الفصل السادس عشر

تعيين موضع الهويات المنَكِّثة: نحو رؤيةٍ لشخصية البيض العرَّافة-للامتياز١

أليسون بيلي

الذي يقوم بعملٍ مناهض للعنصرية، لا بدَّ أن يفكر تفكيرًا فعَّالًا مضادًّا للعنصرية، وألا يكون محض إنسان آلي أبيض مُبرمج على ترديد ما يقوله السود.

هاردنغ

إنني أتصدى لمشكلة كيفية تعيين موضع الذوات «المُنكثة»، أو أولئك الذين ينتمون إلى جماعاتٍ مهيمنة ومع هذا يقاومون الفرضيات والممارسات المألوفة لتلك الجماعات. وأزعم أن وصف ساندرا هاردنغ للناكثين بأنهم أهل الامتياز، الذين «أصبحوا هامشيين» إنما هو وصف مضلل. وعن طريق صياغة تمييز بين سيناريوهات البيض «العرَّافة-للامتياز» وتلك «المُروِّغة-للامتياز»، أقدم توصيفًا بديلًا لناكثي العرق بأنهم بيض عرَّافون-للامتياز ويرفضون معايشة السيناريوهات الأبيضية المتوقعة منهم، وأنهم غير مخلصين لرؤيةٍ للعالم يُنتظر من البيض أن يتمسكوا بها.

كنت قد بدأت أشعر بأنني بيضاء جميلة بشكلٍ غير متواتر. أهل كلان٢ يعبرون عن هذا بكلمةٍ واحدة: ناكثة للعرق، وإذ كنت أقود السيارة داخل المقاطعات وخارجها بنشاط كلان المفعم، ثبَّتُّ عيني على مرآة الرؤية الخلفية، وكلما مرت بي شاحنةٌ ترفع العَلم الفدرالي يتطاير شعري من الخلف إلى أعلى مهفهفًا إلى أعلى … كنت في المواجهة اليومية الحميمة للعنصرية القادسية وآثارها المدمرة، التي يتحدث عنها أصدقائي السود بالطريقة نفسها التي يعلقون بها على أحوال الطقس، فكلاهما متساويان كعاملٍ ثابت في حياتهم، أشعر بمزيدٍ من عدم الارتياح في دوائر البيض ومزيد من الارتياح في دوائر الملونين … فهل وطأة بياض البشرة على الوعي أثقل من وطأة البشرة الملونة؟ أفزعني هذا، وأيضًا أفزعتني إمكانية أن أقع في الهوة بين عوالم العرق، البيض ينبذونني والملونون لا يرحبون بمقدمي (Mab Segrest, Memoir of a Race Traitor, 1994, 80).

إن الدرس المحدث للتعددية الثقافية وبعد الاستعمارية والعولمية في المذاهب النسوية قد مثَّل حافزًا لإعادة تحليل النصوص الفلسفية للتيار النسوي وللتيار السائد على السواء، والمنهجيات والمفاهيم وأطر العمل. والنقد الأدبي لهُويات البيض واحد من المشاريع المنبثقة عن هذه المداخلات المستجدة. في الوقت الحاضر، تشكلت هُوية البيض بفعل الظلم وغنمت منه. ويتطلَّب العمل على تحويل وتبديل هذا أن يستكشف البيض كيف يعاودون الإفصاح عن هوياتنا بطرقٍ لا تعتمد على تبعية ذوي البشرة الملونة.

يتصدَّى هذا المقال لأحجيةٍ بسيطة بيد أنها مثيرة للمتاعب: مشكلة كيفية توصيف وتفهُّم موضع أولئك الذين ينتمون إلى الجماعات المهيمنة، بيد أنهم مع هذا ما زالوا يقاومون الفرضيات المعتادة والتوجهات المألوفة لجماعاتهم، تبدأ المناقشة بالوقوف في وجه خلفيات ثلاثة أنماط قياسية للعارفين: الراصد غير المتجسد، والدخيل في الداخل، والناكث، يعرض المقال تفسير ساندرا هاردنغ (١٩٩١) للهويات المُنَكَّثة. ثم يختلف مع ترسيمها للناكثين كأهل الامتياز، الذين «يصبحون هامشيين»، كمحصلةٍ لتبديلهم طريقة فهم العالم، وأزعم أن توصيف هاردنغ مضلل ويفشل في الإمساك بمجامع المعنى الذي تقصده، ويتقدم المقال بتشخيصٍ بديل للناكثين أقل تعرضًا للتأويل الخاطئ، وعن طريق صياغة تمييز بين سيناريوهات البيض «العرافة-للامتياز privilege-cognizant» وتلك «المروغة-للامتياز privilege-evasive»، أقدم تشخيصًا لناكثي العرق بوصفهم البيض العرافين-للامتياز ويرفضون معايشة السيناريو٣ المتوقع من البيض، وليسوا مخلصين لرؤى العالم التي يسود التوقع بأن البيض يرفعون لواءها. وأخيرًا، يعمل هذا المقال على تطوير فكرة السيناريوهات المُنكثة ويشرح كيف أن معايشتها تعين على غرس الشخصية المنكثة. وإني لأضع تخطيطًا موجزًا يمكن أن تعنيه الشخصية المنكثة، وذلك باستخدام رؤية أرسطو لتشكيل الشخصية (١٩٨٠) ومفهوم ماريا لغونز (١٩٨٧) عن الترحال في «العالم».

(١) الراصدون غير المتجسدين والدخلاء في الداخل والناكثون

طويلًا ما التفتت الإبستمولوجيا النسوية للعلاقة بين مواضع الذوات العارفة وتفهماتهم للعالم. وما دامت لا ترضى بالتفسيرات التنويرية للذوات العارفة بوصفها بلا ملامح، فإن السخط على تفسيرات التنوير للذوات العارفة بوصفها مجهولة الهوية، وراصدين غير متجسدين٤ يحومون حول مشهد الطبيعة الديكارتي، قد دفع المنظِّرين النسويين إلى اعتبار العارفين ذواتًا متجسدة تموقعت في موضعياتٍ أو سياقات اجتماعية يمكن تحديدها وتعريفها سياسيًّا. ويخلق الالتفات إلى العارفين من حيث هم متموقعون اجتماعيًّا زاوية مستجدة للنظر تتيح لنا أن نأخذ في الاعتبار المصادر المعرفية البديلة التي تحملها لنا هذه الذوات المتموقعة. تمثل كتابات باتريشيا هل كولينز (١٩٩٠) وساندرا هاردنغ (١٩٩١) متغيرات نظرية الموقف النسوي٥ التي تلح على ذهني هنا، وهما يفضلان هذه المقاربة لأنها بديل للبنيات الاجتماعية والسياسية وللمنظومات الرمزية والخطاب التي تسلم جميعها بالامتياز لبعض الجماعات على حساب الجماعات الأخرى.
إذا كان النموذج النمطي للعارف في الدراما الإبستمولوجية الديكارتية هو الراصد غير المتجسد، فإن الدخيل في الداخل outsider within يلعب إذن دور البطولة في نظرية الموقف النسوي. ويقدم وصف كولينز لخادمات المنازل من السود مثالًا واضحًا لهذا النوع الثاني من النموذج النمطي للعارف (وأيضًا Collins 1986, s14-s15; 1990, 11–13). إن النساء السود الدخيلات في الداخل اللائي يعملن كخادمات منازل لهنَّ رؤية صافية للتناقضات بين أفعال وأقوال الأسر البيضاء.٦ هذه الزاوية الفريدة للنظر تضرب بجذورها في الموضع التناقضي للخادمة المنزلية، التي هي عاملة وفي الآن نفسه «مطَّلعة على الأسرار الأكثر حميمية في مجتمع البيض»، وهي امرأة سوداء يستغلُّها حكم البيض البطريركي ويستبعدها من الامتيازات الممنوحة. «يجعلها سواد بشرتها دخيلة بشكلٍ دائم»، ولكن عملها في العناية بالنساء البيض «يتيح لها رؤية من الداخل لبعض التناقضات بين تفكير النساء البيض اللاتي يتحكَّمن في حيواتهنَّ وبين المصدر الفعلي للسلطة في بطريركية الشئون المنزلية للبيض» (Collins 1990, 11-12).
يُعتقد أن الدخلاء في الداخل لهم وجهة للنظر المعرفي ذات أفضلية من حيث إنها تعطينا تفسيرًا للعالم أكمل من ذلك الذي يأتينا من منظور أهل الداخل أصحاب الامتياز بمفرده أو من منظور الدخلاء بمفرده. ينشأ عن موضعهم المتناقض ما أشار إليه و. إ. ب. دوبويس.٧ بأنه «وعي-مزدوج»، بمعنى أنهم قادرون على رؤية أنفسهم بعيونهم وبعيون الآخرين (DuBois 1994, 2). وتمد هاردنغ تحليلات كولينز لتجادل بأن النساء العلماء أو الأمريكيات الأفارقة من علماء الاجتماع أو أهل النقد الأدبي من السحاقيات، أولئك اللائي يقمن بالعمل الذهني في أكاديميةٍ محكومة غالبًا بالبشرة البيضاء والنزوع إلى الجنس الآخر والذكورية، لهنَّ أيضًا «هُويات تبدو وكأنها تتحدى المنطق؛ لأنها «ما نكونه نحن» في موضعين على الأقل في الوقت نفسه: الخارج والداخل، الهامش والمركز» (Harding 1991, 275). ومن حيث هنَّ غريبات عن النظام الاجتماعي للأكاديمية، فإنهنَّ يحققن ترابطًا فريدًا بين القرب والبعد من مادة بحثهنَّ مما يعين في تعظيم قدر الموضوعية (Harding 1991, 124).
ولأن أهل الامتياز داخل الجماعة لديهم قليل من البواعث أو من الفرص المتاحة لتنمية وعي مزدوج، يجري تفهُّم هوياتهم بوصفها تُعرقل إنتاج توصيفات للعالم الموثوق بها. مثلًا، التميز الطبقي يصنع تحديًا أمام الأثرياء ليفهموا لماذا يكون التخلص من الفقر عسيرًا للغاية، والامتياز الممنوح لذوي البشرة البيضاء بحكم النزعة العنصرية يجعل من الصعب على البيض استكناه تفشي هذا الامتياز. وبالمثل، من النادر أن يتَّخذ ذوو النزوع الجنسي المغاير موقف تحليل الامتياز المسلم به لهذا النوع أو تحليل الكراهية الشديدة، المؤسساتية أو الشخصية، للمثليين.٨
ومع كل المنافع الاجتماعية الممنوحة لأهل الامتياز، يقاوم بعض أعضاء هذه الجماعات المهيمنة الفروض التي يسلم بها معظم قرنائهم من أهل الداخل. وكان التفات نظرية الموقف النسوي لموضعٍ٩ مثل أولئك الذوات أقل من التفاتها إلى موضع الراصدين غير المتجسدين والدخلاء في الداخل. مع ذلك، تصطنع هاردنغ في الفصول الأخيرة من كتاب «علم من؟ معرفة من؟» حججًا دامغة لمد نطاق استبصارات نظرية الموقف لتأخذ في اعتبارها كيف أن الذوات المنكثة يمكن أن تفيد كمكامن للمعرفة التحررية، وبولوجها أعماق منطق نظرية الموقف، تفسر الأمر قائلة:
يمكن أن يشرع المرء في الكشف عن هوياتٍ أخرى للعارفين … بأن يقف في الظلال من وراء [هُويات] أولئك حيث يتركز الفكر النسوي والأشكال التحررية الأخرى للفكر، الهُويات التي تناضل لكي تنبثق كمنتجين لتحليلٍ كاشف لهم اعتبارهم وشرعيتهم. ومن منظور الذين قاتلوا بضراوةٍ للمطالبة بشرعية الهُويات المهمشة، تبدو هذه الهويات هائلة: نسويون ذكور، مناهضون للعنصرية، نزَّاعون للجنس الآخر ضد سيادة النزوع الجنسي الغيري، وأناس في وضعٍ اقتصادي شديد التميز ويناهضون الاستغلال الطبقي. (Harding 1991, 274).
يوعز اكتشاف هاردنغ بأن أصحاب الامتياز بفضل موقعهم الاجتماعي، ليسوا بمنأًى عن تفهُّم وجهات نظر وخبرات الجماعات المهمشة. إن البيض المناهضين للعنصرية ينتقدون بالفعل امتياز البيض، والرجال النسويون يقاومون فعلًا الأدوار الجنوسية التي تعزز قهر النساء. وهكذا نجد «الناس ذوي الهويات التي ليست هامشية يمكنهم مع ذلك أن يتعلموا من المعارف المنبثقة عن منظور الدخلاء في الداخل ويتعلموا كيف يستخدمونها» (Harding 1991, 277). والذين يفعلون هذا يقال عنهم إن لهم «هويات منكثة» ويحتلون «مواضع اجتماعية منكثة» (Harding 1991, 288–96 ).

تلاحظ هاردنغ اختلافًا معرفيًّا ذا دلالة في طريقة تفهُّم العالم بين أصحاب الامتياز الذين «يفكرون تفكيرًا نقديًّا» في امتيازهم، وبين أصحاب الامتياز الذين هم غافلون عن الامتيازات. الناكثون لا يخبرون العالم بنفس طريقة خبرة الدخلاء في الداخل. ولكن التحليلات السياسية للدخلاء في الداخل تغذِّي سياستهم. تقدم منطلقات الدخلاء في الداخل الوسائل اللازمة لأعضاء الجماعات المهيمنة الذين قد يكونون عاجزين عن الإفصاح عن أو إيضاح الطبيعة المستورة لامتيازهم وعلاقتها بالقمع الذي يعيشه الدخلاء. وعن طريق التعلم عن الحياة في الهوامش، يستطيع أعضاء الجماعات المهيمنة أن يصلوا إلى اكتشاف طبيعة القمع ومدى امتيازاتهم، والعلاقة بينهما. إن وضع طبيعة الامتياز تحت الأضواء، يجعل أعضاء الجماعات المهيمنة قادرين على توليد معرفة تحررية. أن تكون أبيض أو ذكرًا أو ثريًّا أو ذا نزوعٍ جنسي مغاير، إنما يمثل تحديًا أمام توليد هذه المعارف، بَيد أنه لا يمثل عقبة كئودًا.

إذن، المعارف المنبثقة عن موضع الدخلاء في الداخل، ذات قيمة عالية من جانبين. أولهما أنها تستطيع لفت الانتباه إلى خبرات الجماعات المهمشة التي كانت المشاريع الإبستمولوجية الأسبق تتغاضى عنها. والثاني أن أولئك الذين يشغلون المركز يستطيعون أن يتعلموا من المعارف الناشئة عن تحليلات الدخلاء في الداخل ويتعلموا كيف يستخدمونها لفهم علاقاتهم بالأشخاص المهمشين، وذلك من موقف حيوات أولئك الأشخاص أنفسهم (Collins 1986, s29, Harding 1991, 277). تصف هاردنغ أصحاب الامتياز الذين يتبنون موقف التفكير النقدي تجاه الامتياز بأنهم «أصبحوا هامشيين». ولكني أعتقد أن هذا التعبير يُفضي إلى سوء فهم بشأن ما الذي نقصده بالناكث.

(٢) بأي مغزى … الناكثون «يصبحون هامشيين»؟

مبدئيًّا يمنحنا وصف هويات الذات بمصطلحاتٍ مكانية أسلوبًا مفيدًا للنظر إلى البنيات الاجتماعية وتصور علاقات القوى بين العارفين. في كارتوغرافيا١٠ المركز-الهامش في نظرية الموقف النسوي، يوصف الناكثون بأنهم الأناس الذين «اختاروا أن يكونوا هامشيين» (Harding 1991, 289, 295). بيد أن هذا الوصف مضلل لأسبابٍ عديدة. إذا احتفظنا في أذهاننا بمثالٍ تاريخي تغدو المشكلة في وصف الناكثين بأنهم أصبحوا هامشيين أكثر وضوحًا.
في العام ١٩٥٤م اشترى الزوجان آن وكارل برادن منزلًا في منطقة البيض بلويزفيل في ولاية كنتاكي، وكان الغرض هو تحويله بعقدٍ لشارلوتو وأندرو ويد، وهما قرينان من السود، كان ويد عضوًا في الحزب التقدمي ذا وعي سياسي، ومحاربًا قديمًا في الحرب العالمية الثانية، وكان حانقًا لعجزه عن شراء المنزل الذي يرغب فيه على الرغم من سجل خدمته العسكرية. كان القرينان برادن تقدميَّيْن يناهضان التفرقة العنصرية، وافقا على ابتياع المنزل ثم تحرير عقد به للقرينين ويد. لقد كان اختيارهما هو التخلي عن الممارسة غير المعلنة بأن البيض من الطبقة الوسطى يبيعون منازلهم للبيض فقط؛ مما أدى إلى نبذهما (هل تهميشهما؟) بطريقةٍ لا تلحق بأسر البيض الأخرى التي تتبع الممارسات المتوقعة في بيع المنازل. بعد إبرام الصفقة، ندَّد أنصار التفرقة العنصرية في لويزفيل علنًا بالزوجين برادن «ناكثي العرق»، وأقاموا الحجة بأن ثمة قاعدة غير مُعلنة مفادها أن العرقين ينبغي أن يعيشا في مجتمعاتٍ محلية منفصلة، وأن يعرف الزوجان هذا القاعدة أفضل من أن يجورا عليها (Braden 1958, 82). وخلال ساعات نقل الملكية، تلقَّى الزوجان برادن مكالماتٍ تليفونية تهددهما وتهديدات بوجود قنابل. وبعد هذا بأشهرٍ وُجهت إليهما تهمة محاولة قلب نظام الرابطة في كنتاكي. بأي مغزًى إذن يمكن القول إن الزوجين برادن اختارا أن يصبحا هامشيين؟ تشرح آن برادن في مذكراتها الأحداث التي أعقبت شراء المنزل، وكيف أن «بعضًا من أشكال الحماية التي ينالها ذوو البشرة البيضاء في مجتمعنا، سقطت عن كارل وعني. لقد قُذف بنا، لحدٍّ ما على الأقل، إلى عالم المساوئ والتعسف الذي يعيش فيه الزنوج دائمًا» (Braden 1958, 7).

اختيار برادن الكلمات هنا يوعز بأن موضع ذات الزوجين تغير بمغزًى ما، بيدَ أنه يعرض أيضًا لمشكلتين: الأولى، في لمحةٍ واحدة، هي أن وصف الزوجين برادن بأنهما قد أصبحا هامشيين يجعل الأمر يبدو كما لو كانا قد انتقلا فعلًا لشغل مواقع الدخلاء في الداخل كتلك التي يشغلها الزوجان ويد. نقل ملكية المنزل إلى الزوجين ويد تسبب عنه فعلًا فقدان الزوجين برادن للامتياز في مجتمعهما المحلي، حتى يمكن القول إنهما أصبحا هامشيين؛ بمعنى أنهما قد نُبذا من المجتمع المحلي للبيض بسبب من فعلتهما. ولكن إخراجهما لا يرقى إلى الشيء نفسه كاحتلال موقع كما لو كانا دخلاء في الداخل. ومع التسليم بالحنق الشديد للبيض أنصار التفرقة العنصرية، يمكن القول إن موقع ذات الزوجين برادن قد تبدلت من حيث العلاقة بالمواطنين البيض الذين رأوهما ناكثين للعرق. وعلى أي حال، فلأنهما كانا من ذوي البشرة البيضاء في عيون الذين لا يعرفونهما، فإنهما لم يفقدا امتيازهما فقدانًا كاملًا. وعلى الرغم من أفعالهما، واصل الزوجان برادن هوية ذات امتياز عرقي من الناحية الاجتماعية، ولم يكن للزوجين ويد هذا الامتياز أبدًا. إن البيض الذين ينخرطون في التحديات المنكثة للتفرقة العنصرية قد يتحملون تغييرًا ما في موضع الذات، بمعنى أنهما ربما يتعرضان للنبذ من مجتمعاتٍ محلية معينة. بَيد أنهم لا يبدلون بمنزلة أهل الامتياز منزلة الدخلاء في الداخل.

تستبق هاردنغ هذا الخلط وتوضح موقعها، مستخدمة مثال ذوي النزوع الجنسي المغاير العرافين-للامتياز.

بعض الناس الذين لم تكن هويتهم الجنسية «هامشية» (بمعنى أنهم من أصحاب النزوع الجنسي المغاير) قد أصبحوا «هامشيين»؛ ليس عن طريق التخلي عن ميولهم الجنسية الغيرية، بل بالتخلي عن الوعي العفوي الذي تخلقه خبرتهم بالتغاير الجنسي في عالم المغايرة الجنسية. هؤلاء الناس لا يفكرون «كالسحاقيات»؛ لأنهم ليسوا سحاقيات، لكنهم يفكرون فعلًا كما يفكر الأشخاص أصحاب النزوع الجنسي المغاير الذين قد تعلموا من تحليلات السحاقيات (Harding 1991, 289).

على الرغم من أن الزوجين برادن لم يعيشا في أحياء التفرقة العنصرية في لويزفيل مثلما تعيش الأسر السوداء، فإنهما قد استطاعا أن يتفهما، حتى وإن لم يكن بشكلٍ كامل، ماذا يعني أن تعيش في لويزفيل مثلما كان الزوجان ويد يعيشان فيها. وهذا الفهم على وجه التحديد هو ما تعتقد هاردنغ أن السرديات والتحليلات الصادرة عن الأشخاص الملونين يمكنها أن تعززه وتقويه.

على هذا النحو نجد المعنى الذي تقصده هاردنغ هنا هو أنه من الممكن لأناسٍ مثل الزوجين برادن أن يتعلما عن عالم التفرقة العنصرية في لويزفيل كما عاشه الزوجان ويد من دون أن ينتقلا إلى الحياة في قلب هذا العالم، مثلما يفعل أولئك الذين هم هامشيون. أما وصف الزوجين برادن بأنهما «أصبحا هامشيين»، فذلك وصف من الأفضل أن ينطبق على تبديل لأسلوبهما في رؤية العالم وتفهُّمه والتحرك في أعطافه. يعود جانبٌ من حيثيات هذا الخلط إلى أن كلمتي «الهامش» و«المركز» تستخدمان عادة في نظرية الموقف لوصف موقع الذات، وتستخدمان هنا لوصف تبدلٍ معرفي. «أن يصبح هامشيًّا» يشير إلى تبدلٍ من منظورٍ إلى موقف. الأول نتاج تفسير غير متروٍ لموقع ذات المرء. أما الثاني فكما تشير كلمة «مناهض للعنصرية»، نتاج لموقفٍ تحقق من خلال النضال الجماعي (Harding 1991, 123–27; Jaggar 1983, 317).

لعلَّ المعنى الذي تقصده هاردنغ من «أن يصبح هامشيًّا» قد أصبح الآن أكثر وضوحًا. وعلى أي حال، حتى لو فهمنا «أن يصبح هامشيًّا» بأنها تشير إلى تبدلٍ معرفي فلا بد لي من المجادلة بأن هذا التعبير لا يمسك حقًّا وفعلًا بمعنى موقف المنكِّث الذي تجده هاردنغ دامغًا إلى حدٍّ بعيد. إن وصف الناكثين بأنهم «يصبحون هامشيين» يشجع على الطمس أو الخلط بين موقع الدخلاء في الداخل وموقع الناكثين. إن هذا الوصف يجعل الأمر يبدو كما لو كان الناكثون لهم موطئ قدم في كلا العالمين، ويقعون في أحابيل كليهما على السواء، وهذه الصورة لا تضع امتياز البيض في الصدارة. وإذا استبقينا لغة نظرية الموقف، لأهميتها، فمن الأدق أن نصف تصرفات الزوجين برادن بأنها زعزعة للمركز. ناكثو العرق ذواتٌ تحتل المركز ولكن طريقتهم في النظر (على الأقل بمعايير المتمتعين بالامتياز) تنخلع عن المركز. ذلك أن الناكثين يزعزعون منزلتهم المستمعة بالامتياز عن طريق تحدي ومقاومة الفروض المعتادة التي يرفع أغلبية البيض لواءها (من قبيل الاعتقاد بأن امتياز البيض مكتسبٌ، أو لا محيص عنه، أو طبيعي). أوصاف الناكثين بأنهم ينقضون مركزية المركز أو يقوضونها أو يزعزعونها تعمل في المحاجة والجدل بشكلٍ أفضل من «أن يصبحوا في الهامش»؛ لأنها أوصافٌ لا تشجِّع على الخلط بين الدخيل في الداخل والناكث. نقض مركزية المركز توضح أن الناكثين والدخلاء في الداخل بينهم مصلحة سياسية مشتركة في تحدي امتياز البيض. بَيد أنهم يفعلون هذا من مواقع اجتماعية مختلفة. تفهُّم الناكثين بأنهم مزعزعون يصلح من شأن مَواطن سوء فهم أسبق، ولكني ما زلت أعتقد أن كارتوغرافيا المركز-الهامش في نظرية الموقف تنحو نحو تقييد توصيف هاردنغ لهذه الذوات. إذا كانت هذه اللغة تشجع إدراكات خاطئة بشأن الناكثين، فنحن إذن في حاجةٍ إلى أن نأخذ في الاعتبار توصيفات بديلة لهذه الذوات غير المخلصة.

(٣) سيناريوهات البيض العرَّافة-للامتياز والمروغة-للامتياز

ربما تنشأ صورةٌ أوضح وأكثر توصيفًا للناكثين، صورةٌ تركز على مشاريعهم التي تنقض مركزية المركز، إذا نظرنا إلى الناكثين من حيث هم ذوات لها امتياز وتعايش سيناريوهات البيض العرافة-للامتياز. تلاحظ هاردنغ تمييزًا بين أهل الامتياز الذين هم ناقدون لوضعهم وأهل الامتياز الذين ليسوا هكذا، يمكن التعبير عنه بشكلٍ أدق من حيث هو تمييز بين «العراف-للامتياز» و«المروِّغ-للامتياز» (Frankenberg 1993, 137–91). وفهم الناكثين عبر هذه الخطوط يتطلب إيضاح المقصود بالسيناريو العنصري وكيف تختلف سيناريوهات البيض العرَّافة-للامتياز والمروغة-للامتياز.

وكشأن التحيز الجنساني والنزعة العنصرية، نجد منظومة الهيمنة نظامًا سياسيًّا-اجتماعيًّا تخرج عنه أداءات واتجاهات وسلوكيات متوقعة، تعزز تراتبات هرمية جائرة وتعاود تثبيتها. وطويلًا ما التفت النسويون إلى أساليب أدوار الجنوسة في تشجيع عوائد وتغذية منظومات ترفع قيمة أفكار الرجال ومناشطهم وإنجازاتهم فوق تلك التي للنساء. وجود التحيز الجنساني والنزعة العنصرية يتطلب المشاركة اليومية من كل فرد.

ولكي نتفهَّم طبيعة هذه المشاركة، يفيدنا التفكير في الاتجاهات والسلوكيات المتوقعة من الجماعة العرقية المعينة للمرء من حيث هي قيام بأدوار تتتبَّع سيناريوهات سبق تأسيسها تاريخيًّا. تختلف السيناريوهات باختلاف موقع الذات داخل منظومات الهيمنة. إن الخصائص الفيزيقية للمرء لا تحدد بشكلٍ حصري ماذا يعني أن يكون رجلًا أو امرأة. وبالمثل، فإن ما يعنيه أن يكون المرء أسود أو أبيض أو كومانشيًّا أو كوريًّا أو لاتينيًّا لا يتحدد فقط بالمظهر الفيزيقي للمرء (أو ما يسمى بالعلائم «العرقية» من قبيل لون البشرة والشعر وملامح الوجه وشكل الجسم). بل يتحدد كذلك بأداءات المرء؛ أي بالسيناريو الذي يحييه. وحين تطبيق مفهوم السيناريوهات العنصرية محليًّا، فإن ما يعنيه أن يكون ثمة امرأة بيضاء في لويزفيل أو رجل أمريكي أفريقي في شيكاغو يتضمن هيئة الشخص ولغته واتجاهاته ومفهوم الفضاء الشخصي، وجسارة ردود الأفعال تجاه ظواهر معينة والوعي بالجسد. الالتفات إلى العرق بوصفه أدائيًّا أو سيناريو مرسومًا يُميط اللثام عن وظيفة للسيناريوهات العنصرية أقل وضوحًا وبنيوية مطردة، يغفلها الاهتمام القاصر على المظهر.

تتقدم مناقشة مارلين فري M. Frye (1992) للسلوك «الأبيضي whitely» و«الأبيضية whiteliness» بتمييزٍ مفاهيمي، هو إجرائي، في تفهُّم الأبعاد الأدائية للعرق والتمييز بين السيناريوهات المروِّغة-للامتياز والعرَّافة-للامتياز. تعترف فري بالحاجة إلى مصطلحاتٍ تمسك بزمام العوارض الطارئة بين المظهر العرقي وقيمة البياض. وبالتوازي مع التمييزات النسوية بين الذكورة، وهي شيء يولد به المرء بفضل جنسهم البيولوجي، وبين الذكورية، وهي شيء يرتبط اجتماعيًّا بالذكورة ولكنه إلى حدٍّ كبير نتاج للمران الاجتماعي، وتقيم فري الحجة على ثنائية من المصطلحات مماثلة في الخطاب العنصري وتصوغ «الأبيضي» و«الأبيضية» بوصفهما المكافئين العنصريين للذكورة والذكورية على التعاقب. وكما تشرح فري: «أن يكون المرء أبيض البشرة (مثل أن يكون ذكرًا) هي مسألة سمات فيزيقية من المفترض قبلًا أنها تحددت فيزيقيًّا: أما أن يكون أبيضيًّا (مثل أن يكون ذكوريًّا) فأنا أتصورها متأصلة في أعماق الوجود في العالم (Frye 1992, 150-51)». الصلة عَرَضية بين «تصرف الأبيض» وبين أن «يبدو أبيض»؛ وبالتالي من الممكن بالنسبة إلى شخصٍ لا يُصنَّف كأبيض أن يؤدي دوره بطرقٍ أبيضية. يتم استيعاب السيناريوهات العنصرية في مرحلةٍ باكرة من العمر وصولًا إلى نقطةٍ تصبح فيها جزءًا لا يتجزأ تقريبًا مما هو غير مرئي من لغتنا وردود أفعالنا الجسدية ومشاعرنا وسلوكياتنا وأحكامنا. ولا شك في أن السيناريوهات الأبيضية تتوسط فيها طبقة الشخص الاقتصادية وإثنيته وجنسانيته وجنوسته ودينه وموقعه الجغرافي، إلا أن الامتيازات مع هذا تُخول على أساس الأداءات الأبيضية (Davion 1995, 135–39). وثمة بضعة أمثلة قد تلقي ضوءًا على السيناريوهات الأبيضية أو المروغة-للامتياز.

تعطينا ليليان سميث صورةً توضيحية للسيناريو الأبيضي، وهي امرأة بيضاء نشأت وترعرعت في جيم كرو بجورجيا، فقد لقنوها أن «[تتصرف] انطلاقًا من النتاج الخاص المتعين لسيناريو مصغر مكتوب لحيوات معظم الأطفال في الجنوب قبل أن يعرفوا الكلمات» (١٩٤٩، ٢١).

لا أتذكر كيف أو متى، لكن … علمتُ أنني كنت أفضل من الزنوج، وأن القوم السود أجمعين لهم مكانهم ويجب أن يبقوا فيه، وأن الجنس له مكانه ويجب أن يبقى فيه، وأن كارثة مدلهمة سوف تحط على الجنوب إذا عاملت يومًا زنجيًّا كصنو اجتماعي لي ومثلها كارثة مدلهمة كانت سوف تحط على أسرتي إذا أنجبت يومًا طفلًا خارج إطار الزواج … لقد تعلمت أن الجنوبيين البيض ناس مضيافون مهذبون ذوو لباقة يعاملون أولئك المنتمين لجماعتهم نفسها باحترام، وهم الذين يهتمون بعزل ثلاثة عشر مليونًا من البشر من أولئك الذين لهم بشرة ملونة تختلف قليلًا عن بشرتي، عزلهم عن ثراء الحياة بأسره «من أجل مصلحتهم هم ورفاهتهم» (Smith 1949, 18).
تصف سميث هذا السيناريو بأنه «رقصة تشل الروح الإنسانية». وكانت الرقصة التي ظلَّت تكررها حتى باتت الحركات «تؤدى في البقية الباقية من الحياة [حياتها] من دون تفكير» (Smith 1949, 91). وما أجده لافتًا بشأن «السيناريو المصغر» لسميث هو وضوحها في الربط بين التفرقة العنصرية وبين التحكم في الحياة الجنسية للمرأة البيضاء.

وتروي آن برادن سيناريو مماثلًا للنشأة في ألاباما والميسيسبي إبان الثلاثينيات من القرن العشرين، ويلتفت توصيف برادن التفاتًا خاصًّا إلى الأبعاد المكانية للسيناريوهات العنصرية.

والحق أن معظم هذه الأشياء ما قيلت أبدًا في كلمات، كانت منطبعة في عقل الطفلة البيضاء من الطبقة صاحبة الامتياز في الجنوب …

كان الهتاف يتصاعد … نحن نجلس في قاعة المسرح، والزنوج على السطح في الشرفات — أنت تشربين من هذا الينبوع والزنوج يشربون من ذلك الينبوع — نحن نأكل في حجرة الطعام، والزنوج يأكلون في المطبخ — حي الملونين، شوارعنا — مدارس البيض، مدارس الملونين — احذري الرجال الزنوج في الطرقات — انتبهي — كوني حذرة — إذا حل الظلام لا تقتربي من أحياء الزنوج — اجلسي في الجزء الأمامي من الحافلة، ويجلسون هم في الجزء الخلفي — مكانك، مكانهم — عالمك، عالمهم (Braden 1958, 21).

وأيضًا تعترف برادن بجانبٍ لغوي مثير في السيناريوهات الأبيضية.

في بعض الأحيان تصبح الوصايا في غاية الجلاء؛ مثلًا، لم أكن قد تجاوزت عامي الرابع أو الخامس حين حدث أن قلت لأمي ذات يوم شيئًا ما عن «سيدة ملونة». «لا تقولي أبدًا عن الملونات سيدات [رد أمها] … قولي امرأة ملونة وسيدة بيضاء؛ وليس سيدة ملونة أبدًا» (Braden 1958, 21).

إذن، فقد كان الاهتمام بحفظ حدود موقع المرء العنصري بُعدًا متينًا في كل السيناريوهات العنصرية.

ليست السيناريوهات العنصرية محكومة فقط بالمواقف ووعيٍ بالمكان الملائم للناس، هناك أيضًا عنصرٌ جسدي قوي في السيناريوهات يبرز في اللفتات وردود الأفعال إزاء الأشخاص الذين نعتقد أنهم لا يشبهوننا. نحن جميعًا نلتفت بشكلٍ ما إلى عرق الأشخاص الذين نتفاعل معهم، ويشكل هذا معالم لقاءاتنا. وحتى البيض العرافون للامتياز الملتزمون عن وعيٍ بمكافحة العنصرية قد يكون لهم رد فعل تجاه الناس الملونين بالنفور والتجنب. ويشعر الأمريكيون الأفارقة الذين يتلقون سلوكيات التجنب بأنهم موسومون-موصومون. يقدم برنت ستيبلز Brent Staples (1986) في مقاله «رجلٌ أسود يتأمل قدرته على تغيير المكان العام» الرصد الآتي للنساء البيض اللائي يمررن عليه في الطرق أثناء الليل.
كثيرًا ما أشهد «حدس التبختر الداخلي»، من النساء بعد أن يحل الظلام في شوارع بروكلين المكتظة بالسكان، حيث أعيش. يبدون وقد جعلن وجوههنَّ محايدة، تتدلى عبر صدورهنَّ شرائط جلدية لحقائب اليد من طرازٍ له حزام عريض على الكتف. إنهن يمضين قدمًا وكأنهنَّ قد تحصَّنَّ لمواجهة أي اعتراضٍ لطريقهنَّ. بطبيعة الحال، أتفهَّم أن … النساء على وجه الخصوص عُرضة للنَّيل منهن في عنف الشوارع، وأن نسبة تمثيل الشبان الذكور السود تزيد زيادة هائلة بين مرتكبي أعمال العنف. إلا أن هذه الحقائق ليست عزاءً للاغتراب الذي يأتيك حين تكون موضع شك دائمًا، تجلس معزولًا، كائنًا مخيفًا يتحاشى المارة أن تتلاقى عيونهم بعينيك (Staples 1986, 54).

غالبية السيناريوهات الأبيضية تتضمَّن أن يكون المرء متحوزًا حيال الملونين، يتحاشى أن تتلاقى عيناه بعيونهم، أو أن يقترب منهم عن كثب، وثمة هاجس داخلي غير مريح لوجودهم. وعلى أي حال، فإن تكرار معايشة هذه السيناريوهات تكريس لنظامٍ عنصري تعلو فيه قيمة حياة البيض وثقافتهم وخبراتهم على حساب الأشخاص الملونين، الذين يخاف البيض من هيئتهم، فيصبونهم في قالب المنحرفين الأقذار أو المجرمين أو القبحاء أو المنحطين.

هذه التفسيرات للسيناريوهات المروغة-للامتياز تطرح مقابلةً مع تفسيري للسيناريوهات العرافة-للامتياز، وأيضًا تعين في تفسير علَّة اعتبار السيناريوهات العرَّافة-للامتياز ناكثة. إن ما تشترك فيه السيناريوهات العنصرية هو التمركز حول ثقافة البيض، والمتوقع من كل شخصٍ أن يتبع بدرجةٍ أكثر أو أقل سيناريوهات تدعم امتياز البيض. إن السيناريوهات الأبيضية التي يصفها سميث وستيبلز وبرادن مروغة-للامتياز بأنها لا تتحدى البيض لكي يفكروا في الامتياز، ولكي يفكروا في إعادة تمثيلهم إياها لكي يعيدوا إنتاج امتياز البيض. وإذا كان أعضاء سائر الجماعات العرقية يطالبون بسيناريوهاتٍ تدعم امتياز البيض. فيمكن إذن أن يرفض أعضاء جماعات الامتياز وأعضاء جماعات الاضطهاد كلاهما أن يتعاونا. وبالحديث المجازي، نقول إن ما يمثل بقاء النزعة العنصرية، ليس في أن الأمريكيين الأفارقة يجلسون في مؤخرة الحافلة كل هذا الأمد الطويل، بل أيضًا في أن البيض تفادوا مهمة الاستجواب النقدي والتخلي عن مقاعدهم في مقدمة الحافلة. وبرفض استجواب الامتياز، استسلم البيض أنفسهم بشكلٍ غير نقدي لسيناريوهات أبيضية-لأن تتشكل هوياتهم بطريقةٍ ربما لم يختاروها (Harding 1991, 294).
إن البيض يمكن أن يستخدموا تحليلات الدخلاء في الداخل لتوطيد السيناريوهات الناكثة، والاعتراف بهذا يعني أننا يمكن أن نتعلم التفكير والتصرف بشكلٍ لا ينفصل عن «الوعي العفوي» للمواقع التي ترسَّمت سيناريوهاتها اجتماعيًّا وكتبها التاريخ من أجلنا، ولكن من خلال السيناريوهات الناكثة (العرافة-للامتياز) فإننا نمارس الاختيار مستعينين بالنظريات النقدية الاجتماعية الناشئة عن الحركات التحررية (Harding 1991, 295). الملمح الأساسي للمواقع العرَّافة-للامتياز هو اختيار تنمية الوعي التأملي الناقد. وكما لاحظت إحدى المساهمات في دراسة روث فرانكنبرغ R. Frankenberg للنساء البيض «أن تكوني من الطبقة البيضاء صاحبة الامتياز … يعني أنك في غير حاجةٍ للبحث عن أي شيءٍ آخر، لن تُجبري على شيءٍ ما ريثما تختارين؛ لأن حياتك لا يؤثر عليها شيء من قبيل العنصرية» (Frankenberg 1993, 161). يختار الناكثون أن يحاولوا تفهُّم الثمن المدفوع لاغتنام الامتياز، إنهم ناقدون لامتيازاتٍ غير مكتسبة منحتهم إياها الثقافات البطريركية البيضاء، ويتحلمون المسئولية إزاءها.
اختيار تحمُّل مسئولية تفاعلاتي يتطلَّب أن أتحمل مسئولية «موقعي الاجتماعي العنصري، بأن أتعلم كيف أتواصل مع الآخرين من البيض ومن الأشخاص الملونين؛ بأن أتعلم كيف ستكون معقبات معتقداتي وسلوكياتي كامرأةٍ أمريكية أوروبية» (Harding 1991, 283). وثمة لحظة تتكامل مع تفهُّمي لعلاقتي مع الناس ذوي الوضع المختلف عن وضعي، تأتي من أن أتعلم أن أرى كيف يراني الدخلاء، ويتطلب هذا تفاوتًا في الوعي المزدوج عند دوبويس.
وعلى خلاف البيض الذين يحيون السيناريوهات الأبيضية من دون تفكيرٍ نقدي، نجد مهمة الناكث إيجاد طرق لتطوير سيناريوهات بديلة قادرة على تعطيل إعادة الإدراج المتواصلة للسيناريوهات الأبيضية. البيض العرَّافون-للامتياز يمحصون بفعالية «مقاعدهم في المقدمة» ويجدون السبل لكي يكونوا غير مخلصين للمنظومات التي حددت هذه المقاعد. بعض الأمثلة الواضحة على هذا تتضمن الكف عن النكات العنصرية، الاهتمام بلغة الجسد وأنماط الحديث، وصقل الوعي بالصور النمطية وكيف تشكل إدراكنا للناس الملونين. أما أن تلقي النكات العنصرية وتسمح للآخرين بإلقائها؛ فإن هذا يعيد إدراج وترسيم تصورات ضارة. يعرف الناكث متى يكون الوقت ملائمًا لإيقاف إعادة الإدراج والترسيم. وبالمثل، المرأة البيضاء التي تقبض على حقيبة يدها أو تقود أطفالها بعيدًا عن طريق شاب أمريكي أفريقي، أو الرجل الأبيض الذي لا يرتاح أو تتوتر أعصابه بوجود ناس ملونين، إنما يرسلان إشارات لأولئك المحيطين بهم مفادها أن يخافوا من أعضاء تلك الجماعات. والبيض الذين يقاطعون أو ينبذون أو يرفضون مشاركة الطلبة من الملونين في الفصول الدراسية يعيدون إنتاج ما هو خبيء فيهم بإرسالهم إشارة مفادها أن مشاركات أولئك الطلبة غير ذات أهمية. وإذا استطاع الناكثون إعادة الإفصاح عن السيناريوهات البيضاء بأساليب لا تعيد إدراج وترسيم هذه الإيماءات الدالة على التبعية، فسوف نستطيع تصور طرق لأن نكون، كما يقول أدريان ريتش Adrienne Rich (1979). «غير مخلصين للحضارة».
تقدِّم لغة السيناريوهات العنصرية تفسيرًا للناكثين الذين يتجنبون مواطن سوء الفهم الناشئة عن كارتوغرافيا المركز-الهامش في نظرية الموقف، وأيضًا تمنحنا تفسيرًا ديناميكيًّا للناكثين المتسقين مع الإطار المعرفي لنظرية الموقف. وهذا التمييز بين السيناريو العراف-للامتياز والسيناريو المروِّغ-للامتياز إنما هو طريقة أخرى للإفصاح عن التمييز الذي يصطنعه منظِّرو الموقف بين الموقف وبين المنظور. قد يمكن القول إن السيناريوهات البيضاء المروِّغة-للامتياز لها منظورات للعرق غير نقدية. مثلًا، خطاب عن العنصرية هو الأكثر ليبرالية يوضح شكلًا لغويًّا مروغًا-للامتياز يمثِّل خاصة مميزة للسيناريوهات الأبيضية. التعبيرات التي ينمحي منها اللون من قبيل «لست أرى بشرة ملونة، أرى بشرًا فحسب»، أو «كلنا ننتمي للعنصر نفسه-العنصر البشري»، إنما تشير أيضًا إلى الإخفاق في الاعتراف بالبياض (Frankenberg 1993, 149). ترتكن السيناريوهات العرافة-للامتياز على مواقف مناهضة للعنصرية لأنها تأتت من خلال مقاومةٍ جماعية لتطبيع أنماط من السلوك والتصرفات الاجتماعية تعيد إنتاج امتياز البيض. يتطلب استحضار سيناريو عراف-للامتياز ما هو أكثر من المقاطعة العرضية للنكات العنصرية، والاستماع إلى الأشخاص الملونين، وشراء عائلات السود عقارات في أحياء البيض. إن الأفعال العرضية المنكثة لا تصنع ناكثًا. والمعايشة الحقة لسيناريو أبيض عراف-للامتياز يتطلب أن يصقل الناكثون شخصيةً سوف تفيض عنها الممارسات المنكثة.

(٤) صقل الشخصية المُنكِّثة

عندما يرفض الناكثون التصرف انطلاقًا من وعيٍ أبيضي تلقائي بأن التاريخ قد أسبغ عليهم، فإنهم يبدلون ما هو أكثر من مجرد طريقتهم في النظر إلى العالم وفهمه، فأن تكون ناكثًا للعرق يعني أن تكون لك هذه النوعية المعينة من الشخصية التي تهيئ الشخص لمعايشة السيناريوهات العرافة-للامتياز. وتبديل السيناريوهات البيضاء من تلك المروغة-للامتياز إلى العرافة-للامتياز، يمكن إذن فهمه كتبديلٍ لشخصية. إن هذا التبديل للشخصية هو الذي يجعل البيض يرتحلون عن وضع المركز، ويعيدون تحديد وضع أنفسهم فيما يتعلق بالامتياز. ويستكشف هذا الجزء الأخير بإيجازٍ ما يمكن أن يعنيه صقل شخصية منكِّثة، ويبين لماذا تكون الشخصية المنكثة منطوية بالضرورة على أن يكون المرء «رحالة في العالم».

الفكرة القائلة إن معايشة السيناريوهات العرافة-للامتياز تساعد في صقل الشخصية المنكثة، وأن الشخصية المنكثة أقرب إلى معايشة هذه السيناريوهات، هي فكرة ذات جذور أرسطية: أن تصبح منكِّثًا عملية تماثل اكتساب فضيلة خلقية (Aristotle 1980). بالنسبة لأرسطو، تنشأ الفضائل عن الطبع، وليس عن الطبيعة. الفضيلة نزوعٌ للاختيار وفقًا لقاعدة؛ أي القاعدة التي عن طريقها يمتلك الشخص الفاضل حقًّا بصيرة خلقية لها أن تختار. كل الأشياء التي تأتينا من الطبيعة نكتسبها أولًا بالإمكان، وفقط فيما بعد نعرض للفاعلية …١١ نصبح أفاضل بأداء أفعال فاضلة. على الرغم من أن أوضاع الشخصية تنشأ عن الفاعلية، فإن أرسطو يصطنع تمييزًا بين نمطين من الفاعلية وغاياتهما. ثمة فاعليات من قبيل بناء السفن، حيث يكون ناتج نشاط المرء (السفينة) غاية تتمايز عن عملية بناء السفن، وهناك فاعليات مثل الحصول على اللياقة حيث يكون المنتج (جسم صحي وسليم) جزءًا من فاعلية إحداث المنتج وليس غاية متمايزة عنه. فاعلية الفضيلة تماثل مثال الإحداث، تمامًا كما أن الفرد لا يصبح ذا لياقة بأداء سلسلة من التحركات ثم يعلن «ها أنا ذو لياقة بدنية»! وبالمثل لا يصبح الشخص فاضلًا بأداء سلسلة من الأفعال الخيرة ثم يعلن: «أخيرًا، أنا فاضل»! الفضيلة واللياقة ينشآن خلال عملية متواصلة من إحداث أو أداء أفعال خيرة. نصبح أفاضل حين تكون لدينا حكمة عملية؛ مثلًا، أن نتصرف بشجاعةٍ إلى الدرجة الصحيحة، ومن أجل الأسباب السديدة، وفي الظروف المناسبة.
حين تصف هاردنغ المواقف بأنها إنجازات، أحسبها تقصد إنجازًا بمعنى أن الشخصية حين تكون فاضلة فذلك إنجاز (Harding 1991, 127). تحقيق الموقف المنكِّث، كصقل الفضيلة، هو عملية. وحين يكون لدى المرء الحكمة العملية ليعرف أي الخطوط في السيناريوهات الأبيضية لها أن تتغير، ومتى يكون تغييرها، ومتى نعزلها، فيمكنه حينئذٍ القول إنه يمتلك الحكمة العملية الضرورية للشخصية المُنكِّثة.١٢ وأن يكون للمرء الشخصية المنكثة ليس كأن يكون متصفًا بسمةٍ معينة، وتمامًا مثلما لا توجد وصفة لبلوغ الشخصية الفاضلة، فليس هناك صياغة محددة لكي يصبح المرء ناكثًا للعرق. ومن الخطأ تصور أن المرء حين يصبح مُنَكِّثا فإن ذلك بمنزلة تغلبه بالكامل على العنصرية. وسوف تأتي أوقات نجد فيها أن حكمتنا العملية المنكِّثة نزر يسير من هذا، وسوف نتراجع إلى السيناريوهات المروغة-للامتياز، غالبًا من دون أن نكون على وعيٍ بأننا نفعل هذا. إن تفسير الشخصية المنكثة يعترف بعدم استقرارها. وتطوير الشخصية المنكثة يتطلب استراتيجيةً سياسية. وكما تقول هاردنغ: لا يكفي ترديد ما يقوله المفكرون الأمريكيون الأفارقة، وألا أتحمل أبدًا مسئولية تحليلات العالم الخاصة بي، التي أستطيع أنا الأمريكية الأوروبية، أن أرى العالم من خلال عدسات استبصاراتها. إن «الذي يقوم بعمل مناهض للعنصرية — أي المرء الذي يمكنه اجتياز «اختبار الكفاءة» كمناهضٍ للعنصرية — لا بد أن يفكر تفكيرًا فعَّالًا مضادًّا للعنصرية، وألا يكون محض إنسان آلي أبيض مبرمج على ترديد ما يقوله السود» (Harding 1991, 290-91).
إن تطوير الشخصية المنكِّثة يتطلَّب قدرًا كبيرًا من العمل على قدمٍ وساق، وأن يتعلم الناكثون عن حياة أولئك الذين هم في الهامش يعني هذا أن يتفهموا الظروف المادية التي تنشأ عنها تحليلات الدخلاء في الداخل، وظفرهم بهذا الفهم يعني أنهم لا بد أن يكونوا «رحالة في العالم». وتقدم ماريا لغونز في مقالها المنتمي للكلاسيكيات الراهنة «المرح والترحال-في-العالم والإدراك الوجود» (١٩٨٧) تفسيرًا للهوية حين تكون الذوات متحولة ولها طيات عديدة. الاعتراف بأن الهويات تعددية يحدث خلال عملية تسميها لغونز الترحال في «العالم»١٣ وهي تعتقد أن إخفاق النساء في أن يحببن بعضهنَّ البعض ينشأ عن إخفاقٍ في أن تتآلف النساء مع نساءٍ يقطنَّ عوالم لا يتشاركن فيها. إنه الإخفاق في أن ترى المرأة نفسها في نساءٍ أخريات مختلفات. يتصدى عمل لغونز لهذا الإخفاق، وتعزوه إلى رؤية الآخرين الذين يقطنون عوالم خارج العوالم التي نشعر فيها بالارتياح، حين ننظر «بالعيون المتغطرسة». حين تدرك النساء البيض النساء الآسيويات «بالعيون المتغطرسة»، أو حين تنظر النساء الأمريكيات الأفارقة إلى النساء اليهود بإدراكٍ متغطرس، فإنهنَّ يفشلن في التفاعل وفي أن يتآلفن معًا بمودة؛ وذلك لأن الغطرسة تعترض سبيل بناء الائتلافات، والترحال في العالم لا بد أن يتم بإدراكٍ ودود.
إن فكرتَي العالم، «الترحال-في-العالم» و«الإدراك الودود»، أعانتا لغونز على أن تفسِّر لماذا يكون إدراك إياها في عوالم الأنجلو أو عوالم البيض إدراكًا لامرأةٍ خطرة، وأنها لا تكون مرتاحة في هذه العوالم، بينما تكون في موطنها بالعوالم اللاتينية امرأة «مرحة». تتضمن السيناريوهات الأبيضية إخفاق النساء البيض في الشعور بالمودة تجاه النساء الملونات، حيث النساء ذوات الأصول الإنجليزية «يتجاهلننا، ينبذننا، يجعلننا متواريات، يصغن لنا صورةً نمطية، يتركننا وحدنا تمامًا، ينظرن إلينا على أننا مخبولات. كل هذا بينما نحن نعيش وسطهن» (Lugones 1987, 7).

بمنطق الترحال في العالم يسهل تفسير السيناريوهات المروغة-للامتياز التي تعايشها النساء البيض. إخفاق البيض في رؤية امتياز العنصر، من جانب، هو تفعيل للفشل في الترحال بالعالم، في الولايات المتحدة ليس من الضروري أن يرتحل الناس الملونون عن عالمهم، ولكن امتياز البيض يكفل احتياج معظم البيض للترحال في العالم فقط عن طواعيةٍ وطيب خاطرن وحين ترفض النساء ذوات الأصول الإنجليزية أن يرتحلن عن عوالم لا يسهل فيها الشعور بالارتياح، فإنهن يعايشن سيناريوهات مروغة-للامتياز، معظم البيض يرتاحون في العوالم البيضاء، حيث نتحدث بطلاقةٍ، حيث نعرف السيناريوهات الأبيضية ونعايشها بأمان، وحيث الملونون خارج خطوط رؤيتنا، وحيث لا تكون هويتنا العرقية في خطر، حين أقيِّد حركتي بحدود العوالم التي أرتاح فيها. تصعب رؤية الامتياز، ولا يُطعن أبدًا في السيناريوهات الأبيضية، الإدراك الودود يتطلب من النساء البيض أن يرتحلن في العالم كوسيلةٍ لكي يصبحن على وعيٍ بالسيناريوهات المروغة-للامتياز التي تعلمناها.

الترحال في العالم إذن استراتيجية لا محيص عنها لصقل الشخصية المنكثة. لا بد أن يقلع الناكثون عن تلك المواقع والنصوص التي يشعرون معها بأنهم في موطنهم. يدفعنا الترحال في العالم إلى وضع هوياتنا المتميزة موضع المخاطرة بأن نرتحل إلى العوالم التي غالبًا ما نشعر فيها بأن الارتياح ليس سهلًا وأننا انفصلنا عن المركز. المنكِّثية مثل الفضيلية، تتطلب تنمية عوائد مستجدَّة. وأحد العوائد الحاسمة قد يكون في مقاومة إغراء العَود مجددًا إلى تلك العوالم التي نشعر فيها بالارتياح — لم يصبها أذى. في عملية الترحال تتداعى هوياتنا، وتتنحى سيناريوهاتنا المروغة-للامتياز، وينزاح مؤقتًا ترف التراجع إلى المكان الآمن. إن الترحال يجعل السيناريوهات المروغة-للامتياز واضحة ونلمح طريقة النظر إلينا بعيون أولئك الذين تعلمنا أن ندركهم بغطرسة.

قصة ماب سغرست هي توضيح مؤثر للترحال في العالم، وكيف يكون جزءًا لا يتجزأ من بناء التحالف عبر حدود العرق والجنوسة والطبقة والنزوع الجنسي. تشرح لنا سغرست، باعتبارها مثلية بيضاء تمارس حقوق العمل المدنية في نورث كارولينا، كيف أنها «في الشهور الأولى لي في ستيت-فيل مع ريفرند لي وكريستينا، عبرت وعاودت عبور حدود عنصرية أكثر كثيرًا مما عبرته طوال ثمانية عشر عامًا عشتها في ألاباما المماثلة وهي مسقط رأسي. معهما، استطعت الولوج إلى المجتمع المصغر للسود، ورأيت بعيونهم الناس البيض» (Segrest 1994, 17). وأن نتعلم أن نرى أنفسنا كما يرانا الآخرون هو نقطة بدء ضرورية لكي نتعلم إبطال السيناريوهات المروغة-للامتياز. البيض، أمثال سغرست، الذين يرتحلون «بالإدراك الودود»، إلى عوالم يقطنها ناشطون في الحقوق المدنية من الأمريكيين الأفارقة في الجنوب، يضعون هوياتهم موضع المخاطرة، وإذ يفعلون هذا يدركون الصعوبات المحيقة بعدم تعلم السيناريوهات المروغة-للامتياز.
ليست المقاربة التي أوجزتها هنا قطيعة جذرية عن استبصار هاردنغ الأصلي، وما حاولت أن أفعله هو الإفصاح عن استبصاراتها بلغةٍ تتجنَّب بعضًا من خلطٍ أحسب أن كارتوغرافيا المركز-الهامش في نظرية الموقف النسوي تشجع عليه. وقد حاولت أيضًا أن أستكشف كيف يمكن أن يكون صقل شخصية منكِّثة بطريقةٍ تركز على الأداءات المنكِّثة، بدلًا من التركيز على الهويات المنكثة وموضعها. أما الفكرة القائلة إن المنكثية تتطلَّب تطويرًا للشخصية المنكِّثة لكي نجعل المرء ميالًا إلى معايشة سيناريو عراف-للامتياز ففيها الكثير من روح عمل هاردنغ. وعلى الرغم من أن توصيفات هاردنغ للناكثين بأنهم «يصبحون هامشيين» من خلال عملية «إعادة ابتداع الذات لذاتها كآخر» تقيد حدود توصيفاتها للناكثين، فإني أعتقد أن ما عليها بعد ذلك هو تقرير فعَّال للمنكثية بوصفها أكثر من مجرد هوية سياسية. إن استدعاء «إعادة ابتداع أنفسنا كآخر» يشير إلى تبديل طريقة المرء في الرؤية، وبالقطع هذا ما يفعله مغزى الترحال في العالم عند لغونز. وتلمح هاردنغ إلى هذا حين تقول: «الفاعلية الذهنية والسياسية مطلوبة في استخدام استبصارات الآخرين لتوليد التحليلات الخاصة بالأنا» (Harding 1991, 290). ويقترب وصف هاردنغ للمنكثية من حيث هي نشاط سياسي اقترابًا كبيرًا من فكرة الأدائية التي تلحُّ على ذهني، والتي هي فيما أحسب فكرة سوف نتَّفق عليها.

هوامش

(١) هذا المقال نتاج مناقشات عديدة خُضْتُها إبَّان حلقة البحث الصيفية حول الإبستمولوجيات النسوية في المؤسسة القومية للإنسانيات، يونيو-يوليو ١٩٩٦م، يوجين، أوريغون. وأود أن أشكر دور باركر وليزا هيلدك وسارة هوغلاند وأمبر كاثرين وشيلي بارك ونانسي توانا لأفكارهنَّ حول هذا الموضوع خلال الوقت الذي قضيناه معًا، والشكر موصولٌ لمحررتَي هذا الكتاب لتعليقاتهما على النسخ الأسبق من هذا المقال.
(٢) المقصود جماعة كوكلوكس كلان العنصرية المتطرفة. [المترجمة]
(٣) تستعمل الكاتبة لفظة script للدلالة على الأطر الاجتماعية المتواترة لسلوكيات البيض. ويبدو أفضل مقابل لها هو لفظة «سيناريو» التي اتخذت موقعها في اللغة الجارية، طبعًا بالمعنى المجازي كتصورٍ مسبق ومتَّفق عليه لترسيم الحركة والسلوك والمشاهد، فليست script «مخطوطة» بما تفيده هذه اللفظة من معنًى توثيقي. [المترجمة]
(٤) راصدون غير متجسدين وهوية مُجهَّلة أو وجوه بلا ملامح faceless هو تعبيرٌ نسوي عما عُرف من زاويةٍ أخرى باسم الموضوعية المطلقة للفيزياء الكلاسيكية التي قام التنوير على كتفيها، حتى قيل إن العالم يرقب العالم الطبيعي من وراء ستار، بمعنى أن الذات العارفة وأدواتها وفرضياتها لا تأثير لها إطلاقًا على الظواهر الطبيعية محل الدراسة: تلك الكتل الثابتة التي تتحرك فقط بالتأثير الميكانيكي، على السطح المستوي في اتجاهٍ واحد من مطلق الماضي إلى مطلق المستقبل. أما مشهد الطبيعة الديكارتي فهو تصورها كجوهرٍ ممتد منفصل ومتمايز تمامًا عن الجوهر العاقل أو المفكر الذي يمثل الذات العارفة. [المترجمة]
(٥) نظرية الموقف النسوي feminist standpoint theory من أهم أسس الفلسفة النسوية إجمالًا، وفلسفة العلم النسوية خصوصًا التي تعد ساندرا هاردنغ من أبرز روادها أو رائداتها. ولا بد أن تكون قد وردت من قبل مرارًا، مفادها المبدئي أن موقف النساء ذو أفضلية من حيث إنه الأقدر على كشف التحيز الجنساني للذكور وتعسف المركزية الذكورية وسائر التشوهات من هذا القبيل التي تنال من الموضوعية والمصداقية. وسوف تمد الكاتبة منطق هذا الموقف ليشمل أيضًا ما يمكن أن نسميه نظرية الموقف العنصري، من حيث إن السود دخلاء على جماعات البيض وحين يدخلونها ويطلعون على أسرارها يصبحون أصحاب موقف معرفي متميز. [المترجمة]
(٦) هل هناك ما هو أصفى من رؤى الأديبة الأمريكية السوداء توني موريسون الحائزة جائزة نوبل. وقد تجاوزت عامها الثمانين؛ أي شبَّت عن الطوق في عز التفرقة العنصرية. عملت إبان مراهقتها خادمة في منزل أسرة بيضاء، وكان هذا فرصة طيبة بالنسبة إليها هي وشريحتها الاجتماعية — أو جماعتها — بمصطلحات هذا الكتاب، حثَّها الأبوان على بذل الجهد للحفاظ عليها. [المترجمة]
(٧) وليم إدوارد بورهارت دوبويس W. E. B. DuBois (1868–1963) من الأمريكيين الأفارقة الذين ناضلوا من أجل حقوق السود والملونين. وهو شخصية بارزة في هذا الصدد؛ مما جعل اسمه يتكرر عبر صفحات الكتاب. ودوبويس عالم اجتماع واقتصاد ومؤرخ وناشط في مجال الحقوق المدنية. تخرج في جامعة هارفارد ليصبح أول أمريكي/أفريقي يحصل على الدكتوراه، وعمل في جامعة أطلانطا، وساهم في تأسيس الجمعية الوطنية لتقدم الملونين، وحارب التفرقة العنصرية بشراسةٍ على المستويين النظري والفعلي. [المترجمة]
(٨) بما أن نظرية الموقف النسوي تركز على المنظومات المؤسساتية والممارسات والخطابات التي تقوم بتوزيع غير متكافئ للسلطة، فإن كلمة امتياز تستخدم للإشارة إلى المزايا الممنوحة بشكلٍ منهجي للأفراد الذين يتمتعون بحكم عضويتهم في الجماعات المهيمنة بالحصول على الموارد وعلى السلطة المؤسساتية مما يتجاوز المزايا التي يتشارك فيها المواطنون المهمشون (Bailey 1998).
(٩) من الواضح أن المقصود بإشكالية الموضع أو تحديد الموضع التي يبحثها هذا الفصل، لأولئك البيض المتشككين في صلابة ومشروعية العنصرية؛ أي الرافضين إياها، هو الإجابة عن السؤال: هل ما زالوا في وضع المركز أم انتقلوا إلى وضع الهامش/الأطراف برفضهم لامتياز البيض؟ وقبلًا نلاحظ دقة المصطلح التي تعكس حسمًا وعزمًا، فهي تطلب الاعتراف الواضح الصريح بالتفرقة العنصرية والامتيازات التي ينعم بها البيض جورًا وظلمًا تمهيدًا للقضاء عليها، وتسمي هذا موقف الذات العرافة للامتياز، مقابل موقف الذات المراوغة إياه التي ترفض الاعتراف به، فلا ينبئ هذا بمواجهةٍ حاسمة له تفضي إلى اقتلاع العنصرية من جذورها. والحق أن هذا العمق الذي يبحثون أو يبحثن عنه في مواجهة العنصرية مثيرٌ للإعجاب. [المترجمة]
(١٠) الكارتوغرافيا علم رسم الخرائط، والمقصود طبعًا معنًى مجازي حول ترسيم نظرية الموقف النسوي لتخطيط أوضاع الهويات من حيث المركز والهوامش أو الأطراف. [المترجمة]
(١١) «الإمكانية والفاعلية» تجعل العبارة مفهومة للقارئ العادي. أما المقابل الموروث والمتواتر في الأوساط الفلسفية العربية لهذين المصطلحين الأرسطيين فهو «القوة والفعل»، حيث تقوم فلسفة أرسطو بأسرها على التمييز بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل: السنديانة مثلًا وجود لشجرةٍ بالفعل. أما بذرتها فوجود بالقوة، طالب الطب طبيب بالقوة، وحين التخرج يصبح طبيبًا بالفعل … وهكذا. [المترجمة]
(١٢) الأفعال المنكثة التي ترتكب فقط من أجل التنكيثية يمكن أن تكون خطيرة. يمتلئ التاريخ والأدب بحالاتٍ من البيض ذوي النوايا الحسنة، ومقصدهم النبيل عرَّض للخطر حياة الأصدقاء والمعارف الملونين وفرصهم للعمل وإنجازاتهم. انظر —على سبيل المثال — حالة بيغر توماس التي صاغها الأدب في رواية ريتشار رايت Native Son (Wright 1940).
(١٣) بالنسبة إلى أولئك الذين لا يألفون عمل لغونز، ليست «العوالم worlds» مدنًا فاضلة ولا هي بناءات لمجتمعاتٍ ككل. إنها يمكن أن تكون قطاعات صغيرة من المجتمع (مثلًا باريو في شيكاغو، الحي الصيني، حانة للسحاقيات، فصل دراسي للنساء، أو مجتمع محلي صغير من عمال المزارع)، والتحول من اكتساب سمة ما، لتكن المرح، في عالمٍ يكون المرء فيه على راحته، إلى اكتساب سمة أخرى، ولتكن الجدية، في عالمٍ آخر فهو ما تسميه لغونز «الترحال travel (Lugones 1987)».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤