجيد، وعلى أنطولوجياتها التي ترسم تصورًا للطبيعة بوصفها قطعًا منعزلة من مادةٍ جامدة تتحرك. أشكال إعادة التقويم تنهال بالنقد على مزاعم أمثلة الخبراء العلميين الذين يجهلون غالبًا الظروف المحلية وبدائل الأنساق المعرفية، وعلى رفض القيود الجوانية الأخلاقية والسياسية في مساءلة العقلانية العلمية. تنظر الدراسات بعد-الاستعمارية إلى إبستمولوجيا العلم الحديث على أنها في واقع الأمر ضارية كاسرة، من حيث تضفي المشروعية على الغارات التي تشنها العلوم على سائر أنساق المعارف الأخرى، فيما تدمرها أيضًا. والمنزلة الفريدة للعلم الحديث هي في الأساس نتيجة لتلك الإبستمولوجيا ولنجاحات التوسع الأوروبي.

إن مسائل المرأة والجنوسة غابت — إلى حدٍّ كبير — عن السرديات الكبرى في هذه التقريرات بعد-الاستعمارية، باستثناء كُتاب «ج. ب. ت» الذين حدث أن أسهموا فيها؛ مثلًا، فندانا شيفا (١٩٨٩) Vandana Shiva. بَيد أن تساؤلاتها بشأن فلسفات التنوير تتقارب مع التساؤلات المطروحة في مناقشات «ج. ب. ت».

(٤) في أعقاب العلم «المستقل بذاته»

ما بعد-الكُونية في فلسفة العلم وتاريخه والدراسات الاجتماعية للعلم

من المفيد أن ندخر للخاتمة مراجعةً لتحديات الفكر التنويري التي تمخضت عنها الفلسفات الشمالية بعد-الكُونية والدراسات الاجتماعية للعلم والتكنولوجيا. كثيرون قد يعتبرون هذه المدرسة الأكثر محافظةً من بين الحركات التي نوليها الاهتمام هنا، غير أن تحليلاتها يغلب عليها اتباع الخطوط نفسها التي تتبعها الاتجاهات الأكثر راديكالية من بين الحركات الأخرى، مع أن هذه التقارير الشمالية قد انبثقت عن الخارطة التاريخية والجغرافية الأقدم. ولعلنا نبدأ بالإشارة إلى أن الأدبيات الأخرى جميعها قد أعدَّت لتبيِّن كيف أن العلم الحديث والتكنولوجيا يتكاملان مع جوانب مختلفة من حقبهما التاريخية، مع بنيات ومعاني الجنوسة، مع المشاريع الاقتصادية المحلية والعالمية، مع مواقف وظروف بيئية تاريخية متمايزة، ومع التوسع الأوروبي والمشاريع الاستعمارية، ومع المواقف حيال ظروف حيوات النساء في ظل السياسات التنموية. في هذه النقطة وحدها نجد الدراسات بعد-الكُونية للعلم والتكنولوجيا ترتبط بالحركات الأخرى المتحدية للفكرة المصطلح عليها القائلة إن تواريخ العلم الحديث المواءمة فلسفيًّا هي التواريخ الذهنية فحسب.

لنأخذ موجز بؤرتين من هذا النوع من النقد الشمالي للتنوير، وهذا يعطينا فرصةً لتوسيع وتعضيد الائتلافات بين المشاريع بعد-الكُونية وبعد-الاستعمارية والنسوية. بادئ ذي بدء، هل انبلجت الثورة العلمية الأوروبية بوصفها جزءًا من «المعجزة الأوروبية»، من دياجير العصور المظلمة؟ إن الحدود الخمسة جميعها لمثل هذا الزعم — أوروبية، علمية، ثورة، معجزة، عصور مظلمة — تبدو الآن مستشكلة. تبين الدراسات التاريخية للعصور الوسطى الأوروبية وأنشطتها العلمية والتكنولوجية اللبيبة أن التفكير في هذه الحقبة بوصفها عصورًا مظلمة إنما يكشف عن المتحدث أكثر من أن يكشف عن العصور الوسطى الأوروبية. لم تكن هناك معجزة أوروبية أو ثورة علمية، بل مجرد عملية بطيئة بدأت مبكرًا في القرن الحادي عشر. في تلك العملية، نجد أن مكونات ما حدث أن سُمي «العلم الحديث» قد جاءت مجتمعة كجزءٍ من تغيراتٍ سياسية واقتصادية واجتماعية كلها تدريجية. علاوة على هذا، فإنه مع التسليم بالحضور المكثف للثقافة الإسلامية في العصور الوسطى الأوروبية وبواكير عصرها الحديث، والاستعارات التي تمت في العلوم الحديثة المبكرة من الفكر الصوفي المصري،١٦ وعناصر أخرى غير أوروبية، والتشظي السياسي لما نسميه الآن أوروبا، الذي استمرَّ حتى عصر النهضة على الأقل، يبدو من المضلل تمامًا أن نتحدث عن العلوم الحديثة بوصفها أوروبية، وكذلك لم تكن العلوم الحديثة المبكرة شديدة الشبه بما نعتبره الآن علمًا، فقد تشكلت دعاويها التجريبية بفعل الخيمياء …١٧ وعبادة الشمس والتنجيم وسواها من معتقداتٍ صوفية وممارسات بحثية — ولن نذكر الميتافيزيقيات والإبستمولوجيا الصريحتين في مسيحيتيهما، اللتين عينهما نيدهام وآخرون (Yates 1969: 1954, 1969, Blaut 1993).
إعادة صياغة تصوراتنا لأصول العلم الحديث على هذه الشاكلة إنما تمثل رابطة تربط بين التقارير بعد-الكُونية والدراسات بعد-الاستعمارية وما نجده على صفحات أدبيات «ج. ب. ت» من اهتمامٍ بأنساق المعارف المحلية. ومن خلال مثل هذه التحليلات، التي تمتد إلى تحليلات الفيزياء في آواخر القرن العشرين، بينت دراسات العلم الشمالية أنه لا عنصر من عناصر العلم بمنأى عن التشكيل الثقافي، وكل عنصر من عناصر العلم له نواتج إبستمولوجية (Forman 1987, Pickering 1992).
أما عن البؤرة الثانية، فلنأخذ في الاعتبار حججًا محدثة ضد أطروحة وحدة العلم — وهذه الأطروحة هي الصورة التي اندمجت فيها فرضيات التنوير بشأن كونية المزاعم العقلية الحديثة في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن العشرين وتظل قوية ماضية حتى يوم الناس هذا (انظر Galison and Stump 1996, Harding 1998a). تتمسك أطروحة وحدة العلم بأن هناك عالمًا واحدًا ووحيدًا، وحقيقة واحدة عنه، وعلمًا واحدًا ووحيدًا قادرًا على اقتناص هذه الحقيقة. وثمة فرضية رابعة توارت في صياغات العلماء والفلاسفة لهذه الحجة: كان ثمة «طبقة» واحدة أو جماعة واحدة من البشر قادرة على الإفصاح عن ذلك العلم؛ وبالتالي التعرف على تلك الحقيقة — إنهم الخبراء العلميون.١٨ ولندع جانبًا التساؤلات حول الفائدة في افتراض «العالم الواحد» (لكن انظر Dupre 1993). وسنجد أن دراسات العلم بعد-الكُونية قد قوضت دعائم الفرضيات الثلاث الأخرى، لا يعني هذا أن تلك المواقف ليست محل خلاف، لكن الأدنى إلى الصواب أن العديد من المؤرخين وعلماء الاجتماع والإثنوغرافيين وفلاسفة العلم يتفقون على أن فرضيات الوحدة قد عمرت طويلًا حتى بعد أن انتهت فائدتها، على الأقل انتهت فائدة صياغاتها المبدئية الأقوى وسبل الإفصاح عنها الآن. أما فرض «الحقيقة الواحدة» فيستدعي أشكالًا شتى من الاختزالية التي هي غير واقعية، وهذا الزعم ولو حتى كفكرةٍ مثالية يسد سبل المعرفة. إن فرض «العلم الواحد» غير ذي معنى، حتى في العلوم الحديثة، وذلك في ضوء القيمة العالية لإعادة الإنتاج فيها في مجالات البحث المتخصصة، وفي ضوء مناهجها المتميزة، ومصادرها التمثيلية المتمايزة. ومن هذا المنظور، العلوم الحديثة ذاتها أنساق معرفية محلية متعددة ترتبط بأساليب برجماتية، وليست بالضرورة أساليب تمثل التساوق المكتمل.
حينئذٍ يغدو التحدي ليس في كيفية رد هذا التنوع إلى وحدةٍ واحدة من خلال ألاعيب خطابية تنكرية، بل الأحرى في أن نتفهم كيف ارتحلت مثل هذه المعارف المحلية من ثقافةٍ إلى أخرى، وكيف أن عناصر من سياقاتٍ مختلفة للإنتاج قد ارتبطت معًا وأعيد بناؤها في سبلٍ تساعد في إنتاج معرفة جديدة، وهؤلاء الممارسون من مجالات تتضارب تعريفاتها للمصطلحات الرئيسية كيف اجتمعوا للعمل معًا بهذه الكفاءة؟١٩ ما هو المكسب وما هي الخسارة حين تنفصل معرفة عن واحدٍ من الأنساق الثقافية وتندرج في نسقٍ آخر في زمانٍ بعيد أو مكانٍ ناءٍ، كما حدث أخيرًا، في حالة انتقال الوخز بالإبر مثلًا، إلى الطب الحيوي الحديث؟ وهذه المعلومات التي لا بد أن تكون قد انتقلت عبر أجيال، كيف توحدت معاييرها في ثقافاتٍ لا تملك إلا الأدبيات الشفاهية فحسب (Watson–Verran and Turnbull 1995).
ويبدو مثال الكونية universality هو الآخر مفسدًا للأمر علميًّا وإبستمولوجيًّا، لأسبابٍ عديدة. إنه يُضفي المشروعية على الالتجاء إلى علمٍ واحد موحد لكي يدعم على نحوٍ آخر غير ملائم مزاعم علمية فردية، ويضفي المشروعية على مقاومة انتقاداتٍ ذات قيمة غير متسقة مع الرؤى السائدة. وعلى نحوٍ غير ملائم يحط من قيمة التنوع الإدراكي. إنه يحجب حدودًا لا محيص عنها لأي علمٍ واحد، وكذلك يعزز الجهل النسقي في العلوم الاجتماعية ومجالات أخرى من تلك التي تصوغ لنفسها نموذجًا على غرار فلسفات العلوم الطبيعية. وعلاوة على هذا، مثال الكونية من الناحية السياسية باهظ التكاليف، بثلاث طرق. إنه يبخس ويدمر تقاليد معرفية حاسمة لبقاء ثقافات أخرى على قيد الحياة، يرفع من شأن نموذج للإنسان المثير للإعجاب وقد تحددت معالمه في حدود مناقضته وابتعاده عن النسائية وعن غير-الأوروبي وعن المستضعف اقتصاديًّا. ويرفع التسلطية المعرفية والمُثل «الدينية» المتأشكلة إلى منزلة المثل الإنسانية العليا، وهو يفعل هذا من خلال ما يعتمل به من برنامجٍ موحد للإشارات ورهاب الأجانب [الخوف من الغرباء]، وببنياته الاجتماعية التراتبية [الهرمية] حيث جماعة الصفوة من الخبراء لهم منزلة «شعب الله المختار»، ثم يحتمي بطرائقه الرسمية وغير الرسمية من تفحص العامة وإنعامهم النظر لعملياتٍ متكاملة لتصنيف المعتقد.٢٠
وأخيرًا، تبين أيضًا هذه المدرسة من دراسات العلم أن معايير العلم الحديث قد تغيرت من الناحية التاريخية على مر الزمن، ودائمًا يتشكل ويترعرع خطابها البلاغي المنمق. أما ما يؤخذ بوصفه منهجًا جيدًا أو بينة في الرياضيات أو بوصفه الموضوعية والعقلانية، ودع عنك «الحقيقي» أو المادي، فإنه يتغير في داخل العلوم من حقبةٍ إلى أخرى، وغالبًا من مجالٍ إلى آخر. إن المعايير الإبستمولوجية والأنطولوجية للعلوم أيضًا لها تكاملها مع حقبتها التاريخية (Poctor 1991; Schuster and Yeo 1986; Shapin 1994; Shapin and Schaffer 1985).

على هذا النحو، في سبيل نقد الفلسفات التنويرية للعلم ترتبط تواريخ وفلسفات العلم الحديث البعد-كونية بصميم موضوعات بحثها مع سواها، وتوفر إمكانات لها قيمتها من أجل إقامة الاتئلاف الضروري لترسيخ دعائم فلسفات العلم بعد-التنويرية. فكيف تبدو مثل هذه الفلسفات؟

(٥) فلسفات العلم بعد التنويرية: تساؤلات مستجدة

نحن الآن في موضع إجمال بعض من الدعاوى الفلسفية الجديدة الناشئة عن تحليلات «ج. ب. ت»، والتي تظهر أيضًا في الدراسات بعد-الاستعمارية وبعد-الكُونية.

(٦) في أعقاب مثال الكونية: أنساق المعارف المحلية

كانت فلسفات التنوير مسكونة بهاجسٍ مسبق هو استبعاد المحلية من العمليات العلمية، وبهذا نظفر بدعاوى معرفية عابرة للثقافات وذات صحة كونية. فيما بعدُ تشكَّلت معارف تتَّسع لعناصر من عدة هياكل من المعرفة العلمية النسقية (ومن الجهل العلمي النسقي). على الرغم من أن نماذج الكون التي استقرت فيها تلك المعارف، وما ادعته من علاقاتٍ تربط بين الظواهر الملاحظة، قد تختلف اختلافًا واسعًا في الأنساق المتعاقبة. تتساءل الفلسفات الجديدة عن كيفية «ارتحال» المعارف المحلية وأي نوعٍ منها هو الذي يرتحل؛ ولأن الثقافات هي صندوق الأدوات لنمو المعارف وبالمثل كذلك السجن الذي يُعتقل فيه هذا النمو، تتساءل أيضًا عن الخسارة والمكسب حين يحدث هذا الارتحال. إنها معنية بعملياتٍ عولمية، ولكن ليس بإحراز الكونية.

(٧) العارفون الأذكياء والأنساق المعرفية غير المكتملة

إنها شروطٌ فعلية ومثالية لإنتاج المعرفة، ومثلها يتطلب نموذجًا (أو بالأحرى نماذج) للعارفين وللأنساق المعرفية، يختلف عن ذلك النموذج المألوف لعارفين صموتين لزامًا عليهم أن يناضلوا ليتعلَّموا نسق المعرفة الصحيحة الواحد والوحيد. تستكشف هذه الفلسفات نماذج أخرى ممكنة. واحد من هذه النماذج مأخوذٌ من واقع الحياة اليومية وواقع الممارسة العلمية الراهنة على السواء، وهو يطرح العارفين الأذكياء والأنساق المعرفية غير المكتملة. العارفون هنا — علماء أو مواطنين — دائمًا ليس لديهم سوى أنساقٍ معرفية غير مكتملة، عن طريقها لا بد أن يتخذوا قراراتٍ يومية وكذلك قرارات حياة أو موت، وإن يكن معظم العارفين في يومنا هذا متاحًا أمامهم أكثر من نسقٍ واحد.

خذ على سبيل المثال الممارسات اليومية للحفاظ على الصحة في الطبقة الوسطى بالحواضر الكبرى. هنا يستخدم الأفراد عادة عدَّة أنساق معرفية متضاربة. ونحن نستخدم في الولايات المتحدة أشكال العلاج بالفيتامينات المنتقاة والوخز بالإبر والتدليك والحمية الغذائية والتأمل، ولن نذكر الوصايا المنزلية للجدة — التي كان الطب الحيوي الحديث حتى سنواتٍ قيلة مضت يزعم أنها قليلة القيمة أو معدومة القيمة. بَيد أننا نستعمل أيضًا الطب الحيوي الحديث. وتحدث صورة أخرى من هذا الموقف للبشر في الثقافات غير الغربية وأولئك لهم مداخلهم للطب الحيوي الحديث والعلوم الشمالية الحديثة الأخرى ولنظم العناية بالصحة في ثقافاتهم الأصلية وأنساق معرفية أخرى (انظر، مثلًا Bass 1990). يجب أن نتسلح جميعًا بالمهارة العالية بصدد أي الأنساق المعرفية سوف نستخدمه ومتى، وهذا يمكن أن يكون مسألة حياة أو موت، والمسألة هي أن التنوع الإدراكي قيمة علمية مهمة.٢١

(٨) مقاومة النسبوية والمثالية

تقريبًا في سائر كتابات تلك الأدبيات المتنوعة، لا يسمحون أبدًا بأن يكون رفض المطلقية التنويرية والمادية المتطرفة على وجه التحديد سببًا لتبني النسبوية المعرفية والمثالية. إن الثقافات المختلفة تمتلك فعلًا وحقًّا معايير علمية وإبستمولوجية مختلفة، من الواضح أنها محض دعوى تاريخية أو اجتماعية — إنها نسبية من الناحية التاريخية أو الاجتماعية. ولكن ليست الأنساق المعرفية جميعها على قدم المساواة من حيث القدرة على استكناه الجوانب المختلفة لنظام الطبيعة بخواصه المتغايرة. كثيرون يخوضون غمار حياة قصيرة تعسة باتباعهم وصايا أنساق معرفية محلية — بما فيها «النسق المعرفي المحلي» الخاص بنا؛ أي العلم الحديث.

لننظر إلى نسقنا الخاص بنا الذي كان يسمح، حتى وقتٍ قريب، بالتدخين وبالفيتامينات غير الملائمة، ودع عنك السموم البيئية التي تسببها الصناعة. بعض العلوم هي الأفضل إذا كنت تريد الذهاب إلى القمر، وأخرى هي الأفضل إذا كنت تريد الحفاظ على البيئة المستدامة. هكذا تُعنى التقارير بكيفية الإفصاح عن مثل تلك المعايير العملية في تحديد قيمة المعتقد، بدلًا من أن تتعقب مسائل تتعلَّق بفضائل المطلقية أو النسبية. وبالمثل، حين ترفض تلك التقارير الفكرة القائلة إن عقولنا الزجاجية كالمرآة يمكن أن تعكس بشكلٍ تام ذلك الواقع «الكائن خارجها» في كون لا-اجتماعي، فلن يدفعها هذا الرفض أبدًا إلى أحضان المثالية حيث لا حقيقة إلَّا في الأفكار الإنسانية وما هو اجتماعي. بدلًا من هذا، فإن القسمة الثنائية بين المادي والمثالي، مثلها مثل الأحكام المعرفية المطلقة مقابل النسبية، تغدو هي ذاتها موضوعًا للفحص التاريخي: ما هي الظروف الاجتماعية والعقلية التي جعلت مثل هذه الأطر التصورية المستشكلة تبدو معقولة؟

(٩) الطبيعة: الاجتماعي والطارئ

كانت الطبيعة بالنسبة إلى فلسفات التنوير، يمكن من حيث المبدأ قراءتها بواسطة العلم، وكان السؤال المطروح حول كيفية إنجاز مثل هذه القراءات. أما في الأدبيات التي فحصناها هنا، فليس من الممكن أن توجد قراءة علمية لنظام الطبيعة واحدة ووحيدة ومكتملة. يعود هذا في جانبٍ منه إلى طرقٍ للمعرفة تكون أحيانًا مثمرة وأحيانًا مُعوِّقة، طرقٌ يتبعها البشر في جعلهم الطبيعة موضوعًا للملاحظة من خلال الاهتمامات والخطابات الثقافية، وطرق تنظيم المعرفة الناتجة، وأيضًا في مثل تلك النواحي، تظل هذه الطبيعة التي يلاحظها العلماء دائمًا اجتماعية. (ليست «إلا» اجتماعية، ودائمًا هي الأخرى فقط اجتماعية). ها هنا تبدَّلت صورة التساؤلات، فأمامنا ما نعتبره طبيعة وما نعتبره اجتماعيًّا، فكيف يتشاركان لينشآ معًا في المجتمعات التي تساند مثل هذه القسمة الثنائية، وبصفةٍ أكثر عمومية، كيف يتغير نظام الطبيعة بفعل الممارسات الإنسانية المادية والرمزية، فكيف ينبغي وضع تصورات متشاركة للعلوم وفلسفاتها، لنظام فلسفات العلوم، بوصفها «في الطبيعة» أيضًا، وتتطلب تفسيرات تسير جنبًا إلى جنب مع التقارير التي تقدمها عن نظام العلوم ونظام الطبيعة؟ وأي المصادر في العلوم الاجتماعية يمكن أن تكون مفيدة في مثل هذه التفسيرات؟

وهناك سببٌ آخر يجعل الطبيعة غير قابلة للقراءة في خاصيتها الطارئة، الطبيعة تنتج باستمرارٍ ظواهر جديدة، من قبيل ثقوب الأوزون، وصنوف جديدة من الأمراض لا يمكن التنبؤ بها. هذا الجانب من الطبيعة كيف يمكن تعيين خصائصه في الفلسفات الجديدة؟

(١٠) استيعاب الأخلاقيات والسياسات الديمقراطية في العلوم

مع تعددية العلوم المحلية ثقافيًّا، يغدو من المفترض أن تتكامل معها تعددية من الأخلاقيات المحلية ثقافيًّا ومن الفلسفات السياسية. أما تصورات التنوير عن العقلانية فإنها تضع الأخلاقيات والسياسات في موضعٍ خارج حدود العقلانية. في السنوات الأخيرة، طوَّر المنظِّرون النسويون، ومعهم آخرون، نظريات بعد-تنويرية للعقلانية، وفيها يكون للقرارات الأخلاقية وللعواطف أيضًا عقلانيتها. ومن الواضح أن تحليلات ما بعد-الاستعمارية وتحليلات «ج. ب. ت» تستكشف الطرق المؤدية إلى استيعاب المثل الأخلاقية والسياسية الديمقراطيتين في داخل العقلانية العلمية؛ لأن تلك العقلانية المجردة من مثل تلك المساءلات غير قادرة على أن تكون منظمة لذاتها بصورةٍ ملائمة. ما هي «الديمقراطية» التي سوف نقصدها، كيف يمكن تفعيل مثل هذا المعيار في سياقاتٍ بعينها — تتصدى تحليلات «ج. ب. ت» وما بعد-الاستعمارية لهذين السؤالين العسيرين لكن المهمين؟ لعلَّ الروح الديمقراطية التي يمكن استيعابها في العلم — وهي الروح التي تنشأ عن عدة أنواعٍ من التقارير المطروحة هنا — تتمثل في أن أولئك الذين يتحملون معقبات القرارات العلمية والتكنولوجية لا بد أن يتمتعوا بمشاركةٍ متناسبة في صنع تلك القرارات. في السياقات التاريخية والثقافية المختلفة، توجد أنواع مختلفة من المؤسسات والممارسات تكون أفضل في تيسير سبل مثل هذه الروح: المجتمعات المحلية الصغيرة التي يتقابل أفرادها جميعًا وجهًا لوجهٍ تحتاج إلى أنواعٍ مختلفة من المؤسسات والممارسات الديمقراطية.

(١١) فلسفات العلم مِنْ منْ؟

وماذا عن فلسفات العلم، كتلك الفلسفات التي تتشارك في أن موضوعاتها الرئيسية ناشئة عن دراساتٍ للعلم والتكنولوجيا فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي دراسات تختلف اختلافًا ليس باليسير؟ لقد لاحظنا أن مثل هذه الدراسات يمكن أن نضع لها هي الأخرى تصورًا يفيدنا كثيرًا بوصفها «جزءًا من الطبيعة» وخاضعة للتحليلات جنبًا إلى جنب مع العناصر الأخرى الاجتماعية والبيئية المحيطة بنا. ويمكن أيضًا أن نرى كيف يلزمها أن تظل دائمًا غير منتهية، تتجدد باستمرارٍ من خلال عملياتٍ جماعية تجري خلال ائتلافات لها فائدتها وحوارات لها اعتبارها.

هوامش

(١) ساهمت تعليقات آن غاري وأوما ناريان في تطوير هذا المقال.
(٢) ثالوث «الجنوسة والبيئة والتنمية المستدامة» كان عنوانًا لفرعٍ من التفكير النسوي أو لحركة بحث ودرس وسلسلة من التحليلات مثله في ذلك مثل «المرأة في التنمية». هذا الأخير مرحلة أسبق من النقد النسوي للتنمية. أما الثالوث المذكور فيمثِّل نقدًا أعمق وأكثر تقدمًا، وهو منطلق هذا الفصل؛ لذلك يرد هذا الثالوث مرارًا وتكرارًا في الصفحات التالية، فآثرت ساندرا هاردنغ — اختصارًا — أن ترمز إليه بعد الحروف الثلاثة الأولى GED. يقابلها بالعربية (ج. ب. ت). إن جُعلت كلمة واحدة لكانت (جبت)، وهو الاسم القديم لمصر، ومنه القبط، وegypt؛ لذلك آثرت وضعها بهذا الشكل المنفصل الذي يطابق الأصل الإنجليزي. [المترجمة]
(٣) بومة منيرفا هي إلهة الحكمة عند الرومان، وتؤخذ كرمزٍ للمعرفة والبحث الحثيث عنها. والكاتبة تجعل من بوم منيرفا كناية عن فلاسفة العلم في التيار السائد، لتهيب بهم أن يبحثوا عن نظرةٍ أوسع. [المترجمة]
(٤) ليس «العلم التنويري» أو «العقلانية العلمية التنويرية» هي الطريقة التي تتميز بها تلك المجالات في رؤية أنصار العلم التنويري، بل هي الطريقة التي يشار إليها في مساجلات الجنوسة والبيئة والتنمية المستدامة (ج. ب. ت). وبالمثل في دراسات العلم بعد-الاستعمارية وبعض دراسات العلم النسوية الشمالية. إن المستهدف هنا أوسع كثيرًا من مجرد الوضعية أو الوضعية المنطقية، ويشمل كثيرًا من فلسفات العلم الماركسية وبعد الماركسية وحركات علمية أخرى. وثمة مصطلحات أخرى مأخوذة من أدبياتٍ نوقشت هنا سوف تبدو هي الأخرى بمدلولٍ غريب على القارئ؛ مثلًا «الشمال» و«الجنوب» للإشارة إلى «الغرب» و«بقية العالم»، «العلم» ليشير إلى أي معرفةٍ نسقية لثقافةٍ ما عن الطبيعة المحيطة، «دراسات العلم بعد-الاستعماري»، و«أنساق المعرفة المحلية»، وسوف أعمل على توضيح ما تعنيه مثل هذه المصطلحات حال ورودها، ولمناقشاتٍ أوسع حول هذه المسائل وحول دراسات العلم والتكنولوجيا بعد الاستعمارية التي مثلت مددًا لهذا المقال، انظر (Harding 1998a).
(٥) قدمت درسيلا باركر في (Drucilla Barker 1998) موجزًا مفيدًا لجوانب مهمة من هذا الحلم (بتعبيرها) «النزعة الاقتصادية» مشروحة لاحقًا.
(٦) أعتمد هنا على إسهامات عدد من المشاركين في مساجلات «ج. ب. ت» (على النحو المشار إليه)، ولكني أعتمد بشكلٍ خاص على عمل روزي برايدوتي وإيوا تشاركيفيسك Ewa Charkiewicz وسابين هولزر Sabine Hausler وساسكيا ورينغا Saskia Wieringa في «النساء والبيئة والتنمية المستدامة: نحو تركيبٍ نظري» Women, the Environment and Sustainable Development: Towards a Theoretical Synthesis (Braidotti et al, 1994). إن برايدوتي وزميلاتها قد استنطقن معًا أشمل تحليل نظري مطروح حتى الآن في مناقشات «ج. ب. ت» وعنها، يركز على كيفية تشكيل الأولويات المؤسسية لتلك المناقشات، وبالمثل كذلك على القضايا والمشكلات والاحتمالات الفلسفية التي تثيرها تلك التقارير.
(٧) يمكن أن نجد في هذا العدد تخطيطًا موجزًا لتحليلات «ج. ب. ت» مع باركر (١٩٩٨) وفيرغسون (١٩٩٨). انظر أيضًا Braidotti et al 1994 خصوصًا الفصل الخامس، ومقدمة هاركورت ١٩٩٤م، والحجة الأساسية في هذا التاريخ تنامت في Agarwal 1993; Boserup 1970; Dankelman and Davidson 1988; Mies 1986, Sen and Grown 1987; Shiva 1989; and Span 1994.
(٨) اتخذ التحديث («التنمية») في أوروبا هذا النمط تحديدًا مع تسيج الأراضي المشاعة؛ مما أدى إلى الهجرة من المناطق الريفية إلى المناطق الصناعية، ونشأة البروليتاريا، وقوانين جديدة للزواج وللميراث في مصلحة الرجال، وهلم جرًّا. انظر على سبيل المثال Kelly–Gadol 1976.
(٩) يظل مصطلح الجنوسة gender له مشاكله الخاصة به، فليس له وجود في لغاتٍ أوروبية عديدة، حيث نجد التعبير «اختلاف الجنسين» يستخدم ليقوم بمعظم ما يقوم به مصطلح «الجنوسة» في اللغة الإنجليزية (انظر مناقشة مثمرة لتاريخ مشكلات هذا المصطلح في Braidotti et al. 1994, 36–43). وفي محاولةٍ مبكرة للتأكيد على أهمية الصور الرمزية والبنيوية للجنوسة انظر Harding 1986, 52– 56. علاوة على هذا، تطور هذا المصطلح في طرقٍ استشكالية أخرى، انظر مثلًا تقرير عالمة اجتماع نيجيرية تلقت تدريبًا في الولايات المتحدة: (Oyewumi 1997).
(١٠) مع برايدوتي وآخرين Braidotti et al نجد إدراكًا مصيبًا لسياق وكالات التنمية تلك وكيف شكل مناقشات «ج. ب. ت» (في ١٩٩٤م الفصلين الخامس والسابع).
(١١) كان عمل دونا هاراوي (Donna Haraway 1989, 1991, 1997) على وجه الخصوص ذا أهمية خاصة لتركيبية «ج. ب. ت»؛ وذلك تحديدًا بسببٍ من طريقتها في الوصل بين الخطابات بعد البنيوية والمادية المعنية بتصورات التنوير للطبيعة والعلم والجنوسة والعرق والإمبريالية.
(١٢) قليلٌ من التقارير النسوية الأخرى (بخلاف تقارير هاراواي) نهلت أيضًا في مشاريع دراستها للعلم من المصادر الموحدة للاقتصاد السياسي ودراسات البيئة (مثلًا Seager 1993, Plumwood 1993). إنها تتجاوز اهتمامات «ج. ب. ت» وتنحرف عن مسارها أيضًا.
(١٣) قرن الوفرة cornucopia ينتشر في الميثولوجيا وفي قصص الأطفال الأوروبية، وهو قرن أو قرطاس يحوي كل ما تشتهي الأنفس من فواكه نضرة وزهور جميلة وحبوب يانعة، ومهما أخذ منه لا ينفد محتواه أبدًا؛ لذا يقال إن الأم تبدو لوليدها كقرن الوفرة الذي يشبع دائمًا رغبات بلا حد. [المترجمة]
(١٤) بطبيعة الحال، أعمال هاتين المدرستين لدراسات العلم فيما بعد الحرب العالمية الثانية مألوفة تمامًا لبعض كتاب (ج. ب. ت).
(١٥) لنظرةٍ عامة على هذه الأدبيات انظر Harding 1998a، الفصلين ٢، ٣، انظر أيضًا: Ads 1989; Blaut 1993; Brockway 1979; Crosby 1987; Goonatilake 1984; Head–rick 1981; Hess 1995; Kochhar Nandy 1990; Lach 1977; McClellan 1992; Needham 1954ft, 1969; Petitjean et al. 1992–1993; Kumar 1991; Reingold and Rothenberg 1987; Rodney 1992; Sardar 1988; Watson– Verran and Tumbull 1995; Weatherford 1988. تختلف دخائل هذه الحركة عن العديد من المساجلات الجارية، تأتي تمثيلاتها من الثقافات الشمالية وكذلك من الثقافات الجنوبية كما تشير القائمة الواردة عاليه. العديد من علماء العالم الثالث، كزملائهم في الشمال، لا يزعجهم المتعصبون للتفسيرات المركزية-الأوروبية للعلم الحديث؛ وبالتالي لا تعنيهم هذه المناقشات. الولوج إلى العلم الحديث بالنسبة إليهم، كما هو بالنسبة إلى ثقافات أوروبا وأشتاتها، إنما هو وسيلةٌ للظفر بمنزلةٍ اجتماعية محيلة، ولاقتحام المجتمع الدولي، وللانخراط في المشاريع التي تمنح بالفعل ومن جوانب عديدة مصادر مناهضة للتفكير التقليدي القمعي ولممارساته، وعلى النقيض من الانطباع الذي نخرج به من بعض الأدبيات بعد-الاستعمارية، لا ترى «ج. ب. ت» (أو كاتبة هذه السطور) الإشكالية في العلم الحديث في حد ذاته أو التنوير أو الحداثة في حد ذاتها، بل فقط في جوانب معينة من سياقاتٍ متميزة.
(١٦) لعل هاردنغ تشير هنا إلى هوس كبلر واضع القوانين الرياضية لحركة الأفلاك السماوية بالفكر المصري القديم، حيث الوضع الفريد للشمس في منظومة الكون وفي منظومة العقائد، فبعد أن وضع كبلر قانونه الثالث اشتهر عنه قوله: «لقد نهبت أواني المصريين الذهبية كي أؤثث معهم معبدًا مقدسًا، بعيدًا عن تخوم مصر. [المترجمة]
(١٧) الخيمياء أو السيمياء alchemy هي العلم القديم الذي كان يهدف إلى تحويل المعادن الرخيصة ذهبًا، وهو الذي تطور على مر الزمن ليصبح الآن علم الكيمياء. [المترجمة]
(١٨) أشارت فال بلمود Val Plaumwood إلى هذا في محادثة.
(١٩) انظر مثلًا، مقدمة بيتر غلسون P. Galison في مجموعته بالمشاركة مع ديفيد جي. ستمب (D. J. Stump 1996)، حيث ناقش كيف أن هذا الاتفاق حول كيفية وضع تصور للعشوائية كان الوصول إليه في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين بين مصممي القنبلة الذرية والمنطقيين والإحصائيين ومهندسي الطيران، في تناولهم لمشكلة كيفية بناء كمبيوتر يحاكي الواقع.
(٢٠) انظر مقالات ديفيد ستمب وإيان هاكنغ I. Hacking في Galison and Stump 1996، وHarding 1998a.
(٢١) في هذا الجزء الختامي من Harding 1994، أقوم باستكشاف بعض من مثل هذه النماذج كما تظهر في أدبيات العلم بعد-الاستعماري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤